البلاغة 1 - البيان والبديع - جامعة المدينة

جامعة المدينة العالمية

الدرس: 1 علوم البلاغة الثلاثة: أهميتها، والفرق بينها - علم البيان.

الدرس: 1 علوم البلاغة الثلاثة: أهميتها، والفرق بينها - علم البيان. بسم الله الرحمن الرحيم الد رس الأول (علوم البلاغة الثلاثة: أهميتها، والفرق بينها - علم البيان) مقدمة في أهمية علوم البلاغة الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، ثم أما بعد: فنبدأ بثمرات هذا المحتوى، الفائدة من وراء ذلك التعرف على أهمية الدرس البلاغي في فهم نصوص الوحي من كتاب الله وسنة نبيه -صلى الله عليه وسلم، وفي فهم كلام العرب شعره ونثره. الأمر الثاني: التعريف على مكونات الدرس البلاغي، والعلوم التي تندرج تحت هذا الدرس البلاغي. الأمر الثالث: التمييز بين هذه العلوم ومعرفة ما يختص به كلٍّ. الأمر الرابع: البدء بتعريف علم البيان، وما يستلزمه هذا التعريف من شرح وتفصيل، وذلك بضرب الأمثلة، وتقديم النماذج التي تُعين على الفهم. نبدأ بهذه المقدمة في أهمية علوم البلاغة: من الأمور المسلم بها أن لعلمي البيان والمعاني مزيد اختصاص بتفسير كلام الله العزيز؛ لأنهما وسيلة لإظهار خصائص البلاغة القرآنية، وما تشتمل عليه الآيات من تفاصيل المعاني، وإظهار وجه الإعجاز، ولذلك كان هذان العلمان يُسميان في القديم علم دلائل الإعجاز، ذلك أن ربَّ العزة -سبحانه- قد منَّ على هذه الأمة بنزول هذا القرآن العظيم، وجعله لها المعجزة العظمى الخالدة، وذلك بعد أن تحدَّى به يقول سبحانه: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (العنكبوت: 51).

وعليه، فلا مناص من تدبره، وتعلمه، وفهم معانيه، ولا سبيل لتحقيق ذلك إلا بتعلم علوم البلاغة. ومن هنا فقد ذكر جُلُّ أهل العلم من المفسرين والمعنيين بعلوم القرآن أن تعلُّم علوم البلاغة هو من أهم ما ينبغي لطالب العلم الشرعي أن يوليه اهتمامه، وأذكر ممن نصُّوا على ذلك بصريح العبارة الإمام الزمخشري، وقد ذكر في كتابه (الكشاف) نقلًا عن الجاحظ في كتابه (نظم القرآن): "أن الفقيه وإن برز على الأقران في علم الفتاوى والأحكام، والواعظ وإن كان من الحسن البصري أوعظ، والنحوي وإن كان أنحى من سيبويه، واللغوي وإن علك اللغات بقوة لحييه -علك اللغات يعني: هضمها وأجادها وفهمها حق الفهم- لا يتسطى أحد لسلوك تلك الطرائق، ولا يغوص على شيء من تلك الحقائق، إلا رجل قد برع في علمين مختصين بالقرآن وهما: علم المعاني وعلم البيان، وتمهل في ارتيادهما آونة، وتمهل في التنقير عنهما أزمنة، وبعثته على تتبع مظانهما همة". هذا كلام الزمخشري، ويقول السيوطي مشيرًا في كتابه (الإتقان في علوم القرآن)، وقد جعله في ثمانين مطلبًا، يذكر في المطلب الثامن والسبعين كلام أهل العلم في العلوم التي تُشترط للمفسر أن يكون ملمًّا به، وأنها تأتي في خمسة عشر علمًا، الخامس، والسادس، والسابع منها المعاني والبيان والبديع. قال: "لأنه يُعرف بالأول منها خواص تراكيب الكلام من جهة إفادتها المعنى -هو علم البيان، وبالثاني -هو البيان- خواصها من حيث اختلافها بحسب وضوح الدلالة وخفائها، وبالثالث -هو البديع- وجوه تحسين الكلام". يقول: "وهذه العلوم الثلاثة هي علوم البلاغة، وهي من أعظم أركان المفسر؛ لأنه لا بد له من مراعاة ما يقتضيه الإعجاز، وإنما هو يدرج بهذه العلوم".

ويسوق السيوطي قول السكاكي: "اعلم أن شأن الإعجاز يدرك، ولا يمكن وصفه، كاستقامة الوزن تدرك ولا يمكن وصفها، وكالملاحة ولا طريق إلى تحصيله لغير ذوي الفطر السليمة، إلا التمرن، وعلى علمي المعاني والبيان"، كما يسوق قول ابن أبي الحديد: "اعلم أن معرفة الفصيح والأفصح، والرشيق والأرشق من الكلام أمر لا يدرك إلا بالذوق، ولا يمكن إقامة الدلالة عليه. وليس كل من اشتغل بالنحو واللغة والفقه يكون من أهل الذوق، وممن يصلح لانتقاد الكلام، وإنما أهل الذوق هم الذين اشتغلوا بعلم البيان، وراضوا أنفسهم بالرسائل، والخطب، والكتابة، والشعر، وصارت لهم بذلك دربة، وملكة تامة، فإلى هؤلاء ينبغي أن يُرجع في معرفة الكلام، وفضل بعضه على بعض". ويسوق السيوطي أيضًا قول الزمخشري: "من حق مفسر كتاب الله الباهر، وكلامه المعجز أن يتعاهد بقاء النظم في حسنه، والبلاغة على كمالها، وما وقع به التحدي سليمًا من القادح؛ حتى لا يطعن فيه طاعن، كما ساق قول غيره معرفة هذه الصناعة بأوضاعها، يقصد بها ملكة الذوق هي عمدة التفسير، المطلع على عجائب كلام الله تعالى، وهي قاعدة الفصاحة وواسطة عقد البلاغة". ثم أفصح السيوطي -رحمه الله- تحت عنوان "ما يجب على المفسر أفصح عن قول العلماء: إنه يجب على المفسر أن يتحرى في التفسير مطابقة المفسر، وأن يتحرز في ذلك من نقص عما يحتاج إليه في إيضاح المعنى أو زيادة لا تليق بالغرض، وعليه بمراعاة المعنى الحقيقي والمجازي، ومراعاة التأليف والغرض الذي سيق له الكلام. قال: "ويجب عليه البداءة بالعلوم اللفظية، وأول ما يجب البداءة به منها تحقيق الألفاظ المفردة يتكلم عليها من جهة اللغة، ثم التصريف، ثم الاشتقاق، ثم

يتكلم عليها بحسب التركيب؛ فيبدأ بالإعراب، ثم بما يتعلق بالمعاني، ثم بالبيان، ثم بالبديع، ثم يبين المعنى المراد" هذا كلام يقوله السيوطي؛ ليبين أن تفسير كلام الله -سبحانه وتعالى- لا بد له من هذه الأمور، وأنه ليس لكل أحد أن يفسر ما شاء بما شاء. وبنحو ما ذكر السيوطي نطق الزركشي في كتابه (البرهان في علوم القرآن) وذلك من قبل السيوطي، ممن أشاد أيضًا بعلوم القرآن صاحب (كشف الظنون) الحاجي خليفة، فذكر ويسرد أسامي العلوم والفنون، ويعزيها لأصحابها: "أن ملاك الأمر في المعاني هو الذوق، ومن طلب البرهان عليه أتعب نفسه". وأوضح -عليه رحمة الله- أن العلوم المتداولة على صنفين: علوم مقصودة بالذات كالشرعيات والحكميات هذه مطلوبة بالأساس، وعلوم هي آلة ووسيلة لهذه العلوم الأولى هي الشرعي، كالعربية والمنطق، ثم ذكر في مطلب علوم اللسان العربي أن أركانها أربعة هي اللغة والنحو والبيان والأدب، ومعرفتها ضرورية على أهل الشريعة بما سبق من أن مأخذ الأحكام الشرعية عربي، فلا بد من معرفة العلوم المتعلقة به. من هؤلاء أشادوا بعلوم العربية الإمام أحمد بن عبد الكريم الأشموني؛ إذ ذكر في كتابه (منار الهدى في الوقف والابتدا)، وتحت عنوان "فوائد مهمة تحتاج إلى صرف الهمة" ذكر عن ابن الأنباري قوله: "أنه لا يتأتى لأحد معرفة معاني القرآن إلا بمعرفة الفواصل، وهو أمر وثيق الصلة بباب الفصل والوصل في علم المعاني"، وكان قد ذكر قبل ذلك، وبعد أن أوضح أن الله ذم اليهود عندما قرءوا التوراة من غير فهم، كما جاء في

قوله: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ} (البقرة: 78)، ذكر أنه على العاقل الأديب والفطن اللبيب أن يربأ بنفسه عن هذه المنزلة الدنيئة، فيقف على أهم العلوم وآكدها المتوقف عليها فهم الكتاب والسنة، وهو بعد تجويد ألفاظه خمسة، هكذا يذكر الأشموني "علم العربية، والصرف، واللغة، والمعاني، والبيان". الإمام الشوكاني في كتابه (طلب العلم وطبقات المعلمين) يقول: "ينبغي لطالب العلم بعد ثبوت الملكة له نحوًا وصرفًا أن يشرع في علم المعاني والبيان"، وأشار فيما بعد إلى أهمية تعلم علم البديع أيضًا، وهذا هو الطاهر بن عاشور ينقل في المقدمة الثانية لتفسيره (التحرير والتنوير) عن الإمام السكاكي قوله "وفيما ذكرنا ما ينبه على أن الواقف على تمام مراد الحكيم تعالى" وندير بالنا نحو كلمة الحكيم هذه، قد علق عليها الشريف الجرجاني، وعلق عليها ابن عاشور أيضًا يقول: "وفيما ذكرنا ما ينبه على أن الواقف على تمام مراد الحكيم تعالى مفتقر إلى هذين العلمين: المعاني والبيان كل الافتقار، فالويل كل الويل لمن تعاطى التفسير، وهو فيهما راجل" ويقصد بكلمة راجل يعني: لم يحزم أمره ليكون فارس ميدانهما. كما ينقل الطاهر عن السيد الجرجاني تعليقه على ما جاء في كلام السكاكي فيقول: "ولا شك أن خواص نظم القرآن أكثر من غيرها، فلا بد لمن أراد الوقوف عليها إن لم يكن بليغًا سليقة من هذين العلمين"، وقد أصاب السكاكي المحذ؛ إذ خص بالذكر اسم الحكيم من بين الأسماء الحسنى؛ لأن كلام الحكيم يحتوي على مقاصد جليلة، ومعاني غالية لا يحصل الاطلاع على جميعها أو معظمها إلا بعد التمرس بقواعد بلاغة الكلام المفرغة فيه. وقوله "فالويل كل الويل" تنفير؛ لأن من لم يعرف هذين العلمين إذا شرع في تفسير القرآن واستخراج لطائفه؛ أخطأ غالبًا، ويشير ابن عاشور ضمن ما يشير إلى أن في مراد السكاكي من قوله "تمام مراد الحكيم" ما يتحمله الكلام من المعاني

الخصوصية، فمن يفسر قوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} (الفاتحة: 5) بإن نعبدك؛ لم يطلع على تمام المراد ليس هذا هو مراد الله -سبحانه وتعالى؛ لأنه أهمل ما يقتضيه تقديم المفعول من القصد، وتقديم المفعول هذا مبحث من مباحث أحوال متعلقات الفعل. يُشير الطاهر أيضًا إلى أن القرآن كلام عربي، فكانت قواعد العربية طريقًا لفهم معانيه، وبدون ذلك يقع اللغط وسوء الفهم لمن ليس بعربي بالسليقة. ويقول: "ونعني بقواعد العربية مجموع علوم اللسان العربي، وهي متن اللغة، والتصريف، والنحو، والمعاني، والبيان" كل هذا يريد أن يؤكد على أن مراد البلاغيين ومنهم السكاكي من تمام مراد الحكيم أن يفهم الإنسان مراد الله على حقيقته، وليس هكذا كما هو مثَّل بقوله {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} (الفاتحة: 5) فليس المراد بـ {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} (الفاتحة: 5) إنا نعبدك هذا معنى يقوله أي إنسان، لكن إياك نعبد لا بد للبليغ، أو للمفسر، أو للبياني أن يعرف أن تقديم المفعول إياك إنما أفاد الاختصاص أي: لا نعبد سواك، فهو اختصاص لعبادة الله وحده لا شريك له، على أن السكاكي الذي لا يزال الطاهر يسوق كلامه لا يكفُّ عن ترداد كلامه السالف الذكر، فنراه يؤكد عليه، ويقول في أخر كلامه عن علم البيان: "لا أعلم في باب التفسير بعد علم الأصول أقرأ على المرء لمراد الله من كلامه من علمي المعاني والبيان، ولا أعون على تعاطي تأويل متشابهاته ولا أنفع في درك لطائف نكته وأسراره، ولا أكشف للقناع عن وجه إعجازه منهما". هذا ويذكر الإمام الألوسي في ثالث ما يحتاج المفسر من أمور، علم المعاني والبيان والبديع قائلًا "ويعرف بالأول خواص التراكيب من جهة إفادتها المعنى، وبالثاني خواصها من حيث اختلافها، وبالثالث وجوه تحسين الكلام، وهو الركن الأقوم واللازم الأعظم في هذا الشأن، كما لا يخفى ذلك على من ذاق طعم العلوم، ولو بطرف اللسان".

موضوع علوم البلاغة، والفرق بينها، وأثرها في النفس.

موضوع علوم البلاغة، والفرق بينها، وأثرها في النفس موضوع علوم البلاغة والفرق بينها وما تحدثه هذه العلوم من أثر في النفس: من خلال ما سبق تلاحظ أن كلمة أهل العلم مُجمِعة على أنه لا سبيل لفهم وتدبر كلام الله، والتعرف على أسراره البيانية إلا بتعاطي علوم البلاغة، وبخاصة من عبارة الألوسي الأخيرة أن علم البديع لا يقل أهمية عن أخويه المعاني والبيان؛ لكونه العلم الذي به يُعرف وجوه تحسين الكلام بعد رعاية المطابقة، ووضوح الدلالة، فهو فضلًا عن اعتنائه في الأساس بمحسنات الكلام، فإنه يشتمل أيضًا على المعاني والبيان؛ لأن رعاية المطابقة هذا أمر يختص به علم المعاني، ووضوح الدلالة هذا أمر يختص به علم البيان، ولا بد من اجتماعهما في ألوان ومحسنات البديع. علم المعاني يعني بالأساس بجانب المطابقة، يعني: مطابقة الكلام لمقتضى الحال، ويُعرف لدى عبد القاهر بالنظم، ولدى متأخري البلاغيين بالاعتبار المناسب، أو خصائص التراكيب، أو المعاني الثانوية، كل هذه مترادفات لمطابقة الكلام لمقتضى الحال، المعاني الثانوية تكمن وراء المعاني الوضعية للجملة العربية، هذا ما يتعلق به علم المعاني. أما علم البيان: فهو يُعنى باستقصاء الطرق التي ترد عليها هذه التراكيب من تشبيه، واستعارة، وتعريض، وكناية. إذن فمهمة البلاغة البحث عن المعاني الثانوية في الجمل الوضعية، أو اللغوية، وعن معنى المعنى في الجمل الفنية أقصد مشتملة على ألوان البيان من مجاز، وكناية، فخذ مثلًا قول الله تعالى: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى} (طه: 17) تجد أن الله -سبحانه وتعالى- حينما سأل موسى -عليه السلام- عما بيمينه وكانت عصا {قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى} (طه: 18).

أتناول الآن معنى كلمة المعاني الثانوية، أو الاعتبار المناسب، أو كلمة النظم، أو الخصائص التراكيب معناها عن طريق هذه الآية، فأي واحد يأتي ويقول: هذا سؤال من الله، وهذا جواب من موسى -عليه السلام-: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى * قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى} (طه: 17، 18)، لكن البلاغي لا ينظر إلى مجرد هذه الكلمات وحسب، فما يقتضيه الكلام أن الجواب لا بد أن يكون على قدر السؤال، فعندما يسأل ربنا -جل وعلا- موسى -عليه السلام- ويقول له: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى} الأصل أن يقول: عصا، هكذا دون حتى ما ذكر للمسند إليه؛ لأنه مفاد من خلال السؤال، لكن موسى -عليه السلام- يقول: هي، فيذكر المسند إليه هو المبتدأ، {هِيَ عَصَايَ}، لا يكتفي بكلمة عصا، بل يضيفها إلى نفسه، ثم يقول بعد ذلك {أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي} رب العزة سبحانه لم يطلب منه هذا كله، ولم يقل له: ماذا تفعل بهذه العصا، لكنه يقول ذلك من باب التلذذ بحضرة الله -سبحانه وتعالى؛ لأنه يكلم من؟ يكلم رب العزة -سبحانه وتعالى، ولذلك كان من أشياء التي يعاقب الله بها هؤلاء الذين يستحقون العقاب يقول: {وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ} (آل عمران: 77) فجعل ذلك عقابًا لمن يستحق هذا العقاب. إذن فالكلام مع الله فيه استشعار للذة، وهذا ما كان لموسى -عليه السلام- {أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى} (طه: 18)، وكأنه كان ينتظر من الله -سبحانه وتعالى- أن يقول له: وما تلك المآرب الأخرى، هذه المعاني ما كان لها أن تفهم بحال من الأحوال إلا بتعاطي علوم البلاغة، وهذه المعاني هي التي تُسمى المعاني الثانوية يعني: التي تضاف للمعاني اللغوية، أو الوضعية التي تواضع عليها العرب، كذلك عندما تقول مثلًا: ما أنا قلت هذا، هنا إثبات، أي واحد ممكن أن يقول: هو نفي للقول عن نفسه، لكن البلاغي لا ينظر إلى مجرد هذا، وإنما يجد أن هنا تقديم

المسند إليه المنفي على الخبر الفعلي، وهذا يفيد الاختصاص، وعليه فهذه الجملة تفيد ثلاثة أمور: الأمر الأول: إثبات للقول أن قولا قد قيل. الأمر الثاني: هو أنه نفاه عن نفسه على جهة الاختصاص. الأمر الثالث: أنه خص به غيره. ولذلك لا يصح بلاغة أن نضيف على هذه الكلمة أو هذه العبارة، "ولا قاله أحد غيري"؛ لأنه بذلك يكون قد نقض نفسه، ما أنا قلت هذا. يعني: معنى ذلك أن غيره قد قاله، فعندما يقول: ولا قاله غيري إذن، يكون بذلك قد ناقض نفسه. هذه معاني ثانوية ما كان لها أن تُفهم إلا بتعلم علوم المعاني، وأسرار ذكر المسند إليه، وأسرار تقديمه إلى آخر ذلك. وأنت إذا نظرت إلى قولهم: "هو كثير رماد القدر": وعرفت منه أنهم أرادوا أنه كثير القرى والضيافة، لم تعرف ذلك من اللفظ، ولكنك عرفته بأن رجعت إلى نفسك فقلت: إنه كلام قد جاء عنهم في المدح، ولا معنى للمدح بكثرة الرماد إلا أنهم أرادوا أن يدلوا بكثرة الرماد على أنه تُنصب له القدور الكثيرة، ويُطبخ فيها للقرى والضيفان، وذلك لأنه إذا كثر الطبخ كثر إحراق الحطب، وإذا كثر إحراق الحطب تحتها؛ كثر الرماد لا محالة. وهكذا السبيل في كل ما كان كناية، وإذا قد عرفت في الكناية، فالاستعارة في هذه القضية. هذا بالنص كلام عبد القاهر، وأنا أردت أن أسوقه؛ لأبين أن كلام عبد القاهر عندما يذكر في (دلائل الإعجاز) أو (أسرار البلاغة)، إنما كلام تستشعر منه عظمة العبارة وعظمة القائل، وهكذا تكون البلاغة، فأنت تقرأ في كلام عبد القاهر تستمتع، وتستشعر معاني البلاغة بحق. كذلك كل ما فيه على الجملة مجاز، أو إتساع، أو عدول باللفظ عن الظاهر هو داخل في هذا الباب، ويسمى هذا معنى المعنى، وفيه -كما يقول عبد القاهر-

"المعنى ومعنى المعنى" علم المعاني يعتني بالمعاني الثانوية، علم البيان يعتني بمعاني المعاني، أو المعنى ومعنى المعنى، يقول: "وتعني بالمعنى المفهوم من ظاهر اللفظ، والذي تصل إليه بغير واسطة، وبمعنى المعنى أن تعقل من اللفظ معنى، ثم يُفضي بك ذلك المعنى إلى معنى آخر كالذي فسرته لك"، يقول: "كثير رماد القدر" أي واحد يفهم أن الرماد عنده كثير، لكن ليس هذا هو مراد القائل، وإنما مراده أن يعبر عن كرم الضيافة، وعن كرم الممدوح، وأنه كثير القرى، وكثير الضيافة؛ لذلك يأتي بهذه اللوازم؛ ليصل إلى هذه النتيجة في النهاية، هذا هو معنى المعنى، فمعنى المعنى إذن كما يقول الإمام عبد القاهر: "أن تعقل من اللفظ معنى ثم يفضي بك ذلك المعنى إلى معنى آخر كالذي فسرته لك، فالمعاني الثواني الذي يومأ إليها بتلك المعاني، هي التي تكسى تلك المعارض، وتزين بذلك الوشي والحلي، وهذا هو معنى المعنى". ما هو أثر علم البيان في النفس؟ يقول شيخ البلاغة الإمام عبد القاهر: "إنك إذا قلت: "هو كثير رماد القدر" كان له موقع وحظ من القبول لا يكون إذا قلت: هو كثير القرى والضيافة، وكذا إذا قلت: "هو طويل النجاد" كان له تأثير في النفس لا يكون إذا قلت: "هو طويل القامة"، وأنت تستشعر هذه المعاني وأنت تميز بين هذه التعبيرات، كثير رماد القدر، يختلف تمامًا عن قولك كثير القرى والضيافة، فرق بين السماء والأرض، طويل النجاد تختلف عن كلمة طويل القامة. إذا قلت أيضًا: رأيت أسدًا، كان له مزية لا تكون إذا قلت: رأيت رجلًا يشبه الأسد ويساويه في الشجاعة، وحسبك أنك اختصرت كل هذا في كلمتين: رأيت أسدًا، وكذلك إذا قلت: أراك تقدم رجلًا وتؤخر أخرى، كان له موقع لا يكون إذا قلت: أراك تتردد في الذي دعوتك إليه كمن يقول: أخرج أو لا أخرج، فيقدم رجلًا ويؤخر أخرى، أنت لك أن تستشعر أيهما أبلغ في الدلالة، أراك تقدم رجلا وتؤخر أخرى، أم أنك تقول: أراك تتردد في الذي دعوتك إليه كمن يقول أخرج ولا أخرج فيقدم رجلا ويؤخر أخرى، هذه هي معنى المعنى، كذلك إذا قلت: ألقى حبله على غاربه، كان له مأخذ في القلب لا يكون إذا قلت: هو كالبعير الذي يُلقى حبله على غاربه، الغارب هو الكاهل من ذي الخف هو الجمل، وهو ما بين السنام والعنق،

يقول: هو كالبعير الذي يلقى حبله على غاربه حتى يرعى كيف يشاء، ويذهب حيث يريد كل هذه العبارة تُختصر في كلمة ألقى حبله على غاربه. وأخذ هذا المعنى وقاله لمن كان حاله هكذا، "فلا تُجهل المزية فيه، أو لا يجهل المزية في هذه الكلمات أو العبارات المختصرة" هذا كلام عبد القاهر "إلا عديم الحس ميت النفس، وإلا من لا يكلم؛ لأنه من مبادئ المعرفة التي من عدمها لم يكن للكلام معه معنى، وهكذا السبيل في كل كناية والاستعارة من هذه القضية" انتهى من كلام عبد القاهر. هذا الكلام نخلص منه في النهاية إلى أن كل ما تعلق على جهة الحقيقة بالاعتبار المناسب، وكان مرجع البلاغة فيه مراعاة المعاني الثانوية، والاحتراز عن الخطأ في تعدية المعنى المراد؛ اختص بعلم المعاني، وكل ما كان على جهة الاتساع، أو بعبارة عبد القاهر "فيه على الجملة مجاز وعدول باللفظ عن الظاهر، وهو ما أطلقوا عليه معنى المعنى؛ اندرج تحت علم البيان"، هذا هو الفرق بين هذا وذاك، أو بين العلمين، وكل ما كانت المزية فيه راجعة لتحسين الكلام بالأساس، وتزيينه بعد رعاية المطابقة ووضوح الدلالة جاء بالطبع مؤخرًا ودخل تحت علم البديع، هذا هو الفرق بين المعاني والبيان والبديع. كذلك نخلص من كل ما سبق إلى أن ذلك لا يعني انفصال هذه العلوم بعضها عن بعض، إذ ما من ضرب من هذه الضروب إلا وهو إذا وقع على الصواب، وعلى ما ينبغي أوجب الفضل والمزية، كما أن ثمة عاملًا مشتركًا يجمع بين علم المعاني المعني بالأساليب، وعلم البيان هو المعني بطرق إيرادها، يتمثَّل هذا العامل المشترك إلى جانب حسن الدلالة وإحداث المزية التي بها يتفاضل كلام على

كلام، يتمثل في أن كلًّا يبحث بطريق غير الآخر عما وراء دلالات الألفاظ الوضعية، وفيما يتصل بخصائص القول التي تعود على المعاني. فقضية البلاغة وموضوعها في تصور عبد القاهر، بل وفي تصور عامة البلاغيين هو حسن الدلالة، أو المزية التي يتفاضل بها الكلام، وأن النظم مناط هذه المزية، وعامل مشترك بين النحو والبلاغة، وأن مقتضى الحال يتسع ليشمل ما لا نهاية له من معاني النحو المتآخية فيما بين الكلم على حسب الأغراض التي يُصاغ لها الكلام، أو المرتبطة بالمعاني الثانوية، أو بخصوصيات الكلم وما يتخلله من الأحوال الداعية إليها، وأنه لذلك جعله عبد القاهر محور كتابيه (دلائل الإعجاز) و (أسرار البلاغة) اللذين خليا تماما من الحديث عن الدلالة الوضعية؛ لخلوها من المزية، وإن كانت صحتها قيدًا في البلاغة، وتمييز الكلام الفصيح من غيره. على أن دائرة هذا النظم تتسع أكثر لتشمل إلى جانب ما اختص بعلم المعاني -أعني: المعاني الثانوية: وهو اللفظ الملتبس بتآخي معاني النحو- تشمل كذلك ألوان البيان؛ لدلالة اللفظ فيه على معنى معناه، وألوان البديع؛ لكونها لا تتم إلا بنصرة المعنى، فلا ينبغي أن نعزل قضية النظم، ونقول: إنها أمر خاص بعلم المعاني، كما يفعل، أو كما يحدث من كثير من البلاغيين يظن أن قضية النظم إنما هي خاصة بعلم المعاني، ولا تمتُّ بصلة إلى علم البيان أو البديع، العكس صحيح النظم لا بد أن تتسع دائرته؛ لتشمل كل هذه الجوانب، الأمر الذي يؤكد أن هناك عوامل مشتركة تجمع بين هذه العلوم جعلت علماء البلاغة يجمعون فيما بينها، ويدرجونها تحت علوم البلاغة، أو تحت مسمى البلاغة. هذا لا يعني أن هناك فروق دقيقة -كما ذكرنا- تميز بين هذه العلوم الثلاثة.

علم البيان.

علم البيان بقي أن نتكلم عن علم البيان الذي هو موضوع حديثنا، فنعرج على تعريفه، ونتكلم عن مرجع تفاوت دلالته اللفظية وأدواته: البيان كما هو معلوم نعمة امتن الله بها على عباده حيث قال جل وعلا: {الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} (الرحمن: 1 - 4) فهو بهذا التعليم تميز عن كثير من الخلق، وصار ناطقًا مبينًا يستطيع أن يعبِّر عما يجول بخاطره من المعاني، وأن يوصلها إلى غيره من البشر، ويتلقاها الغير عنه؛ فيتم التفاهم، وتتحقق السعادة بين البشر. والبيان في اللغة يعني: الظهور، والوضوح، والإفصاح، يقال: بان الشيء بيانًا أي: اتضح، وأبنته أوضحته، واستبان الشيء أي: ظهر، وبان الصبح لذي عينين أي: ظهر ووضح، والبيان الفصاحة والإفصاح مع ذكاء، والبيِّن من الرجال السمح اللسان، الفصيح الظريف، العالي الكلام، في حديث النبي -صلى الله عليه وسلم- ((إن من البيان لسحرًا، وإن من الشعر لحكم)) قال ابن عباس: "البيان إظهار المقصود بأبلغ لفظ، وهو من الفهم وذكاء القلب مع اللسن، وأصله الكشف والظهور"، هذا الكلام ذكره صاحب (لسان العرب) في مادة بين. البيان عند الجاحظ: "اسم جامع لكل شيء كشف لك قناع المعنى، حتى يُفضي السامع إلى حقيقته، ويهجم على محصوله"، وهو لدى الرماني "الإحضار لما يظهر به تمييز الشيء من غيره في الإدراك"، أرى عبد القاهر أنه من مقتضيات النظم، فهو به يكون وعنه يحدث، ومحصلة كل ذلك أن البيان بمعناه اللغوي، أو المعنى العام، أو الأدبي يعني: التعبير عما يدور في الذهن، وتحسن به النفس بأسلوب فني رائع، أو هو المميزات التي يتفاضل بها الأدباء والشعراء، ويظهر بها فضل كلام على كلام.

وهو بهذا المعنى يشمل علوم البلاغة الثلاثة المعاني والبيان والبديع، ويرادف الفصاحة والبلاغة والبراعة التي أدرجها جميعًا عبد القاهر تحت مسمى، أو باب واحد. هذا كله كلام في معنى البيان لكن بمعناه الواسع، أو بمعناه اللغوي. البلاغيون لهم اصطلاح في تعريف البيان، فما هو تعريف البيان في اصطلاح البلاغيين قالوا: "إنه العلم الذي به يُعرف إيراد المعنى الواحد بطرق مختلفة في وضوح الدلالة عليه" وهو بهذا يتميز عن علم المعاني الذي يُعرف به أحول اللفظ العربي، التي بها يطابق مقتضى الحال، كما يتميز عن علم البديع الذي يبحث في وجوه تحسين الكلام بعد رعاية المطابقة، ووضوح الدلالة، وقبل أن نتناول تعريف علم البيان بالشرح يروق لنا أن نسوق هذه الأمثلة؛ ليتكشف لنا علم البيان والمجال الذي يختص به دون سواه، أذكر بعض أبيات في معنًى واحد ينطبق عليها التعريف، أتت بطرق مختلفة في وضوح الدلالة عليه، على هذا المعنى الواحد يقول الشاعر الحماسي: هم البحور عطاء حين تسألهم ... وفي اللقاء إذا تلقى بهم بُهُم شاعر آخر هو بديع الزمان الهمذاني يقول: يكاد يحكيك صوب الغيث منسكبًا ... لو كان طلق المحيَّا يمطر الذهب يقول أبو نواس: إن السحاب لتستحيي إذا نظرت ... إلى نداك فقاسته بما فيها وتقول الخنساء: وكنت إذا كفٌّ أتتك عديمة ... ترجِّي نوالًا من سحابك بلتي

يقول شاعر آخر هو الفرزدق: أبي أحمد الغيثين صعصعة الذي ... متى تُخلف الجوزاء والدلو يمطر يقول البحتري: وصاعقة من نصله تنكفي بها ... على أرأس الأقران خمسً سحائب يقول آخر: يزكون نار القرى في كل شاهقة ... يًلقى بها المندل الهندي محطوما يقول آخر: وما يك في من عيب فإني ... جبان الكلب مهزول الفصيل تقول أيضًا الخنساء في بيت ترثي فيها أخاها صخر: طويل النجاد رفيع العماد ... كثير الرماد إذا ما شتى ويقول أبو نواس: فما جازه جود ولا حلَّ دونه ... ولكن يصير الجود حيث يصير أنت واجد الأبيات العشرة جميعها في معنى واحد هو الكرم، هذا هو معنى واحد جمع بين هذه العشرة أبيات، لكنك تلحظ في كل بيت له ما يميزه عن سواه، فالبيت الأول جاء على هيئة تشبيه حُذف أداته: هم البحور عطاء حين تسألهم ... ............................... حذفت الأداة، وهذا يسمى بالتشبيه المؤكد. يقول: هم البحور عطاء حين تسألهم ... وفي اللقاء إذا تلقى بهم بُهُم فهنا البيت جاء على صورة التشبيه،

البيت الثاني فيه تشبيه بعيد يقول فيه الشاعر: يكاد يحكيك صوب الغيث منسكبًا ... لو كان طلق المحيا يمطر الذهب هذا التشبيه البعيد إنما كان هكذا غريبًا وبعيدًا؛ لأنه أتى بأسلوب شرط ميز فيه كرم الممدوح عن الغيث، يقول: يكاد يحكيك يعني: يشبهك. يكاد يحكيك صوب الغيث منسكبا ... .................................. جعل كرمه أو عطاؤه هو المشبه، وصوب الغيث هو المشبه به يعني: تشبيه مقلوب لذلك كانت فيه مبالغة، وكان فيه شرط ................................ ... لو كان طلق المحيا يمطر الذهب فهذا البُعد جاء من أسلوب الشرط الذي احتواه هذا البيت، كما جاء كذلك من التشبيه المقلوب، حينما جعل المشبه مشبهًا به والمشبه به مشبه، نجد البيت الثالث يقول فيه الشاعر: إن السحاب لتستحيي إذا نظرت ... إلى نداك فقاسته بما فيها هذا تشبيه ضمني، حيث فُهم التشبيه من خلال فحوى الكلام، فيه يشبه الشاعر الممدوح بالسحاب، ولُمح فيه الطرفان من المعنى وبما تضمنه السياق، ودون ما تصريح في المشبه أو المشبه به. البيت الرابع الذي يقول فيه الشاعر: وكنت إذا كفٌّ أتتك عديمةً ... ترجِّي نوالًا من سحابك بُلَّتي فيه مجاز مرسل، هذا علاقته الجزئية حيث عبر بالكفِّ "وكنت إذا كف أتتك"، وأراد بهذا الكف الإنسان المعدم، فما أن مُدَّت إلى الممدوح إلا ونادت بالعطاء. البيت التالي هو يقول فيه الفرزدق: أبي أحمد الغيثين صعصعة الذي ... متى تخلف الجوزاء والدلو يمطر

هذا البيت فيه استعارة مرشحة حيث ذكر ما يلائم المستعار منه، وهو قوله "يمطر"، وفي البيت نجد أنه بالغ في المدح أبيه صعصعة، فجعله أحمد الغيثين يعني: أفضل من الغيث الذي ينزل من السماء، وأكثر منه كرمًا، وندى، وعطاء، هذه مبالغة تُحمد للشاعر، والشعراء كما نعرف {فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ} (الشعراء: 225). البيت الثالثة يقول فيه البحتري: وصاعقة من نصله تنكفي بها ... على أرأس الأقران خمس سحائب فتجد فيها استعارة تصريحية؛ لأنه شبه أصابع الممدوح بالسحاب، وحذف المشبه، وصرح بلفظ المشبه به، لكن هذه الاستعارة تميزت بأن قرائنها قد تعددت والتأمت؛ بحيث لا تصلح إلا هكذا مجتمعة، ذلك أنه استعار السحائب لأصابع الممدوح بجامع الجود والعطاء، ثم جعل القرينة ما ذكره من وجود صاعقة ناشئة من نصل سيفه تنقلب على رءوس أقرانه من الأعداء، ثم جعل الذي يقلبها عدده خمسة هي عدد أصابع يده. البيت السابع الذي يقول فيه الشاعر: يزكون نار القرى في كل شاهقة ... يلقى بها المندل الهندي محطوما نجد أن فيه كناية قريبة عن الكرم؛ لأن إذكاء النيران في الأماكن العالية لإرشاد الضيوف، علامة كرم، العلاقة هنا علاقة تلازم؛ حيث عُرف هذا عن العرب، والمندل الهندي عود طيب الرائحة يُستجلب من الهند، والمحطوم يعني: المكسور. البيت التالي وهو البيت الثامن: وما يك في من عيب فإني ... جبان الكلب مهزول الفصيل

تجد أنه أيضًا كناية عن صفة، لكنها كناية بعيدة؛ لأنه انتقل من جبن الكلب إلى الكرم، بوسائط فجبن الكلب من النباح يستلزم استمرار تأديبه، وهذا يستلزم دوام مشاهدته، وهذا يستلزم أن صاحبه أضحى مقصد الداني والقاصي، هذا كله دالٌّ على جوده وكرمه، مهزول الفصيل الفصيل هو ولد الناقة، وهزاله بحرمانه من لبنها؛ لنحرها للضيوف أو إطعامهم لبنها، إيثار الضيوف بها على الفصيل. قريب من ذلك بيت الخنساء التي تقول فيه: طويل النجاد رفيع العماد ... كثير الرماد هذا محل الشاهد. .................................. ... كثير الرماد إذا ما شتى فكثرة الرماد هذه كناية عن الكرم والجود؛ لأن كثرة الرماد، إنما تأتي من كثرة إحراق الحطب، وهذا يستلزم كثرة ما يُطبخ، وهذا يستلزم كرم الممدوح، ومدى الجود الذي يفيض به على الناس في إيثار الخنساء لكلمة "إذا ما شتى" دلالة على المبالغة في الكرم؛ لأنه وقت تشتد فيه حاجة المحتاجين. نجد في البيت الأخير يقول الشاعر: فما جازه جود ولا حل دونه ... ولكن يصير الجود حيث يصير هذه كناية عن نسبة حيث كنى عن نسبة الجود إلى الممدوح بإثباته للمكان الذي يوجد به، ويحل فيه، فلا يتجاوزه، ولا يحل دونه. أقرأ مرة أخرى الأبيات العشرة في معنى الكرم؛ لنعرف معنى إيراد المعنى الواحد بطرق مختلفة: الأبيات العشرة: هم البحور عطاء حين تسألهم ... وفي اللقاء إذا تلقى بهم بهم يكاد يحكيك صوب الغيث منسكبًا ... لو كان طلق المحيَّا يمطر الذهب إن السحاب لتستحيي إذا نظرت ... إلى نداك فقاسته بما فيها وكنت إذا كف أتتك عديمة ... ترجي نوالًا من سحابك بلتي ... سحابك بلتي أبي أحمد الغيثين صعصعة الذي ... متى تخلف الجوزاء والدلو يمطر وصاعقة من نصله تنكفي بها ... على أرأس الأقران خمس سحائب يزكون نار القرى في كل شاهقة ... يلقى بها المندل الهندي محطوما وما يك في من عيب فإني ... جبان الكلب مهزول الفصيل طويل النجاد رفيع العماد ... كثير الرماد إذا ما شتى فما جازه جود ولا حل دونه ... ولكن يصير الجود حيث يصير هكذا نجد المعنى الواحد وهو الكرم يتعدد، ويأتي في صور مختلفة، أو في طرق مختلفة مع وضوح الدلالة على معنى الكرم، ولعله قد وضح أمامنا الآن من خلال التمثيل معنى الكرم مقصود التعريف هو الميدان الذي يجول فيه هذا العلم؛ لأن الكثير من الحداثيين يقولون: أن العلم البلاغة قاصر؛ لأنه يقتصر على المعنى الواحد في علم البيان، وهم فاتهم أن هذا إنما هو علم مكمل لعلم المعاني؛

فالمعاني يشمل كل ضروب القول شعرًا ونثرًا، وقرآنًا وسنة، خصائص التراكيب في كل كلام العرب، وفي كل ما وصل إلينا من كلام بليغ. لكن علم البيان تكلم عن الوجوه والطرق التي يتأتَّى بها هذا الكلام البليغ، فهذا له مجال، وهذا له مجال، وكل منهما يُكمل الآخر، ونزيد هنا فنقول: أن كلمة علم، نريد أن نعرج إلى تعريف علم البيان، يقولون: علم يُعرف به إيراد المعنى الواحد بطرق مختلفة في وضوح الدلالة عليه، فكلمة علم تعني مجموعة القواعد، والضوابط، والقوانين التي يُعرف بها إيراد المعنى الواحد بطرق مختلفة، كضوابط الاستعارة، والمجاز، وقوانين الكناية، والتعريض، والذي لا يقلُّ عن ذلك أهمية هو الملكة التي تتربَّى لدى الدارس؛ لتذوق هذه الضوابط، وتطبيقها على النصوص. ومرادهم بالمعنى الواحد المعنى الذي يعبر عن المتكلم بكلام تام مطابق لمقتضى الحال، على ما مر بنا من أمثلة حول معنى الكرم، قولهم بطرق مختلفة مع وضوح الدلالة عليه يعني: متعددة ومتفاوتة في درجة الوضوح، بأن يكون بعضها واضح، وبعضها أوضح، وبعضها أشد وضوحًا، ألا ومرادهم بكلمة مع، أو في وضوح الدلالة عليه. المقصود من كلمة الدلالة في علم البيان: الدلالة اللفظية، لماذا؟ لأننا عندنا عدة دلالات، فهناك ما يسمى بدلالة العقد، وهي دلالة الحساب التي تكون بأصابع اليد، وهناك دلالة الإشارة، وتكون باليد، أو بالرأس، أو العين، أو الحاجب، هناك دلالة الخط التي هي دلالة الكتابة، هناك دلالة الحال التي، كدلالة الحمرة على الخجل، الذي يعنينا هو الدلالة اللفظية. والبلاغيون اعتمدوا هذه الدلالة اللفظية، وأسموها بالدلالة العقلية، وهذه تشمل دلالة التضمين ودلالة الالتزام، هذه مصطلحات ذكرها السكاكي،

وأدخلها في علم البيان، معنى دلالة التضمين يعني: دلالة اللفظ على جزء مسماه، كدلالة لفظ الدار على السقف، هذه تدخل معنا؛ لأن التعبير بالكل وإرادة الجزء هذا من المجاز المرسل. دلالة التزام: دلالة اللفظ على معنى خارج عن مسماه، كدلالة لفظ الأسد على الشجاع، هذا يدخل معنا في التشبيه وفي الكناية. إذن فالدلالة المقصودة هنا هي الدلالة اللفظية التي تشمل دلالة التضمين، ودلالة الالتزام، أما غيرها من أنواع الدلالات لا يدخل معنا بحال من الأحوال، ولا يجوز أن يكون وضوح الدلالة بمنأى عن مراعاة مقتضى الحال، بل يجب على البيان أن يُراعي بالإضافة إلى وضوح الدلالة على المعنى الذي يريده، أو الذي يريد أداءه مطابقته لمقتضى الحال، فيجمع بذلك بين وظيفتي علم البيان والمعاني، فلا بد أن يُراعي ذلك. هناك درجات للتفاوت في وضوح الدلالة، هذه الدرجات لا بد من ضبطها، أو تكون عن طريق ثلاث أمور: الأمر الأول: اختلاف طرق التعبير عن المعنى الواحد، فيمكن لك أن تقول مثلًا: زيد شجاع هذه حقيقة، تقول: زيد كالأسد شجاعة، هذا تشبيه اجتمعت فيه كل أركان التشبيه، تقول: زيد كالأسد، فتحذف وجه الشبه، أو كأنه الأسد، ويسمى هذا بالتشبيه المجمل، أو تقول: زيد أسد في الشجاعة، تحذف أداة التشبيه وهو التشبيه المؤكد، أو زيد أسد يُسمى تشبيه بليغ؛ لأنك حذفت الوجه والأداة، كل هذه طرق مختلفة في أداء المعنى الواحد،

ممكن تقول مثلًا: رأيت أسدًا يخطب الناس، هذه استعارة تصريحية يعني: رأيت رجلًا كالأسد، أو تقول في الاستعارة المكنية: انبرى لي فارس يزأر، وأنت تريد انبرى رجل فارس شبيه بالأسد، فحذفت المشبه به، ورمزت له بكلمة يزأر. كذلك التفاوت يظهر في قرب المعنى المجازي أو الكنائي من المعنى الحقيقي وبعده عنه، فالقريب مثلًا تقول: زيد يطير في حاجتك، تستعير الطيران للعدل هذا قريب، البعيد مثلًا تقول: جبان الكلب مهزول الفصيل، كما سبق وأن ذكرت. يدخل في درجات التفاوت درجة وضوح القرينة الدالة على المعنى المراد، قد تكون القرينة واضحة؛ بحيث يدركها السامع لأول وهلة، كما تقول مثلًا: رأيت أسدًا يخطب على المنبر، فمثل هذا يكون فيه المعنى غاية في الوضوح، وقد يكون ذلك بعيدًا. نسأل أن يوفقنا لما فيه خير للدنيا والآخرة. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الدرس: 2 التشبيه (1).

الدرس: 2 التشبيه (1).

تعريف التشبيه.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس الثاني (التشبيه (1)) تعريف التشبيه الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، ثم أما بعد: فسبق وأن تحدثنا عن مكانة البلاغة بين العلوم النافعة، ثم عرجنا بعد ذلك على تعريف البيان، ثم ذكرنا أنواع دلالته، وأنها دلالة لفظية: وهي من نوع دلالة التضمن أو الالتزام، وليست المطابقة. التشبيه: تعريفه، وأركانه، وأقسامه باعتبار طرفيه. التشبيه: يعني الدلالة على مشاركة أمر لآخر في معنى بإحدى أدوات التشبيه، أو بوجه يُنبئ عنه كقولك مثلًا: محمد كالأسد شجاعة. فالأمر الأول: في هذا المثال محمد وهو المشبه. والأمر الثاني: الأسد وهو المشبه به، وأداة التشبيه هنا الكاف كالأسد، والمعنى المرتبط بالأمرين المشبه والمشبه به هو الشجاعة، ويُعرف بوجه الشبه. وقولنا بإحدى أدوات التشبيه يُخرج الاستعارة بنوعيها؛ لكونها مبنية على تناسي التشبيه، كما يُخرج أيضًا نحو قولنا: جاءني محمد وعلي، وجاور زيد عمرًا، وغير ذلك من الصيغ الدالة على المشاركة، لكن بطرق أخرى من غير طريق أدوات التشبيه. قولنا "أو بوجه ينبئ عنه": يُدخل ما كان من التشبيه غير صريح، كقولك في بعض صيغ التجريد: لئن سألت فلانًا لتسألن به البحر، أو تقول: لقيت من زيد أسدًا، فالتجريد هو أن يُنتزع من أمر ذي صفة أمر آخر مثله في تلك الصفة؛ مبالغة في كمالها فيه، ويدخل أيضًا التشبيهات الضمنية كقول المتنبي: لم تلق هذا الوجه شمس نهارنا ... إلا بوجه ليس فيه حياء يريد أن الحياء انعدم من شمس النهار عندما سطع نورها، وتجرأت أن تعارض وتلاقي وجه ممدوحه، هذه طبعًا مبالغة يريد الشاعر من خلالها أن يبين أن نور ممدوحه يفوق شمس النهار، وقد تكون هذه الأشياء الأربع للتشبيه: وهي

المشبه، والمشبه به، وأداة التشبيه، ووجه الشبه بيِّنة ظاهرة، مصرحًا بها، أو ببعضها كما مر في قولنا: محمد كالأسد شجاعة، وكما في قول الله تعالى: {وَلَهُ الْجَوَارِي الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ} (الرحمن: 24)، وقد تكون خفية مستترة يُنبئ بها الأسلوب، وتُفهم من خلال سياق الكلام، كما مر بنا في التشبيهات غير الصريحة كقولنا مثلًا: لقيت من زيد أسدًا، ولئن سألت فلانًا لتسألن به البحر، إلى غير ذلك من التشبيهات الضمنية، أو التي يدخل فيها معنى التجريد. وهنا يأتي سؤال ما نوع الدلالة في التشبيه، وما موقع التشبيه إن كانت دلالته دلالة مطابقة من المباحث البيانية؟ وما قد مر بنا أن الدلالة المعتمدة لدى البيانيين هي الدلالة اللفظية، وتشمل هذه الدلالة دلالة الالتزام ودلالة التضمين. والملاحظ في دلالة التشبيه أنها ليست دلالة التزام ولا تضمين، وإنما هي دلالة مطابقة؛ لأن كلًّا من المشبه والمشبه به، والأداة ووجه الشبه مستعمل في معناه الوضعي، ودال على تمام معناه. ومن المعلوم كما سبق أن ذكرنا أن المعاني المعبر عنها بألفاظ وضعية دالة على تمام معناها تكون واضحة الدلالة، وعلم البيان إنما يبحث في الدلالات التي تختلف في درجات الوضوح، وهي الدلالات غير الوضعية. من هذا اختلف البيانيون في موقع التشبيه من علم البيان، هل يُعدُّ من مباحثه الرئيسة، أم أنه مبحث تمهيدي لمباحث الاستعارة، وافترقوا على رأيين: رأي يرى أن التشبيه مبحث تمهيدي لدراسة الاستعارة، وليس مبحثًا رئيسًا لما ذكرنا من أن دلالة التشبيه دلالة مطابقة، يُعبَّر عن معانيها بألفاظ حسب

أركان التشبيه.

أوضاع اللغة، وليس فيها معانٍ وراء ذلك، كما ذكرنا في علم المعاني، وعلم البيان، وأنها تبحث عن المعاني الثانوية، أو معنى المعنى في علم البيان؛ بينما يرى فريق آخر أن التشبيه من مباحث علم البيان الرئيسة، ومن مقاصده الأساسي، وحجتهم في ذلك أن التشبيه ليس على درجة واحدة من الوضوح، بل تتفاوت درجاته، وتتعدد أقسامه، وتختلف مراتبه؛ فهناك التشبيه الواضح، وهناك التشبيه الضمني، وهناك التشبيه البليغ محذوف الوجه والأداة، وهناك المؤكد محذوف الأداة، والمرسل الذي ذُكرت فيه الأداة، وهناك التشبيه المفصل الذي ذكر فيه الوجه، وهناك المجمل، كما أن هناك تشبيه الحسي، والعقلي، وهناك المفرد والمركب، إلى غير ذلك. وهذا التفاوت والاختلاف ظهورًا وخفاء، ووضوحًا ودقة يجعله من المباحث الرئيسة لعلم البيان، وهذا الرأي هو الأولى بالقبول؛ فلا أحد من علماء البيان يختلف في أن للتشبيه اعتباراته الدقيقة، ولطائفه العجيبة، ومحاسنه العديدة، وهذا ما جعله موضع اهتمامهم، ولما لا وباب الاستعارة مبني أساسًا عليه، ومن ثَمَّ فهو أساس في علم البيان لا يمكن الاستغناء عنه بحال من الأحوال. أركان التشبيه نتكلم عن أركان التشبيه، وما يتحتم ذكره منها: أركان التشبيه خمسة: أولها: المشبه: وهو -كما قلنا- الأمر الذي يُراد إلحاقه بغيره. ثانيها: المشبه به: وهو الأمر الذي يُراد إلحاق غيره به، ويُسمى كل من المشبه والمشبه به طرفا التشبيه.

ثالثها: هو وجه الشبه، وهو المعنى الجامع الذي يشترك فيه الطرفان، ويكون في المشبه به أعرف وأشهر منه في المشبه، وغالبًا ما يكون في المشبه به أقوى وأكمل أيضًا من المشبه، ونقول غالبًا؛ لأننا سنرى أن الأمر يكون على عكس ذلك في بعض الأحيان. الأمر الرابع: أداة التشبيه، وهي اللفظ الذي يربط بين الطرفين، ويدل على التشبيه. الأمر الخامس: الغرض من التشبيه، وهو الهدف أو الفائدة التي من أجلها يسوق المتكلم التشبيه والغاية التي ينشدها من ورائه، وهو الذي لا ذكر له في الكلام، فالمعتبر ذكره في الكلام إذن من هذه الأركان هي الأربعة الأولى؛ لأن الغرض هذا أمر يُضمره المتكلم في نفسه، ولا يظهر في طيات كلامه. وهنا سؤال ما الذي يتحتم ذكره من هذه الأركان الأربع، وما الذي يجوز حذفه؟ الأركان الأربعة الأولى قد تذكر جميعها في جملة التشبيه، كما سبق أن ذكرنا في قولنا مثلًا: محمد كالبحر عطاء، وعمرو كالأسد شجاعة، فهنا المشبه، والمشبه به، وجه الشبه، وأداة التشبيه، وقد تُحذف الأداة كما نقول مثلًا: محمد بحر في العطاء، وذلك إذا كان المقام يقتضي المبالغة في المشابهة، وقد يحذف الوجه، فنقول مثلًا: أنت أسد، محمد بحر، ويعرف هذا بالتشبيه البليغ. وقد يلحق المشبه بالوجه والأداة فيحذف معهما، ويبقى المشبه به فقط في سياق الكلام، من ذلك مثلًا ما جاء في قول الله تعالى: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} (البقرة: 171) تقدير الكلام هم كالصم، هم كالعمي، هم كالبكم {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} ففي هذه الآية تمَّ حذف الأداة ووجه الشبه، وكما ذكرنا حُذف أيضًا المشبه، وحذف المشبه هنا في الآية لا يُخرج الكلام عن دائرة التشبيه؛ لأن القاعدة المشهورة تقول: أن المقدر كالمذكور

خلافًا لما في نحو قولنا مثلًا: في الاستعارة رأيت أسدًا، وحدثته، وشاهدت بحرًا في المسجد، لماذا، ما الفرق بين هذا وذاك؟ لأن المرجع في هاتين الأخيرتين مبنيتان على تناسي التشبيه، وبولغ في طيه هو المشبه، وبولغ كذلك في تجاهله، ولذلك نقول: إن هاتان من قبيل الاستعارة، رأيت أسدًا وحدثته، وشاهدت بحرًا في المسجد مثل هذا لا يُعد تشبيهًا، وإنما يعد استعارة. أما المشبه به فهذا هو الذي يتحتم ذكره، ولا يتأتى حذفه بحال من الأحوال؛ لأن في حذفه تفويتًا للغرض المقصود من التشبيه. نتكلم عن أقسام التشبيه باعتبار طرفيه، فمباحث الطرفين هما المشبه والمشبه به، نظر البلاغيون إلى هذين الركنين فوجدوا أن لهذين الركنين صفات، وأحوال، وعلى أساس هذه الصفات والأحوال نوعوا التشبيه وقسموه، فالطرف قد يكون حسيًّا، وقد يكون عقليًّا، وقد يكون مفردًا، وقد يكون مقيدًا، وقد يكون أمرًا واحدًا، وقد يكون متعددًا. هذه كله يحتاج إلى تفصيل حتى نعرف مباحث الطرفين، ونذكر هذه الأقسام والأنواع، ونضعها دائمًا في أذهننا، ونحن نطبق هذا على الأمثلة التي تعترضنا. نبدأ أولًا بأقسام التشبيه باعتبار الحسية والعقلية: أولًا معنى حسية الطرف وعقليته: حسية الطرف: أن يكون مدركًا هو أو مادته التي يتركب منها بإحدى الحواس الخمسة الظاهرة، وهي البصر، والسمع، والشم، والذوق، واللمس. وعقلية الطرف: ألا يكون هو ولا مادته مدركًا بالحواس بأن يكون من المعاني التي يُدركها المرء بعقله مثل: العلم، والحياء، والذكاء، والمروءة، ومثل

الكرامة، والإباء، والنجدة، أو أن يكون من المعاني التي يحسها بوجدانه مثل الجوع، والعطش، والشبع، والفرح، والحزن، والطمأنينة، والخوف. فلا مدخل للحواس الخمس في إدراك هذه الأمور على الإطلاق، وإنما مجال إدراكها هو العقل أو الشعور الوجداني، والحس الباطني، يلحق بالعقل الأمور الوهمية التي لا وجود لها ولا لمادتها في الخارج، ولكنها استقرت في وهم الإنسان؛ نتيجة أسطورة مثلًا، كما في قول امرئ القيس: أيقتلني والمشرفي مضاجعي ... ومسنونة زرق كأنياب أغوال فهو يشبه بأنياب الأغوال، وفرق بين الطرف العقلي والطرف الوهمي، فالعقلي له وجود وثبوت وتحقق في الذهن، ولكن لا مدخل للحواس في إدراكه. أما الوهمي فلا ثبوت، ولا تحقق له عقلًا ولا حسًّا؛ لعدم وجوده أصلًا، كما أن هناك فرقًا بين الطرف الوهمي والطرف الخيالي، الذي هو ملحق بالطرف الحسي؛ فالخيالي هيئته التركيبية لا وجود لها، ولكن أجزاء هذه الهيئة ومادتها موجودة ومدركة بالحواس. أما الوهمي فلا وجود له ولا لأجزائه البتة حتى تُدرك أو تُشاهد، وسنذكر من الأمثال ما تتضح به هذه الأقسام جميعًا. فعندنا مثلًا التشبيه يتنوع باعتبار حسية طرفيه أو عقليته إلى عدة أقسام، فهناك: تشبيه محسوس بمحسوس، وهناك عقلي بعقلي، هناك عقلي بحسي، وهناك حسي بعقلي، هذا هو ما تقتضيه القسمة العقلية. سنذكر بعض الأمثلة حتى تتضح هذه الصور، وهذه الأقسام، وليست هذه الأٌقسام -هذا أمر لا بد من التنبيه عليه- مقصودة لذاتها، ولكن فقط للتعليم ولتمرين الإنسان والعقل على كيفية التعرف على هذه الأقسام، وهذه الأنواع، لكن الأصل في البلاغة هو التذوق كما نعلم هذا جيدًا،

فعندنا مثلًا قول الله تعالى: {وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ} (الصافات: 48، 49)، قوله: {وَحُورٌ عِينٌ كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ} (الواقعة: 22، 23)، قوله: {كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ} (الرحمن: 58)، فالمشبه في كل هذه الآيات هو نساء أهل الجنة، والمشبه به هو بيض النعام، واللؤلؤ المكنون، والياقوت، والمرجان، وكما نرى كلها من المبصرات فهي مدركة بحاسة البصر؛ إذن فهي حسية. ونتأمل الدقة في هذه الآيات لنرى مدى إبراز جمال الحور، والإبداع في تصوير حسنهن، فهن حور وقاصرات الطرف، وعين يعني: مبالغة في الحسن، وحور أي: شديدات سواد العيون وبياضها، وقاصرات الطرف يعني: حابساتها على أزواجهن، وعِين يعني: ضخام الأعين حسان، وكل هذه الألفاظ كما ترى تبرز معاني الجمال، والحسن في هذه النساء التي يتلذذ بها أهل الجنة، نسأل الله أن يجعلنا منهم. من ذلك أيضًا من المسموعات: ما نقوله مثلًا، أو كما يقول ذو الرمة: كأن أصوات من إيغالهن بنا ... أواخر الميس أنقاض الفراريج هذا تشبيه بالصوت، فهو يشبه الصوت المنبعث من احتكاك الرحل بعضه ببعض نتيجة شدة السير واضطراب الرحال، بصوت الفراريج، وهي صغار الدجاج؛ فوجه الشبه هو الاشتراك في هذه النغمة الخاصة، وطرفا التشبيه من المسموعات. من تشبيه الحسي أيضًا بالحسي تشبيه بعض الفاكهة مثلًا بالعسل في الحلاوة، وتشبيه ريق الحبيب بالخمر في الطعم الجميل المذاق، ومنه قول امرئ القيس: كَأَنَّ المُدامَ وَصَوبَ الغُمامِ ... وَريحُ الخُزامى وَنَشرُ القُطُر يُعِلُّ بِهِ بَردُ أَنيابِها ... إِذا غرّد الطائِرُ المُستَحِر

وضمن المشمومات نشبه مثلًا النكهة بالعنبر الملموسات يقول الشاعر: لها بشر مثل الحرير ومنطق ... ......... فهنا يشبه البشرة بالحرير، هذا أمر يدرك باللمس، وكثيرًا ما يلجأ الأديب إلى تأليف واختراع صور خيالية؛ مبديًا براعته الفنية، ومظهرًا المشبه في صورة رائعة، وهذا الطرف الذي يخترعه الأديب ويتخيله يُسمى حسيًّا غير حقيقي، أو يسمى خياليًّا؛ لأن مادته أو أجزاء صورته مدركة بالحس، وإن كان بهيئته التركيبية لا وجود له، من ذلك مثلا قول الصنوبري يصف شقائق النعمان يقول: وكأن محمرَّ الشقيـ ... قِ إذا تصوَّبَ أو تَصَعَّدْ أعلامُ ياقوتٍ نشر ... ن على رماحٍ من زبرجد فالمشبه هو شقائق النعمان، والمشبه به الأعلام المركبة من ياقوت منشور على رماح من زبرجد. هذا طبعًا لا وجود له في الواقع، لكن المادة التي تتكون منها هذه الصورة موجودة كالزبرجد، والرماح، والياقوت، والأعلام، كل هذه الأشياء موجودة في الطبيعة، لكن هذه الصورة مركبة إنما هي تخضع للخيال. فهذه صورة صنعها خيال الشاعر ولا وجود لها في الواقع، ولا تدرك بالحواس الظاهرة، ولكن المواد والأجزاء التي صُنعت منها هذه الأمور ورُكبت منها هي التي تُدرك بالحس، وهي التي تقع تحت دائرة الواقع. النوع الثاني من أقسام التشبيه باعتبار الحسية والعقلية، هو تشبيه المعقول بالمعقول: كتشبيه الجهل مثلًا بالموت، والعلم بالحياة، وتشبيه العشق بالموت، كما يقول الشاعر: العشق كالموت يأتي لا مرد له ... ما فيه للعاشق المسكين تدبير فوجه الشبه بين العشق والموت عدم القدرة على دفعه ورده، نسأل الله العافية، أو يدخل في هذا تشبيه السفر بالعذاب، كما في الحديث ((السفر قطعة من العذاب))، وكذلك تشبيه الضلال عن الحق بالعمى، وتشبيه الاهتداء إلى الحق

بالإبصار، كثير من الآيات جاءت تتحدث عن مثل هذا من ذلك قوله تعالى: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} (فصلت: 17)، {هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ} (الأنعام: 50)، {مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ} (هود: 24)، {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ} (الرعد: 16)، {أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى} (الرعد: 19)، وقوله كذلك: {وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ} (فاطر: 19)، وقوله: {وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ} (النمل: 81)، فكل هذه التشبيهات إنما هي أمور عقلية، وقُصد منها المبالغة، ولم يقصد بها العمل حقيقي؛ فإنما هو أشبه ما يكون بالعمى الذي هو عمى البصيرة. النوع الثالث من التشبيه: هو تشبيه المعقول بالمحسوس: كتشبيه أخلاق الكرام مثلًا بالأرض الواسعة الممتدة، وبالعطر، الرائحة الطيبة، وتشبيه المنية مثلًا بالسبع؛ فالمشبه وهو أخلاق الكرام، أو المنية من المعقولات، والمشبه به وهو الأرض الواسعة والعطر والسبع كل هذه من الأمور المحسوسة، من ذلك أيضًا تشبيه الرأي بالليل كما جاء في قول الشاعر: الرأي كالليل مسودٌّ جوانبه ... والليل لا ينجلي إلا بإصباح وتشبيه الغيظ بالنار، كما جاء في قول المتنبي: وغيظ على الأيام كالنار في الحشا ... ولكنه غيظ الأسير في القيد وتشبيه الصبر على مضض الحسود بالنار إلى غير ذلك، فتشبيه المعقول بالمحسوس ورد كثيرًا في كلام البشر، كما جاء كثيرًا في أساليب القرآن، ومن ذلك تصوير أعمال الكفار برماد اشتدت به الريح في يوم عاصف، وبسراب بقيعة يحسبه الظمآن

ماء، حتى إذا جاءه لم يجده شيئًا، وتمثيل اعتقادات المنافقين واضطراباتهم وتخبطهم بالذي استوقد نارًا، فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم، إلى غير ذلك مما يعمد إليه القرآن كثيرًا، والسنة؛ حتى يقرب المعنى إلى الأذهان. الضرب الرابع من ضروب التشبيه باعتبار الحسية والعقلية، تشبيه المحسوس بالمعقول: وهذا القسم على خلاف الأصل؛ لأن الأصل في التشبيه أن يلحق بشيء يحسه الإنسان، ويكون أقوى في وجه الشبه، لكن أن يشبه محسوس بمعقول فهذا جاء على خلاف الأصل؛ لأن المشبه -كما قلنا- شأنه أن يكون أظهر وأوضح من المشبه، فأولى به أن يكون حسيًّا، ولا يكون عقليًّا إلا بعد أن ينزل منزلة المحسوس، ويدعى أنه فاق المحسوس في الوضوح والظهور، كما جاء في قولنا مثلًا، أو في تشبيه الأرض الواسعة بخلق الكريم، كما في قول الشاعر: وأرض كأخلاق الكرام قطعتها ... وقد كحَّل الليل السماك فأبصر فشبه الأرض في السعة والرحابة بأخلاق الكرام، وكان الأصل أن يعكس، فإن يشبه أخلاق الكرام بالأرض، لكنه أراد أن يبالغ، وأن يبين أن الصفة صفة وجه الشبه موجودة في المشبه به أكثر من المشبه، ومن ذلك أيضًا قول الشاعر: ولقد ذكرتك والظلام كأنه ... يوم النوى وفؤاد من لم يعشق فكل هذا هو من قبيل تشبيه المحسوس بالمعقول، من ذلك كذلك تشبيه النجوم بين الدجى بالسنن بين الابتداع كما جاء في قول الشاعر: وكأن النجوم بين دجاها ... سنن لاح بينهن ابتداع فيأتي تفصيل هذا إن شاء الله في الكلام عن وجه الشبه المتخيل، وعلى نحو ما ذكرنا أن المركبات الخيالية تدخل في التشبيهات الحسية، فنقول، ونكرر: إن المركبات الوهمية تدخل في دائرة التشبيهات العقلية، فقول الشاعر وامرئ القيس: أيقتلني والمشرفي مضاجعي ... ومسنونة زرق كأنياب أغوال

هنا شبه السنان بأنياب الأغوال، فالمشبه به في البيت وهو أنياب الأغوال من المعاني الوهمية، التي لا دخل للحس في إدراكها، لكن الشاعر استغلها لتهويل شأن الأسنة التي يحملها، ويدافع بها عن نفسه، وإبرازها كذلك في صورة مرعبة مفزعة، البلاغيون ذكروا أو أدرجوا تحت هذا اللون قول الله تعالى: {طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ} (الصافات: 65)، فرءوس الشياطين من المعاني الوهمية، وقد أبرزت قبح هذا الطلع وفظاعته، لكن في الحقيقة هذا كلام لا يليق بحال من الأحوال. فما جاء في القرآن الكريم لا يجوز لنا أن نسميه بحال من الأحوال أمور وهمية؛ فالآية الكريمة {طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ} (الصافات: 65) اعتمدوا البيانيون فيها على بيان حالتها، وعلى ما تتخيله النفوس للشيطان من رأس قبيحة جدًّا، وبالغة في النفرة والكراهية، والشجرة كما نعلم شجرة غريبة لم توجد على أساس القانون الطبيعي؛ لوجود الشجر من تربة فيها حياة وماء، وإنما هي شجرة تخرج في أصل الجحيم، وهي شجرة شاذة وغريبة، فنسبتها هذه الرءوس الغريبة رءوس الشياطين طبعًا، هذا كلام يقوله البيانيون، لكن مؤدَّاه في النهاية إنكار مثل هذا في يوم القيامة؛ لأن هذا غيب. وما ذكره القرآن الكريم عن جهنم، وما فيها من زقوم، وما فيها من طعام لأهل الجحيم شبهه بأن طلعها، طلع شجرة الزقوم كأنه رءوس الشياطين، كل هذا غيب لا نستطيع إدراكه بحال من الأحوال، ولو أن جعلنا المشبه به وهو رءوس الشياطين من الأمور المتوهمة التي لا حقيقة لها في الواقع؛ إذن فهذا يستلزم أن نجعل النار كذلك، فإذا كان رب العزة قد أخبر عن أن النار هكذا

حالها، وأن زقومها طلعه كأنه رءوس الشياطين. إذن فالأمر كما ذكر القرآن وكما جاء في كتاب الله -سبحانه وتعالى، طبعًا الزمخشري يربط بين هذه التشبيهات وبين تشبيهات مثل قوله تعالى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} (البقرة: 275)، فيربط بين هذا وبين الذي استهوته الشياطين في الأرض حيران إلى غير ذلك، ولا يرى بأسًا من أن تكون صورة المشبه به في الأمرين منتزعًا من معتقدات العرب من غير نظر إلى أن ذلك واقع، أو غير واقع، لكن أهل السنة يرون أن هذا مرفوض، ويقررون أن هذه الصورة مستمدة من الواقع، وأن القرآن في بناء تراكيبه وصوره لم يعول على خرافة من خرافات العرب؛ لأن في ميدان الحقائق الصادقة ما يفي بالأغراض، بل ويزيد المعنى عمقًا وتأثيرًا؛ فالشياطين تستهوي، وتخبط، وتمس إلى غير ذلك مما تشير إليه الآيات، والمهم عندنا أنهم يقولون: إن المراد بهذا التصوير، هو تصوير المرابي الذي يتخبطه الشيطان من المس حين يقوم يوم القيامة أنه يتخبط في قيامه؛ لأن الربا يربو في بطونهم حتى يتلفها، وفي هذا إهانة لهم، وتشهير بهم. وهذا يعني: أن التشبيه لا يصف أحوالًا نفسية، وإنما يصف مشهدًا بمشهد، فهذا كله يدلنا على أن ما جاء في قوله تعالى: {طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ} (الصافات: 65) يقاس على مثل هذا، وأن فيه تصوير لعذاب أهل النار، ومن أنهم يأكلون الزقوم الذي طلع شجرها، كما وصف ربنا في كتابه العزيز، هذا كلام يسوقه الدكتور محمد أبو موسى في كتابه (تصوير البيان) وأنا أرى ترجيح ما يراه، أو ما عليه أهل السنة والجماعة؛ حتى لا نخالف ما جاء في كلام الله سبحانه وتعالى.

أقسام التشبيه باعتبار الحسية والعقلية.

أقسام التشبيه باعتبار الحسية والعقلية نذكر بعد هذا التطواف حول أقسام التشبيه باعتبار الحسية والعقلية، نذكر أقسام التشبيه باعتبار إفراد الطرفين، وتقييدهما، وتركيبهما، ينقسم التشبيه باعتبار إفراد الطرفين وتقييدهما وتركيبهما إلى سبعة أقسام: فهناك تشبيه مفرد بمفرد، هناك مقيد بمقيد، هناك مفرد بمقيد، هناك مقيد بمفرد، وهناك مركب بمركب، وهناك مفرد بمركب، ومركب بمفرد. معنى إفراد الطرف: أن يكون شيئًا واحدًا متميزًا بذاته، وليس مقيدًا بقيد يؤثر في صورة التشبيه، وليس على هيئة مركبة من عدة أمور مثل: أن نشبه بالقمر، أو نشبه بالبحر، أو نشبه بالنجوم، إلى غير ذلك. معنى تقييد: أن يرتبط الطرف، ويقيد بوصف، أو بإضافة، أو بحال، أو بجار ومجرور؛ تقييدًا لا يبلغ حد التركيب، شريطة أن يكون لهذا القيد أثر في تحقيق وجه الشبه مثل قولنا مثلًا: الراقم على الماء، والمرآة في كف أشل، إلى غير ذلك. معنى أن يكون الطرف مركبًا يعني: أن يكون هيئة مؤلفة من أمرين، أو من عدة أمور، قد امتزجت امتزاجًا يجعلها في حكم الشيء الواحد. كما سنذكر ذلك في هذه الأمثلة التالي ذكرها، فنتناول: أولًا معنى أن يتشبه طرف مفرد بطرف مفرد آخر، نذكر مثلًا من الأمثلة ما جاء في قول الله تعالى: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا} (النبأ: 10)، فهنا يشبه الله -سبحانه وتعالى- الليل باللباس بجامع الستر في كل فكل من الليل، واللباس يستر الناس منه قوله تعالى: {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ} (البقرة: 187)، فشبه المرأة أيضًا باللباس للرجل، والرجل باللباس للمرأة، فالطرفان مفردان مجردان، وجه الشبه فيما

إما أن يكون حسيًّا يدل على الإحاطة والاشتمال، وإما أن يكون أمرًا عقليًّا مراد به أن يستر كل الآخر؛ بحيث يصونه من الوقوع في فضيحة الفاحشة كاللباس الساتر للعورة، مما جاء في تشبيه المفرد بالمفرد قوله تعالى: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} (البقرة: 74). فهو تشبيه قلوب أهل الكفر وهم من اليهود بالحجارة بجامع القسوة والصلابة، وأنه لا ينفذ إليها شيء من الخير، والحق -والعياذ بالله- من هذا أيضًا تشبيه الوجه بالبدر، تشبيه الشعر بالليل، تشبيه الرجل بالأسد، وتشبيه الخد بالورد، إلى غير ذلك مما نلحظ فيه أن المشبه والمشبه به مفردان كل منهما غير مقيد. الضرب الثاني من ضروب أقسام التشبيه باعتبار إفراد الطرفين، وتقييدهما، وتركيبهما المقيد بالمقيد كما نقول مثلًا: التعليم في الصغر كالنقش في الحجر، فالمشبه هنا هو التعليم مقيدًا بكونه في الصغر، وليس مطلق التعليم، والمشبه به النقش مقيدًا بكونه في الحجر، وليس مطلق النقش؛ فلا بد من مراعاة هذا القيد، وإلا فسد التشبيه وجه الشبه هو الثبات ودوام الأثر، فطرفا التشبيه مفردان مقيدان. من ذلك أيضًا تشبيهنا من لا يحصل من سعيه على شيء بالقابض على الماء، فالوجه هو التسوية بين الفعل وعدمه في عدم الفائدة، وخيبة ما سعى صاحبه، وهذا لا يتحقق إلا بمراعاة القيدين إلى غير ذلك فيما جاء مثلًا في قول ابن الرومي: إني وتزييني بمدحي معشر ... كمعلق درًا على خنزير فالمشبه هو المتكلم مقيدًا باتصافه بتزيينه بمدحه معشرًا، والمشبه به من يعلق درًا مقيدًا بكون تعليقه على خنزير؛ فلا بد أن يتحقق هذان القيدان حتى يتمَّ وجه

الشبه الذي هو أن كلًّا منهما وضع موضع الزينة في موضع لا يظهر له فيه أثر، هذا هو الضرب الثاني من ضروب التشبيه باعتبار الإفراد، والتقييد، والتركيب. من ضمن هذه الأنواع تشبيه المفرد بالمقيد مثل قول الله تعالى: {خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ} (القمر: 7)، فالمشبه هو الخلائق في هذا اليوم العصيب يوم القيامة، والمشبه به هو الجراد مقيدًا بكونه منتشر، وجه الشبه الكثرة، والتدافع، وجولان بعضهم في بعض، هذا موجود في المشبه، وموجود في المشبه به. مثاله كذلك قول الله تعالى: {يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ} (القارعة: 5، 6) فالمشبه هنا المفرد وهو الناس، والمشبه به الفراش مقيدًا بكونه مبثوثًا، فانظر كيف أن تعلم البلاغة يجعلنا نفهم ما جاء في القرآن الكريم، يعني: لو أن واحدًا جاء مثلًا، وقال: كأنهم جراد منتشر، وأن الله شبههم بالجراد فقط، وانتهى الأمر على هذا، أو قال: بأن الناس يكون يوم القيامة كالفراش دون أن يذكر كلمة المبثوث، أو يراعي هذا القيد نقول: إن هذا التشبيه ناقص، فلا بد من وجود هذه القيود، ولا بد من مراعاتها. ولا بد أولًا من فهم البلاغة التي تجعلنا نفهم كلام الله على هذا النحو، فالمشبه به الفراش كما قلنا في آية القارعة، مقيدًا بكونه مبثوثًا، وجه الشبه في الآية الأولى هي آية سورة القمر- {كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ} وجه الشبه هو ضعف وزوال التماسك، وفي الآية القارعة زوال القوة، وتفرق الأجزاء، ولا يخفى علينا أثر هذا القيد كما قلنا، ونقول مرارًا وتكرارًا ومدى دقة التعبير القرآني بإيثار هذه الألفاظ التي أبرزت، وجلت حال الناس يوم القيامة فالفراش كما نعلم مثال للخفة والحماقة والتهافت حتى أنه جاء في كلام العرب، وفي أمثالهم "أطيش من فراشة" أينما كان مبثوثًا؛ فقد تم ضعفه واكتمل زوال تماسكه، والعهن كذلك هو الصوف المصبوغ ألوانًا شتَّى، فإذا ما كان من منفوشًا؛ فقد تفرقت أجزاؤه، وزال كل ما به من قوة وتماسك، ثم إيثار لفظ العهن دون الصوف يعمُّ كل الجبال التي هي جُدَد بيض، وحمر مختلف ألوانها،

وغرابيب سود، هكذا أبان القيد عن كل هذه المعاني، وبغير مراعاة هذه القيود يفسد التشبيه، ومن ثَمَّ يبطل تفسير القرآن بغير، أو على غير وجهه. الصورة الرابعة من صور أقسام التشبيه باعتبار الإفراد والتقييد والتركيب هو تشبيه المقيد بالمفرد: عكس الصورة الماضية كما نقول مثلًا: العين الزرقاء كالسنان، المشبه هي العين مقيدة بكونها زرقاء، والمشبه به السنان، نقول مثلًا: الأمل بل عمل كالسراب، فالمشبه هو الأمل مقيدًا بكونه بدون عمل، والمشبه به هو السراب في جامع بينهما، وعدم الوصول إلى شيء، إلى غير ذلك من أمثلة عديدة جاءت في كلام العرب. الصورة الخامسة من صور أقسام التشبيه باعتبار الإفراد، والتقييد، والتركيب للطرفين تشبيه المركب بالمركب: كما جاء مثلًا في قول بشار يصف معركة: كأن مثار النقع فوق رءوسنا ... وأسيافنا ليل تهاوى كوكبه فشبه هنا الهيئة المركبة من الغبار المثار والسيوف المتحركة حركات سريعة مضطربة، وإلى جهات مختلفة، هذا كله هو صورة المشبه هيئة مكونة من كل هذا، شبه هذا كله بالهيئة المكونة من الظلام والكواكب تتهاوى وسطه، وقد تداخلت واستطارت أشكالها، ووجه الشبه هو الهيئة الحاصلة من سقوط أجرام مشرقة مستطيلة متناسبة المقدار في جوانب شيء مظلم. هذا أمر متحقق في المشبه والمشبه به في بيت بشار. مثاله أيضًا قول البحتري عندما يصف فرسًا يقول: ترى أحجاله يصعدن فيه ... صعود البرق في الغيم الجهام فالأحجال هي البياض في رجل الفرس، والغيم الجهام هو الغيم الذي لا ماء فيه، فهنا شبه الهيئة الحاصلة من ارتفاع البياض في قوائم الفرس وانتشاره،

ومخالطته السواد شبه ذلك بالهيئة الحاصلة من انتشار شعاع البرق في وسط الغيم، فالطرفان مركبان، ووجه الشبه هو الهيئة الحاصلة من اختلاط البياض بالسواد. سؤال هل يتأتَّى تحويل التشبيه المركب إلى متعدد، أو بعبارة أخرى هل يمكن للمركب أن تفكك وتفصل أجزاؤه عن بعضها البعض؟ إذا نظرنا إلى التشبيهات المركبة وجدنا أن بعضها لا يمكن فعل ذلك معه، لا يمكن فصل أجزائه، وأن بعضها الآخر يمكن فمثلًا عندما يقول الشاعر، وهو ابن المعتز: غدا أي: الليل. غدا والصبح تحت الليل بادي ... كطرف أشهب ملقي الجلالة غدا: وهو الليل، طرف أشهب يعني: الفرس الأبيض، ملقي الجلال: غطاء يوضع على الفرس، ويبدو أنه كان يتخذ من قماش أسود. فهنا يشبه ظهور الفجر وإضاءته في بقايا الليل المدبر بفرس أشهب، مال عنه غطاؤه الأسود، فبدا بياض الفرس في سواد الغطاء، ووجه الشبه اجتماع سواد قليل في بياض كثير، فطرفا التشبيه مركبان، ولو حاولنا فصل الأجزاء في الطرفين، فلربما استقام تشبيه مثلًا الصبح بالفرس الأبيض، وتشبيه أيضًا الليل بالجلال، لكن هذا لا يستقيم لغثاثته، وفقدان ثمرته. هناك ضرب من التشبيه يمكن فك أجزائه كما جاء مثلًا في البيت الذي ذكرناه بيت بشار: كأن مثار النقع فوق رءوسنا ... وأسيافنا ليل تهاوى كوكبه فلو فضضنا أجزاء هذه الصورة فشبهنا النقع مثلًا بالليل، وشبهنا السيوف بالكواكب؛ لصحت هذه التشبيهات من حيث تحقق وجه الشبه بين الأجزاء، ولكن يضيع جمال التشبيه الذي أحدثه التركيب، ويضيع غرض الشاعر الذي رمى إليه، وقصده بهذه الصورة المركبة. إذن فليس كل تشبيه مركب بمركب

يصلح فك أجزائه، حتى وإن صح، فإن ذلك يضيع جمال التشبيه الذي أحدثه الشاعر، وأحدثه هذا التركيب الذي صاغه في هذا الشعر الذي صاغه هو، وقاله بنفسه. هناك ضرب سادس من ضمن أقسام التشبيه باعتبار الإفراد والتقييد والتركيب، وهو تشبيه المفرد بالمركب، ولننظر مثلًا إلى قول ابن المعتز حينما يقول: انظر إليه كزورق من فضة ... قد أثقلته حمولة من عنبر فهنا شبه الهلال، وقد امتلأ قوسه المضيء بظلام الليل، شبهه بزورق من فضة قد أثقل بحمولة من عنبر، فالمشبه مفرد، المشبه به مركب، وجه الشبه هو الهيئة الحاصلة من وجود جسم مضيء متقوس يملأ فراغ تقوسه أشياء سوداء قاتمة، من ذلك أيضًا قول الخنساء تصف صخرًا أخاها: أغر أبلج تأتمُّ الهداة به ... كأنه علم في رأسه نار فالمشبه هو صخر مفرد، والمشبه به مركب، وهو الهيئة الحاصلة من الجبل، والنار المشتعلة في قمته. القسم الأخير: وهو السابع تشبيه المركب بالمفرد، وهذا يكون قليلًا، نذكر من ذلك قول أبي تمام: يا صاحبي تقصيا نظريكما ... تريا وجوه الأرض كيف تصور تريا نهارًا مشمسًا قد شابه شابه يعني: خالطه تريا نهارًا مشمسا قد شابه ... زهر الربا -الربا هي الأرض المرتفعة- فكأنما هو مقمر

فهنا يشبه الهيئة الحاصلة من الشمس الساطعة على الروابي المزهرة المخضرة، وقد اختلطت الأشعة المشرقة بالخضرة القاتمة؛ فانكسرت بهذا الاختلاط حدة الضوء حتى صار يضرب إلى السواد، كل هذا صورة المشبه، لو أنك حذفت جزء منه؛ اختلَّ التشبيه يشبه، كل هذه الصورة أو الهيئة بليل مقمر، فالمشبه به مفرد مقيد، والمشبه كما ذكرنا مركب. بعد أن ذكرنا أقسام التشبيه باعتبار الحسية والعقلية، وأقسام التشبيه باعتبار الإفراد والتقييد والتركيب، بقي أن نذكر أقسام التشبيه باعتبار وحدة الطرفين أو تعددهما. معنى وحدة الطرف أن يكون أمرًا واحدًا مثل مثلًا: محمد كالأسد، فمحمد مفرد، أو أمر واحد، وليس متعدد الأسد كذلك، فهو شبه شيئًا واحدًا بشيء آخر واحد، معنى أن يكون الطرف متعدد أن يكون أمرين، أو عدة أمور، لكن لا يمزج بينها، بل يظل كل أمر منها على حدة، وإلا لصار طرفًا مركبًا؛ فالمتعدد هناك فرق بينه وبين المركب المتعدد أجزاء عبارة عن أمرين، أو عدة أمور، لا يمزج بينها. هذا هو الفرق بينه وبين المركب، وبالمثال يتضح المقال فعندنا مثلًا صور التشبيه باعتبار وحدة الطرفين، وتعددهما، كما تقتضيها القسمة العقلية، عندنا تشبيه واحد بواحد، وعندنا تشبيه واحد بمتعدد، وتشبيه متعدد بواحد، وتشبيه متعدد بمتعدد، نذكر لكل بعض الأمثلة حتى تتضح صورة كل في الأذهان. الأول: أن يكون المشبه واحدًا والمشبه به كذلك، فقول الله تعالى مثلًا {فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ} (الفيل: 5) المشبه هنا أصحاب الفيل المشبه به العصف المأكول كلاهما واحد، فلا تعدد في أي منهما. تعال مثلًا عندما يصف الله هلاك قوم ثمود ثم قوم صالح يقول: {إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ} (القمر: 31) فشبه القوم بالهشيم، وكلاهما واحد لا تعدد فيه، لكن انظر إلى دقة التعبير في كلا الموضعين تجد مثلًا استخدام الألفاظ

والإيحاءات في كل يختلف عن الآخر تمامًا؛ لقد عبر مثلًا عن هلاك ثمود بأنهم صاروا كالهشيم، وهو شجر اليابس، وهذا يكفي في إفادة هلاكهم، لكنه يضيف إلى المشبه به هذا القيد كلمة {الْمُحْتَظِرِ} أي: الذي يعمل الحظيرة لمواشيه من يابس الشجر، فما سقط منها داسته فهو الهشيم؛ ولذا أفاد هذا القيد حقارتهم وازدراءهم، فهم كالهشيم الذي تطؤه الدواب، وتبول عليه، وتروث؛ بينما نجد الهلاك مثلًا مع أصحاب الفيل، فقد جعلوا كالعصف، وورق الزرع، وهذا كافٍ في إفادة الهلاك. لكنه قيَّد العصف هنا بهذا الوصف كلمة {مَأْكُولٌ} أي: أكلته الدواب، وراثت عليه، وبالت، فهم قد صاروا إلى حال أخرى في أجسادهم، بخلاف الصورة الأولى التي تصور هلاك ثمود، فثمود قد تهشم، وبقيت أوصاف أجسامهم. أما هؤلاء فقد أصبحوا أثرًا بعد عين، فنجد أن القرآن أبرز هلاك أصحاب الفيل في صورة أشد وأفظع من هلاك ثمود، ويرجع ذلك إلى الحال الذي اقتضى هلاك كلٍّ، فثمود عقروا الناقة وأعرضوا عن آيات ربهم، لكن أصحاب الفيل قصدوا الكعبة، وأرادوا هدم البيت، واقتلاع أسسه، وأرادوا إزالة أول بيت وضع للناس؛ لذا كان هلاكهم أشد. ثاني هذه الأقسام التي تدخل في أقسام التشبيه باعتبار وحدة الطرفين، أو التعدد: ما جاء من قبيل تشبيه الواحد بالمتعدد، فمثلًا عندما يقول الشاعر، وهو عمران بن حطان يذم الحجاج بالجبن يقول: أسد عليَّ وفي الحروف نعامة ... فرخاء تنفر من صفير الصافر فشبه مخاطبه بالأسد، ثم بالنعامة، فالمشبه واحد، لكن المشبه به متعدد، من ذلك أيضًا قول امرئ القيس:

كَأَنَّ المُدامَ وَصَوبَ الغُمامِ ... وَريحُ الخُزامى وَنَشرُ القُطُر يُعِلُّ بِهِ بَردُ أَنيابِها ... إِذا غَرَّد الطائِرُ المُستَحِر وقد سبق أن ذكرناه فهنا نجد أن المشبه شيء واحد لكن المشبه به متعدد، لكنه هنا قلب التشبيه، وأراد أن يصف برد أنيابها بكل هذه الأشياء التي ذكر في بيته. الصورة الثالثة من صور أقسام التشبيه باعتبار الوحدة والتعدد: أن يشبه شيئان، أو أكثر بشيء واحد يعني: متعدد بواحد يُسمى تشبيه التسوية، كما جاء مثلًا في قول الشاعر: آراؤكم ووجوهكم وسيوفكم ... في الحادثات إذا دجونا نجوم فالمشبه كما نرى متعدد الآراء، والوجوه والسيوف كل هذا شبهه بشيء واحد وهو النجوم إلى غير ذلك مما جاء على شاكلة هذا المثال. هناك كذلك تشبيه المتعدد بالمتعدد، وهذا النوع من التشبيه يأتي على غير ما صورة، فهناك ما تشبيه يقرن كل مشبه بمشبه به، ويسمى بالتشبيه المفروق، مثلًا عندما يقول شاعر: النشر مسك والوجوه دنانير ... وأطراف الأكوف عنم فهنا تعددت التشبيهات في البيت، وقُرن كل مشبه بالمشبه به يقول آخر: فالأرض ياقوتة والجو لؤلؤة ... والنبت فيروزج والماء بلور هذا أيضًا مما تعدَّدت به المشبه والمشبه به، وقرن كل مشبه بمشبه به. هناك صورة أخرى هي خامسة تأتي فيها المشبه في جانب مجتمع في طرف، والمشبه به مجتمع في طرف آخر، ويسمى بالمقرون مثاله مثلًا قول امرئ القيس:

كأن قلوب الطير رطبًا ويابسًا ... لدى وكرها العناب والحشف البالي فالمشبه في البيت متعدد، وهو قلوب الطير الرطبة، وقلوبها اليابسة، والمشبه به كذلك وهو العناب المقابل للقلوب الرطبة، والحشف البالي -أي: الرطب البالية- المقابل للقلوب اليابسة، لكن اجتمع في كل المشبهات في طرف، والمشبهات بها في طرف آخر. إذن نخلص من كل هذا إلى أن التشبيه في طرفيه يأتي على غير ما صورة، فهناك أقسام التشبيه باعتبار الحسية والعقلية، فيأتي المشبه والمشبه به مثلًا حسي بحسي، وعقلي بعقلي، وعقلي بحسي، وحسي بعقلي، وقلنا أن التشبيه الخيالي يدخل في الحسي، والتشبيه الوهمي يدخل في التشبيه العقلي، هناك كذلك أقسام التشبيه باعتبار الطرفين على المفرد، والتقييد، والتركيب، فهناك مثلًا مفرد بمفرد، ومقيد بمقيد، ومفرد بمقيد، ومقيد بمفرد، ومركب بمركب، ومفرد بمركب، ومركب، بمفرد. وهناك كذلك أقسام التشبيه باعتبار الوحدة، والتعدد إلى أقسام، فهناك واحد بواحد، واحد بمتعدد، متعدد بواحد، ومتعدد بمتعدد. ونقول ونكرر: أن هذه الأقسام ليست مقصودة لذاتها، وإنما فقط للتعليم وللتدريب على أي مثال يأتي أمامنا حتى نستطيع أن ندرك أن هذا التشبيه من أي قبيل من هذه الأنواع، لكن العبرة في كل ذلك بالتذوق، فلا بلاغة بغير تذوق. والله -سبحانه وتعالى- نسأل أن يعلمنا ما جهلنا، وأن يجعلنا ننتفع بما علمنا، إنه سبحانه ولي ذلك والقادر عليه. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الدرس: 3 التشبيه (2).

الدرس: 3 التشبيه (2).

تعريف وجه الشبه.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس الثالث (التشبيه (2)) تعريف وجه الشبه الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، ثم أما بعد: التشبيه باعتبار وجه الشبه الذي يمثل الركن الثالث من أركان التشبيه الأربعة المتلفظ بها، وذلك بعد أن تحدثنا فيما سبق عن الركنين الأولين المشبه والمشبه به، والأحوال والصور التي يأتي عليها كل منهما، ووجه الشبه هو المعنى الذي يشترك فيه طرفا تشبيه تحقيقًا أو تخييلًا. تحقيقًا يعني: على جهة التحقيق، وتخييلًا أي: على جهة التخييل، نضرب بعض الأمثلة لما جاء على جهة التحقيق، كأن شبه مثلًا الشعر بالليل، ويشبه الرجل الشجاع بالأسد، ويشبه مثلًا الخد بالورد، إلى غير ذلك، وإنما يقع الفرق من جهة الزيادة والنقصان، والقوة والضعف، فغالبًا ما يكون وجه الشبه في المشبه به أبرز وأعرف، وأقوى منه في المشبه، وقد يتساويا في اتصافهما به، وقد يكون الوجه أقوى وأكمل في المشبه، وأبرز وأشهر في المشبه به، وهنا تروى قصة طريفة ملخصها أن أبا تمام راح يمدح أحمد بن المعتصم فقال في حقه: إقدام عمرو في سماحة حاتم ... في حلم أحنث في ذكاء إياس فالمقام هنا يقتضي أن يكون اتصاف الأمير أحمد بوجه الشبه أقوى وأتم من اتصاف هؤلاء المذكورين به، ولذا لما أخذ على أبي تمام أن الأمير أكبر من أن يشبه في ذلك بهؤلاء أنشد مرتجلًا: لا تنكروا ضربي له من دونه ... مثلًا شرودا في الندى والباس فالله قد ضرب الأقل لنوره ... مثلًا من المشكاة والنبراس فشبه حاله في هذا بحال الآية الكريمة التي قال الله فيها: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ} (النور: 35)، فالله شبه الأقل بنوره من المشكاة والنبراس، والأصل أن يكون نور الله أقوى من كل هذا.

إذن فهذا كان حسن تخلص من أبي تمام في الخروج من هذا المأزق، أو هذا المأخذ الذي أُخذ عليه أيًّا ما كان؛ فالمشهور والمعروف أن يكون المشبه به في تحقيق وجه الشبه أقوى من المشبه، وأعرف وأظهر، هذا هو المعروف والمتداول، والغالب في صور التشبيه. أما وجه الشبه التخييلي: فهو الذي يكون وجوده في أحد الطرفين على جهة الحقيقة، وفي الآخر على جهة التخييل والتأويل، قول القاضي التنوخي: وكأن النجوم بين دجاها ... سنن لاح بينهن ابتداع هذه صورة رائعة في التشبيه، فقد شبه انتشار النجوم في السماء، وقد تخللتها قطع من سواد الليل، بالسنن الواضحة، وقد اندست بينها البدع، ووجه الشبه هو الهيئة الحاصلة من وجود أشياء مشرقة مضيئة في جوانب شيء مظلم، وهو كما هو واضح مركب حسي، هذا الوجه موجود على جهة التحقيق في المشبه، ولا يوجد في المشبه به إلا على طريق التخييل؛ لأن السنن والبدع من المعقولات التي لا تتصف بصفة المحسوسات، فالتخييل الذي نقصده أن نتأمل أجزاء الصورة في الطرفين، ثم نصل إمكان الجمع بينهما في الوجه المذكور، وذلك بأن نقول: إن السنة تشبه بالنجم بجامع الاهتداء بكل منهما، والبدعة تشبه بالليل بجامع الإضلال؛ بذا تكون جزءا الصورة قد تماثلًا، وتآخيا عند النفس، ثم إن البدعة والكفر وكل ما هو جهل قد اشتهر وصفه بالظلام والسواد، وكذلك السنة والإيمان، وكل ما هو علم قد اشتهر وصفه بالإشراق والبياض. قوله تعالى: {يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} (البقرة: 257)، قوله -عليه الصلاة والسلام- ((أتيتكم بالحنيفية البيضاء)) ويقال: شاهدت سواد الكفر في جبين فلان، ونور الإيمان يشرق في وجه فلان، فلما اشتهر ذلك تواهمت النفس، وتخيلت أن في البدع ما

هو في الليل من ظلام وسواد، وأن في السنة ما في النجم من إشراق وبياض، وصح لديها أن تشبه سنن وقد اندست بينها البدع بالنجوم يتخللها الظلام بجامع الهيئة الحاصلة من وجود أشياء مشرقة مضيئة في جوانب شيء مظلم أسود، من التشبيه التخييلي، أيضًا قول الشاعر: ولقد ذكرتك والظلام كأنه ... يوم النوى وفؤاد من لم يعشق فقد شبه الظلام بيوم النوى، وبفؤاد من لم يعشق بجانب السواد في كل، فالوجه موجود في المشبه على طريق التحقيق، وموجود في المشبهين بهما على طريق التخييل هي كلمة النوى يوم النوى، وفؤاد من لم يعشق، وذلك بناء على ما ذع واشتهر من قولهم أسود النهار في عينيه، أظلمت الدنيا أمامه، وقلبه أسود كالليل، ولذا صح التشبيه، واستقام على طريق التخييل، وجعل ما ليس بمتلون متلونًا، فما أكَّد الشاعر هذا التخييل بجعل السواد في كليهما أشد وأقوى منه في ظلام الليل بقلب التشبيه، وجعل الظلام الذي هو سواده محسوس محقق مشبهًا، ويوم النوى وفؤاد من لم يعشق اللذين سوادهما متخيل جعلهما مشبهين بهما. من ذلك أيضًا قول الشاعر: وأرض كأخلاق الكرام قطعتها ... ........................... هنا شبه الأرض بأخلاق الكرام بجامع السعة والانبساط، فوجه الشبه موجود في المشبه على طريق التحقيق هو السعة موجود في الأرض على سبيل التحقيق، وموجود في المشبه به هي أخلاق الكرام على طريق التخييل؛ بناء على ما اشتهر من وصفهم الخلق الكريم بالسعة في قولهم: فلان رحب الأخلاق، واسع الصدر، فسيح الحلم، ثم بالغ الشاعر في تخيله فقلب التشبيه مدعيًا أن أخلاق الكرام أحق بوصف السعة والانبساط من الأرض، فهذا التشبيه مقلوب، لكن الصورة فيه متخيلة في جانب المشبه به، وهي أخلاق الكرام.

بهذا يتضح أن وجه الشبه لا بد أن يكون مشتركًا بين الطرفين، موجودًا وملاحظًا في كل منهما، إما عن طريق التحقيق، وإما عن طريق التخييل والتأول، فإذا لم يكن موجودًا وملاحظًا في كل من الطرفين؛ كان التشبيه فاسدًا ومعيبًا، فإذا جعلنا وجه الشبه في قولنا: النحو في الكلام كالملح في الطعام، أن كثرة الاستعمال مفسدة، وقلتها مصلحة؛ فسد التشبيه، لأن الوجه لا يكون بذلك محققًا للمعنى، ولا يتأتَّى تحقيقه في المشبه؛ إذن النحو لا يحتمل القلة والكثرة، فالمراد رعاية قواعده واستعمال أحكامه من رفع الفاعل، ونصب المفعول، وجر المجرور إلى غير ذلك، فإذا تحققت هذه الأحكام صلح الكلام، وإلا فسد. أما استعمال الملح في الطعام فكثيره مفسد، وقليله مصلح؛ لذا كان الوجه الجامع بين الطرفين هو الاستعمال مصلح، والإهمال مفسد، بغض النظر عن القلة والكثرة؛ إذن فلا بد لوجه الشبه أن يكون محققًا للغرض بين الطرفين، مثلًا قول الشاعر: غيري جنى وأنا المعاقب فيكم ... فكأنني سبابة المتندم أعابوا هذا البيت لماذا؟ قالوا: لأن وجه الشبه وهو معاقبة البريء بترك الجاني متحقق في المشبه دون المشبه به؛ لأن سبابة المتندم عندما يعضُّ عليه عند ندمه تقع العقوبة عليها؛ لذا فهي جزء، أو عندئذٍ لا يكون المعاقب غير الجاني، فالصواب في ذلك هو ما جاء في قول آخر: حلفت فلم أترك لنفسك ريبة ... وهل يأثمًا ذو إمة وهو طائع لكلفتني ذنب امرئ وتركته ... كذا العرِّي يُكوى غيره وهو راتع فوجه الشبه هو معاقبة البريء، وترك الجاني موجود في كل من المشبه والمشبه به على وجه التحقيق؛ لذا كان تعبير النابغة جيدًا، وهو البيتين الأخيرين، وتشبيهه صوابًا محققًا، وكان تعبير ابن شرف القيرواني الذي سبقه ردئيًا، وتشبيهه من ثم كان معيبًا فاسد.

أحوال وجه الشبه.

أحوال وجه الشبه نتناول الآن أحوال وجه الشبه: لوجه الشبه أقسام باعتبار الحسية والعقلية أيضًا، الإفراد والتركيب والتعدد، وأخرى باعتبار ذكره وحذفه، وثالثة باعتبار ظهوره وخفائه. فوجه الشبه باعتبار الحسية والعقلية، والإفراد والتركيب والتعدد له صور يأتي عليها، هذه الصورة تنحصر في سبع صور، فهو قد يأتي مفردًا حسيًّا، قد يأتي مفردًا عقليًّا، يأتي مركبًا حسيًّا، قد يأتي مركبًا عقليًّا، وقد يأتي متعددًا حسيًّا، وقد يأتي متعددًا عقليًّا، وقد يأتي متعددًا مختلفًا بعضه حسي وبعضه عقلي، وهذه ما تقتضيه القسمة العقلية. هذه الأقسام ليست؟ وإنما هي فقط للتدريب ولتعليم كيف نُلحق الصورة عندما يأتي وجه الشبه بأي من هذه الأقسام، أو الأنواع، ما كان وجه الشبه فيه حسيًّا كمثل النعومة في تشبيه الجسم بالحرير، وكالإشراق في تشبيه الوجه بالبدر، وكالرائحة في تشبيه الرائحة الطيبة بالمسك، إلى غير ذلك. العقلية تأتي مثلًا كالشجاعة في تشبيه الرجل بالأسد، هنا وجه الشبه عقلي، والكرم مثلًا في تشبيه رجل بحاتم، والذكاء في تشبيه الذكي بإياس، والحلم في تشبيه الرجل الحليم بأحنف، كان يُضرب به المثل في ذلك، ونأخذ مزيدًا من الأمثلة التي فيها وجه الشبه يكون مفردًا حسيًّا: مثلًا في قول الله تعالى: {وَلَهُ الْجَوَارِي الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ} (الرحمن: 24)، فهنا شبه السفن الجارية في البحر بالجبال، ووجه الشبه الضخامة في كل، فوجه الشبه هنا واحد حسي، وكذا طرفا

التشبيه حسيان مفردان، الذي يعنينا هنا هو وجه الشبه، حسي مفرد، من ذلك مثلًا التشبيه الخد بالورد، الوجه الشبه الحمرة، واحد مفرد، وحسي كذلك تشبيه الوجه بالبدر، وجه الشبه الإشراق مفرد حسي، كذلك مثلًا عندما نشبه البشرة بالحرير. إذن فوجه الشبه هو لين الملمس مفرد حسي، كذلك مثلًا عندما نشبه طيب الرائحة في تشبيه النكهة بالعنبر، وجه الشبه وهو طيب الرائحة، أيضًا مفرد حسي. هنا سؤال ممن ينتزع وجه الشبه الواحد الحسي، وجه الشبه الواحد الحسي، ينتزع من طرفين مفردين كما في الأمثلة التي سبق أن ذكرناها، وهذا هو الغالب أن يكون هذان الطرفان حسيين، كما في الأمثلة التي ذكرناها، ولا ينتزع من طرف عقلي إلا بتأويل وتخييل، كما في البيت الذي ذكرناه. وأرض كأخلاق الكرام قطعتها ... وقد كحل الليل السماك فأبصر فالمشبه في البيت مفرد حسي وهو الأرض، والمشبه به مفرد عقلي وهو أخلاق الكرام، وقد جمع الشاعر بينهما في وجه شبه حسي، وهو السعة أو الامتداد والانبساط، لكن هذا الوجه موجود في المشبه الحسي على جهة التحقيق، وموجود في المشبه به العقلي على جهة التخييل والتأويل، هذا هو القسم الأول من التقسيمة العقلية في أقسام وجه الشبه، أن يأتي وجه الشبه مفردًا حسيًّا. قد يأتي وجه الشبه مفردًا عقليًّا، مثلًا عندما نقول: أصحاب النبي كالنجوم، نقول ذلك؛ لأن الحديث الذي ورد ((أصحابي كالنجوم)) فيه كلام عندما نقول: أصحاب النبي كالنجوم بأيهم اقتضينا، اقتفينا، أو اهتدينا. هنا انتزع وجه الشبه، وهو مطلق الاهتداء من طرفين مفردين حسيين، وهما الصحابة والنجوم، ومن ذلك انتزاع أيضًا الشجاعة من الرجل الشجاع، والأسد في قولنا هذا الرجل كالأسد، فالوجه في المثالين وهما الاهتداء والشجاعة واحد وعقلي، كما ينتزع وجه الشبه من المفرد العقلي من طرفين مفردين عقليين.

مثلًا نقول: العلم كالحياة، فوجه الشبه وهو جهة الإدراك مفرد عقلي، وقد انتزع من طرفين مفردين عقليين، ممكن أيضًا وجه الشبه المفرد العقلي ينتزع من طرفين مختلفين كانتزاع الاغتيال مثلًا من المنية والسبع، عند تشبيه هنا المنية بالأسد، فالمشبه وهو المنية عقلي والمشبه به وهو الأسد حسي، وقد انتزع منهما وجه الشبه المفرد العقلي، وهو الاغتيال أيًّا ما كان، فكل هذه صور تدخل في وجه الشبه المفرد العقلي. يأتي القسم الثالث: وهو وجه الشبه المركب الحسي، لأننا قلنا: إن وجه الشبه له سبع صور، ذكرنا المفرد الحسي، والمفرد العقلي، نتكلم عن المركب الحسي، فمثلًا عندما يقول الشاعر: وكأن النجوم بين دجاها ... سنن لاح بينهن ابتداع نجد أن وجه الشبه -وقد ذكرنا ذلك من قبل- هو الهيئة الحاصلة من وجود أشياء مشرقة مضيئة في جوانب شيء مظلم، فهنا قد انتزع الوجه المركب الحسي من طرفين مركبين، ومثلًا قول الشاعر: وسقط كعين الديك عاورت صاحبي ... أباها وهيئنا لموقعها وقرا فالسقط: هو النار الساقطة من الزند، وهي تنزل منه، ووسطها أسود، والعرب كانوا يضعون العودين أحدهما أسفل وأعلاهما أعلى، ويسمى الأعلى ذكر، والأسفل الأنثى، فيقرض فيها كلاهما قرضًا، ويجر فيها عود يُسمى أبًا، فإذا طال الزمن ولم تخرج النار تناوبوه حتى تخرج هذه النار على هيئة سقط كعين الديك، فالشاعر أخذ هذه اللقطة وجعل منها هذا البيت، فنجد في هذا البيت أن وجه الشبه وهو الهيئة المؤتلفة من اجتماع الحمرة، والشكل الكروي، وصغر الحجم مركب حسي، وقد انتزع من طرفين مفردين هما السقط، وهو ذاك الشرر

المنبعث من الزند، وعين الديك، ولا تنافي بين إفراد الطرفين وبين تركيب وجه الشبه؛ لأن هذا أمر يرجع إلى شاعر في طريقة صوغه للبيت الذي يريده. من الممكن أن يكون المركب الحسي منتزع من طرفين مقيدين، كما جاء في قول الشاعر: وقد لاح في الصبح الثريا كما ترى ... كعنقود مُلَّاحية حين نور ملاحية هذا هو العنب الأبيض في حبه طول. كلمة نوَّر يعني: تفتح نوره وأدرك نضجه، والكاف كما نرى في كاف التشبيه في كلمة كعنقود، فوجه الشبه وهو الهيئة الحاصلة من تجمع أجسام بيض مستديرة صغيرة الحجم في مرأى العين، وإن كانت كبيرة في الواقع مجتمعة على كيفية مخصوصة، وهي أنها ليست تامة الالتصاق، ولا تامة الافتراق، هذا الوجه المتمثل في هذه الصورة التي ذكرناها، مركب حسي قد انتزع من طرفين مفردين مقيدين، هما نجم الثريا مقيدًا بكونه قد لاح في الصباح، وعنقود العنب مقيدًا بكونه عنقود ملاحية في حال إخراج النور، والتقيد لا ينافي الإفراد، كما سبق أن ذكرنا قد يكون وجه الشبه المركب الحسي منتزع من طرفين مركبين، كما في البيت الذي ذكرناه بيت بشار كأن ترى النقع فوق رءوسنا ... وأسيافنا ليل تهوى كواكبه فوجه الشبه: وهو الهيئة الحاصلة من تهاوي أجرام مشرقة مستطيلة متناسبة المقدار، متحركة في جوانب شيء مظلم، هذه الهيئة تمثل لوجه الشبه مركب حسي انتزع من طرفين مركبين حسيين، كذلك من الممكن أن ينتزع المركب الحسي من طرفين مختلفين، كما جاء في قول شاعر: وكأن أجرام النجوم لوامعًا ... درر نثرن على بساط أزرق فوجه الشبه وهو الهيئة الحاصلة من تفرق أجسام متلألأة صغيرة المقدار، مستديرة الشكل على سطح جسم أزرق اللون، صافي الزرقة، هذه الصورة التي تمثل وجه

الشبه مركب حسي، وقد انتزع من طرفين مركبين حسيين يعني: كسابقه، كذلك قد يأتي وجه الشبه المركب الحسي من طرفين مختلفين مثلًا قول الشاعر: وكأن محمر الشقيق إذا تصعد أو تصوب ... أعلام ياقوت نشرن على رماح من زبرجد شبه محمر الشقيق هو نوع من أنواع الزهور أتى بها النعمان في حديقته، وكان في خارج البلاد، واستقدمه حتى يزرع في مملكته محمر الشقيق، هذا هو المشبه، شبهه بأعلام ياقوت نشرن على رماح من زبرجد، هذه هي صورة المشبه به. نجد أن وجه الشبه -وهو الهيئة الحاصلة من اجتماع أشياء حمراء متحركة منصوبة على قائم أخضر، وهي موجودة طبعًا في كل من المشبه والمشبه به، نجدها مركب حسي، لكن هذه الصورة هي المركب الحسي والهيئة الحاصلة- انتزعت من طرفين مختلفين، المشبه مفرد وهو محمر الشقيق، والمشبه به من المركبات الخيالية، وهي الهيئة المكونة من أعلام ياقوت نشرن على رماح من زبرجد. إذن نخلص من كل هذا إلى أن وجه الشبه المركب الحسي يأتي على صور متعددة، فقد ينتزع من طرفين مركبين، وقد ينتزع من طرفين مفردين، وقد ينتزع من طرفين مقيدين، وقد ينتزع من طرفين مركبين، وقد ينتزع من طرفين مختلفين. نأتي إلى القسم الرابع من أقسام وجه الشبه: وهو المركب العقلي، وهو أن يكون وجه الشبه مركبًا عقليًّا مثل قول الله تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا} (الجمعة: 5)، فهنا شبهت الآية حال اليهود الذين حملوا التوراة، وحفظوها في صدورهم، ثم لم يعملوا بما

فيها، ولم يفهموا حقيقة مرماها، شبه هؤلاء بحال الحمار يحمل كتب العلم النافعة، ويتعب في حملها، وهو جاهل بحقيقة ما فيها، وجه الشبه هو الهيئة الحاصلة من حرمان الانتفاع بأبلغ نافع، مع تحمل التعب في استصحابه، حبذا لو نحفظ مثل هذه الصيغ في المشبه والمشبه به ووجه الشبه؛ لأن لو قلنا مثلًا: أن الآية شبهت اليهود بالحمار نقول: إن هذا تشبيه خاطئ، لو قلنا: إن وجه الشبه مثلًا هو البلادة، هذا تشبيه خاطئ، أو حرمان الانتفاع هذا تشبيه خاطئ؛ إذن فلا بد من مراعاة كل جزء جاء في سورة المشبه، أو في صورة المشبه به، حتى ننتزع من كليهما وجه الشبه الذي يُمثل المعنى المشترك بين المشبه والمشبه به، وهو -كما قلنا في الآية- الهيئة الحاصلة من حرمان الانتفاع بأبلغ نافع، مع تحمل التعب في استصحابه. وهو كما نرى مركب عقلي انتزع من عدة أمور، روعيت في الطرفين؛ حيث روعي حمل أشياء، وهذه الأشياء يُنتفع بها أكمل نفع، والحامل لها يتحمل التعب والمشقة في استصحابها، ولا يجني من وراء تعبه فائدة، كل هذه أمور رُوعيت في تحقيق وجه الشبه من وجه الشبه المركب العقلي. قول الله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ} (النور: 39) فهنا نجد الآية شبهت حال الكفرة في جمعهم بين الكفر وأعمال البر التي يعملونها في الدنيا، ويحسبونها نافعة ومقبولة عند الله، ثم يرونها خاسرة محبطة يوم القيامة؛ لأنها لم تقترن بالإيمان الذي هو شرط قبولها، ولهذا صورة المشبه لو أي جزء من هذه الأجزاء سقط؛ إذن فقد اختلَّت صورة التشبيه، شبه هذه الصورة بماذا؟ بحال الظمآن يرى السراب من بعيد، فيحسبه ماء، فيروي ظمأه، فإذا بلغه لم يجده شيئًا، كل هذه صورة المشبه به. أي جزء؛ اختلَّ أو سقط. إذن لا يمثل حقيقة التشبيه في الآية الكريمة،

ووجه الشبه بين هاتين الصورتين هو الهيئة العقلية الحاصلة من المنظر المطمع، مع المخبر الميئس يعني: الإنسان يطمع في شيء، فإذا جاءه يئس منه، ولم يجد معه شيئًا من مثل ذلك في وجه الشبه المركب العقلي ما جاء في قول ابن المعتز: اصبر على مضض الحسود فإن صبرك قاتله ... فالنار تأكل بعضها إن لم تجد ما تأكله فهنا شبه حال الحاسد يهمله المحسود بالإعراض عنه حتى يموت كمدًا وغيظًا، شبه هذا بحال النار التي تمد بالحطب الذي يديم بقاءها، فتأكل بعضها بعضًا حتى تصير رمادًا، كل هذه صورة المشبه به، وجه الشبه بين هاتين الصورتين هو الهيئة العقلية الحاصلة من سرعة الفناء؛ لعدم الإمداد بما يسبب البقاء والحياة، هذه صورة أيضًا جاء وجه الشبه فيها مركبًا عقليًّا، من ذلك قول أبي تمام: وإذا أراد الله نشر فضيلة ... طويت أتاح لها لسان حسود لولا اشتعال النار فيما جاورت ... ما كان يُعرف طيب عَرف العود فهنا شبه الفضيلة يتعرض لها الحاسد ليسترها ويغض من قيمتها، ويؤذي صاحبها، فيكون ذلك سببًا في ظهورها وشيوع أمرها، كل هذه صورة المشبه، شبه هذه الصورة أو الهيئة بحال العود مع النار، فإنها تظهر طيب رائحته، وتسبب انتشارها، فيعم النفع بها، وجه الشبه هو الهيئة الحاصلة من ظهور فضل الشيء باتصاله بآخر شديد الضرر له، هذه صورة لوجه الشبه المركب العقلي. الصورة الخامسة: أن يكون وجه الشبه متعدد حسي كتشبيه نهر دجلة بنهر النيل في طوله، واتساعه، وعذوبة مائه إلى آخره، وكتشبيه فاكهة بفاكهة أخرى في اللون والطعم والرائحة، فهنا نجد أن وجه الشبه متعدد

تعددًا حسيًّا، هناك وجه الشبه يمكن أن يأتي ويكون متعدد عقلي، كتشبيه الأنصار بالمهاجرين في قوة إيمانهم بالله، وفي محبتهم للرسول -صلى الله عليه وسلم، وفي التفاني في نصرة الحق إلى غير ذلك، فهنا نجد أن وجه الشبه قد تعدد تعددًا عقليًّا. إن كل هذه الأمور لا تدرك بالحواس المحبة والإيمان والتفاني كل هذه أمور عقلية، لا تدرك بأي من الحواس. الصورة الأخيرة في وجه الشبه: أن يكون متعددًا مختلفًا أن نشبه الرجل بالشمس في إشراق الوجه، وفي نباهة الشأن فإشراق الوجه هذا أمر حسي يرى، لكن نباهة الشأن هذا أمر عقلي لا يذكر، ولا يرى بأي من الحواس الخمسة. لكن هنا يأتي سؤال التشبيه التمثيلي من أي هذه الأنواع؟ أولًا: يجب أن نعرف أن التشبيه التمثيلي، وهو متعلق بوجه الشبه قد اختلف في أمره على آراء متعددة، فعندنا رأي للإمام عبد القاهر، عندنا رأي للإمام السكاكي، وعندنا رأي للخطيب القزويني، وعندنا رأي أخير للزمخشري. فالإمام عبد القاهر يرى أن التشبيه التمثيلي ما لا يكون الوجه فيه أمرًا بينًا بنفسه؛ بل يحتاج في تحصيله إلى ضرب من التأول والصرف عن الظاهر؛ لأن المشبه لم يشارك المشبه به في صفته الحقيقية، يتحقق ذلك فيما إذا كان وجه الشبه عقليًّا غير حقيقي. كأن وجه الشبه العقلي غير الحقيقي، هذا هو الذي يمثل التمثيل، أو التشبيه التمثيلي عند الإمام عبد القاهر، فإذا كان وجه الشبه عقليًّا غير حقيقي أي: غير متقرر في ذات الموصوف يكون تشبيهًا تمثيليًّا، مثال ذلك مثلًا قولنا: هذه حجة كالشمس في الظهور، قد شبهت الحجة في قوة بيانها بالشمس من جهة ظهورها، هذه ظاهرة، وهذه ظاهرة، لكن هذا التشبيه لا يتم إلا بتأول، وذلك بأن نقول حقيقة ظهور الشمس أو غيرها من الأجسام ألا يكون دونها حجاب، ونحو مما يحول بين العين وبين رؤيتها، والشبهة التي تزال بالحجة والبرهان هي نظير الحجاب فيما يدرك بالعقول؛ لأنها تمنع القلب رؤية ما هي شبهة فيه، فإذا ارتفعت الشبهة قيل: هذا ظاهر كالشمس، فقد احتجنا في تحصيل الشبه بين الحجة وبين الشمس، وهو إزالة الحجاب في كل إلى مثل هذا التأويل، والصرف عن الظاهر مثاله أيضًا عند الإمام عبد القاهر. قولنا: "كلام ألفاظه كالماء في السلاسة، وكالنسيم في الرقة، وكالعسل في الحلاوة": فالمراد أن اللفظ لا يستغلق، ولا يشتبه معناه، ولا يصعب الوقوف عليه، فليس بغريب، ولا وحشي، وليس في حروفه تكرير وتنافر يكد اللسان، فصار لذلك كالماء الذي يسوغ في الحلق، والنسيم الذي يسري في البدن، ويهدي إلى القلب روحًا ونشاطًا، وكالعسل أيضًا الذي يلذ طعمه، وتهش النفس له، ويميل الطبع إليه؛ فوجه الشبه إذن هو الاستحسان، وميل النفس الذي هو لازم من لوازم الحلاوة؛ إذن فنستطيع أن نقول: إن الإمام عبد القاهر سمى هذا اللون الذي يكون وجه الشبه فيه عقليًّا غير حقيقي غير مقرر في ذات الموصوف أسماه بالتشبيه التمثيلي. إذن خرج من ذلك كل ما كان عدا هذا. فالتشبيه مثلًا ما كان وجه الشبه فيه بينًا لا يحتاج إلى تأويل، عند هذا لا يدخل في التشبيه التمثيلي عند الإمام عبد القاهر التشبيه مثلًا من جهة اللون، أو من جهة الهيئة، أو كمثل التشبيه بأن يجمع فيما يجمع بين شيئين فيما يدخل تحت الحواس، كل هذا يدخل في التشبيه الحسي، ومن ثَمَّ لا يدخل في التشبيه العقلي. إذن باختصار فالتشبيه التمثيلي عند الإمام عبد القاهر هو ما كان وجه الشبه فيه عقليًّا غير حقيقي، يخرج من هذا كل ما كان حسيًّا، وكل ما كان عقليًّا، لكن يتعلق بالغرائز، والطباع، والأخلاق. فكل هذه تدخل في التشبيه غير التمثيلي.

