البرهان في وجوه البيان

ابن وهب الكاتب

البرهان في وجوه البيان تأليف/ أبي الحسين إسحاق بن إبراهيم بن سليمان بن وهب الكاتب تحقيق/ حفني محمد شريف مكتبة الشباب

مقدمة المؤلف

بسم الله الرحمن الرحيم رب يسر برحمتك إن أولى ما افتتح به اللبيب كتابه، وابتدأ به الأديب خطابه، ما افتتح الله عز وجل به القرآن، وجعله آخر دعوى أهل الإيمان، والحمد لله شكراً، واعترافاً بمنته، وصلى الله على محمد وعترته، والأوصياء من ذريته. أما بعد فإنك كنت ذكرت لي وقوفك على كتاب الجاحظ الذي سماه كتاب البيان والتبيين، وإنك وجدته إنما ذكر فيه أخباراً منتخلة وخطباً منتخبة، ولم يأت فيه وظائف البيان، ولا أتى على أقسامه في هذا اللسان، فكان عند ما وقفت عليه، غير مستحق لهذا الاسم الذي نسب إليه، وسألتني أن أذكر جملاً من أقسام البيان آتية على أكثر أصوله، محبطة بجماهير فصوله، يعرف بها المبتدى معانيه، ويستغنى بهذا الناظر فيه، وأن أختصر ذلك لئلا يطول به الكتاب، فقد قيل: إن الإطالة، أكثر أسباب الملالة، فتثاقلت عن إجابتك إلى ما سألت لما

حذرت منه الحكماء، ونهت عنه العلماء، من التعرض لوضع الكتب، إذ كانت نتائج اللب، وكان المتجاسر على تأليفها إنما يبدي صفحة عقله، ويبين عن مقدار علمه أو جهله، ثم رأيت حق الصديق عند العلماء فوق حق الشقيق، ووجدتهم يجعلون الإخوان من عدد الزمان، فقال سيدنا - عليه السلام - المرء كثير بأخيه، وسئل بعضهم، قيل له: أيما أحب إليك أخوك أم صديقك؟ قال: إنما أحب أخي إذا كان صديقاً. وقال بعضهم: الإخاء الصادق أقرب من النسب الشابك. وقال بعض الفلاسفة: الأصدقاء نفس واحدة في أجساد متفرقة، وقال مولانا - عليه السلام -: ثلاثة لا يعرفون إلا في ثلاثة مواطن: لا يعرف الشجاع إلا عند الحرب، ولا يعرف الحليم إلا عند الغضب، ولا يعرف الصديق إلا عند الحاجة إليه، فلما تذكرت ذلك وتدبرته، تحملت لك تأليف ما أحببته ورسمته، على علم مني بأن كتابي لابد أن يقع في يد أحد رجلين: إما عاقل يعلم أن الصواب قدصي، والحق إرادتي، وأن نية الرجل أولى به من عمله فيتغمد سهواً إن وقع من، ويغتفر زللا صدر عني، ويعود بفضل حلمه على زللي، ويصلح بعلمه خطئي، فقد وجب ذلك عليه لي، لاعترافي قبل اقترافي، وإقراري بالتقصير الذي ركب في جبلة مثلي، وإما جاهر أحب الأشياء إليه عيب ذوي الأدب، والتسرع إلى تهجينهم، وذكر مساوئهم، وذلك لمنافرته إياهم، وبعد شكله من أشكالهم، ومن أراد عيباً وجده، ومن فحص عن عثرة لم

يعدمها، وكان يقال: من حسد إنساناً اغتابه، ومن قصر عن شيء عابه، ولذلك قيل: من جهل شيئاً عاداه، وقال مولانا عليه السلام: عداوة الجاهل للعلم على قدر انتفاعه به، قال الشاعر. (وأطوع ما علِمت بظهر غيْب ... إلى ذكر العيوب ذَوُو العيوب) فمن كانت هذه حاله كان اللبيب حقيقاً بترك الحفل به، وترك الاكتراث له. وقد ذكرت في كتابي هذا جملاً من أقسام البيان، وفقرا من آداب حكماء أهل هذا اللسان؛ لم نسق المتقدمين إليها، ولكني شرحت في بعض قولي ما أجملوه، واختصرت في بعض ذلك ما أطالوه، وأوضحت في كثير منه ما أوعروه، وجمعت في مواضع منه ما فرقوه، ليخف بالاختصار حفظه، ويقرب بالجمع والإيضاح فهمه. وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت وإليه أنيب. وأما بعد: فإن الله عز وجل خلق الإنسان وفضله على سائر الحيوان، ونطق بذلك القرآن فقال عز من قائل: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلا} وإنما فضله على سائر جنسه بالعقل الذي به فرق بين الخير