إذن فالتشبيه التمثيلي عند الإمام عبد القاهر هو ما كان عقليًّا غير حقيقي كهذين المثالين الذي مثل بهما، وهو قوله هذه حجة كالشمس في

الظهور، وقوله كذلك كلام ألفاظه كالعسل في الحلاوة، هذا هو رأي الإمام عبد القاهر من أمثلة التشبيه التمثيلي عند الإمام عبد القاهر ما جاء في قول ابن المعتز: اصبر على مضض الحسود ... فإن صبرك قاتله فالنار تأكل بعضها ... إن لم تجد ما تأكله إذ المراد -كما قلنا- تشبيه حال الحاسد يهمله المحسود بالإعراض عنه حتى يموت كمدًا بحال النار، لا تمد بالحطب فيأكل بعضها بعضًا حتى تصير رمادًا، وجه الشبه هنا هيئة عقلية حاصلة من سرعة الفناء؛ لعدم الإمداد بما يسبب البقاء والحياة، وهذه صورة عقلية غير حقيقية. إذن فهي داخلة عند الإمام عبد القاهر في التشبيه التمثيلي. الرأي الثاني في التشبيه التمثيلي هو رأي السكاكي: أن التشبيه التمثيلي هو ما كان وجه الشبه فيه مركبًا عقليًّا كقول الله تعالى: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ} (البقرة: 17) فنجد أن وجه الشبه في الآية الكريمة -وهو تعاطي الأسباب المقربة لتحقيق الآمال حين ظهرت- دلائل النجاح، فانقلب الأمر، وجاء على عكس ما كانت تطمع إليه هذه الآمال، فوجه الشبه هنا هيئة عقلية انتزعت من أمور متعددة. إذن فهذا هو رأي السكاكي: يرى أن هذه الهيئة العقلية هي التي تُمثِّل التشبيه التمثيلي، أيضًا ممكن أن يأتي مثل هذا عند السكاكي قول الله تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا} (الجمعة: 5) نجد أن وجه الشبه، وهو حرمان الانتفاع بأبلغ نافع مع تحمل التعب في استصحابه، هذه هيئة مركبة عقلية. إذن فهو داخل مع رأي السكاكي في أن هذا من التشبيه التمثيلي. الخطيب يرى أن التشبيه التمثيلي هو ما كان الوجه فيه مركبًا؛ سواء كان حسيًّا أو عقليًّا، هذا أعم من رأي السكاكي، فمقدار التفرقة عندهم بين التشبيه والتمثيل طبعًا، مع الخطيب جمهور البلاغيين. مدار التفرقة عندهم بين التشبيه

والتمثيل هو تركيب الوجه وإفراده، بغض النظر عن كونهما حسيًّا أو عقليًّا، فإذا كان وجه الشبه هيئة منتزعة من شيئين، أو عدة أشياء؛ كان التشبيه تمثيلًا، سواء كانت هذه الهيئة حسية أم عقلية، طبعًا يخرج من هذا كل ما كان وجه الشبه فيه مفردًا بنوعيه الحسي والعقلي. الرأي الأخير وهو رأي الزمخشري، الرأي الرابع: لا يرى هناك فرقًا بين التشبيه والتمثيل، فكل تشبيه عنده تمثيل، وكل تمثيل عنده تشبيه. خلاصة هذه الآراء في التفرقة بين التشبيه والتمثيل، والتي هي مبنية على إفراد وجه الشبه، أو تركيبه، وحسيته، أو عقليته: هو أنه إذا كان وجه الشبه مركبًا عقليًّا غير حقيقي، كما في قوله تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا} (الجمعة: 5)، والآية الكريمة: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ} (النور: 39)، وقول الشاعر: اصبر على مضض الحسود ... ............................ كل هذا يعد تشبيهًا تمثيليًّا بإجماع الآراء؛ لأن وجه الشبه فيه مركبًا عقليًّا غير حقيقي، كذلك وجه الشبه لو كان مركبًا حسيًّا مثل قول بشار: كأن مثار النقع ... ........................... كأن أجرام النجوم ... ........................... وسقط كعين الديك ... ........................... إلى غير ذلك كان التشبيه تمثيليًّا عند الخطيب، وعند جمهور البلاغيين؛ لأن الوجه مركب حسي، إذا كان الوجه مركبًا عقليًّا غير حقيقي؛ كان تشبيهًا تمثيليًّا عند الإمام عبد القاهر، إذا كان مفردًا حسيًّا أو عقليًّا حقيقيًّا لكونه من الأخلاق والغرائز، فهذا بالإجماع عند جميع البلاغيين هو من قبيل التشبيه لا التمثيل. إذن نخلص من كل هذا إلى أن مدار الحكم على الصورة بأنها من قبيل التمثيل، أو من قبيل التشبيه التمثيلي متوقف على وجه الشبه، فإن كان وجه الشبه مركبًا

وجه الشبه باعتبار ذكره وحذفه، وباعتبار ظهوره وخفائه.

عقليًّا غير حقيقي، فهو تمثيل بالإجماع، وإن كان وجه الشبه مركبًا حسيًّا غير حقيقي؛ فهو تمثيل عند الخطيب، وجمهور البلاغيين -وإن كان وجه الشبه مركبًا عقليًّا غير حقيقي- فهو تمثيل عند السكاكي، وإن كان وجه الشبه مفردًا عقليًّا غير حقيقي فهو تمثيل عند الإمام عبد القاهر، وإن كان وجه الشبه حسيًّا غير حقيقي مفردًا طبعًا فهو تشبيه عند كل البلاغيين. فالزمخشري لا يفرق بين هذا وذاك، تلك هي أقسام وجه الشبه باعتبار الحسية والعقلية، والإفراد والتركيب والتعدد، وكما قلنا: فإن هذه هي صوره، ممكن أن يكون وجه الشبه مفردًا حسيًّا، مفردًا عقليًّا، مركبًا حسيًّا، مركبًا عقليًّا، متعددًا حسيًّا، متعددًا عقليًّا، متعددًا مختلفًا بعضه حسي وبعضه عقلي، وقلنا: إن صورة التشبيه التمثيلي هي على النحو الذي ذكرناه، وعلى اختلاف البلاغيين في الحكم على ما كان تشبيهًا تمثيليًّا أم غير ذلك. وجه الشبه باعتبار ذكره وحذفه، وباعتبار ظهوره وخفائه التعرف على وجه الشبه باعتبار ذكره وباعتبار حذفه، فهو بهذا الاعتبار ينقسم إلى قسمين: عندنا هناك التشبيه المجمل، وهو ما حُذف منه وجه الشبه، كأن نقول: هذا الرجل كالأسد، ونقول: العلماء كالنجوم، ونقول: وجه كالبدر، ونقول: شعر كالليل، وخد كالورد، ونقول: رجل كالأسد، وقد يكون دقيقًا خفيًّا يحتاج في إدراكه إلى فكر وتأمل، وعندئذٍ يجب أن يذكر في العبارة ما يومئ إلى وجه شبه المحذوف، ويدل عليه، لكن طالما حذف وجه الشبه، فيسمى هذا التشبيه بالتشبيه المجمل.

أما إذا ذكر وجه الشبه؛ فإنه يسمى بالتشبيه المفصل، وتعريفه هو ما ذكر فيه وجه الشبه، كقولنا مثلًا: وجهه كالبدر حسنًا، وخده كالورد حمرة، وشعره كالليل سوادًا، وطبعًا منه قول ابن الرومي: يا شبيه البدر في الحسن وفي بعد المنال ... جُُد فقد تنفجر الصخرة بالماء الزلال ومنه أيضًا قول أبي بكر الخالدي: يا شبيه البدر حسنًا وضياء ومنالًا ... وشبيه الغصن لينًا وقوامًا واعتدالًا أنت مثل الورد لونًا ونسيمًا وبلالًا ... زارنا حتى إذا ما سرَّنا بالقرب زال هكذا تذكر وجوه الشبه في هذه الأبيات جميعًا على هذا النحو، فمعنى ذلك: أن هذا من قبيل التشبيه المفصل، لو كان المذكور وصفًا يستلزم وجه الشبه كقولنا مثلًا كلام كالعسل في الحلاوة، فليست الحلاوة هي وجه الشبه الحقيقي، ولكن الوجه الحقيقي هو ميل النفس وشعورها باللذة، وهو لازم من لوازم الوجه المذكورة، وهو الحلاوة؛ فاستغني بذكر الملزوم عن اللازم مجازًا. كذلك قولهم حجة كالشمس في الظهور، فالوجه الحقيقي هو إزالة المطلق حجاب، فيشمل حجاب الليل الذي يمنع إدراك المبصرات، وحجاب الشبهة التي تمنع إدراك المعقولات، وهذا الوجه من لوازم الوجه المذكور، وهو الظهور فاستغني به عنه تسامحًا، أو مجازًا، فطالما ذكر الوجه أو ما يستلزم هذا الوجه، فهو من قبيل التشبيه المفصل الذي ذكر فيه وجه الشبه.

الجزء الثالث ما يتعلق بوجه الشبه باعتبار ظهوره وخفائه، فوجه الشبه بهذا الاعتبار نوعان: هناك قريب مبتذل: وهو ما كان ينتقل فيه الذهن، أو ما انتقل فيه الذهن من المشبه إلى المشبه به، دون حاجة إلى إعمال فكر وتدقيق نظر. وهناك تشبيه بعيد غريب، وهو ما لا ينتقل فيه الذهن من المشبه إلى المشبه به، إلا بعد فكر وإطالة نظر، وذلك لخفاء وجه الشبه في بادئ الأمر، ودقته، ولنضرب مثلًا أو مثالين لكل منهما: التشبيه القريب مثلًا: وهو ما ينتقل فيه الذهن من المشبه إلى المشبه به، دون حاجة إلى إعمال فكر وتدقيق نظر، كأن يشبه مثلًا الوجه الحسن بالبدر، والرجل الشجاع بالأسد، ونشبه الرجل الكريم بالغيث، هذه وأمثالها الذهن لا يجد عناء في إدراك وجه الشبه، ولا يعني وصف هذه التشبيهات بالقرب والابتذال، إنها رديئة مستنكرة، لكن المراد أنها قريبة التناول، سهلة المآخذ، يستوي فيها الخاصة والعامة، ويمكن لأي واحد أن يقول تشبيهًا مثل هذا، لكن التشبيه البعيد الغريب، وهو ما لا ينتقل فيه الذهن من المشبه إلى المشبه به إلا بعد فكر وإطالة نظر، وذلك لخفاء وجه الشبه في بادئ الأمر ودقته، هذا هو الذي محل اعتبار لدى البلاغيين. ونذكر مثلًا قول الشاعر: وكأن البرق مصحف قارن ... فانطباقًا مرة وانفتاحًا فنجد أن ابن المعتز هنا يشبه البرق بالمصحف الذي يكون في يد القارئ، وأن وجه الشبه هنا هو هيئة توالي حركتين في اتجاهين مختلفين، ينشأ عن إحداهما ظهور وانفتاح، وعن الأخرى خفاء وانطباق، لا ينتقل الذهن في إدراكه والوقوف عليهم من المشبه إلى المشبه به، إلا بإطالة النظر، وإعمال الفكر لدقته وخفائه، فهي حركة خاصة تحتاج من الأديب، أو القارئ إلى أن يغض النظر عما عداها مما في البرق من إشراق. وما في المصحف من لون حين يفتحه القارئ، إذن فهذه نجد أن وجه الشبه فيه بعيد غريب لا ينتقل الذهن إلا بعد إعمال فكر، وإعمال نظر. بذلك نستطيع أن نذكر خلاصة ما سبق أن ذكرناه: وهو أن وجه الشبه والمعنى الذي يشترك فيه طرفا التشبيه حقيقة أو خيالًا، وله -كما قلنا- أقسام باعتبار الحسية والعقلية، والإفراد والتركيب والتعدد، بلغت هذه الأنواع إلى سبعة؛ لأنه إما أن يكون وجه الشبه مفرد حسي، أو عقلي، إما أن يكون مركب حسي أو عقلي، متعدد حسي أو عقلي، أو متعدد مختلف، أو مختلط بعضه حسي وبعضه عقلي. ثم بعد ذلك انتقلنا إلى وجه الشبه باعتبار ذكره وحذفه، فقلنا: إذا ذكر وجه الشبه كان مفصلًا، وإذا حذف كان مجملًا، ثم ذكرنا في آخر الكلام أنواع وجه الشبه باعتبار الظهور والخفاء، وقلنا: إنه قد يأتي قريبًا مبتذلًا، وهو ما ينتقل فيه الذهن إلى من المشبه إلى المشبه به، دون حاجة إلى فكر وإعمال نظر، وبعيد قريب غريب، وهو ما ينتقل فيه الذهن من المشبه إلى المشبه به بعد فكر وإطالة نظر.

ونختم حديثنا بثمرتين مهمتين من ثمار هذا الدرس، وهو أن وجه الشبه لا بد أن يكون مشتركًا بين الطرفين، وموجودًا، وملاحظًا في كل منهما، إما على طريق التحقيق، وإما على طريق التخييل والتأول، لكن لا بد أن يتناول كل جزء في المشبه أو المشبه به، هذا أمر في غاية الأهمية، ولا بد أن يحقق هدف القائل أو البليغ؛ سواء كان هذا الكلام البليغ في كلام الله -سبحانه وتعالى، أو في سنة النبي -صلى الله عليه وسلم، أو في كلام البلغاء، هذه هي الثمرة الأولى من ثمار هذا الدرس. أما الثمرة الثانية: فهو أننا لا بد أن نعرف أن هناك مقارنة وفرق بين التشبيه المركب والتشبيه المتعدد، كما أن هناك فرق كذلك بين وجه الشبه المركب، ووجه الشبه المتعدد فوجه الشبه المركب، لا بد أن ينتزع من عدة أمور معتبرة في كل من الطرفين؛ بحيث إذا ترك بعضها لا يتم وجه الشبه، بل يضيع الغرض الذي يقصده المتكلم من التشبيه؛ لأنه يهدف إلى مزج هذه الأمور وخلطها، واستخلاص هيئة تركيبية منهما يعني: من المشبه والمشبه به. أما الوجه المتعدد: فإن الأمور المعتبرة في الطرفين لا تمزج، بل يظل كل أمر منها مستقل؛ بحيث يمكن الاستغناء عن بعضها دون أن يفسد التشبيه، فقولنا مثلًا: المهاجرون كالأنصار في قوة الإيمان، ومحبة النبي -صلى الله عليه وسلم، والتفاني في نصرة الحق يمكن الاستغناء عن بعض هذه الصفات عن صفة أو صفتين بخلاف التشبيه إذا كان مركبًا، وكذلك وجه الشبه إذا كان هيئة، فإن هذا لا يمكن تغافل أي: من هذه الأجزاء، هذا هو الفرق بين التشبيه ووجه الشبه، وجه الشبه، أو المشبه، أو المشبه به، مركب، أو وجه الشبه، أو المشبه، أو المشبه به المتعدد، فالمتعدد يمكن فك أجزائه واختصارها، وحذف شيء منها. أما المركب فلا يمكن بحال من الأحوال حدوث شيء من هذا على الإطلاق. ونسأل الله -سبحانه وتعالى- التوفيق والسداد، هذا والله تعالى أعلى وأعلم. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الدرس: 4 التشبيه (3).

الدرس: 4 التشبيه (3).

أدوات التشبيه.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس الرابع (التشبيه (3)) أدوات التشبيه الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، ثم أما بعد: فسيكون حديثنا -اليوم بمشيئة الله تعالى- عن أدوات التشبيه والغرض منه، أما عن أدوات التشبيه فهي ألفاظ تدل على المماثلة والاشتراك بين أمرين، وهي قد تكون حروفًا، وقد تكون أسماء، وقد تكون أفعالًا؛ فالحروف تتمثل في الكاف، وكأن. أما الكاف فهي الأصل لبساطتها، وتفيد المشابهة في جميع استعمالاتها، والأصل فيها أن يليها المشبه به كقوله تعالى: {وَلَهُ الْجَوَارِي الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ} (الرحمن: 24) وقول الشاعر: أنت كالشمس في الضياء وإن ... جاوزت كيوانا في علو المكان وكيوانا: هو اسم لكوكب زحل، فنجد أن لفظ الأعلام في الآية الكريمة، ولفظ الشمس في البيت، قد ولي الكاف، وهما مشبهان بهما، فإن وليها غير المشبه به؛ كان مقدرًا بعدها، كما في قوله تعالى: {أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ} (البقرة: 19)، فالمشبه به في الآية محذوف تقديره: أو كمثل ذوي صيب؛ لأن الأصل أن يكون التشابه بين المعطوفات فيه تماثل، فهنا عطف، أو عطف {كَصَيِّبٍ} على قوله {يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آَذَانِهِمْ}، فإن وليها غير المشبه به كان مقدرًا بعدها كما في قوله تعالى: {أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ} (البقرة: 19)، فنجد أن المشبه به في الآية محذوف تقديره: أو كمثل ذوي صيب بدليل قوله في الآية {يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ} (البقرة: 19).

فالكلام عن أهل النفاق، وقوله في الآية التي قبلها {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا} (البقرة: 17)، فلا بد إذن أن يأتي الكاف في {أَوْ كَصَيِّبٍ} ما يماثل المشبه في الآيات السابقة واللاحقة؛ لذا كان التقدير: أو كذوي صيب، فالآيات مسوقة لبيان حال المنافقين فيما يكابدونه من حيرة وشدة بسبب ظهور نفاقهم، بعد أن توهموا أنهم قد أمنوا على حياتهم بإظهار الإسلام. وقد مُثِّلوا أولًا بحال من هو في أشد الحاجة إلى النار فاستوقدها {فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ} (البقرة: 17)، ثم مُثلوا ثانيًا بحال قوم أصابهم مطر شديد فيه ظلمات ورعد وبرق، وصواعق مهلكة تهدد حياتهم بالموت، وكانوا يتوقعون فيه النفع والرخاء. ونظير ذلك في دخول الكاف على مشبه به مقدر ما جاء في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ} (الصف: 14) إذا لا شبه بين كون المسلمين أنصارًا لله، وبين قول عيسى، وإنما الشبه بين كونهم أنصار للنبي محمد -صلى الله عليه وسلم، وكون الحواريين أنصارًا لعيسى؛ إذن فوجب أن يكون التقدير: كونوا أنصار الله كما كان الحواريون أنصارًا لعيسى ابن مريم حين قال لهم: من أنصاري إلى الله. وقد يلي الكاف مفرد لا يتأتى التشبه به، وذلك إذا كان المشبه به مركبًا، ويكون هذا المفرد له اتصال وثيق بالمشبه به المركب، تعال مثلًا إلى قول الله تعالى: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ} (الكهف: 45)، فليس المراد تشبيه حال الدنيا بالماء، بل المراد تشبيه حالها في ندرتها وبهجتها، وما يعقبها من الهلاك والفناء، بالهيئة الحاصلة من كون النبات بعد نزول الماء شديد النضارة والاخضرار، ثم بعد ذلك

تراه قد يبس فتطيره الرياح، كأن لم يكن، ووجه الشبه -كما هو معلوم- التلف والهلاك عقب الإعجاب، والاستحسان؛ فالكاف هنا لم تدخل على مشبه به وهو النبات، وإنما دخلت على لفظ الماء باعتباره عنصرًا مهمًّا في تكوين النبات، وأوراقه وفروعه وثماره. إذن فلا بد من مراعاة مدخول الكاف حتى تستقيم العبارة أو الآية، وبذلك نعرف مدى أهمية فهم سياق الآية في تقديرها مع أدوات التشبيه، أما كأن فإنها تفيد المشابهة غالبًا، وذلك إذا كان خبرها جامدًا، ويليها المشبه نحو قوله تعالى: {خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ} (القمر: 7)، وكذلك في مثل قولنا كأن النجوم مصابيح، فهنا نشبه النجوم بمصابيح، وكما جاء في الآية، فقد شبه أهل الكفر بأنهم جراد منتشر. فإذا كان الخبر مشتقًّا فالأرجح أنها لا تفيد المشابهة، وإنما تفيد الظن بوقوع الخبر الذي بعدها نحو قولنا مثلًا: كأن زيدًا قائم، كأن السماء ممطرة، فالمعنى: أننا نظن قيام زيد، ونظن إمطار السماء؛ لأن قائمًا صادق على زيد، وممطرة صادقة على السماء، ولا معنى لتشبيه الشيء بنفسه. وتأتي الأداة أحيانًا اسمًا من أمثال مثل شبه مماثل محاكٍ مشابه مضاهٍ، ونحوها مما يؤدي معنى المشابهة، فإذا كان الاسم جامدًا وليه المشبه به نحو: هذا الرجل مثل الأسد، وشبه البدر، وإن كان مشتقًّا وليه المشبه نحو: أنت مماثل الأسد، ومحاكٍ البدر، ومشابه عمرو، ومضاهٍ حاتمًا؛ فقد ولي الاسم في هذه الأمثلة الضمير العائد على المشبه، ويأتي كذلك أداة التشبيه فعلًا مثل: شابه وحاكى، ويشابه، ويضاهي، ونحوها من الأفعال المتعدية الدالة على معنى المشابهة، فإذا كانت الأفعال لازمة كتشابه وتماثل؛ فإنها لا تدل على التشبيه، كما سنذكر ذلك

تفصيلًا فيما بعد؛ لأن التشبيه يقتضي إلحاق الأدنى في وجه الشبه بالأعلى حقيقة أو ادعاء، وهذه الأفعال اللازمة إنما تدل على وجود التشابه بين الشيئين المقتضي مساواة كل واحد منهما للآخر في وجه الشبه. وقولنا مثلا تشابه عمرو وبكر في الوفاء المعنى: أنهما تساويا فيه، وليس أحدهما أعلى منزلة من الآخر، والأمر ليس كذلك إذا قلنا مثلًا: عمرو يشبه بكرًا؛ لأنه يفيد أن بكرًا أعلى مرتبة في وجه الشبه من عمرو، ولذا شبه به، وقد يذكر فعل ينبئ عن التشبيه نحو: علم وتيقن، وذلك إن قرب وجه الشبه وحقق، ونحو حسب، وخال، وظن إن بعد وجه الشبه عن التحقيق وخفي عن الإدراك فيقال مثلًا: علمت محمدًا بحرًا، وتيقنت أنه حاتم، وحسبت عمرو أسدًا، وخلته حاتمًا، وظننته إياسًا، وإنما قلنا: إن هذه الأفعال تنبئ عن التشبيه؛ لأن التشبيه في الواقع مستفاد من الأداة المقدرة كما في نحو: محمد بحر، وعمرو أسد. هذا، وتختلف أدوات التشبيه في الدلالة على التشبيه، فما كان من التشبيه صادقًا قلت في وصفه كأنه، أو هو ككذا، ويشبه، أو يماثل، أو شبه كذا، أو علمته بحرًا، رأيته غيثًا، وتيقنت أنه حاتم، ونحو ذلك من الأفعال التي تنبئ بالتشبيه وتدل على اليقين، وما قارب الصدق قلت فيه تراه، أو تخاله، أو تحسبه، أو يكاد، ونحوها من الأفعال التي ترشد إلى التشبيه وتدل على الظن والرجحان، أو المقاربة. هنا يأتي سؤال هل لإيثار بلقيس ملكة سبأ حرف التشبيه كأن الوارد في قول الله تعالى: {كَأَنَّهُ هُوَ} (النمل: 42) حين سأله سليمان -عليه السلام- عندما عما إذا كان ذلك عرشها أم لا من دلالة، هل لذلك من دلالة؟ نعم، لقد ذكر ابن السبكي أن الإمام فخر الدين الرازي في نهاية (الإيجاز)، كذلك حازم القرطاجني في كتابه (منهاج البلغاء) أوضح أن كأن أبلغ

من الكاف، وأنها تستعمل حيث يقوى الشبه؛ حتى يكاد الرائي يشك في أن المشبه هو المشبه به أو غيره. هذا الكلام ذكره السبكي في (عروس الأفراح)، وذكره كذلك القرطاجني في كتابه (منهاج البلغاء)، من هنا ندرك عظمة القرآن، ودقة التعبير حين ينتقي لفظ ويؤثره على لفظ آخر؛ ففي هذا دلالة على أن انتقاء الألفاظ المناسبة الدالة المعبرة، هو الذي يسود دائمًا في كلام الله -سبحانه وتعالى. هذا وينقسم التشبيه بهذا الاعتبار -أعني: باعتبار ذكر الأداة وحذفها- إلى قسمين، فهناك تشبيه مرسل، وهناك تشبيه مؤكد، فالتشبيه المرسل ما ذُكرت فيه أداة التشبيه نقول مثلًا: أنت كالأسد، ومنه قوله تعالى: {فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ} (الفيل: 5)، وقوله: {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ} (الحديد: 21)، وهناك التشبيه المؤكد، وهو ما حُذفت منه أداة التشبيه كقوله تعالى: {وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ} (النمل: 88) تقدير الآية أي: تمر مرًا كمر السحاب، جملة التشبيه المبنية على حذف الأداة. سؤال كيف تؤكد؟ الجواب: أنها تؤكد بعدة أمور، أولها أن يقع المشبه به خبرًا لمشبه؛ سواء أكان ذلك المشبه مذكورًا في الكلام، أم محذوفًا فمثلًا قول الشاعر: هم البحور عطاء حين تسألهم ... ......... ................ .. هنا المشبه مذكور، وكذلك قول امرئ القيس: فعيناك غربا جدول في مقاضة ... كمر الخليج في صفيح مصوب

هنا يشبه سيلان الدموع من العينين بسيلان الماء من غربي الجدول غربا يعني: الدلوان، وأداة التشبيه محذوفة، وقد وقع المشبه به خبرًا للمشبه، ثم شبه سرعة جريان الدموع في العينين بسرعة مر الماء في الخليج المنحدر تشبيهًا مرسلًا؛ لأن الأداة مذكورة، كذلك المشبه المقدر ما جاء في قوله تعالى مثلا: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ} (البقرة: 18) وكذلك في قول عمران بن حطان يذكر الحجاج: أسد علي وفي الحروب نعامة ... فطخاء تنفر من صفير الصافر فالمشبه مبتدأ محذوف تقديره: هم صم، وهو أسد، ونعامة، وقد وقع المشبه به خبرًا له، تؤكد كذلك جملة التشبيه المبنية على حذف الأداة بأن يقع المشبه به حالًا صاحبها هو المشبه، كما في قوله تعالى مثلًا: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا} (الأحزاب: 45، 46)، ففي الآية الكريمة يشبه النبي -صلى الله عليه وسلم- بالسراج المنير، والمشبه به حال، وصاحب الحال هو الضمير المنصوب العائد على النبي -صلى الله عليه وسلم- في قوله {أَرْسَلْنَاكَ} كذلك يؤكد التشبيه المحذوف الأداة بأن يقع المشبه به مضافًا إلى المشبه كقول الشاعر مثل: والريح تعبث بالوصون وقد جرى ... ذهب الأصيل على لجين الماء فهنا شبه الماء وهو المضاف إليه باللجين، وقد وقع المشبه به هو اللجين مضافًا إلى المشبه وهو الماء، أما ذهب الأصيل فمقصود به أشعة الشمس قبيل الغروب. إذن فهو مشبه والذهب مشبه به، ويكون هذا من إضافة المشبه به إلى المشبه. كذلك من هذا الضرب ما جاء في قول الشاعر يصف تقوس الهلال: كأنما أدهم الإظلام حين نجا ... من أشهب الصبح ألقى نعل حافره

فهنا شبه ظلام الليل فالفرس الأدهم، وفي هذه الصورة العجيبة النادرة الغريبة غير المبتذلة نرى أن الشاعر يشبه هذا الظلام ظلام الليل بالفرس الأدهم، ويشبه كذلك الصبح بالفرس الأشهب، وقد وقع المشبه به مضافًا إلى المشبه في التشبيهين، ثم استعار نعل الحافر للهلال، ونرى في البيت تخييلًا حسنًا بديعًا؛ حيث صور الشاعر لنا معركة بين الليل والصبح، انتصر فيها الصبح وفر الليل منزعجًا من مطاردة الصبح له، واستعان الليل على سرعة الفرار والهرب بإلقاء نعله؛ ليكون ذلك عونًا له على سرعة الفرار والنجاة، وقد أخذ الشاعر من مخلفات المعركة نعل حافر الفرس، فشبه به الهلال وبنى على التشبيه استعارته الغريبة، مثل ذلك أيضًا قول الشريف الرضي يدعو الله أن يرطب قبور أحبابه: أرسى النسيم بواديكم ولا برحت ... حوامل المزن في أجداثكم تضع ولا يزال جنين النبت ترضعه ... على قبوركم العراضة الهمع فهنا يشبه المزن بالحوامل، ويشبه النبت بالجنين، وقد وقع المشبه به وهو الحوامل، والجنين مضافًا إلى المشبه، وهو المزن والنبت، والمعنى ما زال السحاب الممتلئ الماء الشبيه بالحوامل الممتلئة بطونها بالأجنة، يسقط على قبورك، ولا يزال النبات الأخضر المورق الشبيه بالأجنة الصغيرة يرويه على قبوركم السحاب الممطر. أما الوضع والإرضاع فهما إذن ترشيح للتشبيه، كذلك تؤكد جملة التشبيه المبنية على حذف الأداة بأن يقع المشبه والمشبه به مفعولين لفعل من الأفعال التي تنصب مفعولين مثل: علم، ورأى، وحسب، وظن، وخال، ونحوها، فهذه الأفعال تنبئ بالتشبيه، وترشد إليه، وليست أدوات؛ بل الأداة تكون مقدرة كما سبق أن ذكرنا.

أغراض التشبيه.

من ذلك مثلًا قولنا: علمت محمدًا بحرًا، ورأيته أسدًا، وحسبت الرجل شمسًا، وخلته بدرًا، وظننته كوكبًا؛ فوقع في كل هذه الأمثلة كل من المشبه والمشبه به مفعولين للأفعال المذكورة، وهذه الأفعال قد أنبأت بالتشبيه. أما الأداة فهي مقدرة، والتقدير: علمت محمدًا كالبحر وكالأسد إلى أخر ذلك، من ذلك أيضًا قول البحتري: وإذا الأسنة خالطتها خلتها ... فيها خيال كوكب في الماء فهنا شبه الأسنة إذا خلطتها الدروع بخيال الكواكب تبدو في الماء بجامع الصفاء واللمعان، ولا يخفى أن المشبه والمشبه به قد وقعا مفعولين للفعل خال، الذي أرشد إلى التشبيه، وأن أداة التشبيه هي الكاف المقدرة، والتقدير: خلتها فيها كخيال كواكب في الماء. أغراض التشبيه وننتقل الآن إلى حديث البلاغيين عن الركن الخامس، وهو أغراض التشبيه أي: الأسباب والدواعي التي تحمل الأديب على عقد التشبيه، أو بمعنى آخر الغاية التي يرمي إليها البليغ بتشبيهه، ويقصد إلى تحقيقها، أو الفائدة التي يريد المتكلم أن يوصلها إلى السامع باستخدام الأسلوب التشبيهي. هذه الأغراض منها ما يعود إلى المشبه، ومنها ما يعود إلى المشبه به. نبدأ بالحديث عن الأغراض التي تعود على المشبه: أول هذه الأغراض: ما يسمى ببيان إمكان وجوده، وذلك عندما يكون المشبه من الأمور الغريبة التي يستبعد حصولها، ويدعى استحالتها، كما جاء مثلًا في قول المتنبي: فإن تفق الآنام وأنت منهم ... فإن المسك بعض دم الغزال

فهنا يدعي المتنبي أن ممدوحه قد تناهى في الصفات الفاضلة إلى حد صار به جنسًا منفردًا بذاته أشرف من جنس الإنسان، وهو في الواقع منهم، وهذه دعوى بعيدة غريبة، تحتاج إلى بيان إمكانها، وإثبات أن لها نظيرًا في الموجودات الثابتة؛ ولذا قال: فإن المسك بعض دم الغزال. وعلى الرغم من أنه من جنس الدماء -أي: المسك- إلا أنه تناهى في الصفات الشريفة إلى حد يُتوهم لأجله أنه نوع آخر غير الدم؛ لتفوقه بشرف رائحته، والتشبيه كما هو ملاحظ في البيت ضمني، المشبه حال الممدوح في تفوقه على أهل زمانه تفوقًا صار به كأنه جنس منفصل عنهم، شبه به حال المسك في تفوقه بشرف رائحته على الدماء حتى صار كأنه جنس آخر، ووجه الشبه خروج بعض أفراد الجنس بفضائله عن جنسه مع ملاحظة الأصل في بقائه داخل الجنس بالانتساب إليه، والغرض من التشبيه -كما علمنا- هو بيان إمكان المشبه بإثبات نظير له، كما هو واضح في البيت، يدخل في هذا الغرض ما جاء في قول البحتري: دانٍ على أيدي العفاة وشاسع ... عن كل ندٍّ في الندى وضريب كالبدر أفرط في العلو وضوءه ... للعصبة السارين جد قريب فهنا يصف الشاعر الممدوح بصفتين متناقضتين في الظاهر، وهما الدنو والعلو، ثم زال هذا التناقض الظاهري بالمشبه به الذي بيَّن أنه لما ادعاه الشاعر نظيرًا في الوجود، كذلك قول ابن الرومي يقول: قالوا أبو الصقر من شيبان قلت لهم ... كلا لا عمرو ولكن منه شيبان كم من أب قد علا بابن ذرا شرف ... كما علا برسول الله عدنان فالمشبه أبو الصقر، وقد شرفت به قبيلته، وتلك دعوى غريبة؛ لأن العادة أن يشرف الفرع بالأصل، دائمًا الإنسان يشرف بأبيه وبأجداده، لا العكس، لكن

المشبه به وهو رسول الله -صلى الله عليه وسلم، وقد شرفت به عدنان أي: العرب قاطبة، قد أزال هذه الغرابة؛ إذ بين أن لما ضرب به المثل نظيرًا في الوجود. الأمر الثاني من أغراض التشبيه العائدة على المشبه: بيان حال المشبه، معنى إيضاح صفته، وذلك إذا كانت صفة المشبه مجهولة، وحاله غير معلومة للمخاطب؛ فيقصد المتكلم إلى بيان هذه الصفة، وإلى إيضاح تلك الحالة عن طريق شبه به قد وضحت فيه هذه الصفة الغريبة، وذلك بغرض إزالة هذه الغرابة. نأخذ من ذلك مثلًا قول الأعشى حين يقول: كأن مشيتها من بيت جارتها ... مر السحابة لا ريث ولا عجل فهنا شبه مشية المرأة من بيت الجارة حين تزورها حاملة لها ما جادت به نفسها، بمرور السحابة التي تحمل المطر، والغرض من ذلك هو بيان حال المشبه، كذلك مما يدخل في هذا الغرض ما جاء في قول شاعر آخر: كأن سهيلًا والنجوم وراءه ... صفوف صلاة قام فيها إمامها فهنا يشبه هيئة سهيل، وقد تقدم النجوم بهيئة الإمام يتقدم الصفوف في الصلاة، والغرض هو بيان حال المشبه، وإبراز هيئته. ومن ذلك أيضًا تشبيه الشعر بالليل في السواد، والوجه بالبدر في الإشراق، والخد بالورد في الحمرة، فكل هذه التشبيهات أفادت المخاطب، لون الشعر، وإشراق الوجه، وحمرة الخد؛ فاتضح لديه حال المشبه، وبانت عنده صفة هذا المشبه. الأمر الثالث، أو الغرض الثالث الذي يعود على المشبه: بيان مقدار الحال، وذلك إذا كانت صفته معلومة للمخاطب، والمجهول هو المقدار في القوة والضعف أو الزيادة والنقصان، فنرى مثلًا في قولنا سواد هذا الشعر كسواد الليل، وحمرة

هذا الخد كحمرة الورد؛ فالمخاطب يدرك من التشبيه هنا مقدار السواد والحمرة، لا نفس الصفة، ومنه قول الحسن بن وهب: مداد مثل خافية الغراب ... وأقلام كمرهفة الحداد فمرهفة الحداد يعني: الدقيق القاطع من السيوف، فسواد المداد معلوم، والتشبيه أفاد درجة، أو مقدار شدته، ورهافة الأقلام معروفة، والتشبيه أفاد عظم دقتها، من ذلك أيضًا قول شاعر: فأصبحت من ليل الغداة كقابض ... على الماء خانته فروج الأصابع فقد أفاد التشبيه مقدار حاله في علاقته بفتاته، وأنه بلغ أقصى غاية في الحرمان وخيبة الأمل. نأتي إلى الغرض الرابع من أغراض التشبيه العائد على المشبه: تأكيد حال المشبه وتقريرها في نفس السامع، وذلك إذا كان كل من الحال ومقدارها معلومين، وأريد بالتشبيه تأكيد اتصاف المشبه بالصفة، كتشبيه من لا يحصل من سعيه مثلًا على طائل بالراقم على الماء، وبالقابض عليه، وتشبيه الحائر الذي يتخبط في أمره بالتائه في صحراء مظلمة، ومن ذلك قوله تعالى: {وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ} (الأعراف: 171). فهنا بيَّن التشبيه في الآية ما لم تجرِ به العادة، وهو رفع جبل الطور فوق رءوس اليهود بما جرت به العادة، وهو الغمامة، أو المظلة، وذلك لتأكيد وتقرير هذا الأمر الحاصل. ففي هذه الأمثلة التي سبق أن ذكرناها نجد أن المقدار والحال معلومين، ولكن المراد هو تأكيد اتصاف المشبه بالصفة. من هذه الأغراض التي يسوقها المتكلم، ويعود الغرض فيها على المشبه: تزيين المشبه وتجميله، وذلك إذا كان المراد مدح المشبه، والترغيب فيه كقول النابغة مثلًا مادحًا: فإنك شمس والنجوم كوكب ... إذا طلعت لم يبد منهن كوكب

وقول الآخر يصف جارية سوداء: أكسبها الحب أنها صبغت ... صبغة حب القلوب والحدق فهنا أبرز التشبيه في البيتين تزيين المشبه للترغيب فيه؛ إذ المراد بحبة القلب، هي سويداء القلب، وبالحدق ما يكون في العين من أداة للبصر، فهنا أبرز التشبه في البيتين تزيين المشبه للترغيب فيه. كذلك من الأغراض التي تعود في التشبيه على المشبه تشويه المشبه وتقبيحه، وذلك عند إرادة الذم والتنفير منه كقول الشاعر: وإذا أشار محدثًا فكأنه ... قرد يقهقه أو عجوز تلطم هنا نجد أن هذه التشبيهات قد أبرزت المشبه في صورة مشوهة قبيحة، قد أشار ابن الرومي إلى الغرضين السابقين التزيين والتقبيح بقوله: تقول هذا مجاج النحل تمدحه ... وإن تعب قلت ذا قيء الذنابير عند فعند إرادة تزيين الريق وتجميله نصفه بمجاج النحل، وعند إرادة التقبيح والتنفير منه نشبهه بقيء الزنبور، من هذه الأغراض التي تعود على المشبه إثارة الشعور باستحسان المشبه واستطرافه، ذلك بأن يكون المشبه به مما يندر خطوره بالبال؛ لكونه لا وجود له في الواقع، أو للبعد بين المشبه المشبه به في الجنس، فيظهر المشبه عندئذٍ في صورة الشيء العجيب الذي يثير في النفس كوامن الاستحسان والإعجاب.

من ذلك تشبيه فحم فيه جمر متقد ببحر من المسك موجه الذهب، وتشبيه محمر الشقيق بأعلام من ياقوت منشورة على رماح من زبرجد، وتشبيه النجوم في أديم السماء بدرر نثرن على بساط أزرق؛ ففي هذه التشبيهات نجد المشبه به من المركبات الخيالية التي يندر خطورها بالذهن؛ ولذا برز المشبه في صورة عجيبة ممتنعة تثير في النفس كوامن الاستحسان، والإعجاب، والاستطراف. ومن التشبيهات التي جمع فيها الشاعر بين طرفين متباعدين في الجنس، فأثار بهذا الجمع استحسان النفس واستطرافها لمشبه تشبيه الثريا بعنقود العنب المنور، وتشبيه البرق بمصحف القارئ، وتشبيه الفرس بجلمود الصخر، فمجيء المشبه به في هذه التشبيهات من جنس بعيد عن جنس المشبه يجعل حضور المشبه به، وخطوره بالبال نادرًا عند حضور المشبه فيه. الأمر الذي يحتاج من الأديب إلى إطالة النظر ليجمع بين الطرفين المتباعدين، ومن هنا كان استحسان بيت على بيت، وكان استطراف بيت على بيت. هناك أيضًا أغراض للتشبيه يعود الغرض فيها على المشبه به، من ذلك التشبيه المقلوب الذي يُجعل فيه ما هو الأصل في وجه الشبه مشبهًا، وما هو الفرع مشبهًا به، فهو يقوم أساسًا على الفرد والتخييل والادعاء، بجعل ما هو فرع في وجه الشبه أصلًا فيه، وما هو أصل فرعًا؛ قصدًا إلى المبالغة في ثبوت وجه الشبه للفرع الذي صار أصلًا، ولذا فإن الغرض العائد على المشبه به في التشبيه المقلوب هو في الواقع عائد على المشبه؛ لأن المشبه به كان في الأصل مشبهًا قبل أن يُقلب التشبيه، وبالمثال يتضح المقال، ففي قول ابن وهيب في مدح الخليفة المأمون: وبدا الصباح كأن غرته ... وجه الخليفة حين يمتدح

نرى أنه جعل ما هو أصل في الضياء -وهو الصباح- مشبهًا، وما هو فرع فيه -وهو وجه الخليفة- مشبهًا به؛ قصدًا إلى المبالغة في إعلاء شأن المأمون، وتأكيد مدحه بإشراق الوجه، نجد ذلك أيضًا في قول البحتري: في طلعة البدر شيء من محاسنها ... وللقضيب نصيب من تثنيها فقد جعل أيضًا ما هو الأصل في وجه الشبه -وهو طلعة البدر والقضيب- مشبهًا، وما هو الفرع فيه -وهو محاسن الفتاة وتثنيها- مشبهًا به؛ بهدف المبالغة في إثبات الوجه لمشبه به وهي الفتاة، ثم ازدادت هذه المبالغة بشيء خارج عن إفادة التشبيه وهو جعل لما في البدر، وما في القضيب شيئًا قليلًا، وندرًا يسيرًا مما يوجد في الفتاة، شيء من محاسنها نصيب من تثنيها. ومنه قول الله عز وجل: {إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا} (البقرة: 275) والأصل أن يقال مثلًا: أن الربا مثل البيع؛ لأن الذي هو محل النزاع هو الربا، لكن هنا جعل الربا مشبهًا به وجعل البيع مشبهًا، فجعل مستحلُّو الربا البيع فرعًا في الإباحة والحل، والربا أصلًا فيهما، وذلك قصدًا إلى المبالغة في إثبات إباحة الربا، واستجابة لأطماع نفوسهم، وشدة حرصهم على جمع المال من أي طريق كان ونعلم تلك الصورة التشبيهية البشعة التي رسمها القرآن للذين يأكلون الربا، وأن الله سبحانه شبههم بأمثال الذين يقومون كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس، نجد هذا أيضًا في قول الله تعالى: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ} (النحل: 17) فقد جعلهم الله لتماديهم في عبادة غير الله، وتسميتهم لهذه المعبودات آلهة، بمنزلة من يعتقد أن من لا يخلق أحق بالعبادة ممن يخلق، ولذلك جعل من لا يخلق أصلًا في استحقاق العبادة فشُبه به، فكان الأصل أن يقال: أفمن لا يخلق كمن

يخلق، لكن جعل من يخلق فرعًا مشبهًا عن طريق التشبيه المقلوب؛ مبالغة في تصوير جهلهم، وتماديهم في الشرك، وكان الأصل أن يُنكر عليهم جعلهم غير الخالق شبيهًا بالخالق في استحقاق العبادة. ففي كل هذه الأمثلة نرى أن الغرض من التشبيه عائد على المشبه به، والهدف من ذلك هو المبالغة في اتصاف المشبه به بوجه الشبه، وإيهام أن الوجه في المشبه به أشهر وأقوى منه في المشبه. من هذه الأغراض التي يعود الغرض فيها على المشبه به: بيان شدة الحاجة إلى المشبه به كتشبيه الجائع مثلًا البدر في إشراقه واستدارته بالرغيف؛ لأنه يحلم بهذا الرغيف، وتشبيهه المسك في طيب رائحته بالشواء، وذلك تنبيهًا إلى شدة حاجته للرغيف والشواء، ويُسمى هذا الغرض بإظهار المطلوب، وهو لا يحسن إلا في مقام الطمع في حصول الشيء الذي جُعل مشبهًا به. عندما نقارن في المبالغة بين قولنا مثلًا: لا أدري أوجهه أنور أم الصبح، وغرته أضوأ أم البدر، ونحو ذلك مما يفيد المساواة في الإشراق والإضاءة بين الطرفين؛ حتى أصبح من الصعب التفريق بينهما بالزيادة أو النقصان، وبين قولنا مثلًا: نور الصباح يخفى في ضوء جبينه، ونور الشمس مسروق من نور وجهه، ونحو ذلك مما يفيد أن نور الوجه والجبين تجاوز في الإضاءة والإشراق نور الصباح، وتجاوز كذلك نور الشمس، ونقارن بين هاتين الحالتين وبين المبالغة مثلًا في بيت ابن وهيب: وبدا الصباح كأن غرته ... وجه الخليفة حين يمتدح نجد أن المبالغة في البيت قد فاقت المبالغة في الأساليب التي سبقت هذا البيت، وذلك أنه في المثالين الأولين، وهما قولهم: لا أدري أوجهه أنور أم الصبح،

وغرته أضوأ أم البدر، ونحو ذلك، وقفت المبالغة عند حد المساواة بين وجه الممدوح والصبح، وبين غرته والبدر في الإشراق والإضاءة؛ فلم يصلا إلى مرتبة التشبيه في البيت الذي أفاد أصالة وجه الخليفة في الإشراق، وجعل نور الصباح مقيسًا عليه. وفي القولين الأخيرين وهما قولنا مثلًا: نور الصباح يخفى في ضوء جبينه، ونور الشمس مسروق من نور وجهه، ونحو ذلك، جاءت المبالغة على نفس القدر الذي جاءت عليه في البيت مع فارق دقيق، هو أن المبالغة في المثالين مبالغة صريحة مكشوفة ليست مبنية على أصل مسلَّم في عقول الناس؛ لأنها سُبقت بأسلوب الخبر العام المتعرض للصدق والكذب. أما المبالغة في البيت فهي مبالغة مستترة خفية؛ حيث بنيت على أصل ثابت في عقول الناس، وهو أن المشبه به في كل تشبيه أصل في وجه الشبه، والمشبه مقيس عليه، وتجرنا هذه المقارنة والموازنة إلى الحديث عن التشابه، فهل هناك فرق بين التشبيه والتشابه، نعم، ومثاله قول أبي إسحاق الصابي: تشابه دمعي إذ جرى ومدامتي ... فمن مثل ما في الكأس عيني تسكب فو الله ما أدري أبالخمر أسبلت ... جفوني أم من عبرتي كنت أشرب أراد أن الدمع والمدامة تساويا في الحمرة، أو في الصفاء مساواة جعلته لا يستطيع أن يميز بينهما، ولذا عدل عن التشبيه واستخدم صيغة التشابه، وقد أكد هذه المساواة بالبيت التالي الذي أفاد وقوعه في الحيرة وعدم التمييز بين الدمع المسكوب والخمر المشروب.

ومما يفيد التشابه أيضًا قول صاحب بن عباد في الخمر: رق الزجاج وراقت الخمر ... فتشابه فتشاكل الأمر فكأنما خمر ولا قدح ... وكأنما قدح ولا خمر فهنا ادَّعى المساواة بين الخمر والكأس في الصفاء، فعدل عن التشبيه إلى التشابه، ثم أكَّد هذه المساواة بالبيت الثاني الذي أفاد أنهم أشكلا عليه؛ فلم يستطع أن يميز أحدهما عن الآخر، فالأصل إذن عند إرادة التساوي بين الطرفين استخدام كلمة تشابه، وهذا هو الأفضل والأحسن، لكن يجوز عند إرادة التساوي بين الطرفين في الصفة استخدام صيغة التشبيه كتشبيه غرة الفرس مثلًا بالصبح؛ لقصد المساواة بينهما أيضًا في وجه الشبه، وهو ظهور شيء منير في شيء مظلم، وكتشبيه الصبح بغرة الفرس دون أن نعدُّ ذلك من التشبيه المقلوب الذي يقتضي زيادة المبالغة، وكتشبيهه للشمس أيضًا بالمرآة المجلوة، والمرآة المجلوة بالشمس لمجرد اجتماعهما في الاستدارة والتلألؤ، دون نظر إلى ما بين نور الشمس ونور المرآة من تفاوت، ومنه تشبيه الشمس بالدينار الخارج من السكة في قول ابن المعتز: وكأن الشمس المنيرة دينار ... جلته حدائد الضراب وحدائد الضراب: هي الآلات التي تصكُّ بها العملة، فهنا نجد تشبيه الدينار بالشمس دون نظر إلى ما بينهما من تفاوت في الحجم ومقدار التلألؤ. ومن ذلك أيضًا تشبيه ظهور ضوء الصبح بين ظلام الليل بشيء أبيض على ديباج أسود في قول ابن المعتز: والليل كالحلة السوداء لاح به ... من الصباح طراز غير مرقوم فقد نظر إلى مجرد حصول بياض في سواد أكثر منه، ولم ينظر إلى التفاوت بين مقدار البياض في الصبح ومقداره في العلم الأبيض، وربما سأل سائل إذا كان الطرفان متساويين في وجه الشبه بغض النظر عما بينهما من زيادة أو نقصان،

فما الذي اقتضى جعل غرة الفرس مثلًا مشبهًا، والصبح مشبهًا به، ثم العكس، أو جعل الشمس مشبهًا والمرآة مشبهًا به، ثم قلب التشبيه ما دامت المبالغة بالقلب غير مقصودة. الجواب عن ذلك: أن الذي اقتضى ذلك ليس ملاحظة ما بين الطرفين من زيادة أو نقصان، وإنما ملاحظة أخرى ترجع إلى مقام الكلام، ومدار الحديث، فإذا كان الحديث يدور حول الفرس جعلت غرته مشبهًا، وإذا كان يدور حول الصباح جعل هو المشبه؛ لأن الحديث عنه والغرض من التشبيه متوجه إليه. وكذا القول في الشمس والمرآة، أو الشمس والدينار كان الحديث يدور حول الشمس قدمت وجعلت هي المشبه؛ لأن العناية منصبَّة عليها، والحديث إنما هو عنها، دار الحديث حول الدينار، حول المرآة قُدِّم ما يدور حوله الحديث وجعل مشبهًا؛ لأنه موضع الاهتمام، والغرض من التشبيه متوجه إليه. ونستطيع أن نخلص من كل ما ذكرنا إلى أن الغرض من التشبيه ركن من أركان التشبيه، وأن منه ما يكون الغرض عائدًا على المشبه مثل: إمكان وجوده، أو بيان حال المشبه بمعنى إيضاح صفته، وذلك إذا كانت صفة المشبه مجهولة، وحاله غير معلومة للمخاطب، أو بيان مقدار الحال، وذلك إذا كانت صفته معلومة للمخاطب، والمجهول مقدارها من القوة والضعف، أو الزيادة والنقصان، أو تأكيد حال المشبه وتقريرها في نفس السامع، أو تزيين المشبه وتجميله، أو تشويه المشبه وتقبيحه، أو إثارة الشعور باستحسان المشبه واستطرافه، فكل هذه أغراض تعود على المشبه. وهناك أيضًا أغراض تعود على المشبه به وذلك -كما قلنا- يغلب في التشبيه المقلوب، وهو الذي يجعل فيه ما هو الأصل في وجه الشبه مشبهًا، وما هو الفرع مشبهًا به، والمثال واضح على ذلك قول الشاعر الذي سبق أن ذكرناه: وغدا الصباح كأن غرته ... وجه الخليفة حين يمتدح

وقلنا: أن الغرض من ذلك هو المبالغة في اتصاف المشبه به بوجه الشبه، وإيهام أن الوجه في المشبه به أشهر وأقوى منه في المشبه، وكذلك يكون الغرض العائد على المشبه به في حال ما إذا كان المراد بيان شدة الحاجة إلى المشبه به، كما قلنا: تشبيه الجائع البدر مثلًا في إشراقه استدارته بالرغيف، رغم أن الأصل أن يُشبه الرغيف بالبدر، لكنه عكس؛ لأن حاجته ماسَّة إلى الرغيف فجعله مشبهًا به. كذلك مما خلصنا إليه: أن هناك فرق بين التشبيه والتشابه، وأن التشابه إنما يُراد به التساوي بين الطرفين في الصفة بخلاف التشبيه الذي يُلحق دائمًا فيه الأدنى بالأعلى. كذلك من الأمور التي ينبغي أن نخلص إليها أيضًا: أن من خلال ما سبق نرى أن التشبيه باعتبار الغرض ينقسم إلى قسمين: فهناك تشبيه حسن مقبول، وتشبيه قبيح مردود، فالحسن المقبول ما كان محققًا للغرض الذي عُقد التشبيه من أجله، وافيًا به بأن يكون وجه الشبه أشهر وأعرف في المشبه به، وذلك في كل غرض من أغراضه، وأتم وأكمل إذا أُريد تأكيد الصفة وتقريرها في المشبه، كتشبيه السفن بالجبال، والرجل الضخم بالفيل، وإذا كان الغرض بيان المقدار فيجب أن يكون الوجه على درجة واحدة في الطرفين، كان الهدف بيان الإمكان؛ وجب أن يكون وجه الشبه مسلمًا به في المشبه به، حاصلًا فيه معترفًا به من المخاطب، وإذا كان الغرض من التشبيه عائدًا على المشبه به؛ فإن صفتي الوضوح والكمال تكونان أكثر في المشبه به على طريق التخييل والادعاء، إلى آخر ما وقفنا عليه من حديثنا عن أغراض التشبيه. أما التشبيه القبيح المردود: فهو ما أخلَّ بالغرض المقصود من التشبيه ولم يفِ به، إما لعدم وجود شبه بين الطرفين، أو لكون الوجه بعيدًا، أو غير واضح في المشبه به،

وإما كذلك لتنافي التشبيه مع الذوق السليم، ومجافاته للطبع القويم، وقد سبق أن ذكرنا أنه قد عيب على الشاعر قوله: غيري جنى وأنا المعاقب فيكم ... فكأنني سبابة المتندم وذكرنا أن وجه الشبه وهو معاقبة البريء وترك الجاني محقق في المشبه دون المشبه به؛ إذ السبابة جزء من المتندم، كأنما يعضُّ عليها عند ندمه تقع العقوبة عليه؛ لأن سبابته جزء منه، وعندئذ لا يكون المعاقب غير الجاني، وذكرنا أن الصلابة في مثل هذا هو ما جاء في قول النابغة يعتذر للنعمان بن المنذر: حلفت فلم أترك لنفسك ريبة ... وهل يأثمًا ذو إمة وهو طائع لكلفتني ذنب امرئ وتركته ... كذا العرِّي يُكوى غيره وهو راتع إذ قد شبه نفسه وقد أخذه النعمان بذنب لم يفعله، وترك معاقبة الجاني بحال البعير الأجرب إذا أريد شفاؤه، يقوم صاحبه بكيِّ بعير سليم خالٍ من الجرب؛ كي يشفى البعير المصاب الأجرب، وذلك بناء على ما اعتادت عليه العرب في الجاهلية، فمن هذه التشبيهات المعيبة، وغير المقبولة ما قاله آخر: كأن شقائق النعمان فيه ... ثياب قد روينا من الدماء فالتشبيه مصيب، وهو أن يشبه شقائق النعمان بالثياب، والوجه محقق، لكن العيب أتاه من بشاعة ذكر الدماء، وهو بصدد وصف زهر جميل في روض أنيق، فهذا أمر لا يليق، ومن ثَمَّ كان تشبيهًا مردودًا ومعيبًا وغير مقبولة، ولا نريد أن نطيل كثيرًا في هذه التشبيهات المعيبة غير المصيبة، لكن يهمنا أن نذكر ما كان منها حسنًا مصيبًا مقبولًا. ويأتي ضمن هذه التشبيهات الحسنة المحققة للغرض ما يُسمى بالتشبيه الضمني، وهو التشبيه الذي يُفهم من المعنى ويتضمنه سياق الكلام، والفرق بينه وبين التشبيه الصريح، أن التشبيه الصريح يوضع فيه المشبه والمشبه به في صورة من صور التشبيه المعروفة، أما التشبيه الضمني فيُلمح فيه الطرفان من المعنى، ولا تُبنى جملته على إحدى صور التشبيه التي عرفناها، وغالبًا ما يكون المشبه به في التشبيه الضمني برهانًا وتعليلًا للمشبه، مثلًا قول أبي تمام: لا تنكري عطل الكريم من الغنى ... فالسيل حرب للمكان العالي وقد شبه الشاعر هنا حال الرجل الكريم المحروم من الغنى بقمم الجبال لا يستقر عليها ماء السيل، ولم يأتِ التشبيه صريحًا في صورة من صور التشبيه، بل جاء

ضمنيًّا مفهومًا من معنى الكلام، وقد وقع فيه المشبه به تعليلًا للمشبه. نرى ذلك أيضًا في قول شاعر آخر هو أبو الطيب المتنبي: من يهن يسهل الهوان عليه ... ما لجرح بميت إيلام فقد شبه حال من اعتاد الهوان فسهل عليه تحمله بحال الميت، لا يتألم إذا جُرح، وقد فهم التشبيه من المعنى، فهو إذن تشبيه ضمني، وجاء معبرًا عن معنى دقيق لا بد أن يكون محل اعتبار، من ذلك أيضًا ما جاء في قول المتنبي كذلك: لم تلق هذا الوجه شمس نهارنا ... إلا بوجه ليس فيه حياء ومنه كذلك قول أبي نواس: إن السحاب لتستحي إذا نظرت ... إلى نداك فقاسته بما فيها ومثل ذلك كثير، وكله يأتي ضمن ما يُسمى بالتشبيه الضمني، وهو التشبيه كما قلنا الذي يفهم من المعنى ويتضمنه سياق الكلام، وهو عادة ما يكون حسنًا مقبولًا. وإلى أن نلتقي وإياكم على خير نستودعكم الله. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الدرس: 5 التشبيه (4).

الدرس: 5 التشبيه (4).

بيان مكانة التشبيه من خلال نماذج من روائع التشبيه.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس الخامس (التشبيه (4)) بيان مكانة التشبيه من خلال نماذج من روائع التشبيه الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، ثم أما بعد: فنختم حديثنا عن هذا الضرب من الكلام، وهو فن التشبيه نختمه بالحديث عن عدة أمور هي من الأهمية بمكان، وتتلخص هذه الأمور، أو تلك العناصر في بيان مكانة التشبيه عند أهل العلم من الأدباء والبلغاء، وكذلك تقديم نماذج من روائع التشبيه تدلل على صدق ما ذهبوا إليه، ثم أخيرًا عن الفرق بين التشبيه والمجاز باعتبارهما من ألوان علم البيان، وتمهيدًا للانتقال بعد ذلك للحديث -بمشيئة الله تعالى- عن المجاز. إن للتشبيه مكانته الخاصة من البلاغة، فهو على نحو ما وضح لنا بمسائل التعبير التصويرية، ودائمًا يستمد قوته من الخيال، كما أن الرسم والتصوير يعتمد على الأصباغ والأحجار التي تؤلف، وتصقل؛ لترمز إلى طبيعة جميلة مثلًا، أو فتنة ساحرة، أو عبقرية نادرة، نجد التشبيه يشاركهما في الإفصاح عن الفكرة، والتعبير عن العاطفة، بما فيه من عنصر الخيال الذي يقابل تلك الأصباغ والأحجار، فإذا قرأنا على سبيل المثال لأحمد شوقي يصف أحد خمائل الجزيرة: وخميلة فوق الجزيرة مسَّها ... ذهب الأصيل حواشيًا ومتونًا كالتبر أفقًا والزبرجد ربوة ... والمسك تربًا واللجين معينًا نجد أنه لا فرق بين لوحة رُسمت عليها الخميلة وقت الأصيل، وبين هذين البيتين اللذين بعثا فيها الحياة والجمال، وعُرضت فيها الخميلة مزهرة ذات دِلٍّ وإعجاب، فاللوحة المرسومة تعرض المنظر دفعة واحدة، تعاون جميع عناصره على التأثير في النفس في لحظة واحدة؛ بينما التعبير التشبيهي في قول شوقي يعرض تلك العناصر متوالية في كل بيت جزءً جزءً، حتى ينتهي المنظر عرضًا وبيانًا.

والتشبيه إلى جانب ما ذكرنا أشبه بوسائل الإيضاح، ونماذج الدروس التي تسبق الشرح؛ فتذلل ما عسى أن يكون من عسر في الفهم، وتثبت معانيها في الذهن، هذا إلى خلابة البيان التي تنبعث منه انبعاث السحر، فتفعل فعلها العجيبة في النفس. يقول ابن وهب في كتابه (البرهان في وجوه البيان): "وأما التشبيه فهو من أشرف كلام العرب، وفيه تكون الفطنة والبراعة عندهم، وكلما كان المشبه منهم في تشبيهه ألطف؛ كان بالشعر أعرف، وكلما كان بالمعنى أسبق؛ كان بالحذق أليق". ويقول أبو هلال العسكري: "والتشبيه يزيد المعنى وضوحًا، ويكسبه تأكيدًا، ولهذا أطبق جميع المتكلمين من العرب والعجم عليه، ولم يستغنِ أحدٌ منهم عنه، وقد جاء عن القدماء وأهل الجاهلية ما يُستدل به على شرفه وموقعه من البلاغة". وقال الزمخشري عند قول الله تعالى: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ} (البقرة: 17): "ولضرب الأمثال واستحضار العلماء المثل والنظائر شأن ليس بالخفي في إبراز خبيئات المعاني، ورفع الأستار عن الحقائق؛ حتى يريك المتخيَّل في صورة المحقق، والمتوهم في معرض المتيقن، والغائب كأنه مشاهد، وفيه تبكيت للخصم الألد، وقمع لصورة الجامح الأبي، ولأمر ما أكثر الله في كتابه المبين أمثاله، وفشى ذلك في كلام الرسل والأنبياء والحكماء، قال تعالى: {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} (العنكبوت: 43) ".

وقد بلغ به عبد القاهر القمة فقال: "إن مما اتفق العقلاء عليه أن التمثيل إذا جاء في أعقاب المعاني، أو برزت هي باختصار في معرضه، ونُقلت من صورها الأصيلة إلى صورته؛ كساها أبهة وكسبها منقبة، ورفع من أقدارها، وشب من نارها، وضاعف قواها في تحريك النفوس لها، ودعا القلوب إليها، واستثار لها من أقاصي الأفئدة صبابة وكلفًا، وقصر الطباع على أن تعطيها محبة وشرفًا؛ فإن كان مدحًا كان أبهى، وأفخم، وأنبل في النفوس وأعظم، وأهز للعطف وأسرع للإلف، وإن كان ذمًّا؛ كان مسُّه أوجع، وميسمه ألذع، ووقعه أشد، وحدُّه أحد، وإن كان حجاجًا كان برهانه أنور، وسلطانه أقهر، وبيانه أبهر، وإن كان افتخارًا كان شأوه أمد، وشرفه أجد، ولسانه ألد، وإن كان اعتذارًا كان إلى القبول أقرب، وللقلوب أخلب، وللسخائم أسل، ولغرب الغضب أفل، وإن كان وعظًا كان أشفى للصدر، وأدعى إلى الفكر في التنبيه، والزجر، وأجدر بأن يحلي الغيابة، ويقصر الغاية، ويبرئ العليل، ويشفي الغليل. وهكذا الحكم إذا استقريت فنون القول وضروبه، وتتبعت أبوابه وشعوبه". هذا كلام ذكره الإمام عبد القاهر في (أسرار البلاغة). والبليغ غالبًا ما يُؤثر أسلوب التشبيه لما يحتويه من فوائد تعود على الأسلوب من وضوح الفكرة والمبالغة فيها، والإيجاز للوصول إلى الغرض، فإما يفيد الوضوح والبيان قوله تعالى يصور حال المشركين، وهم خارجون من القبور في انتشار وكثرة {يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ} (المعارج: 43)، ومما يفيد المبالغة قوله تعالى: {إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ كَأَنَّهُ جِمَالَةٌ صُفْرٌ} (المرسلات: 32، 33) فشررها ضخم ضخامة القصر، وقيل القصر أعناق النخل، والجمال الصفر أي: السود، وإنما سميت صفرًا؛ لأنه يشوب سوادها شيء من الصفرة، وهي ضخامة غير معهودة ولا متعارفة للشرر.

ومما يفيد المبالغة قوله تعالى: {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} (الحديد: 21) فسعة الجنة لا يدرك العقل مداها، ولا يعرف منتهاها، إما يفيد الإيجاز قوله تعالى: {كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ} (الأعراف: 29)، ومنه ما رُوي من أن الرشيد لما حج دخل مسجد الرسول -صلى الله عليه وسلم، وبعث إلى الإمام مالك بن أنس، فلما قدم بين يديه سلم عليه وسلم عليه بالخلافة، "قال: يا مالك صف لي مكان أبي بكر وعمر من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الحياة الدنيا، فقال مالك: يا أمير المؤمنين مكانهما منه كمكان قبريهما من قبره، فقال الرشيد: شفيتني يا مالك". هكذا بهذه الكلمات القليلة التي قالها الإمام مالك أفاد معانٍ كبيرة وعظيمة أغنت هذه الكلمات القليلة عن ذكرها، إلى غير ذلك مما جاء على ألسنة أهل الأدب، والعلم، والفضل مما يضيق بذكره المقام. وعندما نتناول غرابة التشبيه والمرجع فيه نحاول هنا أن نستزيد مما له شديد تعلق وصلة بأركان التشبيه التي سبق الإفاضة فيها، إذ لوحظ أن مرجع غرابة التشبيه وحسنه وبعده أحيانًا يعود إلى انتقاء الطرفين، أو أحدهما، وأحيانًا إلى اختيار الأداة على نحو ما رأينا في اختيار كأن في جواب ملكة سبأ، وأحيانًا يكون مرجعه إلى الغرض المسوق له الكلام، أو التشبيه كما سبق أن ذكرنا فيما يعود على المشبه من إمكان وجوده، أو من بيان حاله، وكذلك مما يعود على المشبه به من التشبيه المقلوب لكن غالبًا ما تكون هذه الغرابة في التشبيه مردُّها إلى وجه الشبه، ومرد تفاوت التشبيهات في الأخير بالذات واضحة جلية، وما كان منه على جهة الخصوص مركبًا حسيًّا راجع بالأساس إلى مقدرة الأديب، ونظرته الثاقبة في الهيئات والحركات التي يتكوَّن منها وجه الشبه، وإلى مقدار ما يبذله من جهد فكري في استقصاء صفات الطرفين، واستخلاص ما يُلائم منها لعقد المشابهة، ومراعاة الملائمة التامة بين اللون واللون، والشكل والشكل، والحجم

والحجم، والحركة والحركة؛ فمن يستطيع أن يبرز في وجه الشبه صفات عدة تجمع بين اللون والشكل، والمقدار والحجم، أو يضيف إلى الشكل واللون حركة معينة، أو ينوِّع في الحركة تنويعًا يضفي عليها جمالًا وروعة، من يستطع أن يصنع ذلك من الأدباء؛ يكون تشبيهه أبدع وأحسن، ونظرته أقوى وأثقب من الآخر الذي لا يستطيع فعل ذلك. ومما كان التشبيه فيه هيئة منضم إليها بعض الصفات ما جاء في قول ابن المعتز: والشمس كالمرآة في كفِّ الأشل ... لما بدت طالعة فوق الجبل فقد جمع الشاعر في وجه الشبه بين الحركة السريعة وما ينشأ عنها من تموُّج الضوء واضطرابه، وبين الإشراق والاستدارة، وذلك أنه نظر إلى الشمس عند طلوعها، وإلى المرآة في يد الأشل، فرأى فيهما إشراقًا واستدارة وحركة سريعة متصلة تتراءى لعين الناظر إلى كل منهما، وهذه الحركة قد أحدثت تموجًا في الضوء، واضطرابًا؛ فبينما تراه منبسطًا على سطح كل منهما، ويكاد يفيض من جوانبهما؛ إذا به ينقبض ويتجمع في وسطهما. فالشاعر إذن قد استطاع أن يلائم ملائمة تامة بين ما في الطرفين من لون، وشكل، وحركة مضطربة متموجة، وأن يركب من ذلك وجه الشبه؛ فهو الهيئة الحاصلة من الإشراق والاستدارة والحركة السريعة، وما ينشأ عنها من تموج الضوء واضطرابه، ولو اقتصرنا في بناء وجه الشبه على الإشراق، أو الاستدارة، وقدرنا تجرُّده من هذه الحركة ما بلغ من الدقة والحسن هذا المبلغ، من ذلك قول المهلبي الوزير يصف الشمس أيضًا عند طلوعها: والشمس من مشرقها قد بدت ... مشرقة ليس لها حاجب كأنها بوتقة أحميت ... يجول فيها ذهب ذائب

فقد جمع الشاعر هنا في وجه الشبه بين اللون والاستدارة والحركة، وما تُحدثه في اللون من تموج واضطراب، فإن البوتقة -وهو وعاء صغير يذيب فيه الصائغ الذهب والفضة- إذا أحميت وذاب فيها الذهب تُشكِّل الذهب بشكلها في الاستدارة، ويتحرك هذا الذهب فيها بجملته تلك الحركة العجيبة، كأنه يهمُّ بأن ينبسط حتى يفيض من جوانبها؛ لما في خواصه من النعومة، ثم يعود فيهبط إلى داخل البوتقة، لما بين أجزائه من شدة التلاحم والاتصال، فهو لا يقع فيه غليان على الصفة التي تكون في الماء ونحوه مما يتخلله الهواء، ولذلك يتجمع لمعان الذهب في مركز دائرته كما تجمع الضوء في مركز المرآة المستديرة في تشبيه ابن المعتز. ولولا مراعاة هذه الحركة في تركيب وجه الشبه، لما بدا التشبيه بهذه الصورة الرائعة، ومن بديع المركب الحسي ما يكون وجه الشبه فيه حركة مجردة من كل وصف، بأن يكون وجه الشبه مكونًا من هيئة الحركات الموجودة في الطرفين، دون ما نظر إلى ما عداها من سائر الصفات، ونذكر من ذلك مثلًا قول أحمد بن سليمان يصف روضة أو حديقة: حفت بسرو كالقيان تلحفت ... خضر الحرير على قوام معتدل فكأنها والريح جاء يميلها ... تبغي التعانق ثم يمنعها الخجل فهنا شبه في البيت الأول شجر السُّرِّ في اعتداله وطول قامته، وخضرة أوراقه بالجواري الحسان، ذوات القوام المعتدل، وقد تلحفَّن بالحرير الأخضر، ووجه الشبه كما هو بيِّن هو الهيئة الحاصلة من وجود أجسام منتصبة معتدلة القامة، تحيط بها أشياء ذات لون أخضر، وفي البيت الثاني شبه حركة شجر السُّرِّ، والريح يميل فروعها بعضها إلى بعض، ثم تردت إلى أصل وضعها بحركة عاشقين

تقدما في خدر، يبغيان المعانقة، ثم يفاجآن بأعين الرقباء، فيرتدان إلى حيث كانا في سرعة الخائفين المنزعجين، وجه الشبه هو الهيئة الحاصلة من تحرك جسمين حركتين متغايرتين إلى جهتين مختلفتين، تُحدث إحداهما تقارب الجسمين، وتُحدث الأخرى سرعة افتراقهما، وهي هيئة منتزعة من الحركة مجردة عن كل وصف آخر من صفات الطرفين. وقد لاحظ الشاعر أن الحركة الثانية في المشبه أسرع من الحركة الأول؛ لأن حركة الشجرة المعتدلة في حال رجوعها أسرع لا محالة من حركتها في حال خروجها من مكانها بتأثير الريح، فحقق ذلك في المشبه به بقوله "ثم يمنعها الخجل"؛ لأن الحركة المسببة عن الخجل أسرع من الحركة الأخرى. ومما يلاحظ أيضًا أن الشاعر لم يصرح بالمشبه به، فلم يقل كأن شجر السُّرِّ عاشق يبغي التعانق، بل طواه طيًّا في نظم الكلام؛ حتى خيَّل إلينا أن الشجر نفسه هو الذي أراد أن يتعانق، ثم رده الخجل. هذا كله مما زاد التشبيه حسنًا وإبداعًا، وأضفى عليه رونقًا وبهاء، وخد مثلًا قول امرئ القيس يصف جواده: مكر مفر مقبل مدبر معًا ... كجلمود صخر حطه السيل من عل فقد شبه الجواد في حركته السريعة، ولين قياده وسرعة انحرافه، حيث يُرى في لحظة واحدة يكر ويفر، ويقبل ويدبر، فبينما نرى مؤخرته إذا بنا في نفس الوقت نرى صدره فجانبيه. شبه هذا كله بجلمود الصخر دفع به السيل من أعلى الجبل، فوقع الجلمود تحت تأثير قوتين: قوة الجاذبية الأرضية، وقوة دفع السيل له؛ ولذا فهو يتحرك حركات سريعة متواصلة؛ بحيث نرى جوانبه كلها بنظرة واحدة، وفي آن واحد، ووجه الشبه هو حركة الشيء يتجه إلى جهات متعددة في سرعة فائقة تكاد ترينا جوانبه كلها في وقت واحد، بنظرة واحدة.

ومن بديع هذا المركب الحسي ما كان وجه الشبه فيه هيئة ساكنة؛ خلافًا لسابقيه الهيئة المتحركة بلا أوصاف، والهيئة المتحركة بأوصاف، نرى في هذه الصورة وجه الشبه هيئة ساكنة مأخوذة من هيئة السكون الحاصلة بين الطرفين، أو مكونا من اجتماع الألوان المجردة عن الحركة فيهما، مثلًا قول المتنبي يصف إقعاء كلب الصيد يقول: يقعي جلوس البدوي المصطلي ... بأربع مجدولة لم تجدلِ فقد شبه هيئة الكلب في إقعائه بهيئة البدوي المستدفئ بالنار، فإنه يجلس على إليتيه ورجليه مادًّا يديه إلى المدفئة، ووجه الشبه هو الهيئة المركبة الحاصلة من وقوع الأعضاء المختلفة في مواقعها الخاصة، وهذا الوجه منتزع من عدة أوضاع في الطرفين ساكنة لا حركة فيها. ومن ذلك تصوير الشعراء هيئة المصلوب، ووقوع كل عضو من أعضائه في موقع خاص، يخيم السكون عليها، فامتدت هذه الهيئة وراحت بلا حركة تغير من صورتها، وقد اختلفت الصور التي أبرز الشعراء فيها هذه الهيئة، فمنها قول الأخيطل: كأنه عاشق قد مدَّ صفحته ... يوم الوداع إلى توديع مرتحل أو قائم من نعاس فيه لوثته ... مواصل لتمطيه من الكسل فهنا شبه المصلوب في البيت الأول وهو قائم في الجذع، قد مالت عنقه إلى جانب كتفه، وفي وجهه صفرة الموت، شبهه بعاشق تجمدت حواسه في موقف الوداع، وقد مالت عنقه، وفي وجهه صفرة العشق. ووجه الشبه هو هيئة السكون الحاصلة من القامة المنتصبة، والأذرع الممتدة، والأعناق المائلة، والوجوه المصفرة، وقد طالت هذه الهيئة بلا حركة تغير من أوضاعها.

وفي البيت الثاني شبهه بقائم من نعاس لم ينشط بعدُ من لوثة النوع واسترخاء العضلات، فأخذ يتمطَّى مادًّا ذراعيه إلى جانبيه، وعنقه إلى جهة صدره، قد واصل تمطيه من شدة كسله فاستمرت هذه الهيئة، فوجه الشبه إذن هو هيئة السكون الحاصلة من القامة المنتصبة، والأعناق المائلة، والأذرع الممتدة مدًّا متواصلًا، من ذلك قول ابن الرومي: كأن له في الجو حبلًا يبوعه ... إذا ما انقضى حبل

أتيح له حبل فهنا شبه المصلوب بصورة من يقيس الحبال بذراعيه، فهو يمدها إلى جانبي كتفيه ما دام يبوع -أي: يقيس بالباع. وقد حقق الشاعر في المشبه به هيئة السكون الدائم الذي رآها في المشبه، وذلك بقوله "إذا ما انقضى حبل أتيح له حبل"، فالذي يبوع لا يحرك يديه؛ ليمرر الحبل بينهما، بل الحبل يُتاح ويمر بين يديه، فاليدان في حالة مد دائم بلا حركة، ووجه الشبه هو الهيئة الحاصلة من القامة المنتصبة، والأذرع الممتدة مدًّا متواصلًا. وبتأمل هذه التشبيهات نجد اختلافًا دقيقًا بين إبراز كل صورة منها لهيئة المصلوب وأعضائه الساكنة سكونًا متواصلًا؛ فالأخيطل في بيته الأول قد حقق الصفرة التي رآها في وجه المصلوب، وهي صفرة الموت بأن جعله كالعاشق الذي أصفر وجهه من أثر العشق، وحقق أيضًا دوام السكون بأن جعل مد الصفحة في يوم وداع ورحيل، فهو قد سكن وتحجر في مكانه لرحيل عشيقه عنه، ولكن فاته إتمام أعضاء الهيئة؛ فالمصلوب مُدَّت يداه، والعاشق قد مد يدًا واحدة، وفي بيته الثاني حقق هيئة المصلوب في القائم من النعاس بأن جعله متمطيًا مادًّا ذراعيه، ثم حقق دوام السكون لجعله التمطي متواصلًا، وبذكر سبب المواصلة، وهو اللوثة والكسل، ولكن فاته تحقيق صفرة الموت الموجودة في المصلوب. وابن الرومي في تشبيهه قد حقق هيئة المصلوب في هيئة من يبوع الحبال، حقق أيضًا دوام سكون الأعضاء واستقرارها على هيئتها بقوله: "إذا ما انقضى حبل أتيح له حبل"، وذكر كذلك السبب في إطالة مدِّ الذراعين، وهو بوع الحبال الكثيرة، فهي حبال في الجو كثيرة، وكلما انقضى حبل أُتيح له آخر، كما حقق تمام أعضاء الهيئة من مدِّ للذراعين، ومن ميل للعشق. من رائع التشبيهات التي الوجه فيها مركبًا حسيًّا تلك التشبيهات المركبة التي جاء وجه الشبه فيها حسيًّا مكونًا من اختلاط الألوان المجردة من الحركة، كقول ابن المعتز يصف زهر النرجس: كأن عيون النرجس الغض حولنا ... مداهن ضر حشوهن عقيق فقد شبه في هذا البيت زهر النرجس بمداهن ضر حشوهن عقيق، ووجه الشبه هو الهيئة المكونة من بياض قد التفَّ حول سواد أو حمرة، ويدخل في هذا الباب قوله يصف الثريا وسط الظلام: وأرى الثريا في السماء كأنها ... قدم تبدَّت من ثياب حداد هنا شبه الثريا في السماء وسط ظلام الليل بقدم بدت من ثياب أسود، ووجه الشبه هو الهيئة المكونة من بياض ظهر في وسط سواد، ومنه قول غيره: كأن أجرام النجوم لوامعًا ... دُرَرٌ نثرن على بساط أزرق فوجه الشبه في البيت هو الهيئة المكونة من أجرام بيضاء مضيئة صغيرة نثرت على صفحة شيء أزرق صافي الزرقة، فنحن إذن أمام إبداعات للشعراء جاء الوجه في كل تشبيه منها مركبًا حسيًّا، تارة جاء مكونًا من هيئة منضم إليها بعض الصفات، وتارة جاء مكونًا من هيئة مجردة من الصفات، وتارة ثالثة من هيئة ساكنة، وتارة رابعة من هيئة مكونة من اختلاط ألوان مجردة من الحركة، ومما هو شديد الصلة بما سبق من ضرورة تحرِّي عموم أجزاء، وأحوال وجه الشبه في صور التشبيه المركبة بالذات، ما جاء في قول كُثير عندما قال:

كيف يكتسب وجه الشبه من الأمور الدقيقة في أطراف التشبيه؟.

لقد أطمعتني بالوصال تبسمًا ... وبعد رجائي أعرضت وتولت كما أبرقت قومًا عطاشًا غمامة ... فلما رأوها أقشعت وتجلت فهو هنا يصور حاله مع حبيبته، وقد بدت له مبتسمة فطمع في وصالها وتمكن رجاء الوصل في نفسه، وعندئذٍ أعرضت عنه وتولت، بحال قوم عطاش لا حت لهم غمامة مطمعة ما برحت حين تمكن في أنفسهم رجاء أمطارها أن أقشعت، وانجلت، فوجه الشبه هنا هو وقوع اليأس في نفسه إثر تمكن الرجاء فيه، وهذا الوجه منتزع من الأمور المجتمعة في البيتين؛ بحيث لا يمكن الاستغناء عن بعضها، وعليه فلا يصح أن يكون المشبه هو حاله مع حبيبته، وقد لاحت له مبتسمة، وطمع في وصالها، أو أن يكون المشبه به حال قوم عطاش شديد الحاجة إلى الماء، لاحت لهم غمامة مطمعة؛ لأننا بهذا الصنيع نكون قد فصلنا أجزاء التشبيه المركب، وعقدنا المشابهة بين جزء في المشبه، ونظيره في المشبه به بوجه شبه مستقل؛ إذ يفوت بهذا الغرض الذي يرمي إليه الشاعر من التركيب. وهذا الكلام نقوله، ونؤكد عليه لأن آيات عديدة في القرآن جاء التشبيه فيها مركبًا، وإن لم يرع هذا الضابط؛ يختلُّ التشبيه في نظم القرآن. وخلاصة القول في هذا أن وجه الشبه المركب من عدة أمور لا يمكن تجريده من بعض هذه الأمور؛ لأنه مبني على اتحاد الأجزاء ومزجها، وتلاحمها. كيف يُكتسب وجه الشبه من الأمور الدقيقة في أطراف التشبيه؟ وهنا يأتي سؤال كيف يُكتسب وجه الشبه من مثل هذه الأمور الدقيقة في أطراف التشبيه المتعددة الأجزاء، أو المركبة؟ ولا نستغرب أن كنا قد تكلمنا من قبل عن وجه الشبه؛ لأن الكلام فيما سبق كان على سبيل الاختصار، أما هنا فإنما نستعرض ما جاء من غريب التشبيهات؛ لنتعرف على كيف أن هذه التشبيهات تأتي غريبة، وكيف يُجمع بين أجزاء الطرفين المشبه به والمشبه، لكن يبقى السؤال أن وجه الشبه -كما علمنا: هو الصفة الجامعة بين الطرفين، فإذا أراد المتكلم أن يعقد تشبيهًا بين أمرين؛ كان

عليه أن يحضر في ذهنه، ويحدد الصفة التي استرعت انتباهه في المشبه، ثم يغض النظر عما عداها من صفات، ويطلب نظيرًا لهذه الصفة التي استرعت انتباهه في شيء آخر يكون مشبهًا به، ويجب أن تكون هذه الصفة بارزة في المشبه به، ويتحتم على المتكلم أن يغض النظر عما في المشبه به من صفات أخرى غير هذه الصفة، وعما بين الطرفين من تباين أو تباعد. فمثلًا إذا استرعى انتباه المتكلم شجاعة رجل، فطلب لها نظيرًا في الأسد مثلًا؛ وجب عليه أن يصرف نظره عما في الرجل والأسد من صفات أخرى غير الشجاعة، وأن يغض بصره عما بينهما من تباين في الجنس. وإذا لفت نظره هيئة المصلوب، فوجد نظيرًا لها في قائم من نعاس يتمطى؛ أعرض عما بينهما من اختلاف الحياة والموت؛ ولذا كان لزامًا على الناقد أن يقف على وجه نظر الأديب، وأن يتحقق من غرضه، فلا يقول مثلًا: كيف يشبه الرجل الشريف الإنسان بحيوان مفترس، وكيف يشبه السفينة الضخمة بحيوان صغير الحجم، وكيف يشبه المصلوب بقائم يتمطى من نعاس، والحياة ما تزال تدبُّ في جسم المتمطي. كذلك نقول مثل هذا في القرآن الكريم، فلا ينبغي أن نغض الطرف عن جزء في المشبه أو المشبه به، دون أن يراعى في تحقيق وجه الشبه. هذا وقد لاحظ البلاغيون أنه حتى مع حذف وجه الشبه، فإنه يُستعلم على دقة التشبيه وخفائه بما يدل على وجه الشبه، وذلك إما بوصف مشبه به بصفة يُفهم منها هذا الوجه المحذوف، كقول كعب الأشقري مثلًا في وصف بني المهلب للحجاج لما سأله عنهم، فقال: هم كالحلقة المفرغة لا يُدرى أين طرفاها. فقد وصف المشبه به، وهو الحلقة المفرغة بأنها ليست معلومة الأطراف، وهذا الوصف أومأ إلى وجه الشبه، ودلَّ على أنه التناسب الكلي الخالي من التفاوت،

ولا شك أن الانتقال من تناسب أجزاء الحلقة إلى تناسبهم في الشرف، غاية في الدقة؛ لأن العامة يتبادر إلى ذهنهم تناسبهم في الصورة مثلًا، أو في الشكل، ولا يدرك التناسب الكلي إلا الخاصة، ولذا احتاج التشبيه إلى وصف المشبه به بهذا الوصف الذي أومأ إلى وجه الشبه، ودلَّ على أنه التناسب الكلي الخالي من التفاوت، ومن ذلك قول شاعر آخر: وإنا وما تلقى لنا إن هجوتنا ... لكالبحر مهما تلقى في البحر يغرق فوجه الشبه هو عدم ظهور الأثر في كل منهما، يريد أن هجاءه لهم لا يؤثر فيهم لأصالتهم في الشرف، وعراقتهم في المجد، كما لا يؤثر في البحر ما يُلقى فيه من أوساخ وأقذار. وقد أومأت الجملة الحالية وهي "مهما تلقى في البحر يغرق"، والتي وقعت وصفًا للمشبه به البحر، أومأت إلى وجه الشبه، ودلت عليه، ومن ذلك أيضًا قول النابغة: فإنك شمس والملوك كواكب ... إذا طلعت لم يبد منهن كوكب حيث شبه الممدوح والملوك بالشمس والكواكب، وجملة "إذا طلعت لم يبد منهن كوكب" وقعت وصفًا للمشبهين بهما، فأنبأت عن وجه الشبه المحذوف، ودلت عليه، وهو القوة الكبرى التي تستر ما عداها؛ فالشاعر إذن يريد أن عزة الممدوح، وسلطانه، وفضائله تُخفي ما لسائر الملوك من قوة، وعزة، ومكارم، كما تخفي الشمس إذا طلعت أضواء الكواكب؛ ففي كل ما سبق نلحظ أن وجه الشبه المحذوف قد دلَّ عليه صفة المشبه به، التي فُهمت من خلال السياق. قد يكون الدَّالُّ على وجه الشبه المحذوف وصفًا للمشبه والمشبه به معًا، كما جاء مثلًا في قول أبي تمام:

صدفت عنه ولم تصدف مواهبه ... عني وعاوده ظني فلم يخب كالغيث إن جئته وفاك ريقه ... وإن ترحلت عنه لجَّ في الطلب وهنا نرى أنه شبه الممدوح بالغيث، ووجه الشبه هو الإفاضة والإحسان في حال الإقبال، وفي حال الإعراض، وقد أنبأ بهذا الوجه ودلَّ عليه وصف المشبه بأن عطاياه لا تنقطع في حال الغيبة وحال الحضور، ووصف المشبه به كذلك وهو الغيث بأنه يوافيك بمائه الصافي إن طلبته، وإن ترحلت عنه اجتهد في إمدادك به، ولو لم يوصف الطرفان بهذين الوصفين؛ لتبادر إلى ذهن العامة أن المقصود مجرد تشبيه الممدوح بالغيث في كثرة العطاء. هكذا نلحظ دقة وجه الشبه في استحضاره من خلال أجزاء الطرفين، ومن خلال وصف المشبه أو المشبه به، ومن أهم العوامل الموجبة لغرابة التشبيه أن يكون المشبه به نادر الحضور في الذهن؛ لكونه من الأمور الوهمية، كما في تشبيه السنان بأنياب الأغوال في بيت امرئ القيس، أو من المركبات الخيالية كتشبيه محمر الشقيق بأعلام ياقوت نُشرن على رماح من زبرجد، فالأمور الوهمية، والمركبات الخيالية لا تحقق لوجودها، فهي نادرة الحضور في الذهن. وقد يكون المشبه به له وجود محقق إلا أنه لا يتكرر على الحس، ولا يخطر بالبال، إلا بعد تفكير طويل، كتشبيه الشمس بالمرآة في كف الأشل؛ إذ المرآة في يد الأشل من الأمور التي لا يقع عليها البصر إلا نادرًا، فربما قضى الإنسان عمره، ولم يتفق له أن يرى مرآة في يد الأشل، ومن ذلك تشبيه حال الذين حُملوا التوراة ثم لم يحملوها بحال الحمار يحمل كتب العلم في قوله تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارً} (الجمعة: 5)، فصورة الحمار يحمل أسفارًا من الصور التي لا تتكرَّر على الحس، وجه الشبه من المركبات العقلية التي يُتعذَّر استخراجها من الطرفين على غير الخاصة.

وما من شك في أن ندرة حضور المشبه به في الذهن تقتضي خفاء وجه الشبه، وقدرة إدراكه؛ لأن الوجه وصف منتزع من الطرفين، فإذا خفي أحد الطرفين، وندر حضوره بالذهن؛ خفي وجه الشبه وندر إدراكه وتعذره على العامة. أيضًا من العوامل الموجبة لغرابة التشبيه أن يكون المشبه به نادر الحضور في الذهن عند ذكر المشبه البعيد الصلة بينهما، كذا نلحظ أن هناك ما يكون عاملًا موجبًا للغرابة يلحق بوجه الشبه، وما يكون عاملًا موجبًا للغرابة في التشبيه يلحق بالمشبه أو المشبه به، فقلنا أن من ذلك أن يكون المشبه به نادر الحضور في الذهن عند ذكر المشبه؛ لبعد الصلة بينهما، من ذلك قول ابن المعتز يصف زهر البنفسج: ولاذ وردية تزهو بزرقتها ... بين الرياض على حمر اليواقيت كأنها فوق قامات ضعفن بها ... أوائل النار في أطراف كبريت فقد شبه زهر البنفسج بأوائل النار في أطراف كبريت، ولا مناسبة بين الطرفين، المشبه زهر نادى يفوح عطرًا، والمشبه به نار يابسة محرقة، فهما جنسان متباعدان، يندر أن يحضر المشبه به في الذهن عند حضور المشبه، وقد جمع الشاعر بينهما على الرغم من هذا التنافر؛ فاكتسب التشبيه غرابة وبعدًا. ومن ذلك تشبيه الشعر بالنار، والبرق بمصحف القاري، وإبرة روق الأغن بقلم أصاب من الدواة مدادًا، فالبون شاسع بين الطرفين في كل هذه التشبيهات كما لا يخفى، ولهذا كانت تشبيهات غريبة بعيدة. من العوامل الموجبة أيضًا لغرابة التشبيه ما يجعله مؤثرًا في النفس أن يكون وجه الشبه كثير التفصيل، ومن ذلك ما مر من تشبيه الشمس بالمرآة في كف الأشل؛ حيث روعي في وجه الشبه الشكل واللون والحركة المضطربة المستمرة، التي ينشأ عنها تموج الضوء، ومعنى التفصيل في وجه الشبه إطالة النظر والتأمل في صفات كل من الطرفين؛ لمعرفة ما تقع به المشاركة بينهما، وما تقع به المخالفة.

ثم تتأمل الصفات المشتركة بين الطرفين هل هي موجودة في كلا الطرفين بدرجة واحدة، أم بينهما تفاوت، وهل هذا التفاوت يفسد الغرض من التشبيه، إن كان يفسده؛ فعلى الأديب أن يجمع، ويفرق، ويثبت، ويحذف من صفات كل طرف حتى يستقيم التشبيه، ويتحقق الغرض الذي يرمي إليه فالمراد بالتفصيل إذن ألا ننظر في صفات الطرفين نظرة إجمالية؛ بل نظرة تفصيلية دقيقة، ويتضح لنا ذلك من خلال هذه الشواهد التي ذكرناها، ومن خلال قول امرئ القيس أيضًا: حملت ردينيًّا كأن سنانه ... سنا لهب لم يتصل بدخان فهنا نراه شبه سنان الرمح بسنا اللهب في الإشراق، ولكنه لاحظ أن السنا يحوي الدخان الذي يؤثر في وجه الشبه؛ فحذف هذا الدخان وانتزعه من السنا بقوله "لم يتصل بدخان"، فزاد السنا بهذا تألقًا وضياء، وتمَّ تحقق الشبه بين الطرفين، ومن ذلك أيضًا قول ابن المعتز يصف طلوع الفجر: كأن وضوء الصبح يستعجل الدجى ... نطير غرابًا ذا قوادم جواني فهنا شبه سواد الليل وقد بدت في جوانبه لمع مضيئة من نور الفجر بغراب أسود في أطرف جناحيه ريشات بيض، تظهر لامعة في سواده، ووجه الشبه هو الهيئة المكونة من اجتماع البياض والسواد، وأن السواد أخذ يتبدد في عجلة أمام البياض الذي انتشر في حواشيه وجوانبه. وقد تخيل الشاعر أن ضوء الصبح يسوق ظلام الليل، ويستعجله ولما لم يجد نظير ذلك في الغراب أضاف إلى صفته أنه كان حبيسًا في يدي قانص ثم أطير، فهو يتابع طيرانه ويجد فيه، وحقق ابن المعتز بهذه الإضافة الشبه كاملًا بين الطرفين، ولو أنه اكتفى بذكر الغراب وبياض قوادمه، ولم يجعله طائرًا، أو جعله طائرًا من تلقاء نفسه لا عن انزعاج؛ لاختلَّ التشبيه، ولما كان لقوله يستعجل الدجى نظير في المشبه به.

هذا وتختلف مرتبة التفصيل في وجه الشبه باختلاف الأمور المرعية، والصفات المعتبرة في الطرفين، فأدنى مراتبه ما رُوعي فيه وصف واحد، كتشبيه البنفسج مثلًا بأوائل النار في أطراف كبريت، بجامع الحمرة الصافية التي لا يشوبها لون آخر، وأعلى من هذا ما روعي فيه أمران كاجتماع البياض والسواد في تشبيه غُرة الفرس وسط وجهه الأسود بإشراق الصبح في جوانب الليل، وما روعي فيه ثلاثة أمور أعلى مما روعي فيه أمران، وهكذا حتى تبلغ الغاية في نحو قول الله تعالى: {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ} (يونس: 24). فقد اجتمعت في هذه الآية المباركة عشر جمل في جانب المشبه به، كل جملة منها تفيد وصفًا لا تفيده الأخرى، وهذه الأوصاف قد تضامت والتحمت؛ لأداء وجه الشبه بين الطرفين، وصارت كأنها جملة واحدة؛ بحيث لو حُذف منها شيء؛ لأخلَّ ذلك الحذف بالمغزى من التشبيه، وما يلاحظ في الآية الكريمة أن هذه الجمل المتتابعة قد وقعت صفة لاسم نكرة، هي "ما" وقد ولي أداة التشبيه. ومن هذه المراتب العالية في تحصيل وجه الشبه، وفي وجود تفصيلات في وجه الشبه قول النبي -صلى الله عليه وسلم- ((الناس كإبل مائة لا تجد فيها راحلة))، فجملة ((لا تجد فيها راحلة)) وقعت صفة ((لإبل مائة))، والمراد أن الكامل في الناس قليل، فكل مائة لا تجد فيهم واحدًا يوصف بالكمال، وقد يلي أداة التشبيه اسم موصول، فتقع الجملة بعده صلة له كقوله تعالى: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ} (البقرة: 17)، أو اسم معرفة غير موصول، فتكون الجملة بعده مستأنفة جوابًا لسؤال مقدر، وهو ما يسمى لدى

البلاغيين بشبه كمال الاتصال، مثل قوله تعالى مثلًا {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا} (العنكبوت: 41). فجملة {اتَّخَذَتْ بَيْتًا} وقعت جوابًا لسؤال مسار تقديره ما حالها، وسواء ولي الأداة اسم نكرة أو معرفة موصول، أو غير موصول، فإن وجه الشبه هيئة تركيبية منتزعة من مجموع الجمل الواقعة بعد الاسم، ولا يمكن أن يكون هذا الاسم هو المشبه به؛ لاستحالة استقلاله بالدلالة على المقصود من التشبيه بدون الجمل المذكورة بعده، وإنما احتيج إليه ليكون ركيزة تعتمد عليها تلك الجمل المتتالية التي يتكون منها المشبه به. وإنما تُعدُّ التشبيهات البعيدة الغريبة في الحقيقة من أبلغ التشبيهات، وألطفها، وأكثرها تأثيرًا في النفس؛ لأنها تحتاج -كما قلنا- إلى إعمال الفكر، وإطالة النظر في أحوال الطرفين، والتفتيش في صفاتهما للوقوف على وجه الشبه بينهما، والشيء إذا نيل بعد طلب وتفكير طويل؛ يكون أوقع في النفس، وأشد تأثيرًا، وألصق في الذهن وأثبت. وثمة وسائل أخرى للتصرف في التشبيه القريب حتى يكون تشبيهًا بعيدًا غريبًا، من هذه الوسائل أن يثبت للمشبه به صفة لا يتأتى وصفه بها، ثم ينتزعها منه، ويبني على انتزاعها تصوير المشبه على المشبه به، مثل قول المتنبي: لم تلق هذا الوجه شمس نهارنا ... إلا بوجه ليس فيه حياء فتشبيه الوجه بالشمس تشبيه قريب مبتذل، لكن المتنبي تصرف فيه بجعله الحياء صفة من صفات الشمس، ثم تبعها منها، وجعل الشمس تفقد حياءها بجرأتها على الظهور أمام الممدوح، وهذا التصرف أكسب التشبيه غرابة، وأزال عنه صفة الابتذال والقرب.

ومن وسائل تحويل التشبيه القريب إلى بعيد أن يضيف البليغ، أو الشاعر إلى التشبيه ما يفيد تساوي الطرفين في وجه الشبه؛ بحيث لا نستطيع أن نُحدِّد أيهما مشبه، وأيهما مشبه به، كقول أبي تمام مثلًا: فردت علينا الشمس والليل راغم ... بشمس لهم من جانب الخدر تطلع فو الله ما أدري أأحلام نائم ... ألمت بنا أم كان في الركب يوشع فهنا استعار لفظ الشمس لحبيبته الحسناء، فهي إذن استعارة مبنية على تشبيه الحسناء بالشمس، وتشبيه الحسان أو وجوههن بالشمس تشبيه قريب، فصيره غريبًا بما أضافه إليه من تساؤلات تسوِّي بين الطرفين؛ مبالغة في إضاءة وجه الحبيبة التي بدت من جانب الخدر، فبددت ظلام الليل، وبدت جوانب الأفق مضيئة ساطعة، وعندئذٍ تعجب وتساءل في حيرة أهذا الذي أرى حلمًا، أم وجه الحبيبة أزاح ظلمة الليل، أم كان يوشع -عليه السلام- في ركب القوم؛ فرد بدعائه الشمس بعد مغيبها هذا التشكك، وتلك التساؤلات سوَّت بين الطرفين، وحولت التشبيه من قريب مبتذل إلى بعيد غريب. من وسائل تحويل التشبيه إلى بعيد التشبيه المشروط أن يقيد المشبه أو المشبه به بقيد يبرز فضل المشبه على المشبه به، وذلك كالتقييد بأسلوب الشرط، أو الاستثناء، أو الاستدراك من ذلك مثلًا قول شاعر: عزماته مثل النجوم ثواقب ... لو لم يكن للثاقبات أفول فهنا شبه عزائم الممدوح بالنجوم التي تثقب الظلام وتبدده، وتشبيه العزائم بالنجوم قريب مبتذل، فصيره الشاعر بهذا الشرط بعيدًا غريبًا؛ إذ جعل العزائم تفوق النجوم وتفضلها؛ لأنها نافذة الأثر على الدوام، والنجوم أثرها مقصور على وقت طلوعها دون وقت أفولها، ومن ذلك قول آخر:

مها الوحش إلا أن هاتا أوانس ... قنا الخط إلا أن تلك زوابل فهنا شبه النساء ببقر الوحش في جمال العيون، وهو تشبيه قريب مبتذل، وكذلك تشبيههنََّ بالرماح الخطية في اعتدال القامة، لكنه أضاف هذا الشرط الاستثناء فحول التشبيهين إلى تشبيهات غريبة، ومما جاء كذلك بأسلوب الاستدراك: ألا يا رياض الحزن من أبرك الحمى ... نسيمك مسروق ووصفك منتحل حكيت أبا سعد فنشرك نشره ... ولكن له صدق الهوى ولك الملل من ذلك أيضًا قلب التشبيه، كما سبق، وأن ذكرنا في بيت البحتري: في طلعة البدر شيء من محاسنها ... وللقضيب نصيب من تثنيها كذلك من وسائل تحويل التشبيه القريب إلى تشبيه بعيد غريب الجمع بين عدة تشبيهات؛ حتى يخرج التشبيه عن الابتذال، فتُجمع هذه التشبيهات، وكلها تدور في نطاق واحد، كما جاء في قول البحتري مثلا: كأنما يقسم عن لؤلؤ ... منضدد أو برد أو أقاح فقد شبه ثغر المرأة المبتسم باللؤلؤ المنظوم، والبرد، والأقاح، وبهذا الجمع تحول التشبيه إلى الغرابة والبعد، وكذلك قول امرئ القيس: له أيطلى ظبي وساقا نعامة ... وإرخاء سرحان وتقرير تتفلي فشبه خاصرتي جواده بخاصرتي الظبي في الضمور، وشبه ساقيه أيضًا بساقي النعامة في الصلابة والمتانة، وشبه جريه بإرخاء السرحان في السهولة واللين، وشبه عدوه أيضًا في سرعة بتقريب ولد الثعلب، وكلها تشبيهات تدور حول الفرس؛ فصارت بهذا الجمع بعيدة غريبة، وازدادت لطفًا وحسنًا. وجزاكم الله خيرا. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الدرس: 6 المجاز اللغوي.

الدرس: 6 المجاز اللغوي.

تعريف الحقيقة، وبيان أقسامها باعتبار المصطلح.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس السادس (المجاز اللغوي) تعريف الحقيقة، وبيان أقسامها باعتبار المصطلح الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، ثم أما بعد: فبعد أن فرغنا من الحديث عن التشبيه نعرض لمعنى وأقسام المجاز اللغوي، والفرق بينه وبين التشبيه محذوف الوجه والأداة المسمى بالتشبيه البليغ، أو محذوفهما مع المشبه، وبينه كذلك وبين المجاز العقلي، وبينه وبين الكناية؛ فالفروق بين هذه الألوان من البيان من الأهمية بمكان، ومن المعلوم أن المجاز هو قسيم الحقيقة؛ ولذا ناسب قبل أن نعرف بالمجاز اللغوي أن نعرف أولًا بالحقيقة اللغوية. فما المراد إذن بالحقيقة اللغوية؟ الحقيقة في اللغة: ما أقر في الاستعمال على أصل وضعه، والمجاز ما كان بضد ذلك، وإنما يقع المجاز ويُعدل إليه عن الحقيقة لمعانٍ ثلاثة: الاتساع، والتوكيد، والتشبيه، فإن عُدم هذه الأوصاف؛ كانت الحقيقة البتة هذا كلام ابن منظور في كتابه (لسان العرب) في معنى كلمة حقيقة، والحقيقة والمجاز إذا أُطلقا انصرفا إلى الحقيقة اللغوية والمجاز اللغوي، ولا يحتاجان إلى تقيدهما باللغويين، إلا في مقام المقارنة بينهما وبين الحقيقة العقلية، والمجاز العقلي، للتفرقة بينهم. أما في اصطلاح البلاغيين فالحقيقة: هي الكلمة المستعملة فيما وُضعت له في الاصطلاح الذي جرى به التخاطب، فلفظ الأسد مثلًا إذا استعمل في الحيوان المفترس كان حقيقة لاستعماله فيما وضع له، ونلاحظ في التعريف أن الكلمة قد قيدت بثلاث قيود: أولها: كونها مستعملة؛ لأن الكلمة المهملة التي وضعها الواضع ولم تستعمل لا تدخل معنا في اللغة، فلا تسمى حقيقة، كما لا تسمى مجازًا.

ثانيها: هو قولهم "فيما وضعت له"، فقد خرج بهذا القيد الكلمة المستعملة في غير ما وضعت له في جميع الاصطلاحات اللغوية والشرعية والعرفية، فإنها تكون مجازًا، وخرج بهذه الكلمة أيضًا الخطأ اللساني، وهو ما استعمل في غير ما وضع له خطأ، كقولك مثلًا لصاحبك: خذ هذا الفرس مشيرًا إلى كتاب، فمثل هذا لا يسمى حقيقة؛ لاستعماله في غير ما وضع له، ولا يسمى مجازًا؛ لعدم وجود علاقة بين الفرس والكتاب، والمراد بالوضع هنا دلالة اللفظ على معناه بنفسه من غير قرينة؛ فدلالة اللفظ على معناه المجازي ليست وضعية؛ لاحتياجه إلى القرينة المانعة من إرادة المعنى الوضعي، ودلالة المشترك اللفظي على أحد معنييه الموضوعين له وضعية؛ لأن القرينة التي احتاج إليها المشترك اللفظي قرينة معينة لأحد المعنيين الموضوع لهما اللفظ لغة، وليست كقرينة المجاز المانعة من إرادة المعنى الأصلي. ثالث هذه القيود التي ذكرت في تعريف الحقيقة اللغوية قولهم "في اصطلاح التخاطب": فقد خرج بذلك الكلمة التي يستعملها اللغوي في غير ما وضعت له في اصطلاحه، كالصلاة مثلًا يستعملها الشرعي في الدعاء، فهي مجاز بحسب اصطلاحه، وإن كانت حقيقة في الاصطلاح اللغوي. هذا وتنقسم الحقيقة باعتبار المصطلح الذي ترجع إليه إلى أربعة أقسام: فهناك الحقيقة اللغوية. هناك الحقيقة الشرعية. هناك الحقيقة العرفية الخاصة. وهناك الحقيقة العرفية العامة.

الحقيقة اللغوية: هي ما وضعها واضع اللغة، ودلت على معنى مصطلح عليه في تلك المواضعة، كاستعمال لفظ الإنسان والفرس والجبل إلى غير ذلك من الألفاظ في معانيها الموضوعة لها في عرف اللغة. أما الحقيقة الشرعية: فهي اللفظة التي يضعها أهل الشرع لمعنى غير ما كانت تدل عليه في أصل وضعها اللغوي، كالصلاة، والزكاة، والسجود، والركوع، والكفر، والإيمان، والإسلام؛ فهذه الألفاظ نُسيت معانيها اللغوية، ودلَّت بالشرع على معانٍ أخرى صارت فيها حقائق شرعية، ومرجع الدلالة فيها إلى اصطلاح أرباب الشرع. الحقيقة العرفية الخاصة: هي ما كان مرجع الدلالة فيها إلى عرف خاص كاستعمال لفظ المبتدأ والخبر، والفاعل، والمفعول، والرفع، والنصب إلى غير ذلك في معانيها المصطلح عليها في عرف النحويين؛ فقد صارت هذه الألفاظ حقائق في معانيها التي اصطلح عليها نحويًّا، ونسي النحاة معانيها اللغوية، وكذا استعمال الاستعارة والتشبيه والمجاز عند البلاغيين، والعرض والجوهر عند المتكلمين، وهكذا أهل كل فن وصناعة. أما الحقيقة العرفية العامة: فهي ما كان مرجع الدلالة فيها إلى عرف عام كاستعمال لفظ الدابة عند كثير من الناس في الدلالة على الحيوان، فهي موضوعة في أصل اللغة؛ للدلالة على كل ما دبَّ على وجه الأرض قال تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} (هود: 6)، فصار استعمالها في الدلالة على الحيوان حقيقةً في عرفهم، ولو أطلقوها على معناها الوضعي لكانت مجازًا عند أرباب هذا العرف العام، هذا عن الحقيقة في معناها اللغوي والاصطلاحي.

تعريف المجاز.

تعريف المجاز أما المجاز: فهو إن كان بمعنى الجواز والتعدية من: جاز المكان يجوزه إذا تعدَّاه وقطعه؛ فالكلمة تكون مصدرًا ميميًّا على وزن مَفْعَل، وقد سميت به الكلمة التي جازت مكانها الأصلي، وتعدته لغيره، أو التي جاز بها المتكلم معناها الأصلي إلى غيره. أما إن كان بمعنى مكان الجواز والتعدية من قولهم: "جعلت هذا مجازًا إلى حاجتي" أي: طريقًا إليها، فهو من جاز المكان أي: سار فيه وسلكه إلى كذا، لا من جازه إذا تعداه، فيكون لفظ المجاز اسم مكان، وقد أطلق على الكلمة المستعملة في غير ما وضعت له باعتبار أنها طريق إلى تصور المعنى المراد منها. والمجاز اللغوي في اصطلاح البلاغيين: هو الكلمة المستعملة في غير ما وضعت له في اصطلاح التخاطب على وجه يصح مع قرينة مانعة من إرادة المعنى الأصلي، فخرج بالكلمة المستعملة الكلمة قبل الاستعمال، فإنها لا تسمى حقيقة ولا تسمى مجازًا على نحو ما مر بنا في تعريف الحقيقة، وخرج بغير ما وضعت له الحقيقة؛ فإنها مستعملة فيما وضعت له. وقولنا "في اصطلاح التخاطب": إشارة إلى أن المعتبر في تحديد المجاز أو الحقيقة هو الاصطلاح الذي يقع به التخاطب؛ فالشرعي مثلًا إذا استعمل لفظ الصلاة في الدعاء كانت مجازًا، وإذا استعملها في الأركان الخاصة كانت حقيقة في عرفه، والبلاغي إذا استعمل الكناية في الستر والخفاء؛ كانت مجازًا، ولفظ الدابة إذا استعمل عند أرباب العرف العام في الدلالة على الإنسان كان مجازًا، وإن كانت مستعملة فيما وضعت له في اصطلاح أهل اللغة.

المجاز بين التقرير والإنكار.

وقولنا "على وجه يصح": إشارة إلى وجوب العلاقة الرابطة بين المعنى المجازي والمعنى الذي وضع له اللفظ، وخرج بذلك الغلط اللساني، كأن تشير إلى حجر، وتقول لشخص مثلًا: خُذ هذا الفرس، فاستعمال لفظ الفرس لا يُسمى مجازًا؛ لأنه لا علاقة بين الحجر والفرس، والقرينة في التعريف هي الأمر الذي يجعله المتكلم دليلًا على أنه المراد باللفظ غير المعنى الموضوع له، وتقييدها بالمانعة احترازًا عن الكناية؛ لأن قرينتها لا تمنع إرادة المعنى الأصلي مع المعنى الكنائي. المجاز بين التقرير والإنكار قد كان المجاز قديمًا وحديثًا مثار نقاش حادٍّ بين أهل العلم، فقد ذهب بعضهم إلى أن اللغة كلها حقيقة، ويُنكرون المجاز على الإطلاق، ويذهبون إلى أنه غير وارد في القرآن، ولا في كلام الناس، وحجتهم أن المجاز أخو الكذب، والقرآن منزَّه عنه، وأن المتكلم لا يعدل إلى المجاز إلا إذا ضاقت به الحقيقة، ويزعم آخرون أن أكثر اللغة عند التأمل مجاز لا حقيقة، وقولنا قام زيد -مثلًا- مجاز؛ لأن زيدًا لم يفعل كل القيام، بل فعل بعضه، فهو من وضع الكل موضع البعض؛ للاتساع والتوكيد، ولذا يقال: قام قومة وقومتين، وقيامًا حسنًا وقيامًا قبيحًا، وكذا قولنا ضربت زيدًا، مجاز أيضًا؛ لأن القائل فعل بعض الضرب لا كله، ولأنه ضرب بعض زيد لا جميعه، فقد ضرب يده، أو رجله أو ناحية من نواحي جسده، ولهذا فإنه إذا احتاط جاء ببدل البعض، فيقول: ضربت زيدًا رأسه، أو كتفه، وهذان الرأيان مبنيان على خطأ في التصور، وعلى كثير من التدقيق الذي تنفر منه طبيعة هذه اللغة، ويتضح ذلك فيما يلي:

أولًا: أن المجاز قد ورد في اللغة وفي القرآن الكريم، فنحن نقول مثلًا: رأيت أسدًا، وتريد رجلًا شجاعًا، والله -عز وجل- يقول: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} (يوسف: 82)، ويقول: {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ} (الإسراء: 24) والقرية لا تسأل، وليس للذل جناح، فالمعنى على المجاز. ثانيًا: أن المجاز يُفارق الكذب، في أن الكذب لا تأويل فيه، والمجاز مبني على الصرف عن الظاهر والتأويل، وذلك بادعاء دخول المشبه في جنس المشبه به، وصيرورته فردًا من أفراده. كما أن المجاز لا بد فيه من نصب قرينة على إرادة خلاف الظاهر من اللفظ مانعة من إرادة المعنى الحقيقي له. أما الكذب فليس فيه قرينة على إرادة غير الظاهر، بل إن قائله يبذل قصارى جهده لترويج ظاهره، وإبراز صحة باطله. ثالثًا: أن القائلين بأن أكثر اللغة مجاز قد بنوا رأيهم على كثير من التدقيق الذي تنفر من طبيعة اللغة؛ لأنه تدقيق لا يصل بنا إلى غاية مرجوُّة، ولو قلنا -مثلًا- مرض زيد، أفادت هذه الجملة الإخبار بمرض زيد، ولو ذهبنا ندقق أي مرض أصابه، وأي جزء منه مرض، وإذا كان الجزء المريض من زيد هو الإصبع، فأي موضع منه، وأي أصبع من أصابعه، وهل كل الإصبع، أم إحدى أنامله؟ للاحظنا أن هذا تدقيق لا غاية وراءه، ولا فائدة ترتجى منه، بل إن طبيعة اللغة وعفوية الدلالة تتنافى معه وتأباه تمامًا، وبهذا يتضح لنا أن إنكار الحقيقة في اللغة إفراط، وإنكار المجاز تفريط؛ فالمجازات لا يمكن دفعها، والحقائق لا يتأتى إنكارها، الرأي السديد هو أن اللغة والقرآن الكريم يشتملان على الحقائق والمجازات معًا، فما كان من الألفاظ مفيدًا لما وضع له في الأصل فهو حقيقة، وما

أفاد غير ما وضع له في الأصل فهو مجاز، والمقام هو الذي يُحدِّد ما يقتضي استعماله من حقائق، أو العدول عنها إلى المجازات. وبرأيي أن السبب في إنكار المجاز: مرجعه إلى القول بوجود المجاز فيما يتعلق بصفات الله تعالى، وصرفها عن ظاهرها، وقد قال بذلك أهل الكلام مقلّدين في ذلك المعتزلة، وانساق وراء أهل الكلام فيما ذهبوا إليه -للأسف- علماء البلاغة، وقد تصدى ابن قتيبة المتوفى سنة 276 لعلماء الكلام، وبخاصة المعتزلة المبالغين في المجاز، والمغالين في التأويل، فيحكي عنهم وجهتم في المجاز، ومقالتهم في التأويل، فيقول: ذهب قوم في قول الله -عز وجل- وكلامه إلى أنه ليس قولًا، ولا كلامًا على الحقيقة، وإنما هو إيجاد للمعاني، وصرفه في كثير من القرآن إلى المجاز، ثم ينقل بعض أقوالهم في هذا مع شواهدها من الشعر مثل قوله تعالى للسموات والأرض: {اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} (فصلت: 11) فلم يقل الله، ولِمَ يقولُ: وكيف يخاطب الله معدومًا، وإنما هي عبارة لتكوينهما فكانتا، كما قال الشاعر حكاية عن ناقته: تقول إذا درأت لها وضيني ... أهكذا دينه أبدًا وديني أكل الدهر حلٌّ وارتحال ... أما يبقي علي ولا يقيني معنى كلمة درأت أي: بسطت، والوضين هو بساط عريض من شعر يقولون: وهي -أي الناقة- لم تقل شيئًا من هذا، ولكن رآها في حال من الجهد والكلال، فقضى عليها بأنها لو كانت ممن يقوله لقالت مثل الذي ذكرت، واستدلوا كذلك بقول آخر: شكى إلي جملي طول السرى ... .... ............... ................

والجمل لم يشكُ ولكنه خبر عن كثرة أخباره، وإتعابه جمله، وقضى على ذلك الجمل بأنه ولو كان متكلمًا لاشتكى ما به، وكقول عنترة مثلًا في فرسه: فازور من وقع القنا بلبانه ... وشكى إلي بعبرة وتحمحم لما كان الذي أصابه يُشتكى مثله، ويستعبر منه جعله مشتكيًا ومستعبرًا، وليس هناك شكوة ولا عبرة، ففي رأيهم أن السماء والأرض من مخلوقات الله الصامتة الجامدة التي لا تنطق ولا تبين، لكنها لو كانت ممن ينطق لنطقت، وكانت في الانقياد والخضوع كالحي المتكلم، وناقة يراها الشاعر ويعاين ما عليها من أثر التعب والعناء، فيشعر ما رثاثة حالها بأنها لو تكلمت لجأرت إليه بالشكوى، ورفعت صوتها بالدعاء، عنترة يرى ما أصاب فرسه من الطعان، وما نال صدره من السهام؛ فيرسل الفرس صهيله، ويطلق عويله، وكأنه يشكو الوجع، ويتبرم من الألم، وللرد على ذلك نقول: إن هذا لون من ألوان التصوير يمكن أن نسميه التشخيص يتمثَّل في خلع الحياة على المواد الجامدة، والظواهر الطبيعية هذه الحياة التي ترتقي فتصبح حياة إنسانية، ويهب لهذه الأشياء كلها عواطف آدمية، وخلجات إنسانية تشارك بها الآدميين، وتأخذ منهم وتعطي. هذا الكلام السابق ذكره الشيخ سيد سابق في كتابه (التصوير الفني في القرآن الكريم)، ونحن حينما نحلل هذا التشخيص نرى أن هناك تشبيهًا مضمرًا في النفس؛ نتيجة لعمق العاطفة وسعة الخيال، فمثلًا في الآية القرآنية {فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} (فصلت: 11) شُبهت السماء والأرض في انقيادهما وخضوعهما وطاعتهما لله بإنسان يتميز بصفة القول، والإتيان، ودلَّ على هذا التشبيه بإثبات لازم المشبه به، وهو القول والإتيان للمشبه، ودلَّ على هذا التشبيه بإثباته لازم المشبه به، وهو القول والإتيان للمشبه، وهذا ما عُرف بالاستعارة بالكناية، وإسناد القول والإتيان إليهما قرينة الاستعارة، وأطلق البلاغيون على تلك القرينة استعارة تخييلية.

كذلك في أبيات الشعر شبه الجمل بإنسان له خاصية التمييز والشكوى، ودلَّ على هذا التشبيه بإثبات لازم المشبه به، وهو القول والشكوى للمشبه وإسناد القول والشكوى إلى الجمل قرينة مكنية، وقد سميت استعارة تخييلية. إذن فهذا مخرج من هؤلاء الذين أنكروا أن يكون الله -عز وجل- لم يخاطب السموات والأرض، ولم يقل لهما: {اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا}، فإذا بالرد {أَتَيْنَا طَائِعِينَ}. فالاستعارة بالكناية هي التشبيه المضمر في النفس المتروك أركانه سوى المشبه، المدلول عليه بإثبات لازم المشبه به للمشبه، هذا الفهم الذي فهمه المعتزلة، وهذا التأويل الذي اتجه إليه أهل التفكير منهم، والذي تصدى لهم بسببه ابن قتيبة وغيره من علماء أهل السنة، كان الهدف منه توضيح الطريقة السليمة؛ لفهم أساليب القرآن حتى لا تخرج عن أصل وضعها، وبيان أن القرآن لم يكن في ذلك بدعة، بل قد جرت أساليب الشعر على ذلك، وخرجت عن أصل وضعها لهذا الهدف، وقد فهم العرب المراد منها على هذا الوضع دون لبس أو خفاء. وبهذا التأويل ظهرت الأساليب في صورة تشخيصية صورت الجمادات والحيوان إنسانًا له إرادة، وقوة، وشكاية، وكل ما كان يعنيهم أن يلفتوا النظر إلى أن من أساليب القرآن ما يجب أن يُدركه التأويل، وتخرج عن أصل وضعها حتى يُفهم معناها، ويُعرف المراد منها، ولم يدر بخلدهم أن هذا الخروج يسمى استعارة تصريحية، أو مكنية، وظلَّ هذا التفكير ينمو ويتزايد دون أن يضعوه تحت اسم معين، حتى كان الإمام عبد القاهر الجرجاني، فأشار إلى الاسم، وألمح إلى طريقة فهمها فقال تعليقًا على قول لبيد العامري في معلقته: وغداة ريح قد كشفت وقرة ... إذ أصبحت بيد الشمال زمامها فالقرة في البيت هي الريح، والشمال إنما هو نوع من الريح يأتي من جهة معينة، فقد جعل للشمال يدًا، ومعلوم أنه ليس هناك مشار إليه يمكن أن تجري اليد عليه

أقسام المجاز اللغوي باعتبار الإفراد والتركيب.

كإجراء الأسد والسيف على الرجل في قولك: انبرى لي أسد يزأر، وسللت سيفًا على العدو لا يفل، والظباء على النساء في قوله مثلًا "من الظباء الغيد"، والنور على الهدى والبيان في قولك: "أبديت نورًا ساطعًا"، وكإجراء اليد نفسها على من يعز مكانه كقولك "أتنازعني في يد بها أبطش، وعين بها أبصر"، تريد إنسانًا له حكم اليد وفعلها، وغناؤها ودفعها، وخاصة العين وفائدتها، وعزة موقعها، ولطف موضعها؛ لأن معك في هذا كله ذاتًا يُنص عليها، وترى مكانًا في النفس، وإذا لم تجد ذكرها في اللفظ. وليس لك شيء من ذلك في بيت لبيد، بل ليس لك أن تخيل إلى نفسك أن الشمال في تصريف الغداة على حكم طبيعتها كالمدبر المصرف لما زمامه بيده، ومقادته في كفه. وراح عبد القاهر يعرض من خلال كتابيه (أسرار البلاغة)، و (دلائل الإعجاز) نماذج، يعرض للمجاز وأنواعه بالتفصيل، وإن أُخذ عليه أحيانًا القول بالمجاز في صفات الله، وقد تأثر بهذا بالطبع كل من وليه من البلاغيين، وقد كان لي بحث في هذا، فصلت فيه القول، ورددت فيه على البلاغيين قولهم بالمجاز في صفات الله -عز وجل- أرجو من كل معنيٍّ بهذه القضية أن يتناول هذا الكتاب بالقراءة، فإنه مهم في بابه. أقسام المجاز اللغوي باعتبار الإفراد والتركيب هذا وينقسم المجاز اللغوي باعتبار الإفراد والتركيب إلى قسمين: القسم الأول: هو المجاز المفرد، وهو ما كان اللفظ المتجوز به مفردًا كقوله تعالى: {يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ} (البقرة: 19) أي: أناملهم، وكما في قول أبي تمام مادح: يا ابن الكواكب من أئمة هاشم ... والردح والأحساب والأحلام

فالمراد بالأصابع في الآية الأنامل، والمراد بالكواكب في البيت آباء الممدوح. والقسم الثاني من المجاز: هو المجاز المركب، وهو ما كان اللفظ المتجوز به مركبًا نحو: ما لي أراك تقدم رجلًا، وتؤخر أخرى، فالمراد تردده في الأمر فهو يقبل عليه مرة، ويتراجع عنه مرة أخرى. فالمجاز المركب إذن: هو التركيب المستعمل في غير ما وضع له؛ لعلاقة بين المعنى الموضوع له التركيب، وبين المعنى المستعمل فيه مع قرينة مانعة من إرادة المعنى الحقيقي. فإذا كانت العلاقة المشابهة سُمي المجاز استعارة تمثيلية، وإن كانت غير المشابهة سُمي مجازًا مركبًا مرسلًا، والمراد بالوضع هنا ما تُعرف على فهمه من التركيب. ويتضح من هذا أن المعنيين في المجاز المركب، وهو المعنى الأصلي الذي دلَّ عليه التركيب دلالة حقيقية، والمعنى المجاز الذي استعمل فيه وأريد منه كلاهما يكون هيئة منتزعة من أمرين، أو من أمور عدة، وهذا هو الفرق بينه وبين المجاز المفرد؛ إذ المجاز المفرد يكون في الكلمة المفردة، فمعنياه الأصلي والمجازي مفردان، كما أن اللفظ الذي تجوُّز فيه مفرد. يندرج -كما قلنا- تحت مسمى المجاز المركب الاستعارة التمثيلية، فيما كان علاقته المشابهة، والمجاز المركب المرسل فيما لم تكن علاقته المشابهة، وعلى ذلك فالاستعارة التمثيلية هي اللفظ المركب المستعمل في غير ما وضع له؛ لعلاقة المشابهة مع قرينة مانعة كقولك للرجل يتشدد في الأمر الصغير، ويتسامح في الأمر الخطير، أراك تنفق الدينار وتحرص على الدرهم، شبهت حالته في تمسكه بصغائر الأمور وتسامحه في جسامها، بحال من يبدد الدينار ويحرص على الدرهم، بجامع أن كلًّا منهما يترك ما ينفع إلى ما هو قليل النفع، ثم استعير التركيب الدال على

المشبه به للمشبه على سبيل الاستعارة التمثيلية، والقرينة حالية تُفهم من سياق الكلام. من ذلك قولك لمن يتردد في الأمر: ما لي أراك تقدم رجلًا وتؤخر أخرى، قد سبق أن ذكرناه، فقد شبهت صورة المتردد في الأمر بصورة تردد من قام ليذهب في أمر، فهو تارة يريد الذهاب، فيقدم رجلًا، وتارة لا يريد فيُحجم ويتأخر، ثم استعير التركيب الدال على المشبه به للمشبه على طريق الاستعارة التصريحية التمثيلية، والاستعارة التمثيلية كثيرة الاستعمال في كلام العرب نثره وشعره، وفي القرآن الكريم، وفي الحديث النبوي الشريف، فمن ذلك قولهم للرجل مثلًا يبذل جهده في عمل لا يُثمر شيئًا: أراك تنفخ في رماد، وتضرب في حديد بارد، وتخط على الماء، مثلوا حاله بحال من ينفخ في الرماد، فلا يخرج نارًا، ومن يضرب في حديد بارد فلا يتشكل بالشكل الذي يريد، ومن يخط على الماء فلا يترك أثرًا. ومنها قولهم للرجل يحتال على صاحبه حتى يصرفه عن الأمر الذي يتمسك به: "ما زال يفتل له في الذروة والغارب حتى لان" الذروة هو سنام الجمل، والغارب هو العنق، "وما زال ينزع القرادة من البعير حتى سكن" مثلوا حاله مع صاحبه بحال من يحتال على البعير الهائج بحك شعر سنامه، وما يليه إلى العنق؛ حتى يهدأ، وبحال من ظل ينزع القرادة من البعير حتى سكن. ومنها قولهم لمن يُقدم النصح للذي لا يفهمه، أو للذي لا يعمل به: لا تنثر الدر أمام الخنازير، مثلوا حاله بحال من يضع الدر أمام الخنازير، بجامع أن كليهما لا ينتفع بالشيء النفيس الذي ألقي إليه، ومنها قول المتنبي يُمثل حال من عابوا شعره؛ لأنه لم يرزقوا الذوق السليم لفهم الشعر الرائع، والنظم العجيب الذي يقوله:

ومن يك ذا فم مر مريض ... يجد مرًا به الماء الذلال فهو هنا مثل حالهم في عدم فهمهم لشعره، واستشعارهم لمعناه بحال المريض الذي لا يستسيغ الماء الزلال؛ لمرارة يحس بها في حلقه، مع فساد الذوق المفضي إلى قلب ما هو مستساغ إلى خلاف ذلك، ومن الاستعارات التمثيلية أيضًا قول بعضهم: ومن يجعل الضرغام للصيد بازه ... تصيَّده الضرغام فيما تصيد وقول الآخر يمثل حال من يضيع الأموال التي ورثها؛ لأنها آلت إليه بلا تعب: ومن ملك البلاد بغير حرب ... يهون عليه تسليم البلاد ومنها قول ابن ميادة يمثل حال إكرام الممدوح له وحال إهانته إياه: ألم أكُ في يمنى يديك جعلتني ... فلا تجعلني بعدك في شمالك وقول الآخر يمثل حال الرجل الذي لا يقول إلا حقًّا، ولا يخبر إلا بالصدق: إذا قالت حزام فصدقوها ... فإن القول ما قالت حزام ومنها قول الشماخ يمثل حال عرابة في حرصه على المجد واعتزازه به، وإقدامه عليه، وسموه إليه، واقتداره على نيله: رأيت عرابة الأوسي يسمو ... إلى الخيرات منقطع القرينة إذا ما راية رُفعت لمجد ... تلقاها عرابة باليمين ولا يخفى عليك أن الشبه مأخوذ من مجموع التلقي واليمين على حد قولهم "تلقيته بكلتا اليدين" كل هذه أمثلة للتشبيه المركب الذي يدخل تحت الاستعارة التمثيلية، ومن شديد ما يؤسف له أن البلاغيين أدخلوا في هذا مثل قوله تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} (الزمر: 67)، وقالوا: إن هذه الآية الكريمة مثلت حال

الأرض يوم القيامة، والله -عز وجل- يتصرف فيها بأمره، وقدرته تغييرًا وتبديلًا بحال الشيء يكون في قبضة الإنسان، يتصرف فيه كيف يشاء، والقول في الآية بالمجاز. وعلى هذا النحو إنما يعد إنكارًا لصفة من صفات الله -سبحانه وتعالى- وهي القبضة، وهذا يعكر عليه حتى على قول من جعل مفردات الألفاظ في اللغات اصطلاحية، ليس انعدام القرائن الدالة على صرف اليد في حق الله عن الحقيقة إلى المجاز فحسب، بل دلالة القرائن على استعمال اليد في حقه تعالى على الحقيقة لا على المجاز، يشير إلى ذلك اطراد لفظها في موارد الاستعمال، وتنوع ذلك وتصريف استعماله الذي يمنع المجاز، ألا ترى إلى قوله تعالى: {خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} (ص: 75)، وقوله: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} (الزمر: 67). فلو كان لفظ اليد مجازًا في القدرة والنعمة لم يُستعمل منه لفظ يمين الرحمن، وكلتا يديه يمين، الوارد بالحديث الصحيح، فلا يقال في هذا مثلًا: يد النعمة والقدرة، وكذا قوله -عليه السلام- ((يقبض الله سماواته بيده، والأرض باليد الأخرى، ثم يهزهن ثم يقول: أنا الملك)) يقول ابن القيم: "فها هنا هزٌّ وقبض وذكر يدين، ولما أخبرهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- جعل يقبض يديه ويبسطهما تحقيقًا للصفة لا تشبيهًا لها، كما قرأ {وَكَانَ اللهُ سَمِيعًا بَصِيرًا}، ووضع يديه على عينيه وأذنيه تحقيقًا لصفة السمع والبصر، وأنهما حقيقة لا مجاز"، وقوله ((لما خلق الله آدم قبض بيديه قبضتين، وقال: اختر. فقال: اخترت يمين ربي، وكلتا يديه يمين، ففتحهما فإذا فيها أهل اليمين من ذريته)) وأضعاف أضعاف ذلك من النصوص الصحيحة الصريحة في ثبوت هذه الصفة لله -سبحانه وتعالى" هذا انتهى من كلام ابن القيم. وفيه دلالة على أن القبض واليمين إنما هما في حق الله ليس تخييلًا ولا تمثيلًا، وإنما هما حقيقة في حق الله تليق بجلاله جل وعلا.

والحق أن ثمة إجماع على عدم جواز القول بالمجاز في صفات الله تعالى، نقله ونص عليه الإمام الخطابي والطرمبكي، وأبو عثمان الصابوني، والسجزي، وابن عبد البر، والحافظ أبو القاسم التيمي الأصبهاني، وأبو بكر محمد بن موهب، وأكتفي هنا بما قاله إمام المذهب ألإمام أبو الحسن الأشعري -عليه رحمة الله- يقول في كتابه (مقالات الإسلاميين) بعد أن ذكر فرق الخوارج، والروافض، والجهمية، وغيرهم تحت عنوان جملة "قول أصحاب الحديث وأهل السنة أن ضمن قولهم الإقرار بالله، وملائكته، وكتبه، ورسوله، وبما جاء عن الله، وما رواه الثقات عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لا يردون من ذلك شيئًا، وأن الله على عرشه كما قال: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} (طه: 5) وأن له يدين بلا كيف، كما قال: {خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} (ص: 75)، وكما قال: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} (المائدة: 64)، وأن له عينين بلا كيف كما قال: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} (القمر: 14)، وأن له وجهًا كما قال: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} (الرحمن: 27) وأن أسماء الله لا يقال: إنها غير الله، كما قالت المعتزلة والخوارج، ويصدقون -أي: أهل السنة- بالأحاديث التي جاءت عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ((إن الله ينزل إلى السماء الدنيا فيقول: هل من مستغفر)) كما جاء في الحديث، ويقرون أن الله يجيء يوم القيامة كما قال: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} (الفجر: 22)، وأن الله يقرب من خلقه كيف يشاء كما قال: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} (ق: 16) إلى أن قال: فهذا جملة ما يأمرون به، ويستعملونه، ويرونه، وبكل ما ذكرنا من قولهم نقول، وإليه نذهب، وما توفيقنا إلى بالله". وقد ذكر الدكتور عبد العظيم المطعني في كتابه (المجاز في اللغة والقرآن الكريم) قال: "فالمجاز لا حذر ولا خطر من وقوعه في اللغة، ولا حذر ولا خطر من وقوعه في القرآن الكريم، إلا الآيات التي تتحدث عن الأسماء والصفات، بل

الكلمات نفسها المستعملة في الأسماء والصفات، وليس كل القرآن أسماء وصفات، فلنحذره في كلمات الأسماء والصفات؛ لأن تأويلها مجازيًّا يؤدي إلى التعطيل، ولنطلق صراح المجاز فيما لا يؤدي فيه التأويل إلى تعطيل في أساليب اللغة كلها، وفي سائر آيات الكتاب إلا ما كان منه اسمًا من أسماء الله الحسنى، أو صفة من صفاته القدسية، وهذا هو الحق الذي يجب أن يُصار إليه لوجاهة السبب المفضي إليه، ونبل الغاية الداعية إليه". هذا الكلام ذكره الدكتور المطعني في الجزء الثاني صفحة 1442، على أن لازم قول أهل التمثيل والتخييل أولئك الذين أبى شيخ البلاغة والزمخشري إلا أن يسلك سبيلهم في التجوز في صفات الله الخبرية، ويحشر نفسه معهم في قمع السمسمة كما يقولون: أن الرسل لم يفصحوا للخلق بالحقائق؛ إذ ليس في قولهم إدراكها، وإنما أبرزوا لهم المقصود في صورة المحسوس، قالوا: ولو دعت الرسل أممهم إلى الإقرار برب لا داخل العالم، ولا خارجه، ولا محايفًا، ولا مباينًا له، ولا متصلًا به، ولا منفصلًا عنه، ولا فوقه، ولا تحته، ولا عن يمينه، ولا عن يساره، وهو كلام جاء في كلام البلاغيين، وأوجب لأجله التفويض والتأويل؛ لنفرت عقولهم من ذلك، ولم تصدق بإمكان هذا الموجود فضلًا عن وجوب وجوده، هذا كلام من الأهمية بمكان، حتى لا نقول بمثل القائلين بالتمثيل، أو التخييل في صفات الله -سبحانه وتعالى، أو التأويل. من الاستعارات التمثيلية المقبولة والبعيدة عن إدخالها في صفات الله -سبحانه وتعالى- قول الله جل وعلا: {وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ} (الأعراف: 154)، فقد عدَّها البعض من قبيل الاستعارة التمثيلية؛ حيث شبهت حال الغضب الذي أثار موسى بعض الوقت، ثم هدأ بحال رجل أثار غيره ثم سكت، بجامع التحول من حال إلى حال.

والأولى حمل الآية على الاستعارة المكنية مثل ذلك أيضًا قوله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ} (ق: 37)، فإننا نجد أن المقام يقتضي حمل الآية على الاستعارة التمثيلية؛ إذ المراد الحثُّ على النظر والتقريع على تركه، وقد ذكر بعض المفسرين أن المراد بالقلب العقل، ولكن البلاغيين لم يرتضوا هذا التفسير، وإن كان المرجع عند التحصيل إليه، وذلك لإخلاله بالمراد، وبيَّنوا أن الكلام مبني على تخييل أن من لم ينتفع بقلبه، فلا ينظر، ولا يعي، يكون بمنزلة من عدم قلبه جملة. وهذا يتفق مع ما تريده الآية من الحثِّ على النظر والتقريع على تركه. من ذلك أيضًا قوله تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا} (آل عمران: 103) حيث مثَّلت حال التمسك بدين الله، وعادي بحال المعتمد على حبل قوي يمنعه من السقوط، ومما جاء من الاستعارة التمثيلية في الحديث النبوي قوله -صلى الله عليه وسلم- ((إن أحدكم إذا تصدق بالتمرة من الطيب، ولا يقبل الله إلا الطيب؛ جعل الله ذلك في كفه فيربيها، كما يربي أحدكم فلوَّه))، فقد مثَّل الحديث حال الصدقة القليلة من الكسب الطيب عند الله -جل وعلا- في محبته لها، ورضاه عنها بالشيء المحبوب يوضع في اليد؛ اعتزازًا به وحرصًا عليه، ومن الاستعارة التمثيلية الأمثال السائرة الواردة عن العرب، فيستعار موردها لمضربها. ومعلوم أن الأمثال لا تتغير، فيستعار موردها الذي قيلت فيه لمضربها الذي تضرب فيه بلا تغيير، ولا تبديل، من ذلك مثلًا قولهم "أحشفًا وسوء كيلة": يُضرب لمن يُظلم من جهتين، وأصل مورده أن رجلًا اشترى من آخر تمرًا، فوجده رديئًا وناقص الكيل، فقال: أحشفًا وسوء كيلة، فصار يضرب لمن ظلم من جهتين، هذه استعارة تمثيلية.

من أمثالهم في ذلك أيضًا قولهم "رمى عصفورين بحجر" يُضرب لمن يحتال فيدرك أمرين بتدبير واحد، ومنها "الصيف ضيعت اللبن" ويضرب لمن يطلب أمرًا بعد فوات الأوان، ومنها "وعند جهينة الخبر اليقين" ويُضرب لمن يعرف الشيء على حقيقته ووجهه، ومنها "أنك لا تجني من الشوك العنب" ويُضرب لمن يفعل الشر وينتظر مجازاته عيه بالخير، ومنها "قطعت جهيزة قول كل خطيب" يضرب لمن يأتي بالقول الفصل في مواضع النزاع، هذه التمثيلات المركبة -كما قلنا- إنما جاءت العلاقة فيها علاقة مشابهة، فهي إذن استعارة. وهناك الضرب الثاني من ضربي المجاز المركب، وهو المجاز المركب المرسل: فهو اللفظ المركب المستعمل في غير ما وُضع له؛ لعلاقة غير المشابهة مع قرينة مانعة، من ذلك مثلًا قوله تعالى: {رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى} (آل عمران: 36) فالله يعلم ما وضعت، وامرأة عمران تعرف أنه تعالى لا يخفى عليه شيء، فهي لم تُرد الإخبار بما وضعت، وإنما أرادت أن تُبدي حزنها وتحسرها؛ لعدم مجيئه ذكرًا، حيث كانت قد وهبته ونذرته لخدمة بيت الله، فهو إذن مجاز علاقته اللزومية؛ إذ يلزم من إخبارها بوضع الأنثى أنها حزينة متحسرة. من ذلك قوله تعالى: {رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ} (يوسف: 101) فقد أراد يوسف -عليه السلام- إظهار الغبطة والسرور، فهو مجاز مركب علاقته اللزومية أيضًا؛ إذ يلزم من إخباره بأن الله قد آتاه من الملك وعلمه من تأويل الأحاديث، إبداء سروره، وإظهار غبطته، والقرينة أن الله -عز وجل- عليم بذات الصدور، ويوسف يعرف أنه تعالى في غنًى عن إخباره، ولا تخفى عليه خفية.

المصطلحات التي تطلق على أنواع المجاز "مجاز الاستعارة".

هذا عن المجاز المركب، وعلى نحو ما تنوعت أساليب المجاز المركب إلى استعارة تمثيلية فيما كانت علاقته المشابهة، وإلى مجاز مرسل مركب فيما لم يكن كذلك نأتي للحديث عن المجاز المفرد؛ ليتبين لنا أنه هو كذلك يتنوع باعتبار المصطلح الذي يقع به التخاطب إلى أربعة أنواع: المصطلحات التي تطلق على أنواع المجاز "مجاز الاستعارة" فهناك المجاز اللغوي وهو الذي يعنينا، وهناك المجاز الشرعي، وهناك المجاز العرفي الخاص، والمجاز العرفي العام، على نحو ما مر بنا في تعريف الحقيقة، وهنا تتردَّد على ألسنة البلاغيين مصطلحات المجاز الاستعاري، أو الاستعارة، والمجاز المرسل، المجاز اللغوي، والمجاز العقلي، والسؤال فما الفرق بينها؟ نقول: أن الفرق بين الأولين أي: المجاز الاستعاري الاستعارة، والمجاز المرسل، يتمثَّل في نوع العلاقة، فما كانت علاقته المشابهة بين المعنى الأصلي والمعنى المجازي، كقولنا: رأيت بحرًا يغترف الناس من كرمه، فالعلاقة بين البحر والرجل الكريم المشابهة في العطاء؛ كان هذا استعارة، وما كانت علاقته غير المشابهة كقولنا أمطرت السماء نباتًا؛ فالعلاقة بين النبات والغيث المسببية؛ إذ النبات مسبب عن الغيث. قوله تعالى: {يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ} (البقرة: 19) فالعلاقة بين الأصابع والأنامل الكلية؛ إذ الأنملة جزء من الأصبع، كما أن هناك أقسامًا للمجاز باعتبار نوع التجوُّز، فإن كان نوع التجوز متصلًا بألفاظ اللغة، أو بما يجري مجراها من جهة خروجها عما وُضعت له في اللغة؛ فهو المجاز اللغوي، وإن

كان متصلًا بالإسناد أو التركيب، بإسناد الفعل إلى غير ما هو له في الحقيقة، كما في قول الشاعر مثلًا: ستبدي لك الأيام ما كانت جاهلًا ... ........................ فهذا يسمى المجاز العقلي، إذن فالمجاز اللغوي إنما يتمثَّل في ألفاظ اللغة، واستعمالها في غير معناها. أما المجاز العقلي: فإنما يكون في الإسناد، ويكون بإسناد الفعل، أو ما في معناه إلى غير ما هو له. ونبدأ الآن بمشيئة الله تعالى بما يعنيه مجاز الاستعارة، فنقول: أن الاستعارة إنما تعني اللفظ المستعمل في غير ما وُضع له؛ لعلاقة المشابهة مع قرينة مانعة من إرادة المعنى الأصلي، أو يمكن أن نعرفها بالمعنى المصدري -كما يقولون- فنقول: هو استعمال اللفظ في غير ما وُضع له؛ لعلاقة المشابهة مع قرينة مانعة من إرادة المعنى الأصلي. ونذكر بعض الأمثلة في عجالة، ثم نفصل القول فيما بعد، مثلًا في قول الله تعالى في شأن المنافقين {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا} (البقرة: 10)، فهنا نجد أنه استعار لفظ المرض من العلة الجسمانية للنفاق، والعلاقة هي المشابهة الحاصلة بين المرض والنفاق في أن كلًّا منهما يُفسد ما يتصل به، فالمرض يفسد الأجسام، والنفاق يفسد القلوب، والقرينة المانعة من إرادة المرض الجسماني؛ لأن الآية الكريمة مسوقة لذم المنافقين الذين أبطنوا الكفر، وأظهروا الإسلام، ولا معنى لأن يكون الذم في وصفهم بالمرض الجسماني، بل المراد ذمهم بفساد قلوبهم، والعدول عن الحقيقة إلى المجاز في الآية الكريمة يُنبئ بتمكن النفاق، واستحكامه،

واستقراره في قلوب المنافقين حتى صار مرضًا مازج دماءهم، واستشرى فيها، ونذكر كذلك من هذا القبيل قول زهير: لدى أسد شاك السلاح مقذف ... له لبد أظفاره لم تقلم حيث استعار لفظ الأسد للبطل الشجاع المدجج بالسلاح، وقد أضفت الصفات المذكورة "مقذف له لبد أظفاره لم تقلم" أضفت على المستعار له ألوانًا من القوة، وصنوفًا من البطولة الفائقة. وواضح لك أن المشبه في كلٍّ من الآية والبيت قد طوي، وطرح وذكر في مكانه المشبه به. إذن فهو من قبيل الاستعارة التصريحية، نذكر مثلًا على سبيل المثال من الاستعارة المكنية قول أبي ذؤيب الهذلي: وإذا المنية أنشبت أطفارها ... ألفيت كل تميمة لا تنفع فقد جعل للمنية أظفارًا تنشبها في فريستها، حيث شبه بالسبع، وطوى المشبه به رامزًا له بشيء من لوازمه وهو الأظفار والأنشاب، اللذان أثبتهما للمشبه، وهذا الإثبات إنما هو قرينة الاستعارة المكنية، ويسمى بالقرينة، أو تُسمى هذه القرينة بالاستعارة التخييلية. من هنا عرف الخطيب الاستعارة بقوله: "هي ما كانت علاقته تشبيه معناه بما وضع له" فهي مبنية على التشبيه، وقائمة عليه ومتضمنة له، كما رأيت في الشواهد التي سبق أن ذكرناها. والذي صرح فيها إلا بطرف واحد من طرفي التشبيه، فإن صُرِّح بلفظ المشبه به فهي تصريحية، وإن صُرح بلفظ المشبه وحذف المشبه به فهي استعارة مكنية. وفيما يتعلق بما ينسحب عليه مفهوم ومدلول الاستعارة ثمة إشكال آخر، يتمثَّل هذه المرة فيما حُذف منه الأداة والوجه، وهو ما يُسمى بالتشبيه البليغ، أو حذفا

مع المشبه؛ إذ لاحظ البلاغيون أن هناك أمثلة يأتي فيها الطرفان، ولا يمكن درجها تحت التشبيه، كما في قولنا: فلان بدر يسكن الأرض، وهو شمس لا تغيب، وأخرى حُذف منها أحد طرفي التشبيه، ولا يمكن إدخاله في باب الاستعارة، كما في قوله تعالى: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} (البقرة: 171) باعتبار أن المشبه المحذوف على نية التقدير، وثالثة ذُكر فيها الطرفان، ولا يمكن إدخالها في باب الاستعارة، أو التشبيه الصريح، كما في نحو قولنا لقيت بفلان أسدًا، وقابلت به بحرًا، ومن هنا اختلف البلاغيون في التشبيه البليغ، وهو الذي حُذفت أداته ووجه، أو لحق بهما المشبه على نية تقديره، وإرادته؛ فبعضهم عده تشبيهًا، وبعضهم جعله استعارة، وبعضهم فصل القول، فرأي الجمهور البلاغيين أن نحو قولنا: محمد أسد، وكان خالدًا أسدًا، وعلمت عليًّا بحرًا، وفر الجبان نعامة، ومررت بفتاة بدر، وقول المتنبي: أسدٌ دم الأسد الهزبر خضابه ... موت فريص الموت منه يرعد أي: أنت أسد وموت، وقول غيره: أسد علي وفي الحروب نعامة ... .................................. يرون أن مثل هذا تشبيه بليغ، ويفرقون بينه وبين الاستعارة من عدة وجوه، فالمشبه به في التشبيه البليغ محكوم به على المشبه، وهذا لا يتأتَّى إلا عن طريق التشبيه؛ إذ يستحيل كون محمد أسدًا على الحقيقة، وهذه الاستحالة قرينة على أن مقصود المتكلم إثبات مشابهة محمد بحقيقة الأسد، لا إثبات حقيقة الأسد له. أما في الاستعارة، فالمشبه به محكوم عليه بغيره، وقولنا كلمت أسدًا، وغنت لنا ظبية، المشبه به وهو الأسد محكوم عليه. ثانيها: أن التشبيه غرض مقصود لذاته في التشبيه البليغ؛ لإفادة المبالغة، وليس وسيلة لإفادة غيره، ولذا استحق اسم التشبيه. أما في الاستعارة فالتشبيه ليس

غرضًا مقصودًا لذاته، بل هو مقصود تبعًا؛ إذ هو وسيلة يُتوصل بها إلى جعل المشبه واحدًا من أفراد المشبه به، ولذا نتناساه ونتجاهله فيُطوى المشبه ويحذف. ثالثها: أن المشبه في التشبيه البليغ مذكور في الكلام، إما لفظًا أو تقديرًا، أما في الاستعارة فيجب حذفه وطيه وتناسيه، ولذا كانت المبالغة في الاستعارة أقوى، والخيال أشد، فإذا قلنا: رأيت أسدًا يخطب الناس فقد يقع في الوهم قبل أن نقف على القرينة أن المراد الحيوان المفترس، وسرعان ما يندفع هذا التوهم بالقرينة، وذلك لا يتأتَّى في التشبيه البليغ؛ لوجود المشبه لفظًا أو تقديرًا، أو المحذوف وجه الأداة والمشبه هو عند الجمهور من التشبيه البليغ، ويرى بعض البلاغيين أن هذا الأسلوب -هو التشبيه المحذوف الوجه والأداة، أو الذي يقع مشبه به فيه خبر عن المبتدأ، أو في حكم الخبر، كما في الأمثلة التي مرت بنا، يرونه استعارة لا تشبيهًا. ويحتجون بما في الاستعارة من المبالغة في دعوى الاتحاد بين المشبه والمشبه به، كما أن الحكم به عليه في نحو قولنا: محمد أسد، يرجع إلى أن لفظ أسد ليست مستعملًا في معناه الحقيقي الذي هو الحيوان المفترس، بل هو مستعمل في معنى الجري، فحمله على محمد باعتبار أن محمدًا أحد أفراده الجريء، فهذا الحمل صحيح لاتحاد الحقيقتين، ومن ثم كان لفظ أسد استعارة، لا تشبيهًا. يرى الإمام عبد القاهر أن الجمل التي يمكن دخول جميع أدوات التشبيه عليها، ويكون دخولها مقبولًا ومستساغًا، ويتحقق ذلك إذا كان المشبه به معرفة نحو: محمد الأسد، وهند شمس النهار، يمكننا أن ندخلها في باب التشبيه، فتقدير الكلام: محمد كالأسد، وكأن محمد أسد، وهو مثل الأسد، أما ما كان بالتشبيه أقرب، وهي تلك الجمل التي يحسن دخول بعض أدوات التشبيه عليها دون

البعض، وذلك إذا كان المشبه به نكرة نحو: زيد أسد، وهند بدر، فيحسن أن نقول: كأن زيدًا أسد، وكأن هندًا بدر، وخلته أسدًا، وعلمتها بدرًا يجد أن هذا إلى التشبيه أقرب. أيُّ هذه الآراء أرجح؟ الجواب: هو رأي الجمهور، لأن التشبيه البليغ تشبيه، وليس باستعارة؛ حيث صرَّح فيه بطرفي التشبيه، وما يراه عبد القاهر من ترجيح إطلاق اسم الاستعارة على بعض صوره، وتحتيم إطلاقها على بعض يُمكن دفعه بأن الكلام فيها مبني على الخيال، وعلى تصور وجود أشياء خيالية، وأجناس جديدة تُضاف إلى الأشياء الموجودة، والأنماط المألوفة، فالمتنبي يتخيل دم الأسود خضابه، وموتًا فرائص الموت منه ترعد، ثم يشبه بهما ممدوحه إلى أخر ذلك. إذن نخلص مما سبق: أن المجاز اللغوي موجود في اللغة وفي القرآن، والذي ينبغي إنكاره هو أن نجريه في نصوص الوحي كتابًا وسنة على ما ثبت في حق الله من صفات، وما ذلك إلا لكون هذه الصفات على ظاهرها، وعلى حقيقتها، وأنها تكون بالنسبة له على النحو اللائق به جل وعلا، كما وضح من خلال ما سبق أن المجاز اللغوي هو الكلمة المستعملة في غير ما وضعت له في اصطلاح التخاطب، وأنه باعتبار نوع التجوز يختص بألفاظ اللغة، ومفرداتها، أو ما قام مقامها في طرفي التشبيه؛ خلافًا للمجاز العقلي الذي يختص بالتجوز في الأسانيد أي: بإسناد الأفعال، أو ما في معانيها إلى غير ما هي لها. وسنذكر فيما بعد أن الفرق بين المجاز الكناية يتمثَّل في نوع القرينة، فإن كانت مانعة، فمجاز، وإلا فكناية. أما ما لا يحسن تقدير أداة من أدوات التشبيه فيها إلا بتغيير في بنائها بأن يكون المشبه به نكرة موصوفة بأوصاف لا تلائمه نحو: فلان بدر يسكن الأرض، وهو شمس لا تغيب؛ فهو إلى الاستعارة أقرب.

أما ما تعين حمله على الاستعارة، فهي تلك الجمل التي يستحيل تقدير أدوات التشبيه فيها؛ لأن تقديرها يؤدي إلى التناقض وإفساد غرض المتكلم، إذا كان المشبه به نكرة موصوفة بصفات لا توجد فيها، ومراعاة التشبيه معها يفسد معنى الكلام، كما ذكرنا في بيت المتنبي: أسدٌ دم الأسد الهزبر خضابه ... موت فريص الموت منه يرعد فلا يقال: هو كأسد، أو كأنه أسد دم الأسد الهزبر خضابه؛ لأن مقتضى التشبيه أن يكون المشبه به أقوى من المشبه، أو مثله في قوته، وقوله "دم الأسد الهزبر خضابه" يقتضي أن يكون الممدوح أقوى من الأسد، وهذا تناقض، ولكن حمل البيت على الاستعارة يدفع هذا التناقض؛ حيث تكون الصفات المذكورة منصبَّة على الممدوح، لا على الأسد. والسؤال، ويندرج تحته الاستعارة التمثيلية، إن كانت علاقته المشابهة، والمجاز المرسل المركب إن لم تكن العلاقة كذلك، وأن المفرد ينقسم باعتبار العلاقة إلى مجاز استعاري إن كانت العلاقة المشابهة مجاز مرسل إن لم تكن العلاقة كذلك، وأن الاستعارة نوعين: فما صرح فيه بلفظ المشبه به سمي بالاستعارة التصريحية، وما حذف منه المشبه به سمي بالمكنية. وسيكون حديثنا المفصل فيما بعد -بمشيئة الله تعالى- عن نوعي هاتين الاستعارتين، لذكر المزيد من الأمثلة التي من خلالها تتضح معالم كل، فإلى الملتقى. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الدرس: 7 الاستعارة.

الدرس: 7 الاستعارة.

أقسام الاستعارة.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس السابع (الاستعارة) أقسام الاستعارة الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، ثم أما بعد: فقلنا: إن المجاز اللغوي إنما يكون التجاوز فيه في ألفاظ اللغة، بينما المجاز العقلي يكون التجاوز فيه في الأسانيد. وعرجنا على الفرق في المجاز اللغوي بينما كان منه على المشابهة وهو استعارة، وما كان منه على غير المشابهة وهو المجاز المرسل. ثم ذكرنا الفرق بين ما كان على المشابهة، وصُرح فيه بلفظ المشبه به، وهي الاستعارة التصريحية، وبين ما صرح فيه بلفظ المشبه وهو الاستعارة المكنية. إذن فالاستعارة تنقسم عند جمهور البلاغيين إلى قسمين: استعارة مكنية، وهي التي لا يصرح فيها بلفظ المشبه به، بل يطوى ويرمز له بلازم من لوازمه، ويسند هذا اللازم إلى مشبه، ولهذا سميت استعارة مكنية، أو استعارة بالكناية؛ لأن المشبه به يُحذف، ويُكنى عنه بلازم من لوازمه، وإثبات لازم المشبه به للمشبه هو ما يُسمى بالاستعارة التخييلية، وهي قرينة المكنية. والاستعارة التصريحية وهي التي يُصرح فيها بلفظ المشبه به المستعار، كقولنا: رأيت أسدًا يخطب الناس، فالمعنى المراد وهو الرجل الشجاع له تحقق ووجود، فهو مدرك بالحس، وقد صُرح فيه بلفظ المشبه به كما ترى، ومن ذلك قول زهير: لدى أسد شاكٍ السلاح مقذف ... له لبد أظفاره لم تقلم وقد استعار لفظ الأسد للبطل الجسور المدجج بسلاحه الذي يُقذف به في المعارك؛ لقوته وخبرته، وحين جعل البطل أسدًا جعل له لبد الأسد، وأظافره

المخيفة التي لا تقلم، يكون الشاعر بذلك قد شبَّه هذا الشجاع بالأسد، ثم تنوسي التشبيه، وادُّعي أن المشبه من جنس المشبه به على سبيل الاستعارة التصريحية، ونحو ما سبق قول البحتري: وصاعقة في كفه ينكفي بها ... على أرأس الأعداء خمس سحائب فقد استعار الصاعقة لنصل السيف لتشابههما فيما يوقعان من أذى، ثم استعار لفظ السحائب لأصابع الممدوح لتشابههما في الجود والخير، ومن ذلك أيضًا قول أبي دولامة يضم بغلته ويصور سيره: أرى الشهباء تعجن إذ غدونا ... برجليها وتخبز باليدين لقد شبه حركة رجليها بحركة يدي العاجن في الانزلاق وعدم الاستقرار، فرجلاها لا يثبتان على الأرض، بل ينزلقان إلى الإمام، وكذلك يد العاجن لا يثبتان في مكان، بل ينزلقان لرخاوة العجين إلى الإمام. ثم شبه حركة يديها وهما لا يتقدمان إلى الإمام، بل ينثنيان إلى الخلف نحو بطنها في تقوس، وعوجاج بحركة يدي الخابز؛ حيث يثنيهما إلى صدره في تقوُّس؛ ليستجمع قوته ويقذف بأقراص العجين داخل التنور، فالشاعر إذن قد استعار العجين لحركة الرجلين، واستعار الخبز لحركة اليدين، ثم اشتق منهما تعجن وتخبز على سبيل الاستعارة التبعية. فالمعنى المجازي المراد من هذه الشواهد: وهو البطل الشجاع، ونصل السيف، وأصابع الممدوح، وحركات الدابة، له تحقق ووجود؛ إذ هو من المشاهدات الحسية؛ لذلك يطلقون على الاستعارة التصريحية الاستعارة التحقيقية، وهي الاستعارة التي يكون المعنى المراد بها، وهو المستعار له أي: المشبه له تحقق ووجود يدركه الحس أو العقل، وليس أمرًا خياليًّا أو وهميَّا، ولذلك سميت تحقيقية.

من هذه الأمثلة التي تُدرج بالعقل تكون في باب الاستعارة ما جاء في قول الله تعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} (إبراهيم: 1) أي: من الضلالات إلى الهدى، وقد استعيرت الظلمات للضلال؛ لتشابههما في عدم اهتداء صاحبهما، واستعير النور للإيمان لتشابههما في الهداية، والمستعار لهما هما الضلال والإيمان، كل منهما محقق عقلًا. وقوله تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مثلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} (النحل: 112) نجد أنه صرَّح بالمشبه به وهو اللباس، فلو جعلنا المستعار له ما أصاب أهل القرية من هم وحزن، وهول، وفزع، واضطراب في التفكير بسبب ما حلَّ بهم من أحداث؛ كانت الاستعارة تحقيقية عقلية، ولو جعلنا ما أصابهم من الإعياء وصفرة الوجوه، وهزال الجسم بسبب تلك الأحداث كان الاستعارة حسية تحقيقية، والجامع بين اللباس والمستعار له وهو ما أصاب أهل القرية في كلٍّ هو الإحاطة والشمول؛ فقد أحاطت هذه الأحداث بأهل القرية، وتمكنت منهم وشملتهم كما يشمل اللباس صاحبه ويحيط به. وأُنبِّه إلى دقة التعبير القرآني في هذه الآية الكريمة، فالقوم كانوا آمنين مطمئنين يأتيهم رزقهم رغدا من كل مكان، فكفروا بأنعم الله -عز وجل؛ فكان مقتضى صنيعهم شدة المؤاخذة وشمولها، ولذا عبََّر بالإذاقة ليفيد شدة الإصابة، وباللباس ليفيد الإحاطة والشمول، ولو قيل: فكساها الله لباس الجوع والخوف؛ لأفاد الإحاطة والشمول دون الشدة، وكذا لو قيل: فأذاقها الله طعم الجوع والخوف لأفاد شدة الإصابة دون الإحاطة والشمول.

الاستعارة المكنية والتخييلية.

ولذا آثر النظم الكريم التعبير بالإذاقة واللباس، فأذاقها الله لباس الجوع والخوف؛ ليفيد الأمرين معًا شدة الإصابة، وشمولها، وإحاطتها، هكذا ندرك دقة التعبير في النظم القرآني. ولنا عودة بمشيئة الله تعالى للحديث عن الاستعارة التصريحية لكثرة تشعبها ولكثرة أقسامها. الاستعارة المكنية والتخييلية الاستعارة المكنية: هي التي لا يصرح فيها كما قلنا بلفظ المشبه به، بل يطوى ويرمز له بلازم من لوازمه، ونذكر مثلًا على سبيل المثال ما سبق أن ذكرناه قبل، وهو بيت مشهور: وإذا المنية أنشبت أظفارها ... ألفيت كل تميمة لا تنفع فهنا شبه المنية بالسبع، ثم طوى المشبه به، ورمز له بلازمه، وهو الأظفار، وأثبت هذا اللازم للمشبه؛ فالمنية أو السبع استعارة مكنية، وإثبات الأظفار للمشبه فيها استعارة تخييلية. هذا وقد اختلف البلاغيون في تحديد مفهوم الاستعارتين المكنية، والتخييلية التي هي قرينة المكنية فيرى جمهور البلاغيين أن المكنية: هي لفظ المشبه به المستعار في النفس للمشبه، والمحذوف المدلول عليه بشيء من لوازمه. والتخييلية: هي إثبات لازم المشبه به للمشبه، ويقال في إجراء الاستعارتين في البيت المذكور: شُبهت المنية بالسبع بجامع الاغتيال في كلٍّ، ثم تنوسي التشبيه، وادعي دخول المشبه في جنس المشبه به، ثم قُدِّر في النفس حذف المشبه به، ورُمز إليه بشيء من لوازمه، وهي الأظفار على سبيل الاستعارة المكنية، ثم أثبتت الأظفار للمنية على سبيل الاستعارة التخييلية. هذا هو رأي جمهور البلاغيين.

ويرى الخطيب: "أن المكني هي التشبيه المضمر في النفس المدلول عليه بإثبات لازم المشبه به للمشبه، من غير أن يكون للمشبه أمر ثابت حسًّا أو عقلًا، استعير له لازم المشبه به، وأطلق عليه"، ويقال مثلًا في البيت المذكور شبه الشاعر في نفسه المنية بالسبع، ثم تناسى التشبيه، وادعي أن المشبه فرد من أفراد المشبه به، ثم أثبت لازم المشبه به وهو الأظفار للمشبه، وليس للمشبه -وهو المنية- شيء محقق حسًّا أو عقلًا، استعير له لفظ الأظفار. يلاحظون أن الخطيب أطلق الاستعارة المكنية على التشبيه المضمر في النفس، وهو فعل من أفعال المتكلم، وقد عرفنا أن الاستعارة لفظ استعمل في غير ما وُضع له؛ لعلاقة المشابهة، والألفاظ خلاف الأفعال، فلا وجه لتسمية التشبيه المضمر في النفس استعارة، وهذا هو الفرق بينه وبين ما ذهب إليه جمهور البلاغيين. وواضح أن الخطيب يوافق الجمهور في سبب تسمية هذه الاستعارة بالمكنية، وهو عدم التصريح بالمشبه به، والدلالة عليه بلازمه، ويوافقهم أيضًا في تحديد مفهوم الاستعارة التخييلية، وهي إثبات لازم المشبه به للمشبه، وليس للمشبه شيء محقق حسًّا أو عقلًا استعير له هذا اللازم؛ ولذا كانت هذه الاستعارة تخييلية، وهي قرينة الاستعارة المكنية، فهما متلازمان. أما مخالفته لهم فهي في تحديد مفهوم الاستعارة المكنية، إذ هي عنده فعل من أفعال المتكلم، فلا وجه لتسميتها استعارة، وعند الجمهور هي من قبيل الاستعارة التحقيقية؛ لأن لفظ المشبه به يُستعار لشيء محقق هو المشبه، كاستعارة السبع للمنية في البيت المذكور. وهناك رأي آخر، أو ثالث للسكاكي: فهو يرى أن الاستعارة المكنية لفظ المشبه المستعمل في المشبه به؛ بادِّعاء أن المشبه -وهو المنية- هو عين المشبه به أي: من جنسه، فيقال

في بيت أبي ذؤيب: شبهت المنية بالسبع، ثم تنوسي التشبيه، وادُّعي أن المنية فرد من أفراد السبع، وأن السبع صار نوعين متعارف عليه، وهو الحيوان المفترس، وغير متعارف عليه، وهو الموت الذي ادُّعيت له السبعية، ثم استعير اسم المشبه -وهو الموت- الذي ادعيت له السبعية؛ فصح بهذا أنه قد أطلق اسم المشبه -وهو المنية- وأريد به المشبه به وهو السبع. فهي من قبيل المجاز اللغوي، كما عند الجمهور. ويرى أن الاستعارة التخييلية ما كان معناها صورة وهمية، لا تحقق لها حسًّا ولا عقلًا كالأظفار في البيت، فإنه لما شبه المنية بالسبع في الاغتيال، أخذ الوهم في تصويرها بصورته؛ فاخترع لها صورة الأظفار، ثم أطلق عليها لفظ أظفار السبع، فالمشبه الصورة الخيالية للأظفار، والمشبه به عند السكاكي الصورة الحقيقية لها، والمستعار اللفظ الموضوع للصورة الحقيقية، والقرينة إضافتها إلى المكنية، ولا تلازم عنده بين المكنية والتخييلية، وقد توجدان معًا كما في البيت، وقد توجد التخييلية من غير المكنية كقولهم: أظفار المنية التي كالسبع نشبت بفلان؛ ففي أظفار استعارة تخييلية وُجدت مع تشبيه صريح. ونلاحظ أن هذه الاختلافات في تحديد مفهوم الاستعارتين ترجع إلى توجيه كل منهما، وكلها -كما رأينا- توجيهات محتملة قائمة على التصور والتخيل، ونذكر الآن أمثلة متنوعة من شواهد الاستعارتين المكنية والتخييلية التي هي قرينة المكنية يقول لبيد: وغداة ريح قد كشفت وكرة ... إذ أصبحت بيد الشمال زمامها فهنا غداة مجرورة على تقدير رب غداة، وكلمة كرة -كما سبق أن ذكرنا- تعني: البرد والشمال: هي الريح الباردة، فقد جعل للشمال يدًا، وللكرة زمامًا، بأن

شبه الشمال في تصريفها برودة الجو التي هي الكرة، والتحكم في طبيعتها، شبه ذلك بالإنسان الذي يتصرف في الأمور، وشبه الكرة -وهي البرودة- بالبعير بجامع الانقياد للغير، ثم تُنُوسي التشبيه، وادُّعي أن المشبه فرد من أفراد المشبه به، ثم أثبت لازم المشبه به -وهو اليد والزمام الخاصان بالإنسان أثبتهما للمشبه، ولا يخفى ما في ذلك من المبالغة في تصرف الريح تصرف الإنسان القادر، وانقياد الكرة لها انقياد البعير المذلل، ومن الاستعارة بالكناية قول آخر: وإذا العناية لاحظتك عيونها ... نم فالمخاوف كلهن أمان فقد أثبت للعناية عيونًا بأن شببها بالإنسان، ثم تناسى التشبيه، وادعى أن المشبه فرد من أفراد المشبه به، ثم أثبت لازم المشبه به للمشبه؛ قصدًا إلى المبالغة، ونرى ذلك أيضًا استعارة المكنية في قول الحجاج: "إني أرى رءوسًا قد أينعت وحان قطافها". أثبت للرءوس قطافًا وإيناعًا أي: نضجًا، وهما من خصوصيات الثمار والأزهار، وبذا يكون قد شبه الخارجين عليه بالثمار ثم حذف المشبه به، ورمز له بشيء من لوازمه، وهو أينعت، وحان قطافها، وإثبات ذلك للمشبه تخييل، واستعارة تخييلية، وهي إذن قرينة المكنية. من المكنية قول المتنبي: ولما قلت الإبل امتطينا ... إلى ابن أبي سليمان الخطوب قلَّت أي: عزت، امتطينا أي: ركبنا فجعل الخطوب تمتطى، والذي يمتطى هو الحيوان المعروف، فهو هنا شبه الخطوب بالإبل، ثم حذف المشبه به، ودلَّ على حذفه بذكر خاصة من خواصه، وهو قوله امتطينا، على سبيل المكنية، كذلك نجد من الاستعارات المكنية قول أبي تمام: لما انتضيتك للخطوب كُفيتها ... والسيف لا يكفيك حتى يمتضى

كلمة انتضيت من انتضى السيف أي: جرده من غمده، فقد جعل ممدوحه سيفًا ينتضى، ويلجأ إليه عند الشدة، وعند النوازل، ثم طوى المشبه به ورمز له بلازمه، وهو الانتضاء، ومنه قول الآخر: عضَّنا الدهر بنابه ... ليس ما حلَّ بنا به فكلمة بنابه الأولى إنما هو ناب الحيوان، أما الباء في الكلمتين الأخيرتين فهما باء الجر، فجعل للدار هنا نابًا يعضُّ به، والدهر لا ناب له، وإنما الناب للحيوان المعروف، من ذلك أيضًا قوله: إذا ما الدهر جر على ... أناس كلاكله أناخ بآخرين كلمة كلاكله أي: الصدر، أناخ يعني: برك، فهنا شبه الدهر والمراد به نوازله، وأحداثه بالبعير، ثم حذف المشبه به بعد تَنَاسي التشبيه، وجعل المشبه فردًا من أفراده، رامزًا له بلوازمه، وهي الكلاكل والجر والإناخة، وأثبت هذه اللوازم للمشبه، وهو الدهر. من ذلك أيضًا قول السري الرفاء يقول: وقد كتبت أيدي الربيع صحائفًا ... كأن سطور السري حسنًا سطورها سُرِّي: هو شجر عالٍ ملتف الأغصان، فهنا جعل للربيع أيادٍ يكتب بها صحائف ذات سطور جميلة، وتلك من خصائص الإنسان الذي يكتب ويسطر، لكنه هو شبه الربيع بالكاتب؛ لأثر كل منهما في جمال ما يصدر عنه، ولم يذكر لفظ المشبه به؛ بل ذكر بعض لوازمه وهو الكتابة، والأيدي، والصحائف، والسطور التي لا يظهر عمل الكاتب إلا بها. من الاستعارات المكنية قول آخر: ولئن نطقت بشكر برك مفصحًا ... فلسان حالي بالشكاية أنطق وقد جعل للحال لسانًا ينطق بالشكوى تشبيهًا لها بالإنسان الناطق، ومنه كذلك قول زهير بن أبي سلمى: صحا القلب عن سلمى وأقصر باطله ... وعري أفراس الصبا ورواحله

فكلمة صحا أي: أفاق من السكر، ومستعار هنا للسلو وزوال العشق، وأقصر أي: امتنع عن قدرة وعرِّي أي: عطل، والرواحل هي الشديدة من الإبل التي تقوى على الأحمال والأسفار، فهنا إن جُعل الصبا مأخوذًا من الصبوة، وهي الفساد، والجهل، والانهماك في اللذات، فيكون قد شبه الصبا بجهة من الجهات التي يُسافر إليها كالحج، والتجارة، انتهت حاجته منها فعاد إلى داره، ورفع عن الأفراس سروجها، وعن الإبل رحالها، ثم تنوسي التشبيه، وادعي دخول المشبه في أفراد المشبه به، الذي طوي، ورمز له بلوازمه، وهي الأفراس والرواحل التي عُريت، ثم أسندت تلك اللوازم إلى المشبه وهو الصبا على سبيل التخييل. أما إذا جعل الصبا مأخوذًا من الصباء، وهو الشباب وصغر السن، فيجوز جعله استعارة مكنية أيضًا على معنى أن الشباب قد ولى وانقضى، فيكون قد شبهه بجهة لا يُذهب إليها، ثم ترى المشبه به وأسند لازمه، وهي الرواحل والأفراس إلى المشبه وهو الصبا. ومن شواهد الاستعارة المكنية في نظم القرآن الكريم قول الله تعالى: {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ} (الإسراء: 24)، فهنا شبه الذل بطائر، ثم حُذف ورُمز له بلازمه، وهو الجناح، وأثبت هذا اللازم للمشبه؛ لعلك تستشعر ما وراء الاستعارة في الآية الكريمة من حثٍّ للمؤمن على الخضوع لوالديه، وأن يكون في خضوعه وبرِّه كالطائر الذي يرفرف بجناحيه حنوًّا وحنانًا. ومن شواهدها قول الله تعالى: {الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ} (البقرة: 27) يقول الزمخشري في بيان الاستعارة في الآية الكريمة: "فإن قلت: من أين ساغ استعمال النقض في إبطال العهد، قلت: من حيث تسميتهم العهد بالحبل

على سبيل الاستعارة، لما فيه من إثبات الوصلة بين المتعاهدين، وهذا من أسرار البلاغة ولطائفها، أن يسكتوا عن ذكر الشيء المستعار، ثم يرمزوا إليه بذكر شيء من روادفه، فينبهوا بتلك الرمزة على مكانه. من ذلك قوله تعالى: {وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ} (الأعراف: 154) فيمكن حمله على المكنية أيضًا بأن يشبه الغضب بكائن حي يحث موسى -عليه السلام- ويحركه، قد حُذف المشبه به، ورمز له بشيء من لوازمه وهو السكوت، وأثبت هذا اللازم للغضب على سبيل الاستعارة التخييلية. وهنا لا بد من التنبيه على أمر مهم، وهو أن لازم المشبه به الذي يثبت للمشبه ينبغي أن يكون له اختصاص قوي بوجه الشبه في المشبه به؛ حتى تتحقق المبالغة المطلوبة، وهذا اللازم على نوعين: أولاهما: ما يتحقق به كمال وجه الشبه في المشبه به كقولنا مثلًا: ظهر وجه الحق، فالمشبه به المطوي هو الإنسان المشرق الوجه، وقد أثبت لازمه وهو الوجه إلى المشبه وهو الحق، وهذا اللازم يتحقق به كمال الإشراق في المشبه به؛ لأن الوجه هو مظهر الإشراق والوضوح في الإنسان، ومن ذلك أيضًا قول الهزلي: وإذا المنية أنشبت أظفارها ... ألفيت كل تميمة لا تنفع لأن الأظفار، وهي لازم المشبه به الذي أثبت للمشبه هي التي يكمن بها الاغتيال في السبع؛ لأن فتكه بها أقوى من فتكه بالأنياب. الثاني: ما يتحقق به قوام وجه الشبه، ووجوده في المشبه به كقولنا مثلًا: مشت بنا أقدام الزمن إلى المصير المحتوم، فقد طوى المشبه به وهو الإنسان، وأثبت لازمه وهو الأقدام إلى المشبه وهو الزمن، وهذا اللازم لا يتحقَّق وجود وجه الشبه وهو الانتقال، والذهاب إلى الغاية في المشبه به المحذوف وهو الإنسان، إلا بذكره ووجوده.

الاستعارة التصريحية.

الاستعارة التصريحية وبعد هذه الإفاضة في الحديث عن الاستعارة المكنية يأتي الدور على الاستعارة التصريحية، وإنما بدأت بالمكنية؛ لأنها الأقوى في تأكيد المعنى، لما بها من إثبات لازم المشبه به للمشبه على سبيل التخييل، ولأن ثمة اتجاها قد تبناه السكاكي يرى ردَّ الاستعارة التصريحية التبعية إلى المكنية، وهو وإن اعترض عليه الخطيب وردَّه إلا أن ذلك على أي حال استلزم الحديث عن المكنية أولًا؛ إذ لا يمكن تصور التبعية على هذا الرأي إلا بالتعرف على المكنية أولًا. ولعلك وقبل أن نفيض في الحديث عن الاستعارة التصريحية تكون قد عرفت كيف تجري الاستعارة، وأزيدك هنا فأقول: إن طريقة الغوص وراء إيحاءات الاستعارة، وهذا على الرغم من أهميته يُدرك بملاحظة السياق الذي تأتي الاستعارة ترجمة له، وبمراعاة اختيار اللفظ وحسن توظيفه في السياق، لكن إدراك هذا أمر موكول لصفاء القريحة، والدربة في تذوق الأساليب، وهذا يتوقف على إدراك البنية الطبيعية للاستعارة، فتحليل الاستعارة يجعلنا نحاول استدعاء المعنى المتخيل باللفظ المستعار، وباستدعاء المعنى نكون قد ظفرنا بالطرفين اللذين تقع فيهما المشابهة. فإذا ظفرنا بهما أدركنا صنيع الخيال في صهر الطرفين، وإدخال أولاهما في ثانيهما، ثم استعمال ذلك الثاني مرادًا به الأول، هذا إذا كان المستعار من الثوابت التي لا يلحق بها تغيير الاشتقاق، وهو ما يُعبَّر عنه بقولهم اسم جنس جامد، فإن كان مما يلحق به تغيير الاشتقاق كالأفعال، والأسماء المشتقة جرت الاستعارة أولًا في المصدر، ثم تبع ذلك اشتقاق الفعل أو الاسم المشتق من المصدر.

من النوع الأول قول شوقي يرثي سعد زغلول: شيعوا الشمس ومالوا بضحاها ... وانحنى الشرق عليها فبكاها جلل الصبح سوادًا يومها ... فكأن الأرض لم تخلع دجاها فماذا يقصد شوقي بالشمس المشيعة هنا؟ إن من ينظر إلى قرينة الرثاء يُدرك أن الشمس مرادًا بها هنا سعد زغلول، زعيم مصر في عهده، وبهذا يكون المتلقي قد استدعى الطرف الأول وهو المشبه الذي هو سعد زغلول، وصار في يديه الطرفان: الطرف المستدعى وهو المشبه، والطرف المصرح به وهو المشبه به، وهنا يُدرك كيف صهر خيال أمير الشعراء الطرفين فيتراءى له الخيال وهو يتناسى التشبيه. ويدخل سعد في أفراد الشمس، ويجعل الشمس مرادًا بها ذلك المرثي، وموجز التحليل على هذا النسق نقول فيه: أولًا: شبه الشاعر سعدا بالشمس بجامع قوة النفع، وشدة الحاجة في كل منهما. ثانيًا: تنوسي التشبيه وادعي أن سعدًا من أفراد الشمس. ثالثًا: استعيرت الشمس على سبيل الاستعارة التصريحية الأصلية، والمستعار كما لا يخفى اسم جنس جامد، ومن هذا النوع الثاني قول حافظ إبراهيم يحيي شباب مصر: أهلا بنابتة البلاد ومرحبًا ... جددتم العهد الذي قد أخلق لا تيأسوا أن تستردوا مجدكم ... فلرب مغلوب هوى ثم ارتقى فماذا يقصد بنابتة البلاد، لا بد أنه يقصد الناشئة من أبناء مصر بقرينة التأهيل والترحيب، فبهذه القرينة استدعينا المعنى الذي يرمي إليه حافظ، وهذا المعنى هو الطرف الأول، وهو المشبه. والطرف الثاني هو المصرح به في النص وهو نابتة البلاد المشبه به، وقد صهر الشاعر الطرف الأول والثاني؛ حيث تناسى التشبيه،

وادَّعى أن النشء داخل في جنس المشبه به وهو النبت، ثم استعار النبت للنشء، ثم اشتق منه نابتة بمعنى ناشئة على سبيل الاستعارة التبعية، والقرينة هي الضمير المستكن في ناشئة العائد على المخاطبين بالتأهيل والترحيب، ونوجز التحليل على هذا النحو التالي: أولًا: نقول: أنه شبه النشء بالنبت بجامع الأمل المرتقب في كل منهما. ثانيًا: تنوسي التشبيه وادعي أن النشء من أفراد النبت، ثم استعير النبت للنشء، ثم اشتق من النبت بمعنى النشء نابتة بمعنى ناشئة على سبيل الاستعارة التبعية، والقرينة ما عرفنا، ولا يخفى أن الاستعارة قد جرت أولًا في المصدر، ثم في اسم الفاعل تبعًا؛ ولذلك تُسمى تصريحية تبعية، هذا إذا كانت الاستعارة تصريحية، فإذا كانت مكنية كان الاستدعاء للطرف الثاني عن طريق خاصته الموحية به، وذلك مثلًا مثل قول ابن الرومي في بعض روائعه يقول: حيتك عنا شمال طاف طائفها ... بجنة نفحت روحًا وريحانا هبت سحيرًا فناجى الغصن سرابها ... وتداعى الطير إعلانًا ففي هذه الصورة الفاتنة نرى ريح الرياح رسولًا ينهض بإبلاغ التحية إلى من يصطفيه، وبهذه الرؤية تم استدعاء الطرف الثاني وهو الرسول، وقد أعاننا على هذا الاستدعاء خصيصة التحية التي يتمنى الشاعر أن تنهض بها ريح الشمال. وهنا يطلعنا خيال الشاعر على صنعته، وهو يصهر الطرفين بتناسي تشبيه الشمال بالرسول، وادعائه أنها من أفراده، ولا يقف عند هذا الحد، وإنما يسعى إلى إخفاء تلك الصنعة؛ فيحذف الطرف الثاني بعد استعارته للطرف الأول، لكنه إخفاء يتودَّد به إلى المتلقي، ويشوقه إلى التعرف على ما أخفاه، فيضع أمام عينيه أمارة دالة عليه، وهو خصيصة من خصائص المستعار المحذوف، ثم لا يدفع به

إلى حافة اليأس منه، وإذا بدت لك إجاز التحليل فإننا نسارع إلى تلبية تلك الرغبة فنقول: أولًا: شبهت الشمال بالرسول بجامع إيصال المراد في الطرفين. ثانيًا: تنوسي التشبيه، وادعي أن الشمال من أفراد الرسول، ثم حُذف المستعار وهو الرسول، ورمز إليه بشيء من خصائصه، وهو إبلاغ التحية للشمال، قرينة هذه الاستعارة كما عرفنا، وكما هي عند أرباب البيان استعارة تخييلية، هذه هي الطريقة التي نتعرف بها على طبيعة الاستعارة، ونقف منها على عبقرية الشاعر وهو يصهر طرفيها ويصوغ منها تلك الحلية الساحرة المبهرة. والقاعدة في كل هذا وفي إجراء أية استعارة مكنية كانت أم تصريحية أن تضع في ذهنك أن المستعار منه هو المشبه به، وأن المستعار له هو المشبه، ولنسترسل إذن في الحديث عن الاستعارة التصريحية؛ لنتمم بها الأقسام الرئيسة للمجاز اللغوي لعلاقة المشابهة، ولندرب أنفسنا على كيفية إجراء الاستعارة أكثر فأكثر، وعلى كيفية التعامل مع هذا الضرب من فنون القول. الاستعارة التصريحية، كما ذكر البلاغيون: ما صرح فيه بلفظ المشبه به أي: بلفظ المستعار منه كقولك مثلًا: رأيت أسدًا يخطب الناس، فالمعنى المراد -كما ترى- هو الرجل الشجاع، وهو المشبه، وهو إن حذف إلا أن له تحقق ووجود ليس متخيلًا ولا متوهمًا، ولذا تسمى التصريحية بأنواعها تحقيقية، وفيها يصرح عادة بلفظ المشبه به، كما عندنا هنا في لفظ الأسد في المثال الذي ذكرنا، ومن ثم فقد أطلق عليها استعارة تصريحية. والاستعارة التصريحية تنقسم باعتبار اللفظ المستعار إلى أصلية وتبعية:

فالأصلية: ما كان اللفظ المستعار فيها اسم جنس يدل على واحد غير معين من جنسه، سواء كان اسم عين، أو اسم معنى، أو اسم علم، فاسم عين مثلًا كالأسد، والثعلب، والبحر، والغيث، والسهل. واسم المعنى: وهي المصادر، كالقتل، والنوم، واليقظة، ويدخل في الاستعارة الأصلية أسماء الأعلام التي اشتهرت بصفة معينة؛ لأنها صارت لشهرتها بالصفة كاسم الجنس بالتأويل، وذلك نحو حاتم الذي اشتهر بالكرم؛ فصح استعارته لكل رجل كريم، لأن شهرته بالكرم جعلته كالموضوع لمطلق ذات متصفة بالكرم، فصار بهذه الشهرة اسم جنس تأويلًا، وعندئذٍ يجوز استعارته كما تستعار أسماء الأجناس. فنقول في استعارة اسم العين: ضمت الأم زهرتها إلى صدرها، تريد طفلتها، فتشبه طفلتها بالزهرة، وتقول: أسود المعركة أي: الشجعان، وبحور العلم أي: العلماء، وثعالبة الاستعمار أي: الماكرين، فتشبه الشجعان بالأسود، والعلماء بالبحور، والأعداء بالثعالب؛ فالمستعار في كل هذه الأمثلة اسم عين، وتقول في استعارة اسم المعنى، وهو المصدر: آلمني قتل فلان أباه، وذبحه أخاه، تريد الأذى والإذلال، وليس معنى القتل على الحقيقة، ولا الذبح؛ فتشبه الأذى والإذلال بالقتل، والذبح؛ لبشاعة الجرم في كلٍّ. ويقال في إجراء هذه الاستعارة: شبه الأذى والإذلال بالقتل والذبح بجامع الإيلام الشديد في كلٍّ، ثم ادعي أن الأذى والإذلال داخلان في جنس القتل والذبح، وفردان من أفرادهما، ثم استعير القتل والذبح للأذى والإذلال. وتقول أيضًا: سباحة الفكر التنقل في شتى العلوم بالسباحة في جنبات اليم، وتشبيه سرد الدرع بالخياطة، والتنبه لأداء الواجب باليقظة، ومن ذلك قوله

-عز وجل- {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} (الأنفال: 49)، ويقال في كل ما سبق في إجراء الاستعارة ما قيل في سابقتها، ولكن لماذا سميت هذه الاستعارة بالاستعارة الأصلية؟ الجواب: أنها أكثر وجودًا في الكلام من التبعية، ولأن التبعية مبنية عليها، وتابعة لها، فهي لها أصل، كما هو واضح ومعروف، ومن ذلك بالإضافة لما سبق قول الشاعر: فتًى كلما فاضت عيون قبيلة ... دمًا ضحكت عنه الأحاديث والذكر استعار الدم، وهو اسم جنس للدموع التي تفيض من العيون، وتُفيد هذه الاستعارة فداحة الخطب وشدة ما حلَّ بالقبيلة، فقد فاضت عيونها دماء لا دموعًا من هول الموقف، وهذا بالتالي ينبئ بعظم الممدوح الذي يبدد تلك الأحوال ويغيرها بكرمه وشجاعته إلى أمن وسرور. من ذلك أيضًا قول كثير عزة: رمتني بسهم ريشه الكحل لم يضر ... ظواهر جلد وهو للقلب جارح حيث شبه النظرة الثاقبة التي رمته بها فتاته بالسهم النافذ، وهو اسم جنس بجامع قوة التأثير في كلٍّ، ثم حذف المشبه، وادعي أنه فرد من أفراد المشبه به، فاستعير له لفظه على سبيل الاستعارة التصريحية الأصلية. النوع الثاني من الاستعارة التصريحية: الاستعارة التبعية، وهي ما كان اللفظ المستعار فيها فعلًا أو اسمًا مشتقًّا أو حرفًا، فمن استعارة الفعل قولنا مثلًا: نطقت الحال بكذا، وطار فلان إلى المعركة، ونام عقل فلان، فالمراد دلت الحال، وأسرع فلان، وغفل عقله، وتوقف عن الفهم، فاللفظ المستعار هنا فعل، وتقرير الاستعارة فيه أن يقال: شبهت الدلالة الواضحة

بالنطق في إيضاح المعنى، ثم استعير النطق للدلالة الواضحة، فصار النطق بالاستعارة معناه الدلالة الواضحة، ثم اشتق من النطق نطق بمعنى دلَّ على سبيل الاستعارة التبعية. وكذا القول في طار ونام. ومن استعارة المشتقات قولنا: فلان عقله نائم، وفلان فكره يقظان، فالمراد فلان عقله غافل، وفلان فكره منتبه، وتقول أيضًا: عظيم فعالك ناطق بكل حالك، وهذا مقتول فلان، والمراد عظيم فعالك دالٌّ بحاله، وهذا مأذى فلان. ومنه قوله جل وعلا: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} (الأنبياء: 35) والمراد كل نفس تحس بشدة الموت عند الاحتضار، كما يحس الذائق للشراب المر ما فيه من مرارة. ويقال في إجراء الاستعارة في هذه المشتقات شُبهت الغفلة بالنوم بجامع عدم الإدراك في كلٍّ، ثم استعير النوم للغفلة فصار النوم بالاستعارة معناه الغفلة، ثم اشتق من النوم نائم بمعنى غافل، وكذا القول في يقظان، وفي ناطق ومقتول، وفي قوله تعالى: {ذَائِقَةُ}. ومن استعارة الحروف قولنا: فلان في نعمة، والمراد أنه متمتع بالنعمة تمتعًا تامًّا، كأنه في داخلها، وإنما كانت الاستعارة في الأفعال والمشتقات والحروف تبعية؛ لأن الاستعارة قائمة على التشبيه، والتشبيه يقتضي أن يكون المشبه والمشبه به موصوفين بوجه الشبه؛ لأن الوجه وصف جامع بين الطرفين، إلا الحقائق الثابتة في الخارج كالجسم واللون والأسد، أو في العقل كالعلم والجود والذكاء، كما ذكرنا في الاستعارة الأصلية، فيقال مثلًا: جسم صغير وعلم واسع. أما الأفعال والمشتقات فلا ثبوت لها لا خارجًا ولا عقلًا؛ إذ هي متجددة متغيرة لدخول الزمن المتغير في مفهوم الأفعال ولزومه للمشتقات؛ ولذا لا تصلح أن تكون موصوفًا، وبالتالي لا تصلح للتشبيه، ويتحتم أن يجري التشبيه أولًا في

المعاني الثابتة القابلة للوصفية، وهي المصادر، ثم يستعار المصدر المشبه به للمصدر المشبه، ويشتق منه الفعل أو اسم الفاعل، أو اسم المفعول بعد أن يحمل المعنى الجديد لمصدره الذي انتقل إليه بالاستعارة، فيكون الفعل أو المشتق حينئذٍ تابعًا لمصدره في حمل المعنى الجديد، كما رأينا في إجراء الاستعارات السابقة. تلك هي خطوات إجراء الاستعارة التبعية، وقد أعدتها عليك؛ لتتعرف كيف تجري الاستعارة في الأفعال، أو في الأسماء الأصلية، وكما كانت الاستعارة في الأفعال والمشتقات تبعية؛ لأن جريان الاستعارة في الأفعال والمشتقات تابع لجريانها في مصادرها؛ إذ الأفعال والمشتقات لا تنفك معانيها عن معاني أصولها، وهي المصادر، وإذا تغير معنى الأصل بالاستعارة تغير تبعًا لذلك معنى الفرع المشتق منه. وقد اعتبر البلاغيون التشبيه والاستعارة في المصدر قبل اعتبارهما في الفعل والمشتقات؛ لأن المصدر هو المعنى القائم بالذات، فهو الجدير بأن يعتبر فيه التشبيه والاستعارة قبلان. أما الحروف فقد عُدَّت الاستعارة فيها تبعية؛ لأن الحرف لا يدل على معنى مستقل، بل يدل على معنى في غيره، ولذا لا يصلح للتشبيه ولا الاستعارة؛ بل يقع التشبيه والاستعارة في متعلق معناه أولًا؛ لأنه هو الذي يستقل بالدلالة، ومتعلق معنى الحرف عند الخطيب هو مدخوله، وعند الجمهور هو المعنى العام الذي نفسر به الحرف. ويتضح ذلك في قولنا: فلان في نعمة. فالخطيب يشبه مدخول الحرف وهو النعمة بظرف تحل فيه الأشياء بجامع مطلق ارتباط وتعلق في كلٍّ، ويدل على التشبيه بلفظ في الذي هو لازم من لوازم المشبه به وهو الظرف.

والجمهور يشبه الارتباط الحاصل بين النعمة وصاحبها بالظرفية التي هي ارتباط حاصل بين الظرف والمظروف، ثم يسري التشبيه من هذا العام إلى أفراده؛ فيستعار اللفظ فيه من مفرد من أفراد المشبه به لفرد من أفراد المشبه على سبيل الاستعارة التبعية في الحروف يعني: مثلًا قوله -صلى الله عليه وسلم ((خير الناس رجل ممسك بعنان فرسه، كلما سمع هيعة طار إليها))، ترى أن الحديث شبه العدو بالطيران بجامع قطع المسافة بسرعة في كلٍّ، ثم استعير الطيران للعدو، فصار العدو بالاستعارة معناه الطيران، ثم اشتق من الطيران طار بمعنى عدا على سبيل الاستعارة التبعية، والهيعة كما هو معروف هي الصيحة المفزعة، وأصلها من هاع يهيع إذا جبن، والمراد: أنه رجل مستعد للجهاد كلما سمع صيحة مستغيث من المسلمين أسرع إليه ليقاتل معه. ومثل الحديث في استعارة الطيران للعدو قول امرأة ترثي قتيلًا فارسًا تقول: لو يشا طار به ذو ميعة ... لاحق الآطال نهد ذو خصل كلمة ميعة يعني: نشاط لاحق الآطال أي: ضامر الخاصرة، نهد أي: القوي، ذو خصل جمع خصلة، وهو الشعر المجتمع، أرادت عدا بهذا الفرس مسرعًا، ومنه قول الآخر: فَطِرتُ بِمَنصَلى في يَعمُلاتٍ ... دَوامي الأَيدِ يَخبِطنَ السَريحا أراد أنه قام بسيفه مسرعًا إلى نوقه، فعقرها؛ لأن كلمة الصريحا: السير الذي يُشد على أرجل الناقة، والمنصلي هو السيف، واليعملات هي النوق المطبوعة على العمل، فهو أراد أنه قام بسيفه مسرعًا إلى نوقه فعقرها، وسالت الدماء على أيديها وأخذت تضرب بأقدامها القيود المقيدة بها من شدة الجراح؛ فالاستعارة في البيتين تبعية كما هي في الحديث، من ذلك أيضًا قول البحتري من الاستعارة التبعية في مادة الفعل قول البحتري:

يتراكمون على الأسنة في الوغى ... كالفجر فاض على نجوم الغيهب يريد أنهم بواسل يندفعون بشدة وصبر إلى مواطن الموت كما ينبسط الفجر دفعة، فينشر ضوءه على الكون، وقد استعار الفيض لانبساط الفجر؛ إذ شبه انبساط الفجر وسرعة انتشار ضوئه بفيضان الماء، ثم استعاره له، واشتق منه فاض بمعنى انبسط وانتشر بسرعة. ومن الاستعارة التبعية أيضًا في مادة الفعل قول أبي الطيب يمدح أبا فراس الحمداني: نثرتهم فوق الأحيدب نثرة ... كما نثرت فوق العروس الدراهم أراد أن ممدوحه هزم أعداءه شر هزيمة، فشتت شملهم وفرقهم، فانتشروا في غير نظام كما تنثر الدراهم فوق العروس، فقد شبه تفرق أجسامهم وتساقطها بتفرق الأجسام الصغيرة ونثرها، بجامع التفرق والتساقط على غير نظام في كلٍّ، ثم استعير النثر من المشبه به للمشبه، واشتق منه نثر بمعنى: فرق على سبيل الاستعارة التبعية في الفعل. من ذلك أيضًا قول شاعر آخر: لم تَلقَ قوماً هُمُ شَرِّ لاخوتهم ... ................ ويريد إخوتهم هنا أعداءهم على سبيل التهكم. لم تَلقَ قوماً هُمُ شَرِّ لاخوتهم ... منا عَشيةً يجري بالدَّمِ الوادي نَقربهُمُ لهذمياتٍ نَقُدُّ بها ... ما كان خاطَ عليهم كُلَّ زَرَادِ والزراد: هو صانع الزرد، وهو الدرع، فهو هنا يصف قومه بالشجاعة، وأنهم أشد خطرًا على الأعداء عند احتدام المعركة، واشتداد القتال، ويريد بذلك أنهم يطعمونهم سيوفًا تشق دروعهم، وتفري ضلوعهم، وقد استعار؛ لذلك القرى للضرب بالسيف بجامع الترحيب والإكرام في كلٍّ، واشتق منه نقري بمعنى: نضرب على سبيل الاستعارة

التبعية التهكمية، ثم استعار الخياطة للزرد أي: الدرع من الحديد بجامع ضم الأطراف في كلٍّ، واشتق منها الفعل خاطى بمعنى سرد على سبيل الاستعارة التبعية في الفعل. ومن ذلك وهي كسابقتها تبعية تهكمية قول الله -عز وجل: {فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} (الانشقاق: 24) فمعلوم أن البشارة إنما تكون بأمر طيب، أو بأمر فيه سرور، لكنه هنا نزَّل الإنذار منزلة التبشير؛ لقصد التهكم والسخرية، فشبه الإنذار بالتبشير بجامع إدخال السرور في كلٍّ، ثم استعير التبشير للإنذار، واشتق منه الفعل بشَّر بمعنى أنذر على سبيل الاستعارة التبعية التهكمية. ومن التبعية في الفعل قوله تعالى: {وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَمًا} (الأعراف: 168) فقد شبَّه التفريق بالتقطيع بجامع إزالة الاتصال في كلٍّ، ثم استعير التقطيع للتفريق، واشتق منه الفعل قطع بمعنى فرَّق. ومنه قوله تعالى: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ} (الأنبياء: 18) فالمراد بل نورد الحق على الباطل فيُذهبه ويمحوه، فإذا هو ذاهب؛ فقد استعير القذف للإيراد والدمغ للمحو والإزالة، والزهاق للذهاب، ثم اشتق منها نقذف، ويدمغ، وزاهق على سبيل الاستعارة التبعية. ومن ذلك أيضًا قوله تعالى: {إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ} (هود: 87) فالمراد السفيه الغوي، كما هو سياق الآية؛ حيث شبه السفه والغي بالحلم، والرشد، ثم استعير الحلم والرشد للسفه والغي، واشتق منهما حليم ورشيد بمعنى سفيه وغوي على سبيل الاستعارة التبعية التهكمية. فإلى أن ألتقي وإياكم على خير أستودعكم الله. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الدرس: 8 تابع: الاستعارة.

الدرس: 8 تابع: الاستعارة.

الاستعارة الوفاقية، والاستعارة العنادية.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس الثامن (تابع: الاستعارة) الاستعارة الوفاقية، والاستعارة العنادية إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، وبعد: قلنا قبل ذلك أن في الاستعارة التبعية يتحتم أن يجري التشبيه أولًا في المعاني الثابتة القابلة للوصفية، وهي المصادر، ثم يستعار المصدر المشبه به للمصدر المشبه، ويشتق منه الفعل أو اسم الفاعل أو اسم المفعول، بعد أن يحمَّل المعنى الجديد لمصدره الذي انتقل إليه بالاستعارة؛ فيكون الفعل أو المشتق حينئذٍ تابعًا لمصدره في حمل المعنى الجديد، كما رأينا فيما مضى. وكما تقع الاستعارة التبعية في مادة الأفعال، وهي حروفها الدالة على الحدث على نحو ما رأينا، فقد تقع في صيغتها وهي هيئاتها الدالة على الزمان كصيغتي الماضي والمضارع، من ذلك قول الله تعالى: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ} (النحل: 1) فأمر الله لم يأتِ بعد، بدليل قوله: {فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ} فكان الأصل أن يقال: يأتي أمر الله، ولكن عبر بالماضي مجازًا؛ ليفيد أن هذا الأمر محقق الوقوع؛ فقد شبه الإتيان في المستقبل بالإتيان في الماضي بجامع تحقق الوقوع في كلٍّ، ثم استعير الإتيان في الماضي للإتيان في المستقبل، واشتقَّ منه أتى بمعنى يأتي على سبيل الاستعارة التبعية في صيغة الفعل. ومن الاستعارة التبعية في الحروف قوله تعالى: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا} (القصص: 8) فاللام في قوله: {لِيَكُونَ} لام العلة، وهي موضوعة لترتب ما بعدها على ما قبلها، وقد استعملت هنا في غير ما وضعت له؛ لأن ما بعدها ليس مترتبًا على ما قبلها، فهم لم يلتقطوه ليكون لهم عدوًّا وحزنًا، بل التقطوه ليكون لهم قرة عين يفرحون به؛ ففي لام التعليل في الآية الكريمة استعارة تبعية يقال في إجرائها على رأي الخطيب: "بها العداوة والحزن

بالفرح والسرور بجامع ترتب كلٍّ منهما على الالتقاط، ودُلَّ على التشبيه بذكر لازم المشبه به وهو اللام للمشبه". وعلى رأي الجمهور نقول: شبه مطلق ترتب علة واقعية انتهى إليها الالتقاط بمطلق ترتب علة رجائية غائية، فسرى التشبيه من هذين الكليين إلى جزئياتهما، ثم استعيرت اللام الموضوعة لجزئي من جزئيات المشبه به وهو التقاط موسى ليكون قرة عين، لجزئي من جزئيات المشبه وهو التقاطه ليصير عدوًّا وحزنًا. ومن ذلك قول الله تعالى: {فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} (طه: 71)، فلفظ {فِي} مستعمل في غير ما وضع له في هذه الآية؛ لأن جذوع النخل لا تصلح للظرفية الحقيقية، لكن لما كانت هذه الجذوع متمكنة منهم؛ لأن مراد فرعون شدة التعذيب وإحكام الصلب؛ شبهت الجذوع بالظرف الحقيقي في هذا التمكن، واستعمل فيها لفظ "في" على سبيل الاستعارة التبعية، ويقال في إجرائها على رأي الخطيب: "شبهت الجذوع بالظرف بجامع التمكن، ثم استعير لفظ في، وهو جزئية من جزئيات المشبه به، واستعمل في المشبه"، وعلى رأي الجمهور: شبه مطلق الارتباط بين السحرة المؤمنين وبين الجذوع بمطلق الارتباط بين الظرف والمظروف، بجامع التمكن فسرى التشبيه من الكليين إلى الجزئيات، ثم استعير لفظ "في" من جزئيات المشبه لجزئي من جزئيات المشبه. إذن فالأمر عند الجمهور يسري في العموميات والترتب؛ بينما هو عند الخطيب يسري بين الظرف والمظروف. ومن التبعية لكنها هذه المرة في النداء مناداة القريب بلفظ البعيد "يا" لغرض بلاغي، كغفلة المنادي مثلًا، وعدم تنبهه فنقول: يا فلان، لمن هو قريب منا

كذلك ينادى الرب -عز وجل- وبالطبع قريب كما أخبر في محكم آياته {فَإِنِّي قَرِيبٌ} (البقرة: 186) ينادى بلفظ البعيد يا، فيقال: يا رب وهو أقرب إلينا من حبل الوريد، وذلك لغرض بلاغي هو إحساسنا بالذنوب وشعورنا بالبعد عن مواطن الزلفى؛ فقد شبه نداء القريب بنداء البعيد فسرى التشبيه من الكليين إلى الجزئيات، واستعير "يا" من جزئيات المشبه به لجزئي من جزئيات المشبه على سبيل الاستعارة التبعية في الحروف، وكذا مناداة البعيد بلفظ القريب. وكان يمكن أن نقتصر على هذه التقسيمات، لكن ثمة اعتبارات وتفريعات أخرى للاستعارة لاحظها البلاغيون، ولا حرج أن نعرض لشيء منها حتى نكون على ذكر بها. لقد ذكروا أن الاستعارة بصفة عامة باعتبار إمكان اجتماع الطرفين في شيء واحد، وعدم اجتماعهما تنقسم إلى قسمين: استعارة وفاقية، واستعارة عِنَدِي. فالوفاقية: هي التي يمكن اجتماع طرفيها أي: المستعار له أعني: المشبه، كما قلنا، والمستعار منه أي: المشبه به في شيء واحد، لما بينهما من التوافق، خد مثلًا قول الله تعالى: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} (المائدة: 52) فقد استعير المرض للنفاق، قوله تعالى: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} (فصلت: 17) فاستعير العمى للكفر، مثله قوله تعالى: {وَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ} (الأنعام: 122) حيث استعيرت الحياة للهداية، وبين المستعار منه والمستعار له توافق؛ لأنه يمكن اجتماعهما في شيء واحد؛ فالمرض والنفاق يجتمعان في قلب إنسان، والعمى والكفر يمكن اجتماعهما في شخص كافر، والحياة والهداية يجتمعان في المؤمن، والجامع بين المرض والنفاق أن كلًّا منهما يفسد ما يصاحبه، فالمرض يفسد الأبدان، والنفاق يفسد العقائد، والجمع بين العمى والكفر أن كلًّا منهما يوقع

صاحبه في المهالك والمخاطر؛ فالجامع بين الحياة والهداية ما يترتب على كل من الفائدة والنفي. ونذكر من الاستعارة الوفاقية ما جاء في قول الشاعر: ولقد سموت بهمتي وسما بها ... طلب المكارم بالفعال الأفضل لأنال مكرمة الحياة وربما ... عثر الزمان بذي الدهاء الأحول فقد استعار الحياة لبقاء الذكر الطيب والأثر الحسن، وهما متوافقان. أما الاستعارة العنادية: فهي ما لا يمكن اجتماع طرفيها في شيء واحد لتنافيهما، وهذا لا يقدح في جمال هذه الاستعارة كما سنبين، ومن العنادية التي لا يمكن اجتماع طرفيها في شيء واحد؛ لتنافيهما قول الله، {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ} (الأنعام: 122) فقد استعير الموت للضلال بجامع ما يترتب على كل من عدم الانتفاع، ولا يمكن اجتماع الموت والضلال في شيء واحد. ومن ذلك قوله تعالى: {إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} (النمل: 80) فقد استعير الموتى للكفرة الأحياء؛ لعدم انتفاعهم بصفة الحياة، فلم يعتدّ بها فيهم، ولا يمكن اجتماع الموتى والأحياء في شيء واحد. ومن العنادية قول المتنبي: فلم أر بدرًا ضاحكًا قبل وجهها ... ولم تر قبلي ميتًا يتكلم قد استعار الميت لمن أسقمه الحب وأضناه العشق، ولا يمكن اجتماع المحب المتيم والميت في شيء واحد، فهما لأجل ذلك سميت بالاستعارة العنادية. ونلاحظ في الأمثلة السابقة أن الاستعارة قد بُنيت على ترك الاعتداد بوجود الصفة في المشبه؛ لفقدان ثمرتها، إذ إن الغرض من الاستعارة إلحاق الناقص بالكامل في وجه الشبه، وهو متحقق على أكمل وجه في الأمثلة السابقة.

هذا وقد تُبنى الاستعارة على تنزيل التضاد الحاصل بين الطرفين منزلة التناسب؛ لقصد التمليح، أو التهكم، وتسمى عندئذٍ بالاستعارة العنادية التمليحية، أو العنادية التهكمية. كما سبق أن أشرنا إلى قوله تعالى: {فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} (الانشقاق: 24) حيث استعير التبشير للإنذار، بعد تنزيل التضاد الحاصل بينهما منزلة التناسب لقصد السخرية والتهكم، والجامع بين التبشير والإنذار إحداث المسرة بكلٍّ، وإن كانت المسرة في البشارة محققة فهي في الإنذار متخيلة. ونظير ذلك قوله عز وجل: {فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ} (الصافات: 23) قد استعيرت الهداية للجر بعنف وقهر بجامع ما يترتب على كلٍّ من الخير، وإن كان تنزيليًّا في المستعار له. ومن ذلك قوله تعالى: {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} (الدخان: 49) أي: الذليل المهان أن السياق يدل على ذلك، فقد استعيرت العزة والكرامة للذلة والمهانة، استعارة عنادية تهكمية. من ذلك قوله تعالى أيضًا في حق شعيب حين قال له قومه {إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ} (هود: 87) أي: السفيه الغوي، وفيها ما في سابقتها، إلى غير ذلك مما مر بنا من الشواهد. من العنادية التمليحية قولنا للبخيل في مقام المزاح والمداعبة: من يجهل أن جودك عم الورى، من يجهل أن جودك عم الورى: فقد استعير الجود للبخل بجامع الإفاضة بالخير في كلٍّ، وذلك بتنزيل التضاد الحاصل بينهما منزلة التناسب، فالإفاضة موجودة في المستعار منه على وجه التحقيق، وموجودة في المستعار له تنزيلًا، من ذلك قول أبي تمام: أنبئت عتبة يعوي كي أشاتمه ... الله أكبر أنَّى استأسد الأسد

الاستعارة المطلقة، والمجردة، والمرشحة.

ما كنت أحسب أن الدهر يمهلني ... حتى أرى أحدًا يهجوه لا أحد فقد استعار الأسد للجبان استعارة عنادية تمليحية؛ إذ الجامع وهو الشجاعة موجودة في الأسد حقيقة وفي الجبان تنزيلًا. من ذلك أيضًا قول الآخر: سليمان ميمون النقيبة حازم ... ولكنه وقفٌ عليه الهزائم فقد استعار الهزائم للانتصارات استعارة عنادية تمليحية؛ إذ مراد الشاعر أن سليمان لا يحزم أمرًا، ولا يحرز نصرًا، ولا يتحقق على يديه أدنى خير. الاستعارة المطلقة، والمجردة، والمرشحة كما أن الاستعارة تنقسم -وهذه من ضمن التقسيمات التفريعية- إلى مطلقة، ومجردة، ومرشحة، وذلك باعتبار ذكر الملائم لأحد الطرفين وعدم ذكره. أما الاستعارة المطلقة: فهي التي لم تُقترن بما يلائم المستعار له أو المستعار منه، أو اقترنت بما يلائمهما معًا كقولنا: طلع البدر من جانب الخدر، تريد المرأة الحسناء؛ فقد استعير البدر لها، ولم يذكر في الجملة ملائم، لا للمستعار له ولا للمستعار منه. وأما قولنا من جانب الخدر فهي قرينة للاستعارة، ولا يعد ملائمًا للمستعار له. ومن ذلك قوله تعالى: {إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ} (الحاقة: 11) فقد استعير الطغيان للزيادة بجامع مجاوزة الحد في كلٍّ وفقط، ولا يوجد في الآية ملائم لأحدهم، ونقول مثلًا: رأيت بحرًا يتكلم نستعير البحر للعالم، ولا ملائم لأحدهما في الجملة. أما كلمة يتكلم فقرينة للاستعارة، وليس ملائمًا، ومما اقترنت فيه الاستعارة بملائم لكل منهما قول كثير عزة:

رمتني بسهم ريشه الكحل لم يضر ... ظواهر جلدي وهو للقلب جارح فقد استعير السهم للنظرة الثاقبة بجامع قوة التأثير، وذُكر في البيت ملائم للمستعار منه وهو المشبه به، وهي كلمة ريشة، وملائم للمستعار له الذي هو المشبه وهو كلمة الكحل، ومن ذلك قول زهير وقد سبق: لدى أسد شاك السلاح مقذف ... له لبد أظافره لم تقلم استعير الأسد للبطل الشجاع، وذكر ملائم للبطل وهو حمل السلاح، وملائم للأسد، وهو اللبد والأظافر. أما كلمة مقذف فإذا أريد به أنه يُقذف به في الحروب لخبرته وتجاربه؛ كان من ملائمات البطل، وإذا أريد به أنه ضخم الجثة مليء باللحم، وهو من ملائمات الأسد. ومن ذلك قولنا: "رأيت غيثًا غزيرًا يعطي باليمين وباليسار" فغزيرًا يلائم الغيث الذي هو المستعار منه، ويعطي باليمين وباليسار يلائم الرجل الجواد المستعار له. أما الاستعارة المجردة: عكس المرشحة، المجردة هي التي اقترنت بما يلائم المستعار له وهو المشبه، وذلك بعد استيفاء القرينة، كما في قول البحتري مثل: يؤدون التحية من بعيد ... إلى قمر من الإيوان باد فالإيوان الذي هو القصر كلمة بادٍ أي: ظاهر، فهنا استعير القمر للإنسان الجميل، ثم وُصف بما يلائم المستعار له وهو قوله من الإيوان باد أي: مطلّ، بمعنى أنه شبه الإنسان الجميل بالقمر، وذكر ما يلائم المشبه وهو الإنسان، وذلك بقوله "من الإيوان"، إذ القمر لا يتأتى له أن ينظر من القصر، أو من الإيوان. وقد استوفت الاستعارة قرينتها قبل هذا الوصف بقوله "يؤدون التحية من بعيد"، من ذلك قول الآخر:

وعد البدر بالزيارة ليلًا ... فإذا ما وفى قضيت نذوري فهنا استعار البدر للمحبوبة والقرينة قوله "وعد"، ثم ذكر ما يلائم المستعار له من الزيارة والوفاء بها على سبيل التجريد، فهي استعارة مجردة، من ذلك قولنا: هذا عالم يُستضاء برأيه في مواجهة المشكلات وحلها، وهنا استعار المصباح المضيء للرأي الصائب، ثم حُذف المستعار منه وهو المصباح، ورمز له بلازمه، وهي كلمة يستضاء على سبيل الاستعارة المكنية. وقد ذكر في العبارة ما يلائم المستعار له، وهو كلمة الرأي، وذلك بقوله في مواجهة المشكلات وحلها بمعنى: أنه شبه الرأي الصائب بالمصباح المضيء، ثم حذف المشبه به وهو المصباح، وذكر ما يلائم هذا المشبه المذكور، وهو قوله في مواجهة المشكلات. ونظير ذلك قول القائل: "رحم الله امرأ ألجم نفسه بإبعادها عن شهواتها" حيث استعير الجواد للنفس استعارة مكنية، والقرينة إضاف الإلجام للنفس، ثم ذُكر ملائم للمستعار له وهو إبعادها عن شهواتها، بمعنى: أنه شبه النفس الأبية بالفرس المدبوح الجماح، ثم حذف المشبه به على سبيل المكنية، وذكر ما يلائم المشبه المذكور، وهو المستعار له، وذلك بقوله إبعادها عن شهواتها، من ذلك قول كثير: غمر الرداء إذ تبسم ضاحكًا ... غلقت لضحكته رقاب المال فهنا استعار الرداء للمعروف بجامع أن كلًّا منهما يصون صاحبه والقرينة ما ذكره من المال، وتبسم الممدوح عند الجود به، وقد ذُكر في البيت ملائم للمستعار له، وهو إضافة غمر بمعنى كثير إلى الرداء، فيكون بذلك قد شبه الممدوح في معروفه وجوده بالرداء بجامع الصون، ثم حذف المشبه على سبيل التصريحية، وذكر ما يلائمه وهو إضافة غمر بمعنى كثير إلى الرداء؛ لأن الكثرة تلائم المعروف.

من ذلك قول الله تعالى: {فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ} (النحل: 112) فهنا استعير اللباس للأحداث والمصائب التي حلَّت بأهل القرية، أو لما علا وجوههم وأجسادهم من صفرة وهزال، وقد ذُكر في الآية الإذاقة بمعنى الإصابة، وهي من ملائمات المستعار له؛ فالإذاقة بمعنى الإصابة تلائم الأحداث والمصائب، وما علا الوجوه من صفرة، ولا تلائم اللباس. من هذه الاستعارات التي هي باعتبار الملائم هي الاستعارة المرشحة، وهي التي قرنت بما يلائم المستعار منه، وهو المشبه بعد استيفاء القرينة، كما في قوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} (البقرة: 16)، فهنا استعير الشراء للاختيار والاستبدال، ثم ذُكر الربح والتجارة وهما من ملاءمات المستعار منه، وذلك مما يقوي الاستعارة ويحقق المبالغة في التصفير والتخييل، ودعوى دخول المستعار له في جنس المستعار منه، وكأن الكلام على الحقيقة، ولذلك سميت بالاستعارة المرشحة؛ إذ الترشيح معناه في اللغة التقوية، ومنها قول المتنبي: رميتهم ببحر من حديد ... له في البر خلفهم عباب فهنا استعير البحر والمستعار منه أو المشبه به للجيش القوي، الذي هو المشبه، والقرينة قوله "من حديد"، ثم ذكر ما يلائم المستعار منه وهو العباب والبر، فخُيِّل للسامع أن المراد هو البحر حقيقة، بمعنى: أنه شبه الجيش القوي بالبحر، ثم حذف المشبه به على سبيل التصريحية، وذكر ما يلائم المشبه به أي: المستعار منه، وذلك بقوله العباب والبر، ومن ذلك قول الشاعر: إذا ما الدهر جر على أناس ... كلاكله أناخ بآخرين وهن استعار الجمل للدهر استعارة مكنية، وتم استيفاء قرينتها بإضافة لازم المستعار منه الذي هو الجر والكلاكل إلى المستعار له، وهو الدهر، ثم ذكر جملة أناخ بآخرين، وهي من ملائمات المستعار منه، ومن ذلك قول الآخر:

ينازعني رداء عبد عمرو ... رويدك يا أخا عمرو بن بكر لي الشطر الذي ملكت يميني ... ودونك فاعتجر منه بشطري أعتجر من الاعتجار وهو الاعتمام، ويقصد فاعتجر منه بشطري أي: بصدر السيف، فهنا استعار الرداء للسيف بجامع أن كلًّا منهما يصون صاحبه، وتم استيفاء القرينة بقوله: "لي الشطر الذي ملكت يميني"؛ لأن ما يكون باليمين هو السيف الذي يحارب به لا الرداء، ثم ذكر الاعتجار وهو ما يلائم المستعار منه، وهو الرداء، ولطالما أدركت معي أن الاستعارة مبنيَّة على تناسي التشبيه وادِّعاء دخول المشبه في جنس المشبه به؛ فقد وضح لك أن الترشيح أبلغ من التجريد ومن الإطلاق؛ لأن التناسي فيه أقوى وأتم، ودعوى الاتحاد فيه أظهر وأوضح، صار المشبه نفس المشبه به، وصرنا نصفه بأوصافه، ونتبعه بملائماته، فعندما يقول أبو تمام: ويصعد حتى يظن الجهول ... بأن له حاجة في السماء نراه قد أمعن في تناسي المشبه، إذ جعل الصعود المعنوي والارتقاء إلى مراتب المجد صعودًا حسيًّا، وبالغ في ذلك بذكر ما يُلائم المشبه به؛ فجعل الجاهل الذي لا يعرف همم الممدوح يظن أن له حاجة في السماء، فهو يصعد لينال تلك الحاجة، وعليه قول بشار: أتتني الشمس زائرة ... ولم تك تبرح الفلك حيث استعيرت الشمس للمحبوبة، ثم أمعن في تناسي التشبيه، وادَّعى أنها غادرت مكانها في السماء، وأقبلت إليه زائرة، ولم تكن قبل ذلك تبرح الفلك، فبنى الكلام على أنها شمس حقيقية، ولهذا صحَّ التعجب في قول المتنبي: كبرت حول ديارهم لما بدت ... منها الشموس وليس فيها المشرق

الاستعارة العامية والخاصية.

يقصد بذلك فتاته، وقول آخر: لما رآني مقبلًا هز نفسه ... إلي حسام كلُّ صفح له حد ولم أر قبلي من مشى البدر نحوه ... ولا رجل قامت تعانقه الأسد فقد استعار الشموس والبدر والأسد لممدوحه، ثم بنى كلامه على تناسي التشبيه، وأمعن في التناسي، فجعل الممدوح بدرًا وشموسًا، وأسدًا على الحقيقة، ولهذا ساغ التعجب، وساغ التعجب أيضًا في قول ابن العميد: قامت تظللني ومن عجب ... شمس تظللني من الشمس والنهي عنه في قول ابن طباطبا: لا تعجبوا من بلى غلالته ... قد زرّ أزراره على القمر فلولا بناء الكلام على المبالغة والإمعان في تناسي التشبيه، وادعاء أنها شمس وقمر على الحقيقة؛ لما ساغ التعجب في الأول، ولا ساغ النهي في الثاني. الاستعارة العامية والخاصية هذا ومن تقسيمات الاستعارة الفرعية تقسيمها إلى عامية مبتذلة، وخاصية غريبة. استعارة العامية المبتذلة: هي ما قرب فيها الجامع واتضح بحيث يدركه العامة، كاستعارة الأسد للرجل الشجاع، والبحر للكريم الجواد، والبدر للحسناء، ولوضوح الجامع وقربه في الاستعارة المبتذلة لا يهتم بها البلغاء، ولا تستحسن إلا في مقام الإرشاد والوعظ، وتقرير المسائل العلمية والمخاطبة العامة. أما الاستعارة الخاصية الغريبة: فهي ما بعد فيها الجامع، ودق واحتاج في إدراكه والوقوف عليه إلى كثرة تفكير وإطالة نظر، ودقة ملاحظة، ودائمًا ما ترجع غرابة الاستعارة إلى أحد العوامل الآتية:

أولًا: كون الجامع مثلًا بين المستعار له والمستعار منه أمرًا عقليًّا، كإزالة الحجاب في استعارة النور للحجة الواضحة، والرأي الصائب في نحو قولنا: هذا عالم يستضاء برأيه، وتنير حجته. ثانيًا: أن يشتمل الجامع على شيء من التفصيل والتركيب. ثالثًا: أن يكون المشبه به نادر الحضور في الذهن عند حضور المشبه، كما في قول طفيل الغنوي: وجعلت كوريا في ناجية ... يقتات شحم سنامها الرحل حيث استعار الاقتيات، وهو تناول الطعام بالفم لإذهاب الرحل شحم السنام، وذلك لكثرة احتكاكه به، والجامع بينهما إزالة الأثر إزالة تدريجية مع طول الوقت، وهذا محقق في الاقتيات، وفي إذهاب الرحل شحم السنام، ومرجع الغرابة إلى التفصيل في الجامع؛ حيث لم ينظر إلى مجرد الإزالة، بل إلى حصولها بالتدريج شيئًا فشيئًا، وهذا مما يحسن الاستعارة في البيت. ومما يحسنها كذلك أن الشحم نفسه مما يقتات، فالسامع يتخيَّل أن الاقتيات حقيقة، فإذا ما انتهى إلى آخر البيت الرحل وضح له المجاز، وبرز له الشيء من حيث لم يتوقعه، من ذلك قول ابن المعتز: حتى إذا ما عرف الصيد الدار ... وأذن الصبح لنا بالإبصار فقد استعار الإذن للتمكن من الرؤية بعد العجز عنها، ومرجع الغرابة إلى ما في الجامع وهو القدرة على فعل الشيء بعد زوال المانع من فعله، من تفصيل لا يُدرك إلا بعد إدراك أن الليل كان مانعًا من الرؤية، بالإضافة إلى أن هذا الجامع أمرًا عقليًّا، والعقليات المركبة دقيقة الإدراك بالنسبة إلى المحسوسات. ومن الاستعارات الغريبة لما بها من تفصيل أيضًا قول الآخر يصف رقة النسيم:

بعرض تنوفة للريح فيها ... نسيم لا يروَّع في التراب فهنا استعار الترويع بمعنى الإفزاع والإخافة؛ لإثارة الريح التراب بجامع الحركة الهوجاء في كلٍّ، ومرجع الغرابة في البيت إلى كون المستعار له بعيد الحضور في الذهن عند ذكر المستعار منه، فصار الجمع بينهما غريبًا دقيقًا، من ذلك قول ابن المعتز: يناجيني الإخلاف من تحت مطله ... فتختصم الآمال واليأس في صدري فهنا الإخلاف بمعنى عدم الوفاء بالوعد، ومطله أي: التأخير في إجابة المطلوب، كما بالحديث ((مطل الغني ظلم)) فهنا في البيت استعار المناجاة للخطور في الذهن بجامع خفاء الدلالة في كل، وهو جامع عقلي لذا كانت الاستعارة غريبة، ثم استعار الاختصام لحضور الأمل في صدره مرة، ثم اليأس مرة أخرى، كأنهما يتنازعان بجانب مطلق التدافع بين شيئين متعارضين، ولنا أن نجعل الاستعارتين في البيت من قبيل الاستعارة بالكناية؛ لتشبيه الإخلاف مثلًا بإنسان يتحدث من خلف ستار، والأمل واليأس بمتخاصمين يتنازعان مكانًا للإقامة فيه، وهذا أجمل وأكثر إبرازًا للخيال الذي يريده الشاعر، من ذلك أيضًا قول الآخر يصف فرس: عودته فيما أزور حبائبي ... إهماله وكذاك كل مخاطر وإذا احتبى قربوصوه بعنانه ... علك الشكيمة إلى انصراف الزائر العنان: هو السير الذي يُوضع في فم الفرس، وهو ما يسمى باللجام، وكلمة قربوصوه يعني: السرج الذي يوضع على الفرس، علك الشكيمة، الشكيمة: هي الحديدة المعترضة في فم الفرس، فهنا استعار الاحتباء وهو ضم الرجل ركبتيه وجمعه ظهره وساقيه بثوب؛ لضم اللجام مقدم السرج إلى فم الفرس، والجامع هو الهيئة المركبة من انضمام شيئين بواسطة شيء آخر.

وترجع غرابة الاستعارة هنا إلى ما في هذا الجامع من التفصيل، فضلًا عن كون المشبه به نادر الحضور في الذهن عند حضور المشبه؛ لتباعد الهيئتين، هيئة الفرس، وهيئة الإنسان الجالس محتبيًا، فهل يمكن للبليغ أن يحول الاستعارة المبتذلة إلى استعارة غريبة؟ نعم، يمكن ذلك، وذلك بأن يتصرف في الاستعارة المبتذلة تصرفًا يحولها من الابتذال إلى الغرابة؛ بأن يتضمن الكلام الذي وردت فيه مجازًا آخر، أو تتعدد الاستعارات، أو يتعلق بها أمر يزيد من المبالغة التي أفادتها، أو يتوخى في بناء الجمل، ونظم الكلام ما يؤدي إلى دقة التصوير، وإبراز الخيال، انظر مثلًا إلى قول كثير: ولما قضينا من منى كل حاجة ... ومسح بالأركان من هو ماسح وشدت إلى دهم المهارى رحالنا ... فلم ينظر الغادي الذي هو رائح أخذنا بأطراف الأحاديث بيننا ... وسالت بأعناق المطي الأباطح تجد أنه قد استعار السيلان للسير اللين السهل في قوله "وسالت"، وهي استعارة مبتذلة قريبة المأخذ، ولكنه أزال ابتذالها بالجمع بينها وبين المجاز العقلي في إسناد السيلان إلى الأباطح؛ ليفيد امتلاءها بالركبان؛ حتى كأنها هي التي تسير، ثم بإدخال حرف الجر الباء على الأعناق؛ ليدل على شدة السير وسرعته، فإن مظهر السرعة في الإبل هي حركة أعناقها، وبهذا تحوَّلت الاستعارة من عامية مبتذلة إلى خاصية غريبة، ونحو ذلك قول ابن المعتز: سالت عليه شعاب الحي حين دعا ... أن صاره بوجوه كالدنانير حيث استعار السيلان لسرعة سير القوم إلى الممدوح حين دعاهم، وهي استعارة مبتذلة أزال الشاعر ابتذالها بالمجاز، وهو إسناد السيلان إلى الشعاب؛ ليدل على

امتلائهم بها، وكذلك بتعليق الجار والمجرور، وهي كلمة "عليه" بالفعل "سال"؛ ليدل على شدة طاعتهم له، فسيرهم كان عليه ومن أجله. وكذلك أزالها بتشبيه وجوههم بالدنانير في الإشراق والبهجة؛ ليدل على حبهم له ورغبتهم في نصرته، وإجابته، وبهذا تحولت الاستعارة في البيت من الابتذال إلى الغرابة، من ذلك قول آخر: فَرَعاءُ إِن نَهَضَت لِحاجَتِها ... عَجِلَ القَضيبُ وَأَبطَأَ الدِعصُ القضيب: هو الغصن، والدعص هو كثيب الرمل المجتمع، فهنا استعار القضيب للقامة، والدعص للردف، وهما استعارتان مبتذلتان لكن الشاعر أزال ابتذالهما بوصف القضيب بالعجلة، والدعص بالإبطاء؛ إذ أكد الوصفان رشاقة القامة عظم الردف، وكذلك بإسناد عجل إلى القضيب، وأبطأ إلى الدعص؛ حيث أديا إلى المبالغة في رشاقة قامتها، وضخامة عجزها، وكذلك بالطباق بين عجل وأبطأ؛ فقد أبرز هذا الطباق حسن القامة والردف، إذ الضد يُظهر حسنه الضد، ثم أخيرًا أزاله بتعدد الاستعارة. ومن الاستعارة البعيدة قول امرئ القيس: فقلت له لما تمطى بصلبه ... وأردف إعجازًا وناء بكلكل فهنا استعار الصلب لوسط الليل، وجعله يتمطى؛ ليزداد طوله، واستعار الصدر لأوله، وجعله ثقيلًا يُقعده عن الحركة، واستعار الأعجاز لآخره، وجعلها تترادف وتتوالى؛ ليدل على طول الليل وامتداده، فكل استعارة من هذه الاستعارات الثلاث إذا انفردت صارت عامية مبتذلة، لكن اجتماعها حقق غرض الشاعر وهو إبراز طول ليله، ورسم صورة متكاملة بين ليله وبين الفرس. ولذا صارت الاستعارات في البيت غريبة بعيدة.

الاستعارة باعتبار حسية وعقلية طرفي المستعار منه والمستعار له.

الاستعارة باعتبار حسية وعقلية طرفي المستعار منه والمستعار له ثم إن الاستعارة باعتبار حسية وعقلية طرفي المستعار منه والمستعار له تأتي على أربعة أنحاء. أولها: استعارة محسوس لمحسوس بوجه شبه محسوس، قول الله تعالى مثلًا: {فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ} (طه: 88) حيث استعير لفظ العجل من الحيوان المخصوص للصنم الذي صنعه السامري من الذهب، بجامع الشكل والصوت في كلٍّ، والمستعار له والمستعار منه، ووجه الشبه كلها من المحسوسات. من ذلك أيضًا قوله تعالى: {تَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ} (الكهف: 99) قد استعير الموج وهو حركة ماء البحر واضطرابه لحركة الخلائق المجتمعة يوم البعث، بجامع ما في كلٍّ من اضطراب وحركة مشاهدة. ومن ذلك قوله تعالى: {وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا} (مريم: 4) حيث استعير شواظ النار للشيب بجامع البياض والإنارة، ثم حُذف المستعار منه أي: المشبه به ورُمز له بلازم من لوازمه، وهو الاشتعال على طريق الاستعارة المكنية. وبذا يكون قد شبه الشيب بشواظ النار بجامع البياض والإنارة في كلٍّ، ثم حذف المشبه به على سبيل الاستعارة المكنية. ويمكن أن يكون وجه الشبه في استعارة المحسوس بالمحسوس عقليًّا، كما في الآية السابقة، إذا جعلت الاستعارة تبعية في لفظ {اشْتَعَلَ}، ونقول فيها: استعير الاشتعال انتشار الشيب في الشعر بجامع سرعة الانتشار مع تعذر التلافي، الطرفان حسيان والجامع عقلي.