والشر، والنفع والضر، وأدرك به علم ما غاب عنه وبعد منه. والدليل على أن الله - عز وجل - إنما فضل الإنسان بالعقل دون غيره أنه لم يخاطب إلا من صح عقله، واعتدل تمييزه، ولا جعل الثواب والعقاب إلا لهم، ووضع التكليف عن غيرهم من الأطفال الذين لم يكمل تمييزهم والمجانين الفاقدين لعقولهم والعقل حجة الله سبحانه على خلقه، والدليل لهم إلى معرفته، والسبيل إلى نبل رحمته، وقد أتت الرواية بأن الله عز وجل لما خلق العقل استنطقه ثم قال له: أقبل فأقبل، ثم قال له: أدبر فأدبر فقال: وعزتي وجلالي ما خلقت خلقاً هو أحب إلي منك، ولا أكملتك إلا فيمن أحب؛ أما إني إياك آمر، وإياك أنهى، وإياك أعاقب وأثيب، وبك آخذ وبك أعطي. وروي عن أبي عبد الله عليه السلام أنه قال لهشام: يا هشام إن لله سبحانه حجتين: حجة ظاهرة، وحجة باطنة، فأما الظاهرة فالرسل، وأما الباطنة بالعقل؛ وعنه عليه السلام أنه قال "حجة الله على العباد النبي، والحجة فيما بين العباد وبين الله العقل. ولولا العقل الذي بان به ذو التمييز من ذي الجهل لما كان بين الإنسان وبين سائر الحيوان فرق في تولد ولا نمو، ولا حركة ولا هدو، ولاأكل ولا شرب، لأن سائر البهائم شركاؤه في ذلك، فبالعقل إذاً تنال الفضيلة وهو عند الله جل وعز أقرب وسيلة.

[والعقل] ينقسم قسمين: موهوب ومكسوب، فالموهوب ما جعله الله في جبلة خلقه، وهو الذي ذكره في كتابه حيث يقول: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} وقد فضل الله - عز وجل - في هذه الموهبة بعض خلقه على بعض على مقدار علمه فيهم، كما فضل بعضهم على بعض في سائر أخلاقهم وأفعالهم، وقال: {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} وإنما فعل الله ذلك للمصلحة لهم، ونحن نبين وجه الصلاح في ذلك فيما يستأنف من كتابنا هذا إذا صرنا إليه. والمكسوب ما أفاده الإنسان بالتجربة والعمر، والأدب والنظر، وهو الذي ندب الله - عز وجل - إليه فقال: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} وجعل من أعطاه العقل الغريزي فأهمله، وترك شحذه بالأدب والتفكير والتمييز والتدبر، كالأنعام، وعرفنا أن مصيرهم [عز من قائل] فقال: {وَلَقَدْ ذَرَانَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا

مِنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ}، إلا أن العقل الموهوب أصل والمكسوب فرع، والأشياء بأصولها، فإذا صح الأصل صح الفرع، وإذا فسد فسد، وقد شبه بعض القدماء العقل الغريزي بالبدن، وشبه المكتسب بالغذاء، فكما أن الغذاء لا يستحيل إلا بالأبدان المحيلة له، ولا ينفع إلا بحصوله فيها، فكذلك العقل المستفاد بالأدب لا يتم إلا بالعقل الغريزي، فكما أن البدن إذا عدم الغذاء لم يكن له بقاء، فكذلك العقل الغريزي إذا عدم الأدب، فإذا صح العقل الموهوب كان بمنزلة البدن الصحيح الذي يستمرئ الغذاء، وينتفع به، وإذا فسد كان بمنزلة البدن المريض الذي لا يشتهي الغذاء، وإن حمل إليه منه ما لا يدعوه طبعه إليه كان زائداً في مرضه، واستحال الداء الذي هو غالب، ولذلك، قيل: إن الأدب يذهب عن العقل السكر ويزيد الأحمق سكراً، وقال الله عز وجل: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُوْلَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} فأحمد الناس (عند الله عز وجل) وعند الحكماء أصحهم عقلاً، وأكثرهم علماً وأدباً، وقد قال الله عز وجل: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ}. وقال: {هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ

يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} وقال: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} وأخبر بعاقبة من أهمل نفسه وضيع عقله {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} فمن لم يتفكر قلبه، وينظر بعقله لم ينتفع بهذا الجوهر الشريف الذي وهبه الله عز وجل له، وإلى التفكر ندب الله عباده، وبالاعتبار أمرهم فقال {أَوَلَمْ يَنظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} وقال: {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ} وقال: {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ} وقال: {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ} وقال: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} وروي: فكرة ساعة خبر من عبادة سنة، وروي عن الصادق - عليه السلام - في كلام له: ولكل شيء دليل، ودليل العقل الفكر، ودليل الفكر الصمت؛ [فبالفكر] والاعتبار، يتقي الزلل والعثار، وبالتجارب تعرف العواقب، وتدفع النوائب؛ فإذا تفكر الإنسان وقدر ونظر واعتبر وقاس ما يدله عليه فكره بما جربه هو ومن قبله تبين له ما يريد أن يتبينه، وظهر له معناه وحقيقته" وقد ذكر الله - عز وجل - البيان فمدحه، وامتدح بأنه علمه عباده

فقال: {الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الإِنسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ}، وجعل كتابه تبياناً لكل شيء [وجعله قرآناً]، وجعل رسله مبينين لخلصه فقال: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} وقال: {الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ} وقال: {أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ}. ذكر وجوه البيان البيان على أربعة أوجه. فمنه بيان الأشياء بذواتها، وإن لم تبن بلغاتها؛ ومنه البيان الذي يحصل في القلب عند إعمال الفكر واللب، ومنه البيان باللسان [ومنه البيان بالكتاب] الذي يبلغ من بعد وغاب. فالأشياء تتبين للناظر المتوسط، والعاقل المتبين بذواتها، وبعجيب تركيب الله فيها، وآثار صنعته في ظاهرها، كما قال تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ}، وقال: {وَلَقَد تَرَكْنَا مِنْهَا آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}، ولذلك قال بعضهم: قل للأرض من شق أنهارك، وغرس أشجارك، وجنى ثمارك، فإن أجابتك حواراً، وإلا أجابتك اعتباراً، فهي وإن كانت صامتة في أنفسها، فهي ناطقة بظواهر أحوالها، وعلى هذا النحو استنطقت العرب الربع، وخاطبت الطلل، ونطقت عنه بالجواب، على سبيل الاستعارة في الخطاب؛ وقال الله عز وجل في هذا المعنى:

{أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} وقال الشاعر: (يا ربع بسرة بالجناب تكلم ... وأبن لنا خبرا ولا تستعجم) (مالى رأيتك بعد أهلك موحشا ... خلقا كحوض الباقر المهدم) فاستنطق ما لا ينطق بلسانه [لأنه أحواله مظهرة لبيانه]، وقال آخر فأجاب عن صامت غير مجيب لما ظهر من حاله للقلوب: (فأجهشت للتوباد حين رأيته ... وهلل للرحمن حين رآني) فقلت له: (أين الذين عهدتهم ... حواليك في عيش وخير زمان؟ ! ) فقال: (مضوا واستودعوني ديارهم ... ومن ذا الذي يبقى على الحدثان). وإنما تعتبر هذه الأشياء لمن اعتبر بها، وتتبين لمن طلب البيان منها، ولذلك جعل الله عز وجل الآية فيها لمن توسم وتفكر، وعقل وتذكر، فقال: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ}، {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ}