ومن ذلك أيضًا قوله تعالى: {وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ} (يس: 37) فقد استعير السلخ وهو إزالة جلد الحيوان بعد ذبحه؛ ليظهر اللحم بإزالة ضوء النهار، حتى يظهر الليل ويحل الظلام، بجامع مطلق ترتُّب أمر على أمر، فالطرفان حسيان، والجامع بينهما عقلي. من ذلك أيضًا قوله تعالى: {وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ} (الذاريات: 41) حيث استعيرت المرأة العقيم التي لا تلد للريح التي لا تُمطر، بجامع عدم ظهور الأثر في كلٍّ، ثم حذف المستعار منه ورمز له بلازم من لوازمه وهو العقل، على سبيل الاستعارة المكنية؛ فالطرفان حسيان والجامع عقلي. ويجوز اعتبار الاستعارة تبعية بتشبيه ما في الريح من عدم تلقيح السحاب كي يمطر بالحالة التي في المرأة المانعة من الإنجاب، وهي العقم، ثم استعير العقم للحالة التي في الريح واشتق منه عقيم بمعنى لا ينتج أثرًا، وعندئذٍ يكون كلٌّ من الطرفين والجامع عقلي. ثم إن هناك استعارة محسوس لمعقول، ولا يكون الجامع فيها إلا عقليًّا كقوله تعالى: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} (الحجر: 94) فالآية خطاب للنبي -صلى الله عليه وسلم- بأن يبلغ الأمانة، ويوضح أمر الدين وضوحًا تامًّا لا يعود معه إلى خفاء، كما لا يلتئم الزجاج بعد كسر، فهنا استعير الصدع الحسي، وهو كسر الزجاج للتبليغ الذي لا ينمحي أثره وهو عقلي بجامع قوة التأثير في كلٍّ، ثم اشتق منه اصدع بمعنى: بلغ تبليغًا يبقى أثره. ومن ذلك أيضًا قوله عز وجل: {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا} (آل عمران: 112) فالآية تتحدث عن اليهود، والضرب في اللغة يستعمل للإلصاق وللإحاطة يقال: ضرب الطين على الحائط أي: ألصقه بها، وضرب الخيمة على من فيها أي:

أقامها لتحيط بهم، وعلى ذلك فقد استعير الضرب في الآية من إحاطة القبة أو الخيمة، أو من لصوق الطين بالحائط ولزومه له؛ لإحاطة الذلة بهم، أو للصوقها ولزومها لهم، واشتق من الضرب ضرب بمعنى أحاط أو لزم؛ فالمستعار له في الآية عقلي، والمستعار منه حسي. من ذلك أيضًا قوله عز وجل: {وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ} (البقرة: 214) فهنا استعيرت الزلزلة، وهي التحريك بشدة وعنف؛ لشدة ما أصابهم من الألم والمشاق، من ذلك أيضًا قوله تعالى: {فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ} (آل عمران: 187) استعير النبذ وهو الإلقاء والقذف باليد للتناسي والإهمال. الضرب الثالث من ضروب الاستعارة بهذا الاعتبار الحسي والعقلي: استعارة معقول لمعقول، ولا يكون الجامع إلا عقليًّا، ومن ذلك قوله تعالى: {قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا} (يس: 52) حيث استعير الرقاد للموت بجامع عدم ظهور الأفعال التي يعتدُّ بها في كلٍّ، والرقاد والموت وعدم الظهور إنما هي من المعاني العقلية. الضرب الرابع: استعارة معقول لمحسوس، ولا يكون الجامع فيها إلا عقليًّا قوله تعالى: {إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ} (الحاقة: 11) حيث استعير الطغيان وهو التعالي والتكبر؛ لزيادة الماء وارتفاعه، بجامع تجاوز الحد في كلٍّ، واشتق منه الفعل طغى بمعنى زاد وارتفع، على سبيل الاستعارة التبعية، المستعار منه الطغيان أمر عقلي، والمستعار له الزيادة والارتفاع أمر حسي، والجامع كما ترى من الأمور العقلية. من المهم ونحن نعرض لشتى ألوان الاستعارة أن نُنبِّه إلى أن كلَّ مجاز لا بد له من وجود قرينة تمنع إرادة المعنى الأصلي الذي وُضع له اللفظ، فالقرينة هي ما ينصبه المتكلم دليلًا على أنه أراد باللفظ غير معناه الوضعي، وهي إما لفظية

كقولنا: رأيت بحرًا يتصدق، وأسدًا يخطب، وقمرًا يتكلم؛ فالألفاظ يتصدق، ويخطب، ويتكلم دلَّت على أن المراد بالبحر والأسد والقمر غير معانيها الأصلية، هذه قرائن لفظية. وقد تكون القرائن غير لفظية كدلالة الحال في قولنا: رأيت بحرًا، والمخاطب يرى رجلًا كريمًا مقبلًا؛ فقد دلت الحال على إرادة الرجل الكريم، ومنعت إرادة المعنى الأصلي للفظ البحر، وكدلالة الاستحالة كما في قوله تعالى: {إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ} (الحاقة: 11) حيث استعير الطغيان للزيادة وارتفاع الماء، والقرينة هي استحالة صدور الطغيان بمعناه الأصلي من الماء. هذا ويقرر البلاغيون أن القرينة في الاستعارة التصريحية شيء له علاقة بالمشبه، وأنها في المكنية شيء له علاقة بالمشبه به، وتأتي القرينة في الاستعارة التصريحية الأصلية على وجوهٍ أهمها: أن تكون معنًى واحدًا لا تعدد فيه، وهذا هو الأكثر كقولنا مثلًا: رأيت أسدًا يقاتل، وبحرًا ينفق، أو أن تكون أكثر من معنى، وكل واحد كافٍ في الدلالة على الاستعارة، كما في قول الشاعر: فإن تعافوا العدل والإيمان ... فإن في أيماننا نيرانا فقد استعيرت النيران للسيوف، والقرينة تعلق الفعل تعافوا بكل من العدل والإيمان، ويكفي في الدلالة على عدم إرادة النيران تعلقه بأحدهما؛ فالاستعارة لا تتوقف على الأمرين مجتمعين، ولكن المعنى الذي يريده الشاعر يتوقف عليهما معًا، ومراده أن يقول: إما أن تدفعوا الجزية وهي عدل، وإما أن تؤمنوا بالله ورسوله، فإن كرهتم العدل والإيمان حاربناكم، فإن في أيدينا سيوفًا تبرق كالنيران، وبعض البلاغيين يمنع تعدُّد القرينة، لماذا؟ لأنه يرى أنها لا تكون إلا معنًى واحدًا، وما عدا ذلك يكون تجريدًا أو ترشيحًا.

من أنواع القرائن أنها أحيانًا تكون مجتمعة من عدَّة معانٍ ملتئمة مرتبطة، لا يصلح واحدًا منها بانفراده أن يكون قرينة، خد مثلًا قول البحتري: وصاعقة من نصله تنكفي بها ... على أرؤس الأقران خمس سحائب فقد استعيرت السحائب لأصابع الممدوح بجامع الجود والعطاء في كلٍّ، والقرينة ما ذكره من وجود صاعقة ناشئة من نصل سيفه، تنقلب على رءوس أقرانه، وأن الذي يقلبها عدده خمسة هي أصابع يده، فهذه الأمور مجتمعة هي القرينة، ولا يكفي واحدًا منها ليكون قرينة مستقلة، كما تأتي القرينة في الاستعارة التبعية على وجوه: أولها: أن يكون إسناد الفعل إلى الفاعل لا يتأتى على الحقيقة، وإنما على المجاز العقلي، أو الإسنادي كقولهم: نطقت الحال بكذا، فالنطق لا يتأتَّى من الحال، وكذا التكليم والإخبار في قولك: كلمتني عيناه، وأخبرتني أسارير وجه؛ إذ لا يتأتيان أي: التكليم والإخبار من العينين والأسارير، فدلَّ ذلك على استعارة النطق، والتكليم، والإخبار للدلالة الواضحة. من وجوه التبعية ألا يتأتَّى إسناد الفعل إلى نائب الفاعل على الحقيقة كقوله تعالى: {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ} (البقرة: 61)، فالضرب بمعنى نصب الشيء، أو الصك بالطين لا يتأتَّى من الذلة؛ فدل ذلك على استعارة الضرب للإحاطة أو الملازمة. أيضًا من وجوهها ألا يتأتى تعلق الفعل بمفعوله على الحقيقة كقول ابن المعتز: جمع الحق لنا في إمام ... قتل البخل وأحيا السماحة فقتل وأحيا لا يتأتَّى تعلقهما بالبخل أو السماح، وهذا دليل على استعارة القتل للإزالة والإحياء للإذاعة والنشر، استعارة القتل للإزالة، استعارة الإحياء للإذاعة والنشر، وكقول كعب بن زهير:

صبحنا الخزرجية مرهفات ... أباد ذوي أورمتها ذووها الخزرجية نسبة إلى الخزرج من الأنصار، والمرهفات هي السيوف المرهفة القاطعة، فهنا استعار التصبيح بالتحية للطعن بالسيوف المرهفة بعد تنزيل الطعن منزلة التحية على طريق الاستعارة التهكمية، والقرينة أن الفعل صبح لا يتأتى تعلقه بالمفعول الثاني مرهفات على الحقيقة. رابع هذه الصور التي تأتي عليها التبعية: ألا يتأتى تعلق الفعل بكلٍّ من مفعوليه على الحقيقة كقول الحريري: وأقرى المسامع إما نطقت ... بيانًا يقود الحرون الشموس فهنا استعار القرى للإلقاء على المسامع بيانًا مؤثرًا ساحرًا، والقرينة أن الفعل أقرى لا يتأتَّى تعلقه بالمسامع والبيان على الحقيقة، وهذه الاستعارة توحي بعذب حديثه، وحلاوة منطقه، وفصاحة كلامه، فهو يغذي المسامع كما يقري الطعام. خامس هذه الصور التي تتأتَّى عليها التبعية: ألا يتأتى تعلق الجار والمجرور بالفعل على الحقيقة كما في قوله: {فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} (آل عمران: 21) فالجار والمجرور {بِعَذَابٍ} لا يتأتى تعلقه بالفعل بشر على الحقيقة، ودلَّ ذلك على استعارة التبشير للإنذار بعد تنزيل التضاد بينهما منزلة التناسب على سبيل الاستعارة التبعية التهكمية، كما سبق أن ذكرنا. كذلك من هذه الصور امتناع تعلق الفعل بكل ما تقدم على الحقيقة، كما في قول الشاعر: تقري الرياح رياض الحزن مزهرة ... إذا سرى النوم في الأجفان إيقاظًا

فهنا استعار الإقراء لفعل الرياح وتأثيرها على الرياض، فتتفتح أزهارها، والقرينة أن الفعل تقري لا يتأتى إسناده إلى الرياح، ولا يتأتى تعلقه بالرياض، ولا بالإيقاظ. وفي هذه الاستعارة إيحاء بحسن الرياح ورقتها وجمال أثرها في الرياض، ففعلها إقراء للرياض وإطعام. والقرينة في الاستعارة المكنية هي إثبات لازم المشبه به للمشبه، وهو ما يسمى بالاستعارة التخييلية، ففي قوله تعالى: {وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا} (مريم: 4) كما قلنا: شبه الشيب بشواظ النار ثم حذف المشبه به ورمز له بلازم من لوازمه، وهو اشتعل، والقرينة هي إثبات اشتعل للشيب وهو المشبه، وهذا الإثبات يُسمى استعارة تخييلية، وفي قولك: نطقت الحال، شُبهت الحال بإنسان، وحذف المشبه به، ورمز له بلازمه وهي كلمة نطق، والقرينة إثبات هذا اللازم للمشبه وهو الحال. فإلى أن ألتقي وإياكم على خير أستودعكم الله دينكم وأماناتكم وخواتيم أعمالكم. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الدرس: 9 المجاز المرسل.

الدرس: 9 المجاز المرسل.

المجاز المرسل وعلاقاته "السببية والمسببية".

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس التاسع (المجاز المرسل) المجاز المرسل وعلاقاته "السببية والمسببية" الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، ثم أما بعد: فنتحدث عن المجاز المرسل بعلاقاته المتعددة من غير المشابهة: والمجاز المرسل كما ذكر البلاغيون هو الكلمة المستعملة في غير ما وضعت له لعلاقة غير المشابهة بين المعنيين، وإنما سمي مرسلًا؛ لأنه أرسل عن دعوى الاتحاد المعتبرة في الاستعارة، إذ ليست العلاقة بين المعنيين المشابهة حتى يدعى اتحادهما، أو لأنه أرسل أي أطلق عن التقيد بعلاقة واحدة. وعلاقة المجاز المرسل معناها أن يكون هناك تلازم وترابط يجمع بين المعنيين ويسوغ استعمال أحدهما في موضع الآخر، وهذه العلاقات كثيرة أشهرها ما يلي: علاقة السببية، وهو أن يكون المعنى الموضوع له اللفظ المذكور سببًا في المعنى المراد فيطلق السبب على المسبب، والمجاز بهذه العلاقة كثير في استعمالات العرب، فمن ذلك قولهم: رعينا الغيث، فالغيث مجاز مرسل علاقته السببية؛ لأن المعنى الحقيقي للغيث سبب في المعنى المراد الذي هو النبات، وقرينة المجاز قولهم: رعينا، إذ الغيث لا يرعى، والسر البلاغي في العدول عن الحقيقة إلى المجاز في مثل هذا التعبير هو إبراز أهمية الغيث وفرحهم به، وأثره في نفوسهم حتى كأنه هو المرعي لا النبات. ومن ذلك قول الله تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} (البقرة: 194) فالاعتداء الأول {فَمَنِ اعْتَدَى} قد استعمل استعمالًا حقيقيًّا والاعتداء الثاني وهو قوله: {فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ} استعمل استعمالًا مجازيًا؛ لأن المراد به المجازاة والقصاص، فعبر بالسبب وهو الاعتداء عن المسبب وهو الجزاء والقصاص على سبيل المجاز المرسل، وتكمن بلاغة المجاز هنا بإبراز قوة

السببية بين الاعتداء وجزائه، وأن الجزاء يجب أن يعقب الاعتداء فلا يتخلف عنه ويشعر بذلك هذه الفاء في قوله: {فَاعْتَدُوا} وما تقتضيه هذه الفاء من سرعة المجازاة، ولا يقال: إن هذا يتناقض مع الدعوة إلى العفو والحث على الصفح؛ لأن المقام هنا مقام تحد بين المسلمين والكفرة، فهو يقتضي الشدة والقوة وسرعة الردع، والمقام هناك بيان للمعاملة بين المسلمين بعضهم بعضا، وذلك أدعى للعفو والمصافحة، فلكل مقام مقال. من ذلك قوله تعالى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} (الشورى: 40) فالمراد بالسيئة الثانية {سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} الجزاء والقصاص الذي يتسبب عن السيئة الأولى، فهو من إطلاق السبب وإرادة المسبب على سبيل المجاز المرسل، والمعنى: وجزاء من فعل سيئة أن يجازى عليها، فأطلق على المجازاة سيئة باعتبار أن السيئة سبب والمجازاة مسببة عنها، فأطلق السبب وأراد المسبب. من ذلك قول عمرو بن كلثوم: ألا لا يجهلن أحد علينا ... فنجهل فوق جهل الجاهلين فالجهل معناه في اللغة السفاهة والحمق، وقد أراد عمرو بن كلثوم بالجهل المسند إليه الصادر منه جزاء المعتدين وعقوبتهم على جهلهم وسفاهتهم، فهو مجاز مرسل حيث عبر بالسبب وأراد المسبب. ومن ذلك قوله تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} (محمد: 31) فقد عبر عز وجل عن المعرفة والعلم بالاختبار الذي هو سبب المعرفة على طريق المجاز المرسل؛ لأن علم الله عز وجل أزلي فهو عليم بكل شيء، ولا يحتاج في علمه إلى ابتلاء، وعليه فيكون المعنى: ونختبركم حتى نظهر حقيقتكم ونكشفها فيصبح علم الله متعلقًا بالمعلوم الواقع، إذن فهو أطلق

الابتلاء وأراد انكشاف حقيقتهم المسببة عن هذا الابتلاء. من ذلك أيضا قول المتنبي: أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي ... وأسمعت كلماتي من به صمم فقد أراد أن يعبر عن شهرة أدبه وذيوع شعره، وبلوغه مبلغا جعل من له علم بالأدب ينظر إليه ويعلمه، ومن لم يسمع شعرًا يسمع كلماته ويدركها، وقد عبر الشاعر بالأعمى والأصم، وأراد من لا معرفة له بالأدب ولا علم عنده بجيده، والعلاقة كما هو معلوم بين المعنيين السببية فإن السمع والبصر من أسباب العلم بالأشياء، وعلى العكس فالعمى والصمم من أسباب الجهل بها والقرينة هي قوله: نظر، وأسمعت كلماتي، فإنه يستحيل أن يسمع الأصم أو يبصر الأعمى شيئا. إذن فهو أطلق السبب في الإدراك، وهو السمع والبصر وأراد المسبب عنهما وهو ذيوع أدبه وشعره. من ذلك أيضا قول آخر: أكلت دما إن لم أرعك بضرة ... بعيدة مهوى القرط طيبة النشر وهو يدعو على نفسه إن لم يحقق رغبته في الكيد لامرأته بضرة حسناء أن يقتل له قتيل، ويعجز عن الأخذ بثأره فيرضى بأخذ ديته ويأكل من هذه الدية، وقد عبر عن الدية بالدم والدم سبب فيها، وكان هذا طبعا عيبا عند العرب، فهو على أي حال مجاز أطلق فيه السبب وهو الدم على المسبب وهو الدية. من ذلك أيضا إطلاق اليد على العطاء والنعمة؛ لأن اليد سبب في إيصال النعمة للمحتاجين، كما في قولهم: جلت يده عندي وكثرت أياديه علي وعمت أياديه الورى، يريدون بذلك نعمه وعطاياه، ويشترط في هذا الاستعمال أن يكون في الكلام إشارة إلى صاحب النعمة؛ ليكون كالقرينة، وهذا متمثل في الضمير العائد على الممدوح في الأمثلة المذكورة، ولذا لا يقال: كثرت الأيادي عندي.

ومن إطلاق اليد وإرادة النعمة قول الرسول -صلى الله عليه وسلم- لأزواجه: ((أسرعكن لحوقا بي أطولكن يدًا)) ذلك أنه -صلى الله عليه وسلم- جعل اليد مجازًا هنا عن العطاء أو الإنعام، ويدل على ذلك أفعل التفضيل إذا كان مشتقًا من الطول بمعنى الفضل، والمعنى عندئذ: أسرعكن لحوقا بي أفضلكن نعمة، والنعمة توصف بالفضل على جهة الحقيقة فلا ترشيح للمجاز عندئذ. وقد كن -رضوان الله عليهن- يعتقدن حمل اليد على حقيقتها حتى بدا من خلال القرائن حمل اليد على المجاز، وكان على رأس هذه القرائن وفاة زينب -رضي الله عنها- بعده -صلى الله عليه وسلم- ومباشرة، وهي لم تكن أطول نساء النبي -صلى الله عليه وسلم- يدا من ناحية الذات، فدل هذا على إرادة المجاز لعلاقة السببية، أما حملها على ذلك بدون قرينة فلا. ومن هنا لا يقال في قول الله تعالى: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} (الفتح: 10) أن اليد هنا بمعنى القدرة لخلو الكلام من القرينة، والقول بأن اليد في الآية من باب استعمال اليد في النعمة والقدرة هذا كلام يحتاج إلى نظر؛ فإنه على هذا التأويل لا توجد قرينة واحدة دالة على إخراج اليد عن معناها الحقيقي إلى معنى القدرة، والكلام على غير ذلك لا يصح، وهذا مما عمت به البلوى وراج أمره على أهل العلم قديمًا وحديثًا. وفي رده على ما ذكر يقول ابن القيم فيما يعد الصواب في تأويل الآية: "لما كانوا -أي الصحابة- يبايعون رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بأيديهم ويضرب بيده على أيديهم، وكان رسول الله هو السفير بينه تعالى وبينهم؛ كانت مبايعتهم له مبايعة لله -عز وجل، ولما كان سبحانه فوق سمواته على عرشه وفوق الخلائق كلهم كانت يده فوق أيديهم، كما أنه سبحانه فوقهم فهل يصح هذا لمن ليس له يد حقيقية". ثم إن الأصل في الكلام -وهذا ما يجب الانتباه إليه- أن يحمل على حقيقته، فلا يخرج به عن الحقيقة إلى المجاز إلا عند تعذر الحمل على الحقيقة، كما أن الأصل

في الكلام كذلك حمله على الظاهر فلا يحمل على خلاف الظاهر إلا بقرينة لغوية أو عقلية أو عرفية أو شرعية أو حالية، وابتناء على ذلك فادعاء المجاز في أي لفظ كان يستلزم إقامة القرينة المانعة، والدليل الصارف له عن الحقيقة، إذ القائل بالحقيقة معه الأصل والظاهر ومخالفه مخالف لهما جميعا. والملاحظ أن البلاغيين قد فاتهم ذلك حين قرروا أن اليد في حق الله مجاز عن القدرة، وكذا حين حجروا واسعًا وجعلوا اليد موضوعة وفقط للجارحة، وذلك إبان قولهم على المجاز المرسل: هو ما كانت العلاقة غير المشابهة هي اليد الموضوعة للجارحة المخصوصة إذا استعملت في النعمة، لكونها بمنزلة العلة الفاعلة للنعمة؛ لأن النعمة منها تصدر وتصل إلى المقصود بها، وكاليد في القدرة؛ لأن أكثر ما يظهر سلطان القدرة يكون في اليد، وبها تكون الأفعال الدالة على القدرة من البطش والضرب والقطع والأخذ وغير ذلك، كذا بوضع العلة لاستخدام اليد في النعمة والقدرة موضع القرينة، وبالجزم بما يفيد تواضع العرب في لغتهم، وفي اصطلاح التخاطب على قصر استخدام اليد حقيقة على اليد الجارحة دون سواها، وبما يفيد اعتبار ذلك هو الأصل في الاستعمال، وسحب ذلك من ثم على صفة اليد التي هي ثابتة لله بموجب ما جاء في كتابه وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم. ذلك أنه من غير الصحيح القول بأن نحو اليد التي تعني الجارحة وضعت في أصل معناها لهذه المعاني الحسية، ولا تطلق على وجه الحقيقة على سواها، وإذا أطلقت على غيرها سواء أكان معلوما أو مجهولا، فإنها قد استعملت في غير معناها، ولا تكون بحال من الأحوال مستعملة في ظواهرها بل تكون مؤولة -هكذا قالوا- بما يعني أن الألفاظ إذا لم تكن مشتركة فلا تستعمل في حقائقها مرتين.

والرد على هذا أن المعروف المنقول بالتواتر -والكلام هنا لابن تيمية -رحمه الله- استعمال هذه الألفاظ فيما عدوه بها من المعاني، ولا يكون قاصرا على معنى واحد، وإنما أوتي البلاغيون من جهة أنهم رأوا اليد تطلق على النعمة والقدرة في بعض المواضع، فظنوا أن كل تركيب وسياق صالح لذلك حتى وإن قامت القرائن على خلافه، فوهموا بذلك وأوهموا، فهب أن هذا يصلح في قوله: لولا يد لك لم أجزك بها، أفيصلح في قوله جلت قدرته: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ} (العنكبوت: 48) وفي قول عبد الله بن عمر: "إن الله لم يباشر بيده أو لم يخلق بيده إلا ثلاثا: خلق آدم بيده، وغرس جنة عدن بيده وكتب التوراة بيده". أو يصح في عقل أو نقل أو فطرة أو ملة أو شريعة أو منطق أن يكون معنى الآية: وما كنت تتلو من كتاب ولا تخطه بنعمتك أو بقدرتك، أو أن يصح أن يقال: أن المراد من الأثر لم يخلق بقدرته أو بنعمته إلا ثلاث، وأي مزية إذن لآدم على إبليس في قوله تعالى: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} (ص: 75) إن حمل معنى اليد في حق الله على القدرة، وأي خصيصة خص الله بها آدم دون سواه بدت من قول موسى -عليه السلام- له وقت المحاجة: ((أنت الذي خلقك الله بيده ونفخ فيك من روحه، وأسجد لك ملائكته، وعلمك أسماء كل شيء)). وكذا في قول أهل الموقف له إذا سألوه الشفاعة. لو كان الأمر كذلك فهذه أربع خصائص لآدم -عليه السلام- تضيع الفائدة منها لو وضعت القدرة التي يدعي المؤولة والمعطلة أن التعبير باليد هنا مجاز عنها موضع اليد، فضلا عن عدم صحة وضعها هناك فإنه سبحانه لو قال: ما منعك أن تسجد لما خلقت بقدرتي أو قال له موسى: أنت أبو البشر الذي خلقك الله

بقدرته، أو قال له أهل الموقف ذلك، لم يحسن ذلك الكلام، ولا ما كان فيه من الفائدة شيء، تعالى الله أن ينسب إليه مثل ذلك. فمثل هذا التخصيص على ما تمليه دقة اللغة ولطافتها إنما خرج مخرج الفضل له عليه السلام على غيره، كما أن ذلك أمر اختص به آدم، ولم يشاركه فيه غيره، فلا يجوز حمل الكلام على ما يبطله. يقول أبو سليمان الخطابي صاحب (معالم السنن) المتوفى سنة 388: "ليس معنى اليد عندنا الجارحة إنما هي في حق الله صفة جاء بها التوقيف، فنحن نطلقها على ما جاءت ولا نكيفها وننتهي إلى حيث انتهى بنا الكتاب والأخبار المأثورة الصحيحة، وهذا مذهب أهل السنة والجماعة". هذا الكلام ساقه البيهقي في كتابه (الأسماء والصفات) صفحة 479 والكلام في ذلك كثير، وينظر فيه كتابنا في (الرد على السعد التفتازاني في مسألة التجوز في غير صفات المعاني). ومن المجاز المرسل لعلاقة السببية استعمالهم لفظ الإصبع في الأثر الدقيق من حذق بارع أو رسم جميل أو نقش لطيف، إذ الإصبع سبب في إحداث هذا الأثر البديع الرائع، ومنه قولهم: إن لفلان على هذه اللوحة إصبعًا، وإصبع فلان بادية في هذا الخط، ولهذا الصائغ في صناعة هذا السوار إصبع بارعة، وكقول الشاعر في صفة راعي الإبل: ضعيف العصا بادي العروق ترى له ... عليها إذا ما أجدب الناس إصبعا أي ترى له عليها أثر حذق ومهارة، ويشترط لصحة هذا الاستعمال أن يكون للإصبع تأثير في إحداث الأثر الذي يعبر به عنه، ناهيك عن القرينة التي أشرنا إليها، وقلنا أنها شرط في حمل الكلمة على المجاز.

من هذه العلاقات التي هي خاصة بالمجاز المرسل علاقة السببية، وهو أن يذكر المسبب ويراد السبب، بأن يكون المعنى الأصلي للفظ المذكور مسببا عن المعنى المراد فيطلق اسم المسبب على السبب، من ذلك قولهم: أمطرت السماء نباتا أي: ماء، فذكروا المسبب وهي كلمة نباتا، وأرادوا السبب وهو الماء، فهو مجاز مرسل علاقته المسببية. فمن ذلك قول الله تعالى: {هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ} (غافر: 13) والذي ينزل من السماء هو الماء الذي يتسبب عنه الرزق، فذكر المسبب في موضع السبب، وتكمن بلاغة المجاز في الآية الكريمة في قوة السببية بين الماء والرزق، وفي ذلك إيحاء وتنبيه للمؤمن إلى أن الرزق مصدره السماء، فليطمئن وليمض على النهج القويم، فالرزق قد قدره الله وكفله للجميع لكونه منزلًا من السماء ولا حجر على فضل الله. من ذلك قول الشاعر يصف غيثًا: أقبل في المستن من ربابه ... أسنمة الآبال في سحابه أراد أن الغيث انصب عليهم من سحابه الأبيض فسقى الأرض، وأنبت النبات فارتوت الإبل، وشبعت وسمنت ونمت أسنمتها، وقد جعل الشاعر أسنمة الإبل في السحاب، والذي في السحاب هو الماء، وهذا من ذكر المسبب في موضع السبب أيضا. ومن ذلك قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا} (النساء: 10) فالنار لا تؤكل، وإنما المراد يأكلون مالًا حرامًا تتسبب عنه النار التي تكوى بها جنوبهم وظهورهم وجلودهم، فذكر المسبب وهو النار في موضع السبب وهو المال الحرام مال اليتامى، وتكمن بلاغة المجاز في الآية

الكريمة في إبراز هذه السببية، وفي إظهار فظاعة وبشاعة تلك الصورة، صورة من يأكلون أموال اليتامى، فهم يأكلون نارًا تقذف في أفواههم فتندلع في بطونهم فيكون الألم والعذاب. من ذلك قولهم: كما تدين تدان، أي كما تفعل تجازى، فالمجاز في كلمة تدين حيث عبر عن الفعل بالدين، والدين هو المجازاة والمكافأة وهو مسبب عن الفعل، فهو مجاز مرسل علاقته المسببية إذ أطلق لفظ المسبب وهو المجازاة، وأريد السبب وهو العمل والفعل، أما كلمة تدان فهي على الحقيقة؛ لأن المراد بها المجازاة والمكافأة. ومن علاقة المسببية التعبير بالفعل عن إرادته، فالإرادة سبب والفعل مسبب عنها، وقد كثر ذلك في القرآن الكريم كما في قول الله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} (النحل: 98) والمعنى: إذا هممت أو عزمت أو أردت قراءته فاستعذ بالله، حيث علم من السنة أن الاستعاذة تسبق القراءة، وفي الآية رتبت الاستعاذة بالفاء على القراءة، فكان هذا الترتيب قرينة على أن المراد بالقراءة إرادتها والعزم عليها، فهو إذن مجاز مرسل علاقته المسببية إذ أطلق المسبب وهو الفعل وأريد السبب وهو العزم والإرادة، وفي ذلك إبراز لقوة السببية بين الإرادة والفعل وتنبيه للمؤمن وحث له على أن يقرن بين العزم بالفعل، فلا يكون هنالك مجال للأماني الكاذبة، وأحلام اليقظة والتقاعس وحياة الكسل. ومنه أيضا قول الله تعالى: {وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي} (هود: 45) إذ أريد بالنداء هنا إرادته والعزم عليه، فهو من ذكر المسبب في موضع السبب والقرينة أنه رتب بالفاء في قوله: {فَقَالَ} قوله: {إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي} على النداء مع اتحاد زمنهما في الواقع.

علاقة: الجزئية، الكلية، اعتبار المكان.

ومن ذلك أيضا قوله عز وجل: {وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ} (الأعراف: 4) فقد ذكر الإهلاك وأراد إرادته والعزم عليه حيث لم يأت بعد بقرينة أنه رتب بالفاء وإتيان البأس متقدم على الإهلاك، فدل ذلك على أنه أراد بالفعل وهو الإهلاك إرادته والعزم عليه فهو من إطلاق المسبب وإرادة السبب. من ذلك قوله جل وعلا: {مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ} (الأنبياء: 6) حيث عبر بالإهلاك أيضا في موضع الإرادة، فهو من باب ذكر المسبب وإرادة السبب. علاقة: الجزئية، الكلية، اعتبار المكان من هذه العلاقات التي تخص المجاز المرسل علاقة الجزئية، وهو أن يذكر الجزء ويراد الكل، فالقيام المعبر به عن الصلاة في قول الله تعالى: {قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا} (المزمل: 2) وفي قوله: {لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ} (التوبة: 108) وقول الرسول -صلى الله عليه وسلم: ((من قام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه)) فالمراد بالقيام في هذه النصوص الصلاة وهي ركن من أركانها، وقد سميت الصلاة به من باب تسمية الكل باسم الجزء. ومثل ذلك أيضا قوله: {كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} (العلق: 19) وقوله: {فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا} (النجم: 62) وقوله: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ} (الحجر: 98) قد عبر في كل ذلك عن الصلاة بالسجود، وهو ركن من أركانها، وذلك عن طريق المجاز المرسل الذي علاقته الجزئية. كذلك من هذا الضرب قول معن بن أوس في ابن أخته:

أعلمه الرماية كل يوم ... فلما اشتد ساعده رماني وكم علمته نظم القوافي ... فلما قال قافية هجاني فقد ذكر كلمة القوافي والقافية، وأراد بهما القصائد والقصيدة مجازًا مرسلًا علاقته الجزئية، حيث إن القافية تطلق على آخر البيت، لكن هنا مقصود بها القصيدة أو القصائد وقد ذكر بذلك الجزء وأراد الكل. هذا ويشترط في الجزء الذي يراد به الكل أن يكون مما جرى العرف على استعماله في الكل، أو يكون لهذا الجزء اتصال وثيق بالمعنى المراد. وقد ورد أن القرآن يسمي الصلاة قياما سجودًا؛ لأنهما ركنان أساسيان من أركانهما كما يسميها ذكرًا أو ركوعًا في قوله: {يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ} (آل عمران: 43) كل هذه أساسيات في الصلاة، ولم نر القرآن يسمي الصلاة مثلا تشهدا أو بسملة أو غير ذلك، وقد عبر عن الإنسان بأجزاء مختلفة في القرآن الكريم، فنرى مثلًا يعبر القرآن بالرقبة وبالعين وبالوجه، وبالكف، وبالقدم، وبالقلب، ولا يصلح جزء من هذه الأجزاء مكان الآخر لاختلاف السياق الذي يقتضي هذا الجزء دون ذاك. انظر مثلا إلى قول الله تعالى: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ * فَكُّ رَقَبَةٍ} (البلد: 12، 13) وقوله: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} (المجادلة: 3) فقد عبر هنا عن العبد أو المولى في الآيتين بالرقبة؛ لأنها أهم جزء في الإنسان، ولأن معاني السيادة والعبودية تظهر أوضح ظهور في الأعناق. وقريب من هذا قوله: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} (الشورى: 30) وقولهم: بث الأمير عيونه في المدينة، وعين العدو تجول في البلد، ويريدون بالعين هنا الربيئة أو الجاسوس، فسمى الجاسوس عينا باسم جزئه؛

لأن عينه أبرز عضو فيه يستخدمه في التجسس. ومن هنا ساغ مع ما سبق قول الشاعر: كم بعثنا الجيش ... جرارا وأرسلنا العيون ونقول: فلان تتزاحم حوله الأقدام، أو هو خير من تسعى له قدم، في مقام المدح بالسيادة والكرم، قد عبرنا عن طالب العطاء بالأقدام؛ لأن بها يسعون قاصدين الممدوح في قضاء حوائجهم. ويقول الشاعر: وكنت إذا كف أتتك عديمة ... ترجي نوالا من سحابك بلت قد عبر بالكف عن الإنسان المعدم؛ لأن السياق سياق عطاء وأخذ، والمعدم يمد يده راجيا عطاء وخيرا يلقى بها؛ ولذا عبر عنه بالكف. ومن ذلك قول امرئ القيس: أغرك مني أن حبك قاتلي ... وأنك مهما تأمري القلب يفعل فقد عبر عن نفسه بالقلب؛ لأن السياق سياق حب، وغرام، وغزل، وهيام. وفي ذلك يقول ابن المعتز: سالت عليه شعاب الحي حين دعا ... أنصاره بوجوه كالدنانير ... كالدنانير فقد عبر عن رجال معروفين بالشرف والسيادة والنبل بالوجوه، وذلك على طريق المجاز المرسل الذي علاقته الجزئية، فقد آثر التعبير بالوجه؛ لأن المقام مقام شرف وسيادة ونبل ووجاهة، وهكذا يعبر عن الإنسان بأجزاء مختلفة من أجزاء جسده، وفي كل مرة نرى الجزء الذي عبر به عن الكل، وهو الإنسان له اتصال وثيق ومزيد اختصاص بالسياق وبالمعنى، ولا يصلح جزء من أجزاء الإنسان المذكورة مكان الآخر لاختلاف السياق كما أوضحنا. من هذه العلاقات علاقة الكلية، وهو أن يعبر عن الجزء بلفظ الكل أي يطلق اسم الكل ويراد جزؤه كقوله تعالى: {يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ} (البقرة: 19)

وقوله عز وجل: {وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ} (نوح: 7) فقد عبر هنا بالأصابع في الآيتين وأراد الأنامل من باب إطلاق لفظ الكل على الجزء مجازًا مرسلًا علاقته الكلية. والسر البلاغي في العدول عن الحقيقة إلى المجاز في الآيتين هو رغبة القوم في تعطيل حاسة السمع بأقصى ما يمكن؛ مبالغة فيما يشعرون به من هول الصواعق وفظاعتها في سورة البقرة، ومبالغة في إعراضهم عن الحق في سورة نوح -عليه السلام، والقرينة هي استحالة وضع الإصبع كلها في الأذن عادة. ومن ذلك قول السموأل: تسيل على حد الظباة نفوسنا ... وليست على غير الظباة تسيل الظباة جمع ظبة، وهي حد السيف، فهنا يعبر بالنفوس عن الدماء، هو مجاز إذن مرسل علاقته الكلية؛ لأن الدماء جزء من النفوس والقرينة قوله: تسيل؛ لأن السيلان يكون للدماء. ومنه أيضا قولهم: قطعت السارق يريدون يده، أكلت نبات الأرض، وشربت ماء النيل، وقرأت في البلاغة ما كتب السابقون واللاحقون، والمراد بعض النبات وجزء من الماء، وكثير مما كتبوا، فهو في كل ذلك مجاز مرسل علاقته الكلية، والقرينة استحالة أكل الكل أو شربه واستحالة الإحاطة بكل ما كتب. من علاقات المجاز المرسل علاقة اعتبار ما كان، وهي أن يعبر عن الشيء باسم ما كان عليه من قبل كما في قول الله تعالى: {وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ} (النساء: 2) فاليتيم من مات أبوه ولم يبلغ سن الرشد، وهو لا يسلم إليه بموجب الشرع أمواله لعجزه عن التصرف فيها في هذه السن، وإنما تدفع إليه بعد أن يتجاوز سن اليتم ويصير رشيدًا، فتسميتهم يتامى عندئذ باعتبار ما كان قبل

ذلك، والقرينة هي الأمر بدفع أموالهم إليهم لاستحقاقهم التصرف فيها، وإيثار التعبير عنهم بلفظ اليتامى مع أن اليتم قد زال يفيد أمرين: الأمر الأول: الإنباء بسرعة إعطائهم أموالهم بمجرد ذهاب اليتم عنهم، فكأن صفة اليتم لا تزال عالقة بهم وقت دفع المال؛ لأنه يدفع إليهم عقب زوالها مباشرة، وهذا واضح في قوله تعالى: {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} (النساء: 6). الأمر الثاني: التذكير بحال هؤلاء اليتامى، وكيف حرموا من عطف وحنان الأبوة، وأنه لا يليق بالمؤمن أن يطمع في مال هذا شأنه. ومن هذا النسق من المجاز قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} (البقرة: 234) فمن المعروف أن الوفاة تنهي الزوجية، فتصبح المرأة بعد قضاء العدة أجنبية يصح لها أن تتزوج بغيره، وإنما عبر بالأزواج باعتبار الوصف الذي كانت عليه قبل الوفاة؛ للإيماء إلى أن ما يقتضيه هذا الوصف من الوفاء الذي يدعوهن إلى الانتظار تلك المدة، حتى لا يظهرن بمظهر من كن يتمنين وفاة أزواجهن والخلاص منهم. ومن الأمثلة التي يتراءى فيها ذلك النمط من المجاز قوله تعالى: {وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا * ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا} (نوح: 17، 18) ففي إضافة الإنبات إلى ضمير المخاطبين قرينة دالة على أن المراد بهذا اللفظ اعتبار ما كان؛ لأن المخاطبين خلقوا من نطف آبائهم، وإنما خوطبوا بهذه الصورة من المجاز تذكيرًا بالأصل حتى يدركوا قدرة الله -عز وجل- على البعث، فالذي خلق الإنسان من تراب قادر على بعثه من جديد.

علاقة: اعتبار ما يكون، الحالية، المحلية، الآلية، المجاورة.

من هذا القبيل قول الله تعالى: {إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَا} (طه: 74) ففي الآخرة لا يكون المرء مجرمًا؛ لأن الوصف بالإجرام يكون قبل الصيرورة إلى موقف الجزاء، وإنما أوثر لفظ المجاز لإيمائه إلى استحقاق العقاب الذي ينزل به. علاقة: اعتبار ما يكون، الحالية، المحلية، الآلية، المجاورة من علاقات المجاز المرسل اعتبار ما يكون، وهو تسمية الشيء باسم ما سيكون عليه في المستقبل، ومما يتمثل فيه المجاز على هذا النسق قول الله تعالى يحكي قولة صاحب يوسف -عليه السلام- في السجن: {وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ} (يوسف: 36) والمجاز كائن في لفظ الخمر، وواضح أنه غير مستعمل في معناه الحقيقي بقرينة قوله: {أَعْصِرُ} لأن الخمر لا تعصر فهي بطبيعتها عصير وهو لا يعصر، ومؤدى هذا أن المراد بهذا اللفظ العنب أو ما كان على شاكلته مما يمكن عصره وتخميره، وإنما لم يعبر عن هذا المعنى المراد باللفظ الموضوع له في عرف اللغة وعبر عنه بالمجاز؛ لبيان المقصود من العصر، وهو أن يصير في المآل خمرًا. ومما يتراءى فيه المجاز على هذه الشاكلة قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} (البقرة: 178) إذ المراد بالقتلى في هذا النسق الأحياء الذين سيصيرون بالعدوان عليهم قتلى، والذي دل على هذا المراد هو ذكر القصاص؛ لأنه لا يقتص لإنسان من أحد قبل أن يقتل، وإنما عبر عنه بالقتلى لإيمائه بسبب القصاص وعلته.

ويتجلى مثل هذه الصورة من المجاز في قول الله تعالى على لسان نوح -عليه السلام- يدعو على قومه، وقد أعنتوه في الدعوة: {وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا * إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا} (نوح: 26، 27). ومن ينظر إلى هذه الدعوة ينعكس على مرآة بصيرته دخيلة قوم نوح، وقد لقى -عليه السلام- من المشقة والعنت منهم ما لاقى، ففاضت بهذا النسق التعبيري الذي يحمل في طياته المجاز الموحي بحالته، فقد بلغ به الضيق حدًا جعله يتصور أن هؤلاء المناهضين للدعوة لا يمكن أن يسمعوا لصوت الحق، وأن أولادهم إن ولدوا لا ينتظر منهم الاستماع إليه وأنهم سيكونون كفارًا، ولشدة يقينه بما سيكونون عليه في المستقبل اعتبرهم كفارًا منذ ولادتهم، ولو عبر عن هذا المعنى بلفظه الحقيقي لقيل: ولم يلدوا إلا من سيكون فاجرا كفارًا، لكن التعبير على نسق الحقيقة يكون مغسولًا؛ لأنه لا يوحي بمراده ولا بما يعتمل في نفسه بمثل هذه القوى، ويقوي هذا الإيحاء إفراغ المجاز في قالب القصر. ومن هذا قول الله تعالى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} (الزمر: 30) يريد أن مآله إلى الموت وهم كذلك بقرينة الخطاب؛ لأن من مات لا يخاطب بالفعل، وكذا قوله جل وعلا: {فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ} (الصافات: 101) وفي حق إسحاق -عليه السلام: {قَالُوا لَا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ} (الذاريات: 28) أي بغلام أو مولود مآله أن يكون كذلك. من علاقات المجاز المرسل أيضا الحالية، وهو أن يعبر بالشيء ويقصد المكان الذي يحل فيه، أو هي كما يقولون: إطلاق لفظ الحال وإرادة المحل، ومن التعبير الذي يحمل هذا النسق من المجاز قول الله تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا} (الأعراف: 31) ففي هذا التوجيه الإلهي إلى السلوك

القويم المظهر والمخبر يطالعنا لفظ الزينة مرادًا به المحل الذي يوجد فيه؛ لأن الزينة تعني التجمل، والتجمل إنما هو أمر عقلي، ولا بد أن يكون له ما يوفره أو ييسره وهو هنا الثياب الساترة للعورة إذ هي محل الزينة. والقرينة الدالة على أن المراد بالزينة الثياب الساترة للعورة دون غيرها مما يوفر الزينة، قوله تعالى: {عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} (الأعراف: 31) فالمراد بالمسجد الصلاة، وقد تجاوز البيان القرآني الدلالة على هذا المعنى بلفظه الموضوع وهو الثياب؛ للإيماء إلى ما ينبغي أن يكون عليه حال المؤمن من الأناقة وجمال المظهر، ويكشف عن هذا الإيحاء قوله -صلى الله عليه وسلم- لمن ظن أن التجمل بالحسن من الثياب والنعال قرين الكبر عندما قال: ((لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر، إن الله جميل يحب الجمال)). ومن المجاز الذي جاء على هذه الصورة قول الله تعالى: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (آل عمران: 106، 107) فالمراد بالرحمة هنا الجنة، والجنة -كما لا يخفى- حال هذه الرحمة، والقرينة الدالة على أن لفظ الرحمة أطلق على المحل الذي توجد فيه حرف الجر في، وهو دال بأصل وضعه على الظرفية، والرحمة ليست مكانا يحل فيه من ابيضت وجوههم، وإنما لم يعبر عن الجنة باسمها؛ لأن في لفظ الرحمة إيماء إلى أن دخولهم الجنة إنما هو بفضل الله لا باستحقاقهم له. وشبيه بهذه الصورة قول الله تعالى: {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ} (الانفطار: 13). كذا قول الشاعر يرثي معن بن زائدة: ألما على معن وقولا لقبره ... سقتك الغوادي مربعا بعد مربع

الغوادي يعني بها السحاب، وهو هنا يدعو لقبره بالسقيا أربعة أيام يتلوها أربعة أخرى كناية عن الكثرة، فالنزول بمعن غير ممكن؛ لأنه ميت وهذا يعني أنه أطلق الحال، وهو معن، وأريد به المحل وهو القبر، وفي ذلك إيحاء بقوة المحبة له وللمكان الذي يقيم فيه، ولولا وجود معن في القبر لما دعا له بالسقيا. من ذلك أيضا قول الشاعر: قل للجبان إذا تأخر سرجه ... هل أنت من شرك المنية ناجي يريد إذا تأخر فرسه إذ السرج حال، والفرس محل له. من هذه العلاقات التي هي للمجاز المرسل المحلية، وهي أن يعبر بالمحل ويراد الحال فيه، أو كما يقولون: إطلاق المحل وإرادة الحال فيه. ومما يجلي هذه الصورة من المجاز قول الله تعالى على لسان إخوة يوسف -عليه السلام- وقد انطلى عليهم تدبير يوسف: {ارْجِعُوا إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ * وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ} (يوسف: 81، 82). وموطن المجاز هنا هو قول الله تعالى: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} وسؤال القرية بمعنى الدور ودروبها أمر غير ممكن إذ كيف يسأل الجماد، وهذا قرينة تدل على أن لفظ القرية مراد به غير معناه الحقيقي، وهو أهلها المقيمون فيها. وإنما عبر بلفظ القرية، ولم يعبر بلفظ الأهل مع أنه هو المراد؛ لأن في المجاز إيماء إلى الاستقصاء في السؤال حتى لو أمكن سؤال المكان لكان ليعقوب أن يسأله؛ ليكون شاهدًا بصدق ما يقوله أولاده، ولو أنه قيل: واسأل أهل القرية لما كان فيه الإيحاء بالاستقصاء وذيوع أمر السرقة، وفيها شهادة بصدقهم، وبراءتهم مما وقر في نفس يعقوب من احتمال تدبيرهم للتخلص منه كما فعلوا بيوسف من قبل.

وانظر إلى مصداق ذلك في قولهم: {يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا} (يوسف: 81). ومن المجاز الذي هو على هذا النسق قوله تعالى في تهديد أبي جهل الذي كان يتصدى للنبي -صلى الله عليه وسلم- محاولًا منعه من الصلاة في المسجد الحرام: {كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ * نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ * فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ * سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ} (العلق: 15 - 18). وبتأمل هذا النسق التعبيري نجد أن لفظ النادي في هذا السياق لا يراد به مكان اجتماع القوم، وإنما المراد به هم القوم أنفسهم بقرينة أن المكان ليس أهلًا لأن توجه إليه الدعوة، أي أنه مجاز أطلق فيه المحل وأريد الحال فيه، وإنما سلك هذا المسلك المجازي للإيماء إلى الاستقصاء من دعوة من يناصره في مواجهة النبي -صلى الله عليه وسلم- حتى لو أمكن أن يدعو المكان لهذه الغاية فله ذلك، ومهما احتشد معه المحتشدون فلن تكون لهم النصرة؛ لأنهم سيواجهون بقوة لا تنهض لها قوة البشر جميعا، وما يتصورونه ذا أثر في قهر محمد -صلى الله عليه وسلم- ومنعه مما يدعو إليه، ومما جاء على هذه الصورة قول الشاعر: إن العدو وإن تقادم عهده ... فالحقد باق في الصدور مغيب فالمراد بالصدور هنا القلوب التي تحل بها تسمية للشيء باسم محله، ومنه قول ابن الرومي يكشف عن خوفه من ركوب السفن: "لا أركب البحر إني" يقصد بالبحر هنا السفن التي تكون في البحر: لا أركب البحر إني ... أخاف منه المعاطب طين أنا وهو ماء ... والطين في الماء ذائب لينظر القارئ أو السامع معنى لفظ بحر، فإنه سيدرك أن المراد به السفن بقرينة أن البحر لا يركب، ومؤدى هذا أنه أطلق المكان أو المحل وأراد به الحال فيه، وفي

لفظ البحر إيماء إلى الرهبة والخوف لما هو معروف عنه من التقلب واضطراب الأمواج، بخلاف لفظ السفينة فإنها لا توحي بشيء من خوف أو فزع. من هذه العلاقات التي تخص المجاز المرسل علاقة الآلية، وهي أن يطلق اسم الآلة التي يكون بها الشيء، ويراد الشيء نفسه. وبعبارة أوضح: أن يطلق اسم الآلة، ويراد به الأثر الناشئ عنها. ومن أعذب ما جاء على هذا النسق من مجاز قول الله تعالى يحكي دعاء إبراهيم: {رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ * وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ} (الشعراء: 83، 84) ففي هذا الجزء من الدعاء نجد إبراهيم -عليه السلام- يدعو بأمور يتصل بعضها بالحياة الدنيا، وهو الحكمة والصلاح، ويتصل بعضها الآخر بما بعد الموت وقبل النشور، وهو أن يكون له لسان صدق فيمن يأتي بعده من الأجيال، ولا معنى لأن يبقى لسانه الناطق بعد موته فيمن يعقبه من الناس، وإنما المراد به الذكر الحسن الذي يتوارثونه ويشيع فيهم، وبذا يكون قد أطلق اللسان وهو الآلة التي يحدث بها الذكر وينشأ عنها، وأريد به الذكر نفسه. وإنما سلك هذا المسلك لبيان أهمية اللسان في حدوث الذكر الحسن وأهمية تنقية اللسان، فلا يصدر عنه إلا ما هو حسن من القول، ففي عفة القول، وتخلص اللسان من القدح في الأعراض ما يجعله مرغوبا فيه، وفيما يصدر عنه -عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام. ومن المجاز الذي علاقته الآلية أيضا قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ} (إبراهيم: 4) فقد أطلق اللسان وأراد الأثر الناشئ عنه وهو اللغة، وسلك هذا المسلك لبيان أهمية اللسان في صدور اللغة عنه. ومثله قوله: {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ} (الروم: 22) فقد أطلقت الألسنة وأريد بها اللغات.

ومن المجاز الجاري على هذه الطريقة قول قوم إبراهيم كما يحكيه عنهم، وقد أرادوا التنكيل به جزاء تحطيمه لأصنامهم: {فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ} (الأنبياء: 61) فقد أطلقت الأعين وأريد بها الأثر الناشئ عنها وهو الرؤية، فهم يريدون: فأتوا به على مرأى ومشهد، أي رؤية ومشاهدة، والقرينة المانعة من إرادة الباصرة حرف الجر "على" فإنه دال على الاستعلاء الحسي، وحين يؤتى بإبراهيم فإنه لن يعلو على أبصارهم، وإنما تتمكن منه رؤيتهم كما يتمكن الراكب على دابته، والتعبير بالمجاز في هذه الصورة يومئ إلى قوة الآلة وشدة أثرها في حدوث الفعل. من علاقات المجاز المرسل المجاورة، وهو أن يذكر الشيء ويراد به ما يجاوره لشدة الاتصال بينهما، كأنهما متلازمان لا ينفرد أحدهما عن الآخر وجودًا وعدمًا، ومما هو متوارث مشهور مما جاء على هذا النمط من المجاز قول عنترة في منازلته خصمه وصرعه إياه: ومدجج كره الكماة نزاله ... لا ممعن هربا ولا مستسلم جادت له كفي بعاجل طعنة ... بمثقف صدق الكعوب مقوم فشككت بالرمح الأصم ثيابه ... ليس الكريم على القنا بمحرم فتركته جذر السباع ينشنه ... يقدمن حسن بنانه والمعصم وإذا نظرت إلى البيت الثالث وما قبله وما بعده؛ لتبين لك أن قوله: فشككت بالرمح ثيابه، ينطوي على المجاز في لفظ الثياب؛ لأن الشك بالرمح في الثياب لا يعني به مجرد مس الثياب أو شقه، ومؤدى هذا أن لفظ الثياب يراد به جسد خصمه بقرينة البيت السابق: جادت له كفي ... إلى آخره، والبيت اللاحق: فتركته جذر السباع ... إلى آخره.

وقد قصد عنترة من وراء هذا المجاز الإيماء إلى سهولة صرعه وقتله، وإن كان له من القوة ما له. ومنه إطلاق لفظ الراوية على المزادة أي: قربة الماء في قولنا: شربنا من الراوية، أو في قولك مثلا: خلت الراوية من الماء، والراوية اسم للبعير الذي يحمل عليه الماء، فلما كثرت مجاورة المزادة لظهر الراوية أطلق على المزادة اسم الراوية مجازًا مرسلًا علاقته المجاورة. ومنه قولنا: ركب الفرسان سروجهم، تريد خيولهم فسميت الخيول سروجًا لكثرة مجاورتها لظهور الخيل، وقولنا كذلك: أصابتنا السماء، تريد الغيث المجاور عادة لجهة السماء، وقولنا كذلك: جر الغلام الحفض، تريد البعير الهزيل المخصص لحمل الأمتعة الحقيرة، والحفض: اسم للحقير التافه من متاع البيت، فسمي البعير باسم ما يحمله لعلاقة المجاورة. من ذلك أيضا قول ليلى الأخيلية: رموها بأثواب خفاف فلا ترى ... لها شبها إلا النعام المنفر فقد ذكرت ليلى الأثواب وأرادت الرجال الذين ركبوا الإبل فرموها بأنفسهم، وذلك على طريق المجاز المرسل أيضا لعلاقة المجاورة. ومنه قول الآخر: إن لنا أحمرة عجافا ... يأكلن كل ليلة إكافا فأطلق لفظ الإكاف: وهي البردعة التي توضع على ظهر الحمار على العلف الذي تأكله هذه الأحمرة للمجاورة؛ لأن العلف يحمل على الإكاف. فإلى الملتقى أستودعكم. الله والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الدرس: 10 تابع: المجاز المرسل.

الدرس: 10 تابع: المجاز المرسل.

بعض علاقات المجاز المرسل التي غفل عنها كثير من البلاغيين.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس العاشر (تابع: المجاز المرسل) بعض علاقات المجاز المرسل التي غف َ ل عنها كثير من البلاغيين الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، ثم أما بعد: فنقول أن هناك علاقات أخرى غفل عنها كثير من البلاغيين، ومن المهم -في هذا اللقاء- أن تناولها بشيء من الاختصار، هذه العلاقات تندرج تحت المجاز المرسل: وأهم هذه العلاقات التي غفل عنها البلاغيون أو كثير منهم اللزومية، وهي أن يُطلق اسم اللازم ويراد الملزوم كقولنا: نظرت إلى الحرارة، والمراد نظرت إلى النار أو إلى مولد الحرارة، فالحرارة يلزم لها وجود نار أو مولد لها، والنظر يكون إلى النار لا إلى هذا المولد، ففي لفظ الحرارة مجاز مرسل علاقته اللزومية، حيث أطلق اللازم وأريد الملزوم، وقد يطلق الملزوم ويراد اللازم، كقولنا: دخلت الشمس من النافذة، والمراد دخول الضوء والضوء لازم للشمس. ومن ذلك قول الله تعالى: {مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا * أَلَّا تَتَّبِعَنِي أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي} (طه: 92، 93) وقوله -عز وجل-: {مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ} (الأعراف: 12) وهما من المتشابهات، إذ يقتضي الظاهر أن يقال في غير القرآن: ما منعك أن تتبعني؟ ما منعك أن تسجد إذ أمرتك؟ لكن المتأمل يجد أن المعنى الحقيقي للفظ منع هو الصرف عن فعل الشيء، وعليه فالمعنى المراد في الآيتين هو الدعوةُ إلى تركه، فيكون معنى: {مَا مَنَعَكَ}: أي: ما دعاك إلى ترك ما أمرتك به من الاتباع والسجود، فهو من استعمال اسم الملزوم وهو المنع والصرف عن الفعل وإرادة لازمه، وهو الدعوة إلى تركه، وهذا معنى سليم لا يحوج إلى القول بزيادة لا في الآيتين، وهو رأي الإمام السكاكي. وفي الآيتين وجوه أخرى من المهم أن نقف عليها لتفسير الآيتين،

أهمها أن لفظ منع على معناه الحقيقي و"لا" صلة زائدة، والمعنى: ما صرفك عن اتباعي وعن السجود؟. المعنى الثاني: أنَّ مَنَعَ ليس مأخوذًا من المنع بمعنى الصرف، بل هو من المنعة والحماية، فيكون المراد: ما حماك مني حين تركت السجود؟ وما حماك حين تركت اتباعي؟ وعندئذ لا مجاز في اللفظ؛ لأن منع بمعنى حمى حقيقة لغوية. ولا يقال: أن جواب هارون: {قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي} (طه: 94) وجواب إبليس: {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} (ص: 76) يقضي ببطلان هذا الرأي؛ لأنا نقول: إن الجواب لا يتحتم أن يكون على وفق السؤال، بل كثيرًا ما يجاب المستفهم بغير ما يتطلب استفهامه لسر ولغرض بلاغي يقتضيه المقام، كما في الآيات الكريمة: {أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ} (الأعراف: 75) وقوله: {أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ} (الأعراف: 127) وكذا قوله: {مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ * قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ} (الأنبياء: 52، 53) إلى غير ذلك من الآيات التي جاء فيها الجواب مخالفًا للسؤال. والسر البلاغي في العدول عما يتطلبه هذه الأسئلة وأمثالها، يرجع إلى ما عليه النظم الكريم من التسليم بأنه لا كالئ يحرسه ولا حامي يحميه، وكأن المسئول قد فتش ونقب، فلما لم يجد منعة ولا حماية أجاب بما أجاب. الأمر الثالث: أن تكون الآيتان بتقدير "في" لا بتقدير "من" والمعنى: ما سبب امتناعك في تركك اتباعي وفي تركك السجود، وأيًّا ما كان فهي تخريجات لا تخرج المعنى في الآيتين الكريمتين عن المراد منهما.

من هذه العلاقات غير المشهورة من غير ما سبق التعلق الاشتقاقي، وهو أن يذكر اللفظ ويراد ما اشتق منه من اسم الفاعل أو المفعول كقوله تعالى: {هَذَا خَلْقُ اللَّهِ} (لقمان: 11) والتقدير: مخلوق الله، وقوله كذلك: {وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ} (البقرة: 255) أي: بمعلومه حيث أطلق المصدر في الآيتين وأريد اسم الفاعل. ومنها العموم والخصوص. وقوله تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ} (آل عمران: 173) فالمراد بلفظ الناس الأول المثبطون، وبالثاني أبو سفيان ومن معه من المشركين، وكقوله -عز وجل-: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} (النساء: 54) فالمراد بالناس النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه -رضوان الله عليهم- فهنا ذكر لفظ العموم في الآيتين وأريد به الخصوص. كل هذه علاقات تندرج تحت المجاز المرسل. من هذه العلاقات -وهذه العلاقة بالذات على العكس مما سبق- قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ} (الأحزاب: 1) وقوله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} (الطلاق: 1) فهنا ذكر لفظ النبي -صلى الله عليه وسلم- في الآيتين -يعني: الخصوص- وأريد به كل مكلف، فهو من إطلاق لفظ الخاص وإرادة العام. من هذه العلاقات غير المشتهرة علاقة الضدية كقولنا: سرت في مفازة ممتدة، والمراد صحراء مهلكة. وقولنا: انظر أيها الأعمى، في مقام التوبيخ فالمراد بلفظ الأعمى البصير، وكذا إطلاق لفظ السليم على اللديغ أو الجريح، وإطلاق لفظ الملآن على الفارغ. ومنها علاقة الإطلاق والتقييد وهي أن يكون اللفظ مقيدًا فيطلق عن قيده كما في قول رؤبة: ومقلة وحاجبًا مزججًا ... وفاحمًا ومرسنًا مسرجًا فالمرسن اسم لمحل الرسن، وهو أنف البعير، أطلق عن قيده وأريد به مطلق أنف، فصح إطلاقه على أنف الإنسان باعتباره أحد أفراد هذا المطلق. ومن ذلك

خصائص وأسرار الاستعارة.

إطلاق المشفر على شفة الإنسان وهي في الأصل للبعير، وإطلاق الخرطوم على أنفه وهو في الأصل للفيل كما في قوله تعالى: {سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ} (القلم: 16) حيث أطلق الخرطوم على أنف الوليد بن المغيرة وهو في الأصل للفيل. فالمجاز على ما أفاده كل من السكاكي وعبد القاهر هنا خالٍ من الفائدة؛ لأنه لا يخرج من استعمال اللفظ في أعم مما وضع له، أو عن استعمال المقيد في مقيد آخر، هذا ما ارتآه كل من السكاكي وعبد القاهر، لكن يمكن أن يصبح مفيدًا لو أفاد معنًى، كأن يفيد الذم مثلًا أو الهجاء، فإنه عند ذلك يصير مفيدًا، ويخرج من دائرة المجاز المرسل إلى دائرة الاستعارة المفيدة، إذ تصبح علاقة المجاز حينئذ المشابهة. من ذلك قول الفرزدق في الهجاء: فلو كنت ضِبيًّا عرفت قرابتي ... ولكن زنجي غليظ المشافر يريد: ولكنك، لكنه حذف الكاف للضرورة الشعرية، "ولكن زنجي غليظ المشافر"، شبه شفتيه بشفتي البعير في الغلظ ثم استعمل لفظ المشبه به في المشبه على طريق الاستعارة، وهو يرمي بذلك إلى ذمه وتقبيح صورته. إلى غير ذلك مما لا يدخل معنا في باب المجاز المرسل. بهذا نكون قد وقفنا على هذا الضرب من فنون القول، وعرفنا أن علاقات المجاز المرسل على تنوعها وتعددها هي لغير المشابهة، وأن هذا هو الذي يفرق بينها وبين الاستعارة التي علاقتها المشابهة. خصائص وأسرار الاستعارة وحان لنا أن نشير إلى بعض خصائص المجاز اللغوي بنوعيه الاستعارة والمجاز المرسل، وأن نطلع على نماذج توضح توضح قيمة كل منهما وأهميته وأثره الذي يحدثه في نفس المخاطب أو المتلقي: ونبدأ بذكر بعض خصائص الاستعارة ومزاياها فنقول: إن من أهم خصائص الاستعارة تجسيد المعاني، وتشخيص المجردات، وخلع الحياة على من لا حياة فيه، فتصبح المعنويات والأمور المجردة شاخصة أمام الأعين، ويصير فاقد الحياة

بالاستعارة حيا متحركا. ولننظر مثلًا إلى قول الله تعالى: {وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ * وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ} (التكوير: 17، 18) فقد استعير التنفس لظهور الصبح وانتشار ضوئه، وثمة فرق بين الظهور وانتشار الضوء وبين التنفس، ذلك أن الاستعارة هنا بثَّتْ في الصبح الحياة وأضفت عليه صفات الكائن الحي، وفيها بالإضافة إلى ذلك إيحاء بثقل الليل وكربه وهمومه، وكأن في ظهور ضوء الصبح إزاحةً لهذه الكربات وإزالةً لتلك الهموم، وكأن الصبح يلتقط أنفاسه بزوال ظلمات الليل. ومن ذلك قول الله تعالى: {وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ * إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ} (الملك: 6، 7) فقد استعير الشهيق للصوت الفظيع، وقوله -عز وجل-: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ} (الأنبياء: 18) فقد استعير القذف للإيراد والدمغ للإذهاب، ولا يخفَى ما في الاستعارتين من بث الحياة في جهنم ومن تجسيد الحق والباطل، حتى كأن الحق قذيفة أصابت الباطل فقضت عليه ومحقته. من ذلك أيضا قول الله تعالى: {فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ} (هود: 74) فهنا جسَّدَ القرآن الروعَ إنسانًا يذهب والبشرى شخصًا يجيء. وبمثل ذلك يقول تعالى في وصف النار: {إِنَّهَا لَظَى * نَزَّاعَةً لِلشَّوَى * تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى * وَجَمَعَ فَأَوْعَى} (المعارج: 14 - 18) فجعل النار داعيةً دعو أصحابها إليها والناس عنها في انصراف. ومثله كذلك قوله في وصف الأرض القاحلة المقفرة: {وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} (الحج: 5) ويقول: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ} (فصلت: 39) فالأرض مرة تكون هامدة ومرة تكون خاشعة، فتخلع عليها صفات

الحي؛ تشخيصًا لها وتجسيمًا، وعلى القول بأن ما من شيء إلا يسبح بحمده ليس ما يمنع في هاتين الآيتين -وما جاء على شاكلتهما- أن يُحملَا على الحقيقة. أيضًا يقول المولى -سبحانه وتعالى- فيما يدل على أن مجاز الاستعارة فيه ما فيه من التشخيص -تشخيص المعاني وتجسيدها- قوله: {وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ} (الحجر: 22) فقد خلعت الآية على الرياح صفات الحيوانية التي من صفاتها التلقيح والتوالد. ومنه أيضًا قوله تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ} (يونس: 108) وقوله: {فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ} (الأحزاب: 19) فالحق والخوف من الأمور المعنوية التي لا يتصور منها إتيان أو مجيء، لكنها شُبهت بمن يكون منه الإتيان والحركة؛ تجسيمًا للمعنويات وتشخيصًا لها. ومعلوم أن جوهر الشعر كله بكل لغة هو التأثير الشديد في النفوس، فالشعر لا يلجأ إلى المنطق ولا إلى الحجة كما في النثر ولا يخاطب العقل بل وجهته الروح والقلب والعاطفة، وليكون الشعر مؤثرًا في النفوس وأعلق بالقلوب وأطرب للأفئدة، فيجعل الشاعر طريقة التصور منهجًا، ويتخذ من التمثيل والتصوير سبيلًا لصوغ شعره. ويروَى أن بشارًا سمع أبا العتاهية ينشد الخليفة المهدي قصيدته التي يقول فيها: أتته الخلافة منقادة ... إليه تجرجر أذيالها فلم تك تصلح إلا له ... ولم يك يصلح إلا لها ولو رامها أحد غيرُه ... لزلزلت الأرض زلزالها هنا عندما سمع بشار هذه الأبيات وكان أعمى، قال لصاحبه: انظر ويحك هل طار الخليفة عن فرشه، وكأن عجب بشار لما في تصوير أبي العتاهية وإبداعه في التمثيل وبلوغه الغاية في التخييل، مما جعل التأثير في السامع قويًّا وشديدًا.

وانظر مثلًا إلى -مع قول أبي العتاهية- قول سامي البارودي عندما يقول: إذا استل منهم سيد غرب سيفه ... تفزعت الأفلاك والتفت الدهر فنجد أن الخِلافة والأفلاك والدهر قد تحولت بالاستعارة إلى كائنات حية؛ تفزع وتتلفت وتمشي في عجب وحياء، وقد صارت للخلافة المنقادة أذيال تجررها. وتأمل معي قول أبي ذؤيب وقد سبق ذكره: وإذا المنية أنشبت أظفارها ... ألفيت كل تميمة لا تنفع فهنا نجده قد أبرز المنية في صورة محسوسة مشاهدة، إذ جعلها سَبْعًا يفتك وينشب أظفارًا. ومن خصائص الاستعارة -إلى جانب ما ذكرنا من تجسيد المعنويات- الإيجاز، فإن الاستعارة تعطي المعاني الكثيرة بألفاظ قليلة يسيرة. خذ مثلًا قول ابن المعتز: أثمرت أغصان راحته ... لجناة الحسن عُنابا وقد استعيرت الأغصان للأصابع، والعناب للأنامل، والمعنى: أثمرت أصابع يده الشبيهة بالأغصان بنانًا مخضوبةً كالعناب، ولا يخفى عليك ما أحدثته هذه الاستعارة من إيجاز، مع حسن بيان وجمال تصوير. ومن خصائصها كذلك المبالغة في تأكيد المعنى وتفخيمه؛ لأنها قائمة على تناسي التشبيه، وادعاء أن المشبه صار فردًا من أفراد المشبه به، ولذا كان قولنا: رأيت بدرًا وأضاء محمد الأرض شرقًا وغربًا أبلغ من قولنا: محمد كالبدر، وهو التشبيه الذي بنيت عليه الاستعارة، وذلك أن الاستعارة قد صيرت محمدًا فردًا من أفراد البدور؛ مبالغةً وادَّعاءً. وتأمل مثلًا إلى ذلك قول الله تعالى: {إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ} (الحاقة: 11) وقوله -عز وجل-: {وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ} (الحاقة: 6) فقد استعير

الطغيان لزيادة الماء وارتفاعه، واستعير العتو للشدة، والاستعارة فيهما أبلغ؛ لأنها في الطغيان دلالة على الغلبة والقهر والعتو شدة فيها تمرد. وقد يُتبَع المستعار بملاءمات المستعار منه ويبالغ في ذلك، حتى ينزل منزلة الحقيقة على ما مر بنا في الاستعارة المرشحة. من خصائص الاستعارة كذلك حسن البيان، وتحريك المشاعر، وتنبيه العقول، وتنشيط الأذهان، ولا يخفى عليك إدراك ذلك فيما مر بك من الشواهد، ففي قول الله تعالى: {رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا} (مريم: 4) تجد أن التعبير عن ظهور الشيب وانتشاره بالاشتعال قد أبرز الشيب في صورة واضحة بينة تجذب المشاعر، وتنبه العقول إلى أن انتشار الشيب لا يمكن تلافيه ودفعه، كما أن شواظ النار لا يتلافى. هذا والاستعارة -كما رأينا- مبنية على التشبيه فيشترط لحسنها أن يكون التشبيه حسنًا، وحسن التشبيه -على ما هو قد مر بنا- يحصل بكون وجه الشبه كثير التفصيل، وكون المشبه به نادر الحضور في الذهن عند حضور المشبه وأن يحقق الغرض منه، فكذلك الاستعارة تحسن إذا كان الجامع بين المستعار له والمستعار منه مفصلًا، كما جاء مثلًا في قول امرئ القيس: فقلت له لما تمطى بصلبه ... وأردف أعجازًا ونال بكلكل فهنا يصف الليل، وقد استحسنه الآمدي وجعله من أجود الاستعارات؛ لأن امرأ القيس وصف أحوال الليل الطويل، فذكر امتداد وسطه وتثاقل صدره وترادف أعجازه، فلما جعل له وسطًا ممتدًّا، وصدرًا ثقيلًا، وأعجازًا مرادفة لوسطه، استعار له اسم الصلب، وجعله متمطيًا من أجل امتداده واسم الكلكل، وجعله نائيًا لتثاقله واسم العجز من أجل نهوضه، هذا التفصيل شفع لامرئ القيس ما كان قد عابه عليه بعضهم من أن بعض استعاراته مبنية على البعض الآخر.

كذلك يتمثل حسن الاستعارة فيما إذا كان المستعار منه نادر الحضور في الذهن عند حضور المستعار له، كاستعارة الطغيان لارتفاع الماء في قول الله تعالى: {إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ} (الحاقة: 11) وتحسن كذلك إذا كان الغرض منها محققًا كالاستعارة في قولك مثلًا: أراك تنفخ في رماد وتضرب في حديد بارد، لمن يجهد نفسه في عمل لا فائدة فيه، ومعلوم أن الاستعارة قائمة على تناسي التشبيه كما قلنا وعلى ادعاء دخول المشبه في جنس المشبه به، ولذا فهي تحسن عندما لا يذكر في الكلام سوى المشبه به نحو: رأيت قمرًا يتحدث. أما إذا ذكر في الكلام ما يشتم منه رائحة التشبيه، بأن يذكر المشبه مثلًا بوجه ينبئ عن الاستعارة لا عن التشبيه؛ فإن ذلك يقلل من حسنها، ومثال ذلك قولك مثلًا: محمد أسد، ورأيت رجلًا مثل الأسد، وهذا رجل أسد، فإن هذا يبطل الاستعارة على أرجح الأقوال، ويعود بالكلام إلى التشبيه. هذا في الاستعارة التصريحية. أما في المكنية فمن الواضح أن يصرح فيها بلفظ المشبه، ويسند إليه لازم المشبه به، ومما يقلل من حسن الاستعارة أيضًا غموض وجه الشبه الجامع بين المستعار له والمستعار منه؛ لأن الاستعارة -كما قلنا- مبنية على تناسي التشبيه، فإذا أضيف إلى هذا التناسي غموض وجه الشبه تضاعف الخفاء وصارت الاستعارة ألغازًا وتعمية. أما التشبيه فيحسن فيه خفاء وجه الشبه -كما مر بنا- لإمكان تقريبه بذكر المشبه أو إزالة الخفاء بذكر الوجه والتصريح به، وعليه فيجوز أن نقول: هذا الرجل كالأسد في نتن الفم مثلًا لزوال الخفاء بذكر وجه الشبه، ولا يجوز أن نقول: رأيت أسدًا ونريد رجلًا أبخر نتن الفم. ونقول: الناس كإبل ماءه لا تجد فيها

راحلة، هذا وارد عن النبي -صلى الله عليه وسلم- ولا نقول: رأيت إبلًا ماءه لا أجد فيها راحلة، وتريد رجالًا كثيرين ليس بينهم إلا رجل واحد متميز بصفة الكمال، وذلك لخفاء وجه الشبه في الاستعارة، وزوال هذا الخفاء بذكر المشبه في التشبيه. وإذا قوي وجه الشبه ووضح وضوحًا تامًّا بين المشبه والمشبه به كتشبيه العلم مثلًا بالنور في البياض والإشراق، وتشبيه الشبهة والبدعة بالظلام في السواد، فعندئذ تحسن الاستعارة ولا يحسن التشبيه؛ لأنه يصبح كتشبيه الشيء بنفسه، فيحسن أن تقول: امتلأ قلبي نورًا وتريد علمًا ومعرفةً، وتقول: صار فلان في قلبه ظُلمة، وتريد شبهة وشكًّا، ولا يحسن أن تقول: امتلأ قلبي علمًا وإيمانًا كالنور، وصار في قلب فلان شك وشبهة كالظلمة. ونلاحظ فيما سبق أن ما عابه النقاد واستقبحوه ليست الاستعارة المكنية في حد ذاتها، وإنما هي الاستعارة التخييلية أي: إثبات لازم المشبه به للمشبه، وكأنهم رأوا في هذا الإثبات خروجًا عن المألوف والمعهود الذي اعتاده العرب، فقد اعتادوا جعل الدهر إنسانًا وصفوه بالوفاء والغدر وجعلوا له ساعدًا، وألفوا جعل المنية سبعًا وتخيلوا لها أظفارًا، ولكنهم لم يجعلوا للدهر أُخدعًا، ولم يجعلوا للمعروف كبدًا، ولا للدجى يافوخًا، ولا للعرض كعبًا، ولا للمال رِجلًا. قد أدرك النقاد كل ذلك، فأرادوا ألا يشتط الأدباء في تصوراتهم وتخييلهم، ويتجاوزوا حدود التصورات المألوفة والمعهودة لدى العرب، كما هو حادث في شعر الحداثة على سبيل المثال. إذن مما تقدم يتضح لنا أن حسن الاستعارة يتوقف على عدة أمور؛ أهمها حسن التشبيه الذي بنيت عليه، وقرب وجه الشبه ووضوحه، وألا يذكر في الكلام ما يشتم منه رائحة التشبيه، فإن فُقِدَ أمر من هذه الأمور قلل فقدانه من حسن

الاستعارة وروعتها، وقد حاول النقاد وضع ضوابط للاستعارة، بحيث يُعد الخروج عن تلك الضوابط عيبًا وقبحًا. ومن أهم تلك الضوابط: 1 - أن تكون هناك مناسبة في العرف والعادة بين المستعار له والمستعار منه. 2 - أن يكون هناك وجه جامع بين المستعار له والمستعار منه، وكلما قرب هذا الوجه حسنت الاستعارة، وكلما بعد وغمض قلل ذلك من حسنها، فإن اشتد غموض الوجه وبعد جدًّا عد ذلك عيبًا. الضابط الثالث: مدى قبول النفس والأذواق للاستعارة أو نفورها منها. ومعا نقتطف بعضًا من ثمرات هذا اللون وبخاصة في كلام الله؛ لنرى كيف يكون التدبر لما جاء في كلام الله، ومدى تأثير مجاز الاستعارة في النفس. في كتابه (التصوير البياني) يذكر الدكتور محمد أبو موسى بعض الآيات كشواهد، نذكر من ذلك ما جاء في قول الله تعالى في شأن بني إسرائيل: {وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَمًا مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} (الأعراف: 168) وهنا نرى التعبير عن التفرق بالقطع والقطع إنما يكون للأشياء المتماسكة كالشجر أو الخشب أو الثوب وما شابه ذلك، وإنما يقال في الأقوام: تفرقوا، لكن استعير التقطيع للتفريق وهي استعارة قريبة. قال عبد القاهر: إن القطع إذا أطلق، فهو لإزالة الاتصال من الأجسام التي تلتزق أجزاؤها، وإذا جاء في تفريق الجماعة وإبعاد بعضهم عن بعض كقوله تعالى: {وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَمًا} كان شبه الاستعارة، وإن كان المعنى في

الموضعين على إزالة الاجتماع ونفيه. فإن قلتَ: قطع عليه كلامه، أو قلت: نقطع الوقت بكذا كان نوعًا آخر، ثم إن هذه الاستعارة التي تشبه الحقيقة أو التي هي شبه الاستعارة -كما يقول عبد القاهر- قد أَثْرَتْ المعنى بما لا تجده في مثل قولنا: وفرقناهم في الأرض أممًا؛ وذلك لأن التقطيع يشير إلى معنى نفسي دقيق؛ هو هذه الوشائج والعلائق التي تقوم بين الجماعة القائمة في مكان واحد والمجتمعة في أرض واحدة، والتي هي أشبه باللحمة في الثوب. وقوله: {وَقَطَّعْنَاهُمْ} يشير إلى تقطيع هذه الصلات والروابط المتلاحمة والتي تربط الأخ بأخيه والوالد بولده والصاحب بصاحبه، وفي ذلك تصوير لآثار هذا التفريق وفِعله في نفوسهم، وربما لا تجد هذا في كلمة فرقناهم. وقد جسد القرآن معنى ذهاب روابط النفوس وتواصلها في هذه الكلمة في تصوير حسن، وسياق حافل بمشاعر اللهفة والندم، في قوله: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} (الأنعام: 94) فانظر إلى قول الله تعالى: {لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ} وكيف كان هذا الاستئناف وهذا القطع في بناء الجملة تهيئة لتجسيد هذا المعنى وتركيزه في كلمة: {تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ}. قال الشريف الرضي: لا فصائل هناك على الحقيقة فتوصف بالتقطع وإنما المراد: لقد زال ما بينكم من شبكة المودة وعلاقة الألفة التي تشبه -لاستحكامها- بالحبال المحصدة والقرائن المؤكدة. ومثل هذا تجده في قول الله تعالى في شأن سبأ الذين كان لهم في مسكنهم آية: {جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ} (سبأ: 15) والذين كانوا يتواصلون ويهنئون في بلدة

طيبة، وكلاءة رب غفور: {فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ} (سبأ: 19) فإنه يقال: مزق الثوب ولا يقال: مزق القوم، وإنما يقال: فرقهم، ولكن لما كان هذا التفريق كأنه نَزْعٌ لكل فرقة من هذه الجماعة، كما تنزع القطعة من الجسم الحي المتواصل عبر عنه بالتمزيق؛ ليشير إلى المعاناة التي عاناها هؤلاء الذين ظلموا أنفسهم بهذا التشتيت وهذا التفريق، وكأن علائق الود وصلات القربَى حِبال ممدودة بين هذه الجماعة، فجاء التفريق كأنه شق وتمزيق وتقطيع لهذه الأوصال، وهذا المعنى تجده ثاويًا وراء كلمة: {وَمَزَّقْنَاهُمْ} ولا تجد شيئًا منه لو قال: فرقناهم. كذلك لو تأملنا قول الله تعالى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ} (الأنعام: 122) فنجد أن هذه الآية من الشواهد المشهورة، وفيها نرى أن المراد بالميت الضال فقد شُبِّه به واستعير له، كما أن المراد بأحييناه هديناه، فالآية إذن تذكر حالين أو مرحلتين من مراحل حياة الإنسان؛ المرحلة الأولى: كان فيها ميتًا وهو في الثانية حي، والواقع أن هذا الإنسان كان حيًّا في الحالين، حياة بمعناها المتعارف، ولكنه لما كان منطفئ الفطرة معطل الإدراك جعل مُيتًا، وكأن غاية الحياة إنما هي في استدامة الفطرة، وسلامة النظر الراشد إلى معرفة الحق والخير. الموت هنا له مفهوم جديد، ربما كان انغماس النفس في ظلمة الحيوانية وبقاء الروح مكفوفة الإدراك، تخبط في الأرض من غير غاية نبيلة تسعى إليها؛ لتسعد بها سعادة أبدية. واضح أن الحياة في هذه المرحلة حياة وموت معًا؛ لأنه يحيا ويتقلب كما يتقلب كل حي، ولكن هنا معنى قلبي ينقصه، فَسُلِب معنى الحياة من هذه الحياة. والضلال أيضًا له مفهوم جديد في هذه الآية وبهذه الاستعارة؛ لأنه لم يعد ضلالًا وإنما صار موتًا، كما أن الموت له أيضًا مفهوم جديد؛ لأنه ليس إبطالًا

للأحوال الجسمية، وإنما هو إبطال للطاقات الروحية، وكذلك الاستعارة في "أحييناه" ليست الحياة فيها هي الحياة المألوفة وإنما هي الهداية التي صارت بدورها حياة، أو ضربًا من الحياة غير مألوف؛ لأنها تعني خلوص النفس مما يثقل نهوضها السامي، الذي تهتف به فطرتها الطاهرة النازعة نزوعًا دائمًا إلى الحق والمثل الأعلى. الاستعارة هنا جددت معاني الكلمات وأثرتها، وأفرغت فيها فكرًا جديدًا وحِسًّا جديدًا، صرنا نرى حياة ولكنها ليست حياة بالمعنى المتداول، ونرى هداية ولكنها ليست هداية بالمعنى المتداول أيضًا، وكأننا أمام حقيقة ثالثة ليست المستعار منه ولا المستعار له، أعني: ليست الطرفين اللذين زاوجنا بينهما وإنما هي شيء ثالث ولده هذا التزاوج والتداخل، الذي أدمج المستعار له في المستعار منه، ولكنه لم يشكله تشكيلًا كاملًا في صورة المستعار منه وإنما بقي بين بين. ولعل السكاكي أحس بهذا حين زعم أن معنى "فردًا" غير متعارف هو الهداية التي صارت حياة أو الحياة التي هي هداية، وكانت هذه الفكرة ترِد في كلام عبد القاهر على درجة بينة من الوضوح في مثل قوله: إننا في الاستعارة نتوهم واحدًا من الأسود قد استبدل بصورة إنسان. ومن الاستعارات التي بُنيت على التمثيل عند عبد القاهر، أو التي يكون فيها المستعار له أمرًا معقولًا والمستعار منه أمرًا محسوسًا -كما يقول الخطيب- قول الله تعالى: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ * فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ * إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ} (الحجر: 91 - 95) فالصدْعُ يكون في الأجسام، ومنه: صدع الزجاجة، وسمي الفجر صديعًا؛ لأنه يصدع الظلمة ويشقها. والمراد -كما يقول

الزمخشري- فاجهر به وأظهره، يقال: صدع بالحجة إذا تكلم بها جهرًا، كما يقال: صرح بها، فالصدع مستعار للجهر والإبانة، والعلاقة هي أن الصدع تنفصل به الأجزاء وتبين مقاطعها، كذلك الإبانة والجهر تتحدد بهما الحقائق وتنكشف الأغراب، ثم إنك ترى التمييز والتحديد في الصدع بعينك، وترى التحديد والتمييز في القول بفهمك وقلبك، فالذي في المشبه ليس هو الذي في المشبه به، وإنما هو شيء منه بسبيل، وهذا هو معنى التأول عند عبد القاهر. وفي هذه الاستعارة معنى فوق ما تراه من تجسيد هذه الحقيقة الروحية، وهو الكشف المبين عن حقائق ما جاء به -عليه السلام- وصيرورته في هذه الصورة المحسوسة، وهو الصدع والشق الماثل في الأجسام، هذه الاستعارة فيها فوق ذلك الإشارة إلى وجوب الإعلان الواضح بكلمة الله في كل أمر من الأمور، وإن كان في هذا مصادمة لِمَا تعارف عليه الناس، ولما ألفوه في حياتهم وسلوكهم وعاداتهم. الأمر بالصدع هنا يعني زلزلة هذا المألوف، وشقه ومصادمته مصادمة تصدعه وتهدمه ما دام قائمًا في وجوده على غير منهج الله. وهكذا فعل الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم- فقد هدم ما ترسخ من عقائدهم وأعرافهم وما ترسخ في قلوبهم وضمائرهم، ثم إن هذه الاستعارة من وجه آخر تُرمَى في وجوه هؤلاء الذين يمالئون في كلمة الله وحدود حلاله وحرامه، بمصانعة الجهلة والطواغيت، وتأييد ضلالاتهم وانحرافاتهم، وإعطائها صبغة قرآنية، وكذلك الذين يصانعون العقائد والمذاهب المعاصرة فيتساهلون في تحديد وجهة نظر القرآن، أو يُلبسون في بعض جوانبها؛ ليُدنوا هذه النظم من القرآن أو يُدنوا القرآن منها، وهذا وغيره يخالف الإبانة الكاشفة التي جسدتها كلمة: {فَاصْدَعْ}.

وانظر إلى قوله: {بِمَا تُؤْمَرُ} وكيف عبر عن الدين وأمر الله بهذه الصيغة التي تبعد عن هذا الأمر عنصر البشرية وذاتية محمد -صلى الله عليه وسلم- فالذي ينادَى به ويجهر بالدعوة إليه أمر تلقاه وليس غير ذلك، ثم انظر إلى الأمر الذي تلاه: {وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ}، وكيف حدد موقف الداعي من جبهة العناد والضلال وأنه الإعراض عنهم؛ حتى لا تستهلك طاقة الداعية في لجاجتهم الغوغائية، وفي محيطهم السلبي المعطل. ويقرب من هذه الاستعارة في بعض دلالتها قوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (الشورى: 52) فالمراد ليس هو الصراط الذي تراه عينك طريقًا واضحًا مستقيمًا، وإنما المراد حقائق الدين ومنهج القرآن، وتجاوبه مع الفطرة الصحيحة، واستقامته في نفوس أهل الحق واليقين، كأنه طريق واضح يصف منهجًا بينا ويحدد المعالم تحديدًا مضيئًا، فالموقن بهذا الدين لا يبحث عن خطة يمضي في حياته عليها، وإنما الطريق بين يديه وهو طريق مستقيم، وما عليه إلا أن يمضي. وقد تكررت هذه الاستعارة في القرآن؛ لتنفي عن هذا الدين التلبيس والغموض الذي يُثقِل كثيرًا من الديانات، الدين هنا صراط مصروط لا عوج فيه ولا غموض، وتجد هذا الصراط مضافًا في مثل قوله: {وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا} (الأنعام: 126) وفي هذه الإضافة تأكيد لمعنى أن حقائق هذا الدين لا تَلتبس ولا تُلتبس بغيرها، وأنه سيظل في أصوله نقيًّا خاليًا من الآثار البشرية التي لا يجوز أن تختلط به؛ لأنه ينفيها ويكشفها بوضوح الربانية فيه: {صِرَاطُ رَبِّكَ} فهو خط واضح تحددت حدوده، فلا يلتبس بغيره. ولأجل تأكيد هذا المعنى -أعني: وضوح حقائق هذا الدين وتحديدها- تجد التعبير عنها بالنور يكثر في هذا الكتاب مثل: {وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ} (الأعراف: 157)

خصائص وأسرار المجاز المرسل.

وقوله: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ} (الصف: 8) والدين حقائق وعقائد وسلوك، ولكنها تهدي المؤمن دائمًا في مسيرة وجوده، كما تهدي المنارات الوهاجة جوانب الطريق للسائر فيه، فإذا انصرفت النفس البشرية عن هذه الحقائق وفقدت هذا النور، توزعت واختلفت عليها الأمر، وصارت إلى ليل الشك والضلال. خصائص وأسرار المجاز المرسل فإذا ما انتقلنا إلى الضرب الثاني من ضروب المجاز اللغوي وهو المجاز المرسل، وأردنا أن نطلع على بعض خصائص وأسرار هذا الضرب من الكلام، لوجدنا أنفسنا أمام فن لا يقل تأثيرًا عن سابقه؛ ذلك أن من خصائص هذا الضرب من فنون القول الإيجاز، فأنت عندما تقول: رعينا الغيث، هذا أوجز من قولك: رعينا النبات الذي كان الغيث سببًا في نموه واخضراره، فقد طويت المسبب وذكرت في موضعه السبب، وكذلك في قول الله تعالى: {وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا} (غافر: 13) أي: ينزل الماء الذي يتسبب في إيجاد الرزق. الأمر الثاني من مزايا المجاز المرسل: المبالغة كما تجد ذلك في قول الله تعالى: {جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ} (نوح: 7) فقد ذكرت الأصابع في موضع الأنامل؛ مبالغة في تعطيل أسماعهم لشدة عتوهم ونفورهم وإعراضهم عن الحق. الأمر الثالث: أن المجاز المرسل يفسح مجال التعبير أمام الأديب أو المتكلم، فعن طريق المجاز يستطيع أن يتخير الألفاظ الملائمة للقافية أو الفاصلة، وأن يتجنب الألفاظ التي تخل بفصاحة الكلام فيترك الحقائق ويستعمل المجازات حتى يسلم تعبيره مما يخل بفصاحته، ومما يصوب من قوافي شعره.

الأمر الرابع: أن المجاز المرسل يعين المتكلم على تحقيق ما يهدف إليه من أغراض كالتعظيم والتحقير والتهويل وغير ذلك. تقول مثلًا: رأيت العالم، تقصد رأيت طالب العلم الذي سيصير عالمًا، فأنت بذلك تعظمه وترفع من شأنه، وتقول أيضًا: انظر إلى الجيفة كيف يطغى ويتكبر؟ وأنت تريد مَن سيموت فيصبح جيفة منتنة باعتبار ما سيكون، فأنت بهذا تحقره وتضع من شأنه. من ذلك أيضًا قوله تعالى: {يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ} (البقرة: 19) فقد أفادت الآية شدة الهول والرعب والخوف الذي انتابهم، والذي من أجله حاولوا إخفاء أسماعهم بأقصى ما يستطيعون. الأمر الخامس من مزايا المجاز المرسل: أن المجاز المرسل لا يخلو من خيال يعرض للسامع عندما تمر بذهنه المعاني الحقيقية لتلك الألفاظ، التي سرعان ما تتلاشى أمام المعاني المجازية المقصودة، هذا الخيال يحقق الجمال وإمتاع النفس التي ترى النبات والرزق بمختلف صنوفه يتدفق من السماء، وترى أسنِمة الآبالي يسعى بها السحاب، وهذا يأكل دمًا ويمضغه بأسنانه، وذاك يأكل نارًا فتكوى بها أحشاؤه. هذه الصور تخطر في النفس فور سماع جملها، وهي وإن كانت تزول سريعًا أمام المعنى المراد بنصب القرينة إلا أنه بخطورها يتحقق إمتاع النفس وإثارة الذهن، فتقع المعاني في النفس موقعها، إلى غير ذلك من الأغراض البلاغية والأسرار واللطائف التي تكمن وراء أساليب المجاز المرسل. وتعال معي لتتأمل ما جاء في قول الله تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} (البقرة: 194) وقوله: {فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ} أي: جازوه على اعتدائه، ولكنه عبر عن المجازاة بالاعتداء؛ لأنه سببها، وقد سوغت هذه السببية أن تقيم الاعتداء مقامَ ما يترتب عليه وتنيبه عنها في الدلالة، ووراء هذا المجاز إبراز لقوة

السببية بين الاعتداء وجزائه، وأنه -أعني: الجزاء - يجب أن يكون نتيجة ومحصلة لازمة للاعتداء، فهو لا يتخلف عنه، وكأن هذه الفاء أيضًا مشعرة بسرعة المكافحة وضرورة الترتب. وليس هذا الذي أشير إليه متناقضًا مع الدعوة إلى العفو والحث عليه؛ لأن المقام في الآية الكريمة ليس مقام تسامح؛ لأنه يحدد الموقف بين المسلمين وغير المسلمين، وعندئذ لا عفو ولا تسامح حتى تظهر الشوكة والغلبة. وانظر إلى الآية التي تشرع القصاص بين المسلمين وتحدد الصورة التي ينبغي أن تكون عليها علاقاتهم في هذا الشأن: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ * وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (البقرة: 178، 179) تجد الترغيب في العفو والتسامح يشيع في التعبير. انظر إلى قوله: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} ومعناه: فمن عفي له عن جنايته. انظر إلى كلمة: {أَخِيهِ} وما تفيض به في هذا السياق، وكيف أشارت إلى أن رابطة الأخوة قائمة بين المسلم والمسلم وإن كانت بينهما تارات وإِحن، وأن القرآن يذكر وَلي الدم بهذه الأخوة التي تربطه بالجاني؛ ليرغبه في العفو، وقوله: {فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} وصية لولي الدم إذا قبل الديةَ أن يتبع الجاني بالمعروف ولا يعنِّف به في المطالبة. ثم انظر إلى سياق الآية التي نحن فيها: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ * وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ * فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى

لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ * الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} (البقرة: 190 - 194) قالوا: إنها أول آية نزلت في القتال، وقد بدأت بالأمر بقتال مَن قاتلهم، والنهي عن الاعتداء والتنفير منه، فإن الله لا يحب المعتدين. وتظهر في هذا السياق روح القوة والتمكن التي يجب أن تكون عليها هذه الأمة التي تحمل رسالة الله في أرضه، ولكنها قوة لا تتخطى حدود العدل، ولا تجافي روح الإنسانية، وإنما تخضع لها أحسن ما يكون الخضوع، وتلتزم بها أدق ما يكون الالتزام. تأمل قوله: {وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ} أي: حيث وجدتموهم؛ لأن الثقف وجود على وجه الغلبة والقوة، أي: حيث وجدتموهم قادرين عليهم، متمكنين منهم، وكأن الآية تشير إلى ضرورة أن يكون المسلمون دائمًا في حالة قوة وتمكن وغلبة، فإذا لقوا أعداءَهم كان لقاؤهم ثقفًا أي: وجودًا على وجه التمكن. ثم انظر إلى قوله بعد الأمر بالجزاء: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} وفي الأمر بالتقوى أمر بالتضحية والبسالة والرغبة فيما عند الله عند لقاء العدو، وقوله: {مَعَ الْمُتَّقِينَ} أي: معهم في جهادهم وكائن في صفوفهم. ثم تأمل قوله تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} (محمد: 31) قد أراد سبحانه: ونعرف أخباركم، ولكنه عبر بالابتلاء الذي هو سبب المعرفة؛ لأن الابتلاء يتبعه موقف جديد، إما زيادة تأصيل الإيمان بالله والتمسك الشديد بمبادئ الدين الحنيف، أو الخذلان والتحلل وانهيار الإيمان وضياع العقيدة. وبعد ظهور هذا الموقف وانكشاف حقيقة المبتلى يصبح علم الله متعلقًا بالمعلوم الواقع، والمولى -عز وجل- عليم بكل شيء ولا يحتاج في علمه إلى ابتلاء.

كثر في القرآن هذا المجاز المسمى بالمجاز المرسل المبني على علاقة المسببية بصورة أوسع من غيرها، كما في قوله تعالى: {وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا} (غافر: 13) قد عبر عن المطر بالرزق، فأشار إلى قوة السببية بين المطر والرزق، وأهمية المطر وأنه مصدر الحياة، وفيه أن الرزق ينزل بقدر الله وفعله سبحانه، فليمضِ المسلم إذن على طريقة الخير التي رسمها له القرآن، وهو موقن أن الرزق مصدره السماء، فلا تتبدد طاقاته في الإلحاح وراء المطامع، وإنما تتركز هذه الطاقات في العمل الصالح، أعني: الذي تصلح به حياة الجماعة المسلمة. وتجد القرآن يبرز هذه الناحية في كثير من عباراته كما يحتويها في خفاء ودقة في كثير من صياغاته وأحوال تراكيبه؛ ليعمق هذا المعنى في قلب المسلم ويطرد من أفقه مشاعر الأثرة والأنانية. ومما يذكره البلاغيون في هذه العلاقة -علاقة المسببية- قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا} (النساء: 10) والذين يأكلون أموال اليتامى لا يأكلون نارًا على الحقيقة، وإنما يأكلون أموال اليتامى، ولما كان ذلك مؤديًا إلى النار حتمًا وسببًا في عذابها قطعًا عبر عنه به. وفيه مع إبراز هذه السببية وتقويتها تفظيع وتنفير تراه في هذه الصورة: {يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا} فالقوم يقذفون النار في أفواههم، فتندلع في بطونهم، ولو قال سبحانه: إنما يأكلون حرامًا، لكان شيئًا آخرَ، مع أن المآل إليه، كما أنه لو قال: إنما يأكلون نارًا، لذهب من الصورة جزء كبير فيه فظاعة وشناعة؛ لأن كلمة البطون مع أنها مفهومة ضرورة من كلمة الأكل، إلا أن في النص عليها مزيد تشخيص وتوضيح. وتجد في كلمة: {إِنَّمَا} ذات الدلالة المعروفة همسًا خافتًا، يقول: إن هذه قضية مسلَّمة وبديهة ظاهرة، لا ينبغي أن يحتفل في عرضها، ولا أن تؤكد في سياقها. بمثل هذا يكون التدبر، وتجنَى الفائدة والثمرة من وراء مدارسة فنون البلاغة. أقول قولي هذا، وأستودعكم الله دينكم. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الدرس: 11 الكناية.

الدرس: 11 الكناية.

تعريف الكناية.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس الحادي عشر (الكناية) تعريف الكناية الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، ثم أما بعد: بعد الفراغ عن الحديث عن ضربي البيان وقسميه الأولين: التشبيه، والمجاز. باعتبارهما طريقين من طرق الأداء، بقي لنا أن نختم هذه الطرق بالقسم الثالث منها، وهو: الكناية، والتعريض. ولنبدأ أولًا فنقول: إن الكناية -كما يقول دكتور البهنسي في كتابه (في البيان العربي) -: لها من الخطر ما يسامي الاستعارة، بل ربما كانت أبعد أثرًا منها؛ لأنها لا تقوم على المباشرة في المعنى وإنما تلف المعنى بشيء من الخفاء، وهذا هو سر تسميتها بهذا المصطلح. والكناية في عُرف أهل اللغة: اسم لما يتكلم به الإنسان ويريد غيره، وسميت كناية لما في بنيتها من معنى الستر، يقال: كنيت الشيء إذا سترته، ويقال: كنى يكني، إذا ستر مراده ولم يفصح عنه. أما في عرف أهل البيان: فهي لفظ أطلق وأريد به لازم معناه مع قرينة غير مانعة من إرادة المعنى الحقيقي. وفي هذا التعريف صبغة التحديد العلمي المعتمد على الفكر البحت، ولكن الإمام عبد القاهر -رحمه الله- يسوق لها تعريفًا عليه طلاوة التعبير الأدبي فيقول: هي أن يريد المتكلم إثبات معنى من المعاني فلا يذكره باللفظ الموضوع له في اللغة، ولكن يجيء إلى معنى تاليه وردفه في الوجود، فيومئ به إليه ويجعله دليلًا عليه. فقوله: "هو تاليه وردفه في الوجود"، هو ما عبر عنه متأخرون باللازم؛ لأن اللازم يتبع الملزوم فهو إذن تالٍ وردف له.

وقوله: "يومئ به إليه"، بيان لطبيعة الكناية ففيها إيماء إلى المعنى وإشارة لا كشف ومباشرة، وتلك سمة الأدب، هو لا يعبر وإنما يومض إيماضًا تستطيب النفس لمحته، وتستلذ مراوغته. ولكي يتضح هذا المفهوم نذكر البيت المتوارث في التمثيل للكناية، وهو لامرئ القيس، يقول فيه عن صاحبته: وتضحى فتيت المسك فوق فراشها ... نؤوم الضحى لم تنتطق عن تفضل فقد أراد أن يصفها بالرفه والعزة، فذكر أنه يأتي عليها وقت الضحى وفتيت المسك منثور فوق فراشها، لم يُذهِبه نومها عليه طول ليلها إلى أن تضحى؛ لكثرته، وأنها لم تلبس النطاق بعد تفضل، فَرَمْزُ رفاهيتها نَثْرُ المسك فوق الفراش والنوم إلى وقت ضحى، ورمز عزتها أنها لم تلبس النطاق بعد تفضل، ومؤدى هذا أن امرأ القيس أراد أن يحدثنا عما يضاعف جمال معشوقته والجمال ربيب النعمة، فكنى عن سعة نعمها بقوله: "فتيت المِسك فوق فراشها"، وعن كونها مخدومة مرفهة بقوله: "نؤوم الضحى"، وعن دوام رفاهيتها ونعمتها بقوله: "لم تنتطق عن تفضل". والوقوف عند المعنى القريب المباشر لهذه الأوصاف يقصر بها عن مخاطبة الوجدان ومعابثة الشعور، إذ ليس في كثرة المسك ولا في النوم وقت الضحى بكثرة، ولا في عدم الانتطاق بعد تفضل كبير معنى بدون الإيماء إلى ما وراء هذه الصفات يتعلق به غرض الشاعر، فالسياق الذي استدعى هذه الأوصاف يدل على كونها مرفهةً مخدومةً، وفي رفاهيتها وتصونها عن خدمة نفسها بنفسها تطرية لجسدها وإطفاء للملاحة على قسماتها، وأين يقع المعنى المباشر لهذه الأوصاف من المعنى الذي يلمح من ورائها، على أنه ليس ثمة مانع من أن يراد بهذه

الأوصاف معناها المباشر، إلى جانب المعنى الذي يدرك منها لمحًا وإيحاء، أما أن يراد وحده فذاك ما يأباه السياق. الحديث عن عَلاقة الكناية والفرق بينها وبين المجاز يحتاج إلى وقفة؛ ذلك أن استخدام اللفظ في غير معناه الذي وضع له لا يتم إلا عند وجود علاقة تربط بين المعنيين: المعنى الكنائي الذي استخدم فيه اللفظ والمعنى الأصلي الذي كنَّى به المتكلم كما هو الحال في المجاز. والعلاقة هنا في الكناية هي علاقة الردف والتبعية، أو بمعنى آخر التلازم بين المعنى الذي يدل عليه ظاهر اللفظ وبين المعنى المراد منه، ففي قول الله -عز وجل-: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا} (الفرقان: 27) عبَّر عن الشعور بالتحسر والندم على ما فات بالعض على اليدين. وكذا في قوله تعالى: {وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا} (الكهف: 42) عبر عن نفس المعنى وهو الندم والحسرة بتقليب الإنسان كفيه، والعلاقة بين الندم والتحسر وبين عض اليدين أو تقليب الكفين، هي التلازم الذي يرجع إلى ما عرف عن الإنسان وطباعه، فقد عرف عنه أنه إذا ندم عض على يديه أو قلَّب كفيه؛ متحسرًا على ما فات، كما أن من طباعه حمرة الوجه عند الخجل وتقضيبه عند الغضب، وفي قول الشاعر: يذكون نار القرى في كل شاهقة ... يلقى بها المندل الهندي محطوما المندل الهندي: هو عود طِيب طَيب الرائحة، يستجلب من بلاد الهند، والمحطوم أي: المكسر، فهنا كنى عن الكرم بإذكاء النيران في الأماكن العالية؛ لإرشاد الضيوف، والعلاقة بين المعنيين التلازم الذي يرجع إلى ما عرف عن العرب، فمن عاداتهم إيقاد النيران في الأماكن المرتفعة يرشِدون بها القادم إليهم. وفي قول المتنبي يمدح سيف الدولة ويشيد بشجاعته:

فمسَّاهم وبُسطهم حرير ... وصبَّحهم وبسطهم تراب ومَن في كفه منهم قناة ... كمن في كفه منهم خِضاب يريد أن رجالهم في ضعفهم وعدم قدرتهم على الحرب والصمود كالنساء، فهنا كنَّى عن ثراء العدو وسيادته قبل أن يلقاه سيف الدولة بأنه يفترش الحرير: "وبسطهم حرير"، وكنى عن إذلاله وخضوعه بقوله: "وبسطهم تراب"، كما كنى عن الرجل في البيت الثاني بقوله: "ومَن في كفه منهم قناة"، وعن المرأة بقوله: "من في كفه منهم خضاب". والعلاقة بين المكني به والمكني عنه هي التلازم الذي يرجع في البيت الأول إلى العرف والعادات والتقاليد، فمن عادة الثري أن يفترش الحرير، ومن عادة الذليل أن يفترش التراب، ويرجع في البيت الثاني بالإضافة إلى العرف والعادات إلى خصوصيات الأفعال، فحمل السلاح يختص بالرجل، وخضاب الكف يختص بالمرأة. وبهذا يتضح لنا أن التلازم القائم بين المعنيين -المكني به والمكني عنه- يرجع في الغالب إلى العرف الذي تعارف عليه القوم، وإلى طباع الإنسان والحيوان وطبائع الأشياء الأخرى، وإلى خصائص الأفعال، ثم إلى عادات العرب وتقاليدهم التي ألفوها. والسؤال: إن كان ثمة علاقة تربط بين المكني به والمكني عنه، فما الفرق إذن بين الكناية والمجاز؟ الجواب: أن أسلوب المجاز يختلف عن أسلوب الكناية؛ في أن أسلوب المجاز يشتمل على قرينة تمنع من إرادة المعنى الأصلي، فقولنا: عجبت من الجيفة كيف يطغَى، مجاز مرسل علاقته اعتبار ما سيؤول إليه الإنسان بعد موته، حيث أطلق لفظ الجيفة وأريد بها الإنسان الحي والقرينة أن الجيفة يستحيل أن تطغى، وتلك القرينة تمنع إرادة المعنى الأصلي للجيفة.

أقسام الكناية.

وكذلك الاستعارة في قوله تعالى مثلا: {إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ} (الحاقة: 11) في قوله -عز وجل-: {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ} (الإسراء: 24) القرينة فيهما تمنع إرادة المعنى الأصلي للطغيان كما تمنع إرادة المعنى الحقيقي للذل، أما القرينة بأسلوب الكناية فإنه لا تمنع إرادة المعنى الأصلي للفظ، ففي الشواهد المتقدمة لا تمنع القرينة من أن يعض الظالم المتندم على يديه يوم القيامة، وأن يقلب صاحب الجنة التي صارت خاوية كفيه حال ندمه، وأن تجتمع الحمرة والخجل وكثرة الرماد والكرم، إلا إذا عرض عارض خارجي يمنع إرادة المعنى الأصلي في الكناية، فعندئذٍ يمتنع إرادته بسبب هذا العارض. كما في قول الله تعالى مثلًا: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} (الشورى: 11) وذلك على القول بأن الكاف أصلية، وأن الآية تفيد نفي المثلية عن الله -عز وجل- بطريق الكناية، إذ نفي مثل المثل يستلزم نفي المثل، ويمتنع في الآية إرادة المعنى الأصلي، وهذا الامتناع ليس بسبب القرينة، وإنما بسبب عارض خارجي، وهو إفادة ثبوت المِثل لله، وذلك محال. ويجوز جعل الكاف صلة زائدة، فلا يكون في الآية كناية حينئذٍ. أقسام الكناية وننتقل بعد ذلك للحديث عن أقسام الكناية: الكناية تنقسم -كما هو متعارف عند علماء البلاغة- إلى كناية عن موصوف، كناية عن صفة، وكناية عن نسبة. أما الكناية عن موصوف: فهي التي يصرح فيها بالصفة وبالنسبة ولا يصرح بالموصوف، أو هي تلك التي يكون المكني عنه ذاتًا ملازمةً للمعنى الذي تهتف به نفس الأديب، ومن تحديد

مفهوم الكناية عن الموصوف تدرك أن الصفة المكني بها عنه لا بد أن يكون لها ارتباط وثيق حتى كأنه مختص بها، فلا تنصرف عنه إلى غيره حتى يكون إطلاقها إيحاء به وإيماء إليه. ومما أريد به الكناية من هذا النوع قول الله تعالى: {أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ} (الزخرف: 18) ففي سياق الحديث عن السلوك المغلوط لمن لم يدخل الإيمان قلبه، يكشف الحق -عز وجل- عن الخطأ البين في النظرة إلى الأنثى؛ قد أعطى هذا الصنف من الناس نفسه حق تقسيم البشر، فخصوا أنفسهم بالذكور، وجعلوا الإناث للخالق، ولو جاز لهم فرضًا أن يقسموا البشر فهل يجوز إنصافًا وعدلًا أن يكون لهم حق الاختيار؟! وإن سلم بحق الاختيار فلماذا يسود وجه أحدهم إذا جاءته البشرى بميلاد من هو في زعمه نصيب لله الذي خلقه؟ أفما كان ينبغي أن تفيض نفسه فرحًا ويزداد وجهه ألقًا حين يشرق في بيته وجه من هو منسوب بزعمه إلى الله؟! في هذا السياق لم يصرح النص القرآني بلفظ الأنثى، وإنما كنى عنه بالموصول وصلته: {بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا}، {أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ} واختير لفظ "ما>؛ لأنه كني به عن القسم المنسوب إلى الله، ولما أريد الفرد كنى عنه بلفظ من في قوله: {أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ} ولا يخفَى أن هنا صفتين كني بكل منهما عن الأنثى؛ الأولى: ضرب المثل، والثانية: التنشئة في الحلية وهي الزينة، وهاتان الصفتان مختصتان بالموصوف الذي كنِّي بهما عنه، والاختصاص بضرب المثل ظاهر من خلال ما شاع في مجتمع نزل القرآن يصحح عقيدته ويصوب إلى الأمور نظرته. أما الاختصاص بالزينة فهو أمر تراه الأجيال المتلاحقة جيلًا بعد جيل، ولا يخفى أن نسبة الصفة تظهر باستجلاء الموصوف الذي تومئ إليه هذه الصفة.

ولا يفوتنا أن نشير إلى ظلال التعبير القرآني في هذه الكناية ففي هاتين الصفتين -التنشئة في الحلية وعدم الإبانة في الخصام- إيماء بليغ إلى عظم دور المرأة في الحياة، وهو كونها ذات طبيعة تجعلها نبعًا يستمر به الوجود الإنساني، بما طبعت عليه من تهيئة أسباب الإخصاب، ومن عدم الميل إلى النفخ فيما يشعل نار الحروب. ومن الكناية عن الموصوف: قول الله تعالى في شأن نوح -عليه السلام- وقد عم الطوفان: {وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ} (القمر: 13) فقد كنَّى عن السفينة بكونها صاحبة ألواح ومسامير، ودليل خصوصية هذه الصفة بالسفينة مما لا يخفَى؛ فالألواح والمسامير خاصة بما يحمل الناس والمتاع على صفحة الماء من فُلك وجوار وسفن، ولا تزال تلك الطبيعة التكوينية للسفينة -الألواح والمسامير- باقية إلى عصرنا هذا، أيًّا كانت المادة التي تكون منها الألواح والمسامير، وفي ذكر هذه الصفة إيماء بليغ إلى قدرة الله التي هيأت أسباب طفو الحديد وغيره على الماء بما يُحمَل من الأثقال. وقد لفت القرآن إلى هذه القدرة في قوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِي فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ} (الشورى: 32) حيث جعل جري السفن الضخام على صفحة الماء من دلائل القدرة، والجري في البحر صفة كني بها عن موصوف هو السفن، وفي موضع آخر ذكر القرآن تهيئة أسباب الجري على صفحة الماء هي من خلقه تعالى وصنعته وحده، حيث قال: {وَلَهُ الْجَوَارِي الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ} (الرحمن: 24) ففي قوله: {وَلَهُ} مِلكية الخلق والصنعة، كما صرح بذلك قوله -عز شأنه-: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَةِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آيَاتِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} (لقمان: 31). وفي الآيتين من سورة الشورى والرحمن كنَّى بصفة الجري عن السفينة؛ إيماءً إلى أن ضخامتها لم تحل دون جريها، وفي الآية من سورة القمر إيماء إلى أن مكوناتها

رغم غوصها منفردة في الماء طفت على سطحه، فحمت نوحًا -عليه السلام- ومن معه من الغرق. ومن الكناية عن الموصوف أيضًا: قول المتنبي يسترضي سيف الدولة على بني كلاب وقد أوقع بهم هزيمة منكرة رد بها تمردهم عليه: ومن في كفه منهم قناة ... كمن في كفه منهم خضاب فقد كنى عن المرأة بصفة هي كون الخضاب في يدها، وعن الرجل بصفة هي كون القناة في يده، هو يريد بهذه الصفة المكنى بها عن الموصوف بلوغهم في الضعف غاية لا غاية بعدها، حيث صار الرجل منهم كالمرأة في العجز عن مواجهة الحروب، مما يجعلهم أهلًا للصفح والعفو، وقد كان المتنبي شاعرًا قديرًا في تسخير الكناية عن الموصوف لما يرمي إليه، وكذا في التعبير عما يعتمل في نفسه ويضطرب في حناياه. ومن ذلك قوله في سياق قصيدة يمدح بها كافورًا، ويحدث عن غدر الصديق: رحلت فكم باك بأجفان شادن ... عليَّ وكم باك بأجفان ضيغم وما ربة القرط المليح مكانه ... بأجزع من رب الحُسام المصمم فلو كان ما بي من حبيب مقنع ... عذرت ولكن من حبيب معمم في الثلاثة أبيات هذه تطالعنا الكناية عن الموصوف خالبة آسرة، فقد كنى عن المرأة بكونها باكية بأجفان الغزال، وبربة القرط المليح، وبالحبيب الساتر وجهه بالقناع، وكنى عن الرجل بكونه باكيًا بأجفان الأسد، وبرب السيف القاطع، وبالحبيب المعمم، ووظَّف كل هذه الكنايات للتعبير عما يعتمل في نفسه من حزن بلَغَ في نفسه المدى، فقد فارق أحبابه الكثيرين من الرجال والنساء، أولئك الذين جزعوا لفراقه أشد الجزع، ولم يكن الرجل في ذلك أقل من المرأة في تجرع غُصة

الفراق، ويزيد في ألمه وحزنه أن ما ألجأه إلى الرحلة لم يكن إعراض حسناء، وإنما كان غدرًا من رجل أولاه قلبه وحبه، ولو كان ما لحقه من إعراض الحسناء لوجد شيئًا من العذر يعينه على احتمال البقاء بين خِلانه وأهل مودته، ولكنه من غدر رجل صديق، فلم يكن بُد من الرحلة والفراق. ومن الكناية عن موصوف: قول البحتري في وصف طعنة أصاب بها ذئبًا: فأتبعتها أخرى فأضللت نصلها ... بحيث يكون اللب والرعب والحقد أضللت يعني: غيبت، والنصل هو حديدة الرمح والسهم. ومنه قول عمرو بن معد يكرب: والضاربين بكل أبيض مخدم ... ....................... المخدم: هو القاطع من السيف. ......................... ... والطاعنين مجامع الأضغان فكنى بمجامع الأضغان عن القلب، ويكنى عنه بذات الصدور وبمواطن الأسرار وبأماكن الحقد والرعب، كما في قول البحتري السابق الذكر. من ذلك أيضًا: قولهم عن الخمر: أم المصائب وأم الكبائر؛ لشهرة الخمر عند العقلاء بجلب المصائب وتوليد الكوارث وارتكاب الموبقات من الكبائر، وفي الكناية عن النساء: ذوات الخلاخل، وفي الكناية عن الدينار: الأصفر الرنان، وفي الكناية عن الصدر: موطن الحِلم، وعن اللغة العربية بأنها لغة الضاد. يقول شوقي: إن الذي ملأ اللغات محاسنًا ... جعل الجمال وسره في الضاد وقولهم في الكناية عن السفينة: ابنة اليم؛ لملازمتها ماء البحر، ونلاحظ في الشواهد والأمثلة المذكورة أن الصفات التي صرَّح بها، لها مزيد اختصاص

بالموصوف الذي كني بها عنه، ولازمة لمعناه وواضحة الدلالة عليه، ولذا ساغ الكناية بها عنه. القسم الثاني من أقسام الكناية: الكناية عن صفات؛ وهي أن يصرح بالموصوف وبالنسبة، ولا يصرح بالصفة المرادة، بل يذكر مكانها صفة تومض إليها، وتدل عليها، ومن روائع هذا النوع قوله تعالى: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا} (الفرقان: 27) فقد ذكر الموصوف صراحة وهو الظالم، وذكرت النسبة كذلك، وهي نسبة العض إليه، ولكن الصفة المقصودة لم تذكر صراحةًبل نراها في إيماءة العض على اليدين، ونتأمل صورة رجل أو امرأة أخذ يعض أو أخذت تعض على يديها، ولتحاول معي أن تدرك الحالة التي عليها أي منهما، عندئذٍ ستدرك أن الندم هو المسيطر، والعض على اليدين يومض بالطبع بالندم إيماضًا يوشك أن يكون ضوءًا قريبًا قويًّا كاشفًا عنه. ومن التعبير عن الندم أيضًا قوله تعالى في قصة الرجلين الثري والمقل، إذ اغتر الثري بثرائه فجحد نعمة الله وافترى عليه، وفخر على المقل، فعاقبه الله عقابًا، قال عنه: {فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا} (الكهف: 42) ولتقف عند قوله: {فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا} فستجد أن الموصوف مذكورًا صراحة بالضمير المستكن في الفعل: {يُقَلِّبُ} ونسب إليه هذا الفعل، ولكن الصفة المرادة لم يصرح بها وإنما فُهمت من صفة مذكورة وهي تقليب الكفين، وأنت أيضًا إذا أنعمت النظر فيها وقد ذُكرت بعد قوله: {وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ} (الكهف: 42) لوجدت أنها تشير إلى صفة الندم إشارة قوية تقرب من الإفصاح. ومن روائع الكناية عن هذا المعنى: قوله تعالى عن قوم موسى بعد أن عبدوا العجل: {وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (الأعراف: 149) وتطالعنا الكناية في

قوله: {سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ} فقد أُطلق السقوط في اليد وأريد منه الندم، وهذا النسق التعبيري الذي حمل تلك الكناية، لم تجرِ به ألسنة العرب قبل أن يلج القرآن مسامعهم. قال الزجاج: {سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ} أي: ندموا، وهذه اللفظة لم تسمع قبل القرآن ولم تعرفها العرب. وكأنما لمح الزمخشري من عدم ورودها على ألسنة العرب شيئًا، فلم يرها كناية عن مجرد الندم، وإنما رآها كناية عن شدته. وقد أبان عن ذلك بقوله: {وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ} أي: ولما اشتد ندمهم؛ لأن من شأن مَن اشتد ندمه وحزنه أن يعض يده غمًّا فتصير يده مسقوطًا فيها؛ لأن فاه قد وقع فيها. وقيل: من عادة النادم أن يطأطئ رأسه ويضع ذقنه على يده معتمدًا عليها، ويصير على هيئة لو نزعت يده لسقط على وجهه فكأن اليد مسقوط فيها، وهو قول ينم عن ذوق بصير باللغة وإيماءاتها، خبير بما تجري به عاداتهم في مواقفهم المختلفة، فهو يلحظ مواءمة الألفاظ للأحداث كما يربط بين الأحداث وسلوكيات الناس في مواجهتها. ومما جرى من الكناية عن صفة على ألسنة الشعراء وهي كثيرة في أشعارهم: قول ابن خفاجة في قصيدة يصف فيها الجبل: وأرعن طماح الذؤابة باذخ ... يطاول عَنان السماء بغارب يسد مهب الريح من كل وِجهة ... ويزحم ليلًا شهبه بالمناكب في هذين البيتين يصف الجبل بالارتفاع والضخامة ويفهم ارتفاعه من قوله: "يطاول أعنان السماء"، وقوله: "يزحم شُهبه بالمناكب"، فمطاولة السحب ومزاحمة الشهب إنما هي آية الارتفاع الشاهق، أما الضخامة فيعبر عنها قوله: "يسد مهب الريح عن كل وِجهة"، وللسامع أن يتصور مدى ضخامة الجبل حين

يسمع عنه وهو يصد الرياح دون الوجهة التي تنطلق نحوها، ولكن الشاعر لم يسق هذه الصفات سوقًا مباشرًا، بل قدم ما يشير إليها، وترك لمتذوق فنه أن يستشف مراميه، وشبيه بما قاله ابن خفاجة قول البحتري يصف قصرًا: ملأت جوانبه الفضاء وعانقت ... شُرفاته قطع السحاب الممطر وحين ترى قصرًا ملأت جوانبه الفضاء ولامست شرفاته السحاب، فإنك ستدرك على الفور ضخامته وارتفاعه، غير أن مبالغة البحتري أبعد مدًى من مبالغة ابن خفاجة؛ إذ الأول يصف قصرًا والثاني يصف جبلًا، ولن تكون ضخامة قصر وارتفاعه مماثلة لما يكون من ذلك في الجبل، للوصفين مبالغة عند الشاعرين، ولكنها أقرب إلى النفوس عند ابن خفاجة. ومما نلفت إليه أن صفة الارتفاع المكنَّى عنها بالمطاولة والمزاحمة والمعانقة صُبت في إطار الاستعارة، فتآزرت الاستعارة والكناية عند الشاعرين في رسم صورة ضخمة لذلك العلو ترينا الخيال محلقًا في آفاق لا حدودَ لها. وتجري الكناية القريبة عن صفة على ألسنتنا كثيرًا ربما دون أن ندري، فتقول مثلًا: فلان طاهر الذيل ونقي الثوب، كناية عن العفاف والطهر، فطهارة الذيل ونقاء الثوب صفتان يلازمهما عادةً صفة العفاف وصفة الطهر، وقوله: فلان شب عن الطوق، كناية عن اجتيازه مرحلة الطفولة إلى مرحلة اليفاعة والشباب، فالشب عن الطوق صفة تلازمها عادةً صفة اجتياز مرحلة الطفولة وكذا قولهم: ضرب فلان كفًّا بكف، كناية عن الندم والتحسر. أصبح فلان يمشي على عكاز، كناية عن ضعفه وكِبر سنه، وفلان كثير الرماد وجبان الكلب ومهزول الفصيل، كناية عن الكرم والجود، وفلان طويل النجاد، كناية عن طول القامة، وقضَّب وجهه وانتفخت أوداجُه، كناية عن الغضب، واحمر وجهه، كناية عن الخجل،

حدثني بلغة المدفع، كناية عن القوة، ونظر إلى الدنيا بمنظار أسود، كناية عن التشاؤم، وفلان ناعم الأظفار، كناية عن قلة الخبرة والتجربة إلى غير ذلك. ومن شواهد الكناية عن صفة في النظم الكريم: قول الله تعالى: {وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا} (لقمان: 18) فكنَّى عن صفتي التكبر والفخر بتصعير الخد والمرح في الأرض؛ لما بين الصفتين المذكورتين والمكنى عنهما من تلازم. وأنت عندما تقرأ قول الله تعالى: {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ} (الأنفال: 7) تجد في الآية كنايتين؛ الأولى: كناية عن موصوف في قوله: {ذَاتِ الشَّوْكَةِ} فقد كنَّى به عن الحرب والنفير، والثانية: كناية عن صفة وذلك في قوله: {وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ} فقد كنى به عن صفة الاستئصال والإبادة. ومن شواهد الكناية عن صفة أيضًا في أشعارهم: قول الحماسي في الكناية عن ضخامة الأرداف وعظم الثدي وضمور الخصر والبطن: أبت الروادف والثدي لقنصها ... مس الظهور وأن تمس بطونًا وقول المتنبي في الكناية عن صفتي العِز والسيادة، والفقر والحاجة: فمساهم وبسطهم حرير ... وصبحهم وبسطهم تراب وقد مرت بنا هذه الأمثلة. من ذلك أيضًا قول عمرو بن أبي ربيعة في الكناية عن طول الجِيد: بعيد مهوى القرط إما لنوفل ... أبوها وإما عبد شمس وهاشم وقول النابغة الذبياني في مدح الغساسنة:

رِقاق النعال طيب حجزاتهم ... يحيون بالريحان يوم السباسب والحجزات هي مواضع شد إزارهم من الوسط، ويوم السباسب هو يوم عيد عند النصارى يسمى بيوم الشعانين، ففي البيت هنا ثلاث كنايات؛ الأولى: هي الكناية عن الترف والسيادة بِرِقة النعال، فهم لا يمشون حتى يخصفوا نعالهم ويجعلوها سميكة، وإنما يركبون الخيل، ويلزم من ذلك الترف والسيادة، والثانية: الكناية بطيب حُجزاتهم عن صفة العفة والطهارة، والثالثة: الكناية عن رقة أمزجتهم وحسن أذواقهم ومحافظتهم على التقاليد المرعية بقوله: "يحيون بالريحان يوم السباسب". ومن ذلك قول طرفة بن العبد في الكناية بصغر الرأس عن الذكاء: أنا الرجل الضرب الذي تعرفونه ... خشاش كرأس الحية المتوقد الضرب أي: الخفيف اللحم، والخشاش: الصغير الرأس، والمتوقد: الذي هو سريع الحركة، فَهُم يكنون بصغر الرأس عن الذكاء كما يكنون بعظمها وضخامتها عن الغباء والبلادة وبعرض القفا عن صفة البلة. القسم الثالث من أقسام الكناية: الكناية عن نسبة، وهي ما صرح فيها بالموصوف وبالصفة ولم يصرح بنسبة الصفة إلى الموصوف، بل يذكر مكانها نسبة أخرى تستلزم نسبتها إليه، ومن روائع هذه الكناية قول أبي نواس يمدح الخصيب أمير مصر وكان قد رحل إليها في عهده: إذا لم تزر أرض الخصيب ركابنا ... فأي فتًى بعد الخصيب تزور فتى يشتري حسن الثناء بماله ... ويعلم أن الدائرات تدور فما جازه جود ولا حل دونه ... ولكن يصير الجود حيث يصير

ونتوقف من هذه الأبيات عند الثالث منها ففيه بغيتنا وهي الكناية عن نسبة، حيث صرح بالموصوف وهو الخصيب وصرح بالصفة وهي المجد، ولكنه لم يصرح بنسبة المجد إليه وإنما ذكر نسبة أخرى تتطلبها، وهي صيرورة المجد في المكان الذي يصير فيه الممدوح، وهذا يعني أنه غاية في الكرم، ولا يخفَى عليك ما في البيت من خيال بديع، حيث صور لك الجود في صورة حي متحرك وأنه يلازِم الممدوح أينما حل وكيفما صار. ومن روائع هذه الكناية أيضًا قول الشنفرى الأسدي يصف امرأة بالعفة: يبيت بمنجاة من اللوم بيتها ... إذا ما بيوت بالملامة حلت فالصفة هي العفة وهي البراءة من اللوم عند ملابسة الفجور، والموصوف هي المرأة المعبر عنها بضمير الغائبة المضاف إلى البيت، ولم يصرح الشاعر بنسبة البراءة من اللوم إلى صاحبته كأن يقول: تبيت ناجية من اللوم، أو بما شابه ذلك، ولكنه نسب تلك البراءة إلى بيتها والمراد نسبتها إليها؛ لأن نسبة البراءة إلى بيتها تقتضي نسبتها إليها، ونود أن نشير إلى أن النجاة من اللوم كناية عن العفة، ففي الشطر الأول كنايتان: كناية عن صفة وهي النجاة من اللوم، وكناية عن نسبة وهي نسبة النجاة من اللوم إلى البيت، والمقصود نسبتها إلى صاحبته، وفي الشطر الثاني أيضًا كنايتان على تلك الصورة، غير أن الموصوف جمع وهم أصحاب البيوت. ونظير ذلك وهو اجتماع كنايتين في جملة واحدة قولنا: كثر الرماد في ساحة عمرو، فكثرة الرماد كناية عن صفة الكرم، وإثبات الكرم في ساحة عمرو المعبر عنه بكثرة الرماد، كناية عن نسبة الكرم إليه، فقد اجتمعت كنايتان في جملة واحدة وجعلت إحداهما وهي كثرة الرماد طرفًا للثانية وهي إثبات كثرة الرماد في

ساحة عمرو، وما من شك في أن وجود نوعين من الكناية في جملة واحدة مما يزيد الكلام حسنًا ويضفي عليه جمالًا. ومن الكنايات عن النسبة: قول بعض الشعراء المعاصرين: بين برديك يا صبية كنز ... من نقاء معطر معشوق وبعينيك يا صبية شجو ... ساهم اللمح مستطار البريق فالموصوف كما لا يخفى هو الصبية، والصفة هي النقاء المعطر المعشوق، ولكن الشاعر لم ينسب ذلك النقاء إليها، وإنما نسبه إلى المكان الواقع بين برديها، هذه النسبة تقتضي نسبة النقاء إليها. وفي البيت الثاني كناية أيضًا نسب فيها الشجو إلى عيني تلك الصبية، والمقصود نسبته إليها. ومن رائع الكناية عن النسبة قول المتنبي يعزي سيف الدولة في فقد عمته في قصيدته البائية المشهورة: مثلك يثني الحزن عن صوبه ... ويسترد الدمع عن وربه إيما لإبقاء على فضله ... ................................ "إيما" لغة في أما. ................................... ... إيما لتسليم إلى ربه فهو يقول: مثلك يقدر على صرف الحزن عن نفسه ويسترد الدمع إلى مستقره؛ إبقاءً على فضله، حتى لا يضيعه الجزع، أو تسليمًا لأمر الله فيما قضى به. وفي قوله: "مثلك"، كناية عن نسبة، فقد صرح بالموصوف وهو الضمير المخاطب، وبالصفة وهي صفة الحزن واسترداد الدمع، ولم يصرح بنسبة صرف الحزن واسترداد الدمع إليه، ولكن نسبها إلى مثله، والمراد نسبتها إليه. وقد كشف الزمخشري عن هذه الكناية وهو بصدد الحديث عن قول الله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} (الشورى: 11) حيث قال: قالوا: مثلك لا يبخل، فنفوا البخل عن مثله وهم يريدون نفيه عن ذاته، قصدوا المبالغة في ذلك، فسلكوا به

طريق الكناية؛ لأنهم إذا نفوه عمن يسد مسده وعمن هو على أخص أوصافه فقد نفوه عنه. ومن الكناية عن نسبة قولهم في مقام المدح: المجد بين ثوبيه والكرم بين بُرديه، أرادوا نسبة المجد والكرم إليه، فعدلوا عن التصريح بذلك إلى جعل المجد بين ثوبيه والكرم بين يديه؛ ليفهم المخاطب إثباتهما للممدوح؛ إذ ليس بين البردين أو الثوبين سواه، فالتعبير إذن كناية عن نسبة المجد والكرم إلى الممدوح، وهذا قريب بما سبق ذكره. ومن ذلك قول زياد: إن السماحة والمروءة والنَّدَى ... في قبة ضربت على ابن الحشرج القبة: هي ما كانت فوق الخيمة من العظم والاتساع، وهي خاصة بالرؤساء والسادة، وابن الحشرج: هذا هو عبد الله بن الحشرج أمير نيسابور، فهنا كنى عن نسبة هذه الصفات إلى ابن الحشرج بجعلها في قبة مضروبة عليه؛ لأن الشيء إذا أثبت في مكان الرجل وحيزه، فقد أثبت له؛ وذلك لاستحالة قيام الوصف بنفسه ووجوب قيامه بموصوف صالح للاتصاف به. ومنه قول الآخر يمدح ابن العميد: والمجد يدعو أن يدوم لجيده ... عقد مساع ابن العميد نظامه المساعي: هي المكارم، ونظام العقد: ما به يكون منتظمًا، فهنا صور المجد غادة حسناء قد تحلى جيدها بعقد حباته مساع ابن العميد، وهو يدعو الله أن يدوم هذا العقد ويبقى في جيده، فكنى عن نسبة المجد وثبوته لابن العميد بكون مساعيه حبات قد انتظم بها عقد المجد، وكنى عن الدعاء بدوام بقاء ابن العميد بدعاء المجد أن يدوم العقد ويبقى في جِيده، ومنها قولهم: العرب لا تخفر الذمم، يريدون نفي ذلك عن العربي؛ لأنه إذا نفي عن العربي نقض العهد فقد نفي عنهم؛ إذ هو واحد منهم. وقولهم: أيفعت لداته وبلغ أترابه، كنوا عن نسبة اليفاعة والبلوغ إليه بنسبتهما إلى أقرانه ونظرائه.

تقسيم الكناية باعتبار القرب والبعد بين المعنيين.

تقسيم الكناية باعتبار القرب والبعد بين المعنيين هذا، وتنقسم الكناية باعتبار القرب والبعد بين المعنيين -المكنى عنه والمكنى به- إلى قسمين: كناية قريبة وكناية بعيدة. فالكناية القريبة: هي ما تقارب فيها المعنيان، بحيث يكون الانتقال من المعنى المكني به إلى المعنى المكني عنه بلا واسطة، كالانتقال من عض الإصبع -أو تقليب الكفين- إلى الندم، ومن طول النجاد إلى طول القامة، ومن بعد مهوى القرط إلى طول الجيد، ومن التنشئة في الحلية إلى المرأة في قوله -عز وجل-: {أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ} وكالانتقال من كون السماحة والمروءة والندى في قبة مضروبة على ابن الحشرج إلى نسبة هذه الصفات إليه في قول زياد -الذي سبق ذكره-: إن السماحة والمروءة والندى ... في قبة ضربت على ابن الحشرج فهذه الكنايات كما هو ملاحظ قريبة، وهي قد تكون واضحة لا تحتاج في إدراكها إلى نظر وتفكر كما في الشواهد المذكورة، وقد تكون خفية حيث تحتاج في إدراكها إلى شيء من التأمل والنظر؛ لكون التلازم بين المعنيين المكنى به والمكنى عنه مبنيًّا على عرف لم يبلغ حد الشهرة العامة؛ وذلك كالانتقال من عرض القفا إلى صفة البَلَه، فإن تجاوز الحد في عرض القفا من لوازم البله، وكالانتقال من ضخامة الرأس إلى الغباء، ومن صغرها إلى الذكاء، وكالانتقال من أداء التحية بالريحان يوم السباسب إلى رِقة الأمزجة وحسن الذوق والمحافظة على التقاليد. أما الكناية البعيدة: فهي ما تباعد فيها المعنيان، بحيث يصير الانتقال من المعنى المكني به إلى المعنى المكني عنه لا يتم إلا بواسطة أو بِعِدة وسائط، كالكنايتين المذكورتين في الشطر الأول من بيت النابغة الذي يقول فيه:

رقاق النعال طيب حُجزاتهم ... يحيون بالريحان يوم السباسب فالانتقال هنا من رقة النعال إلى الترف والسيادة، ومن طيب الحجزات إلى العفة، من الكنايات البعيدة؛ لاحتياج هذا الانتقال إلى وسائط، فرقة النعال تستلزم عدم المشي بها، وعدمُ مشيهم بها يستلزم ركوب الخيل، وركوبهم الخيل يستلزم الشرف والسيادة، وكذا طيب الحجزات يستلزم ابتعادهم عن الفواحش والموبقات، وابتعادهم عنها يستلزم العفة، فهما إذن كنايتان بعيدتان. وكذا الانتقال من النجاة من اللوم إلى العفة بواسطة النجاة من موجبات اللوم، أي: الابتعاد عن الفواحش والموبقات في قول الشاعر -الذي سبق ذكره-: يبيت بمنجاة من اللوم بيتها ... إذا ما بيوت بالملامة حلت فالنجاة من اللوم تستلزم النجاة من موجباته، والنجاة من موجباته تستلزم العفة، وكذا الانتقال من كثرة الرماد إلى صفة الكرم في قولنا: فلان كثير الرماد، إذ ينتقل الذهن والفكر من كثرة الرماد إلى صفة الكرم بعدة وسائط، فكثرة الرماد تستلزم كثرة إيقاد النار تحت القدور، وتلك تستلزم كثرة الطبخ، وهذه تستلزم كثرة الأَكَلة، وكثرتهم تستلزم كثرة الضيوف، وهذا دليل الكرم. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الدرس: 12 تابع الكناية - التعريض.

الدرس: 12 تابع الكناية - التعريض.

أمثلة على الكناية البعيدة.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس الثاني عشر (تابع الكناية - التعريض) أمثلة على الكناية البعيدة الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، ومَن والاه، وبعد: الكناية البعيدة: ونذكر من أمثلة ذلك ما جاء في قول الشاعر وهو مشهور: وما يك في من عيب فإني ... جبان الكلب مهزول الفصيل فهنا انتقل الشاعر من جبن الكلب إلى الكرم بوسائط عدة؛ إذ جُبن الكلب عن النباح يستلزم استمرار تأدبه، وهذا يستلزم دوام مشاهدته وجوهًا غريبة في بيت صاحبه، وذلك يدل على أن صاحبه مقصد الداني والقاصي، وهذا أيضًا بدوره يدل على اتصافه بالجود والكرم، وكذلك ينتقل من هزال الفصيل إلى الكرم بعدة وسائط، وكما قلنا: فإن الكناية البعيدة هي التي تباعد فيها المعنيان بحيث يصير الانتقال من المعنى المكني به إلى المعنى المكني عنه بوسائط أو بِعِدة وسائط، فهنا انتقل من هزال الفصيل إلى الكرم بعدة وسائط، فهزاله دليل على فقد أمه أو فقد لبنها، وهذا دليل على نحرها للضيوف أو إيثارهم بلبنها، وذلك دليل الكرم والجود. ومن ذلك قول نصيب في مدح عبد العزيز بن مروان: لعبد العزيز على قومه ... وغيرهم مِنن ظاهرة فبابك أسهل أبوابهم ... ودارك مأهولة عامرة وكلبك آنس بالزائرين ... من الأم بالابنة الزائرة مأهولة: يعني فيها أهلها، فَأُنس الكلب بالزائرين دليل على أنه يعرفهم؛ لكثرة ترددهم على الدار وإقامتهم فيها لقضاء حوائجهم، وهذا يدل على كرم صاحبه وكثرة إحسانه، وفي جعل أبوابه أسهل أبواب القوم وداره مأهولة عامرة كنايتان أيضًا عن الكرم؛ فسهولة الأبواب تستلزم أنها مقصد الكثيرين، وعمارة الدار

تستلزم كثرة المترددين، فالبعض يذهب والبعض يأتي والدار تظل عامرة بهم، وهذا دليل الكرم وكثرة الجود، وفي قوله: "مأهولة"، إيحاء بكثرة الكرم وحسن الضيافة؛ لدلالتها على أن من يحل بالدار يصير أهلًا لها، فلا يشعر بغربة ولا جفوة. ونظير هذا قول آخر في أنس الكلب بالضيوف: يكاد إذا ما أبصر الضيف مقبلًا ... تكلمه من حبه وهو أعجم فقد بالغ في أنسه بالضيوف وجعله يكاد ينطق، فيرحب بهم، وذلك من فرط حبه الناجم عن كثرة مشاهدته للضيوف حتى أَلِفهم. ونلاحظ هنا مدى التفاوت في الدلالة على الكرم باستخدام الكلب واستغلال ما عرف عن طباعه وخصوصياته، فقد عرف عنه أنه ينبح عند مشاهدة الغريب ويطارده بنباحه، فإذا ما كف عن النباح وجبن أمام الغرباء دل هذا على كرم صاحبه، وهذا ما نراه في البيت الأول، أما إذا ما تحول جبنه إلى إلفه الزائر وأنسه به، فهذا يدل على المبالغة في كرم صاحبه، وهذا ما نراه في أبيات نصيب، أما كلب نظيره فقد تحول أنسه إلى حب مفرط يكاد معه أن ينطق مرحبًا بالضيف، وهذا من دون شك أدعَى إلى الاتصاف بالكرم من كل ما سبق. ومن الكناية البعيدة قول شاعر في الكناية عن الكرم أيضًا: لا أمتع العوذ بالفصال ولا ... أبتاع إلا قريبة الأجل يريد أن يقول: إنه يذبح العوذ ولا يتركها تتمتع بفصالها، أو أنه يذبح الفصال فيحرم العوذ من التمتع بها، أو أنه يذبحهما معًا قبل أن تتمتع العوذ بفصالها، وذلك كي يقدم لحومها للضيوف، كما أنه إذا ابتاع نوقًا لا تبقى عنده طويلًا؛ لسرعان ما يذبحها ويقدمها طعامًا لضيوفه، ففي كل شطر من شطري البيت كناية

عن كرمه وجوده، انتقل في الشطر الأول من عدم إمتاع العوذ بالفصال إلى ذبحها أو ذبح فصالها أو ذبحهما معًا، ومن الذبح إلى تقديم لحمها للضيوف، وهذا يستلزم كثرة الضيوف، وكثرتهم تدل على الكرم، ومما يوحي بكثرة هؤلاء الضيوف إيثاره التعبير بلفظ الجمع: عوذ وفصال، فهو لا يذبح فصيلًا واحدًا أو عائذًا واحدًا، بل عوذًا وفصالًا عديدة، وفي الشطر الثاني انتقل من ابتياعه قريبة الأجل إلى أنه لا يبقيها حية؛ بل يذبحها لضيوفه، وهذا يستلزم بالطبع كثرة ترددهم عليه الدالة على كرمه وسخائه. ومن ذلك قول المتنبي في مدح سيف الدولة مكنيًا عن شجاعته وكرمه: إلى كم ترد الرسل عما أتوا له ... كأنهم فيما وهبت ملام كنَّى عن شجاعته برده رسل العدو؛ لأنه يستلزم عدم اهتمامه بقوته، وهذا دليل الشجاعة، وكنى عن كرمه برده ملام اللائمين له في كثرة هباته وعطاياه، وهذا يستلزم حرصه على العطاء، وهو دليل الجود والكرم. من ذلك أيضًا -وقد سبق ذكره- قول الخنساء في صخر: طويل النجاد رفيع العماد ... كثير الرماد إذا ما شتى كنت بطول النجاد عن شجاعته؛ لأن طول النجاد يستلزم طول القامة، وطول القامة يستلزم الشجاعة عادة، وكنت برفع العماد عن كونه سيدًا عظيم القدر رفيع المكانة في قومه، وبكثرة الرماد عن الكرم والجود، وفي إيثارها وقت الشتاء دَلالة على المبالغة في الكرم؛ لأنه وقت تشتد فيه حاجة المحتاجين. ومن ذلك أيضًا -الكنايات البعيدة- قول الآخر في الفخر بقومه: فلسنا على الأعقاب تدمى كلومنا ... ولكن على أقدامنا تقطر الدِّما

فهنا كنى عن شجاعتهم وإقدامهم بنفي الدماء عن الأعقاب وإثباتها للأقدام؛ لأن ذلك يستلزم التقدم لملاقاة العدو ومواجهته، والثبوت في المعركة وعدم الفرار؛ إذ الفار يتلقى ضربات العدو من الخلف فتدمى أعقابه، والثابت المتقدم يتلقاها من الأمام، فتدمى قدمه، وهذا دليل الشجاعة والجرأة، وفي إيثار التعبير بكلمة تقطر في الشطر الثاني دون تدمى دلالة على قوتهم وتغلبهم على الأعداء، فما يصيبهم ليس سوى جروح طفيفة تقطر قطرات يسيرة. ومن الكناية البعيدة قول أبي تمام: فإن أنا لم يحمدك عني صاغرًا ... عدوك فاعلم أنني غير حامد فهنا كنى عن جودة شعره وبلوغه الغاية في المدح بحفظ الأعداء له، مكرهين حيث بهرتهم بلاغته وسحرهم جماله، فحفظهم له وهم لا يحبون الثناء به على الممدوح يستلزم بلوغه في البلاغة والحسن أبعد الغايات. ومن لطيف الكنايات البعيدة قول الشاعر في وصف الراعي: ضعيف العصا بادي العروق ترى له ... عليها إذا ما أجدب الناس إصبعًا فقد كنى عن رقة الراعي ولينه المثمر في إصلاح شأن ما يرعاه من إبل أو غنم بضعف العصا؛ لأن ضعف العصا يستلزم عدم إرادة الإيذاء، وهذا يستلزم الرفق واللين. ومنه قول الآخر في وصف الراعي أيضًا: صلب العصا بالضرب قد دماها ... تود أن الله قد أفناها فقد كنى عن شدته المثمرة في إصلاح شأن ما يرعاه بصلابة العصا؛ لأن صلابة عصا الراعي تستلزم الشدة في زجر ما يرعاه عما يضره ويؤذيه، وهذا يستلزم

حسن الرعاية، فالغاية في البيتين واحدة وإن اختلفت الوسيلة؛ إذ الوسيلة في البيت الأول الرفق واللين، وفي الثاني الشدة وقوة الزجر عن ارتياد المراعي الرديئة التي تؤذي، والغاية في الاثنين الدلالة على حسن الرعاية. وبما لطف الكناية وحسنها في البيتين أنه قد ضم إلى كل منهما ضربًا من ضروب الجمال في التعبير؛ فضم إلى الأولى المجاز المرسل في قوله: "ترى له عليها إصبعًا"، وقد أفاد هذا المجاز الأثر الحسن الذي يبدو على أجسام النوق أو الغنم، وفي هذا دلالة على المبالغة في حسن رعاية الراعي، وضم إلى الثانية التورية الحسنة في قوله: "بالضرب قد دماها"، أي: صيرها كالدمى حسنًا بسيره بها في ضروب الأرض. فالضرب له معنيان قريب وهو الضرب بالعصا وبعيد وهو السير في الأرض، وكذلك دماها لها معنيان؛ قريب وهو إسالة دمها، وبعيد وهو أن صيرها كالدمى في الحسن والجمال، والمراد المعنيان البعيدان. هذا وقد ترددت في كتب البلاغيين أسماء عدة تطلق على مفهوم الكناية أو التعريض؛ منها الإرداف والتمثيل والتلويح والرمز والإيماء والإشارة واللحن، وقد أخذ الأخير من قوله -عز وجل-: {وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ} (محمد: 30) فاللحن في الآية مراد به التعريض بالشيء من غير تصريح به أو الكناية عنه بغيره. وهنا نقتصر على بعض هذه الأشياء المهمة منها على سبيل المثال التلويح، وإنما يعني به البلاغيون الإشارة إلى الغير من بعيد، ولذا أطلقوه على الكناية التي تتعدد وسائطها نحو: كثير الرماد وجبان الكلب. والرمز في اللغة: أن تشير إلى قريب منك على سبيل الخفية، ولذا أطلقوه على الكناية التي قلت وسائطها أو انعدمت، وكان بها نوع من خفاء التلازم بين المعنيين المكنى به والمكنى عنه نحو: عريض القفا، وعريض المنكبين، وصغير الرأس،

التعريض.

وطيب الحجزات، والإشارة أو الإيماء يكون لمن قرب جدًّا ووضح، ولذا أطلقوه على الكناية التي انعدمت وسائطها أو قلت، ووضح فيها التلازم بين المعنيين؛ نحو الكناية عن المرأة بالنعجة أو خضاب البنان، أو التنشئة في الحلية، وعن الرجل بحمل السلاح، وعن الصدر بموطن الحلم، وعن الفقر بقلة الفأر في البيت، إلى غير ذلك من هذه الأقسام التي ذكرها البلاغيون. من روائع هذه الكنايات التي خلع عليها العصر طابعه في الرمز قول أبي القاسم الشابي: إذا ما طمحت إلى غاية ... ركبت المنى وخلعت الحذر ولم أتجنب وعور الشعاب ... ولا كبة اللهب المستعر ومن لا يحب صعود الجبال ... يعش أبد الدهر بين الحفر فقد كنى عن الاجتهاد في المسعى بركوب المنى وأتبع تلك الكناية بأخرى تشد أزرها؛ وهي الاستهانة بالمخاطر ماثلة في نسيان الحذر، واجتياز الشعاب الوعرة، والسقوط في النيران المشتعلة، ثم ألهب شعور المتلقي إلى الاجتهاد في تحقيق الأماني والاستهانة بالمخاطر؛ فكنى عن نباهة الشأن بصمود الجبال، وعن الخمول بالعيش بين الحفر، وجعل عدم محبة النباهة سبيلًا إلى الضعة والخمول. وهذا والحديث عن أثر العصر في صور البيان لا ينتهي إلى غاية، لكن نكتفي بهذا القدر. التعريض والكلام عن الكناية في الحقيقة يأخذنا إلى الحديث عن التعريض؛ لما بينهما من الروابط القوية، ولتكن بدايتنا في الحديث عن التعريض بتعريف التعريض. تدور بعض استعمالات هذه المادة عرض حول التخفي والتحيل للأمر المراد، ففي (الصحاح) ذكر الجوهري أن التعريض خلاف التصريح قالوا: عرضت لفلان وبفلان إذا قلت قولًا وأنت تعنيه، ومنه المعاريض في الكلام، والعروض

الناحية، يقال: تعرض الجمل في الجبل، يعني أخذ في مسيره يمينًا وشمالًا لصعوبة الطريق، ولفلان عُرضة أي: ضرب من الحيلة، ونظرت إليه عن عرض أي: من جانب وناحية. وهو عند البيانيين: المعنى الحاصل عند اللفظ لا به، فهو معنى يفهم من عرض الكلام وجوانبه، ومؤدى هذا التعريف أن المتلقي يدرك المعنى الذي يهدف إليه الأديب من سياق الكلام وقرائن الأحوال، لا من صريح اللفظ بوضعه اللغوي، ولا من استعماله في غير ما وضع له؛ استنادًا إلى قرينة، سواء أكانت هذه القرينة مانعة من إرادة المعنى الحقيقي أو غير مانعة. ولما كان هذا هو مراد البيانيين من المفهوم المذكور فقد ضمنوه قيدين؛ الأول: هو قولهم: المعنى الحاصل عند اللفظ، وهو قيد قد يفيد العموم بحيث يشمل الحقيقة والمجاز والكناية، وإنما قلنا: "قد" بلفظ التقليل؛ لأن مَن يتأمل لفظ "عند" يدرك أنه يخرج هذه الثلاثة من مضمونه؛ لأن كلًّا منها يؤدي المعنى بلفظه لا عنده. الأمر الثاني أو القيد الثاني هو قولهم: لا به إذ يخرج هذا القيد هذه الثلاثة -الحقيقة والمجاز والكناية- إخراجًا مؤكدًا؛ لأن المعنى يؤدى به صريحًا لا ضمنًا، وإذا خُرجت هذه الثلاثة من كنف التعريف بقي خاصًّا بالتعريض وحده، فإنه حاصل بغير اللفظ من طريق السياق وقرائن الأحوال، وهذا هو السر في تسميته تعريضًا؛ لأن المعنى يفهم من عرض الكلام أو جانبه. والتعريض بما سبق يتفق مع الكناية في أن كلًّا منهما معنًى يفهم من الكلام ولا تدل عليه الألفاظ دلالة حقيقية. فقولنا مثلًا: فلان كثير الرماد، دل على معنى الكرم بطريق الكناية والتلازم بين معنى الكرم وكثرة الرماد، وليست دلالة كثرة الرماد على الكرم دلالة حقيقية،

وكذا قول المحتاج في خطاب الغني: والله إني لمحتاج وليس في يدي شيء، وأنا عُريان والبرد قد آذاني، فقد دل كل هذا على الطلب بطريق التعريض، فقد فهم من كلامه التعريض بطلبه، وليست دلالة كلامه على الطلب دلالة حقيقية. ويفرق بينهما من ثلاثة وجوه: الأول: أن الكناية واقعة على المجاز ومعدودة منه على ما هو الأرجح، بخلاف التعريض فلا يعد منه؛ لأن التعريض مفهوم من جهة السياق، فلا تعلق له باللفظ لا من جهة حقيقته ولا من جهة مجازه. الثاني: أن الكناية تقع في اللفظ المفرد والألفاظ المركبة بخلاف التعريض؛ لأنه لا موقع له في اللفظ المفرد، السر في ذلك أن دلالة التعريض من جهة القرينة والإشارة والتلويح، وهذا لا يستقل به اللفظ المفرد، ولكنه إنما ينشأ من جهة التركيب، فلأجل هذا كان مختصًّا بالوقوع فيه، ولهذا لا يقال هذه الكلمة تعريض كما يقال هذه الكلمة حقيقة أو مجاز أو كناية. الأمر الثالث: أن التعريض أخفى من الكناية؛ لأن دلالة الكناية مدلولة عليها من جهة اللفظ، بخلاف التعريض، فإنما دلالته من جهة القرينة والإشارة، ولا شك أن كلما كان اللفظ يدل عليه فهو واضح، ومن أجل هذا فرَّق علماء الشريعة بين صريح القذف وكنايته وتعريضه، فأوجبوا في الصريح من القذف الحد مطلقًا في قول القاذف مثلًا: يا زاني، فأوجبوا في كنايته الحد إذا نوى في مثل قول القاذف مثلًا: يا فاعل الخطيئة، ولم يوجبوا في التعريض الحد في مثل قوله مثلًا: يا ولد الحلال؛ وما ذاك إلا لأجل أن الصريح والكناية يدلان على القذف من جهة اللفظ إما بالحقيقة أو المجاز خلافًا للتعريض. والتعريض بهذا أخص من الكناية، فكل تعريض كناية وليس كل كناية تعريضًا. فالكناية إذن أعم من التعريض.

كذلك نلحظ في الفرق بين الكناية والتعريض: أن التلازم بين المعنى التعريضي والمعنى الحقيقي للألفاظ يرجع إلى المواقف الخاصة التي يقال فيها الكلام، أما التلازم بين المعنى المكني به والمعنى المكني عنه، فمرجعه إلى العرف والعادات وطبائع الأشياء وخصوصيات الأفعال على نحو ما مر بنا. ولنضرب للتعريض بعضًا من النماذج؛ حتى تتضح صورته أكثرَ فأكثر: من روائع التعريض بأسلوب الحقيقة ما يورده القرآن في أعقاب ما يقدمه من الأدلة، التي تدل من استقامت فطرته على ما يقضي به النظر الدقيق في تلك الأدلة، من مثال قوله تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} (آل عمران: 190) فقوله: {لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} تعريض لافت بنفي العقل عمن لا يصل به التأمل في هذه الأدلة الكونية إلى وحدانية الله تعالى، وتفرده بالألوهية، والأسلوب كما لا يخفى جارٍ على منهج الحقيقة وليس من قبيل الكناية أو المجاز بصفة عامة. فالمعنى الصريح لهذا القول الكريم أن أصحاب العقول يجدون في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار أدلةً واضحةً على وجود الله ووحدانيته، وفيه إلى جانب ذلك إيماء إلى نفي العقول عمن لا تدله عليه، وربما كان هذا المعنى هو ما ترمي إليه الآية الشريفة فهو المعنى يتراءى لنا من خلال السياق. ومن التعريض بأسلوب المجاز أن يقول امرؤ لمخاطبه: إنك لا تجني من الشوك العنب، والمعنى الذي يحمله هذا القول الجاري على نسق الاستعارة التمثيلية، أن ذلك المخاطب لا يحصل من عمل سيئ على نتائج مرغوبة، ولكن هذا المعنى مطروح غير منظور إليه، وإنما الغرض المستهدف منه هو رمي إنسان معين بأنه يسيء العمل، ومن المستحيل أن يحصل الخير على يديه.

ومن التعريض بأسلوب الكناية قوله تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} (فاطر: 28) فالمعنى الصريح لهذا النص القرآني قَصْر خشية الله على العلماء، ومن لوازم هذا المعنى نفي الخشية عن كل جاهلٍ مبالغةً، وسوق هذا النص في مواجهة من يقدموا على معصية الله تعريض بجهله وعدم معرفته بجلال الله وعظمة سلطانه؛ إذ إن مدار الخشية معرفة المخشي والعلم بشئونه. ومن روائع التعريض بالمعنى الكنائي أن يسوق المتكلم قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم: ((المسلم مَن سَلِمَ المسلمون من لسانه ويده)) في مواجهة من لا يتورع عن إيذاء المسلمين بأنواع الأذى على اختلافها، والمعنى الصريح لهذا الحديث الشريف حَصْر الإسلام في غير المؤذي، وهذا يستلزم نفي الإسلام مبالغةً عن كل مؤذ وهو المعنى الكنائي، ولكن المعنى الصريح وما هو لازم له ليس في مرمى المتكلم، وإنما المرمى الذي يوجه نظره هو وصم هذا المؤذي بنقيصة نفي الإسلام عنه. ومن الأمثلة التي يتراءى التعريض من خلالها، نرى أنه يجري في أنواع الأساليب المختلفة ما كان منها حقيقة وما كان منها مجازًا أو كنايةً، وإنما يتم ذلك بتوجيهها الوجهة التي يتوخاها الأديب، وإلا فإنها تقف عند دلالتها التي هي الأصل في استعمالها، وهذا ينتهي بنا إلى القول: بأن الكناية تكون، ولا تعريض والتعريض يكون ولا كناية. من روائع التعريض قول الله تعالى يحكي عن قوم نوح: {فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ} (هود: 27) فظاهر العبارة يحكي أنهم لم يروا إلى جانبه شيئًا من أمارات النبوة فهو بشر مثلهم،

وأتباعه من سفلة القوم في زعمهم، أما باطن العبارة فهو يعني شيئًا آخر، ربما كان -والله أعلم- متمثلًا في رمي أتباع نوح بالغباء والغفلة والسخرية منهم؛ لقصورهم في التفكير حيث ذهبوا إلى منافاة النبوة للبشرية، وإلى الربط بين الفقر والإيمان بدعوة نوح -عليه السلام- أو اصطفائه من بينهم ليكون أحدَ أولي العزم من الرسل، ولم يدركوا أن النبوة اختيار من الله لمن يهيئه للنهوض بأعباء الدعوة ومواجهة الصعاب، وأن الفقر لا يمنع أن يكون الإنسان ذا نفس طاهرة ترتفع بصاحبها إلى أعلى درجات الأبرار، وترقَى به إلى أشرف مراتب القرب من بارئ السموات والأرض. ومن روائع التعريض قوله تعالى: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} (الزمر: 65) وقد يخيل لمن تقع على مسامعه هذه الجملة أن الله يحذِّر نبيه من الشرك إنذارًا يبلغ منتهاه في الشدة بإيقاعه في سياق القسم، لكن مَن ينعم النظر يدرك أن وراء هذا الظاهر أمرًا آخر ربما كان -وهو أعلم بمراده- تحذير مَن تحدثه نفسه بالشرك من قومه، إذ كيف يتصور عاقل أن يحدث الشرك ممن كلف بدعوة الناس إلى توحيد المعبود، واختصاصه بإخلاص القلب والنهوض بتكاليفه التي جعلها مظهر العبودية والتفرد بالتقديس. وقد يهجس بالقلب خاطر مؤداه: وإذا لم يكن يتصور حدوث الشرك من النبي المرسل فَلِمَ كان التحذير موجهًا إليه في خاصة نفسه؟ أو بعبارة أخرى: فلم لم يكن التحذير من الشرك موجهًا إلى مَن قُصدوا به مباشرة؟ الذي يبدو لنا في هذا الصدد أن ذلك ضرب من اللطف في إذكاء النفوس، وحفز للفكر والتعمق، وذلك بأن يراجع الإنسان نفسه إذا كان النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو القائم بأمر الدعوة يتعرض لإحباط عمله وبطلانه، ويقع تحت طائلة الخسران لذلك، فما يكون أمر غيره

ممن ليس في رتبته؟!! وهنا تميل نفسه إلى السلوك القويم، وتوجيه الطاعة إلى الله، وإفراده بالألوهية. ومن لطيف ما ورد في السنة من هذا النسق قوله -صلى الله عليه وسلم- وقد خرج محتضنًا أحد ابني فاطمة الزهراء -رضي الله عنها-: ((والله إنكم لتجبنون وتبخلون وتجهلون، وإنكما لمن ريحان الله، وإن آخر وطأة وطأها الله بوَجِن)) وجن هذا موضع بالطائف، فظاهر قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((إنكما لمن ريحان الله)) بيان شدة حبه لسِبطيه، لكن وراء هذا المعنى القريب المباشر معنى آخر يتوارى وراءه، وهو -والله أعلم بمراده صلى الله عليه وسلم- حفز المؤمنين إلى البر بهما، والمودة لهما، وإخلاص الطوية في محبتهما، كما أن ظاهر قوله -عليه السلام-: ((وإن آخر وطأة وطأها الله بوجن)) أن آخر غزوة يواجه فيها المسلمون أعداء الله هي ما كان على مقربة من ذلك الموضع من الطائف، وهي غزوة حُنين، ولكن ثمة فيما يبدو معنى آخر يؤكده عدم خروجه -صلى الله عليه وسلم- مع الجيش الإسلامي في معركة أخرى بعدها، مما يعني أن قوله هذا كان إيماء إلى نعيه -صلوات الله وسلامه عليه-. ومن روائع التعريض ما رواه البخاري ومسلم عن ابن عمر: أن عمر بن الخطاب بينما هو قائم في الخطبة يوم الجمعة؛ إذ دخل رجل من المهاجرين الأولين من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- فناداه عمر: "أي ساعة هذه؟! قال: إني شُغلت فلم أنقلب إلى أهلي حتى سمعت التأذين، فلم أزد على أن توضأت، فقال: والوضوء؟! ". فهذا الاستفهام الإنكاري لتأخر هذا الصحابي الجليل يحمل في طياته تعريضًا بتركه ما يجمل به وهو من المهاجرين الأولين. فقد قال ابن حجر في شرحه لهذا الحديث: وهذا الاستفهام استفهام توبيخ وإنكار، ومن مثله قال النووي: ويبدو لنا من هذا أن التوبيخ على التأخر يحمل

في طيه تعريضًا بما هو من غير الوضوء، مما هو داخل في فضائل الأعمال كالتبكير إلى صلاة الجمعة، وعمل المسنونات من الغسل، والجلوس في الصف الأول بحيث لا يتخطى أحدًا. قال ابن حجر: ومراد عمر التلميح إلى ساعات التبكير التي وقع الترغيب فيها، وأنها إذا انقضت طوت الملائكة الصحف، وهذا من أحسن التعريضات. ومن أرق ما حملته عبارة الأدباء الذين تملكوا زمام اللغة ما رواه أبو هلال العسكري؛ من أن عمرو بن مسعدة الكاتب سطَرَ رسالة إلى المأمون قال فيها: أما بعد، فقد استشفع بي فلان إلى أمير المؤمنين ليتطول عليه في إلحاقه بنظرائه من الخاصة. يعني: أنه لم يصل بعد إلى هذه المرتبة من القرب والوجاهة التي تمكنه من الشفاعة. يقول: فأعلمته أن أمير المؤمنين لم يجعلني في مراتب المستشفع بهم، وفي ابتدائه بذلك -يعني بفعل هذا الاستشفاع والقيام به- تعدي طاعته والسلام. تلك كانت كلمات الرسالة، وفي ثناياها تلك العبارة الرائعة التي حملت تعريضًا بالتماس أن يكون له من القرب من سُدة الخلافة ما يجعله أهلًا للشفاعة، عندما يلجأ إليه مَن يتطلع إلى قضاء حاجته على يديه، وقد فطِن المأمون إلى ذلك التلويح، فَذَيَّل الرسالة بتلك التوقيعة التي تلبي ما حملته تصريحًا وما تضمنته تلويحًا وهي قوله: قد عرفنا تصريحك له وتعريضك بنفسك، وأجبناك إليهما ووافقناك عليهما. ومما جاء على صورة التعريض في أشعار العرب قول العباس بن الأحنف: كان لي قلب أعيش به ... فاكتوى بالنار فاحترقا أنا لم أرزق محبتها ... إنما للعبد ما رزقا فصريح الشطر الأول في البيت الأخير نفي رزق محبتها عن نفسه، وهو يومئ إلى أن غيره قد رزق تلك المحبة وكان ذلك مدرجة إلى تسلية نفسه، فقال: "إنما للعبد

ما رزقا"، وفيه تعريض بما ينبغي له من صرف نفسه عن التطلع إليها والتصبر عنها. قال عبد القاهر: الغرض أن يفهمك من طريق التعريض أنه قد صار ينصح نفسه ويعلم أنه ينبغي له أن يقطع الطمع من وصلها، وييأس من أن يكون منها إسعاف. ومما جاء على هذا النسق -نسق التعريض- ما قاله الشاعر علي بن الحسن: ما أنت بالسبب الضعيف ... وإنما نجح الأمور بقوة الأسباب فاليوم حاجتنا إليك وإنما ... يدعَى الطبيب لساعة الأوصاب ففي البيت الأول نفى الشاعر عن ممدوحه أن يكون سببًا ضعيفًا لتحقيق ما يؤمل، ثم أردف ذلك بقصر النجح في الأمور على القوي من الأسباب، وفي هذا تعريض بأنه خليق بأن يظفر بما أمَّله، ثم بين شدة حاجته إليه في اليوم الذي وقف فيه بين يديه، ومثل اللجوء إليه عند الحاجة باللجوء إلى الطبيب عند المرض، وتوسل إلى ترقيق قلبه عليه بإفراغ ذلك في إطار القصر، وفي ذلك تلويح بأنه خليق به أن يرق له ويحقق ما يؤمل فيه. وهذا ما أوجزه عبد القاهر بقوله في تحليل البيتين، يقول في البيت الأول: إنه ينبغي أن أنجح في أمري حين جعلتك السبب إليَّ. ويقول في الثاني: إنا قد وضعنا الشيء في موضعه وطلبنا الأمر من جهته حين استعنا بك فيما عرض لنا من الحاجة، وعولنا على فضلك كما أن مَن عول على الطبيب فيما يعرض له من السقم كان قد أصاب في التعويل موضعه، وطلب الشيء من معدنه. ومن روائع هذا الضرب من فنون القول ما جاء في قول الله تعالى: {قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ * قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ} (الأنبياء: 62، 63) فإنما أورد إبراهيم -صلوات الله عليه- هذا الكلام على جهة التهكم والاستهزاء والسخرية بعقولهم، وذلك إنما يكون من وجهين:

الأول: أنه لم يرِد نسبة الفعل إلى كبير الأصنام وإنما قصد تقريره لنفسه وإثباته لها على رمز خفي ومسلك تعريض، يبلغ به إلزام الحجة لهم والتسفيه لحلومهم كأنه قال: يا ضعفاء العقول، ويا جهال البرية، كيف تعبدون ما لا يجيب إن سئل، ولا ينطق إن كلم، وتجعلونه شريكًا لمن له الخلق والأمر، فوَضَعَ قوله: {اسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ} موضع هذا. الأمر الثاني: أن يقال: أن كبير الأصنام غضب لما عبد معه غيره من هذه الأصنام الصغار، فكسرها هذا الصنم الكبير، وغرض إبراهيم بذلك أن يعرض بهم في كونهم قد أشركوا في العبادة مَن هو دون الله، وأن من دونه مخلوق حقير من مخلوقاته، فوضع هذا الكلام لفاحش ما أتوا به وعظيم ما تلبسوا به من عبادة غير الله، وهذا التعريض لم يدل عليه اللفظ بل دل عليه السياق وقرائن الأحوال، وهذا ما قصد إليه الزمخشري حينما قال: هذا من معاريض الكلام، وقَصْدُ إبراهيم -عليه السلام- لم يكن أن ينسب الفعل الصادر عنه إلى الصنم، وإنما قصد تقريره لنفسه وإثباته لها على أسلوب تعريضي يبلغ فيه غرضه من إلزامهم الحجة ومن تبكيتهم. وفي هذا يقول الجمل صاحب التفسير المشهور: هذا على طريقة الكناية العرضية، فهذا يستلزم نفي فعل الصنم الكبير للتكسير وإثباته لنفسه، وهذا بناء على أن الفعل وهو الكسر دائر بين عاجز وهو ذلك الصنم وقادر وهو إبراهيم، إذ القاعدة أنه إذا دار فعل بين قادر عليه وعاجز عنه وأُثبت للعاجز بطريق التهكم به، لزم انحساره في الآخر، وحاصله أنه أشار إلى نفسه على الوجه الأبلغ مضمنًا فيه الاستهزاء. ومن التعريض البديع قول الله تعالى فيما حكاه على لسان الحواريين: {يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (المائدة: 112) فكان غرضهم طلب المعجزة، فعرضوا

بالاستفهام عن استطاعة الرب لإنزال المائدة، فلما قال لهم عيسى: {اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} قالوا: {نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ} (المائدة: 113) فعرضوا بذلك كله وقربوه من التصريح ولم يصرحوا فتحقق عند عيسى -عليه السلام- مرادهم، فقال: {اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيرُ الرَّازِقِينَ} (المائدة: 114). فدعا باسمه العظيم الجامع وأردفه بقوله: {رَبَّنَا} لقولهم: {هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ} وعمم الرب؛ إذ لا يستطيع ذلك إلا الله، فسأل الله المائدة وأن تكون عيدًا، ففي ضمن هذا تصديقهم له وهو من التعريض البديع، وسأل أن تكون آية وذلك بما لا يصح أن يكون إلا للأنبياء. ثم قال: {وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيرُ الرَّازِقِينَ} تعريضًا بطلب ما سألوه من الأكل منها؛ لأنه من الجائز أن كان أنزل عليهم مائدة وحظََر عليهم الأكلَ منها. ويدخل في باب التعريض قول الله تعالى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا} (المؤمنون: 115) فالاستفهام هنا ورد على سبيل الإنكار، لكنه تعريض بالكفار في إنكار الرجعة والمعاد الأخروي، وليس ذلك من جهة اللفظ وإنما من جهة القرينة، أن هذا قوله تعالى حكاية عن المنافقين في غزوة تبوك: {وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا} (التوبة: 81) فازدياد حر جهنم وكونه أشد من حر الدنيا معلوم لدى المخاطبين بالقرآن، ولا معنى لذكره والتنبه عليه، لكن الغرض الحقيقي من هذا الكلام، هو التعريض بهؤلاء المتخلفين عن القتال المعتذرين بشدة الحر، بأنهم سيردون جهنم ويردون حرها الذي لا يوصف. ومن هذا قوله تعالى: {إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} (الرعد: 19) هو تعريض كذلك بالكفار الذين لم يتذكروا وأعرضوا عن الدعوة.

ومما يروَى من بديع التعريض: أن امرأة وقفت على قيس بن عبادة فقالت: أشكو إليك قلة الفأر في بيتي فقال: ما أحسن ما ورت عن حاجتها، املئوا بيتها خبزًا وسمنًا ولحمًا. ومثله ما روي: أن عجوزًا تعرضت لسليمان بن عبد الملك فقالت له: يا أمير المؤمنين، مشت جرذان بيتي على العصي -والجرذان إنما هي ذكور الفئران- فقال لها: ألطفت في السؤال لا جرم لأردنها تثب وثب الفهود. وملأ بيتها حبًّا. فقد فهم قيس بن عبادة وسليمان بن عبد الملك ما تريد كلتا المرأتين لا من اللفظ، ولكن من حالهما وطريقة إخبارهما، وكونهما المقصودين وقدرتهما على إغاثة الملهوف وذلك هو السياق، فلو أن هذا القول قد صدَرَ من غير محتاج أو كان المخاطب بها ليس أهلًا لقضاء الحاجات، لكانت هذه الأقوال من قبيل الحقيقة وليس من قبيل التعريض. وأجمل مواقع إنما يكون في التعريض كقوله تعالى: {إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ} (فاطر: 18) فالمراد التعريض بمن لا يخشون الله، والإشارة إلى أن إنذار هؤلاء لا يجدي فإنذارهم مثل عدمه. ومنه التعريض بخِطبة المرأة كأن يقول الرجل مثلًا: والله إنك لجميلة، ولعل الله أن يرزقك بعلًا صالحًا، وإني لفي حاجة إلى امرأة صالحة. وقد جعل الله التعريض بخطبة النساء جائزًا في عدتها دون التصريح، حيث قال -جل وعلا-: {وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ} (البقرة: 235). وعلى ما سبق ذكره آنفًا، فقد يجتمع التعريض والكناية التعبير الواحد وتسمى الكناية عندئذ بالكناية التعريضية أو العرضية. من ذلك قول الرسول -صلى الله عليه وسلم-: ((المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده))، فقد أفاد الحديث الشريف حَصْرَ الإسلام فيمن سلم المسلمون من أذاه، وهذا يستلزم نفي الإسلام عن كل مَن

يؤذي المسلمين، وهو المعنى المكنى عنه، وإذا كان الحديث في مقام يوجد فيه مَن يُعرف بإيذاء المسلمين فقد فهم من عرض الكلام وجانبه التعريضُ بذلك المؤذي. ومن ذلك قوله -عز وجل-: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} (البقرة: 2، 3) فإذا فسر الغيب في الآية بالغيبة عن حضرة الرسول -صلى الله عليه وسلم- يكون المعنى المصرح به ثبوت الهداية للمتقين الذين آمنوا بالله ورسله وقت حضورهم ووقت غيبتهم عنه، وهذا يستلزم إخلاصهم في العقيدة والعبادة وهو المعنى المكنى به، وفي الآية مع ذلك تعريض بهؤلاء المنافقين الذين أظهروا الإسلام وقتَ حضورِهم، فإذا ما غابوا وخلوا إلى شياطينهم: {قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} (البقرة: 14). من ذلك أيضًا قول المتنبي في التعريض بنفي الصدق عن فتاته: تشتكي ما اشتكيت من ألم ... الشوق إليها والشوق حيث النحول فقوله: "والشوق حيث النحول"، يفيد حصر الشوق في الجسم النحيل، وهذا يستلزم نفي الشوق عن الجسم السمين الممتلئ؛ لأن سِمن الجسم في عرف أهل الهوى والعشق يستلزم الخلو من الشوق، فالمعنى المكنى عنه هو نفي نسبة الشوق إلى صاحب الجسم السمين، وفي هذا تعريض بنفي الشوق عن فتاته حيث تدعيه، وقد سمن جسمها وامتلأ لحمها، فهي كاذبة في ادعائها. ومثله قول الآخر: يلوم في الحب من لا يدري طعم هوى ... وإنما يعذر العشاق من عشق فهو يفيد أن اللوم يقع على العشاق من الذين لم يعرفوا الهوى، ولم يذوقوا طعم الحب، ولم يكتووا بنار العشق، وهذا يستلزم نفي اللوم عن أهل الهوى، فالمعنى المكنى عنه هو نفي نسبة اللوم إلى العشاق وأصحاب الغرام، كما يؤكد

بلاغة وأثر وقيمة الكناية والتعريض.

ذلك الشطر الثاني: "إنما يعذر العشاق من عشق"، فإذا ما وجه هذا البيت إلى من عرف باللوم أو قيل في مجلس يحضره من عرف أهل الهوى بلومه، كان الكلام تعريضًا به. وكما يجتمع التعريض والكناية في التعبير الواحد قد يجتمع والمجاز، كقولك مثلًا: أنا لا أطعن في أعراض الناس ولست ممن يطعن في الأعراض، فقد استعير الطعن للإيذاء واشتق منه طعن بمعنى آذى على سبيل الاستعارة التبعية في الفعل، فإذا ما قيل هذا القول أمام أناس قد عرفوا واشتهروا بالإيذاء، أو أشار السياق إلى كون من تكلمت عنه مؤذيًا، كان الكلام تعريضًا به. وبهذا يتضح أن التعريض كما يفهم من عرض التراكيب الحقيقية التي لا مجاز بها ولا كناية، فقد يجتمع وأسلوب الكناية أو المجاز، وهذا يوضح ما قررناه من أن التعريض يفهم من التراكيب، ولا يمكن أن يدل عليه اللفظ المفرد، فهو معنى يفهم من جوانب الكلام وسياقاته الخاصة، ومواقفه ومقاماته المعينة. بلاغة وأثر وقيمة الكناية والتعريض من خلال ما سبق ومن حديثنا عن الكناية والتعريض نستطيع أن نجمل بلاغتهما وأثرهما وقيمتهما فيما يلي: أولًا: إفادة المبالغة في المعنى؛ لأن التعبير عن المعنى الكنائي بروادفه وتوابعه، له من القوة والتأكيد ما ليس في التعبير عنه باللفظ الموضوع له، وذلك لأنه يصبح كإبراز الدعوى بدليلها وكإثبات الحجة ببينتها. ولعلك تجد ذلك في قول امرئ القيس:

وتضحى فتيت المسك فوق فراشها ... نؤوم الضحى لم تنتطق عن تفضل وكذا قول الآخر: أكلت دمًا إن لم أرعك بضرة ... بعيدة مهوى القِرط طيبة النشر الأمر الثاني: من بلاغة الكناية والتعريض، هو تجسيد المعاني وإبرازها في صورة محسوسة تزخر بالحياة والحركة، فيكون ذلك أدعى لتأكيدها ورسوخها في النفس، ويتضح هذا من قول الله تعالى: {وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ} (الإسراء: 29) فقد أبرزت الآية معنى البخل في صورة اليد المشدودة إلى العنق المقيدة به، وهي صورة قبيحة تنفر منها النفوس، فتُقبل على البذل والعطاء، وكقوله: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ} (الفرقان: 27) وقوله: {وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ} (الأعراف: 149) وقوله: {وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا} (الكهف: 42) فكل هذه الآيات أبرزت الندم في صورة محسوسة مشاهدة. من بلاغة الكناية والتعريض أيضًا: التعبير عن المعاني غير المستحسنة بألفاظ لا تعافها الأذواق ولا تمجها الآذان، وشواهد هذا كثيرة في النظم الكريم، من ذلك قوله تعالى كناية عن الجماع: {أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ} (النساء: 43) {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} (البقرة: 187) في الكناية عن الفرج: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} (البقرة: 223) في الكناية عن النكاح: {وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا} (البقرة: 235) في الكناية عن قضاء الحاجة: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ} (النساء: 43) {مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ} (المائدة: 75). ومن بلاغتهما: أنه يستطاع أيضًا التعمية والتغطية وإخفاء ما يود المتكلم إخفاءَه؛ حرصًا على المكنى عنه أو المعرض به، ورغبةً في عدم تردده على الألسنة، كما

في الكناية عن أسماء النساء، أو خوفًا من الإفصاح بالمكنى عنه، كما في الكناية عن أسماء الأعداء. إلى غير ذلك. من هذه المحاسن تفخيم المعنى في نفوس السامعين، ويتضح لنا ذلك في قول الله مثلًا في وصف يوم القيامة وما فيه من أهوال: {الْقَارِعَةُ * مَا الْقَارِعَةُ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ * يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ * وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ} (القارعة: 1 - 5) وقوله: {فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى} (النازعات: 34) {إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا} (الزلزلة: 1) إلى غير ذلك من الآيات التي كُني فيها عن يوم القيامة بوصف ما يكون فيه من أحداث وأهوال، تقرع القلوب وتزعج النفوس. وبمقدورنا بعد هذه الإفاضة في طرق الأداء من حقيقة وتشبيه ومجاز وكناية وتعريض؛ أن نخلص إلى أن الحقيقة والمجاز وسيلتان من وسائل التعبير، لا تغني إحداهما عن الأخرى في نقل المعنى أو رسم الصورة، وقد اتفق البلاغيون على أن المجاز أبلغ من الحقيقة، وأن الاستعارة أبلغ من التشبيه، والكناية أبلغ من التصريح، واختلفوا في الموازنة بين المجاز والكناية، فقيل: أن الكناية أبلغ من المجاز بنوعيه المرسل والاستعارة، وقيل: الاستعارة أبلغ من الكناية؛ لأنها كالجامعة بين الاستعارة والكناية، وقيل غير ذلك. وأرى -فيمن يرى- أن اختلاف البلاغيين في الموازنة بين هذه الفنون لا أثرَ له فيما تُصَوِّرُه؛ إذ المرجع في ذلك لما يقتضيه المقام، فإن اقتضى المقام الإفصاح كان بلا ريب أبلغ من الكناية، وإذا اقتضى التشبيه كان أبلغ من الاستعارة. وهكذا. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الدرس: 13 علم البديع: مفهومه، ومراحل تطوره.

الدرس: 13 علم البديع: مفهومه، ومراحل تطوره.

تعريف علم البديع.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس الثالث عشر (علم البديع: مفهومه، ومراحل تطوره) تعريف علم البديع الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، ثم أما بعد: ونبدأ بتعريف "علم البديع" بكلمة "البديع" فهي في لغة العرب من بدع الشيء يبدعه بدعًا، وابتدعه أنشأه وبدأه، والبديع والبِدع: الشيء الذي يكون أولًا. وفي التنزيل: {قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنْ الرُّسُلِ} (الأحقاف: 9) أي: ما كنت أول من أرسل فقد أرسل قبلي رسل كثيرون، والبديع المبدع، وأبدعت الشيء اخترعته لا على مثال سابق، والبديع من أسماء الله تعالى؛ لإبداعه الأشياء وإحداثه إياها، وهو البديع الأول قبل كل شيء. قال تعالى: {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} (البقرة: 117) أي: خالقها ومبدعها فهو سبحانه الخالق المبدئ لا عن مثال سابق، فبديع فعيل بمعنى فاعل، كقدير بمعنى قادر، وأبدع الشاعر جاء بالبديع، وأتى به، وأبدعت الركاب إذا كلت، وحقيقته أنها جاءت بأمر حادث بديع، فالمادة -أعني: مادة بدع- في لغة العرب تدور حول الجديد المبتكر والمحدث المعجب والمخترع على غير مثال سابق. أما معنى البديع في مَيْدان البحث البلاغي فقد أُطلق منذ عهود مبكرة على محاسن الكلام وخصائص الأدب المميزة له، فكل ما يجعل للكلام حسنًا ومزية فهو داخل في البديع، غير أن المتأخرين من علماء البلاغة حددوا الوجوه التي تحسن الكلام وتزينه، وحصروها في هذه الألوان البديعية المخصوصة، ووضعوها في علم مستقل أطلقوا عليه اسم البديع، وعرفوه بأنه علم يعرف به وجوه تحسين الكلام باعتبار نسبة بعض أجزائه إلى بعض بغير الإسناد والتعلق، مع رعاية أسباب البلاغة، وإنما قالوا: باعتبار نسبة بعض أجزائه إلى بعض؛ ليخرج التحسين لا بهذا الاعتبار كالتحسينات التي باعتبار الدلالة، فإنه على ما مر بنا من البيان. وقولهم: بغير الإسناد والتعلق، لتخرج التحسينات التي باعتبارها فإنها من علم

المعاني. وقولهم: مع رعاية أسباب البلاغة؛ لأنه مع عدمها لا تكون الصناعة كاملة. وهذا التعريف يوضح رأي علماء البلاغة المتأخرين في معنى البديع، بعد أن أخذت علوم البلاغة شكلها النهائي على يد الإمام أبي يعقوب السكاكي. ويتضح من خلال المعنيين -اللغوي والاصطلاحي- عدة أمور: أولها: أن الإبداع في الفنون والآداب بمعنى إنشائها على وجه جديد مبتكر، خال من التقليد أو المحاكاة؛ داخل في المعنى اللغوي لهذه المادة. ثانيًا: أن علماء اللغة كانوا على علم بدوران كلمة البديع واستعمالها في مجال الأدب والشعر، خلافًا لما ذهب إليه ابن المعتز فقد أنكر على علماء اللغة معرفتهم بهذا الاسم ودرايتهم به، حيث قال: البديع اسم موضوع لفنون من الشعر يذكرها الشعراء والنقاد المتأدبين، فأما العلماء باللغة والشعر القديم فلا يعرفون هذا الاسم ولا يدرون ما هو. قد يعتذر عن ابن المعتز بأن استعمال اللغويين لهذه الكلمة ودورانها على ألسنتهم مرجعه اصطلاح الأدباء والرواة، الذين أطلقوا اسم البديع على محسنات الكلام المخصوصة، ويكون ذكره في اللغة كما يذكر مصطلح العروضيين والنحويين وغير ذلك. ثالثها: المناسبة بين معنى البديع في لغة العرب وبين إطلاقه على المحسنات البديعية المخصوصة مناسبة واضحة ظاهرة ودقيقة؛ لأن الشيء المبدَع المبتكر لا يخلو من الحسن والروعة والانبهار والطرافة، كما أن ألوان الكلام التي أطلق عليها المُحْدَثون اسم البديع تكسب الكلام حسنًا وجمالًا، وتخلع عليه بهجةً وجلالًا.

نشأة البديع، ومراحل تطوره.

نشأة البديع، ومراحل تطوره ومن المعلوم بالبداهة أن الأدب العربي جاء منذ الجاهلية صورة حية لحياة العرب وصدقهم في نقل مشاعرهم وأحاسيسهم، كما جاء معبرًا عن طبيعة القوم وميلهم إلى الاسترسال والطبع، والبعد عن التكلف والصنعة، فهو يصور البداوة وما فيها من خشونة وشظف ورعونة واضطراب، وما فيها من رقة المشاعر وإرهاف الملكات ودقة الحس، فأدبهم مِرآة صادقة انعكست عليها أخلاقهم، وتمثلت فيها حقيقة حالهم، ولذا كان له سحر أخذ بالألباب وبالعقول، فهم إذا خطبوا أثاروا المشاعر وأيقظوا الوجدان وألهبوا النفوس، وإذا نظموا القصيد أخذوا بمجامع القلوب وسحروا الألباب والأفئدة، سالكين أقرب السبل لا يتعملون ولا يتكلفون ولا يتأنقون. يقول الجاحظ: كل شيء للعرب إنما هو بديهة وارتجال وكأنه إلهام، وليست هناك معاناة ولا مكابدة ولا إجالة فكرة ولا استعانة، وإنما هو أن يصرف همه إلى الكلام، وإلى رجز يوم الخصام، أو حين يمنح على رأس بئر أو يحدو ببعير، فما هو إلا أن يصرف همه إلى جملة المذهب وإلى العمود الذي إليه يقصد، فتأتيه المعاني إرسالًا، وتنثال عليه الألفاظ انثيالًا. وعلى الرغم من وجود طائفة من الشعراء عنوا بشعرهم وحرصوا على تجويده، فلا يخرج على الناس إلا بعد تثقيفه وتهذيبه، فإن حِرص هؤلاء وعنايتهم ليست إلا إعادة نظر في الشعر بعد إنشائه، حتى إنهم كانوا يدعون القصيدة تمكث عندهم حولًا كاملًا يرددون فيها النظر ويقلبون فيها الرأي، فلم يخرج صنيعهم هذا عن دائرة الطبع. وكان من هؤلاء زهير والنابغة والحطيئة وأطلق عليهم اسم عبيد الشعر.

وانسياق الشعراء مع الطبع ونبذهم التكلف جعلهم لا يهتمون بالصنعة البديعية، فلم يتعمدوا جناسًا ولم يقصدوا إلى تورية ولم يتكلفوا طباقًا ولم ينقبوا عن سجع، عدا طائفة من الكهان اشتهرت بحرصها على نوع من السجع أطلق عليه "سجع الكهان". ومع ذلك قد كثر في أدبهم ألوان البديع التي جاءت عفو الخطر من غير أن يعرفوا لها أسماءها التي أطلقت عليها فيما بعد، فقد جاء الطباق في قول امرئ الق يس: مكر مفر مقبل مدبر معًا كجلمود ... صخر حطه السيل من عل وجاءت المشاكلة في قول عمرو بن كلثوم: ألا لا يجهلن أحد علينا ... فنجهل فوق جهل الجاهلين كما جاء اللف والنشر في قول امرئ القيس: كأن قلوب الطير رطبًا ويابسًا ... لدى وكرها العناب والحشف البالي وجاء التقسيم في قول زهير: فإن الحق مقطعه ثلاث ... يمين أو نِفار أو جلاء وجاءت المبالغة في قول مهلهل: فلولا الريحُ أسمع من بحجر ... صليل البيض تقرع بالذكور وكان بين حُجر هذه وبين مكان الوقعة التي يتكلم عنها المهلهل مسيرة عشرة أيام. وجاء أيضًا في كلامهم تأكيد المدح بما يشبه الذم في قول النابغة مثلًا: ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم ... بهن فُلول من قراع الكتائب وغير ذلك من الألوان التي تناثرت بكثرة، وكثرت أمثلتها في الشعر الجاهلي، ولم يقصد الشعراء إليها قصدًا وإنما جاءت عَفْوَ الخاطر دون تعمل أو تكلف.

ولما جاء الإسلام ونزل القرآن الكريم كان للدين الجديد والقرآن الكريم أثرهما الذي لا يجحد على عواطف العرب ومشاعرهم، وجميع مناحي حياتهم، فهدأ عواطفَهم الثائرة، وأرهف مشاعرهم وتشربت جوانب حياتهم روح القرآن ومعانيه، ولا عجبَ إذا ظهر أثر القرآن ومعانيه وروحه في أدبهم، فهو الآية والغاية وإليه المنتهى في بلاغة القول. ومن آثاره في أدباء العرب: أن جاء شعرهم مهذبًا في لفظه وأساليبه، فرَقَّتِ الألفاظ وأحكمت الأساليب، فضلًا عن المعاني والأغراض التي دارت حول الدعوة وصاحبها، وحول القرآن الكريم الذي أدهشهم ومَلَكَ عقولَهم، وإن كان الطابع العام للشعر الإسلامي بقي كما كان في العصر الجاهلي، فلم يبتكر شعراء الإسلام مذهبًا جديدًا في الشعر، كما بقيت الصناعة اللفظية كما هي موضع اهتمام القوم دون تعمل أو استكراه. ولو فتشنا عن ألوان البديع في هذا العصر لوجدنا أن القرآن الكريم اشتملت آياته على كثير من الألوان البديعية، التي جاءت في أعلى درجات الروعة والجمال. فمن الطباق جاء قوله تعالى: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ} (آل عمران: 26) ومن المقابلة قوله: {فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا} (التوبة: 82) ومن مراعاة النظير جاء قوله: {الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ * وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ} (الرحمن: 5، 6) ومن الإرصاد قوله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} (العنكبوت: 40) وغير ذلك كثير في القرآن الكريم.

وفي أحاديث النبي -صلى الله عليه وسلم- جاءت المقابلة الرائعة في قوله مثلًا -صلى الله عليه وسلم- لأصحابه: ((إنكم لتكثرون عند الفزع، وتقلون عند الطمع)) وجاء العكس والتبديل في قوله -صلى الله عليه وسلم-: ((جار الدار أحق بدار الجار)) وجاء الجمع في قوله: ((مَن أصبح آمِنًا في سربه، معافًى في بدنه، عنده قوت يومه، فكأنما حِيزت له الدنيا بحذافيرها)). وهذا قليل من كثير من الألوان البديعية التي زخر بها الحديث النبوي الشريف. كما جاء الأدب الإسلامي شعره ونثره، وقد تناثرت فيه ألوان البديع التي جاءت على سجية القوم وفطرتهم، ولا غرابة أن تبقى الفطرة العربية الخالصة هي المسيطرة وهي الموجهة، فالقوم ما زالوا يعتزون بعروبتهم ويفخرون بها، ولا تزال الصحراء هي مقام الكثيرين منهم، ولم يكن قد بعد عهدهم بها، كما كانوا يأنفون من مخالطة غيرهم من الأعاجم. فمن ألوان البديع العكس والتبديل في قول عبد الله بن الزبير: فردَّ شعورهن السود بيضًا ... ورد وجوههن البيض سودا والطباق في قول الفرزدق: لعن الإله بني كليب إنهم ... لا يغدرون ولا يفون لجار يستيقظون على نهيق حمارهم ... وتنام أعينهم عن الأوتار وجاء الجناس في قول جرير: وما زال معقولًا عِقال عن الندى ... ومازال محبوسًا عن المجد حابس والإرصاد في قول عدي بن الرقاع: تسجي أغنك أن إبرة روقه ... قلم أصاب من الدواة مدادها وجاء التقسيم في قول قتيبة بن مسلم الباهلي: مَن كان في يده من مال عبد الله بن حازم شيء فلينبذه، وإن كان في فمه فليلفظه، وإن كان في صدره فلينفثه.

ومنه قول أعرابي وقف على مجلس الحسن البصري فقال: رحم الله عبدًا أعطى من سعة أو أسى من كفاف أو آثر من قلة، فقال الحسن: ما ترك لأحد عذرًا. وغير ذلك من الألوان البديعية التي كثرت كثرة فائقة في الأدب الإسلامي، لكنها -كما أشرنا- لم تأت عن تعمل أو تكلف، ولكنها سايرت الطبع العربي السليم والفطرة النقية المستقيمة. ثم أخذت الحياة العربية تسير بخطًى واسعةٍ، وتقفز قفزات سريعة، فما أن جاءت الدولة العباسية حتى وجد العرب أمامهم أبوابًا من الرفاهية والترف والحضارة صبغت حياتهم بصبغة جديدة، ووجدوا أمامهم علوم الأمم التي فتحوها وثقافات تلك الأمم، فانكبوا عليها يحصلونها جادين متلهفين، كما زاولوا صناعات تلك الأمم ومهاراتهم ونقلوها عنهم، كل ذلك جعلهم في أسمى درجات الحضارة وفي أرفع قِمم المدنية، فعم الأمن وكثر الخير وتعددت مناحي الرزق، فرتعوا في بحبوحة العيش، ورفلوا في أبهى أنواع الحلل، وارتدوا الخز والديباج، واستبدلوا بالعباءة المطارف والغلائل. كما تغيرت أصول عاداتهم وأخلاقهم، ففشا المجون وانتشرت الزندقة، وشاع الجهر بالفسق وتعقدت الحياة العربية، وطغت عليها أساليب المدنية والتحضر، والشعر كما هو معروف مرآة تنعكس عليها حياة الأمم، ولسان يترجم عن أحوالها وجوانب حياتها، ومن الطبعي أن يتأثر الشعر بهذه الحياة الجديدة فيلبس حُللًا من الزخرف والزينة والتنميق، ونظر الشعراء في شعر أسلافهم الأقدمين، فوجدوا أن الأقدمين صرفوا هممهم إلى المعاني، وكان لهم بها فضل عناية، فمعاني الفخر والمديح والغزل والرثاء وغيرها طُرقت منذ قرون، كما وجدوا أن الأقدمين سبقوا إلى الألفاظ القوية والعبارات الجزلة والأساليب المرضية، فصرفوا

هممهم إلى الصياغة ليلبسوها أبهى حلل البيان، وأسمى صفات الكلام، وذلك لا يتأتَّى إلا بالزخرف والزينة والبهرج والتوليد في المعاني، فكلفوا بها وتعمدوها. وقصدوا إلى الشعر القديم يلتمسون منه هذه الألوان، ويتفننون فيها، فاجتمع لهم منها الكثير من طباق إلى جناس إلى تورية إلى مشاكلة وغير ذلك، وأطلقوا على كل ذلك اسم البديع، وشتان بين هذه الألوان في شعر الأقدمين وشعر المحدثين، فقد جاءت في شعر الأقدمين تساير الطبع وتقع موقعها دون قصد لها أو تكلف، بينما جاءت في شعر المحدثين عن تعمد وقصد وتكلف. قال صاحب (الوساطة): فلما أفضى الشعر إلى المحدثين ورأوا مواقع تلك الأبيات من الغرابة والحسن، وتميزها عن أخواتها في الرشاقة واللطف، تكلفوا الاحتذاء عليها فسموه البديع، فمن محسن ومسيء، ومحمود ومذموم، ومقتصد ومفرط، وأصبح البديع بذلك صنعة لها روادها من أمثال بشار بن برد ومسلم بن الوليد والعتابي ومنصور النمري وأبي نواس وأبي تمام والبحتري وعبد الله بن المعتز، فقد كان الواحد من هؤلاء يقصد إلى تلك الأصباغ ويكثر منها في شعره، ولكنهم لم يكونوا سواء في تلك الصنعة من حيث الإقلال والإكثار والتسهيل والتوعر والطابع والاتجاه، فمنصور النمري من شعراء البديع استقى من بديع العتابي وذهب مذهبه وأربى عليه في المبالغة. قال صاحب (الأغاني): كان منصور شاعرًا من شعراء الدولة العباسية من أهل الجزيرة، وهو تلميذ كلثوم بن عمرو العتابي وراويته، وعنه أخذ ومن بحره استقى ومن مذهبه تشبه، فمن طباقه ومبالغاته قوله يمدح الرشيد: إذا رفعت أمرًا فالله يرفعه ... ومَن وضعت من الأقوام متضع مَن لم يكن بأمين الله معتصمًا ... فليس بالصلوات الخمس ينتفع

إن أخلف الغيث لم تخلف أنامله ... أو ضاق أمر ذكرناه فيتسع طابق في البيت الأول بين الرفع والوضع، وفي الثالث بين الضيق والاتساع والاختلاف وعدمه، في أسلوب مسرف في المبالغة إسرافًا شديدًا، لا يجاوزه سوى قول أبي نواس في مدح الرشيد أيضًا وفيه المطابقة: لقد اتقيت الله حق تقاته ... وجاهدت نفسك فوق جهد المتقي وأخفت أهل الشرك حتى إنه ... لتخافك النطف التي لم تخلق وبضاعة الشعراء إن أنفقتها ... نفقت وإن أكسبتها لم تنفق طابق بين الإنفاق والإكساء في أسلوب يعتمد على المغالاة، وقد أدَّى هيام الشعراء بهذه الألوان وإفراطهم في تناولها إلى تركهم جانب المعاني، وعدم اكتراثهم بجزالة الألفاظ واستقامتها. مما حَدَا بكثير من علماء اللغة والأدب أن ينتصروا للقديم، وأن يتعصبوا له، وأن يقفوا في وجه كل جديد موقفًا متشددًا، مقللين من شأن ما يأتي به المحدثون، منكرين عليهم إكثارهم من ألوان البديع وكلفهم بها. وقد بالغ كثير من النقاد وعلماء اللغة في التعصب للقديم والمَيل إليه، حتى إن بعضهم كان يستحسن القديم لقدمه، ويستهجن المحدث لحداثته، دون نظر لعناصر الجمال أو القُبح في هذا أو ذاك. وإلى جانب هذه الطائفة التي تعصبت للقديم، طائفة أخرى من الشعراء والنقاد تعصبوا للمحدثين، وانتصروا للبديع وعدوا الإكثار منه في الشعر تفننًا في ضروب القول ودليلًا على شاعرية الشاعر. وعلى أي حال، فإن هذه المعركة بين أنصار القديم وأنصار الحديث لم تذهب أدراج الرياح، بل أثمرت ثمرة طيبة كان لها قيمتها في تاريخ هذا الفن، ذلك أن أحد المولعين بالأصباغ البديعية وهو الشاعر الخليفة عبد الله بن المعتز، المتوفى سنة 296، عنّ له

أن يسجل ألوان البديع التي كثرت في الشعر، وأن يحولها إلى قواعدَ وأصول، فكان له ما أراد بكتابه الذي يعد بداية التأليف في هذا العلم وهو كتابه (البديع). وتحول البديع بهذا المؤلف من أصباغ تتناثر في الشعر ويهتم بها الشعراء وحدهم إلى قواعد وأصول، يضمها كتاب مستقل، ويعضدها جامعها بالشواهد والأمثلة التي توضح معانيها، وتبين طرائقها، وكان الباعث على تأليف هذا الكتاب هو الدفاع عن أنصار البديع، وأن يثبت ابن المعتز أن هذه الألوان معروفة في العربية منذ القديم، وأن كثيرًا منها ورد في القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف، وقد صرَّح بهذا الهدف في مقدمة كتابه بقوله: إنما غرضنا في هذا الكتاب تعريف الناس أن المحدثين لم يسبقوا المتقدمين إلى شيء من أبواب البديع، وفي دون ما ذكرنا مبلغ الغاية التي قصدنا إليها. ويذهب صاحب (البيان العربي): إلى أن بديع ابن المعتز هو أول كتاب في البلاغة العربية بالمعنى الصحيح، حيث لم يجاوز في موضوعاته وفنونه دائرة البحث البلاغي، ويصرح في موضع آخر من كتابه: بأن كتاب (البديع) أثر من آثار (البيان والتبيين) للجاحظ. فقد كان ابن المعتز واحدًا من علماء اللغة والأدب الذين أثارهم بيان الجاحظ بعد أن وعوه وفهموه، فقدم لنا كتابه (البديع) وأودعه ثقافته البيانية، وما تأثر به من المسائل البيانية والبلاغية التي أثارها الجاحظ في كتابه. وقد استقصى ابن المعتز ما في الشعر من محسنات بديعية على ما أمكنه واتسع له وقته وهُدي إليه، وأثبت ما جمعه في كتابه. فكان مجموع ما ذكره في هذا المؤلف سبعة عشر نوعًا من المحسنات، جعل منها الاستعارة والكناية وقال: ما جمع قبلي فنون البديع أحد ولا سبقني إلى تأليفه مؤلف، ومَن رأى أن يقتصر على ما اخترنا فليفعل، ومن رأى إضافة شيء من المحاسن إليه فله اختياره.

ثم جاء معاصره قدامة بن جعفر الكاتب المتوفى سنة 237 فجمع منها عشرين لونًا في كتابه (نقد الشعر) وقد توارد مع ابن المعتز على سبعة منها، وسلم له ثلاثة عشر، فتكامل لهما ثلاثون نوعًا. ثم اقتدَى الناس بهما في التأليف في البديع، فأفرد أبو هلال العسكري المتوفى سنة 295 جزءًا من كتابه (الصناعتين) لألوان البديع، وكان غاية ما جمعه أبو هلال سبعة وثلاثين نوعًا، ثم جاء ابن رشيق القيرواني، المتوفى سنة 463 فجمع في كتابه (العمدة) مثلما جمع أبو هلال، وأضاف إليها ثلاثة وثلاثين بابًا في فضائل الشعر، وصفاته، وأغراضه، وعيوبه، وسرقاته، وغير ذلك من أنساب الشعراء وأحوالهم مما لا تعلق له بالبديع، ثم تلاه شرف الدين التيفاشي، المتوفى سنة 651 فبلغ بهذه الألوان السبعين، ثم تصدَّى للبديع الشيخ زكي الدين بن أبي الإصبع، المتوفى سنة 654 فأوصلها إلى التسعين، وأضاف إليها من مستخرجاته ثلاثين، سلم له فيها عشرون، وباقيها مسبوق إليه أو متداخل عليه، وكتابه المسمى (تحرير التحبير) أصح كتاب ألف في هذا العلم؛ لأنه لا يتكل على النقل دون النقد، قد كان كثير النظر والتعليق لكل ما جمعه في كتابه من ألوان البديع. ثم جاء صفي الدين الحِلي، المتوفى سنة 750 فأوصلها إلى مائة وأربعين، ونظم قصيدة ميمية في مديح المصطفى -صلى الله عليه وسلم- وذكر في كل بيت من أبيات هذه المنظومة اسم نوع من أنواع المحسنات، ومن بعده جاء عز الدين الموصلي، المتوفى سنة 789، فذكر مثلما ذكره صفي الدين، مع زيادة بعض الأنواع من ابتكاره. وهكذا ارتقت المؤلفات في البديع وصارت قدمًا بألوان مختلفة وتفن في التأليف وجمع للأنواع والتمثيل لها، وزيدت الأنواع، وكثرت البديعيات، ولعل بديعية ابن حجة الحموي المتوفى سنة 837 تُعد أشهر هذه البديعيات، وقد شرحها في مؤلف كبير سماه (خزانة الأدب).

استعراض لأهم جهود المعنيين بعلم البديع.

ثم جاء جلال الدين السيوطي، المتوفى سنة 911 فابتكر في البديع عدة ألوان أوردها في كتابه (عقود الجمان)، وألف الشيخ عبد الرحمن الحميدي، المتوفى سنة 1005 هـ بديعية أسماها (تمليح البديع بمدح الشفيع) وله عليها شرح ومختصر، وقال: لقد زدت والحمد لله في بديعيتي أنواعًا لم يسبقن الحلي فيها ومتابعوه، ولا السيوطي ومتابعوه. وكانت كثرة البديعيات كثرة فائقة سببًا للأسف في إسفافها وانحطاطها، وتجريد ألوان البديع من الروعة والرواة، سواء من الناحية الأدبية أو العلمية، أما الأدبية فقد هبطت بالشعر وجعلته في أحط درجاته، وأذهبت بمائه وصفائه، وأما من الناحية العملية فإنها ذهبت بالبديع مذاهب التشعيب والتخليط، فعاد عليها بالضعة والهوان عند ذوى الصفاء من البلغاء والمتأدبين. ومن أبرز أصحاب البديعيات في العصر الحديث محمود الساعاتي، المتوفى سنة 1298 وعبد الهادي الأبياري، المتوفى سنة 1305. الشيخ عبد القاهر الطرابلسي، المتوفى سنة 1309 الشيخ طاهر الجزائري، المتوفى سنة 1341، وغيرهم كثير ممن كتبوا في ألوان البديع وبالغوا في جمعها واستقصائها. استعراض لأهم جهود المعنيين بعلم البديع ويدعونا ما سبق لاستعراض أهم الجهود التي بذلت على يد المعنيين بعلم البديع الذين ألمحنا إلى بعضهم فيما مر بنا. ويأتي على رأس هؤلاء عبد الله بن المعتز في كتابه (البديع). يقول ابن المعتز في ثنايا الكتاب: إنه صنفه في سنة أربع وسبعين ومائتين. قد مضى منذ السطور الأولى يعلن أنه صنفه، ليدل دلالةً قاطعةً على أن ما يكثر منه المحدثون مما يسمى بديعًا موجودٌ من قديم في القرآن والحديث وكلام الجاهليين

والإسلاميين. يقول: قد قدمنا في أبواب كتابنا هذا بعض ما وجدنا في القرآن واللغة وأحاديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وكلام الصحابة والأعراب وغيرهم، وأشعار المتقدمين من الكلام الذي سماه المحدثون البديع، ليعلم أن بشارًا ومسلمًا وأبا نواس ومَن تقيلهم -يعني: حاكاهم- وسلك سبيلهم، لم يسبقوا إلى هذا الفن، ولكنه كثر في أشعارهم فعرف في زمانهم حتى سمي بهذا الاسم، فأعرب عنه ودل عليه. ثم إن حبيب بن أوس الطائي من بعدهم شغف به حتى غلب عليه، وتفرع فيه وأكثر منه، فأحسن في بعض ذلك وأساء في بعض، وتلك عقبى الإفراط وثمرة الإسراف. وما يلبث ابن المعتز أن يصرح بغرضه من كتابه قائلًا: وإنما غرضنا من هذا الكتاب، تعريف الناس أن المحدثين لم يسبقوا المتقدمين إلى شيء من أبواب البديع، وكان المحدثون في هذا أحد اثنين؛ إما متفلسف متعصب لم يتعمق الأدب العربي وأصوله، وإما شعوبي ممن يغمطون العرب القدماء حقهم، وينكرون عليهم كل فضل. وتصدى لهم ابن المعتز ينقد دعواهم الباطلة، مبينًا بالبرهان الساطع أن البديع قديم في العربية، بل إنه ليتعمق في القِدم حتى العصر الجاهلي، وأن ما للمحدثين منه من أمثال بشار إنما هو الإكثار من استخدام فنونه فحسب، ويقول: إن أبا تمام أفرط في استخدامها وأسرف مما جعله يحسن تارة وتارة يسيء. وأفرد له رسالة مستقلة تحدث فيها عن محاسنه ومساوئه، احتفظ بها المرزباني في موشحه، وكأنه يريد أن يعارض في قوة من يسرفون في التجديد واستخدام البديع ببيان أن أبا تمام مَثلهم الأعلى، أخطأه التوفيق في كثير من الأحيان؛ لتتبعه هذه الفنون، وتكلفه الشديد حتى لَيستكره الألفاظ، وحتى ليجري فيها غير قليل من الالتواء والتعقيد.

بل إن إسرافه في استخدامها ليجعل قارئه يمله مللًا شديدًا مهما أحسن ومهما أتى بالنادر الطريف مثله في ذلك مثل صالح بن عبد القدوس، في بناء شعره جميعه على الحكم والأمثال، يقول: لو أن صالحًا نثر أمثاله في شعره وجعل بينها فصولًا من كلامه، لسبق أهل زمانه وغلب على مد ميدانه، وكذلك أبو تمام لو أنه جعل البديع في شعره مفرقًا لصارت أشعاره نوادر وازداد بها الكلام حظوة وحسنًا. هذا وقد جعل ابن المعتز فنون البديع التي بنى عليها الشطر الأكبر من كتابه خمسة، هي: الاستعارة، والتجنيس، والطباق، ورد الأعجاز على ما تقدمها، والمذهب الكلامي. ونراه حين ينتهي من بيانها واستقصائها في الأمثلة والشواهد يقول: قد قدمنا أبواب البديع الخمسة وكمل عندنا، وكأني بالمعاند المغرم بالاعتراض على الفضائل قد قال: البديع أكثر من هذا أو قال: البديع باب أو بابان من الفنون الخمسة التي قدمناها، والبديع اسم موضوع لفنون من الشعر يذكرها الشعراء والنقاد المتأدبون منهم، فأما العلماء باللغة والشعر القديم، فلا يعرفون هذا الاسم ولا يدرون ما هو، وما جمع فنون البديع ولا سبقني إليه أحدٌ. ونحن الآن نذكر بعض محاسن هذا الكلام والشعر -هكذا يقول- ومحاسنهما كثيرة لا ينبغي للعالم أن يدعي الإحاطة بها، حتى يتبرأ من شذوذ بعضها عن علمه وذكره، وأحببنا لذلك أن تكثر فوائد كتابنا للمتأدبين، ويعلم الناظر أنَّا اقتصرنا بالبديع على الفنون الخمسة؛ اختيارًا من غير جهل بمحاسن الكلام، ولا ضيق في المعرفة، فمن أحب أن يقتدي بنا ويقتصر بالبديع على تلك الخمسة فليفعل، ومن أضاف من هذه المحاسن أو غيرها شيئًا إلى البديع فله اختيارُه.

وهي فقرة طريفة في الكتاب، إذ يذكر فيها طائفة من الحقائق المهمة، من ذلك أن كلمة البديع إنما كانت تدور قبله بين الشعراء ونقاد المتأدبين، أما اللغويون فلم يكونوا يعرفونها ولا كانوا يعرضون لها، وكان أول مَن اقترحها مسلم بن الوليد، ونراها مبثوثة في كتابات الجاحظ، وفعلًا لم تلقنا في كتابات اللغويين حتى عصر ابن المعتز. وابن المعتز يضيف إلى ذلك أنه أول من جمع فنون البديع وألف فيها كتابًا، وهو فضل له لا ينكر، ويقول: إنه ربما اعترض عليه معترض فقال: إن الفنون الخمسة الأساسية التي عدها أركان البديع أكثر مما ينبغي، وإنه كان يحسن أن يقف بها عند فن واحد أو فنين فحسب، ويقول: إنه ربما اعترض آخر بأنها أكثر مما عده مدخِلًا فيها فنونًا أخرى من فنون محاسن الكلام والشعر. ويذكر أنه قصد إلى أن يقصر البديع على الفنون الخمسة لا عن جهل منه بل عن معرفة دقيقة. ولكي يؤكد معرفته بمحاسن الشعر والكلام مما لم يذكره، رأى أن يفصل الحديث في طائفة منها، مبيحًا لغيره أن يضيف إليها محاسن أخرى إن شاء، وكأنما كان ذلك منه تنبأ بما سيصير إليه البديع، فقد أضيفت المحاسن التي ذكرها إليه، وأضيفت محاسن أخرى جديدة، أخذ يستنبطها أصحاب البديع حتى بلغت في العصور المتأخرة نحوًا من مائة وخمسين فنًّا. ونعتقد اعتقادًا أن ابن المعتز إنما اكتفى بالفنون الخمسة من محاسن الكلام، رأى أن يخصها باسم البديع؛ لأنها فعلًا الفنون التي كانت موضع أخذ ورد بين أصحاب البلاغة العربية الخالصة وبين طوائف المتفلسفة، ومن ينزعون نحو التجديد المسرف، ومما لا شك فيه أن فنون البديع الخمسة التي فصل ابن المعتز الحديث فيها، وما أحصاه وراءها من المحاسن؛ جمعها جمعًا من كتابات

اللغويين، أمثال الأصمعي وقد ذكره في صدد حديثه عن التجنيس، ومن كتابات المعتزلة وخاصة الجاحظ، وقد ذكره في فاتحة حديثه عن المذهب الكلامي. وأول فن من فنون البديع عني ببحثه والتمثيل له الاستعارة، وقد عرفها بأنها استعارة الكلمة بشيء لم يعرف بها من شيء قد عرف بها، وساق لها شواهد كثيرة من القرآن والأحاديث وكلام الصحابة، وأشعار الجاهليين والإسلاميين، وكلام المحدثين المنثور والمنظوم. وتكاد الشواهد جميعها أن تكون من باب الاستعارة المكنية. وذكر عقب الاستعارة الجيدة طائفةً من الاستعارة الرديئة، وبذلك سن للبلاغيين بعده أن يتحدثوا عن العيوب التي وقعت في بعض الفنون البلاغية، وتلاها بالحديث عن الجناس بادئًا بتعريفه، ثم ذاكرًا كثيرًا من أمثلته في القرآن ومن كلام القدماء والمحدثين وأشعارهم، وعرض بعض صوره المعيبة وهو وإن لم يقسم الجناس فقد استشهد له بأمثلة كثيرة، نظر فيها مَن جاءوا بعده وقسموه على أساسها، وربما أفردوا بعض الأقسام بألقاب خاصة. وانتقل ابن المعتز إلى المطابقة أو الطباق وبدأ ببيان أصل معناها اللغوي، ثم مضى يسوق أمثلتها من القرآن والحديث، وكلام الصحابة والتابعين، وأشعار الجاهليين والإسلاميين، ثم من كلام المحدثين وأشعارهم، وصور المطابقة المعيبة في بعض الأمثلة، وتحدث عقب ذلك عن رد أعجاز الكلام على ما تقدمها، وسماه من جاء بعده باسم "رد أعجاز الكلام على الصدور"، وقد قسمه إلى ثلاثة أقسام؛ أولها: ما يوافق آخر كلمة من البيت آخر كلمة في نصفه الأول مثل قول الشاعر: تُلقَى إذا ما الأمر كان عرمرمًا ... في جيش رأي لا يفل عرمرم والعرمرم هو اليوم الشديد.

وثانيها: ما يوافق آخر كلمة من البيت أول كلمة في نصفه الأول كقول بعض الشعراء: سريع إلى ابن العم يشتم عِرضه ... وليس إلى داع الندى بسريع وثالثها: ما يوافق آخر كلمة من البيت بعض ما فيه، أو بعبارة أخرى: بعض ما جاء في حشوه، كقول الشاعر: عميد بني سليم أقصدته ... .................................... يعني: أصابته. ................... ... سِهام الموت وهي له سهام وتلا ابن المعتز حديثه عن الاستعارة، والجناس، والطباق، ورد الأعجاز على الصدور بالفن الخامس من فنون البديع، وهو المذهب الكلامي وقال: إن الجاحظ هو الذي سماه بهذا الاسم، كما قال: إنه باب ما أعلم أني وجدت في القرآن منه شيئًا، وهو ينسب إلى التكلف تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرًا. ثم عرض أمثلة له وشواهد من كلام القدماء وأشعارهم، ثم من أشعار المحدثين وكلامهم، وألم بطائفة من صوره المعيبة، والظاهر أنه أراد به طريقة المتكلمين العقلية في دقة الاستنباط، وفي التعليل وفي الكشف عن المعاني الخفية. وهذه هي فنون البديع الخمسة الأساسية التي جعلها ابن المعتز عمادَه، وقد تحدث عقبها عما أسماه محاسن الكلام، وقال: إنها أكثر من أن يحاط بها. وفصل الحديث في ثلاثة عشر منها ابتدأها بالكلام عن الالتفات، ثم عن الاعتراض، وهو اعتراض كلام في كلام لم يتم معناه، ثم تكلم بالمحسن الثالث عن الرجوع، ثم بعد ذلك عن الخروج من معنى إلى معنى وساق فيه شواهد كثيرة، منها ما سماه أبو تمام في بعض حديثه للبحتري باسم الاستطراد، ثم تكلم في المحسن الخامس عن تأكيد المدح بما يشبه الذم، ثم في المحسن السادس عن تجاهل

العارف، ثم في السابع عن الهزل يراد به الجد، وقد استمده من الجاحظ، ثم بعد ذلك عن حسن التضمين. ثم عقب ذلك بالحديث في المحسن التاسع عن التعريض والكناية، ثم بعد ذلك في العاشر عن الإفراط في الصفة، ثم تكلم بعد ذلك في المحسن الحادي عشر عن حسن التشبيه، وتلاه بالمحسن الثاني عشر وهو إعنات الشاعر نفسه في القوافي، وتكلفه من ذلك ما ليس له، وهو ما سمي فيما بعد بلزوم ما لا يلزم، ثم تحدث في المحسن الثالث عشر عن حسن الابتداءات وقد ذكره بعضهم من قبل، وحرص ابن المعتز في كل هذه المحسنات وما سبقها من فنون البديع أن يستشهد عليها من كلام القدماء والمحدثين. وهو بذلك ينفصل عن اللغويين الذين كانوا يضيقون بالمحدثين، وفي الوقت نفسه يلتقي بذوق البلاغيين من المتكلمين أمثال الجاحظ، الذي كان يعتد بالقدماء والمحدثين معًا، والذي كان يتلوم البلاغيين لموقفهم الخاطئ من بارعي المحدثين من أمثال بشار وأبي نواس، وكان ابن المعتز معتدلًا في نظرته وحكمه على شاكلة الجاحظ وغيره من المتكلمين، فهو يسوي بين المحدثين والقدماء في الإحسان مع شيء من الاحتياط إزاءهم جميعًا، وهو احتياط جعله يعقب على شواهدهم الرائعة في فنون البديع بما يعاب من كلامهم وأشعارهم جميعًا، فهو يستحسن حين ينبغي الاستحسان، ويستهجن حين ينبغي الاستهجان، بغض النظر عن القديم والحديث؛ إذ المُعول عليه عنده هو الحسن الذاتي لا على الزمان ولا على المكان، وهذا أهم ما يميزه في الكتاب. وأهم ما يميزه كذلك دقة ذوقه وصفائه في اختيار الأمثلة والشواهد، ويكفيه فضلًا أنه أول من صنف في البديع ورسم فنونه، وكشف عن أجناسها وحدودها بالدلالات البينة والشواهد الناطقة، بحيث أصبح إمامًا لكل من صنفوا في البديع بعده ونِبراسًا يهديهم الطريق.

ويلي عبد الله بن المعتز في درجة الاهتمام بأصول وفنون علم البديع، قدامة بن جعفر في كتابه (نقد الشعر) فقدامة المتوفي سنة 337 كان مثل أبيه جعفر من كتاب الديوان العباسي بغداد، وكان في أول أمره نصرانيًّا، ثم دخل في الإسلام على يد الخليفة المكتفى، واشتهر بين معاصريه بثقافته العميقة بالفلسفة والمنطق. وقد دفعه عمله في الديوان إلى تأليف كتابين هما (الخراج) و (صنعة الكتابة وجواهر الألفاظ) كما دفعته ثقافته الفلسفية إلى التصنيف في السياسة وصناعة الجدل، وهو يستهل كتابه (نقد الشعر) بأن العلم بالشعر ينقسم أقسامًا؛ قسم ينسب إلى علم عروضه ووزنه، وقسم ينسب إلى علم قوافيه ومقاطعه، وقسم ينسب إلى علم غريبه ولغته، وقسم ينسب إلى علم معانيه والمقصد منه، وقسم ينسب إلى علم جيده ورديئه، ويقول: إن الناس عنوا بوضع الكتب في القسم الأول وما يليه إلى الرابع عناية فائقة، أما القسم الأخير فإنه لم يجد فيه كتابًا منظمًا، ومن ثم كان الناس يخبطون فيه منذ تفقهوا في العلم وقليلًا ما يصيبون. وهو بذلك كأنه يريد أن يلغي كل ما ألف قبله في تمييز جيد الشعر من رديئه، أو هو على الأقل لا يعترف بأن أحدًا كتب شيئًا يغني بعض الغناء في هذا الموضوع، فلا ثعلب في (قواعد الشعر) ولا ابن المعتز في كتاب (البديع) ولا غيرهما ممن سبقوه وعاصروه قد كتب فيه شيئًا بحد زعمه. ويبدو أن ابن قدامة قد تأثر في كتابه بالفكر اليوناني في تنظيمه للكتاب؛ إذ جعله فصولًا ثلاثة، أما الفصل الأول: فبدأه بتعريف الشعر وببعض مقدمات ضرورية ثم بيان أجزائه، وأما الفصل الثاني: فتحدث فيه عن نعوت الجودة في الشعر، وأما الفصل الثالث: فخصه بعيوب الشعر، ونعوت رداءته. في الفصل الثاني الذي خصه بنعوت الجودة مضَى يوزعها على عناصر الشعر مفردة ومرتبة بالصورة التي صورها آنفًا، وبدأ باللفظ فقال: إن نعت جودته أن يكون سمحًا سهلًا مخارج الحروف من مواضعها، عليه رونق الفصاحة مع الخلو من البشاعة.

ونلحظ أنه يستمد من الجاحظ في بيانه كما يستمد من ابن قتيبة في حديثه عن حسن اللفظ بمقدمة كتابه (الشعر والشعراء). ثم بعد ذلك انتقل يتحدث عن نعت المعاني، ولاحظ أن أغراض الشعر كثيرة، من ثم اكتفى منها ببيان الأغراض المهمة، وهي المدح والهجاء والمراثي والتشبيه والوصف والنسيب، ثم راح يقول: إن هذه الأغراض التي ذكرها إنما هي وجوه من جملة معاني الشعر، أما ما يعم جميع تلك المعاني فإنه سيعنَى بذكره وبيانه، وأول ما يعنى به من ذلك صحة التقسيم، وهو أن يستوفي الشاعر جميع الأقسام لما ابتدأ به، ثم بعد ذلك تكلم عن صحة المقابلات، وتحدث فيما بعد عن صحة التقسيم، هو أن يذكر الشاعر في بيت معنيين متقابلين في إجمال، ويفسرهما ويستوفي شرحهما، إما في الشطر الثاني المقابل، وإما في بيت لاحق. تحدث بعد ذلك في نعوت الجودة عن عناصر الشعر الأربعة: اللفظ والمعنى والوزن والتقفية، واستطاع من خلال ذلك أن يصل إلى ثمانية عشر محسنًا، هي على الترتيب: الترصيع والغلو وصحة التقسيم وصحة المقابلات وصحة التفسير والتتميم، وقد ضمنه ما سماه ابن المعتز بالاعتراض والمبالغة والإشارة والإرداف والتمثيل، وقد سمي بعده باسم المماثلة، والمطابق وسمي بعده باسم التعطف، والتوشيح، وقد وسع معناه بالقياس إلى ما سماه ابن المعتز باسم رد الأعجاز على ما تقدمها، والإيغال والتكافؤ، إلى غير ذلك حتى بلغ هذه الثمانية عشر. وكما قلنا: اقتفَى أثره في ذلك أبو هلال العسكري الذي جمع في كتابه (الصناعتين) وغاية ما جمعه سبعة وثلاثين نوعًا، ثم جاء ابن رشيق القيرواني فأضاف إلى ذلك في كتابه (العمدة) ثلاثة وثلاثين بابًا من فضائل الشعر وصفاته وأغراضه وعيوبه، وغير ذلك من أنساب الشعراء وأحوالهم.

ومن المهم -ونحن نعرض المراحل التي مر بها علم البديع، وهي الجهود التي بُذلت لإرساء قواعد هذا العلم من قبل المتأدبين، وأصحاب البديعيات، وغيرهم- أن نرقب مواقف أقطاب البلاغة الذين على أيديهم استقرت علوم البلاغة الثلاثة، وأخص بالذكر من هؤلاء الإمام عبد القاهر وأبا يعقوب السكاكي والخطيب القزويني، وذلك نرى كيف وصلت الدراسات المتعلقة بالبديع على أيديهم وكيف عولجت فنونه وقُسمت. لقد حاول عبد القاهر أن يكشف في كتابه (أسرار البلاغة) عن دقائق الصور البيانية متخللًا لها بنظرات نفسية وذوقية جمالية رائعة، واستطاع أن يصيغ من خلال ذلك نظرية البيان على نحو ما فعل الشيء ذاته في كتابه (دلائل الإعجاز) عندما وضع نظرية المعاني، وهي نظرية النظم، وكان له في كل ذلك باع طويل؛ إذ كان محيطًا بنماذج الشعر العربي وفرائده، وكان له حس مرهف وبصيرة نافذة، استطاع بهما أن يحرر مسائل هذين العلمين، وأن يميز أقسامهما ومباحثهما. إلا أن الملاحظ أنه لم يحاول وضع نظرية في علم البديع، وإن كان فسر القول في (أسرار البلاغة) عن الجناس بأنواعه، والسجع، وحسن التعليل، والسرقات الشعرية، وأشار غير ما مرة إلى الطباق، كما أنه وقف في (الدلائل) على الجناس التام، ولو صنع لأعفى أصحاب البديع من توزع مباحثهم فيه توزعًا حال بينه وبين أن تصبح له نظرية متشابكة، على غِرار نظريتي المعاني والبيان، لكن حسبه أنه حثَّ من خلال ما كتب في (الأسرار) بالذات على عدم التوسع في استخدام هذه الأصباغ؛ حتى لا تصبح الألفاظ حليًا ووشيًا يغمر المعاني بحيث لا تكاد تتضح. وكان ينوه بأسلوب الجاحظ، وأنه لم يكن أثناء كتابته يعمد إلى السجع؛ خشيةَ أن يتجرد عن معانيه ويقول عبد القاهر: إن الكاتب ينبغي ألا يجلبه إلى كتابه إلا أن يأتي عفوا وبدون تعمد في طلبه.

ومن بعده جاء السكاكي في غرة مصنفاته (مفتاح العلوم) وقسمه إلى ثلاثة أقسام أساسية، خص القسم الثالث منها بعلم المعاني والبيان، ثم ألحق بهما نظرة في الفصاحة والبلاغة ودراسة للمحسنات البديعية اللفظية والمعنوية. ومضى الخطيب القزويني بعده في كتاب (الإيضًاح) يعرض علم البديع بمحسناته عرضا أكثر تفصيلًا بالطبع من عرضه له في (تلخيص المفتاح) ومع هذا فهو خير من خلف السكاكي في دائرة تلخيص قواعد البلاغة وتقعيدها، وسرعان ما رأينا من خلفوه يعكفون على تلخيصه بالشرح مرارًا كأنهم رأوا فيه خير ما يجمع تلك القواعد. نخلص مما سبق إلى أن ألوان البديع كانت تأتي في أشعار العرب القدامى عفو الخاطر، وأن مَن وليهم من نحو بشار ومسلم بن الوليد والعتابي وأبي نواس وأبي تمام وابن المعتز وأضرابهم؛ رأوا مواقع تلك الأبيات من الغرابة والحسن وتميزها، فتكلفوا الاحتذاء بها، حتى أضحى البديع صنعة لها روادها، وراح المولعون بهذه الأصباغ وعلى رأسهم الخليفة الشاعر عبد الله بن المعتز، يسجل هذه الألوان التي كثرت في الشعر، واستطاع أن يحولها إلى قواعد وأصول. وقد تبعه في ذلك قدامة بن جعفر، وأبو هلال العسكري، وابن رشيق، ومن سُموا بأصحاب البديعيات، وهم الذين كانوا ينظمون أبياتًا في مدح الرسول -صلى الله عليه وسلم- يضمنونها هذه الأصباغ، وكثرت هذه الأصباغ كثرة فاحشة ومتكلفة، حتى أوصلها بعضهم إلى مائة وخمسين صبغًا بديعيًّا، وقد كان كثرتها سببًا في إسفافها وتجريدها -كما سبق أن ذكرنا- من الرواء والروعة التي كانت تتسم به في أشعار القدامى، وما ذلك إلا لأنها أضحت مؤخرًا تُقصد لذاتها وتأتي بطريق التعمل والتكلف. والسؤال الأن: ماذا يَعني علم البديع في اصطلاح البلاغيين؟ وما هي أهم الجهود التي بُذلت حتى استقام عود هذا العلم، واستوى على سوقه؟ نأمل منكم الإجابة عن هذين السؤالين. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الدرس: 14 منزلة البديع، ومدخله في الإعجاز القرآني - الطباق (1).

الدرس: 14 منزلة البديع، ومدخله في الإعجاز القرآني - الطباق (1).

منزلة البديع بين الدراسات البلاغية، ومدى تبعيته للمعاني والبيان

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس الرابع عشر (منزلة البديع، ومدخله في الإعجاز القرآني - الطباق (1)) منزلة البديع بين الدراسات البلاغية، ومدى تبعيته للمعاني والبيان الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، ثم أما بعد: فنعيش مع أقسام البديع ومنزلته بين علوم البلاغة. أولًا: منزلة البديع بين الدراسات البلاغية: علم البديع -كما هو معروف- واحدٌ من علوم البلاغة الثلاثة "المعاني والبيان والبديع"، وتحتل هذه العلوم مكانة سامية ومرتبة رفيعة بين العلوم الإسلامية والعربية على السواء، فموضع هذه العلوم من علوم العربية أو العلوم الإسلامية موضع الرأس من الإنسان، أو اليتيمة من قلائد العقيان فهو مستودع سرها ومظهر جمالها وجلالها، فلا فضيلة لكلام على كلام إلا بما يحويه من لطائفها ويُودع فيه من مزاياها وخصائصها، ولا تبريز لمتكلم على آخر إلا بما يحوق من وشيها، ويلفظه من دررها، وينفثه من سحرها، ويجنيه من يانع ثمرها، فعلوم البلاغة تعد وسيلة لمعرفة إعجاز القرآن الكريم، فإذا أغفل الإنسان علم البلاغة وأخل بمعرفة قواعدها، لم يستطع أن يدرك سر إعجاز القرآن الكريم، ولم يعرف من أي جهة أعجز الله العرب عن أن يأتوا بسورة واحدة من مثله، وكما أن علوم البلاغة تعد وسيلةً لمعرفة الإعجاز القرآني فإنه لا غنى عنها لمن أراد أن يفهم كتاب الله ويعرف أحكامه، ويتبين حلاله وحرامه غير ذلك من علوم القرآن ومعارف الذكر الحكيم. يقول العلامة صفي الدين الحلي: إن أحق العلوم بالتقديم وأجدرها بالاقتباس والتعليم بعد معرفة الله العظيم معرفة حقائق كلامه الكريم، وفهم ما أنزل في الذكر الحكيم؛ لتؤمن غائلة الشك والتوهم: {أَفَمَن يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّن يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيم} (الملك: 22) ولا سبيلَ إلى ذلك إلا بمعرفة علم

البلاغة وتوابعها من محاسن البديع اللتين بهما يعرف وجه إعجاز القرآن كما يعرف صحة نبوة محمد -صلى الله عليه وسلم- بالدليل والبرهان، وقال مثل هذا كثيرون منهم أبو هلال العسكري والإمام عبد القاهر الجرجاني والعلامة جار الله الزمخشري وأبو يعقوب السكاكي وغيرهم. وقد سبق تناول طرف من هذه الأقوال، وصاحب اللسان العربي إذا أراد أن ينشئ أدبًا -شعرًا كان أو نثرًا- لا يتسنى له ذلك إلا إذا علم بقواعد علوم البلاغة، وجعلها مِصباحًا يهدي خطاه ويسدد قلمه بما يعرفه من تركيب الأساليب الرفيعة وأسباب رفعتها وجمالها، والناقد الأدبي يتخذ من هذه العلوم أمضى أسلحته، فهي هاديه في إدراك الجمال وتذوق الحسن في ألوان الكلام، ولا يمكنه أن يفاضل بين كلام وكلام، ولا أن يبرز ما تضمنه العمل الأدبي من أسباب الجودة أو الرداء إلا بالوقوف على قواعد هذا العلوم، حتى تأتي أحكامه بعيدةً عن الفوضى والتخليط. تلك بإيجاز منزلة علوم البلاغة وأهميتها في مجال الدراسات العربية جميعًا. وعلم البديع له هذه المكانة وتلك المنزلة بين العلوم الأخرى باعتباره واحدًا من هذه العلوم الثلاثة. لكن إذا كانت هذه منزلة علم البديع بين سائر العلوم المختلفة، فما منزلته بين الدراسات البلاغية أو بين علوم البلاغة الثلاثة؟ جعل أبو يعقوب السكاكي منزلة هذا العلم بعد منزلة علمي المعاني والبيان، واقتدى به المتأخرون من علماء البلاغة، فعدوا ألوان البديع وفنونه ذيلًا من ذيول البلاغة وتابعًا من توابعها، فعلم البلاغة عندهم مقصورٌ على علمَي المعاني والبيان، والذي جعلهم يضعون علم البديع هذا الموضع ويُوقعون عليه هذا

الظلم تعريفهم لبلاغة الكلام، فبلاغة الكلام عندهم معناها: مطابقته لمقتضى الحال مع فصاحته وفصاحة أجزائه، فمرجعها أمران: الأول: الاحتراز عن الخطأ في تأدية المعنى المراد. والثاني: تمييز الكلام الفصيح من غيره، والثاني -وهو التمييز- منه ما يتبين في علم متن اللغة أو التصريف أو النحو، أو يدرك بالحس، وهو ما عدا التعقيد المعنوي، وما يحترز به عن الأول وهو الخطأ هو علم المعاني وما يحترز به عن الثاني -هو والتعقيد المعنوي- هو علم البيان، فظهر أن علم البلاغة منحصر في علمي المعاني والبيان. أصبح عندنا أمران يجب الاحتراز للحكم على فصاحة الكلام؛ أولهما الاحتراز عن الخطأ في تأدية المعنى المراد، والثاني تمييز الكلام الفصيح من غيره، فيُحترز عن الخطأ في تأدية المعنى المراد بتعلم علم المعاني، ويُعرف تمييز الكلام الفصيح من غيره بتلافي الغرابة عن طريق تعلم متن اللغة، وتلافي مخالفة القياس "تعلم الصرف" وتلافي ضعف التأليف والتعقيد اللفظي "تعلم النحو" وتلافي تنافر الحروف والكلمات "وذلك بتربية الذوق السليم" وما يزيل التعقيد المعنوي إنما هو تعلم البيان، فأصبح علم البديع بهذا لا موضعَ له في ذهن البلاغيين. وعلى هذا جاء تعريفهم لهذا العلم مبعدًا له عن البلاغة، وجاعلًا إياه ذنبًا، وتابعًا لعلميه، فهو في نظرهم وشم وزينة، وحسن عرضي لا ذاتي، وقد عرفه الخطيب القذويني بقوله: وعلم يعرف به وجوه تحسين الكلام بعد رعاية المطابقة ووضوح الدلالة. وعلق السعد التفتازاني على تعريف الخطيب بقوله: وقوله: "بعد رعاية المطابقة ووضوح الدلالة" تنبيه على أن هذه الوجوه إنما تُعد محسّنة للكلام بعد رعاية الأمرين، ومعنى هذا: أن الكلام الذي خلَا من هذه الألوان وروعي فيه الأمران

-أعني: المطابقة ووضوحَ الدلالة- كلام لا غبار عليه، كما أن الكلام العاري عن واحد من هذين الأمرين أو عنهما معًا يعد كلامًا ساقطًا مهما اشتمل على ألوان البديع وفنونه، وهذا مبني على أن البديع لا صلةَ له ببلاغة الكلام، وأنه خارج عنها، كما صرح بذلك حسن جلبي أحد شراح المطوّل في قوله تعليقًا على قول السعد: هذا إنما يظهر عند التأمل والتذكر للأحكام المذكورة في علمي المعاني والبيان. يقول حسن جلبي: إنما لم يُتعرض للبديع لكونه خارجًا عن البلاغة. وقد أفصح عن هذا أحد الكاتبين معلقًا على تعريف المتأخرين لعلم البديع، وتحديدهم لمنزلته بين العلمين الآخرين، وذلك قوله: منزلة هذا العلم من علمي المعاني والبيان منزلة الطلاء يأتي بعد تمام البناء؛ ذلك أن هذين العلمين يبحثان صُلب المعنى من حيث المطابقة ووضوح الدلالة، فتحسينها للكلام ذاتي؛ لأنه راجع إلى ذات المعنى، أما البديع فتحسينه عَرَضي؛ لأنه يأتي بعد تحقيق ثمرة العلمين الآخرين، ومعنى هذا: أنه إذا خلا الكلام من رعاية المطابقة لمقتضى الحال التي هي ثمرة علم المعاني، أو من رعاية وضوح الدلالة على المعنى المراد التي هي ثمرة علم البيان، كان كلامًا ساقطا لا يعتد به؛ لأنه فقد شرطي البلاغة أو أحدهما، ويكون اشتماله في هذه الحالة على البديع كتعليق الدر على أعناق الخنازير، أما إذا رُوعي في الكلام ثمرة العلمين فإن البديع يكون معهما بمثابة العقد النفيس يزين جيد الحسناء الفاتنة. ومع تصريحهم بتبعية البديع لعلمي المعاني والبيان نجدهم يختلفون في جهة هذه التبعية، وجمهورهم يرى أن هذه التبعية معناها: أن هذا العلم لا يمتّ إلى بلاغة الكلام بأدنى صلة، وبعضهم يرى أن اتصاله بالعلمين المختصين بالبلاغة من

جهة أنه مجرد حلية ونقش وزينة للكلام، أو على حد ما جاء في عبارة بعضهم: أنه لهما بمنزلة الطلاء للدار -كما سبق أن ذكرنا- وتارة يوقعون على وجوه البديع اسم الحلية والعَرَض، وتارة يطلقون عليها اسم اللاحق والذنب الذي لا يمس صميمًا ولا يمثل غرضًا، والذي حملهم على هذا أنهم رأوا نماذج للشعراء والمتأدبين طرقوا فيها بعض فنون البديع، فجنحوا به عن جادة الصواب، وأساءوا إلى البديع بقدر ما أحسن هو إليهم، كما أن الإسراف في تعدد الفنون البديعية كان له دور بعيد المدى في النظرة إلى هذا الفن، فجاء عندهم حليةً وعرضًا وذيلًا وطرفًا، وأنزلوه في غير منزلته. هذا هو رأي المتأخرين ومذهبهم في النظر إلى البديع وفنونه. ونحن لا نسلم لهم هذه النظرة وذلك الرأي؛ لأن كلامهم هذا قائم على أساس نظري لا دليل عليه ولا برهان، اللهم إلا تحديدهم للحدود وتقعيدهم للقواعد، فهم بتعريفهم لبلاغة الكلام، ثم تحديدهم لعلمي المعاني والبيان تحديدًا قائمًا على تفسيرهم لمعنى بلاغة الكلام، بهذا الصنيع أخرجوا علم البديع عن بلاغة الكلام، وجعلوا له هذه المنزلة الوَضيعة. ومنزلة علم البديع ينبغي أن تتحدد بأمرين: أولهما: أثر ألوانه وفنونه في قوة الكلام وبلاغته. وثانيهما: مدخله في الإعجاز القرآني. فإذا رأينا لهذه الألوان أثرًا في بلاغة الكلام، بحيث إذا فقد الكلام ما حواه من هذه الألوان فقد بلاغته، كان هذا حكمًا على ما ذهب إليه المتأخرون بالبطلان، وثبت لألوان البدي منزلة ومكانة لا تقل منزلة علمي المعاني والبيان ومكانتهما، وبخاصة وقد ثبت أن لهذه الألوان مدخلها في إعجاز القرآن الكريم.