و {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} فهذا وجه بيان الأشياء بذواتها لمن اعتبرها وطلب البيان منها، فإذا حصل هذا البيان للمتفكر صارعا لما بمعاني الأشياء، وكان ما يعتقد من ذلك بياناً ثانياً غير ذلك البيان، وخص باسم الاعتقاد، ولما كان ما يعتقده الإنسان من هذا البيان، ويحصل في نفسه منه غير متعد له إلى غيره وكان الله - عز وجل - قد أراد أن يتمم منه فضيلة الإنسان خلق له اللسان، وأنطقه بالبيان، فخبر به عما في نفسه من الحكمة التي أفادها، والمعرفة التي اكتسبها، فصار ذلك بياناً ثالثاً أوضح مما تقدمه، وأعم نفعاً لأن الإنسان يشترك فيه مع غيره، والذي قبله إنما ينفرد به وحده، إلا أن البيانين الأولين بالطبع، فهما لا يتغيران وهذا البيان والبيان الآتي بعده بالوضع فهما يتغيران بتغير اللغات، ويتباينان بتباين الاصطلاحات. ألا ترى أن الشمس واحدة في ذاتها، وكذلك هي في اعتقاد العربي والعجمي، فإذا صرت إلى اسمها وجدته في كل لسان من الألسن بخلاف ما هو في غيره، وكذلك الكتاب، فإن الصور والحروف تتغير فيه بتغير لغات أصحابه، وإن كانت الأشياء غير متغيرة بتغير الألسن المترجمة عنها. ولشرف البيان وفضيلة اللسان قال أمير المؤمنين - عليه السلام-: المرء مخبوء تحت لسانه [فإذا تكلم ظهر] وهذا من أشرف الكلام وأحسنه، وأكثره معنى وأخصره، لأنك لا تعرف الرجل حق معرفته إلا إذا خاطبته وسمعت منطقه، ولذلك قال بعضهم. وقد سئل في كم تعرف الرجل؟ قال: إن سكت ففي يوم، وإن نطق ففي ساعة. وقال بعض الحكماء: إن

الله سبحانه أعلى درجة اللسان على سائر الجوارج فأنطقه بتوحيده، وقال الشاعر: (وهذا اللسان بريد الفؤاد ... يدل الرجال على عقله) وقال آخر: (وكائن ترى من معجب لك صامت ... زيادته أو نقصه في التكلم) فاللسان ترجمان اللب، وبريد القلب، والمبين عن الاعتقاد بالصحة أو الفساد، كما قال الشاعر: (إن الكلام لفي الفؤاد وإنما ... جعل اللسان على الفؤاد دليلا) وفيه الجمال، كما قال الله عز وجل: {وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ} وكما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد سأله العباس فقال: فيم الجمال يا رسول الله؟ فقال: في اللسان، إلا أنه لما كان النقض للناس شاملاً، والجهل في أكثرهم فاشياً، وكان كثير منهم يسرع إلى القول في غير موضعه، ويعجب بما ليس بمعجب من منطقه، احتاطت العلماء على الدهماء بأن أمورهم بالصمت، ومدحوه عندهم، وأعلموهم بأن الخطأ في السكوت أيسر من الخطأ في القول، وقالوا: عثرة اللسان لا تستقال. وقال الشاعر: (وجر اللسان كجرح اليد)

وقال آخر: (يموت الفتى من عثرة بلسانه ... وليس يموت المرء من عثرة الرجل) وعرفوهم أن الفائدة في الصمت لصاحبه، والفائدة في النطق لغيره، وقال بعضهم وقد سئل عن لزومه للصمت فقال: أسكت لأسلم، وأنصت لأعلم، وقيل: الصمت حكمة وقليل فاعله، وقال أمير المؤمنين - عليه السلام-: من كثر كلامه كثر سقطه، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - وهل يكب الناس على مناخرهم في نار جهنم إلا حصائد ألسنتهم؟ ! وقال بعض الفلاسفة لرجل سمعه يكثر الكلام: أيا هذا أتصف أذنيك هم لسانك، فإنما جعل لك أذنان ولسان واحد لتسمع أكثر مما تتكلم، وقال الشاعر. (وفي الصمت ستر للغبي، وإنما ... صحيفة أب المرء أن يتكلما) وكل هذا إنما أرادوا به حجز اللسان عن الكلام فيما لا يعلمون، والتسرع إلى إطلاق ما لا يحصلون، وكما أن الصمت في أوقاته، وعند الاستغناء عنه حسن، فإن الكلام في أوقاته وعند الحاجة إليه أحسن، وقد روى عن مولانا على بن الحسين - عليه السلام - قول، انتظم معنى ما أرادته