وإذا أردنا أن نبحث عن الأمر الأول فلنأخذ بعض الأمثلة البديعية؛ لنتبين هل لهذه الألوان أثر في بلاغة الأسلوب وقوته، أم ليس له مدخل فيهما؟ خذ مثلًا المبالغة التي سموها "التبليغ" في قول ابن الرومي: لو أن بيتك يابن يوسف ممتلٍ ... إبَرًا يضيق بها فناء المنزل وأتاك يوسف يستعيرك إبرة ... ليخيط قَد قميصه لن تفعل وانظر إلى غرض الشاعر من وصف مهجوه بصفة البخل، ترى أن الشاعر لم يقصد وصف هذا البخيل بمجرد صفة؛ لأنها فيه مشهورة معروفة، ولكنه قصد إلى وصفه بمنتهى البخل والبلوغ في هذا الوصف أحط درجاته، فاختار من المعاني ما يؤدي هذا الغرض ويطابقه، فليس أهون من الإبر في البذل والعطاء خصوصًا إذا كانت كثيرات يضيق بها فناء المنزل، وليس أمعن في البخل والشح وأبلغ في الخِسة واللؤم من الضن بإبرة واحدة من هذا الكم الهائل من الإبر على من يستوجب حاله الإيثار والبذل لرفق الخرق وضم الممزق، ولا سيما إذا كان الطالب لهذا الشيء الحقير هو أباه يوسف، ولئن كان الشاعر مبالغًا لهذا الوصف فإن المقام -أعني: مقام الهجاء اللاذع- مما يستدعي توجيه أشنع صفات الذم للمذموم والمبالغة فيها، ولو نقص الشاعر عن هذه الدرجة التي وَصم بها مهجوه من البخل لما وصل إلى غرضه، فالمبالغة فيها داخلة في غرض الشاعر مرتبطة بالحال الذي أراد لكلامه أن يجيء مطابقًا لها، حتى يوصف بصفة البلاغة، وقس على هذا المثال جميع أمثلة المبالغة، وستجدها مرتبطة بالحال والمقام والأغراض التي قيلت فيه. وخذ أسلوب الاستخدام في قول الشاعر: إذا نزل السماء بأراض قوم ... رعيناه وإن كانوا غضابا

وقد قالوا: أراد بالسماء هنا الغيث، وبضميره في رعيناه النبت. وواضح أن إطلاق السماء وإرادة الغيث مجاز مرسل علاقته المجاورة، كما أن إطلاق الغيث؛ يعني الضمير في رعيناه؛ على النبات مجاز مرسل علاقته المسببية، وأيضًا إسناد الرعي إلى ضمير المتكلمين فيه إيجاز بالحذف، أي: رعته إبلنا ومواشينا، وأيضًا قوله: رعيناه، أخصر وأوجز من قوله: رعينا النبات الناشئ عن المطر. أليست كل هذه الألوان في البيت والتي كان لأسلوب الاستخدام مدخلٌ فيها، مما اتفقوا على أنها من علمَي المعاني والبيان؟ ثم فوق هذا فالبيت كله كناية عن شرف هؤلاء القوم ووصفهم بالرياسة وشمول السيادة والسلطان. إذن لو افتقد البيت هذا اللون لأخل بكل هذه المعاني التي قصد إليها الشاعر قصدًا؛ تأديةً لغرضه ومطابقةً للحال التي ساق فيها هذا البيت. وخذ حسن التعليل في قول أبي الطيب المتنبي: ما به قتل أعاديه ولكن يتقي ... إخلاف ما ترجو الذئاب فقد قالوا: أن الباعث على سفك دماء الأعداء هو إهلاكهم والتخلص منهم، حتى يصفو الجو، وتأمن النفس غائلتهم، ولكن الشاعر يرى أن هذا ليس علة لقتل الممدوح أعداءه، وإنما باعثه على قتلهم هو تمكن الكرم من نفسه، حتى صار يتقي إخلاف ما تأمله الذئاب على يديه من اتساع رزقها من قتلاه، ولو تأملت ما قالوه لوجدت أن هذا الصنيع الذي لجأ إليه الشاعر لم يكن لكلامه أن يقوى، ولا أن يقع موقعه من البلاغة بدونه، فهذا الأسلوب -أعني: حسن التعليل- داخل في بلاغة الكلام في صميمها، ويكفي ما علق به إمام البلاغيين عبد القاهر الجرجاني على هذا البيت تدليلًا على ما نقول، فقد قال: اعلم أن

هذا لا يكون حتى يكون لاستئناف هذه العلة المدعاة فائدة شريفة فيما يتصل بالممدوح، أو يكون لها تأثير في الذم، كقصد المتنبي ها هنا في أن يبالغ في وصفه بالسخاء والجود، وأن طبيعة الكرم قد غلبت عليه، ومحبته أن يصدِّق رجاء الراجينا، وأن يجنبهم الخيبة في آمالهم قد بلغت فيه هذا الحد، فلما علم أنه إذا غدا للحرب غدت الذئاب تتوقع أن يتسع عليها الرزق ويخصب لها الوقت من قتلى عِداه، كره أن يخلفها، وأن يخيب رجاءها ولا يسعفها. وفيه نوع آخر من المدح، وهو أنه يهزم العدا ويكسرهم كسرًا لا يطمعون بعده في المعاودة، فيستغني بذلك عن قتلهم وإراقة دمائهم، وأنه ليس ممن يسرف في القتل؛ طاعةً للغيظ والحنط. ولو تتبعنا هذا اللون من كل الأساليب لوجدنا تحته من الأسرار والنكت ما يضع يديك على أثر هذا اللون في قوة الأساليب وبلاغتها. ولو نظرنا إلى أساليب المشاكلة نجد تحتها أغراضًا ومقاصد لا تؤدى بدونها، كالمثال المشهور في المشاكلة قول الأنطاكي: قالوا اقترح شيئًا نجد لك طبخه ... قلت: اطبخوا لي جبة وقميصا ذكر الشاعر خياطة الجبة بلفظ الطبخ؛ لوقوعه في صحبة الطبخ الحقيقي، وهذا هو معنى المشاكلة عند البلاغيين. وإذا نظرنا في ملابسات هذا القول -وهو أمر لا يصح إغفاله؛ لأنه يحدد المقام الذي قيل فيه هذا القول- نجد أن الشاعر كان له إخوان أربعة ينادمهم أيام كافور الإخشيدي، فجاءه رسولهم في يوم قارس البرد وليست له كسوة تقيه شره، فقال له: إخوانك يقرئونك السلام، ويقولون لك: قد اصطبحنا اليوم وذبحنا شاة سمينة، فاشتهى ما نطبخ لك منها! فكتب إليهم: إخواننا قصدوا الصبوح بسُحرة ... فأتى رسولهم إلي خصوصا

قالوا اقترح شيئًا نجد لك طبخه ... قلت: اطبخوا لي جبة وقميصا فقد عبر الشاعر عن الخياطة بالطبخ؛ تشبيهًا لها به في كونها مما ينبغي أن تكون موضع رغبتهم، ومحل عنايتهم، فإذا كانت رغبتهم متجهةً إلى الطبخ ليأكل ما طبخوه، فينبغي أن تكون منهم تلك الرغبة في خياطة جُبة وقميص يقيانه شر البرد، ويعتصم بهما من أذاه، فقد وصل الشاعر إلى غرضه بتنبيههم إلى ما يريد بهذا الأسلوب، مع ما اشتمل عليه من الاستعارة الرائعة. فأليس هذا كافيًا في أن تكون المشاكلة لها قوة وأثر في بلاغة الأسلوب وسموه ورفعته؟ وأبعد من هذا فإن أساليب المشاكلة معدودة في المجاز المرسل، وإذا رجعتَ إلى الأمثلة التي ذكرها البلاغيون في هذا النوع من المجاز لعلاقة السببية، لوجدتها جميعًا أمثلةً للمشاكلة، وما قيل فيما عرضنا له من الألوان يقال في كل ألوان البديع وأساليبه؛ ولذا فإنا نكتفي بهذا القدر من الأمثلة دليلًا على أن البديع لا يكون في الكلام إلا ووراءه حال تقتضيه، وتحته ملحظ يدعو إليه، وإذا اقتضته الحال ودعا إليه غرض أو مقصد صار حسنه ذاتيًّا يهبط الكلام إذا فقده، ومن ثم فإن لهذه الألوان أثرًا في قوة الكلام، ومدخلًا في بلاغته. وقد أكمل الفخر الرازي في (نهاية الإيجاز) نظرة الشيخ عبد القاهر في باب النظم الذي يتحد في الوضع ويدِق فيه الصنع، فأدرج الطباق والمقابلة ومراعاة النظير وبعض الألوان البديعية الأخرى من مقتضيات الأحوال وموجبات الأغراض، ولذا فليس بغريب أن نجد واحدًا من البلاغيين -وهو صاحب (الطراز) - يربط بين البديع والمجاز، فيشترط في البديع أن يكون الكلام في مرتبة المجاز؛ لأن المجاز يقوم على الاتساع في الكلام والافتنان فيه، فيقول: من شروط البديع أن يكون

مدخل البديع في الإعجاز القرآني.

واردًا في المجاز، فلا يعقل البديع إلا إذا كان الكلام واقعًا في رتبة المجاز، فإذا ما كان من الكلام موضوعًا على أصل حقيقته فلا مدخلَ له فيه. ويؤيد ما ذكرناه ويوضحه أن السعة في الكلام والافتتان فيه، إنما يكون حاصلًا بالدخول في الأنواع المجازية، فأما الحقائق فهي قليلة بالإضافة إلى المضطربات المجازية، وهو الذي أوجب انشعاب البديع إلى تلك الأصناف التي أسلفناها، فإنه لم يقع اختلافها إلا لما تعلق به من التصرف في المجاز والدخول فيه كل مدخل؛ ولهذا فإن العرب يمتازون في كلامهم عن العجم بهذه الخَصلة، ولعلنا فيما ذكرناه من أبيات شعر فيما مضى خير دليل على هذا. مدخل البديع في الإعجاز القرآني نجد أن فنون البديع لا تقل شيئًا في إظهار روعة القرآن وسر فصاحته وبلاغته عن مسائل علمي المعاني والبيان، وأن ألوان البديع يستدل بها على إعجاز القرآن الكريم، كما يستدل على إعجازه بمسائل التقديم والتأخير والحذف والتشبيه والاستعارة، وما إلى ذلك من مسائل العلمَين المعاني والبيان. ولنأخذ بعض الأمثلة على ذلك؛ ليتضح لنا مدى أهمية البديع في فهم كلام الله -عز وجل- وفي الطباق مثلًا في قوله تعالى: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (آل عمران: 26) تجد الآية قابلت بيت: {تُؤْتِي}، و {تَنْزِعُ} وبين: {تُعِزُّ}، و {تُذِلُّ}، وإذا عرفنا أن الغرض من الآية هو تصوير القدرة في أوسع معانيها وبيان السلطان في أشمل مظاهره وأكملها، فإننا ندرك أن هذا الغرض لا يتم إلا بالجمع بين الضدين والحكم بأنه يقدر سبحانه على الأمرين

معًا: الإيتاء أو ما في معناه، والنزع أو ما في معناه. وكذلك الإعزاز والإذلال بشتى وجوههما. ولما كان مقياس الذاتية والعرضية عند المتأخرين من علماء البلاغة وعدم استقامة الأغراض بفقدان الأول واستقامتها بفقدان الثاني، كان جديرًا بنا أن نعرض الطباق على هذا المقياس ونجعله حُكمًا فيه؛ لأنك إذا طبّقت هذا على مثل تلك الآية الكريمة من أساليب، اقتنعتَ أن ذكرى المقابل لا محيص عنه في صياغة مثل هذا الغرض؛ إذ قد يقدر شخص على الإيتاء ولكنه لا يقدر على النزع، ويستطيع إنسان أن يعز ولكنه قد يعجز عن الإذلال، ومع هذا لا تضن عليه بوصفه بالقدرة، ولكن المضنون به عليه هو الحكم له بالقدرة التامة والسلطان الشامل، فتلك هي التي تستحوذ على الأمرين وتتعلق بالضدين، وهذا كافٍ في إثبات التحسين الذاتي لأساليب الطباق، وعلى غراره تجري أساليب المقابلات. ولو نظرنا إلى أساليب مراعاة النظير مثلًا في القرآن الكريم، مثل قوله تعالى: {الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَان} (الرحمن: 5) تجد هذا الآية جمعت بين الشمس والقمر، وهما متناسبان بتقارنهما في الخيال؛ ولكونهما كوكبين سماويين يبددان ظلام الكون، وإذا كان الغرض من هذا الجمع هو الحكم عليهما بأنهما يجريان في بروجهما بحسبان معلوم المقدار لا يزيدان عليه ولا ينقصان عنه، وبذلك نظام الكائنات واختلاف الفصول والأوقات وحساب الشهور والسنين، كان ذلك الصنيع أخصر الطرق في أداء هذا الغرض، وإيصاله إلى النفوس، نعم، يمكن أن يقال في غير القرآن: الشمس بحسبان والقمر بحسبان، فيكون لغوًا من القول وباطلًا من التأليف؛ لأنه إطناب لا داعي له ولا غرض يستدعيه، فأساليب مراعاة النظير التي عمادها جمع أمر وما يناسبه لا بالتضاد مما تقتضيها الأحوال إذن وتستدعيها الأغراض.

وكما لو تأملنا أسلوب الإرصاد في قوله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} (العنكبوت: 40). فغرض الآية -والله أعلم- نفي أن يكون من الله ظلم للعباد، وإثبات ظلمهم لأنفسهم، وطبيعة الأسلوب الذي يؤدَّى به مثل هذا الغرض أن يدل أوله على آخره وسابقه على لاحقه، ولذلك يقول السبكي: لو وقف القارئ على أنفسهم لفهم أن بعده يظلم، وروي أنه لما بلغت قراءة النبي -صلى الله عليه وسلم-: {ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ} (المؤمنون: 14) قال عبد الله بن أبي سرح: {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} (المؤمنون: 14) فقال النبي -صلى الله عليه سلم-: ((كذلك أنزلت)). فإذا كان الغرض متعلقًا بمثل هذا كان ما أطلقوا عليه اسم الإرصاد عائدًا على الأسلوب بالتحسين الذاتي؛ لأنه مما يقتضيه المقام. والأمثلة القرآنية المشتملة على ألوان البديع أكثر من أن يتسع لها هذا المقام، هي كثيرة ومبثوثة في أساليب القرآن وآياته، وكلها تشهد بأن حسنها ذاتي، داخل في صميم البلاغة، ودال على عظمة القرآن وإعجازه. وقد أكد الدكتور محمد أبو موسى في كتابه (البلاغة القرآنية في تفسير الزمخشري) أكد على أن البلاغة القرآنية يتساوى فيها ألوان البديع وفنون المعاني والبيان، فبلاغة القرآن المعجزة تحيط بكل هذه الألوان والفنون، وذلك في قوله عن ألوان البديع في تفسير الزمخشري: عرَض الزمخشري للمشاكلة وللطباق وللجناس وللمزاوجة وللتقسيم، وغير ذلك، مما جعله المتأخرون من علم البديع، كما عرض لفنون البيان والمعاني، ولا أجد من كلامه ما يدل على أن الألوان التي جعلها المتأخرون من علم البديع دون غيرها من فنون البيان والمعاني، من حيث أثرها في قوة الكلام وبلاغته، وقد نظرتُ في كتابه كله ووقفت عند كل لون ذكره

-يعني: الزمخشري- من هذه الألوان، فوجدته يشير إلى بلاغتها، وإلى أنها فن من كلامه البديع، وطراز عجيب، وأنها من مستغرب فنون البلاغة، ثم يشيد ببلاغة القرآن المعجزة التي تحيط بكل هذا الفنون، وتوجد فيها على أحسن صورة، وأقوم منهج. يقول -يعني: الزمخشري- في المشاكلة: ولله در التنزيل وإحاطته بفنون البلاغة وشعبها لا تكاد تستغرب منه فنًّا إلا عثرت عليه فيه على أقوم مناهجه وأسد مدارجه. ويقول في نوع من أنواع اللف: إنه لطيف المسلك، لا يكاد يهتدي إلى تبينه إلا النّقاب المحدث من علماء البيان. ويذكر -أي: الزمخشري- إعجاب شريح القاضي ببلاغة الشاهد الذي راعى على المشاكلة حين قال له شريح: إنك لسبط الشهادة، فقال الرجل: إنها لم تجعّد عني، فقال له شريح: لله درك وقَبِلَ شهادته، ثم هو يبسط هذه الألوان -أي: الزمخشري- ويحللها ويشرح أسلوبها، وما تنطوي عليه من أسرار ونكت، وهذه طريقته في دراسة فنون البيان والمعاني. انتهى من كلام الشيخ أبي موسى. وقد صرح العلامة صفي الدين الحلي بأن محاسن البديع يُعرف بها كما يعرف بغيرها من ألوان المعاني والبيان ومسائلهما؛ يعرف بها وجه إعجاز القرآن الكريم، وذلك في قوله: لا سبيل إلى فهم القرآن الكريم ومعرفة حقائقه إلا بمعرفة علم البلاغة وتوابعها من محاسن البديع اللتين بهما يعرف وجه إعجاز القرآن، وصحة نبوة محمد -صلى الله عليه وسلم- بالدليل والبرهان. مما سبق يتضح لنا إذن -بما لا يدع مجالًا للشك- أن علم البديع لا يقل منزلةً وشأنًا عن العلمين الآخرين "المعاني والبيان"، فإن مدخله في بلاغة الكلام وقوته وإعجاز القرآن الكريم وسرّ عظمته، جعل له من الفضل والمزية ما لهما، وقد

ذهب البعض إلى أن البديع كان اسمًا لكل فنون البلاغة من عناصر الجمال التي تميز الأدب من غيره، وهذا إمام البلاغيين الإمام عبد القاهر الجرجاني لا يرى البديع إلا وصفًا للبلاغة بمعناها العام، فنراه يقول: وأما التطبيق والاستعارة وسائر أنواع البديع فلا شبهةَ أن الحسن والقبح لا يعترض الكلام بهما إلا من جهة المعاني خاصةً، والاستعارة عنده كالطباق، وسائر ما يحسّن الكلام ويجعل له أثرًا في النفوس ومدخلًا في بلاغته كلها، يطلق عليه اسم البديع، وإذا كان من فرق بين مسائل البديع ومسائل كل من المعاني والبيان، فمن حيث طبيعة هذه الألوان وتلك، فإن ألوان البديع لا ارتباط بينها، فلا تعلق للون منها بالآخر، وعلى عكس ذلك مسائل المعاني والبيان التي نجدها مترابطة متشابكة يتعلق بعضها بالبعض الآخر. يقول الدكتور أبو موسى: لا تحتاج ألوان البديع إلى ما تحتاج إليه فنون البيان من الدراسة والتحليل، فكل لون منها مستقلّ عن صاحبه، فدراسة الجناس غير مرتبطة بدراسة الطباق، ودراسة المشاكلة غير مرتبطة بدراسة السجع، فليس فنّ منها مبنيًّا على فن، وليس فن منها قسيمًا لفن، وذلك بخلاف ألوان البيان التي نجدها متشابكةً، فالاستعارة مبنية على التشبيه؛ فالتمثيل قِسمٌ من التشبيه، والمجاز منه مجاز في الكلمة، ومنه مجاز في الحكم، والمجاز في الكلمة ينقسم إلى مجاز مرسل واستعارة، والكناية أخت للمجاز، وغير ذلك من الروابط التي بين هذه الفنون التي يتفرع بعضها عن بعض، ويستلزم بعضها بعضًا. لذلك كانت مباحث البيان كأنها مبحث واحد، وكانت مباحث البديع كأنها مباحث متفرقة، ومما تجدر الإشارة إليه أن التفرق وعدم الترابط بين ألوان البديع كان سببًا في نُضج هذه الألوان واكتمالها قبل أن تنضج مسائل المعاني والبيان

وتكتمل؛ وذلك لأن مسائل العلمين -المعاني والبيان- نظرًا للترابط القائم بينهما بحاجة إلى نضجٍ عقلي، ومستوًى من الذوق لم يكن ليتهيئا في وقت مبكر، ولم يتهيأ ذلك النضج العقلي والذوقي إلا في منتصف القرن الخامس الهجري على يد الإمام عبد القاهر الجرجاني، بينما كانت مباحث البديع وفنونه قد اكتملت قبل بداية القرن الخامس؛ ولذلك فإن عبد القاهر لم يشغل نفسه بهذه الألوان كما شغل نفسه بدراسة مسائل النظم وألوان البيان. بالنسبة لأقسام المحسنات البديعية نرى أن العلوي -صاحب (الطراز) - قسم ألوان البديع ومحسناته إلى ثلاثة أدوار: الأول: ما كان التحسين فيه راجعًا إلى الفصاحة اللفظية، ومنه ما يرد في المنظوم والمنثور كالتجنيس والترصيع، ولزوم ما لا يلزم، وغير ذلك من أصناف البديع، ومنه ما كان مختصًّا بالمنظوم كالتصريع، فإنه مخصوص بالقوافي لا يرد إلا فيه، وضابط هذا الضرب عند أن كل ما كان متعلقه راجعًا إلى الألفاظ، فهو بفصاحة الألفاظ أشبه. النوع الثاني: ما كان التحسين فيه راجعًا إلى الفصاحة المعنوية كالتفويف والتوشيع، وغير ذلك من الأصناف المتعلقة بعلوم البلاغة، وضابط هذا الضرب أن كل ما كان متعلقًا بالمعاني، فهو من باب الفصاحة المعنوية. القسم الثالث: ما كان التحسين فيه بمعزل عن الفصاحة اللفظية والفصاحة المعنوية على الخصوص، ولكنه ينزل منزلة التتمة والتكملة لهما، ويكون تحسين اللوم وتزيينًا لمواقعهما، وذكر منها (الكمال) و (الاستيعاب) و (الإيضاح) وغيرها، وواضح من تقسيم صاحب (الطراز) أن القسم الثاني الذي ذكره لا جدوى له؛ لأن الأصناف التي أدخلها في هذا القسم بعضها مما يتصل بتحسين المعاني وبعضها مما

يتصل بتحسين الألفاظ. ولذا فإن جمهور البلاغيين يقسّمون هذه المحسنات إلى قسمين: أحدهما: محسنات معنوية، وهي التي يكون التحسين فيها راجعًا إلى المعنى أولًا وبالذات، كالطباق والمقابلة وحسن التعليل وغيرها، وإن كان بعضها قد يفيد تحسين اللفظ أيضًا، لكن تحسينه للفظ لا يكون أصلًا في التحسين بل يأتي ثانيًا وبالعرض، وذلك كالمشاكلة التي هي ذكر الشيء بلفظ غيره لوقوعه في صحبته كما مر في قول الأنطاكي: قالوا اقترح شيئًا نجد لك طبخه ... قلت: اطبخوا لي جبة وقميصا قد عبر عن عن الخياطة بالطبخ وقوعها في صحبته، فاللفظ حسنٌ لما فيه من إيهام المجانسة اللفظية؛ لأن المعنى مختلف واللفظ متفق، لكن الغرض الأصلي جعل الخياطة كطبخ المطبوخ في اقتراحها لوقوعها في صحبته، وكما في العكس في قولهم: عادات السادات سادات العادات، فإن في اللفظ شبه الجناس اللفظي لاختلاف المعنى، ففيه التحسين اللفظي والغرض الأصلي والإخبار بعكس الإضافة مع وجود الصحة، وضابط هذا النوع من المحسنات أنك لو غيّرت بعضَ الألفاظ الدالة عليه والمؤدية له بما يرادفه، لا يتخلف التحسين، فلو قلت في قول الشاعر: وقد أطفئوا شمس النهار وأوقدوا ... نجوم العوالي في سماء عجاج حيث طابق بين أطفئوا وأوقدوا، ولو قلت: وأضاءوا أو أشعلوا، فإن التطابق لا يزال باقيًا والمحسن ما زال موجودًا. ثانيهما: محسنات لفظية وهي التي يكون التحسين فيها راجعا إلى اللفظ وبالذات، وإن حسنت المعنى تبعًا وثانيًا كالجناس في قوله تعالى: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ} (الروم: 55) فالساعة الأولى يوم

الطباق، وأقسامه.

القيامة والساعة الثانية واحدة الساعات الزمنية، فالتحسين كما ترى للفظ وإن كان له مدخل في حسن المعنى وجماله، وضابط هذا النوع أنك لو غيرت اللفظ بما يرادفه ذهب التحسين واختفى المحسِّن فلو قلت في قول الشاعر: عضنا الدهر بنابه ... ليت ما حل بنا به لو قلت: ليت ما أصابنا أصابه، لذهب الجناس واختفى التحسين. وعلى ما هو معلوم فإن التسليم بهذه الأقسام منوط ومرتبط بألا يقلل بعضها من شأن بعض؛ لأن ما يكون متعلقًا باللفظ بالذات قد يظن فيه العرضية، وعلى أي حال فسوف نعرض لبعض هذه المحسنات، متوخين السهولة والوضوح، والإكثار من الشواهد؛ قصدَ الكشف والتوضيح لهذه الألوان. لكن قبل ذلك نود أن نبين أن خلاصة ما سبق: أن منزلة البديع في مجال الدراسات الإسلامية والتعرف على أسرار القرآن ودلائل إعجازه، لا تقل شأنًا عن منزلة أخويها المعاني والبيان، بل ولا عن غيرها من سائر العلوم العربية والدينية، وأن القول بغير ذلك أو بجعلها تابعةً لأخويها أو ذيلًا لهما أو بجعل حسنهما عرضًا لا ذاتًا، كلامٌ ينقصه الدقة، ولا يتفق مع النظرة العلمية للأمور، وقد ذكرنا من الأدلة على ذلك ما به تقام الحجة. وسؤالنا: اذكر من الأدلة ما يدل على ذلك؟ وكيف ترد على مَن قال بسواه؟ نأمل أن تجيبوا عن هذين السؤالين قبل أن نخوض في ألوان البديع؛ لأن هذه المقدمة هي من الأهمية بمكان. الطباق، وأقسامه ونبدأ في أول هذا الألوان وأشهرها وأعرفها، وهو الطباق؛ لنتعرف على معناه لغةً واصطلاحًا، ونتعرف على أقسامه من حيث الإيجاب والسلب، وعلى أقسامه كذلك من حيث التضاد والاتفاق بين المعاني. الطباق: ويسمى المطابقة والتطبيق والتضاد والتكافؤ: من المحسنات المعنوية، فالطباق أو المطابقة كلاهما مصدر للفعل طابَق، يقال: طابقت بين الشيئين إذا جعلتهما على حذوٍ واحد، وألزقتهما، وطابق بين قميصين: لبس أحدهما على الآخر، وطابق الفرس في جريه: إذا وضع رجله في موضع يده، والطبق: غطاء كل شيء، والجمع أطباق، وطبق كل شيء: ما ساواه، وطبق الماء وجه الأرض

أي: غطاه، وأصبحت الأرض طبقًا واحدًا: إذا تغنى وجهها بالماء، وأصبح الماء طبقًا للأرض، في حديث الاستسقاء: ((اللهم اسقنا غيثًا مغيثًا وطبقًا)) أي: مالئًا للأرض مغطيًا لها، السموات الطباق: التي بعضها فوق بعض وفي التنزيل {أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا} (الملك: 3). فالمادة إذن تدور حول الموافقة والمساواة والمناسبة. والتضاد: تفاعل من ضاد الشيء الشيء أو ضدّه في الخصومة، أي: خالفه فهما متضادان، وضد الشيء خلافه والجمع أضاد. هذا هو معنى الطباق في لغة العرب. أما معناه في الاصطلاح: فهو أن تجمع في الكلام الواحد أو ما هو كالكلام الواحد في الاتصال بين معنيين متقابلين في الجملة. والمراد بالتقابل عند البلاغيين: أن يكون بين المعنيين مطلق تنافي دونما نظر إلى نوع هذا التنافي أو مقداره، فالتقابل بهذا المعنى الواسع لا يُشترط أن يكون التنافي فيه من جميع الصور، أو من كل الوجوه، بل يكفي أن يكون في الجملة ودون تفصيل، ولذا كان التعريف مقيدًا بهذا القيد، الذي يفسح الدائرة ويوسعها لا ليغلقها أو يضيقها، وهو قيد في الجملة، وقد أفاد التقييد بهذا القيد أمرين هامين: أولهما: ألا يشغل الدارسون بالهم بتعيين مقدار التنافي بين المعنيين، كتحديد نوع العلاقة بينهما، سواء كانت بالتضاد أو التناقض أو غيرهما، إذ يكفي التنافي في الجملة؛ ليتحقق بين المعنيين مفهوم المطابقة. ثانيهما: أن هذا القيد جعل التطابق والتنافي بين المعنيين يكفي أن يكون في بعض الصور، فمن المعلوم أن المتقابلين في بعض الصور إنما يعني التنافي بينهما باعتبار

ذلك البعض من الصور، أما باقي الصور فلا يُنظر إليها؛ لعدم الحاجة إليها في تحقيق المطابقة بين المعنيين. وعلى هذا، فإن التقابل يتسع ليشمل كل أنواع العلاقات بين المعنيين، التي تجعل بينهما قدرًا ما من التنافي، ومن أهم هذه الأنواع: التقابل الحقيقي، كتقابل الأمرين اللذين بينهما غاية الخلاف لذاتيهما كتقابل القِدم والحدوث، فلو جمع بين هذين المعنيين في كلام أو ما يشبه الكلام في الاتصال، كان الكلام مشتملًا على المطابقة، وعليه مقابلة الإحسان بالإساءة في قول الشاعر: يجزون من ظلم آل الظلم مغفرةً ... ومن إساءة أهل السوء إحسانا فالإساءة والإحسان معنيان بينهما غاية الخلاف لذاتيهما، فكان تقابلهما تقابلًا حقيقيًّا. النوع الثاني من التقابل: التقابل الاعتباري: كتقابل الإحياء والإماتة، فليس بين الإحياء والإماتة تقابل حقيقي، لأنهما لا يتقابلان إلا باعتبار بعض الصور، وهو أن يتعلق الإحياء بحياة جِرم في وقت، والإماتة بإماتته في ذلك الوقت، وإلا فلا تقابل بينهما باعتبار أنفسهما، ولا باعتبار التعلق عند تعدد الوقت، ومع ذلك فوجود هذا النوع من التقابل كافٍ في تحقيق المطابقة متى وُجد؛ لذا نراه في قوله: {أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ} (الأنعام: 122) فسنرى كيف كان الخلاف محتدمًا بسبب هذه الأشياء التي لا تُراعى في أنواع التقابلات. النوع الثالث من أنواع التقابل: التقابل بالتضاد: كتقابل البياض والسواد على الجرم الواحد الموجود بِناءً على أنهما وجوديان، وذلك كقوله:

فالوجه مثل الصبح مبيضٌّ ... والفرع مثل الليل مسودٌّ ضدان لما استجمعَا حسُنَا ... والضد يظهر حسنه الضدُّ فالتقابل بين البياض والسواد في البيت حقق المطابقة بينهما. النوع الرابع من أنواع المقابلات: تقابل الإيجاب والسلب: كتقابل مطلق الوجود وسلبه، كالذي نراه في قوله تعالى مثلًا: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُون * يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} (الروم: 6، 7) فهذه الآية ليس فيها تقابل على الحقيقة بين العلم المنفي والعلم المثبت، ولكن بينهما تقابل في الجملة إذا أخِذَا على الإطلاق. النوع الخامس من أنواع التقابلات: تقابل العدم والمِلك: كتقابل العمَى والبصر، والقدرة والعجز بناء، على أن العجز نفي للقدرة عمن من شأنه الاتصاف بالقدرة وعليه قوله تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ} (الرعد: 16) فالأعمى والبصير بينهما مطابقة؛ لأنهما متقابلان أو متنافيان؛ لتنافي العمى والبصر. النوع السادس من أنواع التقابلات: تقابل التضايف: كتقابل الأبوة والبنوة، وقيل: إن الجمع بين الأبوة والبنوة من باب مراعاة النظير وليس طباقًا، ورُدَّ: بأن مراعاة النظير يكون فيما لا تنافي فيه كالشمس والقمر، بخلاف ما فيه التنافي كالأبوة والبنوة، ونجد هذا النوع الذي تحقق به المطابقة في قوله تعالى: {آبَآؤُكُمْ وَأَبناؤُكُمْ لاَ تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا} (النساء: 11). وعلى الجملة، فإن التقابل يشمل كل ما يشعر بالتنافي لاشتماله بوجه ما على ما يوجب التنافي كما ترى ذلك في قول أبي تمام: مها الوحش إلا أن هاتا أوانس ... قنا الخط إلا أن تلك ذوابل

فقد طابق الشاعر بين هاتا وتلك؛ لما في هاتا من القرب، وتلك من البعد، وهذا كافٍ في تحقيق التنافي الموجب للمطابقة. ومن ثم فقد جاء تعريف الآمدي للطباق مؤكدًا لهذا العموم في التنافي، حيث عرفه: بأنه مقابلة الحرف لضده أو ما يقارب الضد، وما سبق ليس تقسيمًا للطباق ولا للعلاقة التي تكون بين معنيين متقابلين، وإنما هو محاولة لحصر أنواع العلاقة بين المعنيين أو ذلك القدر من التنافي الذي يحقق المطابقة بين معنيين. ونحن إذا نظرنا إلى معنى المطابقة في لغة العرب ومعناها في اصطلاح البلاغيين، نجد المناسبة بين المعنيين واضحةً جليةً، متينةً قويةً؛ لأن المتكلم وفّق بين المعنيين المتقابلين كما يوفّق بين الشيئين المختلفين، فيُجعلَا على حذو واحد، أو كما يوفّق بين القميصين فيجعل أحدهما فوق الآخر، وجعل المتكلم الضدين متوافقين حيث وفّقا في جملة واحدة واستويَا في ذلك مع بُعد الموافقة بينهما، أشبه بوضع الغطاء على الشيء؛ حيث جُعل الشيء متوافقًا مع غطائه وملتحمًا معه، كما أنه أشبه بوضع الفرس رجله في موضع يده؛ لأن يده ورجله المتقابلتين إذا التقتَا في موطئ واحد وجمعَا في مجمع واحد، فقد حصل بينهما توافق وتناسق. وعلى الجملة، فإن مادة المطابقة إذا كانت تدور في لغة العرب حول الموافقة والمساواة، فإن المتكلم المطابق في كلامه يوافق بين المعنيين المتقابلين، ويسوي بينهما. وبذا نكون قد وقفنا عند هذه الضوابط التي بها نستطيع أن نتعرف بعض الشيء على هذا اللون المهم من ألوان البديع. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الدرس: 15 الطباق (2).

الدرس: 15 الطباق (2).

تعريفات أخرى للطباق، وصوره.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس الخامس عشر (الطباق (2)) تعريفات أخرى للطباق، وصوره الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، ثم أما بعد: سبق أن ذكرنا أن الطباق لغةً: الموافقة والمساواة والمناسبة؛ لأن الفعل طابق يدور حول هذه المعاني، ثم ذكرنا أنه في اصطلاح البلاغيين معناه: أن تجمع في الكلام الواحد أو ما هو كالكلام الواحد في الاتصال بين معنيين متقابلين في الجملة، وذكرنا أن هناك مناسبةً بين المعنى اللغوي والمعنى الاصطلاحي، وأن العَلاقة بينهما تكمن في أن المتكلم وفّق بين المعنيين المتقابلين كما يوفق بين الشيئين المختلفين، فيُجعلَا على حذوٍ واحد، وهناك مناسبة أخرى هي معنى التضاد اللغوي، ومعناه الاصطلاحي أيضًا، فإنهما واضحان في تعريف الطباق، لأن كِلا المعنيين ضد الآخر ومخالف له، وإن كان قد حصل بينهما جمع وتوفيق في كلام واحد، على أن ما سبق من تعريف الطباق عن البلاغيين هو ما ذهب إليه جمهورهم. لكن قدامة بن جعفر -الكاتب- ومعه قوم ذهبوا إلى أن الطباق هو اتحاد الكلمتين في اللفظ مع اختلافهما في المعنى، وقد استشهد قدامة للطباق بشواهد منها قول الأفوه الأزدي: وأقطع الهوجل مستأنسًا ... بهوجل عيرانة عنتريس أي: بناقة سريعة ممتلئة، فقد جاءت لفظة الهوجل في هذا البيت واحدة، ولكنها ذات معنيين؛ لأن الأولى معناها الأرض، وأقطع الهوجل، والثانية معناها الناقة، بهوجل عيرانة عنتريس، وكذا قول أبي داود الأيادي: عهدت لها منزلًا دائرًا وإلًا ... على الماء يحملن إلا

فإلا الأولى في المعنى غير الثانية؛ لأن الأولى أعمدة الخيام عهدت لها منزلًا دائرًا وإلًا، والثانية ما يرفع الشخوص من السراب على الماء يحملن إلًا، هذا هو معنى الطباق عند قدامة ومن تبعَه. ولا يُخفى أن هذا الذي سماه قدامة طباقًا هو الجناس عند جمهور البلاغيين، أما الطباق عند جمهور البلاغيين فقد نعته قدامة بالتكافؤ، وخصه بهذا الاسم، وهذا الذي صنعه قدامة وأتباعه لم يعجب كثيرًا من نقاد الأدب منهم أبو بشر الآمدي، فقد علق على هذا الصنيع بقوله: لم أكن أحب له أن يخالف من تقدم مثل أبي العباس عبد الله بن المعتز وغيره، ممن تكلم في هذه الأنواع وألَّف فيها، إذ قد سبقوا إلى التلقين. هذا، ويأتي الطباق في الكلام على أربع صور: وهي أن يكون بين اثنين كما في قوله تعالى: {وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُود} (الكهف: 18)، وقوله -عز وجل-: {وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ * وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّور ُ* وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ * وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ} (فاطر 19: 22)، وقوله -جل وعلا-: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ} (البقرة: 179)، وقوله -تبارك وتعالى-: {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ} (الحديد: 3). ومنه قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((فليأخذ العبد من نفسه لنفسه، ومن دنياه لآخرته، ومن الشبيبة للكبر، ومن الحياة للموت، فوالذي نفس محمد بيده، ما بعد الموت بمستعتب، وما بعد الدنيا من دار إلا الجنة أو النار)). وقول علي -رضي الله عنه-: "إن كثرة النظر إلى الباطل تذهب بمعرفة الحق من القلب"، ومنه قول امرئ قيس:

مكر مفر مقبل مدبر معًا كجلمود ... صخر حطه السيل من علٍ وقول القاضي الورجاني: ولقد نزلت من الملوك بماجد ... فقر الرجال إليه مِفتاح الغنى وقول الآخر: إذا نحن سِرنا بين شرق ومغرب ... تحرك يقظان التراب ونائم ولا يخفَى عليك الطباق في هذه الشواهد، وأنه قد وقع بين اثنين كما ترى. الصورة الثانية: أن يكون بين فعلين كما في قوله تعالى: {وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى * وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا} (النجم 43، 44). وقوله -تبارك وتعالى-: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ} (آل عمران: 26)، ومنه قول النبي -صلى الله عليه وسلم- للأنصار: ((إنكم لتكثرون عند الفزع، وتقلون عند الطمع))، لقد طابق بين الفعلين: تكثرون وتقلون، وهناك طباق أيضًا بين الفزع والطمع، ولكنه طباق خفي -كما سيأتي-. ومن أقوالهم قول بشار: إذا أيقظتك حروب العِدا ... فنبه لها عمرَ ثم نَمْ وقول الفرزدق: لعن الإله بني كليب ... ............................. بني كليب: هم قوم جرير: إنهم لا يغدرون ولا يفون لجار يستيقظون إلى نهيق حمارهم ... وتنام أعينهم عن الأوتار ومنه قول الحماسي: تأخرت أستبقي الحياة فلم أجد ... لنفسي حياةً مثل أن أتقدم

وقول الآخر: فإن ساءني أن نِلتني بمساءة ... لقد سرني أني خطرتُ ببالك فالطباق في هذه الشواهد قد وقع بين فعلين. الصورة الثالثة: أن يكون الطباق بين حرفين، كما في قوله تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَت} (البقرة: 286)، وقوله -عز وجل-: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوف} (البقرة: 228)، وقوله: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} (سبأ: 24). ومن التطابق في الحروف قول مجنون ليلى: على أنني راض بأن أحمل الهوى ... وأخلص منه لا عليّ ولا ليَ فالطباق في هذه الشواهد بين على واللام، وبين على وفي في آية سبأ؛ لأن في على معنى المضرة وفي اللام معنى المنفعة، وكذا في "في" معنى الاستفال، وفي على معنى الارتفاع، ومعلوم أن الحرف لا يظهر له معنى إلا مع غيره، فللحروف معانٍ متعددة قد تتضاد وقد تتداخل وقد تلتقي، والمرجع في ذلك هو الاستعمال؛ لأن الحروف لا تستقل بنفسها ولا تظهر معانيها إلا بالاستعمال. الصورة الرابعة من صور الطباق: أن يكون بين اسم وفعل، كما في قول الله تعالى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاه} (الأنعام: 122)، وقوله -عز وجل-: {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى} (البقرة: 260). ومنه قول طُفيل يصف فرسه: بساهم الوجه لم تُقطع أباجله ... يُصان وهو ليوم الروع مبذول هو هنا يصف فرسه بأن عروقه لا تُقطع ولا تتغير من كثرة الجري، ومن ذلك قول الآخر:

قد كان يُدعَى لابس الصبر حازمًا ... فأصبح يُدعى حازمًا حين يجزع فالطباق في هذه الشواهد بين: {مَيْتًا} و"أحييناه" كما في الآية الأولى، وبين: {تُحْيِ} و {الْمَوْتَى} كما في آية البقرة، وبين يُصان ومبذول، والصبر ويجزع، كما في البيتين، فهو بين اسم وفعل كما ترى. هذا والطباق كما يكون بألفاظ استعملت في معانيها الحقيقية، يكون كذلك بألفاظ استعملت في معانٍ مجازية، وحينئذٍ يكون الطباق في كلا المعنيين الحقيقي غير المراد والمجازي المراد، كما مر بنا في الآية الكريمة: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ} أي: ضالًّا فهديناه، فالمعنيان الحقيقيان وهما الموت والحياة متضادان، والمعنيان المجازيان وهما الضلال والهدى متضادان أيضًا، وكما في قول الشاعر أيضًا: حلو الشمائل وهو مرٌّ باسل ... يحمي الزمار صبيحة الإرهاق وقول الآخر: إذا نحن سرنا بين شرق ومغرب ... تحرك يقظان التراب ونائم فالمراد بحلاوة الشمائل لين الجانب، والمراد بالمرارة الشدة، وكذا المراد بيقظان التراب متحركه، وبالنائم الساكن، فالتضاد محقق بين المعاني المجازية غير المرادة وبين المعاني المجازية المرادة. ومنه أيضًا قول الآخر: وقد أحيا المكارم بعد موت ... وشاد بناءها بعد انهدام إذ المراد: لو أكثر العطاء في وقت قل فيه العطاء، فبين الإحياء والموت وبين التشييد والانهدام طباقٌ في معانيها الحقيقية والمجازية على حد سواء. أما إذا كان الطباق بين المعاني الحقيقية فقط دون المجازية المرادة، فيُسمى إيهام التضاد كما سنذكر ذلك تفصيلًا فيما بعد.

أقسام الطباق من حيث الإيجاب والسلب.

ولعلك تلاحظ معي أن طباق الإيجاب يكون بين المعنيين المتضادين سواء كانا مثبتين أو منفيين. أقسام الطباق من حيث الإيجاب والسلب أما طباق السلب فهو الذي يكون بين معنيين متضادين أحدهما مثبت والآخر منفي، أو بين أمر ونهي، وقد دار حول طباق السلب هذا لغطٌ كثير، قد جعله غير واحد من العلماء نوعًا مستقلًّا من أنواع البديع ويرى البعض الآخر ومنهم بن أبي الإصبع أن السلب والإيجاب شيء يختلف عن طباق السلب، وبالنظر في أمثلة طباق السلب عنده نجدها اقتصرت جميعًا على الجمع بين فعلي مصدر واحد مثبت ومنفي. وبالنظر في أمثلة السلب والإيجاب نجدها تقتصر على الأمر والنهي، والأسماء المثبتة والمنفية، وهذا فرق لا تقوم عليه تفرقة بين نوع وآخر. والخطيب القزويني أحد من أدخل السلب والإيجاب في الطباق، وأطلق عليه طباق السلب لكن ضيق نطاقه، فحصره في الأفعال وحدها، حيث أخذ من السلب والإيجاب عند ابن أبي الإصبع الأمر والنهي، وضمه إلى طباق السلب، كما ورد في بديع القرآن لابن أبي الإصبع الذي اقتصر عنده على فعلي مصدر واحد مثبت ومنفي، وشكّل من هذين النوعين وحدهما طباق السلب، مع أن الباب أوسع من ذلك وأبعد مدًى، ويتضح من تعريف الخطيب القزويني للطباق مدى هذا النوع عنده، فقد عرفه في كتابه (الإيضاح) أنه الجمع بين فعلي مصدر واحد مثبت ومنفي، أو بين أمر ونهي، ومثّل للأمر والنهي بقوله تعالى: {فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي} (البقرة: 150) ومثل الإثبات والنفي بقوله سبحانه:

{وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ * يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} (الروم 6، 7)، ثم أردف الإثبات والنفي بخمسة أبيات لشعراء مختلفين، وشواهد النوعين من غير ما ذكر هي في الحقيقة أكثر من أن تُحصى، وفي الإثبات والنفي نجد مثلًا قول الله تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} (الزمر: 9)، وقوله تعالى: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْت} (الأنفال: 17). ومنه قول الحسن -رضي الله عنه-: "أما تستحيون من طول ما لا تستحيون"، ومثله كذلك ما ذُكر من أن ابن عمر -رضي الله عنهما- لما قيل له: ترك فلان مائة ألف، فقال: "ولكنها لا تتركه"، وفي الأمر والنهي نجد قوله تعالى: {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا} (الإسراء: 23)، وقول بعضهم: خف الله خوفًا يشغلك عن الرجاء، فإن الرجاء يشغلك عن الخوف، وفر إلى الله ولا تفر منه، والشواهد على ذلك أكثر من أن تُعد. هذا هو المدى الذي امتد إليه نظر الخطيب في دراسة طباق السلب، فهو عنده محصورٌ في الأفعال وفي الأمر والنهي، وقد كان نظر القدماء إليه أوسع وفهمهم له أعمق للطباق، وقد عرّفه أبو هلال العسكري بقوله: هو أن نبني الكلام على نفي الشيء من جهة وإثباته من جهة أخرى، أو على الأمر من جهة والنهي عنه من جهة أخرى، وما يجري مجرى ذلك. وتعريف ابن أبي الإصبع للطباق يكاد يكون صورة طبق الأصل من هذا التعريف، فطباق السلب بهذا المعنى يتسع للأفعال والأسماء جميعًا، وهذا التعريف الواسع تجد له في فصيح الكلام ما يشهد بصحته. فمن شواهد أبي هلال عليه قول الشاعر: خفيف الحاذي نثال الفيافي ... وعبد للصحابة غير عبدي

فكلمة عبد جاءت مثبتةً مرة ومنفيةً أخرى، ومثله في ذلك قول أبي تمام: إلى سالم الأخلاق من غير عائبٍ ... وليس له مال على الجُود سالم فكلمة سالم جاءت مرة مثبتةً ومرة منفيةً، على الرغم من أن سالم المثبتة تعني سلامة الأخلاق، وسالم المنفية تعني سلامة المال، وبينهما فرق. ومن شواهد ابن أبي الإصبع في الأسماء قوله تعالى: {الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ} (المجادلة: 2)، فهنا أمومة مثبتة وأمومة منفية، ومنه قوله -عز وجل-: {وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَان} (الرعد: 4)، وقوله تعالى: {مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَة} (الحج: 5)، وقوله -عز وجل-: {وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى} (الحج: 2). ومن الطباق في الأسماء قول النابغة: خيل صيام وخيل غير صائمة تحت ... العجاج وأخرى تعلق اللجم وقول مسلم بن الوليد: كيف السلو لقلب راح مختبلًا ... يهذي بصاحب قلب غير مختبل ومنه قول أبي تمام: هب من له شيء يريد حجابه ... ما بال لا شيء عليه حجاب ومنه قول بعضهم: لا تلمني على التي فتنتني ... وأرتني القبيح غير قبيح وهذا باب واسع، وللقدماء فيه لفتات طيبة، ولكن الخطيب ضيق الواسع وحصره في آفاق محدودة بلا ضرورة. وإذا كان الخطيب قد توقف عند الأفعال وحدها في طباق السلب فقد وقف القدماء عند الأفعال والأسماء في السلب

والإيجاب، الذي هو طباق السلب نفسه، وقلما تجد من لفت نظره إلى طباق السلب في الحروف والظروف، مع أن تعريف أبي هلال العسكري للسلب والإيجاب الذي تبعه فيه ابن أبي الأصبع يشمل هذا اللون أيضًا. ولطباق السلب في الحروف شواهد كثيرة ومن ذلك قول الفرزدق: أقول له لما أتاني نعيه به ... لا بظبي بالصرائم أعفرا فحرف الجر الباء جاء مرة مثبتًا ومرة منفيًّا، وإن اختلف مجروره في الحالين، ومنه المثل المشهور الذي جاء على لسان الزباء: بيدي لا بيد عمرو، فحرف الباء هنا جاء مرة مثبتًا وجاء مرة أخرى منفيًّا، وبهذا يتضاد معنياه، ومن ذلك ما ذكره المبرد في (الكامل)، قال رجل لأبي بكر الصديق -رحمه الله-: لأسبنك سبًّا يدخل معك قبرك، فقال: "معك والله لا معي"، يريد أن سبه هو من كسبه وعمله، ومن ثم فهو المجزي عنه. وتستطيع أن تنسج على هذا المنوال في الظروف والحروف ما شئتَ، وستجد أن طباق السلب مستساغ في الحروف والظروف، كما هو مستساغ في الأفعال والأسماء على السواء. ولا يتوقف الأمر في طباق السلب على ما سبق، ولكنه في الحقيقة يمتد ليشمل الجمع بين الأفعال والأسماء إذا صيغتَا من مادة واحدة، وكان أحدهما مثبتًا والآخر منفيًّا، وممن التفت إليه من العلماء القدماء قدامة بن جعفر الذي استشهد ببيت الفرزدق: لعمري لئن قل الحصا في رجالكم ... بني نهشل ما لؤمكم بقليل وقال: فهذا ضرب من المكافأة من جهة السلب وهو يعني اجتماع الفعل قل المثبت مع صلة المشبهة قليل المنفية، ومنهم أيضًا ابن رشيق حين ذكر قول جرير: أتصحو أم فؤادك غير صاح ... ............................

ثم قال: فقوله غير صاح، نقيض تصحو، لولا أنه استفهام لم تُعلم حقيقة محصوله بعد، إلا على مذهب مَن جعل أم بمعنى بل، فكأنه قال لنفسه: بل فؤادك غير صاح، فناقض الصحو ودخل كلامه في المطابقة، وهذا يعني أنه لمح الطباق بين الفعل المستفهم عنه تصحو، وبين الاسم المنفي صاح، ومما هو من هذا الباب قول الله تعالى: {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ} (الرعد: 14). ففي هذه الآية اجتمع فعل المثبت يبلغ واسم المنفي بالغ، وكلاهما يرتد إلى مادة واحدة هي بلغ، من ذلك أيضًا قول ربيعة الرقي يمدح يزيد بن حاتم ويهجو يزيد بن أسلم السلمي: لشتان ما بين اليزيدين في النَّدا ... يزيد بن سلم والأغر بن حاتم يزيد بن سلم سالم المال والفتى ... أخو الأُسد للأموال غير مسالم فقد اجتمع هنا الفعل سالم المثبت مع الاسم مسالم المنفي، ومن ذلك أيضًا قول الحسن بن وهب: لله أيام خطبنا لينها ... في ظلة بالخندريس السلسل من مدامة نغم السماع صفيرها ... لا خير في المعلول غير معلل يغشَى عليها وهو يجلو مقلتي ... باز ويغفل وهو غير مغفل ففي البيت الأخير اجتمع الفعل يغفل المثبت مع اسم الفاعل مغفل المنفي وبينهما طباق سلب، أما في البيت الثاني فطباق السلب بين معلول المثبت ومعلل المنفي، وهما اسمان، فهو من طباق السلب في الأسماء وحدها. وفي قول الشاعر أيضًا: كم من حبة لؤلؤ مثقوبة ... وحبة لؤلؤ لم تثقب

فتجد طباق السلب بين الاسم المثبت مثقوبة والفعل المنفي تثقب، وهو من طباق السلب بين الأسماء والأفعال، ومثل ذلك قول بشار: إذا كنتَ في كل الأمور معاتبًا ... صديقك لم تلقَ الذي لا تعاتبه فقد اجتمع هنا اسم الفاعل معاتبًا المثبت مع الفعل المضارع المنفي تعاتبه، ومنه كذلك قول مسلم بن الوليد: هي البدر يغنيها تودد وجهها ... إلى كل مَن لاقت وإن لم تودد فتودد الأولى مصدر مثبت، وتودد الثانية فعل منفي. ومنه قول الشاعر: والصارم المصقول أحسن حالةً ... يوم الوغَى من صارم لم يصقل فقد اجتمع فيه الاسم المثبت مصقول مع الفعل المنفي لم يصقل، وكذلك منه قول أبي نواس الذي كان يستحسنه ابن دريد: لا جزا الله دمع عيني خيرًا ... وجزا الله كل خير لساني نمّ دمعي فلم يكتم شيئًا ... ورأيت اللسان ذا كتمان فقد التقى فيه الفعل المنفي يكتم، والاسم المثبت كتمان. وهكذا يتبين لنا أنه ما من صورة يصح ورودها في طباق الإيجاب إلا وجدتَ لها صورة أخرى في طباق السلب، الأمر الذي يعني أن الخطيب حين قصر طباق السلب على الأفعال أو بين الأمر والنهي دون طباق الإيجاب الذي عممه وجعله في الأسماء والأفعال والحروف، حجّر واسعًا ولم يكن مصيبًا، فقد ثبت لنا أن هذا غير دقيق، وأن شواهد العربية حافلة بصور طباق السلب في الأسماء والأفعال والحروف، بل في النوعين المختلفين، كما هي حافلة تمامًا بصور طباق الإيجاب في هذه الأنواع ذاتها.

أقسام الطباق باعتبار التضاد والاتفاق في المعاني.

لذا فقد كان جمهور البلاغيين محقًّا عندما رأى طباق السلب كما يكون بين الفعلين يكون بين الاسمين؛ حيث يثبت الاسم مرة ويُنفى مرة أخرى، وقد يكون بين فعل واسم من مادة واحدة، إحداهما مثبتة والأخرى منفية، كما رأينا في الشواهد التي مرت بنا. أقسام الطباق باعتبار التضاد والاتفاق في المعاني والسؤال بعد أن عرفنا أن الطباق هو اجتماع اللفظين المتضادين هو هل يُعد اجتماع المعنيين المتضادين من قبيل الطباق أيضًا؟ السؤال بطريقة أخرى: ما هي أقسام الطباق باعتبار التضاد والاتفاق في المعاني؟ وهل تُعد من قبيل طباق السلب؟ ذهب إلى هذا ابن أبي الإصبع، فقال: ومن شواهد السلب والإيجاب أيضًا قول تعالى: {لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُون} (التحريم: 6)؛ لأنه -عز وجل- سلب عن هؤلاء الموصوفين العصيان وأوجب لهم الطاعة، ومن المعروف هنا أن الذي يقابل المعصية هو الطاعة، وهي مستفادة من فعل المأمور به، أي: أن التضاد هنا بين المعاني وحدها دون الألفاظ، غير أن الناظر في الآية يتبين له عدم وجود تضادٍ بين المعنيين؛ لأن المعصية هنا منفية، وفعل المأمور به مثبت، والمؤدَّى واحد من التركيبين فلا تضاد إذن، ولكن الإمام فخر الدين بن الخطيب يقول في هذه الآية: {لَا يَعْصُونَ اللَّهَ} في الحال، {وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُون} في المستقبل، ومعنى هذا: أن التضاد لا يتم بين معاني التراكيب الموجودة، وإنما يتم بين أشياء خارجة عنها لا تُفهم من التراكيب ولا تدل عليها هذه العبارات والطباق لا يتم إلا بين الألفاظ والمعاني جميعًا، أو بين المعاني وحدها دون الألفاظ، أما ما يتم بين معانٍ لا

تُستفاد من الألفاظ مباشرةً، فلا، ثم إن المستقبل لا يتضاد مع الحال، وإنما الذي يتضاد معه هو الماضي، فمن هنا لم يكن لهذا التأويل وجه مقبول في باب الطباق. غير أن الخطيب القزويني حينما رفض أن يكون في الآية تضاد ذكر كلام الإمام فخر الدين بن الخطيب ورد عليه بما يصلح أن يكون ردًّا على بن أبي الإصبع وليس على الإمام فخر الدين، قال القزويني: قيل: ومنه قوله تعالى: {لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُون} (التحريم: 6) أي: لا يعصون الله في الحال ويفعلون ما يؤمرون في المستقبل، وفيه نظر؛ لأن العصيان يُضاد فعل المأمور به، فكيف يكون الجمع بين نفيه وفعل المأمور به تضادًّا، والذي قال: أن هناك طباقًا بين: {لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُون} هو ابن أبي الإصبع وليس ابن الخطيب. أما السبكي فكان له رأي آخر، فهو ينظر إلى أصول الكلمات قبل النفي؛ فإن كان بينها تضاد فهي تطابق وإلا فلا، يقول: لا يعنون بالطباق أن يكون مضمون الكلام متضادًّا، بل يعنون أن يكون المذكوران بحيث لو جردَا من النفي والإثبات كانَا في أنفسهما متضادين، فالتضاد هنا بين العصيان وفعل المأمور به، ألا ترى أن المصنف وغيره جعلوا من الطباق قوله تعالى: {وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُود} (الكهف: 18) هكذا يقول السبكي، وإن كان تحسبهم أيقاظًا يُفهم أنهم رقود، فيوافق قوله: {وَهُمْ رُقُود} ولا تضاد، كذلك قوله تعالى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاه} (الأنعام: 122)، لو أخذنا الموت والحياة باعتبار الإسناد لَما كان بينهما تضاد، فإن قوله: "كان ميتًا" يُفهم أنه حي لدلالة كان غالبًا على الانقطاع فهو يوافق أحييناه، وكذلك قوله: {فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ} (المائدة: 44) ليس الطباق بين عدم خشية الناس وخشية الله، فإن الذي بينهما تلازم لا تقابل، بل الطباق بين مطلق خشية الناس وخشية الله.

والذي ذهب إليه السبكي هو في الحقيقة بعيد، فالنظر إلى أصل الكلمات دون نظر إلى النفي والإثبات يهدم طباق السلب من أساسه، والسبكي نفسه يعترف أن مقاييسه التي قررها هنا، لا تنطبق على قول الله تعالى: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ * يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} (الروم 6، 7)، فالنظر إلى أصل الكلمات قبل النفي ينفي أن يكون في الآية الكريمة طباق، وأهل الفن يذهبون إلى أنها من الطباق، والأمثلة التي أوردها وأخذ يؤولها لتتفق مع نظرته، لا يستقيم التأويل فيها، وفي الآية الأولى وهي قوله تعالى: {وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُود} حسبان اليقظة إثبات لها، وإن لم يكن يقينًا فهو إثبات راجح، وفي الآية الثانية قوله تعالى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا} يثبت الموت أولًا ثم يحييه الله تعالى، ولو لم يكن هناك موت لما كان هناك معنى للإحياء، فهما أمران ثابتان يقينًا. وفي الآية الثالثة: {فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي} نهي عن الخشية من وجه وأمر بها من وجه آخر، واحتساب المتعلق في التعبير ضرورة، والتضاد بين الأمر بالفعل والنهي عنه، واضح في هذه الآية وفي غيرها. وهكذا يتبين لنا أن ما ذهب إليه السبكي لا يستقيم له ولا يضطرد فيه قياس باعترافه هو. ومن الواضح في هذا اللون أن المعاني لا تتضاد؛ لأن المعنى المضاد يحوله النفي إلى موافقة المعنى الآخر، ووجود اللفظين المتضادين في التعبير يوهم أن هناك تضادًّا، وما دامت حقائق المعاني لا تتضاد في مثل هذا اللون فلا ينبغي أن يدخل دائرة الطباق؛ لأن الطباق قائم أساسًا على التضاد في الجملة بين الألفاظ والمعاني جميعًا، وهذه قاعدة مهمة، أو بين المعاني وحدها على أقل تقدير، والذي معنا

هنا لا يندرج تحت النوع الأول ولا تحت النوع الثاني، فلماذا يصر السبكي إذن على أن يكون من الطباق؟! فالذي إذن تستريح إليه النفس، وأنه يمكن أن يكون هذا اللون ملحقًا بالطباق؛ لأن ملمح التضاد فيه قائم على أساس وجود الألفاظ المتضادة في الجملة، والتوسع في هذا النوع جائز؛ لأن الألفاظ التي معنا لا تتضاد حقيقة فالذي يضاد العصيان هو الطاعة وفعل المأمور به قائم مقام الطاعة ومؤد إليها، ولهذا قلنا أن هذا النوع يتوسع فيه كما يتوسع في الطباق. فليس من الضروري أن تكون الألفاظ التي معنا متضادة على الحقيقة، فكل ما أدى إلى الطباق فهو مقبول، ومما نحن بصدده قول الله تعالى: {الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ} (الرعد: 20)، فحقيقة المعنى في الجملة المعطوف عليها المثبتة يلتقي ولا يتناقض مع حقيقة المعنى في الجملة المعطوفة، ولكن نظرًا لوجود الألفاظ المتضادة في الجملة من الوفاء بالعهد ونقض الميثاق، فإنها يمكن أن تكون ملحقة بالتضاد. وفي قول الله تعالى: {أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ * وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ} (النجم 59، 60) جمعَ بين تضحكون المثبت وضده تبكون المنفي، ونفي البكاء يجعل المعنى غير متضاد مع الضحك المثبت، ولكن وجود اللفظين المتضادين - {تَضْحَكُونَ} و {تَبْكُونَ} - في الأصل يجعل هذا النوع ملحقًا بالطباق، ولا يصح أن يدخل باب الطباق؛ لأن المعاني غير متضادة في الحقيقة. هذا كلام مهم في تحديد معالم الطباق كما تشير إليها هذه الآيات والأحاديث التي نحن بصدد الحديث عنها.

في قولهم: من لم يقدمه حزم أخَّره عجز، نجد كذلك أن حقيقة المعنى في الجملة الأولى متفقة مع حقيقة المعنى في الجملة الثانية، ولكن وجود اللفظين المتضادين في الأصل -يقدم ويؤخر- يجعل هذا اللون أيضًا ملحقًا بالطباق، وأيضًا في قول أبي تمام: ولقد سلوت لو أن دارًا لم تلح ... وعلمتَ لو أن الهوى لم يجهل لا ترى تضادًّا على الحقيقة بين حلم الشاعر وعدم جهل الهوى، ولكن وجود اللفظتين -علمت ويجهل- وهما متضادان على التوسع يجعل هذا اللون ملحقًا بالطباق، وفي قول أبي تمام: ولقد سلوت لو أن دارًا لم تلح ... وعلمت لو أن الهوى لم يجهل لا ترى تضادًّا على الحقيقة بين حلم الشاعر وعدم جهل الهوى، ولكن وجود اللفظين -علمت ويجهل- وهما متضادان على التوسع، يجعل هذا اللون ملحقًا بالطباق وإن لم يكن منه، وفي قول عبد الرحمن بن حسان: ذُممت ولم تُحمد وأدركت حاجتي ... تولى سواكم شكرها واصطناعها لا ترى تضادًّا بين ذُممت المثبتة ولم تحمد المنفية، والذي بين المعنيين هو الاتفاق لا التضاد، ولكن اجتماع ذُممت وتُحمد في البيت يجعل هذا النوع ملحقًا بالطباق، وربما كان هذا هو ما ألمح إليه حازم القرطاجني حينما قال: قد يوجد في الكلام ما صورته صورة الطباق وليس بمطابقة من جهة المعنى كقول قيس بن الخطيم: وإني لأغنى الناس عن متكلَّفٍ ... يرى الناس ضُلالًا وليس بمهتدي فضلالًا المثبت لا يتضاد في المعنى مع المهتدي المنفي، ولو اتحد إثباتًا أو نفيًا لتضاد المعنيان، ومن هنا قال: إن صورته صورة الطباق وليس بمطابقة، وهذا ما سوغ لنا إلحاقه بالطباق. هذا إذا كان المعنيان المتضادان مختلفين، أما إذا اجتمع المعنيان المتضادان كان جميعًا منفيين فقد ذهب ابن أبي الإصبع إلى أن هذه الصورة من طباق السلب حيث يقول: طباق السلب هو أن يأتي المتكلم بجملتين أو كلمتين إحداهما موجبة والأخرى منفية، قد تكون الكلمتان منفيتين، ومثَّل لذلك بقول الفرزدق:

لعن الإله بني كليب إنهم ... لا يغدرون ولا يَفون لجار يستيقظون إلى نهيق حمارهم ... وتنام أعينهم عن الأوتار وفي هذا المقام جمع الشاعر بين كلمتين متضادين "يغدرون ويفون"، وكلاهما منفي، ولا يؤثر في المعنى عنده أن الغدر المنفي غدر مطلق وأن الوفاء المنفي وفاء مقيد، وأوضح منه ذلك الباب الذي عقده ابن فارس في كتابه (الصاحبي) بعنوان: باب نفي الشيء جملةً من أجل عدم كمال صفته، قال فيه: قال الله في صفة أهل النار: {لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَا} (طه: 74)، فنفى عنه الموت؛ لأنه ليس بموت مريح، ونفى عنه الحياة؛ لأنها ليست بحياة طيبة ولا نافعة، وهذا في كلام العرب كثير. ومنه قول الشاعر: من كل بلهاء سقوط البرقع ... بيضاء لم تُحفظ ولم تُضيع فالضدان هنا منتفيان معًا؛ لأن الصفة ليست مكتملة، قريب من ذلك الباب الآخر الذي سماه: باب نفي في ضمنه إثبات، ومثله قوله تعالى: {لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّة} (النور: 35) قال أبو عبيدة: {لَا شَرْقِيَّةٍ} تضحى للشرق، {وَلَا غَرْبِيَّة} تضحى للغرب، ولكنها شرقية غربية يصيبها ذا وذا الشرق والغرب، ومنه قول الشاعر: وأنت مسيخ كلحم الحمار ... فلا أنت حلو ولا أنت مر حيث جمع بين الحلاوة والمرارة، ونفاهما معًا؛ يعني أن فيه ذا وذا. ومؤدَّى ما سبق في طباق التضاد هو أن الطباق على نحو ما يكون بين الألفاظ المتضادة، يكون بين المعاني المتضادة، كأن يجتمع معنيان متضادان ويكون أحدهما مثبتًا والآخر منفيًّا كقوله تعالى: {لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُون} (التحريم: 6) لأن الذي يقابل المعصية الطاعة، وهي مستفادة من فعل

المأمور به، أو يكونَا منفيين كما في قوله تعالى: {لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَا} (طه: 74) فنفى عنه الموت كما قلنا؛ لأنه ليس بموت مريح ونفى عنه الحياة؛ لأنها ليست بحياة طيبة ولا نافعة. هذا كله يدخل في الحقيقة في طباق السلب؛ لأن المعاني المجتمعة متضادة، وهي في الوقت نفسه منفية، فسواء دخل النفي أحد الضدين أو دخلهما معًا فهو من طباق السلب، وقد سبق أن ذكرنا ترجيح رأي الجمهور الذي يرى أن طباق السلب شأنه شأن طباق الإيجاب، كما يكون بين الفعلين يكون بين الاسمين، حيث يُثبت الاسم مرةً ويُنفى مرةً أخرى، وقد يكون بين فعل واسم من مادة واحدة، إحداهما مثبتة والأخرى منفية كما رأينا في الشواهد. على أننا فيما مضى أشرنا إلى صورة واحدة مما يُلحق بالطباق، وهي تلك التي افتقدت التضاد في المعنى. وهناك فيما يُلحق بالتضاد صورتان أخريان: الأولى: أن يُفتقد التضاد في اللفظ والمعنى جميعًا في الكلمات المذكورة، ولكن يكون هناك نوع تعلق بين إحداهما وما يُضاد الأخرى، فمن ذلك قوله تعالى: {أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُم} (الفتح: 29)، فالمذكور هنا الشدة والرحمة، وهما لا يتضادان لا لفظًا ولا معنًى، ولكن الرحمة تتعلق بما يُضاد الشدة، وهو اللين تعلقٌ سببي، فالرحمة مسببة عن اللين، واختيرت الرحمة على اللين؛ لأنها محببة إلى النفوس، والمرء يتعلق بها ويرجوها دائمًا، أما اللين فإنه يُوحي بالضعف والرخاوة، وهذا أمر مستكره في المسلم، ومن ذلك قوله تعالى: {إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ} (التوبة: 50) فالذي معنا هنا الحسنة والمصيبة، ومن الواضح أنهما لا

يتضادان، فالذي يُضاد الحسنة هو السيئة وليست السيئة هي المصيبة، ولكنها أعم منها، فالسيئات قد تكون مصائب وكوارث تصيب الإنسان في نفسه وماله وبنيه، وقد لا تكون كذلك، ولكن إذا لم تكن المصيبة مضادة للسيئة، فإن بينها وبين ما يضادها -وهو الحسنة- علاقة عموم وخصوص. ومن ذلك قوله تعالى: {وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِه} (القصص: 73) وهذه الآية وإن كانت من المقابلة فلا بأسَ من النظر فيما بين السكون وابتغاء الفضل؛ لأنه مما نحن فيه، إننا نرى هنا في الآية تضادًّا ظاهرًا واضحًا بين الليل والنهار، ولكنه ذُكر بعدهما على طريق اللف والنشر: {لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِه}، ولا نجد بين السكون وابتغاء الفضل تضادًّا لا في الظاهر ولا في الباطن، الذي يُضاد السكون هو الحركة، ولكن إذا افتقدنا التضامن بينهما فإننا نجد علاقة سببية بين الحركة وبين ابتغاء الفضل، فابتغاء الفضل مسبب عن الحركة، والعدول عن لفظ الحركة إلى لفظ ابتغاء الفضل؛ لأن الحركة ضربان: حركة لمصلحة وحركة لمفسدة، والمراد الأولى لا الثانية. ومن ذلك قوله تعالى: {أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوه} (المجادلة: 6) فالذي معنا: {أَحْصَاهُ} {وَنَسُوه}، ولا تضاد بينهما لا في اللفظ ولا في المعنى، فإنما يُضاد النسيان هو التذكر، والإحصاء لا يكون إلا عن تذكر تام، فالذي ينسى لا يحصي، إذ لا سبيل له إلى ذلك، أما الله -سبحانه وتعالى- فلا يضل ولا ينسى، ومن هنا جاءت العلاقة بين الإحصاء والتذكر أو بين الإحصاء وعدم النسيان، والأفضل أن يكون مقابل النسيان هو عدم نسيان وليس التذكر، ذلك أن التذكر عادةً لا يكون إلا بعد نسيان -ومعاذ الله أن يلحقه نسيان- فالعلاقة هنا بين الإحصاء وعدم النسيان.

ومن ذلك قول الشاعر: يجزون من ظلم أهل الظلم مغفرة ... ومِن إساءة أهل السوء إحسانا ففي الشطر الثاني طباق ظاهر بين الإساءة والإحسان، ولكن في الشطر الأول نجد الظلم والمغفرة وهما لا يتضادان، فالذي يُضاد الظلم هو العدل أو الإنصاف، ولما كانت المغفرة تجاوزًا عن المجاوزة أو الرد على الظلم كانت قريبة من العدل؛ لأن المجازاة الصحيحة يجب أن تكون مساوية للظلم الواقع عليك، فإذا تجاوز الجزاء مقدار الظلم لم يكن عدلًا وإنما يكون ظلمًا وعدوانًا، ومن هنا اشترطت المثلية في الرد على العدوان في قوله تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُم} (البقرة: 194) وإذا لم يستطِعْ الإنسان أن يزن الرد بميزان دقيق بحيث لا يتجاوز الظلم الواقع عليه، فيقع في العدوان، فأولى به أن يغفر، ومن هنا كانت المغفرة أقرب إلى العدل فألحقت بالطباق. ومن ذلك أيضًا قول بن المعتز: "طلاق الدنيا مهر الجنة". فالذي معنا هنا هو الطلاق والمهر، ولا تضاد بينهما، والذي يُضاد الطلاق هو الزواج، ولكن لما كان الزواج لا يتم بدون مهر كان ذلك قريبًا مما يُضاد الطلاق، فألحق بالباطن. والصورة الثانية التي تلحق بالطباق: هي إيهام التضاد، وهو الجمع بين لفظين يتضادان في ظاهرهما ولكن معنيهما غير متضادة؛ لأنها لم تُستخدم في حقائقها ولم تُنقل إلى معانٍ متضادة للمجاز، فالتضاد هنا تضاد ظاهري فقط، فالطباق لا يقوم على التضاد في ظاهر الألفاظ وإنما يقوم على التضاد في المعاني، ومن ذلك قول مسلم بن الوليد: مستعبر يبكي على دُمنة ... ورأسه يضحك فيها المشيب

فالذي معنا هنا كلمة يبكي وكلمة يضحك، وهما لفظان متضادان من حيث الظاهر، ولو كان المقصود بهما حقائقهما لكان ذلك من الطباق الظاهر، ولكن فعل يبكي هنا هو فقط المستعمل في معناه الحقيقي أما يضحك فلا؛ لأنه عُني به ظهور الشيب في شعر الرأس، ولا تضاد بين البكاء وظهور الشيب في الرأس، ولكن لما عبر عن هذين المعنيين غير المتضادين بلفظين يتضادان في حقائقهما، كان ذلك لاحقًا بالطباق، ولم يكن طباقًا، ومن ذلك قول البحتري في بِركة المتوكل: فحاجب الشمس أحيانًا يضاحكها ... طريق الغيث أحيانًا يباكيها فالذي معنا هنا يضاحكها ويباكيها، وهما متضادان من حيث الظاهر ولكن لا تضاد على الإطلاق بين مضاحكة حاجب الشمس لبركة المتوكل، وبين مباكاة الغيث لها، فاللفظان هنا مجازيان معًا، ولكن تتضاد المعاني الحقيقية لهما؛ ولهذا ألحقا بالطباق كسابقه. والجمع بين الضحك والبكاء على المجاز فيهما أو في أحدهما كثيرٌ في الشعر العربي، خذ مثلًا قول الشاعر: جن النبات في ذراها وزكا ... وضحك المزن به حتى بكى وقول الراضي القرطبي: ضحك المشيب برأسه ... فبكى بأعين رأسه وقول دعبل وهو علَم في هذا الباب: لا تعجبي يا سلمُ من رجل ... ضحك المشيب برأسه فبكى وقول الحسين بن المطير: كل يوم بأقحوان جديد ... تضحك الأرض من بكاء السماء

والضحك والبكاء في كل هذه الصور لم يُعبَّر بهما عن المعاني الحقيقة المتضادة وإن كان في ظاهر الألفاظ تضاد، ومن هنا أطلق على ما كان من هذا القبيل إيهام تضاد وألحق بالطباق، وليس الأمر كذلك في قوله تعالى: {وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى}، فإن هذا من قبيل الطباق؛ لأنهما متضادان لفظًا ومعنًى، ومن ذلك أيضًا قول علي -رضي الله عنه- في الأشعث بن قيس: "وهذا أبوه كان ينسج الشمال باليمين". والذي معنا هنا هو الشمال واليمين، والأسبق إلى الذهن أنهما لفظان متضادان ولكن حينما تتبين المعنى على هذا الأساس تجده بعيدًا؛ لأن اليد الشمال لا تنسجها اليمين، ولكن إذا دققت النظر رأيتَ أن المقصود بالشمال لا بد أن يكون ممن ينسج، والشمال التي تنسج هي التي مفردها شملة، وهي ما يضعها الإنسان على كتفيه أحيانًا، ويلفه على رأسه أحيانًا أخرى، يستدفئ بها في الشتاء ويتزين، وما زالت هذه العادة معروفة إلى الآن في بعض ريف مصر. ولا تضاد بين الشمال التي تنسج وبين اليمين بحال، وإنما ظاهر الألفاظ هو الذي يُوهم ذلك، ومما هو قريب من ذلك قول بعضهم لآخر وقد طُلب منه دينه فأنكر وحلف: طلبت منه اليسار فأعطاني اليمين. فالجمع بين اليسار واليمين هنا يوهم أن هذا من قبيل التضاد، ولكنه في الحقيقة ليس كذلك؛ لأن اليسار هنا المقصود منه الغنى والذي دل على ذلك هو ذكر طلب الدين، والمقصود باليمين هو القسم والذي دل ذلك هو ذكر الحلف، ولولا ذكر هذه المناسبة ما فهمنا منهما هذين المعنيين، ولا تضاد بين الغنى وبين الحلف حتى يكون بينهما طباق، ولكن ظاهر الألفاظ هنا يوهم التضاد. فالذي يُلحق بالطباق على هذا ثلاثة أنواع وليس اثنين كما ذكر كثير من البلاغيين:

الأول: أن يجتمع اللفظان المتضادان وأحدهما مثبت والآخر منفي، فلا تضاد بين معنييهما في الحقيقة كما في قوله تعالى: {لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُون} (التحريم: 6)، فالمعصية منفية وفعل المأمور به مثبت، والمؤدَّى واحد فلا تضاد إلا على تأويل، لا يعصون الله في الحال ويفعلون ما يؤمرون في المستقبل. الثاني: أن يجتمع اللفظان اللذان يتضاد معنياهما الحقيقيان في أصل الوطء ولكن يعبر بهما عن معان غير متضادة، ويكون هذا بالمجاز تارة وبالتورية تارة أخرى في أحد اللفظين، أو فيهما معًا، ومثاله كما ذكرنا قوله تعالى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ} (الأنعام: 122)، فإنه بالنظر إلى كونه كان ميتًا يُفهم أنه حي فهو يوافق أحييناه، والحق أنه أثبت الموت أولًا، ثم الإحياء فيما بعد، وهما على أي حال مجازان. الثالث: أن يجتمع اللفظان وليس بينهما تضاد لا في اللفظ ولا في المعنى، ولكن بين أحدهما وما يُضاد الآخر نوع تعلق كما في قوله تعالى: {أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُم} (الفتح: 29)، فالمذكور -كما قلنا- الشدة والرحمة، وهما لا يتضادان لا لفظًا ولا معنًى، ولكن الرحمة تتعلق بما يُضاد الشدة وهي اللين تعلق سببي. ولنتساءل الآن: لِمَ كان نوع الطباق في قوله تعالى: {لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُون} موضعَ نزاع بين علماء البلاغة؟ وما وجه ذلك النزاع؟ وما السبب فيه؟ مع ذكر مثالين توضح من خلالهما مرادَ البلاغيين بما هو ملحق من التضاد بالطباق. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الدرس: 16 الطباق (3).

الدرس: 16 الطباق (3).

أقسام الطباق باعتبار الظهور والخفاء.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس السادس عشر (الطباق (3)) أقسام الطباق باعتبار الظهور والخفاء الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، ثم أما بعد: القسم الثاني من أقسام الطباق: الطباق باعتبار الظهور والخفاء: كما سبق أن ذكرنا فإن الطباق يقوم على التضاد بين الألفاظ والمعاني جميعًا، أو المعاني وحدها على الأقل، وعليه فإن الطباق إذا افتقد التضاد في المعنى بأن كان أحد اللفظين المتضادين مثبتًا والآخر منفيًّا، أو تضاد معناهما لكن عُبر بهما عن معانٍ غير متضادة، أو لم يكن بينهما تضاد لا في اللفظ ولا في المعنى، ولكن كان لأحدهما بما يُضاد الآخر نوع تعلق؛ فإنه لا يكون طباقًا ولكن يكون ملحقًا بالطباق، وتلك هي صور الملحقات بالطباق. ويُعد، كل ما سبق إلى الآن أحد قسمي الطباق الأساسيين، أما القسم الثاني للطباق فهو باعتبار الظهور والخفاء. ونقول ونكرر: أن التقسيم ليس هدفًا في حد ذاته، وإنما هو فقط لضبط الأصول والقواعد التي ينبني عليها قواعد الطباق؛ لمعرفة ما يندرج تحت هذا اللون وما لا يندرج. ينقسم الطباق باعتبار الظهور والخفاء إلى ظاهر -وقد مر الحديث عنه- وخفي وقد اكتفى الخطيب بهذا الاسم، وذكر للطباق الخفي شاهدين كما في قوله تعالى: {مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا} (نوح: 25)، وذكر أن الطباق هنا بين: {أُغْرِقُوا} و"أدخلوا نارًا". وفي قول أبي تمام: مها الوحش إلا أن هاتَا أوانس ... قنا الخط إلا أن تلك ذوابل قال: طابق بين هاتا وتلك.

ولم يبين الخطيب لهذا التقسيم مقياسًا دقيقًا يمكن الاهتداء به ولم يبين كذلك وجه الخفاء في أيٍّ من المثالين، والآية الكريمة سبق أن تعرض لها أسامة بن منقذ في بديعه حيث قال: وأخفى تطبيق في القرآن الكريم هو قوله تعالى: {مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا}، ولم يزد على ذلك شيئًا، وأما بيت أبي تمام فقد تعرض له القاضي الجرجاني في وساطته حيث يقول: ومن أغرب ألفاظه وألطف ما وُجد منه قول أبي تمام "مها الوحش" ثم ذكر البيت، وطابق بهاتا وتلك، وأحدهما للحاضر والآخر للغائب، فكانا نقيضين في المعنى والمنزلة الضدين، ولعله أراد أن أحدهما للقريب والآخر للبعيد، فعد القريب حاضرًا والبعيد غائبًا، وممن لمح خفاء الطباق من القدماء ابن رشيق حيث يقول: وعدَّ ابن المعتز من المطابقة قول الله -عز وجل-: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاة} (البقرة: 179)، لأن معناه القتل أنفى للقتل، فصار القتل سبب الحياة وهذا من أملح الطباق وأخفاه. خفاء الطباق إذن ليس جديدًا، وإنما هو ضارب في أعماق القدم، وهو راجع إلى أن ملمح التضاد فيه ليس واضحًا، إن المعاني المتضادة إذا ظهرت في الألفاظ المتضادة كان الطباق فيها سهل الإدراك، كما تلمحه بين الليل والنهار، والبياض والسواد، والأول والآخر، والظاهر والباطن، والصدق والكذب والموت والحياة، وما شاكل ذلك، ولكن المعاني المتضادة قد لا تظهر في الألفاظ في قول الله تعالى: {مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا} لا ترى تضادًّا ظاهرًا بين: {أُغْرِقُوا} و"أدخلوا نارًا"؛ لأن الذي معنا هنا جملتان كاملتان وليستا مفردين، والمعاني المتضادة الخفية هنا مأخوذة من التراكيب، وليس من المفردات، فلا تستطيع أن تقول: أن بين أغرق وأدخل أي نوع من أنواع التضاد لا ظاهرًا ولا خفيًّا، ولكن إذا نظرت إلى التركيبين نظرة تأمل، لمحت بينهما نوعًا من التضاد؛ لأنه لولا تعلق الفعلين بمفعوليهما لما تحقق بينهما تقابل، فإن الغرق يستلزم الماء

المشتمل على البرودة غالبًا، والنار مشتملة على الحرارة، والحرارة والبرودة متقابلان. والطباق الموجود بين "هاتا وتلك" في بيت أبي تمام وإن كانا واقعًا بين مفردين، إلا أنه لا تضاد بين لفظين، ولكن التضاد بين القرب المدلول عليه باسم الإشارة "هاتا" وبين البعد المدلول عليه باسم الإشارة "تلك"، وكذلك لا ترى تضادًّا ظاهرًا بين القصاص والحياة، وإنما التضاد بين الحياة والموت. ولكن لما كان القصاص هنا يؤدي إلى الموت؛ ولأن القصاص الذي ورد في آية البقرة قصاص قتل وليس قصاص جراح، كان هناك طباق نفي بين القصاص والحياة، ومن الطباق الخفي ما ذكره ابن أبي الإصبع في قوله: فقد يقع في الطباق ما هو معنوي كقوله تعالى: {إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ * قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ} (يس 15، 16) إذ معناه: ربنا يعلم إنا لصادقون، فالرد على مكذبيهم بأسلوب القصر: {إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ} بقولهم: {رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ} ينقض التهمة من أساسها، ويقوضها؛ لأن أساس الرسالة الأول هو الصدق، فإثبات الرسالة لإنسان يعني إثبات الصدق له، فالرسالة والصدق أمران متلازمان، ومن هنا فُهم معنى الصدق من قولهم: {رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ}. ومن الطباق الخفي قول الأبيرد الرياحي يرثي أخاه بريدًا: سلكت سبيل العالمين وما له ... وراء الذي لاقيت معديٌّ ولا قَصر قال اليزيدي: معدي يعني متقدم، وقصر يعني متأخر، ومعنى هذا أن بين معني معدي وقصر تضادًّا وإن كان هذا التضاد غير ظاهر، فليس كل إنسان قادرًا على إدراك هذا التضاد هنا، فانظر إلى قول سلامة بن جندل:

كنا إذا ما أتانا صارخ فزع ... كان الصراخ له قرع الظنابيب الظنابيب: جمع ظنبوب وهو ظاهر الساق أو عَظْمه، فالمعنى الواضح القريب هنا أن بين صارخ وصراخ جناسًا "اشتقاق"، ولكن مع هذا فإنك لو أمعنتَ النظر تجد أن معنى صارخ هنا يدل على معنى يتضاد مع معنى صراخ؛ ذلك أن معنى البيت: كنا إذا ما أتانا مستغيث فزعًا، أسرعنا في إجابته، قال ابن منظور: ويُقال: عنَى بذلك سرعة الإجابة، وجعل قرع الصوت على ساق الخف في زجر الفرس قرعًا للظنبوب، وقيل: قرع الظنبوب أن يقرع الرجل ظنبوب راحلته بعصاه إذا أناخها؛ ليركبها ركوب المسرع إلى الشيء، والصارخ إذن هو طالب الإغاثة، والصراخ هو الإسراع في إغاثته، وإجابة ندائه، فبينهما طباق معنوي لا يتبينه الناظر بيسر وسهولة. ومن ذلك قول الفرزدق: فلما رأى الحجاج جرد سيفه ... أصر الحروري الذي كان أضمرا فالذي يبدو أن الذي بين أصر وأضمرا هنا ترادفًا، ولكن الحقيقة أن بينهما طباقًا خفيًّا؛ لأنه ليس معنى أصر هنا أخفى أو أضمر، وإنما معناه أعلن، وهذا من الأضداد، وبهذا يكون بين معنيي الكلمتين تضاد، ولكنه تضاد لا يظهر لصاحب النظرة العجلى. ومن أخفى الطباق قول الصاحب في وصف أخوين أحدهما مليح والآخر قبيح -يحيى أحد الأخوين-: يحيى حكى المحيا ولكن ... له أخ حكى وجه أبي يحيا فأبوا يحيى كناية عن ملك الموت، والمحيا يعني به الحياة، ووجه أبي يحيى الذي يُكنى به عن ملك الموت يُفهم منه الموت؛ لأنه ملازم له، ومتى حضر ملك

الموت فقد حضر الموت معه، ومن هنا حدث تضاد خفي بين المحيا وبين أبي يحيى، وهذا التضاد خفيٌّ جدًّا؛ لأنه لا يُتبين إلا بعد كدّ الذهن وإنعام النظر، ومن الطباق الخفي ما جاء في قوله -صلى الله عليه وسلم-: ((لا تقوم الساعة حتى يظهر الفُحش والبخل، ويخوّن الأمين ويؤتمن الخائن، وتهلك الوعول وتظهر التحوت، قالوا: يا رسول الله، وما الوعول؟ وما التحوت؟ قال: الوعول وجوه الناس وأشرافهم، والتحوت: الذين كانوا تحت أقدام الناس لا يُعلم بهم)). وقد وضح هنا بعد تفسير الرسول -صلى الله عليه وسلم- لكلمتي وعول وتحوت أن بين معنييهما تضادًّا، ولم يكن أصحابه -رضوان الله عليهم- وهم من هم فصاحة يعلمون معنى الكلمتين، ولم يعرفوا تبعًا لذلك إن كان بين معنييهما تضاد في المعنى أم لا. وتقسيم الطباق إلى ظاهر وخفي هو المعروف المشهور المتداول، إلا أن محمد بن علي الجرجاني -معاصر القزويني- ثلَّث القسمة، فجعل المطابقة إما ظاهرة وإما خفية وإما تقع في مكانة بين الظهور والخفاء، وحصر المطابقة الظاهرة في طباق السلب وطباق التدبيج -كما سنذكره- وجعل الخفيَّ في ملزوم التقابل كما في قوله تعالى: {أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا} وكالتقابل بين السماء والأرض؛ لتعلقهما بطرفين متقابلين وهما فوق وتحت، كما جعلها في تقابل لازم آخر غيرهما كما في قوله: {أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُم} (الفتح: 29). أما النوع الأخير فقد خرج من الطباق، وألحق به مجرد إلحاق عند شراح التلخيص، والعجيب في هذه القسمة أن يكون الطباق بين السماء والأرض طباقًا خفيًّا؛ ذلك أن التضاد بينهما حتى وإن كان في الأصل رجعًا إلى جهتي فوق وتحت، فإنه يكاد يتساوى في الخطور بالذهن مع التطابق بين هاتين الجهتين شأنَ كثير من المجازات التي أخذت صِبغة الحقائق ونُسيت أصولها الأولى، والمرجح في

التفرقة بين الطباق الظاهر والخفي، هو إن كان التضاد بين الألفاظ والمعاني جميعًا فهو الطباق الظاهر، وهذا لا يتم إلا في التضاد القائم بين المفردات: كالفرح والحزن، والغنى والفقر، والمدح والذم، والقرب والبعد، والأمن والخوف، والظلام والنور، والحب والبغض، وهكذا، وهذا باب يُكتفى فيه بظهور التضاد بين المفردات لفظًا ومعنًى، ولا يتطلب التدقيق في معرفة الفرق بين معاني المفردات والوصول إلى ما يُضادها على الحقيقة. والفرح يمكن أن يُلمح للتضاد بينه وبين الحزن وبينه وبين الغم بدرجة واحدة، أو بدرجة متقاربة، والغِنى والفقر يمكن أن تضع بدلًا منهما اليسار والفقر، والمدح والذم يمكن أن تضع بدلًا منهما المدح والهجاء أو المدح والقدح وهكذا، والقضية في إيثار مضاد على مضاد قضية استعمال، فالأديب حينما يؤثر أحد اللفظين على الآخر فإنما ليصل إلى كمال المعنى، ولكن التضاد يبقى قائمًا مع هذا اللفظ أو ذاك حتى وإن كان أحد اللفظين أقرب إلى الذهن عند ذكر المضاد من صاحبه. ومن العجيب أن يقبل ابن رشيق المطابقة في قول المتبني: فالسلم تكسر من جناحي ماله ... بنواله ما تكسر الهيجاء لأن المراد بالهيجاء الحرب، وهي اسم من أسمائها، فكأنه قال الحرب، فأتى بضد السلم حقيقة، ويرفض الطباق بين الجمال والقبح في قول آخر: وجهه غاية الجمال ولكن ... فعله غاية لكل قبيح لأن القبح ليس ضد الجمال وإنما ضده الدمامة، والقبح ضده الحسن، وابن رشيق ليس من الذين يلتزمون التضاد الحقيقي بين الألفاظ على الطريقة التي اتبعها أبو هلال العسكري في كتابه (الفروق في اللغة)، مأتسيًا في ذلك بالجاحظ في بعض كتبه، وبالرماني في تفسيره، ذكر ابن رشيق قول زهير:

إذا أنت لم تعرض عن الجهل والخنا ... أصبت حليمًا أو أصابك جاهل وقال: لما وجده خلافًا له طابق بينهما كما يُفعل بالضد وإن كان الخلاف مقصرًا عن رتبة الضد في المباعدة، والناس متفقون على أن جميع المخلوقات مخالف وموافق ومضاد، فمتى وقع الخلاف في باب المطابقة فإنما هو على معنى المسامحة وطرح الكُلفة والمشقة. هذا هو مقياس التطابق الظاهر وهو مقياس يتسع لطباق السلب وطباق الكلمات المتناقضة والمتضادة بل والمخالفة أيضًا متى لُمح التضاد بينهما قريبًا لا يحتاج إلى تأويل؛ لأن الأمر مبني على المسامحة وطرح الكلفة والمشقة على حد تعبير ابن رشيق. أما إذا فقد التضاد بين الألفاظ وبقي بين المعاني وحدها فهذا هو الطباق الخفي، يستوي في ذلك أن تُستفاد المعاني المتضادة من لفظين مفردين أو من تركيبين أو من لفظ مفرد وتركيب، والطباق في المعاني وحدها المستفادة من الألفاظ المفردة كالطباق بين قِصاص وحياة في الآية الكريمة، وبين وعول وتحوت في حديث النبي -صلى الله عليه وسلم- وبين هاتا وتلك في بيت أبي تمام، وبين معدي وقصر في بيت الأبيرد، وبين صارخ وصراخ في بيت ابن جندل، والطباق الحادث بين المعاني المفردة وحدها المستفادة من التراكيب كثير كسابقه، والطباق بين: {أُغْرِقُوا} و"أدخلوا نارًا"، ومثله كذلك قول بعضهم: فإن تقتلوني في الحديد فإنني ... قتلت أخاكم مطلقًا لم يكبّل حيث طابق بين قوله: فإن تقتلوني في الحديد، ويعني به فإن تقتلوني مكبلًا، وبين: قتلت أخاكم لم يُكبل، فلا تضاد في الألفاظ المفردة هنا ولكن التضاد بين التراكيب، والطباق بين المعاني المستفادة من لفظ مفرد وتركيب كقول المقنع الكندي:

لهم جل مالي إن تتابع لي غنًى ... وإن قلّ مالي لم أكفهم رفدًا فقوله: تتابع لي غنًى، هو بمعنى قوله: كثر مالي، فالتطابق هنا حدث بين معنيي قل وكثر، بغض النظر عن ذكر الفاعل؛ لأنه لا يؤثر في تضاد المعاني شيئًا، وقل منصوصٌ عليها، وكثر استفيدت من قوله: تتابع لي غنًى، وهكذا يستقيم لنا الطباق الخفي بين المفردات أو بين التراكيب، أو مما بينهما على حدٍّ سواء. إلا أن ابن الأثير يرى أن المقابلة في المعنى دون اللفظ في التراكيب وحدها؛ لأن حقيقة الأضداد اللفظية إنما هي في المفردات من الألفاظ نحو: قام وقعد، وقل وكثر، فإن القيام ضد القعود والحل ضد العقد والقليل ضد الكثير، فإذا تُرك المفرد من الألفاظ وتوصل إلى مقابلة بلفظ مركب كان ذلك مقابلة معنوية لا لفظية، بل إن أمر الطباق الخفي لا يتوقف عند المفردات وحدها أو التراكيب وحدها، أو المفردات والتراكيب معًا، بل إنه ليتجاوز هذا كله إلى الحروف والظروف، حيث نلمح فيه أيضًا طباقًا ظاهرًا أو طباقًا خفيًّا، فالتضاد بين فوق وتحت طباق واضح جلي مثلًا، وكذلك بين قدام ووراء وأمام وخلف وقبل وبعد، وهو واضح كذلك بين "من" إذا كان معناها الابتداء الزماني أو المكاني وبين "إلى" إذا كان معناها الانتهاء الزماني أو المكاني أيضًا. وهو كذلك واضح بين اللام التي يُستفاد منها النفع استفادة واضحة وبين "على" التي يُستفاد منها الضر استفادة ظاهرة كذلك، ولكن إذا قرأتَ قول الله تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُون} (يس: 9) لوجدتَ أن الآية الكريمة وضعت: {مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ} في مقابلة: {مِنْ خَلْفِهِمْ}، ولا تضاد بينهما على الحقيقة، وإنما التضاد الحقيقي بين من أمامهم ومن خلفهم، ولكن الذي آثره النظم الكريم يفيد التضاد، ويزيد على الضد الحقيقي في المعنى، ولهذا أوثر عليه، ومن هنا كان التضاد في هذا المقام خفيًّا،

كان هذا الاستعمال من الطباق الخفي، ومن ذلك قوله تعالى: {إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ} (الأحزاب: 10) فالذي يُضاد فوق هو تحت، ولكن الاستعمال القرآني آثَر عليه أسفل وهو لا يُضاد فوق على الحقيقة، ولكنه يُلمَح فيه معنى التضاد، ومن هنا كان من الطباق الخفي. ومن الطباق الخفي ما ذهب إليه بعضهم من أن مِن تفيد الانتهاء كما تفيد الابتداء، ومثلوا له بقول بعضهم: رأيت الهلال من داري خلال السحاب. وكما يأتي الطباق ويتحقق بين الفعل المبني للمعلوم وقرينه، يأتي كذلك بين الفعل المبني للمعلوم والفعل المبني للمجهول في جملة واحدة، ففي قول الله تعالى مثلًا: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ} (التوبة: 111) نجد أن الفعل يقتل أُسند مرة إلى الفاعل، وجاءت واو الجماعة فاعلًا له، وأُسند مرة أخرى إلى المفعول وجاءت واو الجماعة نائب فاعل له، أي: أن القتل يقع مرة منه ويقع مرة عليه، وهما معنيان متضادان، ومن هنا صح أن تكون هذه الصورة من صور الطباق. ومثل ذلك في الفعل المنفي قوله تعالى: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} (البقرة: 279)، فالفعل: {تَظْلِمُونَ} المنفي وقع مرة مبنيًّا للفاعل وفاعله واو الجماعة، وجاء مرة أخرى مبنيًّا للمفعول ونائب فاعله واو الجماعة نفسه، وهذان أمران متضادان يصح الطباق بينهما في الفعل المنفي كما صح في الفعل المثبت، ولا يبعد أن يكون في عداد ما سبق قول الله تعالى: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا} (البقرة: 269)، فالفعل مرةً جاء مبنيًّا للمفعول

في قوله: {وَمَنْ يُؤْتَ} ونائب الفعل هنا ليس هو الفاعل للفعل في صورته الأولى، وهذا هو الفرق بين هذه الصورة وبين الصورتين الماضيتين، وهو فرق كبير، ولكن إذا لم تكن صريحة في التضاد كما فيما قبلها، فإنها قريبة منهما وشبيهة بهما. ومن ذلك ما روته أم سلمة -رضي الله عنها- من أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان إذا خرج من بيته، قال: ((بسم الله، توكلت على الله، اللهم إني أعوذ بك من أن أذل أو أُذل، أو أضل أو أُضل ... )) فالأفعال: ((أذل))، ((أضل))، ((أظلم))، جاء مرة مرة مبنية للفاعل وفاعله الضمير العائد إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- وهذا مما يعم فيه الخطاب، وفي الصورة الثانية جاء مبنيًّا للمفعول ونائب الفاعل نفسُ الضمير المستتر السابق، والأمر كذلك في الفعل: ((أجهل))، غير أن هناك فرقًا بينه وبين سابقيه، فالفعل: ((أظلم)) و ((أذل)) ... إلى آخره، أفعال متعدية بينما الفعل ((أجهل)) فعل لازم، ولأن الأول تعدت بنفسها؛ لأنه يُصاغ منها المبني للمفعول مباشرة بلا واسطة، ولأن الثاني لازم هو ((أجهل))؛ لأنه يُصاغ منه المبني للمفعول بواسطة حرف الجر، ولكن هذا الفرق لا أثرَ له في تحقق التضاد بين الصورتين. ومن ذلك ما جاء في (عيون الأخبار) من أن المغيرة بن شعبة ذكر عمر بن الخطاب فقال: كان أفضل من أن يُخدع، وأعقل من أن يَخدع"، فالفعل المضارع يخدع جاء في المرة الأولى مبنيًّا للمعلوم وجاء في المرة الثانية مبنيًّا للمجهول، والمسند إليه في الحالين واحد، وهو الضمير المستتر العائد إلى عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- وفي الثانية ينفي أن يقع فعل الخداع عليه؛ لأنه أفضلُ وأعقلُ من أن يقع منه ذلك، ولا ريبَ أن المعنيين متضادان، ومن هنا يمكن أن تدخل هذه الصورة دائرة الطباق.

والشواهد على اجتماع صورتين للفعل الواحد إحداهما يُبنى الفعل فيها للمعلوم والأخرى للمجهول أكثر من أن تحصى، وفي هذا النوع يتحقق التضاد بين الصورتين ويدخل باب الطباق، ونختم هذه النماذج بقول شوقي: يا طَيرُ وَالأَمثالُ تُضـ ... رَبُ لِلَّبيبِ الأَمثَلِ دُنياكَ مِن عاداتِها ... َلّا تَكونَ لِأَعزَلِ أَو لِلغَبِيِّ وَإِن تَعَلـ ... لَلَ بِالزَمانِ المُقبِلِ جُعِلَت لِحُرٍّ يُبتَلى ... في ذي الحَياةِ وَيَبتَلي يَرمي وَيُرمى في جِها ... دِ العَيشِ غَيرَ مُغَفَّلِ مُستَجمِعٍ كَاللَيثِ ... إِن يُجهَل عَلَيهِ يَجهَلِ ففي الأبيات الثلاثة الأخيرة ثلاثة نماذج لاجتماع صورتين للفعل الواحد مرة مبنية للمعلوم ومرة أخرى مبنية للمجهول، والمسند إليه واحد في الصورتين، الفعل الأول يبتلى والثاني يُرمى والثالث يُجهل، غير أن الأخير عُدي -كما سبق أن ذكرنا- إلى نائب الفاعل بحرف الجر؛ لأنه لازم كما جاء في حديث النبي -صلى الله عليه وسلم-. وإذا استقام لنا أمر الطباق بين صورتي الفعل -كما سلف- فإنه سيترتب عليه حتمًا استقامة أمر الطباق بين اسم الفاعل وهو مصوغ من الفعل المبني للمعلوم، واسم المفعول وهو مصوغ من الفعل المبني للمجهول إذا صيغَا من مادة واحدة، ونكتفي هنا من هذه الصورة بقول عبد يغوث الحارثي: أنا الليث معدوًّا عليَّ وعاديًا ... ...................................... فاسم الفاعل عاديًا يعني أن العدوان وقع منه، واسم المفعول معدو عليه يعني أن العدوان وقع عليه، وهما أمران متضادان، ومن هنا حدث الطباق بينهما كما حدث قبل ذلك بين الفعل الواحد إذا جاء مرة مبنيًّا للفاعل ومرة مبنيًّا للمفعول، ولا فرق بين هذا وذاك، ولا يبعد أن يكون منه قول أبي تمام:

قد كانت البيض المآثير في الوغى ... بواتر فهي الآن من بعده بُتر فبواتر جمع باتر وهو اسم فاعل بمعنى قاطع، وبُتر جمع أبتر من معانيه المقطوع أو المنقطع، يقول العباسي: والبواتر السيوف القواطع، والبتر جمع أبتر وهو المقطوع، ويؤيد هذا المعنى هنا قول التبريزي والبتر: التي لا أذناب لها في الأصل، وإنما أراد هنا انقطاع البقية وقلة الخير، فوقوع القطع هنا على الشيء الأبتر قائم معنا سواء أكان هذا الشيء مقطوعًا أصلًا أم وقع الانقطاع عليه بعد ذلك، والانطباع السريع عند سماع البيت يوحي بأن أبا تمام يكشف عن صورتين متضادتين للسيوف؛ إحداهما في حياة المرثي والأخرى بعد وفاته، وهو قريب من بيت عبد يغوث السابق وليس من بابه؛ لأنه في ذلك البيت يتطابق اسم الفاعل مع اسم المفعول لفظًا ومعنًى، وليس الأمر كذلك في بيت أبي تمام. وقد التفت إلى هذا النوع من قبل ابن رشيق وهو بصدد ما اختلط فيه التجنيس والطباق، فقال: معنى هذا الباب قولك فاعل ومفعول، نحو: خالق ومخلوق، وطالب ومطلوب، هما ضدان في المعنى وإن تجانسَا في اللفظ، وكذلك ما كان اسم الفاعل منه مفعِل والمفعول مفعَل، نحو: مكرم ومُكرم، ومعط ومعطًى، وما جرى هذا المجرى أو زاد عليه في البناء. ومن قبل ابن رشيق ذكر الباقلاني قول كعب بن زهير مثالًا للجمع بين طباقين: لعزمة مأمور مطيع وآمر ... مُطاع فلا يُلفَى لِحزمهم مثل فبين مأمور وآمر تضاد، وكذلك بين مطيع ومطاع. ومن الطباق الخفي ما يُسمى بطباق التدبيج، وتعني هذه الكلمة التزيين بطريق النقش والألوان، جاء في (لسان العرب): الدبج: النقش والتزيين، فارسي معرب، والنقش والتزيين يقومان أساسًا على الأصباغ والألوان، وربما جاء من

هذا الوجه مصطلح التدبيج واختص بالألوان وحدها، غير أنهم اشترطوا أن يكون القصد من ذكر هذه الألوان الكناية أو التورية، وقد بحثه جماعة من العلماء على أنه فن مستقل بنفسه كما في (بديع القرآن) و (تحرير التحبير) و (الطراز) و (معترك الأقران)،. وذهب ابن أبي الإصبع إلى أن هذا اللون من مخترعاته وأنه لم يُسبق إليه، لكن الدكتور حفني شرف والدكتور أحمد مطلوب يريان أنه لا فضل له فيه إلا وضع المصطلح وحده، فهو بعينه التورية أو الكناية، أو هو بعينه ما أسماه ابن سنان الخفاجي "المخالف"، أما الدكتور مصطفى الصاوي الجويني فإنه ينفي الشبه بين عمل ابن أبي الإصبع وعمل ابن سنان، فهذا شيء وذاك شيء آخر، وإن جمع بين الأمرين استخدام الألوان، ويسلم مع ابن حجة باختراع ابن أبي الأصبع للتدبيج. وإذا غضضنا الطرف عن المصطلح وسلمناه لابن أبي الإصبع؛ فإننا نجد أن العناية بالألوان والجمع بينها في نص أدبي أقدم من ذلك بكثير، والمقصود بالألوان ما دون السواد والبياض؛ لأن هذين اللونين متضادان على الحقيقة، وأما ما عداهما من الألوان فليس بينهما تضاد على الحقيقة، والذين التفتوا إلى الجمع بين الألوان عالجوها في إطار الطباق، وهذا هو الذي مهد الطريق للقزويني ليعود بالألوان إلى الطباق، غير أن القدماء الذين التفتوا إلى هذا اللون لم يشترطوا في الجمع بين الألوان ما اشترطه المتأخرون. والعجيب في الأمر، أن ابن سنان الخفاجي وابن رشيق -وهما متعاصران زمانًا، متباعدان مكانًا- نظرَا إلى هذا الموضوع نظرة واحدة، وجعلَا دخول هذا الفن -الطباق- على أساس المخالفة وليس على أساس التضاد، وقد ذهب ابن رشيق إلى أن دخول المخالف - الطباق- مبنيّ على المسامحة.

وعلى أي حال، فالكلام في الجمع بين الألوان في نص واحد يعود إلى القرن الرابع الهجري على ما أفاده الإمام الرّماني. الموضوع إذن قديم، ومعالجة الموضوع في إطار التضاد الحقيقي والتضاد غير الحقيقي أو التضاد والمخالفة، أغنى هؤلاء العلماء عن وضع مصطلح مستقلٍّ له، لأن الإطار الذي بُحث فيه هذا الموضوع هو إطار الطباق، وابن أبي الإصبع الذي ذهب إلى أنه صاحب التدبيج ومخترعه، عرفه بقوله: هو أن يذكر المتكلم ألوانًا يقصد الكناية بها والتورية بذكرها عن أشياء من وصفٍ أو مدح أو هجاء أو نسيب أو غير ذلك من الفنون، أو لبيان فائدة الوصف بها، والأساس الذي أقيم عليه التدبيج هنا هو أن تُذكر الألوان بقصد التورية أو الكناية، أما إذا ذُكرت وبقيت على حقيقتها فلا تدخل في إطار التدبيج بحسب هذا التعريف. وذكر بعضهم أن ذكر الألوان باقية على حقيقتها لا يمنع التدبيج كما في قوله: ومنثورُ دمعي غدَا أحمر ... على آسي عارضك الأخضر وكما في قول الصلاح الصفدي: ما أبصرت عيناك أحسنَ منظرًا ... فيما يرى من سائر الأشياء كالشامة الخضراء فوق الوَجنة ... الحمراء تحت المُقلة السوداء والذي ذهب إليه بعضهم هنا صحيح؛ فإن الناظر في شواهد ابن أبي الإصبع نفسه يرى منها ما هو حقيقي، فذكر شاهدين أحدهما من القرآن الكريم، وقد استطاع أن يطبق التعريف عليه، والشاهد الآخر كان من الشعر. وإذا نظرنا إلى الألوان في إطار الطباق كما هو أصل نشأتها وكما هو نهاية مطافها، فإننا نجد أن الأمر فيها قائم على الجمع بين الألوان، وأن قدامَى العلماء بنوا الأمر في الجمع بينها على المخالفة، والمخالفة تدخل في الطباق توسعًا أو تقترب من التضاد،

وإرادة الكناية أو التورية بها ليس هو الذي يحقق فيها وجه المخالفة، وإذا كانت الألوان في شواهد ابن سنان ليست من الحقائق فإنها في شواهد ابن رشيق ما هو من قبيل الحقيقة، وهي داخلة في الطباق، يقول الحسين بن مطير الأسدي: بسود نواصيها وحمر أكفها ... وصفر تراقيها وبيض خدودها ورواية ابن الأنباري وابن الأعرابي للبيت: لصفر تراقيها وحمر أكفها ... وسود نواصيها وبيض خدودها وعلى الرغم من أن هذه الألوان يمكن أن تُحمل على الكناية كأن يُقال: أنه كنّى بها على شباب المحبوبة، ورغد عيشها، وطيب ريحها؛ على الرغم من ذلك فإن حملها على الحقيقة فيما يبدو أقوى؛ لأنها تؤدي نفس المعاني التي تؤديها الكناية، وتزيد عليها وجود حقائق هذه الأشياء في محبوبته. اجتماع الألوان إذن في نص واحد يدخل في باب الطباق على السعة، يستوي في ذلك أن تكون الألوان دالة على الحقيقة أو تكون دالة على التورية أو تكون دالة على الكناية، والأساس الذي تدخل عليه الطباق هو أساس المخالفة، وليس أساس التضاد، والخطيب القزويني يعتد به طباقًا من غير قيد ولا شرط حينما قال: ومن الطباق قول أبي تمام ... ثم ذكر شواهده، ثم قال في آخرها: ومن الناس من سمى نحو ما ذكرنا تدبيجًا، وهو يذكر التدبيج وتعريفه وشروطه على أنه رأيٌ ارتآه بعض الناس لا على أنه شيء يذهب إليه هو، وإذا كان الخطيب لم يستشهد إلا بالأبيات التي تتحقق فيها شروط هؤلاء، فلا يعني هذا أنه يحصر نفسه في هذا الإطار وحده. بل إن صاحب (الإشارات والتنبيهات) جعل الجمع بين الألوان من التضاد الحقيقي ولم يشترط فيه أن يجيء بقصد الكناية أو التورية، حتى وإن كانت

شواهده تنطبق عليها نفس الشروط، ثم انطلق من عد التضاد بينها تضادًّا حقيقيًّا إلى احتساب هذا النوع من التضاد الظاهر كما مضى، أما الاقتصار على الشواهد التي تتحقق فيها الشروط فهي أن العلماء كثيرًا ما ينقل بعضهم عن بعض المسائل والأمثلة، ونحن نجد شواهد هذا اللون في (الإشارات والتنبيهات) هي نفس الشواهد المذكورة في (الإيضاح)، وبنفس الترتيب ما عَدَا شاهدًا واحدًا، وهو قول أبي تمام: تَرَدّى ثِيابَ المَوتِ حُمرًا فَما أَتى ... لَها اللَيلُ إِلّا وَهيَ مِن سُندُسٍ خُضرُ ومحمد بن علي الجرجاني كان معاصرًا للقزويني ومات قبله بعشر سنوات، واطلع على كتابه وتعقبه في كثير من المواضع، وشواهد الخطيب الثلاثة على هذا اللون، هي هي بعينها شواهد يحيى بن حمزة العلوي في (الطراز) وبنفس الترتيب أيضًا باستثناء شاهد واحد هو: وأحببت من حبها الباخلين ... حتى ومقت ابن سلم سعيدًا إذا سيل عرفًا كسا وجهه ... ثيابًا من اللؤم بيضًا وسودًا وعلى الرغم من أن هذا الشاهد يمكن أن يكون من التدبيج؛ لاجتماع الألوان فيه، فإن الجمع بين السواد والبياض يختلف عن الجمع بين الألوان الأخرى؛ لأن هذا من التضاد الحقيقي، ذلك أن السواد والبياض يتضادان على الحقيقة، وليس كذلك الأمر في الألوان الأخرى، وسبق أن قلنا مرارًا: أنها مبنية على المخالفة وليس على التضاد كما ذكر ذلك ابن سنان وابن رشيق. والجمع بين الألوان في التراث القديم قليل مستساغ ولكنه في العصور المتأخرة تبارَى فيه الشعراء والكتاب، وجاء بعضه سائغًا مقبولًا وجاء أكثره متكلفًا مردودًا، وقد خص الثعالبي الباب الحادي عشر من كتابه (التوفيق للتلفيق) لهذا

الفن وحده وإن غلب على الألوان عنده السواد والبياض، وسماه (التلفيق بين ذكر الألوان)،أحصى فيه عددًا كثيرًا من النصوص، وتناثرت في كتابه شواهد أخرى يمكن أن تُضم لما جمعه في هذا البيت، ومما ذكره قول المهلب بن أبي صفرة: خضرة العيش في حمرة الدم ... .......................................... وهذا طباق تدبيج على شرط ابن أبي الأصبع، ومنه قول المتنبي: وخضرة ثوب العيش في الخضرة التي ... أرتك احمرار الموت في مدرج النمل ومنه قول سيف الدولة: وقد نُثرت أيدي الجنوب مطارفَ على ... الجو دكنًا والحواشي على الأرض يطرزها قوس السحاب بأحمر ... على أخضر في أصفر إثر مبيض ومنه قول الثعالبي والصنعة بادية في كل ما ذكر لنفسه: والأرض قد برزت لنا في أخضر ... في أصفر في أبيض في أحمر وقوله: من ملك الصفر احمر ... لونه واخضر عيشه وقوله: قول نعم أحسن من حمر ... النعم تحمل بيض النعم قد عمد فيه إلى بين طباق التدبيج والجناس، وقد نقل عن بعضهم قوله فيما هو أبعد في الصنعة: وصل كتاب فاستلمته استلام الحجر الأسود، وتمتعت منه بالعيش الأخضر، وجمعت يدي على الياقوت الأحمر والباز الأبيض وملك بني الأصفر. وهذا قريب في صنعته مما ذكره الحريري، وقد غالَى فيه مغالاةً شديدةً، وذلك حين قال: فمذ ازور المحبوب الأصفر ... وأغبر العيش الأخضر اسود يومي الأبيض

أثر الطباق وبلاغته في الكلام.

الأبيض ... وابيض فَودي الأسود حتى رثا لي العدو الأزرق ... فيا حبذا الموت الأحمر فالحريري هنا لم يزد على أنه حشَد ما استطاع حشده من الألوان بطريقة فجة، فجاءت متكلفة، وهذا شأن الغلو في الصنعة دائمًا، وأين هذا الاستخدام للألوان من قول الله تعالى: {وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُود} (فاطر: 27)، بل أين هو مما هو أقل من هذا بيانًا وأدنى بلاغةً من كل فصيح بليغ لا يصل إلى درجة الإعجاز كقول عمرو بن كلثوم: بأنا نورد الرايات بيضًا ... ونصدرهن حُمرًا قد روينا إن الألوان هنا جاءت طبيعية في سياقها، تزيد جلاء الصورة ووضوحها وجمالها، ولكنها هناك ليست كذلك كما لاحظنا ذلك ورأيناه. أثر الطباق وبلاغته في الكلام ولو انتقلنا نتحدث عن أثر الطباق وبلاغته في الكلام لطال بنا الوقت، فالجمع بين المتقابلين من الأمور الفطرية المركوزة في الطباع، ولها تعلق وثيق ببلاغة الكلام وأثره في النفوس، فما جاء طباق في الكلام إلا وتعلق به غرض من الأغراض، وذلك باستثناء بعض ما ذكرنا من الأمور المتكلفة، فالأصل ألا يؤدى ذلك الغرض بدونه وهذا هو معنى الذاتية والأصالة التي تكلم عنها علماء البلاغة عندما أشاروا إلى أن مسائل التقديم والتأخير والذكر والحذف والتشبيه والاستعارة وغير ذلك من ألوان علمي المعاني والبيان، لها مدخل في بلاغة الكلام؛ لأن حسنها ذاتي أصيل، وكذا الأمر لو راعينا ذلك في الطباق في كلام الأولين وفي كلام رب العالمين -جل وعلا-.

ونحن إذا تأملنا أساليب الطباق وجدنا لهذا اللون مدخلًا في بلاغة هذه الأساليب وأثرًا قويًّا في قوتها، وأن فقدانه يخل بهذه الأساليب ولا يجعلها مستقيمة، وانظر مثلًا إلى قول الفرزدق: لَعنَ الإله بني كليب إنهم ... لا يغدرون ولا يفون لجار يستيقظون على نهيق حمارهم ... وتنام أعينهم عن الأوتار فالغرض الذي قصده الشاعر هو الحط من شأن هؤلاء القوم والكشف عن ذلاتهم وهوانهم وأن أفعالهم مثيرة للسخرية والاستهزاء، وقد حقق له الطباق ما أراد، ولولا الطباق ما استطاع الشاعر أن يكشف عن غرضه، فهؤلاء القوم عاجزون والعاجز عادةً لا يقدر أن يفعل الشيء وضده، وهم إزاء جارهم لا يقدرون على الوفاء له أو الغدر به، كما كان ذِكْر الأمرين المتناقضين في البيت الثاني دليلًا على هوانهم: يستيقظون على نهيق حمارهم ... وتنام أعينهم عن الأوتار فهذا دليل على هوانهم، وأنهم موضع السخرية، وهم يستيقظون منزعجين إذا نهق حمارهم؛ حذرًا أن يكون هناك لص يأخذ بعض متاعهم؛ لأنهم يخافون عليها خوفًا شديدًا، بينما هم لا يبالون بكرامتهم أن تُنتهك، فأعينهم نائمة عن الثأر لا يعنيهم أن يأخذوا به وفي ذلك أكبر دليل على هوانهم. والطباق في البيت الثاني -كما ترى- جعل الموازنة بين أفعالهم مثيرة للسخرية منهم عند الموازنة بين ما يستيقظون له وما ينامون عنه. هكذا يكون للطباق أثره في إثارة الانفعالات المختلفة في نفس القارئ أو السامع إزاء الأمور المتناقصة، وهذا القدر كافٍ في إثبات أن حسن الطباق حسنٌ ذاتي أصيل، وعلى غراره تجري كل الأساليب المشتملة على هذا اللون. وقد تعجب إذا عرَفت أن الإمام فخر الدين الرازي في نهاية (الإيجاز) أدرج هذا اللون ضمن مسائل النظم،

وهو من مقتضيات الأحوال وموجبات الأغراض، وفضلًا عن هذا فإن الجمع بين الشيء وضده يُضفي على الكلام رونقًا وبهاءً، ويُكسب المعنى حسنًا ونُبلًا، وهو فوق تثبته المعنى في النفس يصف الشيء المتحدث عنه إزاء الضدين المتقابلين، ويجعل لكلٍّ منهما حسنًا لا يكون لهما إذا انفردَا، وهذا هو معنى قول القائل: فالوجه مثل الصبح مبيض ... والفرع مثل الليل مسود ضدان لما استجمعا حسُنا ... والضد يظهر حسنه الضد وما من ريب في أن الجمع بين الأمور المتضادة يكسو الكلام جمالًا ويزيده بهاءً ورونقًا، فمن هنا كانت وظيفة الطباق لا تقف عند هذا الزخرف وتلك الزينة الشكلية، بل تتعداها إلى غايات أسمى، فلا بد أن يكون هناك معنى لطيف ومغزى دقيق وراء جمع الضدين في إطار واحد، وإلا كان هذا الجمع عبثًا وضربًا من الهذيان، ولننظر في قول الله تعالى: {وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِه} (القصص: 73)، وقد جمعت الآية الكريمة بين الليل والنهار وهما نعمتان من نعم الله على عباده، ورحمة منه -عز وجل- بهم، ثم ذُكرت العلة من جعل الزمان ليلًا ونهارًا لنسكن ليلًا ونسعى ونتحرك نهارًا، والحركة ينبغي أن تكون لمصلحةٍ وابتغاء من فضل الله تعالى لا إفسادًا في الأرض، ولذا أوثر التعبير ابتغاء الفضل دون الحركة، والحركة تكون للإصلاح والإفساد، وابتغاء الفضل لا يكون إلا إصلاحًا، وفي ذكر العلة -كما ترى- جمع بين ضدين، هما السكن وابتغاء الفضل، وفي الجمع بين الضدين في صدر الآية ثم في عجزها، حث للمؤمن ليتأمل هذه النعمة لما كان الزمان ليلًا ونهارًا، سكنًا وابتغاءً. وكيف يكون الحال لو كان الزمان نهارًا سرمدًا إلى يوم القيامة، أو ليلًا سرمدًا إلى يوم القيامة؟ ولذا دعانا -سبحانه وتعالى- للتأمل والنظر والتدبر في قوله -عز وجل-: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلَا

تَسْمَعُونَ * قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ} (القصص 71، 72). ولعلك تذكر معي ما سبق أن ذكرناه في قول الله تعالى: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} (آل عمران 26، 27). ولعلك عرفت معي كيف جمعت الآية بين أفعال متضادة: {تُؤْتِي}، و {تَنْزِعُ}، و {تُعِزُّ} و {تُذِلُّ}، وبين أسماء متضادة: {اللَّيْلَ} و {النَّهَارِ}، {الْحَيِّ} و {الْمَيِّتَ}، إن هذا الجمع يبرز مدى قدرة الخالق -عز وجل- وهيمنته وسلطانه القاهر، فهو الذي يستطيع أن يؤتي من يشاء من عباده الملك وينزعه ممن يشاء، متى شاء وكيف شاء، لا راد لمشيئته، وهو الذي يستطيع إذلال مَن يشاء وإعزاز من شاء، متى أراد وكيف شاء دون اعتبار لمقاييس البشر فيمن يستحق العزة ومن يستحق الإذلال. ثم تلاحظ معي التدرج في القدرة والغلبة والقهر والهيمنة، فإذا كان في البشر من يستطيع بماله وجاهه وسلطانه أن يعطي ويمنع، وأن يعز ويذل على وجه من الوجوه، فقد جاءت الآية الكريمة بأمور متضادة ينفرد بها المهيمن -عز وجل- وهي إيلاج الليل في النهار، وإيلاج النهار في الليل، وإخراج الحي من الميت، وإخراج الميت من الحي، فضلًا عمن جاء دالًّا على كمال قدرة الله -جل وعلا- فمن ذا الذي يستطيع القدرة على كل ذلك؟! إنها أمور ينفرد بها القادر -سبحانه وتعالى-. ولعله بهذا قد اتضح لك أن الطباق ليس قاصرًا على الزينة والزخرف، وليس الهدف منه مجرد التزويق الشكلي، بل إنه ليتجاوز ذلك إلى أهداف أسمى وغايات لا تتناهى. وسؤالنا عن الصور التي تدخل فيما يلحق بالطباق، مع ذكر مثال توضيحي لكل صورة على حدة. سؤالنا الثاني: عرِّف مع التمثيل كلًّا من المصطلحات التالية: الطباق المخالف، إيهام التضاد، التدبيج، الملحق بالتضاد، الطباق الخفي. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الدرس: 17 المقابلة.

الدرس: 17 المقابلة.

تعريف المقابلة لغة واصطلاحا.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس السابع عشر (المقابلة) تعريف المقابلة لغةً واصطلاحًا الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، ثم أما بعد: المقابلة في لغة العرب: مِن قابل الشيء بالشيء مقابلةً وقِبالًا أي: عارضه، فمقابلة الكتاب بالكتاب وقباله به: معارضته، والمقابلة: المواجهة، والتقابل مثلُه، يقال: تقابل القوم يعني: استقبل بعضهم بعضًا، ومنه قول الله تعالى في وصف أهل الجنة: {إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} (الحجر: 47)، جاء في التفسير: أنه لا ينظر بعضهم في أقفاء بعض، فالمقابلة على هذا معناها في اللغة: المعارضة والمواجهة. أما في اصطلاح البلاغيين: فمعناها أن يؤتَى بمعنيين متوافقين أو معانٍ متوافقة، ثم يؤتى بما يقابلها على الترتيب، كذا في (الإيضاح) للخطيب القزويني، فترى هذا المعنى في قوله الله تعالى: {فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا} (التوبة: 82). وقول أبي دلامة: ما أحسن الدين والدنيا إذا اجتمعَا ... وأقبح الكفر والإفلاس بالرجل فقد جاءت الآية الكريمة: {فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا} بمعنيين متوافقين، وإن كانا غير متناسبين، ألا وهما الضحك والقلة، ثم جاءت بما يقابل هذين المعنيين وهما البكاء والكثرة على الترتيب؛ حيث جاء الضحك أولًا في الطرف الأول من المقابلة، فجاء مقابله وهو البكاء أولًا في الطرف الثاني، وكذا القلة والكثرة جاء كل منهما ثانيًا في كِلا الطرفين. وفي البيت: ما أحسن الدين والدنيا إذا اجتمعَا ... وأقبح الكفر والإفلاس بالرجل جاء الشاعر بمعان متوافقة متناسبة، هي الحسن والدين والدنيا، ثم جاء بمقابل هذه المعاني وهي القبح والكفر والإفلاس على الترتيب كذلك، حيث إن القبح

من الطرف الثاني يقابل الحسن، والكفر يقابل الدين والإفلاس يقابل الدنيا التي أراد بها الغنى، ومعنى التوافق في التعريف: ما كان خلاف التقابل، فيشمل المتناسبين أو الأمور المتناسبة كما في مراعاة النظير؛ ولذا فقد تجتمع المقابلة ومراعاة النظير كما في بيت أبي دلامة السابق؛ حيث إن الطرف الأول من المقابلة -وهو الحسن والدين والدنيا- أمور متناسبة، فهي مجلبة للسعادة وتجتمع في الذهن بهذا المعنى، وكذا تجد الطرف الثاني -وهو القبح والكفر والإفلاس- بأنها مجلبة للشقاء ولها ارتباط في الذهن بهذا المعنى. كما يشمل التقابل المعنيين غير المتناسبين أو الأمور غير المتناسبة كما في الآية السابقة، فلا تناسب بين الضحك والقلة، ولا بين البكاء والكثرة. وقد عرّف قدامة ابن جعفر المقابلة بقوله: هي أن يصنع الشاعر معاني يريد التوفيق بين بعضها وبعض أو المخالفة، فيأتي في الموافق بما يوافق وفي المخالف بما يخالف وعلى الصحة، أو يشترط ويعدد أحوالًا في أحد المعنيين، ثم يأتي فيما يوافقه بمثل الذي شرطه وعدده، وفيما يخالف بضد ذلك، وقد مثل ابن قدامة للمقابلة بقول الشاعر: وإذا حديث ساءني لم أكتئب ... وإذا حديث سرني لم أسر فقد جعل بإزاء سرني ساءني، وبإزاء الاكتئاب أسر، وهذه المعاني غاية في التقابل، والمتأمل في تعريف قدامة خصص التوافق في المقابلة بما كان متناسبًا، وعلى هذا فإن هذا اللون عنده يشتمل على لونين من المحسنات البديعية وهو مراعاة النظير والمقابلة، بينما المقابلة عند جمهور البلاغيين -على ما أوضحنا- تعم ما كان من المعاني متناسبًا وما كان منها على غير التناسب.

ويجرنا هذا إلى الحديث عن بيان الفرق بين المقابلة والطباق؛ إذ كثير من البلاغيين يرون أن المقابلة نوع من الطباق، وأنها داخلة فيه، فالخطيب القزويني يذكر هذا اللون بعد فراغه من الطباق وأقسامه بقوله: ودخل في المطابقة ما يُخص باسم المقابلة، وكذلك فَعَل غيره من المتأخرين، وحجتهم أن هذا اللون قائم على الجمع بين معنيين متقابلين في الجملة؛ أي: على وجه مخصوص دون آخر، إذ ليس التقابل بين كل اثنين من المعاني، فمثلًا لا تقابل بين الضحك والقلة في قول الله تعالى: {فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا} حتى يكون طباقًا، ولا بين البكاء والكثرة وإن كان فيه مقابلة بين الضحك والبكاء والقلة والكثرة؛ وحيث كان في المقابلة جمع بين معنيين متقابلين في الجملة كان طباقًا لصدق تعريفه عليه، وإن عُدّ من حيث التقابل بين العبارتين مقابلة. أما السكاكي فقد جعل المقابلة قسمًا قائمًا برأسه من المحسنات المعنوية وعرفها بقوله: أن تجمع بين شيئين متوافقين أو أكثر وبين ضديهما، ثم إذا شرطت هنا شرطًا شرطت هناك ضده. ومثّل لها بقوله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} (الليل:5 - 10)، وقد تبع السكاكي قومٌ منهم العلامة عبد الحكيم فقد رجح رأي السكاكي وعلل هذا الصنيع بقوله: لا يخفى أن في الطباق حصول التوافق بعد التنافي؛ ولذا سُمي بالطباق، وفي المقابلة حصول التنافي بعد التوافق، ولذا سمي بالمقابلة وفي كليهما إيراد المعنيين بصورة غريبة، فكل منهما محسِّن بإنفراده واستلزام أحدهما للآخر يقتضي دخوله فيه، فالحق مع السكاكي في جعله المقابلة قسمًا مستقلًّا من البديعيات المعنوية. وذهب قومٌ من البلاغيين إلى أن المقابلة أعم من الطباق، قال المطرزي: المقابلة أعم من الطباق فإن المقابلة يدخل فيها نحو: "أن تبنوا الدنيا وغيث الجود" فلم

يعتبر التنافي، وصاحب (بديع القرآن) شرط في المقابلة أن تكون بأكثر من اثنين من الأربعة إلى العشرة، وعلى هذا فالمراد بالتوافق ليس التناسب، بل خلاف التقابل مطلقًا سواء كانا متناسبين أم لا، ولا شك أن الطباق كله تقابل كما سبق في حده، فاسم التقابل صادقٌ عليه إلا أنه اصطلحوا على تسمية هذا النوع فقط تقابلًا وهو ما كان الطباق فيه مكررًا، فإن قلت: إذا كان التقابل المراد أخص من التقابل والأخص لا يدخل في الأعم، بل الأعم يدخل في الأخص. قلت: كثيرًا ما يقال عن الفرد أنه داخل في الجنس، والمراد إعلام أنه فرد من أفراد الجنس غير خارج عنه، لم يريدوا دخول النوع بجميع أجزائه، بل دخول ما فيه من حصة الجنس. وإذا تجاوزنا عن الجزء الأخير وهو ثم إذا شرطت هنا شرطًا شرطت هناك ضده الذي أوجده السكاكي في تعريفه، وجدنا أن التعريفين متقاربان، غير أن الخطيب اشترط الترتيب في المقابلة ولم يشترطه السكاكي، وليس هذا بفرق كبير، أما الشرط وضده وهو الذي اعتبره السكاكي في تعريف المقابلة فهو الفارق الأساسي بينهما. لكن صاحب (الأطول) لا يرتضيه فرقًا يقوم على أساسه مذهب خاص للسكاكي في المقابلة، قال: ونحن نقول: إن إثبات مذهب جديد للسكاكي بلا سند معتدٍّ به مما يستحسنه العقلاء، وقول السكاكي: وإذا شرط هنا أمر شرط ثمة ضده، كما يحتمل أن يكون بيانًا لما لا بد منه للمقابلة، يحتمل أن يكون بيانًا لما به يكتمل ويزيد حسنها، بل سوق كلامه حيث قال بعد التعريف: ثم إذا شرط ها هنا أمر شرط هناك ضده، يدل على المخالفة بين هذا الكلام والتعريف، وإذا لم يكن هذا الجزء من التعريف كما ذهب إلى ذلك العصام، لم يكن هناك فرق بين

ما ذهب إليه الخطيب والسكاكي، إلا في مسألة الترتيب التي أدخلها الخطيب في التعريف صراحةً، وربما من أجل هذا لم يرد الخطيب أن يعترض على تعريف السكاكي أو يفنده. من هنا يكون ما ذهب إليه التفتازاني والمغربي من أن بيت أبي دلامة: ما أحسن الدين والدنيا إذا اجتمعا ... وأقبح الكفر والإفلاس بالرجل ليس من المقابلة عند السكاكي؛ لأنه اشترط في الدين والدنيا الاجتماع، ولم يشترط في الكفر والإفلاس ضده، يكون هذا ليس بسديد، فعدم الشرط في الكفر والإفلاس هنا لا يقدح في المقابلة، وإن انتقص من كمالها وحسنها على ما بينه العصام. صورة المقابلة إذن عند الخطيب لا تختلف كثيرًا عن صورة المقابلة عند السكاكي، والمقابلة على هذا تدخل صور المطابقة، ولكن لا بأس من أن يكون لها باب مستقل خاص يعالج مسائلها وصورها وخصائصها وبلاغتها؛ لأن الحديث عنها يتشعب ويطول، وإفراد باب خاص لها لا ينبغي أن يُفهم منه على أنها مختلفة عن الطباق اختلافًا جوهريًّا، فليس هذا بشرط دائمًا لتخصيص باب مستقبل لفن بعينه. إن الأساس التي تقوم عليه المقابلة عند السكاكي والخطيب هو نفس الأساس الذي يقوم عليه الطباق وهو التضاد في المعاني. غاية ما في الأمر، أن التضاد في الطباق يقوم بين معنيين متضادين فقط، أما في المقابلة فإن التضاد يكون بأكثر من ذلك، وهنا ينفرد التقابل بخصوصية وهو أن المعاني المجتمعة قبل التقابل لا بد أن تكون متوافقة، وهذا النوع طباق صريح عند كثير من القدماء والمحدَثين.

والمقابلة على هذا الأساس -سواء كانت أصلًا والطباق فرعًا عليها أم كانت فرعًا على الطباق وهو الأقرب إلى الصواب- تبدأ من مقابلة اثنين باثنين وتنتهي بمقابلة ستة بستة، ولا يشترط التضاد في المقابلة كما اشترط في الطباق، فيمكنك أن تقابل بين المعاني المتضادة تضادًّا صريحًا ظاهرًا أو خفيًّا ويمكنك أن تقابل بما يلحق بالطباق بأي صورة من صوره، فالتضاد في صور المقابلة مبني على التوسع وهذا معنى قول ابن أبي الأصبع: والمقابلة تكون بالأضداد وغيرها، لكن الخطيب يفضّل التقابل بالأضداد على التقابل بغيرها، وهذا واضح من الموازنة بين بيت أبي دلامة في مقابلة ثلاثة بثلاثة: ما أحسن الدين والدنيا إذا اجتمعا ... وأقبح الكفر والإفلاس بالرجل وبيت أبي الطيب في مقابلة خمسة بخمسة: أزورهم وسواد الليل يشفع لي ... وأنثني وبياض الصبح يغري بي قال: ورُجّح بيت أبي الطيب على بيت أبي دلامة لكثرة المقابلة مع سهولة النظم، وبأنها قافية هذا متمكنة وقافية هذا مستدعاة، فإن ما ذكره غير مختص بالرجال، كما يتميز بيت أبي دلامة على بيت أبي الطيب بجودة المقابلة، فإن ضد الليل المحض هو النهار لا الصبح، ومعنى هذا أن بلاغة المقابلة قائمة على أساسين: كثرة المقابلات والتضاد الحقيقي. فإذا اجتمعَا معًا كان أبلغَ وإذا تفرقَا حاذ كلٌّ جانبًا من البلاغة كما اتضح في الموازنة، فمن مقابلة اثنين باثنين قوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} (البقرة: 185)، حيث قوبل إرادة اليسر بإرادة العسر، ومنه قوله: {فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} (التوبة: 81)، حيث قُوبل الفرح والقعود بالكراهية والجهاد،

وهذا ينم عن عداوة المنافقين وشدة حقدهم، فسرورهم كامن في القعود والتخلف وحزنهم وكراهيتهم في الجهاد لإعلاء كلمة الحق. ومن مقابلة اثنين من المعاني باثنين قوله تعالى: {يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} (الأعراف: 157)، حيث قابل الأمر بالمعروف بالنهي عن المنكر، وحِل الطيبات لهم بتحريم الخبائث عليهم. وقوله: {فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} (التوبة: 82). حيث قوبل الضحك بالبكاء والقلة بالكثرة، ومنه قوله تعالى: {بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ} (الحديد: 13)، حيث قوبل بين {بَاطِنُهُ} و"رحمة" بـ"ظاهره" و {الْعَذَابُ}، ومثله قوله في نفس السورة: {لِكَيْ لَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ} (الحديد: 23). حيث قوبل الأسى بالفرح وما فات بما هو آتٍ، ومنه قوله -جل وعلا-: {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} (الانفطار:13 - 14). ويدخل في ذلك قوله -صلى الله عليه وسلم-: ((إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا ينزع من شيء إلا شانه)) وقول عمران الطلحي للمنصور وقد وجه إليه قوله: بلغني أنك بخيل، فقال: يا أمير المؤمنين، ما أجمدُ في حق ولا أذوب في باطل. ومن ذلك أيضًا قول جرير: وأعور من نبهان أما نهاره ... فأعمى وأما ليله فبصير ومنه قول أحد الأعراب لرجل: إن فلانًا وإن ضحك لك فإنه يضحك منك، فإن لم تتخذه عدوًّا في علانيتك فلا تجعله صديقًا في سريرتك. وقد جعل ابن وهب قول الشاعر: أموت إذا ما صدني بوجهه ... ويفرح قلبي حين رجع للوصل

من المقابلة السيئة؛ لماذا؟ لأنه جعل ضد الموت فرح القلب وضد الصد بوجهه الوصل. قال: وهذه مقابلة قبيحة، ولو قال: أموت إذا ما صدني بوجهه وأحيا إذا مل الصدود وأقبل، فجعل ضد الموت الحياة وضد الصد بالوجه الإقبال لكان مصيبًا. ومعنى هذا أنه يرى أن المقابلة الحسنة لا تكون إلا بالتضاد الحقيقي، أما إذا لم تكن كذلك فهي مقابلة قبيحة سيئة. وأي ناظر في البيت المعيب والبيت البديل، يرى أن العيب فيما صنعه ابن وهب مع تحقق التضاد فيه؛ لأن القضية قضية معنى، وليست قضية تحقق التضاد أو عدم تحققه، إن الشاعر قال: ويفرح قلبي حين يرجع للوصل ..................... فجعل فرح القلب مرتبطًا برجوعه للوصل، والقلب هو موطن الحب وهو الذي يظهر فيه أثر الصد والوصل، فجعل الفرح فيه مناسبًا لما نحن فيه، ثم إنه جعل رجوع المحبوب رجوعَ وصل، وهذا شرط ضروري لفرح القلب، وفرح القلب دليل حياته، فهو يدل على الحياة والزيادة، أما البيت المقترح فإنه لم يزد على أن جعل ضد الموت الحياةِ، والحياةُ على أهميتها وقيمتها لا تدل على الفرح، فما أكثر ما في الحياة من الثكالى والمحزونين والبؤساء والمكتئبين، فلا دليل هنا على فرح القلب ولا على الفرح مطلقًا، ثم إنه هنا لم يجعل الإقبال إقبال وصل كما هناك، وإنما هو إقبال من مل الصدود، وكأن المسألة مسألة تغيير في الحالة فقط، فإذا مل الصدود أقبل ولكن هل أقبل للوصل؟ ذلك ما لا يفيده البيت المقترح، ورجعة الوصل هي التي تحيي القلوب وتفرحها، ولكن يبدو أن الرغبة في تحقق التضاد أهم عنده من سلامة المعنى وقيمته.

ومن مقابلة اثنين باثنين قول النابغة الذبياني: فتًى كم فيه ما يسر صديقه ... على أن ما فيه ما يسوء الأعادي وقول المعري: يا دهر يا منجز إيعاده ... ومخلف المأمول من وعده وقول آخر: فواعجب كيف اتفقنا فناصح ... وفيٌّ ومطوي على الغل غادر فقابل النصح والإخاء بالطي على الغِل والغدر. ومن مقابلة ثلاثة بثلاثة قول البحتري: فإن حاربوا أذلوا عزيزًا ... وإذا سالموا أعزوا ذليلًا ومنه قول أبي دلامة السابق: ما أحسن الدين والدنيا إذا اجتمعا ... وأقبح الكفر والإفلاس بالرجل كل هذا من مقابلة ثلاثة بثلاثة، وهذا البيت الذي قال فيه الخطيب: أنه صحيح المقابلة، كان صاحبه يرى أنه أشعر بيت قالته العرب، فقد سأل أبو جعفر المنصور أبا دلامة عن أشعر بيت قالته العرب، قال: بيت يلعب به الصبيان قال: وما هو ذاك؟ قال هو قول الشاعر، وذكر البيت. ومع هذا كله، نرى أن المقابلة بين الدنيا والإفلاس ليست مقابلة خالصة، الذي يقابل الدنيا هو الآخرة لا الإفلاس، وكأنه عنى بالدنيا هنا كثرة المال كما يقال إذا كثر مال الرجل: أقبلت الدنيا على فلان، وإذا قل ماله قالوا: أدبرت عنه الدنيا. ولكن هذا المعنى ليس هو الأصل في اللفظ وإنما يأخذ من ظلاله، ومع هذا فهو بيت جيد المقابلة عند الخطيب مع أنه جعل بيت أبي الطيب:

أزورهم وسواد الليل يشفع لي ... وأنثني وبياض الصبح يغري بي أدنى منه مقابلةً؛ لأنه قابل الليل بالصبح، والذي يقابل الليل هو النهار لا الصبح، مع أن الذي يكشفه ويكشف زيارته وعلاقته بمحبوبته هو الصبح لا النهار مطلقًا، فالمعنى هنا يحتم وضع الصباح بإزاء الليل؛ لأن إشراقته هي التي تشي به وتغري به، فلمَ لا يكون مع ذلك جيد المقابلة كما حكم لبيت أبي دلامة بجودة المقابلة؟! ومن مقابلة ثلاثة بثلاث قول المتنبي: فلا الجود يفني المال والجِد مقبل ... ولا البخل يبقي المال والجد مدبر حيث قابل الجود والإفناء والإقبال بالبخل والإبقاء والإدبار. وأما مقابلة أربعة بأربعة فالشاهد العَلَمُ فيها قول الله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} (الليل:5 - 10)، وهو شاهد السكاكي على المقابلة أيضًا لانطباق تعريفه عليها، حيث عقبها بقوله: لما جعل التيسير مشتركًا بين الإعطاء والاتقاء والتصديق، جُعل ضده وهو التعسير مشتركًا بين أضداد ذلك، وهي المنع والاستغناء والتكذيب، والذي يبدو أن الخطيب القزويني لم يُرد تضادًّا ظاهرًا بين: {اتَّقَى} و {اسْتَغْنَى} فاضطر إلى أن يتأول له، ويكشف عن وجه التضاد فيه قال: فإن المراد بـ {اسْتَغْنَى} أنه زهد فيما عند الله كأنه مستغن عنه، فلم يتقِ أو استغن بشهوات الدنيا عن نعيم الجنة فلم يتقِ، ومع هذا لم يستطِع الخطيب القزويني أن يحكم على هذه المقابلة بأنها غير جيدة. ومما هو داخل في ضرب مقابلة الأربعة بأربعة قول جرير: وباسطُ خير فيكم بيمينه ... وقابض شرٍّ عنكم بشماله

حيث قابل باسط وخير وفيكم ويمين بقابض وشر وعنكم وشماله. وأما مقابلة خمسة بخمسة، فقد ذكروا لها قول أبي الطيب السابق: أزورهم وسواد الليل يشفع لي ... وأنثني وبياض الصبح يغري بي وهذا على أساس أن" لي" تُضاد "بي"، ولكن الخطيب لا يرتضي ذلك قال: وفيه نظر؛ لأن اللام والباء فيهما صلتا الفعلين فهما من تمامهما، وهذا البيت قال فيه ابن حجة الحموي: ولا أعلم في باب التقابل أفضل من هذا البيت لجمعه من المتقابلات ما لم يجمعه بيت لشاعر قبله ولا بعده إلى يومنا هذا، مع ما فيه من تمكين قافيته. وليس الأمر كما قال، فإذا سلمنا مع الخطيب أن هذا من مقابلة أربعة بأربعة وجدنا نظائر قبله وبعده، فمن هذا قول الشاعر وقد استشهد به العباسي: يا أُمة كان قبح الجور يسخطها ... دهرًا فأصبح حسن العدل يرضيها ومنه قول آخر: نهار غرته البيضاء أرشدني ... وليل طرته السوداء أغواني وقد جعل ابن حجة من مقابلة خمسة بخمسة وهو أعلى أنواع المقابلة عنده قول علي لعثمان: "إن الحق ثقيل مري والباطل خفيف وَبِي، وأنت رجل إذا صدقت سخطت وإذا كذبت رضيت"، والذي ذهب إليه ابن حجة هنا ليس بصحيح، فالذي معنا هنا مقابلتان؛ الأولى بين ثلاثة وثلاثة وهي: "إن الحق ثقيل مري والباطل خفيف وبي"، هذا جاء في جملة، أما الثانية التي جاءت في جملة أخرى فهي بين اثنين واثنين وهي: "وأنت رجل إذا صدقت سخطت وإذا كذبت رضيت"، ولو سلمنا بأن هذا من مقابلة خمسة بخمسة لانفتح الباب على مصراعيه للوصول بالمقابلة إلى عشرات الأضداد، ولأصبحت الجمل والفقرات المتتابعة ذات المقابلات المتعددة مقابلة واحدة. وهذا ما لا يكون.

ولا يمكن أن يكون قوله في بديعيته إذا تجاوزنا عما فيها من الصنعة من مقابلة خمسة بخمسة وهو: بواطئٌ فوق خدّ الصبح مشتهر ... وطائر تحت ذيل الليل مكتتم فكل كلمة من الشطر الأول تقابلها كلمة من الشطر الثاني على الترتيب بغض النظر عن التضاد الحقيقي؛ لأنه ليس مطلوباًَ في المقابلة، ونظيره قول صفي الدين الحِلي: كان الرضا بدنوي من خواطرهم ... فصار سخطي لبعد عن جوارهم فقابل كان والرضا ودنو ومن وخواطر، بصار والسخط والبعد وعن وجوارهم، ونلاحظ أنه لا تضاد بين الجوار والخواطر إلا على اعتبار أن الخواطر تجول داخل فكر الإنسان، والجوار يكون خارجًا عن فكره، وهذا جارٍ على مذهب من يرى أن المقابلة تكون بالأضداد وغيرها. وأما مقابلة ستة بستة فلا يُعرف له إلا هذا البيت الذي ينسب إلى عنترة: على رأس حر تاج عز يزينه ... وفي رجل عبد قيد ذل يشينه قال الصفدي في (شرح اللامية): هذا أبلغ ما يمكن أن ينظم في هذا المعنى وكأن كثرة عدد المقابلات هو سر بلاغة هذا اللون، وهذا صريح عند العباسي الذي يقول: وكلما كثر عدد المقابلة كان أبلغ، وقد سبق أن تعرضنا لهذا المقياس عند الخطيب ولا يمكن أن يكون هذا مقياسًا صحيحًا، فليس من المعقول أن يكون ما فيه خمس مقابلات أبلغ مما فيه مقابلتان لمجرد العدد فقط، ولكن يبدو أن النظر إلى كثرة المقابلات وأثرها في بلاغة الكلام تعود إلى تاريخ قديم. قال الحاتمي في (حلية المحاضرة): ومن بديع الطباق قول عمرو بن كلثوم:

فإن نورد الرايات بيضًا ... ونصدرهن حمرًا قد روينا قال أبو علي: فطابق بين الإيراد والإصدار والبياض والحمرة، ولو اتفق لعمرو بن كلثوم تقابل الرِّي بالظمأ لكان أبرعَ بيت قالته العرب في الطباق. قال أبو علي: قد أخذه أبو الشيعي فاستوفى المعنى، فقال: فأورده بيضًا ظماء صدورُها ... وأصدرها بالري ألوانها حمر ولا شك أن بيت عمرو بن كلثوم أفضل من بيت ابن الشيعي في معناه، فالرايات ليست في حاجة إلى أن توصف بالظمأ؛ لأنها لا تشارك في الحرب لا طعنًا ولا ضربًا، ومع ذلك فهي ترتوي من الدماء المتطايرة هنا وهناك. والرايات من قماش، والقماش يقبل الدم ويتشربه ولا يرويه منه إلا الكثير، وأما ما أصدره ممدوح أبي الشيعي فيبدو أنه الرماح أو السيوف، وهي أدوات قتال يمكن أن توصف بالظمأ إلى الدماء؛ لأنها تباشر القتل، ومع هذا فإنها لا تقبل الدماء ولا تتشربها؛ لأنها من حديد، وقليل من الدم يغير لونها إلى الحمرة، ورقبة واحدة من رقاب الأعداء تكفي لإصدارها حمرة، وليس الأمر كذلك في الرايات. أضِفْ إلى هذا استخدام الفعل المضارع عند عمرو بن كلثوم وهو يعني التجدد والاستمرار دلالة على تأصل هذا الأمر فيهم، وتكراره منهم، فضلًا عن سرعة إيقاع البيت الذي تجسّد له سرعة الحركة في الإيراد والإصدار، وهذا يتسق مع طبيعة الغزو والإغارة التي تعتمد على عنصر المفاجأة والبغتة، وأما في بيت أبي الشيعي فإنه استخدم الفعل الماضي وبناه على إيقاع بطيء، مما يدل على بطء الحركة في الإيراد والإصدار، وهذا يتسق مع حركة الجيوش التي ترسم الخطط، وتدرس الموقف، وتستطلع العدو، وتضلل العيون، وتلجأ إلى الحصار حينًا وإلى الصلح حينًا آخر، وإلى الانسحاب إذا دعت الضرورة.

فأي البيتين أدل على كثرة القتل في جيش العدو؟ وهل يترك المعنى في المفاضلة إلى عدد المقابلات وإن قصرت في تأدية المعنى المراد؟ إن القضية في المقابلات -ونكرر مرارًا وتكرارًا- قضية معنى وليست قضية عدد ولا قضية تضاد حقيقي، وانظر إن شئت في مقابلة أربعة بأربعة، فماذا ترى؟ إنك ترى أن جو الصورة كله من بدايته إلى نهايته قائم على هذه المقابلة، وهي مقابلة ليس فيها أدنى شيء من التلاقي أو التداخل، إن التقابل فيها يصل إلى أقصى درجاته، وتجد ذلك في افتتاح سورة الليل بالقسم بالليل في أقصى درجات ظلمته وبالنهار في أقصى درجات ضيائه: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى * وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى}، إن القسم هنا ليس بالصباح ولا بالفجر، حيث يختلط النور بالظلام، ولكنه بالليل إذا يغشى وبالنهار إذا تجلى؛ حيث يتقابل الظلام الدامس الذي تضل فيه الرؤية ويخبط فيه الناس خبط عشواء، لا يلوُن على شيء، ولا يهتدون بشيء ولا يتبينون شيئًا. أقول: حيث يتقابل هذا الظلام الدامس مع الضياء الساطع في النهار المتجلي التي تسطع شمسه في أفق السماء وترسل أشعتها وضياءها إلى الأرض، لا يحجبها عن الأرض سَحاب ولا غبار ولا دخان، فيتبين الأعشى طريقه فضلًا عن البصير، وتتضح المسالك غاية الاتضاح، فلا يضل السالك طريقه ولا يتخبط أحد؛ لأن كل شيء متضح مبين وهكذا الإيمان والكفر. أو إن شئت قلت: إن في الظلام الدامس همودًا وسكونًا كأنه سكون القبور وإذا دخلت قرية في غبش الظلام لأول مرة في حياتك فإنك لن تفرق بين بيوت الأحياء وقبور الأموات؛ لأن السكون يشمل كل شيء في الليل البهيم، وأما النهار المتجلي ففيه الحياة والحركة والحيوية والنشاط، وهكذا الإيمان والكفر. فالأول إحساس وإدراك وبصر وبصيرة، والثاني تفقد فيه هذه الحواس وظائفها

الصحيحة فكأنها هي مفقودة، والقرآن الكريم وصف الكفار تارة بأنهم صم بكم عمي وتارة بأنهم موتى: {وَمَا أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِي الْقُبُور}. ثم يأتي التقابل الثاني هذا من بلاغة التقابل في القرآن الكريم بين الذكر والأنثى: {وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى} (الليل: 3)، وهما نوعان متقابلان أشد التقابل في الخلق والتكوين والخصائص النفسية والجسمية، ودور كل منهما في الحياة، ومع هذا التقابل الشديد فإن حركة الحياة لا تتم إلا به، ولولا هذا التقابل ما كانت هناك حياة ولا أحياء، وهذا التقابل الكامل بين الذكر والأنثى الذي نشأت منه حركة الحياة واستمرارها، هو بعينه التقابل الشديد في كل وجوه الحياة، وبه تستمر حركتها وتستمد الحياة ديمومتها؛ لأنه من هذا التقابل تنشأ حركة التدافع، وبالتدافع تستمر حركة الحياة {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} (البقرة: 251). ثم يأتي مِفتاح السورة كلها عقب هذه الأقسام: {إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى} (الليل: 4)، سعي متفرق متقابل أشد التقابل متناقض أشد التناقض؛ متناقض في بواعثه ودوافعه متناقض في مسلكه وطرقه متناقض في نتائجه وآثاره، ثم تأتي الآية الكريمة: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} لتفصل هذا السعي تفصيلًا بينًا، وهي التي وقفت عندها كتب البلاغة المتأخرة تعدد ما فيها من وجوه التقابل، ولا تتخطى هذا الحصر بحال، ولكن انظر في تيسير كل منهما فيما سلك من طريق، وانظر هذا التقابل الشديد فيه تجد كيف يكون؟ كيف ييسر من أعطى واتقى وصدق بالحسنى؟ إنه تعالى ييسره لما يسر له نبيه -صلى الله عليه وسلم- {وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى} (الأعلى: 8). وكيف ييسره مَن بخل واستغنى وكذب الحسنى؟ إنه سبحانه ييسره لما اختاره لنفسه من طريق: {قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا} (مريم: 75)، وما

يغني عنه ماله الذي بخل به واكتنزه واستغنى به عما عند الله إذا تردى في الهاوية وهلك، ثم يأتي قوله تعالى: {إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى} (الليل: 12) فرقًا واضحًا بين هذه المسالك المتعددة؛ لأن الهدى هو الذي يضع الحدود الفاصلة بين المسالك المتناقضة والمساعي المتقابلة، {وَإِنَّ لَنَا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولَى} (الليل: 13)، وليس لأحد سواه؛ إنه يهيمن على هذه الأمور المتقابلة هيمنةً كاملةً، فمن كانت له هذه الهيمنة كلها فإنه هو وحده الذي يقرر مصير هذه الفرق المتناقضة المتقابلة، ولا يملك أحد سواه تقرير هذا المصير: {فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى * لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى * الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى * وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى * الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى * وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى * إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى * وَلَسَوْفَ يَرْضَى} (الليل: 14 - 21). ولعل التعبير هذا بالأشقى والأتقى وليس بالتقي والشقي؛ ليكون التقابل -والله أعلم- في قمته والتناقض في غايته، تمامًا كما افتتحت السورة بالتناقض التام والتقابل الكامل، أرأيتَ كيف يكون التقابل منسجمًا مع جو السورة العام؟! وهذا الذي مضى كله ترى فيه أن عدد الأضداد في المتقابلات متساوٍ، فاثنان باثنين أو ثلاثة بثلاثة، وهكذا حتى يصل التقابل إلى ستة بستة هذا هو المعروف المشهور في المقابلة. لكن ابن رشيق يرى أنه قد يقابل اثنان بثلاثة فذكر في ذلك قول أبي نواس: أرى الفضل للدنيا وللدين جامعًا ... كما السهم فيه الفوق والريش والنصل فزاد في المقابلة قسمًا؛ لأنه قابل اثنين بثلاثة وكذلك قول القيس بن الأسلت: الحَزمُ وَالقُوَّةُ خَيرٌ مِنَ ال ... إِدهانِ وَالفَكَّةِ -يعني: الضعف- وَالهاعِ يعني: الجبن والخفة. فقابل الحزم بالادهان والقوة بالفكة وهو الضعف، ويروَى الفهة وهي العين، وزاد الهاع وهو الجبن والخفة:

الحَزمُ وَالقُوَّةُ خَيرٌ مِنَ ال ... إِدهانِ وَالفَكَّةِ وَالهاعِ وهذه صورة من المقابلة لم تُعرف ولم تشتهر، لكنها ليست بغريبة ويمكن قبولها والتوسع في دراستها والنظر في شواهدها، فبيت أبي نواس عدّه ابن رشيق من المقابلة مع أن طرفيه مشبه وهو الفرد الجامع للدنيا والدين، ومشبه به وهو السهم الجامع للفوق والريش والنصل، وليس هناك تضاد بين أي من الثلاثة في السهم مع أي من الاثنين اللذين جمعهما الفضل. والمقابلة الشائقة في كتب المتأخرين هي المقابلة القائمة على الأضداد أو ما يقاربها، وعلى هذا فلا يكون في البيت مقابلة على المعنى المشهور، وإن كان له وجه على بعض المعايير القديمة. أما البيت الثاني، فإنه قابل فيه بين الحزم والادهان وبين القوة والفكه وبين الهاع خارجًا، وبقي الهاع خارجًا عن دائرة المقابلة، ومعناه كما قلنا: الجبن والخِفة، وهذه الكلمة الأخيرة يمكن أن تتقابل مع الأول والثاني معًا، ويبقى فيه أن العدد القليل "الحزم والقوة" خير من العدد الكثير "الادهان والفكه والهاع"، ومما يتضح في هذا الأمر قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلَا تَتَنَاجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى} (المجادلة: 9)، فهذه الآية الكريمة قوبل فيها بين اثنين وثلاثة؛ ثلاثة منهي عنها واثنان مأمور بهما، فالإثم يقابله البِر ومعصية الرسول يقابلها التقوى، ويبقى العدوان وهو وسط هذه المرة، وهو يمكن أن يقابل الأمرين معًا البر والتقوى، فالخروج على البر يمكن أن يكون عدوانًا، والخروج على التقوى عدوان أيضًا، والآية توحي بأن ما ينبغي أن يتوجه إليه الإنسان أقل عددًا وكُلفةً مما هي منهي عنه، فلماذا يدع الإنسان القليل المأمور به إلى الكثير المنهي عنه؟!

أثر المقابلة في بلاغة الكلام.

من هنا يتضح أن العدد المفضل في المقابلة أقل من العدد المفضل عليه في البيت والآية معًا، وأنه قد يتقدم العدد المفضل الأقل ويتأخر العدد المفضول الأكثر، وقد يحدث العكس، والباب يتسع لهذا وذاك. وهي إذن صورة جديدة يمكن أن تدخل باب المقابلة وتثريها، وهي اختلاف الأعداد في المقابلات فقد يقابل الأقل بالأكثر وقد يقابل الأكثر بالأقل، وهذا بابٌ يمكن أن يتسع لدراسة متأنية تكشف أسرار بلاغته بالوقوف على شواهده المختلفة. أثر المقابلة في بلاغة الكلام وللحديث عن أثر المقابلة في بلاغة الكلام أقول: إنه سبق وأن أشرت في الطباق إلى أن الجمع بين المتقابلين من الأمور المركوزة في الطباع، والتي لها تعلق ببلاغة الكلام، ولها أثر واضح في النفوس، وتتعلق بها أغراض المتكلمين، وما قلناه هناك يقال مثله في كل ما كان من المقابلة أو حُكِمَ عليه بأنه جيد، ونحن ما زلنا مع الجمع بين المتقابلين، وعلة الحسن في الطباق قائمة على الجمع بين الضدين وهي نفس العلة التي تقوم عليها المقابلة، وهذا القدر كافٍ في إثبات الحسن الذاتي للمقابلة، وكذلك غيرها من الأساليب التي تشتمل على هذا اللون، كما أن في المقابلة ما في الطباق جمعًا بين الشيء وضده، وهذا يضفي على الكلام بهاءً وحُسنًا، ويحمل لكل من المتقابلين حسنًا لا يكون له إذا جاء وحده. ولعله من المناسب لإثبات ذلك فبعد وقوفنا على معنى المقابلة وصورها، أن نعرض لبعض النماذج التي جاءت فيها المقابلة رائعةً جيدةً، لكون المعاني

والأغراض هي التي استدعتها ومن ثَم رفعت من قدرها، ووقعت موقعًا حسنًا من نفوس السامعين. من جهة المقابلة في النثر ما ورد منها في القرآن الكريم حيث جاءت في أعلى درجات الإعجاز البلاغي، وقد مر بنا بعض الأمثلة في القرآن، ومنها -من غير ما سبق- قوله تعالى: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} (الأنعام: 125)، فقد قابلت الآية بين الهداية وشرح الصدر، وبين الضلال وضيق الصدر، والآية تعزية وتسلية لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- لما يلاقيه من عناد الكفار وغرورهم، فهي إخبار من الله لرسوله ألا يهتم بأمرهم ولا يحزن عليهم، فالأمر كله لله، فمن أراد هدايته للحق وتوفيقه للخير فإنه يشرح للإسلام صدره، ويوسّع للقرآن قلبه، فعند ذلك يستنير الإسلام في قلبه ويتسع له صدره. وقد سئل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن شرح الصدر فقال: ((هو نور يقذفه الله في قلب المؤمن، فينشرح له وينفسح، فقالوا: فهل لذلك من أَمارة يعرف بها؟ قال -صلى الله عليه وسلم-: الإنابة إلى دار الخلود، والتجافي عن دار الغرور، والاستعداد للموت قبل نزول الموت))، أما من فسدت فطرته وساءت نفسه إذا طُلِب إليه أن ينظر في الدين ويدخل فيه يجد في صدره ضيقًا وأي ضيق؛ وذلك لما استحوذ عليه قلبه وامتلأ من سيئ التقاليد والحسد، والعناد والكبر والغرور، وهذا الصنف تكون إجابة الداعي عنده ثقيلة على نفسه جدًّا، فيشعر بضيق شديد وحرج كثير، كأنه كُلف من الأعمال ما لا يطيق أو أُمر بصعود السماء. وواضح أن المقابلة أدت حقها في تأدية هذا المعنى والوفاء به، وأبرزت كلا الفريقين وحاله في الصورة التي أرادها الله لهما مما يبعث الطمأنينة ويزيل الحسن من نفس الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم-.

ومن جيد المقابلة ما جاء منها في حديث الرسول -صلى الله عليه وسلم- وقد مر بنا بعض أمثلته؛ من ذلك قوله -صلى الله عليه وسلم-: ((تعِس عبد الدينار وعبد الدرهم، تعس عبد الخميصة، إن أعطي رضي وإن منع سخط، تعس وإذا شيك فلا انتقش)) فقد قابل في الحديث بين: ((أعطى)) و ((رضي)) من جانب، وبين: ((منع)) و ((سخط)) من جانب آخر، فجاءت المقابلة رائعة خلابة. ومن جيد المقابلة قول الإمام علي -رضي الله عنه- في خطابه لعثمان -رضي الله عنه-: "إن الحق ثقيل مري والباطل خفيف وبي"، فقابل الحق بالباطل والثقيل المري بالخفيف الوبي، ومن ذلك ما جاء من قول الحجاج بن يوسف حين أراد قتل سعيد بن جبير، فلما أحضر إليه أمر من كبّه ثم قال: مَن أنت؟ فقال: أنا سعيد بن جبير فقال: بل أنت شقي بن كسير، فقابل سعيدًا بشقي، وجبيرًا بكسير، قال العلوي معلقًا على هذه المقابلة وجودتها: كأن الحجاج من المعدودين في الفصاحة والمشار إليهم في البلاغة. ومن جيد المقابلة وألطفها قول رجل لمعاوية يعزيه في وفاة بنت له: الحمد الله الذي أكرمها بوقوفك على قبرها، ولم يخزها بوقوفها على قبرك. ومن ذلك قول الحسن -رضي الله عنه-: "ما رأيت يقينًا لا شك فيه أشبه بشك لا يقين فيه من الموت". ومن كلام بعض البلغاء: من أقعدته نكاية اللئام أقامته إعانة الكرام، ومن ألبسه الليل لون ليل ظلمائه نزعه النهار عنه بضيائه. ومن الأشعار مما جاءت فيه المقابلة جيدة رائعة قول أبي تمام: قد يُنعم الله بالبلوى وإن عظمت ... ويبتلي الله بعض القوم بالنعم فقابل بين ينعم والبلوى وبين يبتلي والنعم.

ومنه كذلك قول الآخر: لعمرك ما الإنسان إلا ابن دينه ... فلا تترك التقوى اتكالًا على النسب فقد رفع الإسلام سلمان فارسًا ... وقد حط بالشرك النسيب أبو لهب حيث قابل بين رفع والإسلام وسلمان الفارسي من جهة، وبين حط والشرك وأبي لهب من جهة ثانية، فجاءت مقابلته جميلة رائعة. وهكذا نلحظ -من خلال ما سبق ذكره- أن دائرة المقابلة تتسع لتشمل ما كان من تقابل بين المعاني الحقيقية وما كان في معناها، كما تتسع دائرته لتشمل كذلك ما توافق عدده وما اختلف. وبعد هذا التطواف حول هذا اللون من ألوان البديع لنا أن نتساءل عن الفرق بين المقابلة وبين كل من مراعاة النظير والطباق؟ وهل يشترط التناسب بين المعاني المتقابلة؟ وما هو الأثر الذي يحدثه هذا الصبغ البديعي في بلاغة الكلام؟ والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الدرس: 18 تأكيد المدح بما يشبه الذم، والعكس.

الدرس: 18 تأكيد المدح بما يشبه الذم، والعكس.

تأكيد المدح بما يشبه الذم.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس الثامن عشر (تأكيد المدح بما يشبه الذم، والعكس) تأكيد المدح بما يشبه الذم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، ثم أما بعد: فنعيش مع لون آخذ بالألباب من ألوان البديع يسمى تأكيد المدح بما يشبه الذم، والعكس تأكيد الذم بما يشبه المدح. أسلوبٌ يقوم على مفاجأة السامع بصفةٍ من صفات المدح، حيث كان يتوقع صفة ذم وذلك باستخدام أداة من أدوات الاستثناء أو الاستدراك. كقول النابغة الذبياني: ولا عيبَ فيهم غير أن سيوفهم ... بهن فلول من قِراع الكتائب فالعيب صفة ذم، وقد نفاها الشاعر عن ممدوحه، ثم استثنَى منها صفةَ مدح، وهي أن سيوفهم بها فلول من قراع الكتائب، وذلك ينم عن شجاعتهم وكثرة قتالهم، فهؤلاء لا عيبَ فيهم سوى الشجاعة إن كانت الشجاعة عيبًا، وكون الشجاعة عيبًا محال، فيكون ثبوت العيب لهم من المحال. ويتحقق التأكيد والمفاجأة بهذا الأسلوب سواء أكان المستثنى منه مثبتًا أو منفيًّا، وسواء وجد المستثنى منه أو كان الاستثناء مفرغًا، كما يتحققان أيضًا سواء أكان الاسثتناء متصلًا أم منقطعًا؛ لأن الأصل في الاستثناء أن يكون متصلًا، ومثل تأكيد المدح بما يشبه الذم تأكيد الذم بما يشبه المدح. وعليه، فإن وجه تسمية هذا اللون -بتشبيه المدح بما يشبه الذم والعكس- يكمن في أن هذا الأسلوب ألف الناس سماعه في الذم؛ لأن المتكلم عندما يذكر صفة ذم منفية أو صفة مدح مثبتة ثم يعقب بأداة استثناء أو استدراك، يتوقع السامع أن

المستثنى أو المستدرك سيكون ذمًّا؛ لأن هذا ما قد ألفه واعتاده من مثل هذا الأسلوب، ولكن المتكلم يعدل عن ذكر ما قد ألِفَ إلى ذكر صفة مدح يؤكد بها المدح الأول، ولهذا سمي الأسلوب تأكيد المدح بما يشبه الذم. ومثل ذلك يقال في تأكيد الذم بما يشبه المدح. وتأكيد المدح بما يشبه الذم مما سجله ابن المعتز في كتاب (البديع) وأطلق عليه هذا المصطلح، غير أنه نكر المدح فقال: "ومنها تأكيد مدح بما يشبه الذم"، ثم أطلق الحاتمي عليه الاستثناء، وتبعه على هذا المصطلح جماعة من العلماء. وربما كان سبب ذلك أن الاستثناء يمثل في هذا الفن ركيزته الأساسية، وهناك من أطلق عليه تأكيد المدح بما يوهم الذم، وربما كان ذلك مأخوذًا من ابن فارس الذي عقد بابًا في كتابه (الصاحبي) أسماه: باب إخراج الشيء المحمود بلفظ يوهم غير ذلك، وقد أخذه الثعالبي وحور فيه قليلًا فقال: "فصل في إخراج الشيء بلفظ يوهم ضد ذلك". وسار أبو العباس الجُرجاني وراء ابن فارس، وبعضهم سماه: ذكر المدح في معرض الذم، ولكن سعد الدين التفتازاني اقترح في (المطول) أن يطلق عليه تأكيد الشيء بما يشبه نقيضه؛ ليتسع لهذه الصور وغيرها مما ليس فيه مدح وذم، مما يدخل في باب التعليق بالمحال، ومن هنا ذهب إلى أن مصطلح تأكيد المدح بما يشبه الذم، قائم على الأعم الأغلب، وإلا فقد يكون ذلك في غير المدح والذم، ويكون من محسنات الكلام، كقول الله تعالى: {وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ} (النساء: 22). يعني: إن أمكن لكم أن تنكحوا ما قد سلف فانحكوه، فلا يحل لكم غيره، وذلك غير ممكن، والغرض هو المبالغة في تحريمه. والمعنى: إن أمكنكم أن تنكحوا ما قد مات من زوجات آبائكم فانكحوهن، فهذا النوع الوحيد المحلل لكم من أزواج آبائكم، وهذا من باب التعليق بالمحال.

وليس هذا هو الوجه الوحيد في معنى الآية وإن كان أرجحها عند أبي السعود. أما عند العلوي فنجد تأكيد المدح بما يشبه الذم وتأكيد الذم بما يشبه المدح أحد وجهي التوجيه، ذلك المصطلح الفضفاض عنده الذي جمع في جعبته عدة فنون بلاغية، وعلى الرغم من ذلك فإن مصطلح تأكيد المدح بما يشبه الذم ظل هو المصطلح المرضي عند جمهرة علماء هذا الفن، وفي مقدمتهم السكاكي والخطيب وشراح (التلخيص). والذي يُفهم من دلالة هذا المصطلح الشائع أن صورة المدح المراد توكيدها تأتي في معرض ما يشبه الذم، ولو لم ترد في هذه الصورة لخرجت من هذا الباب، فإذا ما نظرنا في البيت العلم الذي يعد عمدةً في هذا الباب؛ لأنه هو الذي فتح القولَ فيه، وهو قول النابغة الذبياني: ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم ... بهن فلول من قراع الكتائب فما الذي نره؟ إنك تجده يبدؤك بنفي جنس العيب عنهم، فينفي أن يكون فيهم عيب أي عيب، فلا هنا نافية للجنس، وقبل أن تستقر في وعيك هذه الحقيقة -وهو أنهم قوم لا شيء من العيب فيهم- جاءتك أداة الاستثناء غير، وأنت لا تستثني مما مضَى إلا ما هو داخل فيه، وفي هذا إيهام بأن هناك شيئًا من العيب يمكن أن يَلحق بهم، ويستمر هذا الوهم معك وهو ينشد ما بعد أداة الاستثناء: "أن سيوفهم بهن فلول". ويظل وهمُك باقيًا مع هذا الاستمرار حتى إذا ما وصل إلى آخر العبارة الماضية، وهو لا يصل إليها في إنشاد الشعر إلا بعد وقت طويل بالمقارنة بقراءة الجملة النثرية، ويزيد في زمن الإنشاد أن هذه الفقرة موزعة بين شطري البيت، ومن المحتمل أن يكون إنشاد الشعر عندهم كان قائمًا على أساس من إنشاد كل شطر وحده. أقول: إن وهمك يظل باقيًا مع استمرار الإنشاد ويظل ذهنك مترقبًا لهذا

العيب الذي سيجيء، وتظل في حالة شوق إليه ولهفة عليه، حتى إذا ما انتهى من إنشاد الفقرة الماضية ووصل إلى آخرها، أدركتَ أن هذا العيب المستثنى بـ"غير" من جنس العيب المنفي سابقًا، ففلول السيف في الأصل عيب، وإذا كانت سيوفهم بهن فلول فإن هذا يعيبهم، وهنا يستقر ذهنك وينتهي ترقبك ويهدأ بالك، ولكن قبل أن تطمئن إلى ذلك يأتي قوله: "من قراع الكتائب"، فيتبين لك أن ما توهمته عيبًا، وأوحَى إليك الشاعر به وعمد إلى تقريره في نفسك على أنه من صفة العيب المستثناة، لم يكن كذلك، وإنما هو تثبيت لنفي جنس العيب وترسيخ له. فأن يكون فلول السيوف بسبب الحرب والنزال ومقارعة الأعداء فهذا إثبات للشجاعة بالدليل الحسي المشاهد، فلا تفل السيوف إلا من شدة المنازلة وقوة المقارعة. فانظر كيف تلاعب الشاعر بتصوراتك وكيف قاد وهمك وذهنك بين المدح بنفي العيب نفيًا مطلقًا فأوهمك أن هناك عيبًا لاحقًا به، فالارتداد بك إلى ما بدأك به، وما كنت تتقلب هذا التقلب وتنتقل هذه الانتقالات، لو أن الشاعر اكتفَى بالاستثناء وحده ثم فاجأك بالصفة المستثناة التي يتبين لك سريعًا أنها من قبيل المدح الصراح. إن فلول السيف عيب حقيقي وإثباتها للممدوحين إثبات حقيقي، ولكن الذي قلب ما أوحت به هذه الصورة رأسًا على عقب، هو أن هذا لم يكن لإهمالهم السيوف أو عدم انتقائها عند الشراء بحيث يختارون أردأها، ولكن هذا كان من الحرب ومنازلة الأعداء، فانتفت حينئذ صفة العيب وثبت في الوقت نفسه ضدها، وهو أن فلول السيوف على هذه الصورة من المفاخر. ومن هنا تجيء الخلابة في هذا الباب، ويأتي توجيه الذهن إلى وجهات متناقضة في لحظات متتابعة متلاحقة. وانظر أيضًا إلى شاهد ابن المعتز في الإثبات

وهو علم في الضرب الثاني من ضروب تأكيد المدح بما يشبه الذم، غير أنه دون ما سبقه شهرةً وذيوعًا، يقول: فتًى كملت أخلاقه غير أنه ... جواد فما يبقي من المال باقيا إن الشاعر هنا أثبت لممدوحه كمال الأخلاق، وهذا وصف يتنافَى معه إثبات أي صورة من صور النقص، فلما جاء الاستثناء وقع في وهمك أن هناك شيئًا من النقص يمكن أن ينقض ما استقر في وهمك وثبت فيه، ثم جاء قوله: "جواد" ليردك عن هذا الوهم، فليس الجود صفةً من الصفات المذمومة التي يصح أن تستثنَى من كمال الأخلاق، وبهذا لا يستقر الوهم عندك كما استقر في البيت الماضي. ولا يتطلع ذهنك إلى صفة العيب المثبتة كما تَطَلَّع هناك، وحتى هذه اللحظة يكون إيهام الذم قد تلاشى بسرعة واختفى أثره قبل أن يتمكن من النفس، لكن قوله: "فما يبقي من المال باقيًا" التي تلت صفة الجود قد ترجعك مرة أخرى إلى إيهام الذم، فالجود له حدود ولكن إذا تجاوز حدوده اتهم صاحبه، ولو ممن قد يصيبهم هذا الكرم البالغ مداه بالضرر كالزوجة والأولاد وهذا حديث شرحه يطول. ولكن عند التحقيق لا ترى في هذا شيئًا من العيب، ولم يصل حاتم الطائي إلى ما وصل إليه إلا بأنه كان لا يبقي من المال باقيًا، ولم يبلغ أبو بكر الصديق -رضي الله عنه- من المنزلة في العطاء ما بلغ إلا حين ما ذهب بكل ما يملك إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولم يبقِ لأهله وأولاده إلا الله ورسوله. والرسول -صلى الله عليه وسلم- هو المثل الأعلى الذي لا يدانَى في هذا الميدان، ولو كان العطاء الذي يأتي على المال كله عيبًا، لَمَا صنع التاريخ من هذه النماذج المُثل العليا في هذا الباب، فليس إذًا في إفناء المال في الجود شيء يتناقض مع كمال الأخلاق الذي أثبته في صدر هذا البيت. ولكن هذا لم يثبت إلا

بعد عَرْضه على العقل والوقائع والمثل العليا في هذا الباب، ولم يؤخَذ من نص في كلام. وبهذا ترى فرقا بين البيت الماضي: ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم ... بهن فلول من قراع الكتائب وهذا البيت: فتى كملت أخلاقه غير أنه ... جواد فما يبقي من المال باقيا يتمثل هذا الفرق في أن البيت الأول بدأ بنفي جنس العيب ثم استثنى ما يُوهِم أنه عيب، وأن الأخير بدأ بإثبات كمال الأخلاق، ثم استثنى صفة مدح صريحة واضحة ليس فيها إيهام عيب كسابقه. ثم أعقبه ببيان درجة هذا الجود وهو أنه لا يبقي من المال باقيًا. وليس هذا هو الفرق فقط وإن كان فرقًا واضحًا، ولكن هناك فرقا آخر وهو أن إثبات صفة المدح بعد الاستثناء ورَفع الوهم الذي فيه أُخِذَ في البيت الأول من نص الكلام، وهو أن فلول السيوف من قراع الكتائب، أما في البيت الثاني فإنه لم يؤخذ من نص مذكور في البيت، فالوهم جاء من الاستثناء، ثم دفعه إثبات صفة الجود ثم رده إلى مكانه بيانُ درجة هذا الجود، وهو أنه لا يبقي من المال باقيًا، ثم تركك عند هذا الحد لترتد إلى المثل العليا ووقائع التاريخ، حتى يتبين لك أن هذا ليس من العيب في شيء، وأن النماذج الفذة في العطاء لم تصل إلى ما وصلت إليه إلا لأنها لم تكن -أي: تلك النماذج- تبقي من المال باقيًا. وبهذا الاستنتاج العقلي يدخل الممدوح في الإطار الذي دخلت فيه هذه النماذج الخالدة، وهذا أقصى ما يطمح إليه إنسان. ونظيره البيت السابق: فتى كملت أخلاقه غير أنه ... جواد فما يبقي من المال باقيا قول ابن المقرب: وسلاب أرواح الكماة لدى الوغى ... ولكن مرجيه لدى السلم سالبه

فما قبل لكن وصفٌ للممدوح بالجرأة والشجاعة لدى الوغى، وما بعد لكن وصف آخر بالكرم وتحقيق الرجاء. ونلاحظ أن الذي ذُكِر في البيت أداة استدراك وليس أداة استثناء. ومنه قول بديع الزمان الهمذاني: هو البدر إلا أنه البحر زاخر ... سوى أنه الضرغام لكنه الوبل وقول الآخر: أخو ثقة لا تهلك الخمر ماله ... ولكنه قد يهلك المال نائله ومن تأكيد المدح بما يشبه الذم -وهذه صورة ثالثة يأتي عليها هذا الضرب من ألوان البديع- ما يوهم ظاهره أنه ذم خالص، كقول بعضهم: ولا عيب فيهم غير شح نسائهم ... ومن المكارم أن يكن شحاحا فقراءة الشطر الأول لا تدل على مدح، فالشح عيب ولا خيرَ فيه، وفي القرآن الكريم: {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (الحشر: 9) هكذا على الإطلاق لا فرق بين الرجال والنساء في ذلك، وعلى هذا يكون ما استثناه عيبًا بل عيبًا شنيعًا، وناهيك بالشح عيبًا وشناعةً، ولكن الشاعر حينما قال: "ومن المكارم أن يكن شحاحًا". مَحَا ما وقع في وهمك أولًا، وبين أن هذا من المكارم، ولولا ما جاء في الشطر الثاني لما كان الشطر الأول إلا ذمًّا خالصًا. وربما عنَى بذلك أنهن يحافظن على أموال أزواجهن فلا يسرفن في الإنفاق كما هو الشأن في المرأة، ولا يبذرن ولا يخرجن منها إلا ما أذن فيه الأزواج، فسمى ذلك شُحًّا؛ مبالغةً في صورة المحافظة على المال، وهو في الحقيقة ليس كذلك، وهذا نوع جديد غير ما مضى. ومن تأكيد المدح بما يشبه الذم قول حاتم الطائي: وما تتشكى جارتي غير أنني ... إذا غاب عنها بعلها لا أزورها فيبلغها خيري ويرجع أهلها ... إليها ولم تقصر علي ستورها

ففي صدر البيت الأول ينفي شكوى جارته منه، والشكوى إنما تكون من أمر غير مرضي من قبل الشاكي، وأن تفعل مع جيرانك ما يرضيهم ولا يشكون منه فهذا أمر حسن تُحمد عليه، وهو من حسن الجوار الذي تدعو إليه مكارم الأخلاق وشرائع السماء. وفي هذا مدح للنفس وفخر بفعالها، فلما جاء الاستثناء "غير" أوقع في وهمك أن هناك شيئًا تشكو منه الجارة، وبالتالي فإنه يوهم أنك فعلت معها ما لا يرضيها، فلا تكون الشكوى إلا من ذلك، وهذا يقلل من مدحه لنفسه الذي بدأ به. ومع هذا الوهم الذي يتبعه ترقب ما فعله معها وانتظار خبره، واللهفة المصاحبة لذلك، يستمر في إنشاده: "إنني إذا غاب عنها بعلها" فنحن حتى هذه اللحظة لا نعرف ماذا يفعل معها حينما يغيب عنها بعلها وهو ما تشكوه منه، وقد يذهب بك الظن كل مذهب في تقدير هذا الذي يفعله مع جارته في غياب بعلها. ولكن حينما يأتي إلى نهاية البيت تعرف جوابَ الشرط وهو: "لا أزورها". وعدم زيارة الجارة في غيبة الزوج ليس من العيب في شيء، بل هو مما يتمدح به العربي قبل الإسلام؛ دلالةً على حفظ الجوار وحفظ غيبة جاره. وقد يُظن أن هذه الصورة قريبة من بيت النابعة: ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم ... بهن فلول من قراع الكتائب في طريقة البِناء، ونوع الخَلابة، واتجاه الظنون، وقيام الوهم، ولكن الأمر ليس كذلك، ذلك أن بيت النابغة وصل إلى مداه بمعرفة سبب فلول سيوف الممدوحين، وانتهى الأمر عند هذا الحد. ولكن الوصول إلى جواب الشرط هنا هو الذي يرفع الوهم ولكن لا يرفع الإشكال كله، وإن كان قد نفَى الوهم القائم، فعدم الزيارة لجارته قد يوهم إهمال أمرها، وعدم برها، والانصراف عن رعايتها، وقطع حبال الجوار قطعًا كاملًا، وهذا يعيبه وينتقص من قدر مدحه لنفسه وافتخاره بفعاله، على الرغم من أن نفي الزيارة في غياب البعل مدح له

ومَكرُمة تحمد له. ومن هنا اضطر حاتم الطائي أن ينفي هذا الوهمَ الذي طرأ بالبيت التالي: سيبلغها خيري ويرجع أهلها ... إليَّ ولم تقصر علي ستورها لا تلازم إذًا بين الزيارة وبين وصول الخير إليها، فالخير يمكن أن يصلها بدون زيارة، فالصلة والمودة والمعروف ورعاية المصالح وقضاء الحاجات والدفاع عنها عند الحاجة، وما شاكل ذلك، يتحقق له من غير الزيارة، ومن هنا ارتفع الوهم الذي جاء به الشرط في البيت الماضي. والملاحظ هنا: أنه نفَى أن تقصر عليه ستورها، وهو بذلك يعني نفي الزيارة المريبة، وهذا لا يمنع أن يرى جارته خارجَ الستور إذا كان هناك ما يدعو إلى ذلك من طلب حاجة، أو دفع مضرة، أو ما يجري مجرى ذلك، وبهذا ترى أن الوهم هنا وهم يبدو ويختفي، ويتجدد وينتهي على التوالي والتكرار، وليس الأمر كذلك فيما مضى من شواهد وأمثلة. وبهذا تختلف هذه الصورة عما مضى. ومما يقرُب من هذه الصورة في الحاجة إلى البيان والإيضاح والشرح، قول أبي هفان وهو المستحسن عند الحاتمي في هذا الباب: فإن تسألي عنَّا فإنَّا حلا العلا ... بني عامر والأرض ذات المناكب ولا عيب فينا غير أن سماحنا ... أضر بنا والبأس من كل جانب وأفنَى الردى أعمارنا غير ظالم ... وأفنى الندى أموالنا غير عائب أبونا أب لو كان للناس كلهم ... أبًا واحدًا أغناهم بالمناقب فجنس العيب المنفي جاء بعده الاستثناء؛ ليوهمك بأن هناك شيئًا من العيب، ثم أثبت للسماح والبأس إيقاع الضرر بهم من كل جانب، والضرر على هذه الصورة ضرر شامل، وهذا يردك مرة أخرى إلى التوهم والترقب والانتظار؛ لتعرف طبيعةَ هذا الضرر، وجاء البيت التالي ليبين لك طبيعة الضرر، فإذا به

يثبت للناس والأرواح وللندى أفناءَ الأموال، وهذا عند التأمل ومراجعة التاريخ والوقائع والمثل والنماذج، قمةُ الفخر في هاتين الصفتين، غير أن الشاعر أعانك على هذا الاستنتاج وراح يتركك؛ لتتأمل ولتراجع ما قاله. وإنما نَفَى الظلم عن البأس في إفنائه للأرواح، ونفى العيب عن الندى في إفنائه للأموال، أي: أن ما أراد أن يوهمك بأنه ضرر ثابت للبأس والندى، عاد هو نفسه ونفى ما أثبته أولًا. ولولا البيت الثاني لبقي الوهمُ قائمًا في النفس، وإثبات البأس والسماح لنفسه ولقومه لا يكفي مطلقًا في إزاحة هذا الوهم والقضاء عليه، فكان لابد من البيان والإيضاح في البيت الثاني. ومن تأكيد المدح بما يشبه الذم قول ابن نباتة: ولا عيب فيها غير سحر جفونها ... وأحبب بها سحارة حين تسحر ففتاتُه لا عيبَ فيها سوى الجمال وسحر الجفون، لو عد سحر الجفون عيبًا، وكونه عيبًا محال، والملاحظ أن أداة الاستثناء المستخدمة هنا في كل ما مضى هي "غير" وهي الأداة الغالبة في معظم ما ذكر من صور هذا الباب، ولكنها ليست الأداة الوحيدة المستخدمة، فقد استخدم بعض الشعراء "سوى" في قليل مما ورد. فمن ذلك قول أبي تمام: تنصل ربها من غير جرم ... إليك سوى النصيحة والوداد فنفى مطلق الجرم هنا نفيًا عامًّا، ثم استثنى بـ"سوى" فأوهمك أن هناك شيئًا من الجرم، ثم جاء بعد ذلك بما ليس من الجرم في شيء وهو النصيحة والوداد، ومثل هذه الصورة التي يكون ما بعد أداة الاستثناء فيها ليس من قبيل ما يوهم الذم، وإن كانت غير مذهب ابن رشيق الذي سبق، فإن فيها إيهامًا بالذم بمجرد ذكر أداة الاستثناء، ولكنها وإن دخلت هذا الباب فإنها لا تبلغ مبلغ الصور التي يوهم فيها ما بعد أداة الاستثناء الذم. وكلما كان زمن الإيهام أطولَ كان أبلغَ؛

ولأنه حينئذٍ يبلغ بالخَلابة مداها، ويبلغ بتلاعبه بتصوراتك غايته، وكلما كان زمن الإيهام أقصرَ كان أقل بلاغة. ومما ورد فيه استخدام "سوى" أيضًا قول الآخر: ما فيه من عيب سوى فتور عينيه فقط ... وفتور العينين يوهم العين ولكنه عند التحقيق لا تراه كذلك، فإنه مما يستحسن في النساء، وبهذا تكون هذه الصورة غير ما سبقها فيما يلي أداة الاستثناء، وهكذا ترى في كل صورة خاصية ليست في غيرها. ومن ذلك قول صفي الدين الحلي: لا عيب فيهم سوى أن النزيل بهم ... يسلو عن الأهل والأوطان والحشم فكون النزيل بهم يسلو عن الأهل والوطن والحشم ليس عيبًا، بل هو دليل كرمهم وبرهان حسن ضيافتهم. ومنه قول ابن الرومي: ليس له عيب سوى أنه ... لا تقع العين على شبهه فجعل انفرادَه بالحسن وعدم وقوع العين على شبيه له عيبًا، فزاد بهذا من حسنه وأكد جماله. أما "إلا" -وهي عمدة باب الاستثناء- فإن ما ورد منها في صور الإثبات ليس بشيء على الإطلاق، وانظر إن شئت إلى قول بديع الزمان الهمذاني يمدح خلف بن أحمد الساجستاني: هو البدر إلا أنه البحر زاخر ... سوى أنه الضرغام لكنه الوبل أو قول ابن قلاقس: هو الثغر إلا أنه البدر طالع ... على أنه الكافور لكنه الوبل وفتش عما فيه ما من صور الخلابة التي رأيتها فيما سبق من صور، أو مقدار الإيهام الذي لا بد منه في هذا الباب، بل فتش إن شئت عن الجمال والبيان في أي

منهما، فإنك لا تجد من ذلك شيئًا. أما في صور النفي فإن للأداة "إلا" باعًا واتساعًا ليس لغيرها من الأدوات الأخرى، وفي الاستثناء المفرغ على وجه الخصوص تتبدى فيه أسرار عديدة وعجيبة، وفي القرآن الكريم من صوره الكثير، وليس الأمر على ما ذكر ابن أبي الإصبع من أنه لم يجد منه في كتاب الله إلا آية واحدة احتال على تأويلها؛ ليدخلها في هذا الباب، وهو قوله -جل شأنه: {قُلْ يَا أَهْل الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ} (المائدة: 59) وأضاف السيوطي إلى هذه الآية في هذا الباب قولَه تعالى: {وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ} (التوبة: 74) وقوله: {الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ} (الحج: 40) وينقل أيضًا عن التنوخي في (الأقصى القريب) استشهاده في هذا الباب بقوله تعالى: {لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا * إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا} (الواقعة: 25، 26). وهذا الذي أجهد ابن أبي الإصبع نفسه ودَعَا السيوطي إلى الاستدراك عليه والاستعانة بالنقل عن التنوخي، تعرض له الزمخشري في تفسيره، وأدخله في هذا الباب صراحةً، وتوقف عند ما ذكره هؤلاء من الآيات وما لم يذكروه كآية النساء: {وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ} وقد سبق الكلام فيها. وآية الأعراف: {وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا} (الأعراف: 126)، وآية مريم: {لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلَامًا} (مريم: 62) وآية البروج: {وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} (البروج: 8). وسار على طريق الزمخشري في هذه الآيات أبو السعود في تفسيره، والشوكاني في (فتح القدير) فالموضوع قديم إذًا وضع هذه الآيات المتعددة في إطار تأكيد المدح بما يشبه الذم، أو في باب: "ولا عيبَ فيهم" قديم أيضًا. بل إن الأمر أقدم من

هؤلاء المفسرين، فقد نقل الشوكاني اختلافَ النحويين في قوله تعالى: {الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ} (الحج: 40) فذهب سيبويه: إلى أنه استثناء منقطع، وذهب الفراء والزجاج: إلى أنه متصل، والتقدير: الذين أخرجوا من ديارهم بلا حق إلا بأن يقولوا ربنا الله، فيكون مثل قوله سبحانه: {وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا} وقول النابغة: ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم ... بهن فلول من قراع الكتائب وإذا أرجعنا البصرَ إلى ما ينقمه الكفار من المؤمنين وجدنا أنه الإيمان، وهو بالنسبة إلى الكفار عيب حقيقي، بل عيب قاتل في جماعة الإيمان، وإن كان عند المؤمنين مفخرة المفاخر. وهذا يختلف عما مضى من أن إيهام العيب هناك ونفيه لا يختلف النظر فيه بين إنسان وإنسان، أما هنا فالقضية مختلفة، وأن ما نقمه الكفار هو موضع للنقمة عندهم فقط وفي نظرهم فقط، ولكنه عند المؤمنين موضع للفخر. وهذا فرق أساسي. أما ما نقمه المنافقون فهو أن أغناهم الله ورسوله من فضله، وقد يبدو أن هذا ليس من قبيل ما ينقم في نظر المنافقين، فهو خير إسداء لهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقد أغناهم بعد فقر، ولكن عند إمعان النظر نجد أن هذا أيضًا من قبيل ما مضى، فالمنافق يؤذيه أن يكون للرسول -صلى الله عليه وسلم- عليه يد أو فضل، وبهذا يكون إغناءُ الرسول له موضعًا للنقمة عنده، وكلما زاد الرسول عطاءً زاد هو غيظًا وحقدًا أو حسدًا وبغضاءً، وهذه هي طبيعة النفاق وشأن المنافقين دائمًا، فعطاء الرسول لهم موضع للنقمة كذلك عند المنافقين، وإن كان بالنسبة إلى رسول الله جزاء من طبيعته وأخلاقه، وعلى هذه الطريقة جاء قول عبد الله بن قيس الرقيات: ما نقموا من بني أمية ... إلا أنهم يحملون إذا غضبوا

ولا يتوقف الأمر في هذا الباب عند أدوات الاستثناء، فقد جاء توكيد المدح بما يشبه الذم بـ"لولا" ومما ورد من ذلك قول عمر في علي -رضي الله عنهما: "لله دره لولا دعابة فيه". فالدعابة لا تعيب الرجال العظام، ولا تنافي الخلافةَ وتولي أمور المسلمين، ولو كان في علي صفة ذم على الحقيقة لكانت أولى بالذِّكر في هذا المقام. وهكذا نرى أن هذا الباب يكون بأدوات الاستثناء وبغيرها، وإن كانت أدوات الاستثناء هي الأصل في هذا الباب، حتى سماه الحاتمي وأصحابه باسم الاستثناء -كما سبق أن ذكرتُ- وأن "غير" هي المقدمة في هذا الباب على كل الأدوات في الإثبات والنفي على السواء، وأن "إلا" لم يصل إلينا من صور الإثبات منها إلا ما لا قيمةَ له، وأما في صور النفي وخاصة الاستثناء المفرغ فإن لها مكانةً ومنزلةً، وناهيك بآيات القرآن في هذا الباب. وأما الاستدراك الذي أنزلوه منزلةَ الاستثناء، فإن ما ورد منه هو نفس ما ورد في "إلا" في الإثبات، وهو بيت بديع الزمان الهمذاني، وبيت ابن قلاقس الماضيان، وهما على الترتيب: هو البدر إلا أنه البحر زاخر ... سوى أنه الضرغام لكنه الوبْل وقول ابن قلاقس: هو الثغر إلا أنه البدر طالع ... على أنه الكافور لكنه الوبل ويعنون بالاستدراك ورود "لكن" التي جاءت في آخر البيتين: "لكنه الوبل". وهو أيضًا ليس بشيء -كما سبق أن ذكرنا- ونحن هنا لا نتحدث حديثًا نظريًّا، وإنما نتحدث في إطار الواقع الفعلي لصور هذا الباب كما ورد في فصيح الكلام، على أن هذا لا يعني أن الباب في صور "إلا" في الإثبات والاستدراك وأدوات الاستثناء الأخرى التي لم نعثر على شواهد لها قد أغلق، لكنه قد تكون هناك صور أخرى لهذه الأدوات ولم تصل إلى علمنا، وقد يتاح لها من مقتدري الشعراء والأدباء

مَن يصل بها أو بإحداها إلى ما وصلت إليه "غير" و"إلا" في الاستثناء المفرغ، وليس هذا ببعيد. أما وجه التوكيد فإنه في إثبات صفة المدح أو نفي صفة الذم إذا ما أتت بعد أي منهما أداة استثناء أو ما يشاكلها، فإنها تردك عما استقر في ذهنك من إثبات ما ثبت أو نفي ما نفي، والشأن فيما يأتي بعد أداة الاستثناء أن يكون مخالفًا لما قبلها، أي: أن يكون من قبيل الذم، فإذا ما جاء بعدها صفة مدح كان ذلك تثبيتًا لمَا مضى من المدح وتأكيدًا له، فلو كانت هناك صفة ذم على الحقيقة لكانت أولى بالذكر في هذا المقام، فلَمَّا لَمْ يجد المتكلم ما يستثنيه من صفات الذم أثبت صفةَ مدحٍ أخرى ترسخ ما سبق من وصف، وعلى هذا يكون مجرد ذكر أداة الاستثناء كافيًا في هذا المقام، وإن كان ابن رشيق يذهب مذهبًا آخرَ سبق الكلام عليه. لكنه مع التسليم بأن مجرد ذكر أداة الاستثناء يوهم بأن ما سيأتي من صفات مخالف لِمَا سبق، فإن طول أمد هذا الوهم بأن يذكر بعد أداة الاستثناء ما يوهم أنه من صفات الذم من حيث ظاهره، يعطي لهذا اللون سحرًا بلاغيًّا خاصًّا -كما سبق تفصيل القول فيه. ثم إن صورة النفي لها وجه آخر من وجوه التوكيد، وهو أن تقدير الاتصال في الاستثناء يحوله إلى باب التعليق بالمحال، وإلى هذا فطِن العلماء قديمًا وصرحوا به، قال الزمخشري في آية النساء: "فإن قلت: كيف استثنى ما قد سلف مما نُكِح آباؤكم؟ قلت: كما استُثني: غير أن سيوفهم من قوله: ولا عيب فيهم". يعني: إن أمكنكم أن تنكحوا ما قد سبق فأنكحوه فلا يحل لكم غيره، وذلك غير ممكن، والغرض -كما قلنا- المبالغة في تحريمه، وسد الطريق إلى إباحته، تمامًا كما يعلق بالمحال في التأييد في نحو قولهم: حتى يبيض القار، و {حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ} (الأعراف: 40).

وهذا يفتح لنا مجالًا واسعًا يمكن أن تدخل منه صور من تأكيد المدح بما يشبه الذم ليست على الطريقة التي مضت، نذكر منها هنا ما رواه اليزيدي في أماليه عن ابن الأعرابي، قال: "لما مات عامر بن الطفيل جعل حول قبره حِمًى ميلًا في ميل، لا يرعَى، ولا يدفن فيه أحد، فقدم ابن عمه جبار بن سلمى بن مالك، فقال: أين دفنتم أبا علي؟ فأروه قبره، فقال: لقد ضيقتم على أبي علي، إن أبا علي بان بخِصال كان لا يضل حتى يضل النجم، ولا يعطش حتى يعطش الجمل، ولا يبخل حتى يبخل البحر، ولا يجبن حتى يجبن السيل". فابن عم عامر بن الطفيل نفَى عنه الضلالَ والعطشَ والبخلَ والجبنَ، وكان يأتي بـ"حتى" بعد كل نفي، فتتوهم أن ما نفاه عنه له غاية ينتهي عندها، وأنه لا يستمر أبدًا، وأنها صفات معلقة وليست مطلقة، صفات مفارقة وليست بلازمة، صفات لها أمد تنتهي عنده لا تتعداه، فهذا هو ما توحي به "حتى". فإذا جاء بعدها ما هو أصل فيما وُصِفَ به صاحبُه، رجعتَ إلى ما بدأك به من إثبات ما أثبت بطريقة مطلقة؛ لأنه علق الأمر على ما لا يكون، وإذا كان من المحال أن يضل النجم وأن يبخل البحر وأن يجبن السيل عن الاندفاع، فهل من المحال أن يعطش الجمل حتى يكون من باب التعليق بالمحال؟ إن التعليق هنا ليس بمحال وإنما بما يمثل الغاية العظمى عند العرب في تحمل العطش، فَوَصْف صاحبه بالجمل في هذا الباب يعني أنه يصل إلى أقصى الغايات في تحمل العطش، وليس الهدف أنه لا يعطش أبدًا، فإن هذا لا يكون، وهذا هو وجه التعليق في هذه الصور. وبهذا تدخل عندنا أداة جديدة من أدوات توكيد المدح بما يشبه الذم وهي "حتى" الغائية، وما جرى مجراها، وبهذا تتسع دائرة هذا الباب. ونقف عند آية مريم، وهي قوله تعالى: {لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلَامًا}، وعند آية الواقعة: {لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا * إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا} (الواقعة: 25، 26)

فقد ذهب الزمخشري في آية مريم: إلى أن الاستثناء فيها يمكن أن يكون منقطعًا على الأصل، فيكون وجه التأكيد فيه هو ما ذكرناه أولًا من أن ذِكْر أداة الاستثناء تُوهِم أن ما يأتي بعدها مخالف لِمَا سبق، فإذا أتى مجانسًا له من صفات المدح كان توكيدًا على توكيد؛ لأنه صفة جاءتْك في اللحظة التي كنت تترقب نقيضها، وهذا الوجه تشترك فيه صور الإثبات وصور النفي. ويمكن مع انقطاعه أن يقدر متصلًا، فيكون من باب التعليق بالمحال، وهو الوجه الثاني من وجوه التوكيد، وهو الذي يأتي في صور النفي فقط، وهو الذي يكون كالتعليق بمحال. وهناك وجه ثالث وهو أن يكون هذا الاستثناء من أصله متصلًا، فيكون ما بعد "إلا" داخلًا فيما قبلها، ووجهه أن معنى السلام هو الدعاء بالسلامة، ودار السلام هي دار السلامة، وأهلها من الدعاء بالسلامة أغنياء، فكان ظاهره من باب اللغو وفضول الحديث لولا ما فيه من فائدة الإكرام، ولكن ابن النمير يرفض هذا الوجه الثالث، حيث يقول: "وفي هذا الباب بُعدٌ؛ لأنه يقتضي البتَّ بأن الجنة يُسمع فيها لغوٌ وفضولٌ، وحاشا لله، فلا لغو ولا فضولَ هناك"، ولو رُدت آية مريم إلى آية الواقعة لانتَفَى هذا الوجه الثالث الذي ذكره الزمخشري؛ لأنه في آية الواقعة عطف التأثيم على اللغو: {لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا} ووقوع السمع المنفي عليهما معًا في هذه الآية يجعل اتصالَ الاستثناء هنا مستحيلًا، فلا يدخل السلام في اللغو ولا التأثيم بحال من الأحوال. وإذا صح هذا الأمر هنا صح هناك في آية مريم، ويكون السلام شيئًا غير اللغو، ويبقى للتوكيد وجهان في آية مريم كما هو في آية الواقعة، وكما هو في كل صور النفي في هذا الباب.

تأكيد الذم بما يشبه المدح.

تأكيد الذم بما يشبه المدح ونأتي للكلام عن تأكيد الذم بما يشبه المدح: وتأكيد الذم بما يشبه المدح له ضربان أيضًا؛ أولهما: أن يُستثنَى من صفة مدح منفية عن الشيء صفة ذم بتقدير دخول صفة الذم المستثناة في صفة المدح المنفية. مثلًا قول الله تعالى: {لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا * إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا} (النبأ: 24، 25) فما قبل "إلا" نفي لذوق البرد والشراب، وما بعدها إثبات لذوق الحميم والغساق، وكلاهما ذم. ومنه قوله تعالى: {فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَا هُنَا حَمِيمٌ *وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ} (الحاقة: 35، 36) فما قبل "إلا" نفي لوجود الصديق الحميم والطعام الطيب، وما بعدها إثبات لوجود الطعام الخبيث {غِسْلِينٍ}، وكلاهما ذم. ومن ذلك أيضًا قول الشاعر: خلا من الفضل غير أني ... أراه في الحمق لا يجار فقد نفى عنه الفضل بقوله: "خلا" هذا أولًا، ثم استثنَى من ذلك رؤيتَه له منغمسًا في الحمق لا يجاريه أحد في الحماقة. ومنه قول الآخر: فإن من لامني لا خير فيه سوى ... وصفي له بأخس الناس كلهم فما قبل "سوى" نفي للخير عنه، وما بعدها وصف له بأخس الناس كلهم، وكلاهما كما سبق ذم. ثاني هذه الصور -الذي يأتي عليها تأكيد الذم بما يشبه المدح: أن يثبت المتكلم للشيء صفةَ ذمٍ ويعقب كلامه بأداة استثناء أو استدراك تليها صفة ذم أخرى. مثلًا قول القائل: لئيم الطباع سوى أنه ... جبان يهون عليه الهوان أثبت له صفةَ اللؤم قبل "سوى" وصفة الجبن بعدها. ومنه قول الآخر:

يا رسولًا أعداؤه أراذل الناس ... جميعًا لكنهم في الجحيم فقد وصفهم بأراذل الناس، ثم استدرك فأثبتَ أنهم في الجحيم. بلاغة هذين الأسلوبين: إن بلاغة تأكيد المدح بما يشبه الذم أو الذم بما يشبه المدح يرجع إلى أمرين؛ الأمر الأول: أن كلًّا منهما بمثابة الدعوى التي أُقِيمَ عليها الدليل والبرهان، وذلك أن المتكلم يستدل على نفي الذم أو المدح في الضرب الأول من كل أسلوب، وعلى إثباتهما في الضرب الثاني، يستدل على ذلك بالتعليق على ما لا يكون وما لا يتحقق له وجود بحال من الأحوال. فعندما نقول مثلًا: لا عيب فيك سوى أنك شجاع، فإننا نستدل على نفي العيب عنك بكونك شجاعًا، والمعنى: لا عيب فيك سوى الشجاعة إن كانت الشجاعةُ عيبًا، وكون الشجاعة عيبًا محال، فثبوت العيب لك محال. وعندما نقول: فتى كملت أخلاقه ... سوى أنه كريم فإننا نستدل على كمال أخلاقه بكونه كريمًا، والمعنى: لقد كملت أخلاقُه إلا من شيء واحد، وهو الكرم، إن كان الكرم ينقص من كمال الأخلاق، وكون الكرم ينقص من كمال الأخلاق محال، فيثبت بهذا أنه متصف بكمال الأخلاق. وكذا يُقال في تأكيد الذم بما يشبه المدح، وما من ريبٍ في أن إثبات الشيء بالدليل والبرهان يكون آكدَ وأبلغَ من إثباته مجردًا عن الدليل. الأمر الثاني: ما فيهما من المفاجأة والمباغتة للسامع؛ فإن المتكلم عندما ينطق بأداة الاستثناء أو الاستدراك، يتوقع السامع ويدور في خَلَده أن المستثنى أو المستدرك فيكون مغايرًا ومخالفًا للمستثنى منه، كما هو المألوف من هذا الأسلوب، وعندما يأتي المستثنى مؤكِّدًا للمستثنَى منه وعلى خلاف ما كان يتوقع السامع، تكون المفاجأة والمباغتة التي تكسب المعنى طرافةً، وتثير في النفس تنبيهًا، وبهذا يتأكد المدح في أسلوب تأكيد المدح، ويتأكد الذم في أسلوب تأكيد الذم. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الدرس: 19 التورية.

الدرس: 19 التورية.

معنى التورية لغة واصطلاحا، وعناصرها.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس التاسع عشر (التورية) معنى التورية لغةً واصطلاحًا، وعناصرها الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، ثم أما بعد: التورية في اللغة: مصدر ورَّى الشيء، إذا ستره وأخفاه كالمواراة، يقال: وريت الشيءَ وواريته، وفي (اللسان): وريت الخبر جعلته ورائي وسترته. وفي الحديث: ((أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان إذا أراد سفرًا ورى بغيره)) أي: ستره وكَنَّى عنه، وأوهم أنه يريد غيره. وأصله من الوراء أي: ألقى البيان وراء ظهره. وفي التنزيل: {فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا} (الأعراف: 20) أي: ستر على وزن "فعل" وقرئ: "وُرِّيَ عنهما" بمعنًى. ووريت الخبر أوريته توريةً: إذا سترته وأظهرت غيرَه، كأنه مأخوذ من وراء الإنسان؛ لأنه إذا قال: وريته، فكأنه يجعله وراءَه حيث لا يظهر. فالمادة إذًا تدور حول الستر والإخفاء، قال الله تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا} (الأعراف: 26) أي: يسترها ويخفيها. والورى: الأنام الذين على وجه الأرض في الوقت، ليس من مضى، ولا من يتناسل بعدهم، سموا بذلك؛ لأنهم يسترون الأرض بأشخاصهم. أما في عرف البلاغيين واصطلاحهم: فإن التورية تعني: أن يُذكر لفظ له معنيان؛ أحدهما: قريب يتبادر معناه إلى الذهن، والآخر: بعيد دلالة اللفظ عليه خفية، والمراد هو البعيد منهما. وقد وُري عنه بالمعنى القريب، فيتوهم السامع لأول وَهلة أن المتكلم يريده وهو ليس بمراد له. والمقصود بالقرب والبُعد هنا هو سرعة حصول المعنى في الذهن عند سماع اللفظ أو عدم حصوله، فالقريب يكون أسرعَ إلى الذهن تردادًا وحصولًا من المعنى البعيد. كما نرى هذا في قول الشاعر:

حملناهم طِرًا على الدهم بعدما ... خلعنا عليهم بالطعان ملابسا فالتورية في لفظ "الدهم" فإن لها معنيين؛ معنى قريب غير مراد وهو الخيل، ومعنى بعيد هو المراد وهو قيود الحديد. ومثل ذلك قول سراج الدين الوراء: أصون أديم وجهي عن أناس ... لقاء الموت عندهم الأديم ورب الشعر عندهم بغيض ... ولو وافَى به لهم حبيب فلفظ "حبيب" في البيت الثاني له معنيان؛ أحدهما: المحبوب وهو المعنى القريب الذي يتبادر إلى الذهن، والثاني: اسم أبي تمام، وهو حبيب بن أوس الطائي، وهذا هو المعنى البعيد الذي أراده الشاعر، وقد وَرَّى عنه بالمعنى القريب. ومن ذلك قول الله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ} (الأنعام: 60) فلفظ: {جَرَحْتُمْ} في الآية الكريمة له معنيان؛ قريب ظاهر غير مراد، وهو إحداث تمزق في الجسد، والثاني: بعيد خفي المراد، وهو ارتكاب الذنوب واقتراف المعاصي. ومن ذلك قول أبي العلاء المعري: وحرف كنون تحت راء ولم يكن ... بدال يؤم الرسم غيره النقط فألفاظ هذا البيت مبنية على التورية، إذ معناه: أن هذه الناقة لضعفها وهزالها قد انحنت وتقوست، وصارت شبيهةً بحرف النون في تقوسها، تحت رجل يضرب رئتيها ولا يَرفق بها في السير فهو غير دال، يؤم بها دارًا غيَّر المطر رسمها، فالمعنى القريب الظاهر غير المراد للحرف أحد حروف الهجاء، وللراء والدال الحرفان المعروفان، وللرسم رسم الأحرف وكتابتها، وللنقط تنقيط الأحرف، والمعنى البعيد لهذه الألفاظ الحرف النقط، والراء: اسم فاعل من رأى أي: ضرب الرئة، والدال اسم فاعل من دَلَى يدلو: إذا رفَق في المسير، والرسم: أثر الديار، والنقط: المطر. وتلك المعاني البعيدة هي المرادة، وقد ورَّى عنها الشاعر بالمعاني القريبة، فبدت في صورة حسنة لطيفة كما يبدو وجه الحسناء من وراء البُرقُع.

وبهذا يتبين أن التورية لفظ مفرد له معنيان: إما بالاشتراك أو التواطؤ، أحد المعنيين قريب ظاهر غير مراد، آخر بعيد خفي مراد، والمتكلم يوهم السامع أول الأمر أنه يريد الأمر القريب، وعند التأمل يتضح أنه يريد المعنى البعيد. ولذا سمي هذا النوع أيضًا باسم الإيهام. وواضح من الأمثلة السابقة أن التورية تكون من ثلاثة عناصر؛ الأول: لفظ له معنيان. الثاني: معنى قريب ويسمى المُوَرَّى به. الثالث: معنى بعيد، ويسمى المُوَرَّى أو المُوَرَّى عنه. ففي بيت: "حملناهم طرًا على الدهم" نجد لفظ الدهم له معنيان، هذا اللفظ هو العنصر الأول، والمعنى القريب لهذا اللفظ وهو الخيل هو العنصر الثاني، معناه البعيد وهو القيود الحديدية، هو العنصر الثالث، ولا بد في التورية من تفاوت المعنيين في القرب والبعد، فإن تساويَا فيهما فلا تورية، مثل كلمة جون، فإن لها معنيين أبيض وأسود، إلا أنهما متساويان في القرب والبعد ما لم تدل قرينة على أن المراد منهما، لذا فإن هذه الكلمة لا توريةَ فيها لعدم تفاوت المعنيين. وعليه، فالتورية إذا خلت من قرينة دالة على أن المراد باللفظ هو المعنى البعيد، وأن المعنى القريب ليس إلا مخفيًا وساترًا للمعنى البعيد، إذا خلت من ذلك كانت ضربًا من التعمية والإلغاز، وكلاهما قبيح، فضلًا عن كونهما ليسَا من المحسنات البديعية، فلا بد في التورية إذًا من قرينة تدل على أن المراد هو المعنى البعيد للفظ، وقد تكون هذه القرينة عقلية تفهم بقرينة المقام والأحوال، وقد تكون القرينة لفظية كما نجد ذلك في قول الشاعر -وقد مر بنا: حملناهم طرًا على الدهم بعدما ... خلعنا عليهم بالطعان ملابسا فإن قوله: "خلعنا" يدل على أن الحمل على الخيل، وهو نوع من التكريم غير مراد، وأن المراد هو القيود الحديدية، إذ إنها هي التي تناسب خلع الطعان عليهم ملابسا، وهي ملفوظة -كما ترى.

الفرق بين المجاز والتورية.

الفرق بين المجاز والتورية وسواء كانت القرينة عقلية أو لفظية فلا بد أن تكون خفية تعتمد على إعمال الذهن وإدارة الخاطر، فإذا كانت ظاهرة لم يكن اللفظ تورية، وهذا أحد الفروق بين المجاز والكناية، ذلك أن التورية تقوم على لفظ له معنيان -كما قلنا- أحدهما مراد، والآخر ليس مرادًا، وهو نفس ما يقوم عليه المجاز، فالمجاز لفظ مستعمل في غير معناه الحقيقي، إذًا هناك معنى موضوع له اللفظ يتبادر إلى الذهن عند سماعه وهو غير مراد، ومعنى آخر مستعمل فيه غير ما وُضِعَ له لا يتبادر إلى الذهن عند سماعه وهو المعنى المراد، وهذا القدر يتحقق في التورية كما يتحقق في المجاز، فكلاهما لفظ له معنيان، أحدهما مراد والآخر غير مراد. كما أن المجاز والتورية كليهما لا بد فيهما من قرينة تبين المراد، وهو المعنى المجازي في المجاز، والمعنى البعيد في التورية، إلا أن هذه القرينة -التي في التورية- لا بد أن تكون خفية وغير واضحة -كما سبق أن أشرنا. أما في المجاز فينبغي أن تكون واضحة ظاهرة لا خفاءَ فيها ولا غموض؛ لتمنع من إرادة المعنى الحقيقي للفظ، كما نراه في قول المتنبي: تعرض لي السَّحاب وقد قفلنا ... فقلت: إليكِ إن معي السحاب ففي لفظ "السحاب" الثانية استعارة، والمراد به الرجل الكريم؛ لأنه يجود بالمال كما يجود السحاب بالغيث، والقرينة قوله: "معي" وهي قرينة ظاهرة واضحة؛ لأن السحاب الذي في السماء لا يكون معه، وإنما معه الممدوح، ولذلك قال بعده: فشم في القبة الملك المُرجى ... فأمسَك بعدما عزَم انسكابا

"شم" معناه: انظر، يقول: إنه أمر السحاب أن ينظر إلى الملك الذي معه، فلما نظر السحاب أمسك عن إنزال الغيث بعدما عزَم على الانسكاب؛ حياءً من جوده. فالشاعر نقل كلمة السحاب من معناها الحقيقي وهي الغمام في السحاب إلى الممدوح، وهذا النقل مجاز قرينته ظاهرة واضحة -كما ترى. وهناك فرق أكثر وضوحًا بين التورية والمجاز: ذلك أن كل واحد من المعنيين في التورية يُفهم من اللفظ من غير وساطة الآخر، ومن غير احتياج لعلاقة بينهما، أما في المجاز فلا بد من علاقة بين المعنى المجازي والمعنى الحقيقي، قد تكون المشابهة فيكون المجاز استعارة، وقد تكون غير المشابهة فيكون المجاز مرسلًا. والمعنيان الدال عليهما اللفظ في التورية قد يكونان حقيقيين، ويكون اللفظ الدال عليهما مشتركًا بينهما مع تفاوتهما في الإدراك عند سماع اللفظ، وقد يكونان مختلفين؛ الأول حقيقة، والثاني مجاز. ففي قول الشاعر: يا عاذلي فيه قل لي ... إذا بَدَا كيف يسلو يمر بي كل وقت ... وكلما مر يحلو التورية هنا في لفظ "مر" التي جاءت في آخر البيت الثاني، ومعناه القريب من المرارة التي هي ضد الحلاوة، والمعنى البعيد من المرور الذي هو السير، هما معنيان حقيقيان، فدلالته على أي منهما دلالة حقيقية وليست مجازًا. وإذا وضح هذا علمنا؛ أولًا: إذا كان لفظ التورية حاملًا لمعنيين حقيقيين، فالتورية من باب الحقيقة ضرورةً. ثانيًا: إذا كان لفظ التورية حاملًا لمعنيين أحدهما حقيقي والثاني مجازي، وهو دائمًا -يعني المعنى المجازي في التورية- هو المعنى البعيد المورى بالمعنى القريب، إذا كان الأمر كذلك فإن التورية أدخل في باب المجاز منها في باب الحقيقة؛ ذلك لأن المقصود منها هو المعنى المجازي وإن وُرِّي بالمعنى الحقيقي.

الفرق بين التورية والكناية.

الفرق بين التورية والكناية فالكناية -كما نعلم- عبارة عن لفظ أطلق وأريد به لازم معناه، مع جواز إرادة المعنى الحقيقي، نجد هذا المعنى في قول مَن يصف راعي إبل أو غنم: ضعيف العصا بادي العُروق ترى له ... عليها إذا ما أجدب الناس إصبعا يريد أنه مشفق على غنمه، لا يقصد من حمل العصا أن يوجعها بالضرب من غير فائدة، فهو يتخير ما لَانَ من العصا، فقوله: "ضعيف العصا"، لفظ أطلق ولم يرد به حقيقةَ معناه، وإنما أراد معنًى آخرَ، هو لازمه وتاليه في الوجود، وهو الرفق واللين. العلاقة إذًا بين التورية والكناية واضحة، وهي أن كليهما لفظ له معنيان والمراد أحدهما، إلا أن الأمر في التورية على أن المعنيين يفهمان من اللفظ دون وساطة من أحدهما لفهم الآخر -كما سبق أن أشرنا- أما في الكناية فإن المعنى الثاني يكون لازمًا للمعنى الأول، وردفًا له، فضعف العصا -في المثال السابق- يلزمه الرفق واللين. وفرق آخر يتصل بقرينة كل من الكناية والتورية: فإن قرينة الكناية -كما سبق أن أشرنا في المجاز- ينبغي أن تكون ظاهرة لا خفاء فيها ولا غموض، وهذا واضح من المثال السابق. بينما قرينة التورية شرطها أن تكون خفية غير ظاهرة. ولدقة الفرق بين التورية والكناية ظن الخطيب القزويني أن قول الحماسي: فلما نأتْ عنا العشيرة كلها ... أنخنا فحالفنا السيوف على الدهر فما أسلمتنا عند يوم كريهة ... ولا نحن أغضينا الجفون على وتر في البيت الثاني تورية في لفظ "الجفون". وتابعه في ذلك صاحب (بديع المعاني والألفاظ) دكتور عبد العظيم مطعني، فقال: "التورية في لفظ الجفون؛ لأن

له معنيين، قريب واضح وهو جفون العين، وبعيد خفي وهو جفون السيف، والمعنى البعيد هو المراد". والحق أن ما في البيتين ليسَا من التورية، بل هو من باب الكناية، فإن الجفون -التي هي جفون العين- كناية عن إغماض السيوف، لا أنه أراد جفون السيف فورى. نخلص من هذا في معرفة الفرق بين التورية وبين كل من المجاز والكناية: أن القرينة تكون في المجاز والكناية ظاهرة واضحة، بينما قرينة التورية ينبغي أن تكون خفيةً تحتاج إلى نوع من التفكير والتأمل، كما أن المعنيين في التورية لا عَلاقةَ بينهما، بينما في المجاز والكناية لا بد من علاقة بين المعنى الموضوع له اللفظ، وبين المعنى المجازي أو الكنائي. ومبنى التورية -كما ذكر ابن يعقوب المغربي- على كون المراد بعيدًا مع خفاء القرينة، فخفاء القرينة هو الحد الفاصل بين عد اللفظ من باب المجاز وعده من باب التورية، وذلك قوله: "المعنى البعيد في التورية مرجوح الاستعمال، فلا يكون اللفظ فيه إلا مجازًا، وهذا المعنى موجود في كل مجاز، فيكون كل مجاز توريةً، وظاهر كلامهم أن التورية حقيقة مباينة للمجاز، وإلا كان كل مجاز من البديع. قلت: بعد التسليم بأن المعنى لا يكون اللفظ فيه إلا مجازًا، لا يلزم منه اتحاد المجاز والتورية، فيكون اللفظ مجازًا باعتبار إطلاقه على غير معناه مع وجود القرينة الصارفة له عن الأصل، ويكون توريةً باعتبار كون المراد بعيدًا مع خفاء القرينة؛ لما تقدم أنَّا نشترط في كونه توريةً خفاء القرينة، فتلاقَا التورية والمجاز في مادة واحدة مع كونها غيره، فإن ظهرت القرينة لم تلاقه أصلًا". انتهى كلامه. فالتورية إذًا تلتقي مع المجاز في كثير من صوره وأنواعه، على أن خفاء القرينة أو قُربها غير مسلَّم عند بعض البلاغيين، فكم من مجاز واقع موقعه من الروعة والخلابة قد خفيت قرينته؟! وكم من تورية في عُرْفهم ظهرت قرينتها؟!

إلا أن فرق العلاقة بين التورية وكل من المجاز والكناية هي الميزة الفاصلة، فمبنى التورية على ألا يعتبر بينهما لزوم وانتقال من أحدهما للآخر، وبهذا الفرق وحدَهُ يخرج هذا الفن عند العلَّامة عبد الحكيم عن علم البيان، يقول: "وبه -يعني: بهذا الفرق- يمتاز التورية عن المجاز والكناية، وبهذا ظهر أن التورية ليست من إيراد المعنى بطرق مختلفة في وضوح الدلالة، حتى تكون من علم البيان، نعم، إنه إذا كان المعنيان مجازيين أو أحدُهما مجازيًّا كانت من علم البيان بالنسبة إلى المعنى الحقيقي لهما أو لأحدهما، وأما بالنسبة إلى المعنى الذي هو تورية بالقياس إليه فلا، إذ لا علاقة بينهما ولا انتقال من أحدهما إلى الآخر، فتدبَّرْ هذا، فإنه مما خَفِي على بعض الأذكياء". انتهى من حاشية عبد الحكيم على (المطول). ومع العلاقة القائمة بين التورية والمجاز والكناية ومع وضوح الفرق بينها وبينهما، إلا أنا نجد واحدًا من البلاغيين -هو العصام في (الأطول) - يُدخِل التوريةَ في مباحث علم البيان، فيقول في تعريفها: "أن يطلق اللفظ على غير ما وضع له لقرينة خفية، مما يتعلق بإيراد المعنى الواحد بطرق مختلفة في وضوح الدلالة". ثم يقول: "فهو داخل في أصل البلاغة، فكيف عُدَّ إذًا من البديع؟! ". فأنت تراه يدخلها في إيراد المعنى الواحد بطرق مختلفة في وضوح الدلالة، ويعد البديع أمرًا خارجًا عن البلاغة!!. الحقيقة التي لا مِراء فيها أن التورية كلون بديعي قائم برأسه له مدخل في بلاغة الكلام، وقوة الأساليب، كما أن له مدخلًا في إعجاز القرآن الكريم، فهو داخل في صميم البلاغة، والتحسين به ذاتي لا عرضي، والعلاقة بين هذا اللون وبين المجاز أو الكناية يؤكد هذا المعنى، فإذا كانت كلمتهم قد اتفقت على أن التورية

أقسام التورية.

تجتمع مع المجاز في كثير من الأساليب، وأن الفرق بين المجاز والكناية فرق ضئيل، فإن معنى هذا أن التحسين بالمجاز أو الكناية هو نفسه التحسين بالتورية. ومما لا مراء فيه أن التحسين بالمجاز أو الكناية ذاتي لا عرضي، فلتكن إذًا التورية كذلك. أقسام التورية والكلام عن أقسام التورية يستدعي أن نقول: إن التورية تقوم -كما هو متضح من معناها - على الإخفاء والستر، فالمعنى القريب فيها مخف وساتر للمعنى البعيد المراد؛ اعتمادًا على قرينة تحدد ذلك المعنى المراد وتعينه، وقد يجامع التورية شيء يلائم ويناسب المعنى القريب، فتكون أوغلَ في الإخفاء وأدخلَ في الستر، وقد لا يجامعها شيء من ذلك فيكون الخفاء فيها أقل من سابقتها. وقد قَسَّم البلاغيون التورية بهذا الاعتبار إلى قسمين؛ القسم الأول: التورية المجردة وهي التي لا يجامعها شيء مما يلائم المعنى القريب المورَّى به، أو يجامعها شيء يلائمها وآخر يلائم المعنى البعيد. ولها بذلك صور ثلاث: الصورة الأولى: أن تكون مجردةً مما يلائم المعنى القريب مع تجردها مما يلائم المعنى البعيد كذلك. الصورة الثانية: أن تجيء مجردةً مما يلائم المعنى القريب مع اقترانها بما يلائم المعنى البعيد، وهذه نراها في قول عمر بن أبي ربيعة: أيها المنكح الثريا سهيلا ... عمرك الله كيف يلتقيان هي شامية إذا ما استقلت ... وسهيل إذا استقل يمان فالتورية في لفظي "الثريا" و"سهيل" وهما هنا اسمان، الثريا: وهي الفتاة العظيمة المنزلة، وهي بنت علي بن أبي عبد الله بن الحارث بن أمية الأصفر، وسهيل: هو

سهيل بن عبد الرحمن بن عوف، وقيل: رجل مشهور من اليمن. فهذان هما المرادان في البيت، لكن الشاعر أوهم السامع أنه يريد النجمين المشهورين؛ لأن الثريا من منازل القمر الشامية، وسهيلًا من النجوم اليمانية، إلا أنه أراد صاحبته المسماة بهذا الاسم، وكان أبوها قد زوجها برجل يدعى سهيلًا، فورى ابن أبي ربيعة بالنجمين عن الشخصين؛ ليكون أدعَى للإنكار متى أراد. وقد جاءت التورية مجردةً مما يلائم المعنى القريب المورى به، ولكن الشاعر أتى بما يلائم المعنى البعيد وهو قوله: "المنكح"؛ لأن النكاح من صفات الإنسان لا من صفات الكواكب. ومن شواهد هذه الصورة قول عماد الدين: أرى العقد في ثغره محكمًا ... يرينا الصحاحَ من الجوهري ومنثور دمعي غدَا أحمرَ ... رويناه عن وجهك الأزهري التورية هنا في لفظ "الصحاح"؛ لأنه دال على معنيين؛ قريب مراد، وبعيد غير مراد، والقريب هو كتاب الجوهري المسمى بهذا الاسم (الصحاح) وهو أحد معاجم اللغة المعروفة، والبعيد الخفي هو أسنان محبوبته الشبيهة بالجوهر، وقد خلت التورية من ملاءمات المعنى القريب وإن جاءت مقترنةً بما يلائم المعنى البعيد، وهو قوله: "في ثغره"؛ لأنها من ملاءمات الأسنان، ولذلك فإن التورية مجردة؛ لعدم مجامعتها لشيء من ملاءمات المعنى القريب. الصورة الثالثة من صور التورية المجردة: فهي أن يجامع التوريةَ شيءٌ مما يلائم المعنى القريب وشيء آخر يلائم المعنى البعيد، فيجتمع فيها الشيئان كلاهما، وكأن الشيئين تعارضَا فتساقطَا، فكأن لم يكن في الكلام شيء، لا من ملاءمات المعنى القريب ولا من ملاءمات المعنى البعيد. ومثال هذه الصورة قول الشاعر -وقد سبق:

يا عاذلي فيه قل لي ... إذا بدَا كيف أسلو يمر بي كل وقت ... وكلما مَر يحلو فالمعنى: يا لائمي دلني كيف أسلو عن محبوبتي حين أراها وكثيرًا ما أرى المحبوب مارًّا بي، وفي كل مرة أراه يزداد حلاوةً عندي؟ والتورية في البيتين في لفظ "مر" إذ معناه القريب الواضح من المرارة، والمعنى البعيد الخفي من المرور. وقد قُرِنت التورية هنا بما يلائم المعنى القريب كما قرنت أيضًا بما يلائم المعنى البعيد، فالذي يلائم المعنى القريب هو قوله: "يحلو" إذ هو من الحلاوة التي هي ضد المرارة، ومن ملاءماتها الذي يلائم المعنى البعيد قوله: "يمر بي كل وقت" فلما اجتمع فيها الملائمان كانت كأن لم يجامعها شيء، فهي مجردة. ومما ذكر فيها ملائمان لكل من القريب والبعيد قول الشاعر: أقول وقد شنُّوا إلى الحرب غارة ... دعوني فإني آكل العيش بالجبن ولفظ "الجبن" له معنيان؛ قريب مورى به وهو الجبن المأكول، وبعيد مورى عنه وهو الجبن ضد الشجاعة، وهذا هو المراد، وقد ذكر الشاعر ملائمًا للمعنى البعيد وهو قوله: "شنوا إلى الحرب غارة" وذكر ملائمًا أيضًا للمعنى القريب وهو: "آكل العيش". ولذا فهي تورية مجردة. ومثلها كذلك قول ابن الوردي: قالت: إذا كنت تهوى ... وصلي وتخشى نفوري صف ورد خدي وإلا ... أجور ناديتُ جوري فلفظ: "جوري" التي جاءت في آخر البيت الثاني له معنيان، قريب ظاهر غير مراد، وذلك بأن يكون فعل أمر من جار مسند إلى ضمير المخاطبة، وقد ذكر ملائم له وهو: "وإلا أجور". وبعيد خفي مراد وهو اسم نوع من الورد يسمى جوري، وقد ذكر ما يلائمه وهو قوله: "صف ورد خدي". ومنها قول الآخر:

ومولع بفخاخ ... يمدها وشباك قالت لي العين: ماذا ... يصيد؟ قلت: كراك فلفظ "كراك" له معنيان: قريب غير مراد، وهو جمع كركا -طائر رمادي اللون يأوي إلى الماء- وقد ذكر ما يلائمه وهو الصيد: "يصيد". وبعيد مراد وهو الكرى مضافًا إلى ضمير العين. والكرى هو النوم، وقد ذكر ملائم هذا المعنى وهو العين، فهو من التورية المجردة. هذا، وقد تضافر البلاغيون على إدخال قول الله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} (طه: 5) في باب التورية وتحديدًا في المجردة منها، وقالوا: إن كلمة: {اسْتَوَى} في الآية لها معنيان: قريب غير مراد وهو الاستقرار الحسي على سرير ونحوه، وبعيد مراد وهو الاستيلاء والمُلك والتمكن، وأن الأول وهو المتبادر إلى الذهن غير مراد؛ لأنه مستحيل في حق الله تعالى، وأما الثاني وهو المعنى البعيد غير متبادر، فهو المراد، وكأن المعنى القريب جيء ليستر ويخفي تحته المعنى البعيد المراد، ولم يذكر في الآية ما يلائم أيًّا من المعنيين، ومن ثم فقد عدوها توريةً مجردةً، وكذا قالوا. والحق أن هذا الكلام مجافٍ للحقيقة ومخالف للصواب، ذلك أن كلًّا من المعنيين المشار إليهما في كلام البلاغيين غير صحيح بالمرة، فلا الاستواء في حق الله تعالى يعني الاستقرار، ولا هو يعني الاستيلاء، وإنما هو استواء على ظاهره وعلى حقيقته، وهو مخالف لاستواء المخلوقات، وهو له سبحانه على النحو اللائق بجلاله -جل وعلا- دونما تشبيه، أو تأويل، أو تفويض، أو تمثيل، أو تجسيم، أو تعطيل. وتجدر الإشارة إلى أن الاستقرار لا يليق به تعالى؛ لكونه من لوازم البشر، وقد أنكره الحافظ الذهبي في ترجمته للإمام البغوي، كما أنكره كذلك في ترجمته للإمام القصاب، وذلك في كتابه: (العُلو) معللًا ذلك: بأن البارئ -سبحانه وتعالى- منزَّهٌ عن الراحة والتعب، يعني: لكونهما من لوازمه، ولكونه أمرًا زائدا على

العلو ولم يرد به الشرع. إذًا فهذا المعنى -الذي هو يعني الاستقرار- غير مراد وغير شرعي بالمرة. كما تجدر الإشارة أيضًا إلى أن دلالة الاستيلاء التي قال بها المؤولة في حق الله تعالى، لم يحدث أن جعلها العرب حقيقةً في الاستواء، ومخالفة ذلك مجاهرةٌ بالكذب، والذين قالوه قالوه استنباطًا وحملًا منهم بدون دليل للفظة استوى على استولى؛ استدلالًا بقول الأخطل: قد استوى بِشر على العراق ... من غير سيف ولا دم مهراق وهذا استدلال خاطئ وفي غير محله؛ لأنه إن صح نسبته وعدم تحريفه، كان حجةً على قائله والمستدل به؛ لكونه على حقيقة الاستواء لا الاستيلاء، فإن بشرًا هذا كان أخَ عبد الملك بن مروان وما كان ينازع أخاه الملك، وإنما كان أميرًا على العراق من قبل أخيه، وواليًا عليها من جهته، فلما كان نائبًا عنه استقر واستوى على سريرها كما هو عادة الملوك ونوابها أن يجلسوا على سرير المُلك، مستوين عليه، وهذا هو المطابق لمعنى هذه اللفظة في اللغة، فالاستيلاء ليس لازمًا لمعنى الاستواء في كل موضع، وإلا لو كان المراد بالبيت استيلاء القهر والمُلك لكان المستوي على العراق في حقيقة الأمر هو عبد الملك بن مروان وليس أخوه بشرا المقول هذا البيت في حقه. هذا وقد ذكر العلامة محدث عصره الحافظ الذهبي المتوفى سنة 748 هذه التفسيرات السالفة الذكر، وصرح بها، وألمع إلى أن حَمْل الاستواء على معنى القهر أو الاستقرار أو الاستيلاء، هو مما أجمع أئمة الحديث واللغة والمحققون من أهل التفسير على بطلانه؛ لكون هذه المعاني ولو من غير المغالبة مما تليق بالمخلوق دون الخالق -جل وعلا. يقول لغوي زمانه ابن الأعرابي المتوفى سنة 231 لِمَن جادله وارتأى أن استوى بمعنى استولى: "اسكت، ما يدريك ما هذا؟! العرب لا تقول للرجل: استولى على الشيء حتى يكون له مضاد. قال النابغة:

ألا لِمِثلك أو مَن أنت سابقُه ... سَبْق الجواد إذا استولى على الأمد والله لا مضاد له، وهو على عرشه كما أخبر، فجعل الجواد مستوليًا على الأمد بعد مفارقته له وقطع مسافته". وقد حدث بهذا أيضًا شيخ العربية ابن نفطويه المتوفى سنة 323، ونقله عنهما الحافظ الذهبي في كتابه (العلو) وقال أيضًا إمام العربية الخليل بن أحمد فيما رواه عنه كذلك الإمام الذهبي: "أتيت أبا ربيعة الأعرابي وكان مِن أعلم مَن رأيت، فكان على سطح فلما رأيناه أشرنا عليه بالسلام، فقال: استووا، فلم ندرِ ما قال، فقال لنا شيخ عنده: يقول لكم: ارتفعوا، قال الخليل -الإمام اللغوي المشهور في النحو والعروض: هذا من قوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ} (فصلت: 11) ". وقال ثعلب -إمام الكوفيين في النحو واللغة- المتوفى سنة 291 فيما نقله عنه صاحبَا (العُلو) و (معارج القبول) الشيخ حافظ بن الحكمي: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} (طه: 5) أي: علا. ولأجل هذا وما قرره أهل اللغة وأئمة الهدى، فمن غير المعقول ولا من اللائق أن يؤول مؤول الاستواء بالاستيلاء والغلبة والقهر، أو أن ينسب أحدٌ شيئًا من ذلك إلى رب كل شيء ومليكه، أو أن يجعل تفسير الآية أنه أعلم عباده بأنه خلق السموات والأرض، ثم غلب على العرش بعد ذلك وقهره، وأن يجعل لازم قول الله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى}: اعلموا يا عبادي أني وبعدَ فراغي من خلق السموات والأرض غلبت عرشي وقهرته، واستوليت عليه!! أو أن يكون أعلم الخلق -صلى الله عليه وسلم- به سبحانه حين أطلق عليه أنه -عز جاهه، وعظم سلطانه- مستوٍ فوق عرشه كما في حديث ابن مسعود: ((والله فوق العرش))، هاديًا، وعابثًا، ومطلقًا الكلام على عواهنه. ومن غير المعقول كذلك ولا اللائق له أن يقلب الحقائقَ ويعكس أوضاع اللغة، وأن يجعل مستقاه ومصدر تلقيه

الجهمية والمعتزلة والخوارج وأضرابهم ممن يحرفون الكلم عن مواضعه، ويفسرون القرآنَ بأهوائهم، مقدمًا كلامهم على كلام الصحابة والتابعين، أو أن يعدل عن كلام هؤلاء الذين ذكرنا مؤخرًا إلى كلام أولئك المتكلمين. القسم الثاني من أقسام التورية: وهي التورية المرشحة؛ وهي التي قُرنت بما يلائم المعنى القريب غير المراد المورَّى به، وإنما سميت مرشحةً؛ لتقويتها بذكر لازم المعنى القريب غير المراد، فإنها تزداد بذكره إبهامًا، والملائم للمعنى القريب قد يكون قبل لفظ التورية وقد يكون بعده، فهما إذًا صورتان: الصورة الأولى: أن يقع الترشيح سابقًا للفظ الحامل للتورية، وذلك كقول الله تعالى: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} (التوبة: 29) فالتورية في لفظ: {يَدٍ} فهو لفظ له معنيان: قريب واضح وهو الجارحة المعروفة، وبعيد خفي وهو الذِّلة والاستكانة، والمراد هو المعنى البعيد. وقد قرنت التورية بما يلائم المعنى القريب المورى به وهو قوله: {يُعْطُوا} لأن الإعطاءَ عادةً يقع باليد فهي إذًا مرشحة، وقد وقع الترشيح وهو الإعطاء قبل لفظ التورية. ومن شواهد هذه الصورة قول السراج الوارق: يا خجلتي وصحائفي سود بدت ... وصحائف الأبرار في إشراق ومؤنب لي في القيامة قال لي ... أكذا تكون صحائف الوراق فالتورية في لفظ "الوراق" فهو لفظ حامل لمعنيين؛ أحدهما: قريب واضح وهو الذي يبيع الورق، والآخر: بعيد خفي وهو اسم الشاعر، والمعنى المراد هو البعيد. وقد قرنت هذه التورية بما يلائم المعنى القريب وهو الصحائف، فهذا اللفظ يناسب بائع الورق. وقد جاء هذا اللفظ سابقًا للتورية، وعلى هذه الصورة جاء أيضًا قول أبي الحسين الجزار:

كيف لا أشكر الجِزارة ما عشـ ... تـ حفاظًا وأهجر الآدابا وبها صارت الكلابُ ترجيـ ... ـني وبالشِّعر كنت أرجو الكلابا فالتورية في لفظ "كلاب" الثاني؛ لأن له معنيين: قريب واضح وبعيد خفي، فالقريب هو الحيوان المعروف، والبعيد هو لئام الناس وشرارهم، وهو المراد، وهي تورية مرشحة حيث جمعت ما يلائم المعنى القريب وهو قوله: "صارت الكلاب تُرجيني" وقد وقع هنا الترشيح قبل لفظ التورية. ومن شواهد هذه الصورة أيضًا قول الحريري: يا قوم كم من عانق عانس ... ممدوحة الأوصاف في الأندية قتلتها لا أبتغي وارثًا ... يطلب مني قَوَدًا أو دية فالتورية في لفظ "عانس" فهو لفظ حامل لمعنيين: قريب وهو البِكر التي طال مُكْثها في بيت أبيها ولم تتزوج، وبعيد وهو الخمر، والمراد هو البعيد، وقد قرنت بما يلائم المعنى القريب وهو القتل والقود والدية، إذ إنها مما يناسب الإنسان وليس الخمر، فهي تورية مرشحة جاء ترشيحها متأخرًا عن لفظ التورية. ومن بديع التورية المرشحة على هذا النمط قول شوقي في رثاء حافظ إبراهيم: يا حافظ الفصحى وحارس مجدها ... وإمامَ مَن نجبت من البلغاء خلفت في الدنيا بيانًا خالدًا ... وتركت أجيالًا من الأبناء وغدا سيذكرك الزمان ولم يزل ... للدهر إنصاف وحسن جزاء فالمعنى القريب للفظ حافظ أن يكون اسم فاعل من حفظ، وقد ذكر ملائمًا لهذا المعنى وهو "الفصحى" و"حارس" فهما يقتضيان أن يكون لفظ حافظ من المحافظة، والمعنى البعيد هو اسم شاعر النيل حافظ إبراهيم، فالتورية تورية مرشحة. ومن ذلك أيضًا قوله على سبيل المزاح والمداعبة لحافظ:

وحمَّلت إنسانًا وكلبًا أمانةً ... فضيعها الإنسان والكلب حافظ ورد حافظ عليه مداعبًا أيضًا: يقولون إن الشوق نار ولوعة ... فما بال شوقي الآن أصبح باردًا فالمعنى القريب لحافظ اسم فاعل من حفظ وقد ذُكر ما يلائمه: وحمَّلت إنسانًا وكلبًا أمانةً ... فضيعها الإنسان .......... والمعنى القريب لشوقي أن يكون من الشوق والحنين وقد ذكر لازمه: "إن الشوق نار ولوعة" والمعنى البعيد لكل منهما وهو المراد أن يكون عَلَمين لشاعر النيل حافظ إبراهيم، وأمير الشعراء أحمد شوقي، فالتورية في البيتين تورية مرشحة. وأضاف فريق ثالث إلى المجردة والمرشحة -اللتين أشار إليهما الخطيب القزويني- التورية المُبَيِّنة، والتورية المُهَيِّئة، وقالوا: إن التورية المبينة هي ما ذكر فيها لازم المعنى البعيد المورَّى عنه، وسميت كذلك؛ لأن هذا اللازم يبينها ويقربها، وقد يكون لازمًا قبل لفظ التورية كما في قول البحتري: ووراء تسدية الوشاح ملية ... بالحسن تملح في القلوب وتعذب فلفظ "تملح" يحتمل أن يكون من الملوحة ضد العذوبة، وهذا هو المعنى القريب المورى به، ويحتمل أن يكون من الملاحة وهو الحسن والجمال، وهذا هو المعنى البعيد المورى عنه. وقد تقدم ذكر ملائمي وهو قوله: "ملية بالحسن" أما قوله: "تعذب" فيلائم كلا من الملوحة والملاحة، يلائم الملوحةَ على أنهما ضدان، ويلائم الملاحة على أنهما مترادفان. ومن ذلك قول الشاعر: قالوا أما في جَلْق نزهة ... تنسيك مَن أنت به مغرًى يا عاذلي دونك مَن لَحظه ... سهمًا ومن عارضه سطرَا

فالمعنى البعيد المورى عنه لكل من السهم والسطر هو الموضعان المشهوران بمنتزهات دمشق، وقد ذُكرت النزهة بجلق قبلهما وهي من ملاءمات هذا المعنى، أما المعنى القريب المورى به فهو "سهم اللحظ" و"سطر عارض" وهما غير مرادين. ومن ذلك أيضًا قول الشاعر: أَمَوْلانا ضياء الدين قل لي ... وعِشْ فبقاء مولانا بقائي فلولا أنت ما أغنيت شيئًا ... وما يغني السراج بلا ضياء ففي لفظي "السراج" و"ضياء" تورية مبينة إذ معناهما القريب المصباح الذي يُستخدم في الإضاءة، والضوء الذي يبدد الظلام، ومعناهما البعيد اسم الشاعر واسم الممدوح، وقد ذكر قبل اللفظين ما يلائم هذا المعنى البعيد وهو قوله: "مولانا ضياء الدين"، "لولا أنت ما أغنيت شيئًا". وقد يذكر لازم المورَّى عنه بعد لفظ التورية كما في قول الشاعر: أرى ذَنَب السرحان في الأفق طالعا ... فهل ممكن أن الغزالة تطلع فالبيت به توريتان مبينتان وهما في: "ذنب السرحان" وفي "الغزالة". إذ المعنى القريب لذنب السرحان ذنب الحيوان المعروف وهو الذئب، وللغزالة الظبي، والمعنى البعيد المورى عنه للأول ضوء النهار وقد ذكر بعده ما يلائمه، وهو قوله: "في الأفق طالعا" وللثاني الشمس، وقد قرن بملائمه: "تطلع" فالتورية في الموضعين مبينة، حيث ذكرا بعد كل ما يلائم المعنى البعيد المراد. وجاء ذلك أيضًا في قول ابن سَناء المُلك: أما والله لولا خوف سُخطك ... لهان علي ما ألقي برهطك ملكتَ الخافقَيْن فتهت عجبًا ... وليس هما سوى قلبي وقِرطك

فالخافقان معناهما القريب المورى به المشرق والمغرب، ومعناهما البعيد المورى عنه قلبه وقرط حبيبه، وقد بين هذا المعنى بالنص عليه في الشطر الأخير: "وليس هما سوى قلبي وقرطك". ومن التورية المبينة التي ذكر فيها الملائم قبلًا قول القاضي عياض يصف صيفًا باردة: كأن كانون أهدى من ملابسه ... لشهر تموز ألوانًا من الحُلل أو الغزالة من طول المدى خَرفت ... فما تُفرق بين الجدي والحمل ففي ألفاظ: "الغزالة" و"الجدي" و"الحمَل" تورية مبينة، إذ المعنى القريب للغزالة الظبية، وللجدي ولد المعز، والحمل ولد الضأن، والمعنى البعيد للغزالة الشمس، وللجدي برج الجدي وهو برج البرد، وللحمل برج الحمل وهو برج الدفء، وقد ذكر في البيت الأول ما يلائم هذه المعاني البعيدة المورى عنها، وهو إهداء كانون من ملابسه لتموز ألوانًا من الحلل، ومعنى البيتين: أن هذا صيف بارد، وكأن برودته ترجع إلى أن شهر كانون الواقع في زمن البَرْد قد أهدَى لشهر تموز الواقع في زمن الصيف ألوانًا من البرد والسقيع، أو أن الشمس قد خَرفت، فبَدل أن تنزل في برج الدفء وهو برج الحمل، نزلت في برج البرد وهو برج الجدي، وكأنها لم تستطع أن تفرق بين البرجين؛ لتخريفها. وبعض البلاغيين يرى أن التورية في الغزالة مرشحة؛ لأن خرفت بمعنى قل عقلها تلائم المعنى القريب وهو الظبي، وهذا ليس برأي؛ لأن المعنى قائم على التصوير والتخييل، فإسناد: "خرفت" إلى "الغزالة" استعارة تخييلية -على نحو ما عرفنا في علم البيان- وبعضهم يرى أن: "الغزالة" و"الجدي" و"الحمل" توريات مرشحة، ترشح كل منها الأخرى، وهذا أيضًا ليس برأي؛ لأن ملائم المعنى ولوازم التورية يُشترط فيها ألا تكون ألفاظًا مشتركةً، و"الغزالة" و"الجدي"

و"الحمل" ألفاظ مشتركة بين المعنيين المذكورين لكل منها، وبعضهم يرى غير ذلك، والصواب هو ما ذكرنا. أما التورية المهيئة فهي التي تفتقر إلى ذكر شيء قبلها أو بعدها يهيئها لاحتمال المعنيين، وإلا لم تتهيأ التورية، أو تكون التورية في لفظين أو أكثر، لولا كل منهما لَمَا تهيأت التورية في الآخر. من ذلك قول ابن سناء الملك: وسَيْرك فينا سيرة عُمرية فروحت ... عن قلب وأفرجت عن كرب وأظهرت فينا من سَميك سُنةً ... فأظهرت ذاك الفرض من ذلك الندب فالفرض والندب يحتملان أن يكونا من الأحكام الشرعية، وهذا هو المعنى القريب المورى به، ويحتمل أن يكون الفرض بمعنى العطاء، والندب بمعنى الرجل السريع في قضاء الحوائج، وهذا هو المعنى البعيد المورى عنه. ولولا ذكر لفظ "السنة" لَمَا تهيأت التورية، ولما فُهِمَ من الفرض والندب الحكمان الشرعيان اللذان بهما كانت التورية. من ذلك أيضًا قول ابن الربيع: لولا التطير بالخلاف وأنهم ... قالوا مريض لا يعود مريضًا لقضيت نحبي في جَنابك خدمةً ... لأكون مندوبًا قضَى مفروضًا فالمندوب يحتمل أن يكون اسم مفعول من: نَدَب الميت إذا بكاه، وهذا هو المعنى البعيد المورى عنه، والذي قصده الشاعر، ويحتمل أن يكون أحد الأحكام الشرعية وهو المعنى القريب المورى به، ولولا ذكر المفروض بعده لَمَا تنبه السامع للمعنى القريب للمندوب، ولما كانت هناك تورية، فلفظ: "مفروضًا" قد هيأ هذه التورية. ومن ذلك قول علي في الأشعس بن قيس: "إنه كان يحوك الشَّمال باليمين". فالشمال يحتمل أن يكون جمع شملة، وهو الكِساء يشتمل به، وهذا هو المعنى البعيد، ويحتمل أن يكون اليد الشمال نقيض اليمين، وهذا هو المعنى القريب. وذكر اليمين بعد الشمال هو الذي هيأ لهذه التورية.

من هنا يبدو الفرق بين ما يهيئ للتورية وبين ما يرشحها أو يبينها، فاللفظ الملائم في التورية المرشحة أو المبينة لازمٌ من لوازم المعنى، أو بصيغة أخرى خصوصيةٌ من خصوصياته، فهو لازم خاص، ويشترط فيه -كما أوضحنا- ألا يكون من الألفاظ المشتركة، وهو إما مقو للتورية المرشحة أو مبين للتورية المبينة، ولو لم يذكر هذا الملائم لصحت التورية وظلت موجودةً. أما اللفظ المهيئ فإنه إذا لم يذكر لا تكون التورية أصلًا، ولننظر في قول ابن أبي ربيعة: أيها المنكح الثريا سهيلًا فإننا لو غيرنا أحد اللفظين فقلنا: أيها المنكح هندًا سهيلًا، لم تكن هنالك تورية في لفظ سهيل. هذا، وتكمن بلاغة التورية في ثلاثة أمور؛ أولها: أن المعنى البعيد المراد المورى عنه يبدو من خلف المعنى القريب غير المراد في صورة حسنة لطيفة، كما يبدو وجه المرأة الحسناء من وراء البُرقُع. ثانيها: أن المخاطب يدرك من لفظ التورية في بادئ الأمر معناها القريب بسرعة إدراكه قبل البعيد، ولخفاء القرينة فيها، فإذا ما وقف على المعنى البعيد بعد ذلك، وأدركه بالتأمل، وإطالة النظر، كان له وقعه في النفوس وأثره الحسن. الأمر الثالث: أن التورية تُمكِّن المتكلم من أن يخفي المعاني التي يخشى التصريح بها، فيوري عنها بمعانٍ أخرى تُفهم من لفظ التورية، وبهذا يدفع المحظور مع الصدق، كما رأينا في إجابة أبي بكر -رضي الله عنه- للسائل عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- إذ قال له: "هادٍ يهديني الطريقَ". وكما هو حاصل في إجابة الرسول -صلى الله عليه وسلم- في خروجه لغزوة بدر عندما سأل سائل: مِمَّن أنتم؟ قال له -صلى الله عليه وسلم: ((من مَاء))، فقد أراد -صلوات الله عليه- أنهم مخلوقون من ماء مَهين، فورَّى عنه بقبيلة من العرب يقال لها: ماء، أو بالعراق؛ لأن ماء اسم من أسمائها. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الدرس: 20 السجع.

الدرس: 20 السجع.

تعريف السجع لغة واصطلاحا، والسجع عبر العصور.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس العشرون (السجع) تعريف السجع لغةً واصطلاحًا، والسجع عبر العصور الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، ثم أما بعد: السجع في اللغة: الكلام المقفَّى، أو موالاة الكلام على روي واحد، وجمعه: أسجاع وأساجيع، وهو مأخوذ من سَجع الحمام، وسجع الحمام هو هديله وترجيعه لصوته. وفي اصطلاح البلاغة: تواطؤ الفاصلتين أو الفواصل على حرف واحد، أو على حرفين متقاربين، أو حروف متقاربة. ويقع في الشعر كما يقع في النثر. فمما تواطأت فيه الفواصل على حرف واحد قول الله تعالى: {وَالطُّورِ * وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ * فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ * وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ} (الطور: 1 - 4) إلى آخره. وكذا قوله -جل وعلا: {وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا * فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا * فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا} (العاديات: 1 - 3). ومن التواطؤ على حروف متقاربة: قول الله تعالى: {وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ * أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ * وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ * مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ} (ص: 4 - 7) فالباء والدال والقاف حروف متقاربة. كذا قوله تعالى: {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ * بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ} (ق: 1، 2). فالدال والباء حرفان متقاربان. ومن وقوعه في الشعر قول أبي تمام: تجلَّى به رشدي وأثرتْ به يدي ... وفاضَ به ثَمْدي وأورَى به زِندي وقول المتنبي: فنحن في جذل والروم في وجل ... والبر في شغل والبحر في خجل جذل: هو الفرح، والوجل: هو الخوف، والمعنى: نحن فرحون بالنصر والروم في خوف من غاراته، والبَر مشتغل بجيش الممدوح، والبحر في خجل من غزارة

كرمه. هذا ويرى بعض البلاغيين كالسكاكي والخطيب: أن السجع لا يكون إلا في النثر، وأنه لا يكون إلا بتواطؤ الفاصلتين أو الفواصل على حرف واحد، فليس منه التواطؤ على حروف متقاربة. يقول الخطيب: "السجع تواطؤ الفاصلتين من النثر على حرف واحد، وهذا معنى قول السكاكي: الأسجاع في النثر كالقوافي في الشعر". ولشراح (التلخيص) كلام حول عبارة السكاكي هذه، وفحوى كلامهم: أن التشبيه لا يصح إلا بحمل كلام السكاكي على أنه أراد بالسجع الفاصلةَ الثانيةَ التي واطأت الأولى، ولا يمكن حمل كلامه على أن المراد بالسجع تواطؤ الفاصلتين؛ لأنه لو كان هذا مراده لَمَا صح التشبيه؛ لأن القافية إما كلمة كما يرى الأخفش، وإما الحرف الثاني في البيت إلى أول متحرك بعد ساكن بينهما، وعلى هذا فإن الثانية قد تتحقق بجزء كلمة، وقد تتحقق بكلمة وجزء أخرى. ومهما يكن من أمر، فالأَولى هو ما ذكرناه؛ لأن السجع قد ورد في الشعر كما ورد في النثر؛ ولأن معظم البلاغيين جعلوا منه التواطؤَ على حروف متقاربة. هنا تتردد كلمات: الفقرة، والقرينة، والفاصلة، تتردد هذه الكلمات كثيرًا في باب السجع، فينبغي أن نعرف المراد بكل منها، فذلك أن الفاصلة: هي الكلمة الأخيرة من الفقرة أو القرينة، والفقرة أو القرينة بمعنًى واحد وهي الجملة التي تنتهي بالفاصلة، فمثلًا: قول الله تعالى: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ * وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ} (القمر: 1، 2) الفاصلة كلمة: {الْقَمَرُ} في الآية الأولى، و {مُسْتَمِرٌّ} في الآية الثانية، والفقرة أو القرينة هي الآية كلها، كل آية فقرة أو قرينة. ونحن لو تتبعنا مراحل هذا المصطلح -مصطلح السجع- لرأينا أن السجع مصطلح بلاغي عُرف منذ العصر الجاهلي قبل أن توضع مصطلحات العلوم،

ومنذ معرفته في ذلك العصر -وحتى الآن- ودلالته لم تتغير ولم تتبدل، وعلى الرغم من أن بعض العلماء قد أطلقوا على هذا الأسلوب في القرآن الكريم اسمَ الفواصل بدلًا من السجع، إلا أن دلالته ظلت باقيةً حتى الآن، وكان للسجع منزلة سنية بين العرب في الجاهلية، فلقد كثر في كلامهم، كان يصدر منهم عن طَبْع سليم، وسليقة قوية، وفِطرة واضحة. من ذلك قول أوس بن حارثةَ موصيًا ابنَه: "يا مالك المنية ولا الدنية، والعتاب قبل العقاب، والتجلد لا التبلد، واعلم أن القبر خيرٌ من الفقر، وشر شارب المُشَتَف، وأقبح طاعم المقتف، وذهاب البصر خير من كثير النظر". ومنه قول قس بن ساعدة الأيادي في سوق عكاظ، وهو مشهور: "أيها الناس، اسمعوا وعوا، من عاش مات، ومن مات فات، وكل ما هو آت آت، ليل داج، ونهار ساج، وسماء ذات أبراج، وأرض ذات فجاج، ونجوم تزهر، وبحار تزخر". ومنه أيضًا قول عبد المطلب بن هاشم يهنئ سيفَ بن ذي يزن باسترداد مُلكه من الحبشة: "إن الله تعالى أيها الملك أحلك محلًا رفيعًا صعبًا منيعًا، باذخًا -يعني: عاليًا- شامخًا، وأنبتك منبتًا طابت أرومته، وعزت جرثومته -جرثومة والأرومة هي الأصل- وثبت أصله وبسق فرعه في أكرم معدن وأطيب موطن". وإلى جانب هذا السجع الفطري وُجِدَ نوع آخر من السجع المتكلف، وهو سجع الكهان، كقول سُطيح بن مازن وهو من كهان العرب، في تعبير رؤيا ربيعة بن نصر اللخمي أحد ملوك اليمن: "أحلف بما بين الحَرتين من حنش، ليهبطن أرضَكم الحبش، وليمكنن ما بين أبينَ إلى جرش". وقول شق أنمار من كهان العرب في تعبير تلك الرؤيا: "أحلف بما بين الحرتين من إنسان، لينزلن أرضكم السودان، وليغلبن على كل طَفلة البَنان، وليملكن إلى ما بين أبينَ ونجران".

ومن ذلك أيضًا: قول كاهن الخزاعي في تنفير هاشم بن عبد مناف على أخيه أمية بن عبد شمس: "والقمر الباهر، والكوكب الزاهر، والغمام الماطر، وما بالجو من طائر، وما اهتدي بعلم مسافر من منجد أو غائر، لقد سبق هاشم أميةَ في المآثر". وفي العصر الإسلامي نهَى النبي -صلى الله عليه وسلم- عن سجع الكهان، فقد روي أنه -عليه الصلاة والسلام- قَضَى في جنين امرأة ضربتها أخرى، فسقط ميتًا، قضى بِغُرة -أي: عبد أو أمة- على عاقلة الضاربة، فقال رجل منهم: كيف نَدي من لا شرب ولا أكل، ولا صاح فاستهل، ومثل ذلك دمه يُطل -أي: يهدر- فقال -صلى الله عليه وسلم: ((إياكم وسجعَ الكهان)) أو ((أسجعًا كسجع الكهان؟)). وسبب نهيه -عليه الصلاة والسلام- عن سجع الكهان يرجع إلى ما فيه من التكلف والتصنع، كما هو وارد في هذا الأثر، وما تضمنه من أحكام تخالف تعاليمَ الإسلام، وما يقصد إليه الكاهن من التزييف، وتزيين الباطل؛ كي يعلو على الحق، ولم يقصد -صلى الله عليه وسلم- النهي عن السجع مطلقًا، بل قصد النهي عن هذا النوع منه وهو سجع الكهان. ودليل ذلك أن أسلوب السجع قد ورد في النظم الكريم على نحو ما رأينا، وكما ورد أيضًا في أقواله -صلى الله عليه وسلم- من ذلك قوله: ((يقول العبد: مالي مالي، وإنما لك من مالِك يا بن آدم ما أكلت فأفنيتَ، أو أعطيت فأمضيتَ، أو لبست فأبليت))، وقوله -صلى الله عليه وسلم: ((أيها الناس، أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلوا الأرحام، وصلوا بالليل والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام)). وفي أقوال أصحابه -رضي الله عنهم وأرضاهم- ما جاء من قول عبد الله بن عباس في وصف أبي بكر -رضي الله عنه: "رحم الله أبا بكر، كان والله للقرآن تاليًا، وعن المنكر ناهيًا، وبذَنْبه عارفًا، ومِن الله خائفًا، وعن الشبهات زاجرًا، وبالمعروف آمرًا، وبالليل قائمًا، وبالنهار صائمًا، فاق أصحابه ورعًا وكَفافًا، وسادهم زُهدًا وعفافًا".

آراء في أسلوب السجع، وهل يطلق على ما جاء في القرآن.

وإذا كان سجع الكهان قد اختفى بمجيء الإسلام، فقد ظهر نوع آخر من السجع أغرق منه في الكذب والضلال، وأكثر منه اضطرابًا في النظم وسماجة التركيب، ألا وهو سجع مدعي النبوة، الذين استخفوا قومهم فأطاعوهم، من ذلك قول مسيلمة الكذاب: "يا ضُفدع نقي نِقي، لِمَ تنقين!! لا الماء تُكدِّرين، ولا الشراب تَمنعين". وإذا ما استثنينا هذا النوعَ -وهو سجع مدعي النبوة- نجد أن أسلوب السجع ظل قويًا مطبوعًا، وبخاصة في الوصايا، والحكم، والوعظ، والأجوبة، والنوادر، وغير ذلك من فنون القول، حتى أواسط القرن الرابع الهجري، حيث امتزج العجم بالعرب، ودَبَّ الفساد في اللغة، وعدَل القوم عن الأسلوب الفطري المطبوع، وتحولوا إلى الزخرف والزينة، فكان الإسراف والإفراط، وظهرت الصنعة والتكلف، ليس في السجع فحسب بل في مختلف الفنون البلاغية. آراء في أسلوب السجع، وهل يطلق على ما جاء في القرآن ولو تعرضنا لآراء البلاغيين في أسلوب السجع، لرأينا أنه لا ينبغي أن تفوتنا الإشارة بإيجاز إلى هذه الآراء في أسلوب السجع من حيث الإباحة والحظْر، ومن حيث جواز إطلاقه على ما في القرآن الكريم من فواصل وعدم الجواز. فقد اختلفت آراء العلماء في ذلك: فمنهم مَن عاب أسلوب السجع وعدَّه من الأساليب التي تقوم أكثرَ ما تقوم على الصنعة وعلى التكلف والتعسف، هم يستدلون على وجهة نظرهم بما آل إليه حالُ البيان العربي من تدهور وانحطاط في العصور التي شاع فيها استعمال السجع. ومنهم مَن استحسنه ودافع عنه، محتجًّا: بأنه لو كان مذمومًا لَمَا ورد في النظم الكريم، حيث لا تكاد سورة تخلو منه، بل إن مِن سوره ما جاءت جميعها مسجوعةً، كسورة القمر، وسورة

الرحمن، وغيرهما. ومنهم مَن أجاز إطلاق السجع على ما في القرآن الكريم، ومنهم مَن منعه وأطلق عليه اسم الفواصل. فالأمر بذلك يحتاج إلى مزيد تفصيل. وكدأب العلماء قديمًا وحديثًا انقسموا فريقين، فريق يثبت وجوده في القرآن ويؤيد، وآخر ينفي ويعترض، وكل أدلى بدلوه، واستدل بأدلته. فالمانعون -وعلى رأسهم الباقلاني- يستندون إلى أدلة كثيرة؛ منها: أن الفواصل بلاغة، والأسجاع عيب، وذلك أن الفواصل تابعة للمعاني، وأما الأسجاع فالمعاني تابعة لها، ثم إن السجع يألفه الكهان من العرب، ونفيه من القرآن أجدر بأن يكون حجةً في نفي الشعر؛ لأن الكهانة تنافي النبوات، كما أنه روي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال للذين كلموه في شأن الجنين: ((أسجعًا كسجع الكهان))، فرأى ذلك مذمومًا، وأن لو كان في القرآن سجع لأمكن معارضته؛ لأن السجع غير ممتنع عليهم، بل هو في عادتهم. ثم إن تقديم موسى على هارون في موضع وتأخيره عنه في آخر كما جاء في سورة الشعراء وسورة طه، ليس للسجع، بل لفائدة أخرى، وهي إعادة ذكر القصة بألفاظ مختلفة تؤدي معنًى واحدًا. فالمقصد من تقديم بعض الكلمات وتأخيرها إظهار للإعجاز على الطريقين جميعًا، ثم إنه لا يقال: في القرآن أسجاع؛ لعدم الإذن الشرعي، ولا يقال في القرآن أسجاع أيضًا، إنما يقال فواصل، لقول الله تعالى: {كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ} (فصلت: 3). هذه هي بعض أدلة المانعين. أما المجيزون فأدلتهم كما أوردوها؛ هي: أن السجع ليس عيبًا، فمنه ما يأتي طوعًا سهلًا تابعًا للمعاني وبالضد من ذلك، والقرآن لم يأتِ فيه مثال من القسم المعيب؛ لعلوه في الفصاحة. كما أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- سمع الشعرَ واستحسنه، وأمر به شعراءَه، فالسجع والمزدوج دون القصيد والرجز، فكيف يحل ما هو أكثر ويحرم

ما هو أصغر؟! ثم إن زوال التحريم بزوال العلة، فالنهي وقع عن السجع؛ لقرب عهد العرب بالجاهلية، حتى إن الرسول -صلى الله عليه وسلم- قيد الإنكار بالتشبيه: ((كسجع الكهان؟)) ولو كان الإنكار لذاته لقال: "أسجعًا" فقط. الأمر الذي يعني أن النهي منصب على سجع الكهان. كما أن إثبات السجع في القرآن صحيح؛ لأنه مما يبين به فضل الكلام، ولأنه من الأجناس التي يقع بها التفاضل في البيان والفصاحة كالتجنيس والالتفات، ثم إنه لا سببَ للفصل بين الفاصلة والسجع، فالفاصلة أو السجع في القرآن تؤدي دورها تمامًا كما تؤديه في غيره من الكلام الفني الجميل. ويقول أحد المثبتين وهو التنوخي: "أما مَن عاب السجع مطلقًا، فمخطئ؛ لأن السجع كثير في كتاب الله وفي كلام النبي -صلى الله عليه وسلم- والفصحاء كقس وسَحبان، وإنما يُعاب السجع إذا احتاج متكلفه إلى تنقيص المعنى أو زيادته، فالذي فاته من المعنى يَقبُح، وترك السجع لا يقبح، فيكون حينئذٍ السجعُ قبيحًا لاستلزام القبح. وبهذا يُجاب عن قول النبي -صلى الله عليه وسلم: ((أسجعًا كسجع الكهان؟))، فإنه لو عاب السجع مطلقًا لَمَا نطق به، ولا يمكنه أن يعيبه مطلقًا؛ لمجيئه في كتاب الله تعالى كثيرًا. فالمعيب إذًا هو سجع مخصوص، وهو الذي مثَّله بسجع الكهان، وهو الذي ينقص المعنى أو يزيده". انتهى من كلامه. يقول الإمام الشهاب نقلًا عن البقاعي في كتابه (مصاعد النظر): "اختلف السلف في السجع، فقال أبو بكر الباقلاني في كتاب (الإعجاز): ذهب أصحابنا الأشاعرة كلهم إلى نفي السجع عن القرآن، كما ذكره أبو الحسن الأشعري في غير موضع من كتبه، وذهب كثير ممن خالفهم إلى إثباته. والقول الثاني فاسد؛ لِمَا في القرآن من اختلاف أكثر فواصله في الوزن والرَّوي، ولا ينبغي الاغترار بما

ذكره بعض الأماثل كالبيضاوي والتفتازاني من إثبات الفواصل والسجع فيه، وأن مخالفة النظم في مثل هارون وموسى بحسبه. ونقل أبو حيان في قول الله تعالى: {وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ} (فاطر: 21) أنه لا يقال في القرآن: قَدَّم كذا أو أخَّر كذا للسجع؛ لأن الإعجاز ليس في مجرد اللفظ، بل فيه وفي المعنى، ومتى حُوِّل اللفظ لأجل السجع عما كان لا يتم به المعنى بدون سجع، نُقِضَ المعنى وقيل عليه: أنه نسي ما قاله في "الصافات"، من أن التعبير بمارد ومريد للفاصلة، ثم إنه قال: لو كان في القرآن سجع لم يخرج عن أساليب كلامهم، ولم يقع به إعجاز، ولو جاز أن يقال: سجع معجز جاز أن يقال: شعر معجز، والسجع مما تألفه الكهان، وقد أنكر النبي -صلى الله عليه وسلم- على مَن سجع عنده على ما عُرِفَ في كتب الحديث، ولو كان سجعًا كان قبيحًا؛ لتقارب أوزانه، واختلاف طرقه، فيخرج عن نهجه المعروف، ويكون كشعر غير موزون، وما احتجوا به من التقديم والتأخير ليس بشيء، فإنه لذكر القصة بطرق مختلفة. أقول -أي: الشهاب: أطال بلا طائل؛ لتوهمه أن السجع كالشعر، لالتزام تقفيته ينافي جزالةَ المعنى وبلاغته، لاستتباعه للحشو المخل، وأن الإعجاز بمخالفته لأساليب الكلام، فشنَّع على هؤلاء الأعلام وليس بشيء، والعجب منه أنه ذكر كلام الباقلاني مع التصريح فيه بأنه من السلف مَن ذهب إليه، والحق أنه في القرآن من غير التزام له في الأكثر، وكأن مَن نفاه نفَى التزامه أو أكثريته، ومَن أثبته أراد وروده فيه بالجملة، فاحفظه، ولا تلتفت لما سواه، وهذا ينفعك، والذي عليه العلماء أنه تُطلق الفواصلُ عليه دون السجع". انتهى من كلام الشهاب. المرجح إذًا من ذلك والأولى كما قال العلماء أن نقول عما جاء في القرآن على هيئة السجع فواصل؛ تأدبًا مع كلام ربنا -سبحانه وتعالى- ولنا في إمام مدرسة المتأخرين الإمام

السكاكي القدوة، حيث عدل في كتابه (المِفتاح) عن المصطلحات البلاغية التي رسخت في أذهان السابقين، مثل "المغالطة" عند الشيخ عبد القاهر، فإن السكاكي سماها "أسلوب الحكيم"؛ لأنه ورد في الذكر الحكيم، وكذا "تجاهل عارف" سماه السكاكي "سَوْق المعلوم مساقَ غيره"؛ لوجوده في كلام العليم الخبير. والفاصلة أولى من السجع؛ لورودها في القرآن كثيرًا: {كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ} (فصلت: 3) {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} (هود: 1). والحق أن إيثار التعبير بالفواصل القرآنية فيه خروج من هذا الخلاف الشكلي حول إطلاق السجع على الفاصلة القرآنية، وقد رأيتَ ما يحدثه تلازمُ الفواصل من إثارة الشعور، ودفع الملل، وجذب المخاطبين، وبخاصة في هذه البيئة الشاعرة التي نزل فيها القرآن الكريم. يساعد على هذا أن الفاصلة أعم من السجع، حيث إنها تطلق على أواخر الآي، سواء اتفقت الأحرف أم اختلفت، على سبيل المثال قول الله تعالى: {لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ * إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ * فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} (قريش: 1 - 4) تجد أن لذة التلاوة وحلاوتها كامنة في الكلمات: {قُرَيْشٍ}، {وَالصَّيْفِ} و {الْبَيْتِ}، و {خَوْفٍ} فإن هذه الكلمات الأربع تنتهي بأحرف مختلفة، ولكنها من فصيلة واحدة وهي حروف الهمس، وكل كلمة قبل آخرها حرف مد ولين، وهذا الحرف يمد حركتين أو أربعًا أو سِتًا ويسمى مدًّا عارضًا للسكون. وهذا التنغيم الصوتي يؤدي إلى جمال الأداء مع جمال اللفظ مع جمال المعنى مع جمال الهدف، كل هذا يؤدي إلى دخول القرآن القلبَ لعوامل شتى، منها الأداء اللفظي مع الفاصلة القرآنية التي تأتي، والمعنى في قرن واحد.

ولذلك تسمع وترى مَن أسلم بسبب سماعه للقرآن الكريم، وخير مثال لذلك ما حدث لعمر بن الخطاب -رضي الله عنه- لما سمع سورة "طه" أو "الحاقة" في إحدى روايتي إسلامه. من أجل هذا يحاول الكفرة قديمًا وحديثًا صَرْفَ الناس عن مجرد سماع القرآن، أخبر الله عنهم حيث قال -جل وعلا: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} (فصلت: 26) ولذا لا يُمل سماعُ القرآن بسبب ما فيه من فواصل وخلافها، حتى قال فيه أفصحُ العربِ -صلى الله عليه وسلم: ((لا يخلق عن كثرة الرد)). ونحن المسلمين نقرأ القرآن منذ نعومة أظافرنا ولا نمله إن شاء الله ما بقينا، حتى إنك تقف مندهشًا من حفظ الأطفال الصغار جدًّا جزء عم لما فيه من الفواصل البليغة، في حين أنهم لا يستطيعون حفظ قصيدة لامرئ القيس، أو حتى لحسان بن ثابت -رضي الله عنه- وما هذا إلا أنه بُنِيَ على فواصلَ بليغة حكيمة، كل فاصلة في مكانها، وحُق لنا أن نعتز بهذا الكتاب، وحقًّا صدق الله إذ يقول: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (الحجر: 9). والسجع كغيره من ألوان البلاغة إنما يُستحسن ويُستجاد إذا صدر عن طبع، وجاء عفوًا، وقاد إليه المعنى، أما إذا تُكلف وتُصنِّع، وصار هو الذي يقود إلى المعنى، فإنه يستقبح ويُعاب، ويرد على قائله. يقول الإمام عبد القاهر: "ولن تجد أيمنَ طائرًا، ولا أحسنَ أولًا وآخرًا، وأهدى إلى الإحسان وأجلبَ إلى الاستحسان، من أن ترسل المعاني على سجيتها، وتدعها تطلب لأنفسها الألفاظ، فإنها إذا تُركتْ وما تريد لم تكتسِ إلا ما يليق بها، ولم تَلْبَسْ من المعارض إلا ما يَزينها، أما أن تضع في نفسك أنك لا بد من أن تجنس أو تَسْجَع بلفظين مخصوصين، فهو الذي أنت منه بعَرَض الاستكراه، وعلى خطر من الخطأ والوقوع في الذم".

شروط حسن السجع، وأنواعه.

شروط حسن السجع، وأنواعه والسؤال إذًا: إذا كان حال السجع هكذا فما هي إذن شروط حسن السجع -بالطبع في غير القرآن؟ الجواب: أن ابن الأثير ذكر شروطًا أربعة ينبغي تحققها؛ حتى يكون السجع حسنًا، فإذا فقد شرط منها لا يكون السجع حسنًا. وتلك الشروط هي؛ أولًا: أن تكون الألفاظ المسجوعة حلوةً رنانةً، لا غثةً ولا باردةً. الأمر الثاني: أن تكون التراكيب أيضًا صافيةً حسنةً رائقةً خاليةً من الغَثاثة، وذلك أن المفردات قد تكون حسنة ولكنها عند التركيب تفقد هذا الحسنَ، ولذا شُرط في التركيب ما شرط في المفرد. ومعنى الغثاثة والبرودة التي ينبغي أن تخلو منها الألفاظ والتراكيب: أن يهتم المتكلم بالسجع ويهمل الألفاظ والتراكيب، فتأتي متكلفةً، قد بدت فيها الصنعة والتعمق. الشرط الثالث: أن يكون اللفظ فيه تابعًا للمعنى، لا أن يكون المعنى تابعًا للفظ، وإلا كان كظاهر مموه على باطن مشوه. الرابع: أن تكون كل واحدة من الفقرتين المسجوعتين دالةً على معنى غير المعنى الذي دلتْ عليه أختها، فإذا كان المعنى فيهما سواء فذلك هو التطويل بعينه؛ لأن التطويل إنما هو الدلالة على المعنى بألفاظ يمكن الدلالة عليها بدونها. وهذا الشرط الأخير لم يسلم لابن الأثير، فقد فنده بعضهم، ذاكرًا أن السجعة الثانية إذا كانت بمعنى الأولى فهي تؤكد معناها، فالتأكيد عمدة البيان. ثم ذكر أن القرآن الكريم قد ورد فيه ذلك في كثير من مواضعه، نحو قول الله تعالى: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ * مَلِكِ النَّاسِ * إِلَهِ النَّاسِ} (الناس: 1 - 3) فالرب هنا والمَلك والإله بمعنى واحد، وكل سجعة من هذه السجعات قد أعطت معنى الأخرى. ومثله قوله -عز وجل: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا * لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا * وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا} (النبأ: 14 - 16) فإن الجنات هي البساتين، ولا معنى

للبساتين إلا ما كان محتويًا على الحَب والنبات. ومن ذلك قوله -تبارك وتعالى: {إِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ حِسَابًا * وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا} (النبأ: 27، 28) فإن عدم اعتقادهم في الحساب هو تكذيبهم بالآيات. ومثل هذا في القرآن العزيز كثير جدًّا. والرأي في ذلك: أن السجعة الثانية عندما تأتي بمعنى الأُولى فإن كانت مؤكدةً لها أو مبينةً وموضحةً -كما رأينا في الآيات- فذلك محمود؛ لأنه إطناب، والإطناب من البلاغة، أما إذا كان تكرارها لا يزيد الأولى شيئا فذلك مذموم؛ لأنه من التطويل، والتطويل عيب في الكلام. ومن ذلك التطويل المعيب: قول الصبي: الحمد لله الذي لا تدركه العيون بألحاظها، ولا تحده الألسن بألفاظها، ولا تَخلقه العصور بمرورها، ولا تهرمه الدهور بكرورها. فلا فرق هنا بين مرور العصور وكَر الدهور. يقول: ثم الصلاة على النبي الذي لم يرَ للكفر أثرًا إلا طمسه ومحاه، ولا رسمًا إلا أزاله وعفاه. فهنا تجد أنه لا فرق بين محو الأثر وعفاء الرسم. فالسجعة الثانية في كل مكررة، وتكرارها لم يفد الأولى شيئًا، ولم يزد الكلام بهجةً، ولا أضفى عليه رونقًا، ولذا كان من التطويل المعيب. هذا، وللسجع أنواع باعتبار وروده في النثر والشعر، إذ بعض هذه الأنواع يكون في النثر والشعر معًا يشترك فيهما، وبعضها يختص بالشعر فقط. فأنواعه المشتركة بين النثر والشعر ثلاثة: أولها: المطرف: وهو ما اختلفت فيه الفاصلتان أو الفواصل وزنًا واتفقت رويًّا، كما في قول الله تعالى: {مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا * وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا} (نوح: 13، 14) فوزن: {وَقَارًا} يختلف عن وزن: {أَطْوَارًا} والروي واحد، وهو حرف الراء. ومنه شعرًا، قول أبي تمام وقد سبق:

تجلَّى به رشدي وأثرتْ به يدي ... وفاضَ به ثَمْدي وأورَى به زِندي فزندي ويدي مختلفان وزنًا، متفقان رويًا. أما رشدي وثمدي وزندي: فمتفقة في الروي والوزن معًا، والمراد بالوزن هنا الوزن العروضي لا الصرفي. النوع الثاني من المشترك بين النثر والشعر: ما يسمى بالمرصع وهو أن يكون ما في إحدى القرينتين من الألفاظ أو أكثره مثل ما يقابله من الأخرى وزنًا وتقفيةً، كما في قول الله تعالى: {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} (الانفطار: 13، 14) فالأبرار في الوزن والتقفية مثل الفجار، ونعيم كذلك مثل جحيم، ومثله قوله -سبحانه وتعالى: {إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ} (الغاشية: 25، 26) وقوله -عز وجل: {وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا * فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا * فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا * فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا * فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا} (العاديات: 1 - 5) ومثله قوله -صلى الله عليه وسلم: ((اللهم أعطِ منفقًا خلفًا، وأعط ممسكًا تلفا)) ومنه قول الحريري: فهو يطبع الأسجاع بجواهر لفظه، ويقرع الأسماع بزواجر وعظه. ومنه شعرًا قول أبي فِراس الحمداني: وأفعالنا للراغبين كرامةً ... وأموالنا للطالبين نهاب وقول الآخر: فحريق جمرة سيفه للمعتدي ... ورحيق خَمرة سببه للمعتفي النوع الثالث -ما يشترك فيه السجع بين الشعر والنثر: ما يسمى بالمتوازي، وهو ما اتفقت فيه الفاصلتان فقط وزنًا وتقفيةً، كما في قول الله تعالى: {فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ * وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ} (الغاشية: 13، 14) فإن: {مَرْفُوعَةٌ} و {مَوْضُوعَةٌ} متفقتان وزنًا ورويًّا. ومن ذلك قوله -صلى الله عليه وسلم: ((اللهم إني أدرأ بك في نحورهم، وأعوذ بك من شرورهم)) فـ ((نحورهم)) و ((شرورهم)) متفقتان وزنًا وقافيةً. ومنه شعرًا قول المتنبي -وقد مر بنا:

فنحن في جذل والروم في وجل ... والبر في شغل والبحر في خجل فالشطر الأول مسجوع سجعًا متوازيًا، والشطر الثاني من السجع المرصع، فإن اتفقت الفاصلتان في الوزن دون القافية سُمي هذا باسم الموازنة، كقوله تعالى: {وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ * وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ} (الغاشية: 15، 16) فلفظا: {مَصْفُوفَةٌ} و {مَبْثُوثَةٌ} متفقان في الوزن لا في القافية، فالأولى على الفاء والثانية على الثاء، وهما حرفان متقاربان لا متفقان. ومنه قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا * فَلَا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا} (مريم: 83، 84) فـ {أَزًّا} و {عَدًّا} اتفقتا وزنًا واختلفتَا قافيةً. فإن كان ما في إحدى القرينتين من الألفاظ أو أكثر ما فيهما مثل ما يقابله من الأخرى في الوزن دون القافية، خُصَّ باسم المماثلة، وهذا هو النوع الخامس، كقول الله تعالى: {وَآتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ * وَهَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} (الصافات: 117، 118). ومنه شعرًا قول أبي تمام: مها الوحش إلا أن هاتا أوانسٌ ... قنا الخط إلا أن تلك ذوابل وقول البحتري: فأحجم -أي: الأسد الذي بارزه الممدوح: فأحجم لما لم يجد فيك مطمعا ... وأقدم لما لم يجد عنك مهربًا وكما يقع السجع في كلام شخص واحد فقد يقع في كلام شخصين، كما حُكِي من أنه قيل لرجل: ما أحسن السجع؟ قال: ما راق في السمع، قيل: مثل ماذا؟ قال: مثل هذا، يقصد ما سبق من جواب وسؤال. ومنه: ما روي من أن النبي -صلى الله عليه وسلم- سأل عمن قتل أحد الكفرة، فقالوا له: ابن الأكوع، فقال -صلى الله عليه وسلم: ((له سلبه أجمع)). وأما أنواعه الخاصة بالشعر فهي؛ أولًا: التشطير؛ وهو أن يُجعل كل شطر من شطري البيت سجعتين، بحيث تختلف سجعتا كل شطر عن سجعتي الشطر الآخر في القافية، كما في قول أبي تمام:

تدبير معتصم بالله منتقم ... لله مرتقب في الله مرتغب النوع الثاني: التصريع؛ وهو جعل كل شطر من شطري البيت فقرةً، فتكون العروض مقفاةً تقفيةَ الضرب. وهذا النوع يحسن في أول أبيات القصيدة، وعند الانتقال من غرض إلى آخر كالانتقال من النسيب إلى المديح. وفيما عَدَا هذين الموضعين يحسن ما قل منه دونما كثر. ومن شواهده قول أبي فِراس: بأطراف المثقفة العوالي ... تفردتا بأوساط المعالي وقول امرئ القيس: ألا عِم صباحًا أيها الطلل البالي ... وهل ينعمن مَن كان في العصر الخالي وقوله في مطلع معلقته: قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل ... بسقط اللوى بين الدخول فحومل وفي أثنائها: أفاطم مهلًا بعد هذا التدلل ... وإن كنتِ قد أزمعت صرمي فأجملي ومنه قول أبي العتاهية: الفقر فيما جاوز الكفافَ ... مَن اتقى الله رجا وخافا النوع الثالث: أن يكون غير مصروع ولا مشطور، كما في قول الخَنساء: حامي الحقيقة محمود الخليقة مه ... ــــدي الطريقة نفاع وضرار ونلاحظ في بناء الأسجاع أن فواصل هذه الأسجاع موضوعة على أن تكون ساكنة الأعجاز، موقوفا عليها، إذ الغرض أن يزاوج بينها ولا يتم هذا في كل صورة إلا بالوقف والبناء على السكون. ففي قول قس بن ساعدة الأيادي: "من عاش مات، ومن مات فات، وكل ما هو آت آت". وقول الآخر: "ما أبعد ما

فات، وما أقرب ما هو آت". لو لم نقف بالسكون لفات الغرض من السجع، إذ التاء من "مات وفات" تصير مفتوحةً، ومن "آت" تصير مكسورة منونة، وذلك حَسْب إجراء حركات الإعراب أو البناء على آخر الفواصل، وهذا الإجراء لا يحقق التزاوج بين الفواصل، فوجب الوقوف عليها وتسكين أعجازها. أما السجع باعتبار طول الفقر وقصرها، فهو يأتي على اختلاف أنواعه، وينقسم من حيث طول فقره وقصرها إلى قسمين: سجع قصير، وسجع طويل. فالقصير: ما كان مؤلفًا من ألفاظ قليلة، إذ يبدأ بكلمتين وينتهي إلى تسع كلمات أو عشْر، كما في الآيات الكريمة: {وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا * فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا} (المرسلات: 1، 2) {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} (المدثر: 1 - 5) من ذلك قوله: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} (النجم: 1 - 3) وقوله: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ * وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ * وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ} (القمر: 1 - 3). أما الطويل: هو ما كان مؤلفًا من ألفاظ طويلة وتتفاوت درجاته في الطول، إذ يبدأ من إحدى عشرة لفظةً وينتهي إلى عشرين فما فوقها، من ذلك قول الله تعالى: {وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ * وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ} (هود: 9، 10) وقوله -عز وجل: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ * فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} (التوبة: 128، 129)

من ذلك قوله: {إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ} (الأنفال: 43، 44). ويرى البعض: أن السجع من حيث طول فقره وقصرها ثلاثة أقسام: طويل، ووسط، وقصير. فالقصير: يبدأ بكلمتين وينتهي إلى أربع كلمات، والوسط: يبدأ من خمس إلى عشر، والطويل: ما فوق ذلك. ولا فائدةَ ترجَى من وراء هذا الاختلاف، بل ولا حتى من وراء هذه التقسيمات، فالأولى أن يقال: إن السجع يبدأ بكلمتين وينتهي إلى العشرين أو ما قاربها. أما السجع من حيث تساوي فِقره وعدم تساويها، فإننا نلحظ أن السجع تتساوى فقره أحيانًا، كما في قول الله تعالى: {فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ * وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ * وَظِلٍّ مَمْدُودٍ} (الواقعة: 28 - 30) وقوله تعالى: {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ * وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ} (الضحى: 9، 10) وقد تطول الفقرة الثانية طولًا لا يَخرج بها عن حد الاعتدال، كقول الله تعالى: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى* مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى} وقد تتساوى الأولى والثانية وتطول الثالثة، كقوله تعالى: {خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ * ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ} (الحاقة: 30 - 32) وقد تكون الثانية أقصرَ من الأولى قصرًا يسيرًا كقوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ * أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ} (الفيل: 1، 2). وهذه الأنواع كلها حسنة قد وردت في أساليب القرآن الكريم -كما رأينا. ويذكر البعض: أن أحسن السجع ما تساوت قرائنه، ثم ما طالت قرينته الثانية، ثم الثالثة، ثم ما قصرت قرينته الثانية قصرًا يسيرًا، ولا وجه لهذا التفضيل،

بلاغة السجع.

خاصةً وأن الكل قد ورد في النظم الكريم، فالأولى أن يقال: إن كل نوع منها حسن في موضعه، أما ما يستقبح فهو أن تطول الفقرة الثانية عن الأولى كثيرًا، بحيث يخرج بها هذا الطولُ عن حد الاعتدال؛ لأن هذا يفوت على السامع لذةَ الاستمتاع بالقافية لبُعدها بعدًا كثيرًا، كما يقبح أن تقصر الثانية عن الأولى قصرًا كثيرًا؛ لأن السجع إذا استوفَى أمدَه من الأولى لطولها، ثم جاءت الثانية أقصر منها كثيرًا، كان ذلك كالشيء المبتور، ويبقَى السامع كمَن يريد الانتهاء إلى غاية، فيعثر دونها، ومن ثَم لم يرد شيء من ذلك في أساليب النظم الكريم. بلاغة السجع وننهي كلامنا بالحديث عن بلاغة السجع، ونقول: إن بلاغة السجع ترجع إلى أنه يؤثر في النفوس تأثيرَ السحر، ويلعب بالأفهام لعبَ الريح بالهشيم؛ لِمَا يحدثه من النغمة المؤثرة، والموسيقى القوية التي تطرب لها الأذن، وتَهش لها النفس، فتُقبل على السماع من غير أن يداخلها مَلل، أو يخالطها فتور، فيتمكن المعنى في الأذهان، ويَقر في الأفكار، ويَعز لدى العقول. ولَمَّا قيل للرقاشي: "لِمَ تؤثر السجع على المنثور، وتلزم نفسك القوافي وإقامةَ الوزن؟ قال: إن كلامي لو كنتُ لا آمُل فيه إلا سماع الشاهد لقل خلافي عليه، ولكني أريد الغائب والحاضر، والراهن والغابرَ، فالحفظ إليه أسرع، والآذان لسماعه أنشط، وهو أحق بالتقييد وبقلة التفلت". وهكذا، فالسجع له فائدة كبرى على النثر العربي، فهو يساعد على حفظ الخطاب والحكم والأمثال، ذلك أن انتهاء الجمل بحرف واحد أو حرفين أو أكثر يجعل الأذنَ تَهش له، والقلب يميل إليه.

ومن هنا فقد اشترط البلاغيون لتمام السجع سكون أواخر الفقر، فقال الخطيب: "واعلم أن فواصل الأسجاع موضوعة على أن تكون ساكنةَ الأعجاز، موقوفًا عليها؛ لأن الغرض أن يزاوَج بينها، ولا يتم ذلك في كل صورة إلا بالوقف". من ذلك أول سورة الفجر يقول تعالى: {وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ * وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ * وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ * هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ * أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ * وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ * وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ * الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ * فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ * فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ * إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} (الفجر: 1 - 14) فتسكين أواخر الراء وأواخر الدال كي يظهر السجعُ، ولو حركتَ حرف الراء والدال فات الغرض من السجع. ربما يحذف حرف أو يُزاد حرف لأجل السجع، ويظهر ذلك جليًّا في آيات سورة الفجر السابقة فحذف حرف الياء من الفعل: {يَسْرِ} بدون جزم دال على ذلك، وذلك لتمام الفاصلة، وحذف كذلك حرفَ الياء أيضًا من الاسم: {الْوَادِ} لنفس الغرض، وحذف الياء كثير في القرآن مثل: {هَادٍ} (الرعد: 33) {وَالٍ} (الرعد: 11) {مَآبٍ} (الرعد: 29) في سورة الرعد، وأصلها: هادي، والي، مآبي، حُذفت هذه الحروف؛ لمراعاة الفاصلة. ومثل ذلك أيضًا: {دِينِ} في سورة الكافرون: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} (الكافرون: 6) وأصلها: ديني، فحُذفت الياء؛ مراعاةً للفاصلة. وربما غير العرب الكلمةَ عن وضعها الصرفي؛ وذلك طلبًا للسجع والتوازن الإيقاعي بين طرفي الجملة، وذلك مثل قول الرسول -صلى الله عليه وسلم- يرقي سِبطيه:

((أُعيذكما بكلمات الله التامة، من الهَامة والسامة، والعين اللامة))، فاللامة أصلها المُلمة من: ألَمَّ، فعبر بها لموافقتها ما قبلها، ومثله قوله للنساء -صلى الله عليه وسلم: ((ارجعن مأزورات غير مأجورات))، والأصل: مأزورات من الوزر، لكنه قال ذلك لمكان: ((مأجورات)). وكذلك قوله -صلى الله عليه وسلم: ((خيرُ المال سِكة مأبورة، أو مُهرة مأمورة))، فالسكة: الطريقة من النخل، ومأبورة أي: ملقحة، ((ومهرة مأمورة)) أي: كثيرة النسل، وكان يجب أن يقال: مؤمَّرة؛ لأنه مِن: آمرها الله، ولكنه أتبعها قوله: ((مأبورة)) كقولهم: إنه ليأتينا بالغدايا والعشايا. كما أن من مزايا السجع في النظم الكريم: شدة ارتباط الفاصلة وتماسكها بما قبلها من الكلام، بحيث تنحدر على الأسجاع انحدارًا، وكأن ما سبقها لم يكن إلا تمهيدا لها، وبحيث لو حذفت لاختل معنى الكلام، ولو سُكِتَ عنها لاستطاع السامع أن يختمه بها؛ انسياقًا مع الطبع والذوق السليم. مثلًا: قول الله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى * وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى * أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى * تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى} (النجم: 19 - 22) تجد أن كلمة: {ضِيزَى} الواقعة في الفاصلة تتماسك مع المعنى، وتنحدر على الأسجاع، وتنساق مع السياق انسياقًا تامًّا، وهي لفظة غريبة، ولكن غرابتها من أشد الأشياء ملاءمةً لغرابة تلك القِسمة التي أنكرها النظم الكريم. وهذا هو شأن الفواصل في جميع آي الذكر الحكيم. كما تتبدى بلاغة السجع: إذا خرج عفوًا غير مستكره ولا مستجلب، بل يأتي والكلام مطابق لمقتضى الحال، ويتمثل ذلك في القرآن الكريم، وفي السنة النبوية المطهرة الشريفة، وحِكم وأمثال العرب، وخطب الخلفاء الراشدين، ومَن سار سيرهم. مثلًا قول الله تعالى في سورة القمر، فكل آية آخرها حرف راء -وهناك ست آيات آخرها حرف الراء- هذه الراء بعدها ياء المتكلم، وهي: {عَذَابِي وَنُذُرِ} (القمر: 18)

وحذفت الياء لأغراض، منها: رعاية الفاصلة التي بُنيت على حرف الراء، وحذفها لدلالة ياء المتكلم الموجودة في الكلمة قبلها: {عَذَابِي} عليه. ومنها: قَطْع الكلمة عند حرف الراء للتخويف والترهيب، فهو نذر عظيم لا يقادر قدره، ولا يحاط وصفه، فحذف الياء جاء للتوافق الصوتي مع الآيات السابقة واللاحقة، والقرآن الكريم قِمة في ذلك، إذ هو يحرص على توافق التنغيم الصوتي بقدر حرصه على مراعاة الأحوال والمقتضيات. ولنأخذ مثلًا قول الله تعالى: {وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا} (المزمل: 8) فالمصدر للفعل: تبتل تبتلًا على وزن "تفعّل" ومع هذا جاء على تبتيلًا بزنة "تفعيل"؛ وذلك مراعاةً للفاصلة، ويدل على أنه ينبغي له تجريد نفسه عما سواه، ومجاهدته، فلذا ذكر التبتيل الدال على فعله بخلاف التبتل، فإنه لا يدل إلا على قَبول الفعل كالانفعال. ومثل ذلك أيضًا ما جاء في قول الله تعالى: {وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا} (الأحزاب: 10) فكلمة: {الظُّنُونَا} زيد في آخرها الألف؛ مراعاةً لحق الفاصلة. ومثله كذلك: {يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا} (الأحزاب: 66). وكذلك نجد في حديث النبي -صلى الله عليه وسلم- أن هذا المحسن جاء غيرَ متكلف، فانظر مثلًا إلى قوله -صلى الله عليه وسلم: ((أنهاكم عن قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال))، وكذا قوله مخاطبًا الأنصارَ: ((أما والله ما علمتُكم إلا لتقلون عند الطمع، وتكثرون عند الفزع)). هكذا نجد سهولةَ السجع أو الفاصلةَ في القرآن وفي سنة النبي -صلى الله عليه وسلم. وهكذا تبدو بلاغة هذا السجع في هذه الألوان من النثر. إلى هنا ينتهي لقاؤنا، وإلى لقاء آخر مع لون آخر من ألوان البديع، إلى الملتقى، استودعكم الله. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الدرس: 21 الجناس باعتباره أحد المحسنات اللفظية.

الدرس: 21 الجناس باعتباره أحد المحسنات اللفظية.

معنى الجناس في اللغة والاصطلاح، وجهود البلاغيين في إبرازه.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس الحادي والعشرون (الجناس باعتباره أحد المحسنات اللفظية) معنى الجناس في اللغة والاصطلاح، وجهود البلاغيين في إبرازه الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، ثم أما بعد: فالجناس في لغة العرب: كالمجانسة، مصدر: جانس الشيء الشيء: إذا اتحد معه في الجنس أو شاكله في بعض خواصه، يقال: هذا يجانس هذا أي: يشاكله، وفلان يجانس البهائمَ ولا يجانس الناسَ: إذا لم يكن له تمييز ولا عقل. فالمادة إذًا تدور حول الاتحاد والمشاكلة. والجناس في الحقيقة فن واسع من فنون البديع لم يُعهد في فن منها أن كثرت تعاريجه، واتسعت مسائله، واختلفت صوره كما هو الحال في فن الجناس؛ لذا فإن وَضْع حد لهذا الفن يجمع أطرافه ويلم شتاته، ليس بالأمر السهل الهين، من ثَم كان الكاتبون في البلاغة يفرون من وضع تعريف له، ويكتفون بوضع تصور أو ضابط لنوع من أنواعه، أو فرع من فروعه، الأمر الذي أدى إلى كثرة التعريفات مع ما فيها من تصور وعدم وفاء بأطراف هذا الفن المترامية. وقد أشار الخليل إلى فن الجناس بقوله: "الجنس لكل ضرب من الناس والطير والعَروض والنحو، فمنه ما تكون الكلمة تجانس الأخرى في تأليف حروفها ومعناها وما يشتق منها، مثل قول الشاعر: يوم خلجت على الخليج نفوسهم ... ....................... أو يكون تجانسها في تأليف الحروف دون المعنى، مثل قوله تعالى: {وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (النمل: 44) ". وللأصمعي كتاب يُنسب إليه يسمى (كتاب الأجناس) وابن المعتز يعده من الفئوس الأساسية للبديع، ثم ما لبث أن نَمَا الجناس، وتشعبت فروعه، وكثرت أنواعه، وتعددت مصطلحاته، ولعل ذلك يرجع إلى إسراف الشعراء وإكثار الكتاب من هذا اللون، وتفننهم في صنوفه

وأشكاله، وبخاصة في العصور المتأخرة. والذي يعنينا الآن أن نقف على مفهوم الجناس وأثره في المعنى، وأن نعرف أنواعه بعيدًا عن التقسيمات المملة، والتي يتداخل معظمها، ولا يجد الدارس من الوقوف عليها كبيرَ فائدةٍ. الذي يُفهم من كلام القدماء إذًا أن الجناس عندهم: اتحاد طرفيه أو تشابههما في الصورة والتلفظ مع اختلاف المعنى فيهما، ترى هذا المعنى في قول ابن الرومي: للسود في السود آثار تركن بها ... وقعًا من البيض يثني أعين البيض فقد جاءت كلمة "السود" في الشطر الأول مرتين، كما جاءت كلمة "البيض" في الشطر الثاني مرتين كذلك، وكلمة "السود" في الشطر الأول مع تكررها إلا أنها جاءت في المرة الأولى بمعنًى، وفي المرة الثانية بمعنًى آخر، فمعناها في المرة الأولى الليالي، ومعناها في المرة الثانية الشعر الأسود، والمعنى: أن لليالي السوداء بما تجلب من هموم آثارًا واضحة في شَعر المهموم الذي يمضي ليله ساهرًا قلقًا. فأنت تلاحظ: أن في الشطر الأول طرفين هما كلمة "السود" الأولى وهو الطرف الأول، والثانية وهو الطرف الثاني، وقد جاء الطرفان متحدين صورةً ولفظًا، إلا أن معناهما مختلف -كما ترى- وكذلك كلمة "البيض" التي جاءت في الشطر الأول مكررةً مرتين، الأولى بمعنًى، والثانية بمعنى آخر، فقد جاءت في الأولى بمعنى الشعيرات البيضاء، والثانية بمعنى الغانيات الفاتنات صُويحبات البشرة البيضاء، ومعنى هذا الشطر: أن الغانيات البيض صددن عنه؛ ظنًّا منهن أن شعره قد شاب لِكبر في سنه. فأنت تلاحظ: أن في هذا الشطر الذي قبله طرفان؛ الأول: كلمة البيض بمعنى الشعيرات البيضاء، والثاني كلمة البيض بمعنى الغانيات الفاتنات، وقد اتحد الطرفان صورةً ولفظًا واختلفا معنًى كما هو واضح.

وقد عرف ابن الأثير الجناس: بأنه اتفاق اللفظ واختلاف المعنى، ومثَّل له بقوله -صلى الله عليه وسلم: ((أسلم سالمها الله، وغِفار غفر الله لها، وَعُصية عصت الله))، ففي الحديث ثلاثة جناسات؛ الأول: بين ((أسلم))، وهي قبيلة، و ((سالمها)) دعاء بالسلامة. والثاني: بين غِفار اسم قبيلة: ((وغفر الله لها)) دعاء لها بالغفران. والثالث بين عُصية اسم قبيلة: و ((عصت الله)) إخبار عن عصيانها لله -جل وعلا. فأنت -كما ترى- تجد في كل من هذه الجناسات طرفين تشابهت صورتهما ولفظهما، وكان بينهما نوع من الاتفاق، إلا أنهما في المعنى مختلفان. ومن الجناس ما هو حسن، ومنه ما هو قبيح، شأن كل لون بديعي، فيجيء الجناس حسنًا رائعًا إذا قصد إلى غاية تخدم غرضَ المتكلم، كأن يخدعه عن حقيقة ما أراد وقد أعطاها له، أو يوهمه بأنه يكرر لفظًا دون فائدة، مع أن الفائدة محققة، أو يجعله يظن أنه لم يزده شيئًا مع أنه أحسن الزيادة ووفاها حقها من السماحة والقبول. كما أن الجناس يحسن ويلطف إذا كان موقع اللفظين من العقل موقعًا حميدًا، وكانت المناسبة بينهما واضحةً قريبةً، ولا تعقيدَ فيها ولا التواء. أما إذا لم يكن تحت الجناس فائدة ولم يكن ثَمة غرض يرمي إليه المتكلم، اقتصر الأمر على تكرير الكلمات والحروف دون قصد يخدم غرضه، فإن الجناس يأتي سمجًا مرذودلًا. كما أن الجناس يجيء غَثَّا قبيحًا إذا لم يقع موقعًا حسنًا من الكلام، أو كانت المناسبة بين اللفظين فيها نوع التواء، أو عدم وضوح. يقول الإمام عبد القاهر: "إنك لا تستحسن تجانسَ اللفظتين إلا إذا كان موقع معنييهما من العقل موقعًا حميدًا، ولم يكن مرمى الجامع بينهما مرمًى بعيدًا، أتراكَ استضعفتَ تجنيس أبي تمام في قوله: ذهبت بمذهبه السماحة فالْتَوَتْ ... فيه الظنون أَمَذهب أم مُذهب

تقسيم المحسنات البديعية إلى: معنوية، ولفظية.

واستحسنت تجنيس القائل: حتى نَجَا من خوفه وما نجا ... ......................... وقول المحْدث: ناظراه فيما جنى ناظراه ... أو دعاني أمُتْ بما أودعاني لأمر يرجع إلى اللفظ أم لأنك رأيت الفائدة ضعفت عن الأول وقويت في الثاني؟ ورأيتك لم يزدك بـ"مذهب" و"مُذهب" إلا أن أسمعك حروفًا مكررة تروم لها فائدةً فلا تجدها إلا مجهولة منكرة، ورأيت الآخرَ قد أعاد عليك اللفظةَ كأنه يخدعك عن الفائدة وقد أعطاها، ويوهمك كأنه لم يزدك وقد أحسن الزيادة ووفَّاها، فبهذه السريرة صار التجنيس -وخصوصًا المستوفَى منه المتفق في الصورة- من حُلي الشعر، ومذكورًا في أقسام البديع". انتهى من كلام الإمام عبد القاهر. ويجب في الجناس أن يكون سهلًا لا كلفة فيه، وإلا كان سمجًا -كما قلنا- قبيحًا، ومن الجناس القبيح لما فيه من التكلف قول عبد الله بن مالك القرطبي: حييتُ إذا حييت حادي عيسهم ... فكان عيسى من حُداة العيسي فحمله تكلف التجنيس على أن يجعل عيسى -عليه السلام- من حداة عيسهم. تقسيم المحسنات البديعية إلى: معنوية، ولفظية والبلاغيون حين قسموا المحسنات البديعية إلى: محسنات معنوية، ومحسنات لفظية، وفرقوا بينهما بأن المحسن المعنوي: ما كان التحسين فيه راجعًا إلى المعنى أولًا وبالذات، واللفظي: ما كان التحسين فيه راجعًا إلى اللفظ أولًا وبالذات، وضعوا ضابطًا يفرقون به بين النوعين، فضابط المعنوي أنك إذا غيرتَ بعض الألفاظ الدالة عليه بمَا يرادفه لا يتخلف التحسين، وضابط اللفظي على عكس ذلك، فلو غيرتَ اللفظ بما يرادفه لذهب التحسين واختفى المحسِن. وبِناءً على هذا

الفرق، فإن الجناس داخل في المحسنات اللفظية، إذ إن التحسين فيه راجع إلى اللفظ أولًا وبالذات، وضابط المحسن اللفظي ينطبق عليه. غير أن جمهور البلاغيين احترسوا لهذا الفرق، وقالوا: إن التحسين في المعنوي وإن كان راجعًا إلى المعنى أولًا وبالذات، إلا أن هناك تحسينًا يرجع إلى اللفظ وإن كان عَرَضيًّا، وكذا المحسن اللفظي، فبالرغم من أن التحسين راجع فيه إلى اللفظ إلا أن المعنى أيضًا يناله بعض التحسين، فالجناس وإن كان محسنًا لفظيًّا إلا أن التحسين فيه يتعدَّى اللفظ والجرس إلى المعنى. وقد نبه إلى ذلك الشيخ عبد القاهر في قوله: "رجوع الاستحسان إلى اللفظ من غير شِرك من المعنى فيه، وكونه من أسبابه ودواعيه، لا يكاد يعدو نمطًا واحدًا، وهو أن تكون اللفظة مما يتعارفه الناس في استعمالاتهم، ويتداولونه في زمانهم، ولا يكون وحشيًّا غريبًا أو عاميًّا سخيفًا، وها هنا أقسام قد يُتوهم في بدء الفكرة وقبل إتمام العبرة، أن الحسن والقبحَ فيها لا يتعدى اللفظ والجرس إلى ما يناجي فيه العقل والنفس، ولها إذا حقق النظر مرجع إلى ذلك، ومتصرف فيما هنالك، منها التجنيس والحشو، أما التجنيس: فإنك لا تستحسن تجانسَ اللفظين إلا إذا كان موقع معنييهما من العقل موقعًا حميدًا ولم يكن مرمى الجامع بينهما مرمًى بعيدًا". ويؤكد الإمام عبد القاهر على أن التحسين في الجناس لم يتم في اللفظ إلا بنصرة المعنى، وأن التحسين في الجناس لو كان في اللفظ فقط لَمَا كان مستحسنًا، وذلك قوله: "تبين لك أن ما يعطي التجنيس من الفضيلة أمرٌ لم يتم لا ينصره المعنى، إذ لو كان باللفظ وحده لما كان فيه مستحسن، ولَمَا وجد فيه إلا معيب مستهجن، ولذلك ذم الاستكثار منه والولوع فيه، وذلك أن المعاني لا تدين في كل موضع لما يجذبها التجنيس إليه، إذ الألفاظ خَدَمُ المعاني والمصرفة في حكمها، وكانت

أقسام الجناس.

المعاني هي المالكة سياستها والمستحقة طاعتها، فمَن نصر اللفظ على المعنى كان كمَن أزال الشيءَ عن جهته، وأحاله عن طبيعته، وذلك مظِنة الاستكراه، وفيه فتح أبواب العيب والتعرض للشيء". والحاصل: أن الجناس محسن لفظي وإن كان التحسين فيه شاملًا لكل من اللفظ والمعنى، إلا أن التحسين فيه لما كان راجعًا إلى اللفظ أولًا وبالذات عُدَّ ضمن المحسنات اللفظية. أقسام الجناس هذا، وللجناس أقسام كثيرة ومتفرعة، وصور عديدة ومتنوعة، وأساس هذه الأقسام هو اللفظ، أما المعنى فلا مدخلَ فيها؛ لأنه مختلَف في كل قسم من أقسامه. والأقسام الرئيسة التي ارتضاها البلاغيون للجناس هي التام وغير التام. فالجناس التام: هو ما كان طرفاه متفقين في أربعة أمور: نوع الحروف بأن تكون الكلمتان مكونتين من حروف متحدة، مثل: للسود في السود آثار تركن بها ... وقعًا من البيض يثني أعينَ البيض ب- عدد الحروف بأن تكون الكلمتان مكونتين من حروف متساوية من حيث العدد بعد الاتفاق في الجنس، ولا يعتد بـ"أل" التعريفية؛ لأنها طارئة على الكلمة. جـ- هيئة الحروف بأن تكون الحروف المتجانسة المتساوية في العدد متحدةَ الضبط في الكلمتين: الرفع يقابله رفع، والنصب نصب، وهكذا في كل حروفها، ولا يُعتد بحركة الحرف الأخير؛ لأنه خاضع لعوامل الإعراب. د- ترتيب الحروف: بأن تكون الحروف المتجانسة المتساوية العدد، المتحدة الضبط، متحدة الموضع، الأول يقابله الأول، والثاني والثالث كذلك وهكذا.

وكل هذه الشروط موجودة في بيت ابن الرومي السابق، فهو من الجناس التام. وعلى هذا فكل جناس اتحد طرفاه في الأمور الأربعة فهو جناس تام. وقد قسمه البديعيون إلى أربعة أنواع: النوع الأول: التام المماثل؛ وهو ما اتفق طرفاه في الاسمية أو الفعلية أو الحرفية، بأن يكون اسمين أو فعلين أو حرفين. ومن أمثلة الجناس الاسمي قول بعضهم: زائر السلطان كزائر الليل في الزائر. ومنه قول الأفوه الأودي: وأقطع الهَوْجَل مستأنسًا ... بهوجل عَيْرانة عنتريس فالجناس هنا بين "هوجل" و"هوجل" الأول بمعنى الطريق البعيد، والثانية بمعنى الفرس. ومنه قول المتنبي: لك يا منازل في القلوب منازل ... أقفرتِ أنت وهن منك أواهل فقد خاطَب الشاعر منازلَ أحيائه الدارسة، قائلًا لها: إن في قلبه منزلةً وذكرَى لا تزول، وإن أقفرتْ تلك المنازل من ساكنيها وعفا عليها الدهر، والجناس بين "منازل" و"منازل". الأولى بمعنى مكان السكنى، والثانية بمعنى المكانة والذكرى. ومنه قول الشاعر يرثي صديقًا له اسمه اللواتي: أعيني أين أدمعك اللواتي جريـ ... نـ دمًا غداة قضَى اللواتي فالجناس هنا بين "اللواتي" و"اللواتي" الأولى بمعنى الدموع، والثانية اسم شخص. ومنه قول أبي تمام: إذا الخيل جابت قسطل الحرب صدعوا ... صدور العوالي في صدور الكتائب "جابت": قطعت واخترقت، و"قسطل الحرب" يعني: غباره، والمعنى: إذا دارت المعارك فإن الأبطال الممدوحين يحطمون أطراف الرماح في صدور الأعداء.

فالجناس هنا بين "صدور العوالي" بمعنى أطراف الرماح، و"صدور الكتائب" بمعنى نحور جنود كتائب الأعداء. ومن الجناس التام المماثل قول الله تعالى: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ} (الروم: 55) فالجناس بين: {السَّاعَةُ} و {سَاعَةٍ} الأولى بمعنى يوم القيامة، والثانية بمعنى اللحظة الأخيرة من الزمن. ومن أمثلة الجناس الفعلي: يا إخوتي منذ بانت النُّجُب ... وجب الفؤاد وكان لا يجب يعني: من الوجيب، وهي الحركة الشديدة: فارقتكم وبقيتُ بعدَكم ... ما هكذا كان الذي يجب فالجناس بين "يجب" و"يجب" الأولى بمعنى يضطرب ويتحرَّى، والثانية بمعنى يلزم. وقال أحد الشعراء يذم مَن يتعاطى قول الشعر وليس هو بشاعر: والمعدمون من الإبداع قد كثروا ... وهم قليلون إن عُدوا وإن حصروا قوم لو أنهم ارتاضوا لَمَا قرضوا ... أو أنهم شعروا بالنقص ما شعروا فالجناس بين "شعروا" و"شعروا" الأولى بمعنى أحسوا، والثانية بمعنى لم يقولوا الشعر. يقول: لو أن هؤلاء علموا بنقصهم لما جرأ واحد منهم على أن يقول شعرًا. فهذا جناس من نوع واحد فِعلي كسابقه. والجناس التام الفعلي أمثلته نادرة وليس في القرآن مثال واحد منه، وإنما جاء فيه الجناس التام الاسمي -كما مر بك- في آية واحدة، وذكر السيوطي في (الإتقان): أن شيخ الإسلام ابن حجر استنبط موضعًا آخرَ منه في القرآن الكريم هو قول الله تعالى: {يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ * يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ} (النور: 43، 44) فـ"الأبصار" الأولى بمعنى البصر، والثانية بمعنى العقول؛ وعلى هذا، فالجناس بينهما تام مماثل.

أما التام المماثل الحرفي فلا يكاد يوجد، وكان من السهل صرف الفكر عنه، وإنما ذكرناه لتكون على بينة منه وجودًا أو عدمًا. وقد مثل مجيزوه بقولهم: قد يجود الكريم وقد يبخل الجواد، وقالوا: الجناس بين "قد" و"قد" الأولى مفيدة للتكثير، والثانية مفيدة للتقليل، فهما مختلفا المعنى مع اتحاد اللفظ، كما مثلوا له بقولهم: ما منهم من قائم، منهم الأولى بيانية والثانية زائدة، وإذا كان هذا منهجهم في التمثيل للجناس الحرفي فأحرَى أن يمثَّل له بقول الشاعر: قهرناكم حتى الكماة فأنتم ... تهابوننا حتى بنين الأصاغر فإن "حتى" و"حتى" مع اتحاد لفظيهما مختلفان في المعنى حيث مدخولهما، فالأولى تفيد التعظيم، والثانية تفيد التحقير. وهذا شاهد مأثور، فهو أولى من المصنوع. النوع الثاني من الجناس التام: المستوفى، وضابط هذا النوع هو أن يكون طرفاه مختلفين: اسم وفعل، أو اسم وحرف، أو فعل وحرف، وهذا النوع أكثر ورودًا من الجناس التام المماثل؛ لتسامحهم في بعض القيود التي اعتبروها في المماثِل، ولذلك كثرت أمثلته في كلام الأدباء، ومنه قول المعري: لو زارنا طيف ذات الخال أحيانًا ... ..................... الخال: هي النكتة أو الندبة التي تكون في خد الحسناء. لو زارنا طيف ذات الخال أحيانا ... ونحن في حُفر الأحداث أحيانا فالجناس بين "أحيانا" و"أحيانا" الأولى اسم وهي جمع حين، والثانية فعل، والمعنى: لو أن المحبوب زارنا ونحن أموات لبعث فينا الروحَ من جديد بزيارته. ومثله: وسميته يحيى ليحيا فلم يكن ... إلى رد أمر الله فيه سبيل

والمعنى: أن الشاعر سمى وليده يحيى؛ تفاؤلًا لكي يعيش، ولكنه أتاه أجله المحتوم، فبادره ولم تجدِ التسمية. والجناس -كما هو واضح- بين "يحيى" و"يحيا" الأولى اسم والثانية فعل. ومثله قول أبي تمام يمدح يحيى بن عبد الله البرمكي: ما مات مِن كَرم الزمان فإنه ... يحيا لدى يحيى بن عبد الله فـ"يحيى" الأولى فعل، والثانية اسم، وهذا يختلف عن سابقه من حيث تقدم الفعل فيه على الاسم. أما السابق فالاسم فيه مقدم على الفعل، ومثله قول أبي الفتح البستي: قيل للقلب ما دهاك أجبني ... قال لي بائع الفران فراني ناظراه فيما جنى ناظراه ... أو دعاني أمُت بما أودعاني في النص ثلاثة مواضع للجناس؛ الأول: بين "الفراني" و"فراني" وهو من الجناس التام المستوفي؛ لأن الأولى اسم، والثانية فعل. والثاني: بين "ناظراه" "وناظراه" وهو من الجناس التام المستوفي؛ لاختلاف طرفيه بين الفعلية والاسمية، وهو محل الشاهد؛ لأن ناظراه الأولى فعل أمر مسند إلى ألف الاثنين، ومعناه: جادلاه وساءلاه، وناظراه الثانية اسم بمعنى عيناه، يعني: أنه سحره بنظراته الآسرة. الثالث: فهو بين "دعاني" و"أودعاني" والمعنى: جادلاه وسائلاه فيما فعلتُ في عيناه، فإن لم تفعلَا فاتركاني أمت بما أودعتُ في عيناه. ومثال مقابلة الاسم بالحرف مع ندرة هذا النوع: ما رُوي عن النبي -صلى الله عليه وسلم: ((إنك لن تنفق نفقةً تبتغي بها وجهَ الله تعالى إلا أجرتَ بها، حتى ما تجعل في فِي امرأتك)) "في" الأولى حرف جر، والثانية اسم بمعنى الفَم. ومثاله في مقابلة الفعل بالحرف ما ذكروه من قولهم: علا زيد على جميع أهله، بمعنى: علت منزلته عليهم. ولا يخفَى عليك بعد أن الجناس التام المستوفي إنما هو فيما وقع بين الاسم والفعل أو الفعل والاسم، وعلى هذا نص ابن السبكي ملغيًا من الحساب كل جناس

كان الحرف طرفًا فيه، وقد وقفتَ أنت على حقيقة ذلك، إذ المعول عليه في هذه الفنون هو ما كان طريقه معروفًا عند الأدباء وكثر سَيْرهم فيه، أو قل مع مَلاحته، وكل ما ذكر للجناس الحرفي سوى الحديث المذكور: ((حتى ما تجعل في في امرأتك)) فإنه يحمل بين طياته أسباب رده. ثالث أنواع الجناس التام: ما يسمى بالجناس المركب، وضابطه: أن يكون مكونًا من طرفين أحدهما مركب إما من كلمتين مستقلتين، أو كلمة، أو جزء كلمة، أو جزئي كلمتين، أما الطرف الآخر فيكون مفردًا. ومما هو مشهور في ذلك قول أبي الفتح البستي: إذا ملِك لم يكن ذا هبة ... فدعه فدولتُه ذاهبة فالجناس بين "ذا هبة" و"ذاهبة" والطرف الأول مكون من كلمتين: "ذا" بمعنى صاحب، "وهبة" بمعنى منحة، والطرف الثاني هو كلمة واحدة "ذاهبة" اسم فاعل مؤنث. وهذا النوع منه ما يسمى بالملفوف، وهو ما تركب أحد ركنيه من كلمتين تامتين، كقول الشاعر -وقد سبق: ناظراه فيما جنى ناظراه ... أو دعاني -أي اتركاني- أمت بما أودعاني ومثله قول الشاعر: أسرع وسِرْ طالب العلم ... بكل واد وكل مَهْمَهْ يعني: مكان مقفر. وإن لحى عاذل جَهولٌ ... فقل له: يا عذول مَه مَه فالطرف الثاني "مه مَه" مسكون من كلمتين تامتين كما ترى. ومنه: ما يطلق عليه المرفوف، وهو ما كان طرفُه المركب مكونًا من كلمة وبعض أخرى، ومنه قول الحريري: ولا تلهَ عن تذكار ذنبك وابكه ... بدمع يحاكي الوبلَ حالَ مصابه

ومثِّل لعينيك الحمامَ ووقعه ... وروعة ملقاه ومطعم صابه فالركن الثاني مركب من ميم "مطعم" ومن كلمة "صابه" التي بعده، ولا عبرةَ بهاء ضمير الغائب المضاف إليه في الموضعين؛ لأن الجناس متحقق مع زوالهما، فلا تظن أن الطرف الأول مركب من كلمتين والثاني من كلمتين وبعض أخرى. والمعنى: تذكر ذنوبك وتندَّمْ على فعالها وانتحب؛ خوفًا من عقابها، واجعل الموتَ دائمًا بين ناظريك، وخوِّف نفسك لقاءَه، وطعمه المر. والجناس التام المركب يأتي على غير ما وجه، وهو إما أن يتشابه طرفاه لفظًا ومعنى، ويسمى متشابهًا. ومن أمثلته قول شمس الدين بن عبد الوهاب: طار قلبي يوم ساروا فَرَقًا ... وسواء فاض دمعي أو رقا يعني: سكن. حار في سقمي مَن بعدهم ... كل مَن في الحي داوَى أو رقى يعني: قرأ الرقية. بعدهم لا طل وادي المنحنى ... وكذا بان الحِمى لا أورقا فقد وقع في هذا النص ثلاثة ألفاظ بينها تجانس، وهي: "أو رقا" و"أورقى" وأورقا" الأولى بمعنى أو سكن، والثانية بمعنى أو قرأ رقيةً، والثالثة بمعنى أظهر ورقة. ومعنى النص: طار قلبي يوم تفرق أحبابي وظعنوا ولم يُجْدِ هطول دمعي، فبكائي وعدم بكائي سواء، وقد تحير الناس في سبب أسقامي، فهرعوا إلى علاجي، بعضهم طلب شفائي بإعطائي الأدوية، وآخرون كانوا يرقونني بالتلاوة والأبخرة، وقد أقفر الوادي بعد رحيلهم، ولم يعد له معنى عندي، فهم كانوا كل شيء فيه، كانوا ريَّه وزينته وبهجته، وبعدهم صار أجردَ قاحلًا. ولا يخفَى عليك أن هذا المثال من التام المركب الملفوف المتشابه، فهو تام لتوافر شروط

التمام فيه من حيث عدد الحروف وجنسها وترتيبها وهيئاتها، ومركب لأن أحد طرفي الجناس ليس مفردًا، وملفوف لأن طرفه المركب مكون من كلمتين تامتين، ومتشابه؛ لأنه قد تشابه في اللفظ والخط. ومنه قول الآخر: عضنا الدهر بنابه -يعني: بضرسه- ... ليت ما حل بنا به وإذا اختلف الطرفان خطًّا مع تشابههما لفظًا سمي مفروقًا، فعلى نحو ما يأتي التام المركب متشابهًا أو ملفوفًا، يأتي كذلك مفروقًا. ومن أمثلته قول الشاعر: تعْرِضْنَ لا على الرواة قصيدة ... ما لم تكن بالغتَ في تهذيبها فإذا عرضتَ الشعرَ غير مهذب ... عدوه منك وساوسا تهذي بها فالجناس بين "تهذيبها" و"تهذي بها" وهما متشابهان لفظًا، مختلفان خطًّا كما ترى. ومن صور التام المركب: ما يسمي بالجناس الملفق، وضابطه: أن يكون طرفاه مركبين من كلمتين أو كلمة وبعض كلمة، والفرق بينه وبين الجناس المركب: أن المركب حصل الترتيب فيه في ركن واحد، وهذا التركيب فيه في الركنين معًا، وهو إما موافق، وإما مفارق، فالملفق الموافق: هو ما توافق طرفاه خطًّا، مثل قول الشاعر: وليت الحكم خمسًا بعد خمس ... لعمري والصبا في العنفوان فلم تضع الأعادي قدر شاني "يعني: منزلتي" ... ولا قالوا فلان قد رشاني فالجناس بين "قدر شاني" و"قد رشاني" وكل من الطرفين مركب من كلمتين، الأول: مركب من قدر وشاني بمعنى منزلتي، فهو مركب من اسمين، والثاني: مركب من قد ورشاني بمعنى: دفع لي رشوة، فهو مركب من حرف قد، وفعل رشاني. وهكذا. أما الملفق المفارق: فهو ما اختلف طرفاه خطًّا، كقول الشاعر: خبروها بأنه ما تصدى ... لسلو عنها ولو مات صدى

فالطرف الأول مركب من "ما" وهو حرف نفي، ومن "تصدى" بمعنى تعرض، وهو فعل، والثاني مركب من "مات" وهو فعل، و"صدى" وهو اسم. والمعنى: أعلموها أني باقٍ على حبها ولم أتطلع إلى سواها، ولو مِت من هجرها لي. ومنه كذلك قول البستي: إلى حتفي سَعَى قدمي ... أرى قدمي أراقَ دمي فالجناس في الشطر الثاني من البيت طرفه الأول مركب من فعل واسم، ومثله الثاني. ولعلك تلحظ أن الطرفين فيه قد اتفقَا لفظًا مع اختلافهما خطًّا. وهذا الجناس أجمل من سابقه؛ لاتفاقه في اللفظ، وليس ذلك بشرط فيه، بدليل اشتراك السابق معه في التسمية. وقد ذكرنا أن الجناس التام مشروط فيه أربعة شروط، وهي: تجانس حروف طرفيه حيث الضبط، أو تساويهما في العدد، واتفاقهما في الترتيب، واتفاقهما في المخرج، فإن تخلف شرط من هذه الشروط خرجنا من الجناس التام إلى أنواع أخرى من الجناس غير التام، تختلف أسماؤها باختلاف الشرط المتخلف، فإن تخلف شرط اتفاقها في الضبط سُمي بالجناس المحرف، وإن اختل شرط اتفاقهما في عدد الحروف سمي بالناقص، وإن اختل شرط ترتيبها سمي بالجناس المقلوب، وإن كان الاختلاف في نوع الحروف من حيث تقارب المخارج وتباعدها، سمي بالمضارع أو اللحن. فما هو الجناس المحرف؟ الجناس المحرف: هو كل جناس اختلف فيه الطرفان من حيث ضبط حروفهما حركات وسكنات، وشرط المتخلفون هو الاتفاق في الضبط، وعلى هذا يمكن تصور الجناس المحرف في الاسم: بأنه ما اختلف ضبط الحروف فيه، ومع هذا يبقَى الجناس المحرف محتفظًا بتساوي عدد الحروف، واتفاق ترتيبها وتجانسها في الطرفين. ومن أمثلته قول أبي تمام:

هن الحمام فإن كسرتَ عيافة ... من حائهن فإنهن حِمام فالجناس بين "الحمام" بفتح الحاء و"حِمام" بكسرها، فالاختلاف هنا في هيئة الحركة فتح فكسر. ومثله قول الآخر: كيف لا أبغض الصباحَ وفيه ... بان عني ذوو الوجوه الصباح فالجناس بين "الصباح" بفتح الصاد المشددة، و"الصباح" بكسر الصاد المشددة، الأولى بمعنى وقت الصباح، والثانية بمعنى الوجوه المشرقة المضيئة، التي مفردها صبيح. "وبان عني" يعني: رحل وظعن، والاختلاف هنا في هيئة الحركة كذلك فتح فكسر. ومن الجناس المحرف قول المعري: والحُسن يظهر في شيئين رونقه ... بيت من الشعر أو بيتٍ من الشعر فالجناس بين "الشعر" بمعنى الكلام المنظوم، وبين "الشعر" والمراد به ما على الرأس، والأولى بسكون العين وكسر الشين المشددة، والثانية بفتح العين وفتح الشين المشددة. فالاختلاف هنا بين سكون وحركة وليس بين حركة وحركة، ومثله قولهم: "البدعة شَرك الشِّرك" بفتح الراء في الأولى وسكونها في الثانية، وبفتح الشين في الأولى وكسرها في الثانية، والمعنى مختلف كما تعلم، ومنه قول الشاعر: أم سيحدثني فقلت لصاحبي ... أمحدث أم مُحْدث مَن فيه فالجناس بين "محدِّث" بالتشديد بمعنى متكلم، و"مُحْدث" بتخفيف الدال المكسورة بمعنى أحدث. ومما ذُكِرَ في ذلك قول السكاكي: "الجاهل إما مفرط أو مفرِّط"، فالتشديد والتخفيف من قبيل اختلاف الضبط، ولا يفهم منه الزيادة والنقص في الحروف باعتبار أن الحرف المشدد حرفان والمخفف حرف واحد، فيكون الجناس ناقصًا -كما سيأتي- وليس محرفًا؛ لأن الحرف المشدد في حكم الحرف الواحد.

نخلص من هذا: أن الجناس المحرف منظور فيه إلى ضبط الحروف في الطرفين، فتارةً تختلف حركة حرف في طرف مع حركة حرف مناظر في الطرف الآخر، مثل حمام وحمام، والصباح والصباح، وتارةً يكون الاختلاف ناشئًا عن حركة وسكون، وثالثة يكون الاختلاف بالتشديد والتخفيف، فيكون الحرف المشدد فيكون الحرف مخففًا في طرف، ومشددًا في طرف آخر. ولا تنس أن حركة الأطراف لا اعتبار لها لخضوعها لعوامل الإعراب، فإن كان طرفَا الجناس ثلاثيين فالمعتبر حركة الحرفين الأولين دونما نظر لحركة الحرف الثالث، وهكذا فيما زاد على الثلاثة. والجناس الناقص -كما ألمحنا قبل ذلك- هو ما اجتمعت فيه ثلاثة شروط، هي: تجانس الحروف، واتفاق الضبط، واتفاق الترتيب، وتخلف فيه شرط واحد هو تساوي الحروف في العدد في الطرفين. وعلى هذا فالجناس الناقص: هو ما نقص أحدُ طرفيه عن الآخر في عدد الحروف. ولهذا النوع من الجناس أحوال وأضرب متعددة، ملخصها في الآتي: أن يقع الاختلاف في الطرفين بحرف واحد بأن يكون في أول الطرف الزائد، مثل قول الشاعر: وكم سبقت منه إلي عوارف ... ثنائي من تلك العوارف وارف وكم غُرَر من بِره ولطائف ... بشكري على تلك اللطائف طائف فـ"العوارف" يعني بها: المعروف، و"وارف": الممتد، و"الغرر": الصنائع الجميلة، والمعنى: له علي فضائل سابغة استحقت مني كل شكر وثناء. والجناس بين "عوارف" و"وارف" وبين "لطائف" و"طائف" وقد وقع الحرف الزائد في أول الطرف الذي به الزيادة العين في "عوارف" واللام في "لطائف". وقد يكون الحرف الزائد في وسط الطرف المزيد كقول الشاعر: كفانا إلكيم حدنا وحديدنا ... وكف متى تطلب الوتر تنقم

الجناس بين "حدنا" و"حديدنا" وحرف الزيادة هو الياء الواقع بين المِثلين، والمعتبر في الحرفين هنا "حد" و"حديد"، ولا تأثيرَ للضميرين المضافين إليه. وقد تكون الزيادة في آخر الطرف المزيد، كقول كعب بن زهير الشاعر المعروف: ولقد علمت وأنت غير حليمة ... ألا يقربني هوى لهوان فالجناس بين "هوى" و"هوان". ومنه قول البهاء زهير الشاعر المصري: أشكو وأشكر فعله ... فأعجب لشاك منه شاكر طرفي وطرف النجم فيك ... كلاهما ساهٍ وساهر فالجناس المراد هنا "شاك" و"شاكر"، و"ساه" و"ساهر". فالزيادة في هذه الأمثلة في آخر الطرف المزيد. ولكل من هذه الأضرب تسميات من الخير ألا نثقل بها. قد تقع الزيادة في هذه النوع في أكثر من حرف، أما في الأول مثل قولك وأنت تؤم المصلين: ضَعْ بصرك موضع سجودك، فالجناس بين "ضع" و"موضع". وكقول الشاعر: فلي طبْع كسلسال معِين ... زلال من ذرا الأحجار جار فالجناس بين "أحجار" و"جار". أو تقع الزيادة في الوسط، ومنه: بناء المساجد مجد خالد، فالجناس بين "مساجد" و"مجد". وقد تقع الزيادة في الآخر وهو كثير، ومنه قول الشاعر حسان بن ثابت الأنصاري: وكنا إذا يغزوا النبي قَبُولة ... نَصِل جانبيه بالقِنا والقنابل فالجناس بين "القنا" و"القنابل"، والزيادة في الحرف كما ترى. ومثله قول الخنساء: إن البكاء هو الشفاء ... من الجوى بين الجوانح وقد جنست بين "الجوى" و"الجوانح". مثله قول آخر يرثي ميتًا: فيا لك من حَزْم وعزم طواهما ... جديد الردى تحت الصفا والصفائح

جانس بين "الصفا" و"الصفائح". وأما الجناس المقلوب فضابطه: هو أن يختلف طرفاه في ترتيب حروفهما ويبقى محتفظًا بمقومات الجناس الأخرى التي هي اتفاق الحروف في النوع والضبط والعدد، وللجناس المقلوب قسمان هما: جناس قلب الكل، وجناس قلب البعض. فجناس قلب الكل ضابطه: أن تختلف حروفهما في الترتيب، بحيث يقع الحرف أولًا في طرف، وآخر في طرف آخر، وهكذا، وعلى ذلك جاء قول الشاعر: حُسامك منه للأحباب فتح ... ورمحك منه للأعداء حتف فالجناس بين "فتح" و"حتف"، وأنت ترى أن الفاء أول "فتح"، وآخر "حتف"، والحاء أول في "فتح"، وآخر في "فتح"، أما التاء فقد ظل محتفظًا بترتيبه في الطرفين. وقد تلاعب الشعراء بهذا النوع من الجناس، واتخذوه منهجًا للتظرف والاستملاح، وقصدوا إلى ذلك قصدًا، من ذلك ما حكاه الأستاذ علي الجندي في (فن الجناس) مما روي عن الصاحب بن عبَّاد حين زار الشيخ أبا العباس بن الحارث في يوم شديد الحر، وكان الصاحب يتبرد بمروحة من الخيش، فقال الصاحب للشيخ أبي العباس: "ما يقول الشيخ في قلبه". في العبارة تورية في قوله: "في قلبه"، إذ معناه القريب قلبه الذي في صدره، ومعناه البعيد قلب حروف شيخ؛ لأنها عند القلب تصبح خيشًا، فيكون السؤال عن رأي الشيخ في مروحة الخيش. وضابط قلب البعض: أن يكون التقديم والتأخير في بعض الحروف دون البعض الآخر، ومنه قوله -صلى الله عليه وسلم: ((اللهم استر عوراتنا وآمن روعاتنا)) فبعض الحروف وهي العين والراء هي التي قُدمت في طرف، وأخرت في الآخر، وبقية حروف الطرفين ظل محتفظًا بالترتيب فيهما، ومنه قولهم: رحم الله امرأً أمسك ما بين

فَكيه وأطلق ما بين كفيه، فالتقديم والتأخير اعترَى الفاء والكاف وحدهما، ومنه في الشعر قول عبد الله بن رَواحة يمدح الرسولَ -صلى الله عليه وسلم: تحمله الناقة الأدماء معتجرًا ... بالبَرد كالبدر جلا نوره الظلم والجناس بين "البرد" و"البدر" فالباء في الطرفين أول، والتغيير إنما وقع بين ترتيب الدال والراء. ومنه قول المتنبي: منعمة ممنعة رَداح ... يكلف لفظها الطير الوقوع والجناس بين "منعمة" و"ممنعة". وقد نص البديعيون على نوع ثالث من جناس القلب سموه بالمقلوب المستوي، وضابطه: أن يكون ترتيب الحروف في طرف عكس ما هو في الطرف الآخر، بحيث يمكن قراءة الكلمتين من الشمال إلى اليمين، كما تُقرأ من اليمين إلى الشمال، مثل قولهم: كَبَّر رجاءَ أجر ربك، فإنك لو أردتَ قراءة هذه الجملة من الشمال إلى اليمين، لأمكن لك ذلك، وذكروا له أمثلة أخرى، مثل: سور حَماه بربها محروس، وقولهم: سِرْ فلا كَبَا بك الفرس. ومن الشعر قول القاضي الأرجاني: مودته تدوم لكل هول ... وهل كل مودته تدوم فإنك تستطيع أن تقرأ هذا البيت مبتدئا بآخر حرف فيه، بحيث يصير أول كلمة "مودته" المصدَّر بها البيت، وهكذا حتى تحصل على البيت مرة أخرى بلفظه ومعناه دونما أدنى تغيير. ومثله قول الآخر: نال سِر العلا بما قد حواه ... أو حد قام بالعلا رسلان قد عارض شُراح (التلخيص) في عد هذا النوع من تجنيس القلب، وبنوا رفضهم على اعتبار أن تجنيس القلب يجب أن يذكر فيه المجانس له على هيئة من القلب، وأنه لا يُشترط فيه القلب على هذه الصورة، يعني: بحيث يمكن قراءته من

الوجهين دونما اختلاف. والحق مع شراح (التلخيص) بأن الجناس لا بد فيه من ذكر طرفيه على نحو ما تقدم. أما جناس المضارعة: فهو -كما ذكرنا آنفًا- منظور فيه إلى اختلاف نوع الحروف في الطرفين، مع بقاء بقية مقومات الجناس الأخرى التي هي الاتفاق في عدد الحروف، وضبطها، وترتيبها، فجناس المضارعة إذًا: هو أن تجمع بين طرفي جناس لا اختلافَ بينهما إلا في حرف واحد متحد في المخرج، أو متقارب مع نظيره في الطرف الآخر. ومن أمثلته قول الشريف الرضي: لا يذكر الرمل إلا حق مغترب ... له لدى الرمل أوطان وأوطار جانس بين "أوطان" و"أوطار" والراء والنون من مخرج واحد عند بعض اللغويين مع اختلاف يسير في الصفة. ومن أمثلة وقوعه في الوسط: قوله تعالى: {وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ} (الأنعام: 26) فالاختلاف بين الهاء والهمزة، وهما من مخرج متحد وهو الحلق. ومثال وقوعه في الآخر: الخيل معقود بنواصيها الخير. الجناس بين "الخيل" و"الخير" واللام والراء متحدَا المخرج مع اختلاف يسير في الصفة كذلك، وكقولك: قرأ فقرَع الأسماع، قد جانستَ بذلك بين "قرأ" و"قرع" والهمزة والعين حلقيتان. هذا واتحاد المخرج أو تقاربه ضروري في تسمية الجناس مضارعًا، فإن تباعد المخرجان قد أخرج هذا اللونَ إلى مسمى آخر أطلقوا عليه اللاحق، وقد مثَّلوا له بقوله تعالى: {وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ} (الهمزة: 1) لِبُعد مخرجي اللام والهاء، وقد وقع الاختلاف هنا في الأول. ومثلوا الوقوع في الوسيط بقوله تعالى: {وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ * وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ} (العاديات: 7، 8) إذ الاختلاف بين الدال والهاء، وهما وسط الحرفين، ومخرجاهما متباعدان.

بلاغة الجناس.

هذا، وهناك أنواع أخرى للجناس، منها ما أطلقوا عليه جناس التصحيف، وضابطه: أن يتماثل طرفاه خطًّا ويختلفَا نطقًا ونقطًا، ومثلوا له من القرآن بقول الله تعالى حكايةً عن إبراهيم -عليه السلام: {وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} (الشعراء: 79، 80) فالجناس بين {وَيَسْقِينِ} و {يَشْفِينِ} والطرفان فيه متماثلان في الخط، فلو أزلتَ النقط التي على حروفهما حدث بينهما تماثل تام، والاختلاف في النقط تابعاه اختلاف في النطق كما ترى. ومن ذلك: قوله -صلى الله عليه وسلم- لعلي بن أبي طالب: ((قَصِّر ثوبك، فإنه أتقى وأنقَى وأبقى)) ومنه دعاؤه -صلى الله عليه وسلم: ((اللهم إني أسألك الهدى والتقى، والعفاف والغنى)). وكذا ما يسمى بالجناس اللفظي أو جناس الاشتقاق، فهذه الصورة وإن اشتبهت بالجناس لفظًا فقد فارقته معنًى؛ لعدم التفاوت في معانيها، مثال ذلك: قول الله تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ} (الروم: 43) فأنت تلحظ اتفاقًا بين: {أَقِمْ} و {الْقَيِّمِ} وهذا الاتفاق جعل هذه السورةَ كأنها جناس، ولكن لما كان المعنى واحدًا للكلمتين زال معنى الجناس عنهما. بلاغة الجناس بقي أن نتحدث بإيجاز عن بلاغة الجناس؛ وذلك بعد أن وقفنا على مفهومه وعرفنا أنواعه المتعددة نقول: إن الجناس لا يُقبل ولا يعد حسنًا إلا إذا طلبه المعنى واستدعاه، وجاء عفوَ الخاطر، صادرًا عن طبع لا عن تكلف وتصنع. والجناس شأنه شأن فنون البديع الأخرى لا يُحمد فيه الإسراف، ولا يستحسن فيه الإكثار، ولذلك ذُم الاستكثار منه والولوع به، وذلك أن المعاني لا تدين في كل موضع لِمَا يجذبها التجنيس

إليه، إذ الألفاظ -كما قلنا- خدم للمعاني. ونستطيع أن نقول: إن بلاغة الجناس ترجع إلى الأمور الآتية؛ أولًا: التجاوب الموسيقي الصادر عن تماثل الكلمات تماثلًا كاملًا أو ناقصًا، تطرب له الأذن، وتهتز له أوتار القلوب، فتتجاوب في تعاطف مع أصداء أبنيتها، وهذا يؤكد بجلاء أهمية الجناس في خلق الموسيقى الداخلية في النص الأدبي، وبِناء على ما بين ألفاظه من وشائج التنغيم. الأمر الثاني: ما يحدثه الجناس من مَيْل إلى الإصغاء؛ لِمَا فيه من مناسبة الألفاظ، وما يحدثه كذلك من قَصْدٍ إلى تشوف السامع، وتشوقه إلى معرفة أحد معنيي اللفظ؛ لأن لفظ المشترك إذا حمِل على معنًى ثم جاء والمراد به معنى آخر، كان للنفس تشوف إليه. وقد نبه الإمام عبد القاهر إلى فائدة ثالثة: هي أن في التجنيس خداعًا عن الفائدة مع إعطائه إياها، وإيهام النقص، وقد أحسن الزيادة ووفاها. وهذه الزيادة التي نبه إليها الإمام عبد القاهر لا تظهر ظهورًا قويًّا إلا في التجنيس المستوفى المتفق الصورة منه، كقول أبي تمام يمدح أبا الغريب يحيى بن عبد الله: ما مات من كرم الزمان فإنه ... يحيا لدى يحيى بن عبد الله وتحقيق هذه الفوائد يجعل لأسلوب الجناس مدخلًا في بلاغة الأساليب، إذ إن هذه الفوائد مما تتعلق بها مقاصد البلغاء والمتكلمين وأهدافهم، ويقصدون إليها قصدًا من وراء الأساليب المختلفة للجناس وصوره. وإذا كان لهذا اللون مدخل في بلاغة الأساليب، فإنه بذلك يُعد في صميم البلاغة وداخل في جوهرها، وليس القصد إليه قصدًا إلى الزنة والزخرفة فحسب، بل إن التزيين به مما يكسب الكلام جمالًا وبَهاءً وحسنًا دون أن يخل ذلك ببلاغته، بل إن كثرة صوره وتعدد أساليبه في القرآن، يعد دليلًا على علو شأنه ورِفعة مكانته بين ألوان الجمال الأدبي. كما أن البحث في أي أسلوب من أساليب الجناس القرآنية، مما يؤكد

مدخل هذا اللون في إعجاز القرآن الكريم. فإذا وقعتَ على سر عظمته في قوله تعالى: {ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} (التوبة: 127) أو قوله: {يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ} (النور: 37) وغيرهما كثير، لأدركتَ أن هذا اللون لا يقف عند حد التزيين والاهتمام بجانب اللفظ، بل إنه يتعدى ذلك إلى البلاغة نفسها والدخول في صميمها بما له من قوة الأخذ والتأثير، وبما يحقق من أغراض ومقاصد، وبما له من مدخل في الإعجاز القرآني. أضِفْ إلى هذا أن الجناس يُعد من قبيل تداعي الألفاظ، وتداعي المعاني في علم النفس، وله أصله في الدراسات النفسية، فهناك ألفاظ متفقة كل الاتفاق أو بعضه في الجَرْس، وهناك ألفاظ متقاربة أو متشابكة في المعنى، حيث تُذكر الكلمة بأختها في الجرس وأختها في المعنى ... إلى غير ذلك مما أفضنا القول فيه. وآمل أن أكون قد وفقت في تبسيط ضوابطهما وقواعدهما سألًا المولى -عز وجل- أن يجعل هذا العمل خالصًا لوجه الكريم، ولا يجعل لأحد فيه شيئًا، إنه ولي ذلك والقادر عليه. وأخيرًا ... أستودعكم الله دينكم وأماناتكم وخواتيم أعمالكم. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

§1/1