العلماء في النطق بأخصر قول وأشبه بكلام أمثاله - عليه السلام - فقال: السكوت عمالا لا يعنيك أمثل من الكلام فيه، والكلام فيما يعنيك خير من السكوت [عنه]، وحسب الأديب أن يستشعر هذا القول، فإنه يهجم به على محاسن الأمرين إن شاء الله، وقد يصمت الإنسان ويستعمل الكتمان لمخافة، أو رقبة أو بإسرار عداوة، أو بغضة، فيظهر في لحظاته وحركاته ما يبين عن ضميره، ويبدى مكنونه مثل ما يظهر الدمع عند فقد الأحبة، ومن تغير النظر عند معاينة أهل العداوة، ولذلك قال الشاعر: (إذا لقيناهم نمت عيونهم ... والعين تظهر ما في القلب أو تصف) وقال آخر: (إذا ما حضرنا والرقيب بمجلس ... ترانا سكوتا والهوى يتكلم) وهذا من بيان الأشياء بذواتها، وهو من الباب الأول ثم إن الله - عز وجل - لما علم أن بيان الأشياء مقصور على الشاهد دون الغائب، وعلى الحاضر دون الغابر، وأراد تعالى أن يعم بالنفع في البيان جميع أصناف العباد، وسائر آفاق البلاد، وأن يساوي فيه بين الماضين من خلقه والآتين، والأولين والآخرين؛ ألهم عبادة تصوير كلامهم بحروف اصطلحوا عليها، فخلدوا بذلك علومهم لمن بعدهم، وعبروا به عن ألفاظهم، ونالوا ما بعد عنهم، وكملت بذلك نعمة الله عليهم

وبلغوا الغاية التي قصدها عز وجل في إفهامهم، وإيجاب الحجة عليهم، ولولا الكتاب الذي قيد على الناس أخبار الماضين لم تجب حجة الأنبياء على من أتى بعدهم، ولا كان النقل يصح عنهم، ولذلك صارت الأمم التي ليس لها كتاب قليلة العلوم والآداب، وقد امتدح الله - عز وجل - تعلم الكتاب في كتابه، [ومن احتجاجه على الناس به] وبين احتجاجه على الناس به، فقال: {اقْرَا بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ* خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ*اقْرَا وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ* الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ* عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} وقال: {أَوَلَمْ تَاتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الأُولَى} وقال: {اِئْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}. وكل هذه الأقسام التي ذكرناها من البيان لا تخلو من أن تكون ظاهرة جلية، أو باطنة خفية، وذلك لما دبره الله - عز وجل - في هذا من الحكمة والدلالة، لأنه جعل بعض خلائقه محتاجاً إلى البعض، فالظاهر محتاج إلى الباطن، لأنه معنى له، والباطن محتاج إلى الظاهر لأنه دليل عليه، فكذلك سائر مصنوعات الله - عز وجل - محتاج بعضها إلى بعض ليعلم الإنسان أنه ليس يستغنى شيء بنفسه، ويقوم بذاته غير الله -عز وجل-، وكل ما سواه فإنما هو بغيره، ولو جعل الله - تبارك وتعالى - الأشياء كلها ظاهرة لتساوي الناس في العلم، ولم يتفاضلوا فيه، وفي تساوى الناس - حتى لا يكون فيهم [رؤساء] متبعون، وأتباع مطيعون - بوارهم؛ وقد قيل: لا يزال الناس بخير ما تباينوا فإذا تساووا هلكوا

وعلى ما قلناه دبّرهم - سبحانه -، فقال في كتابه: {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ} إلى آخر الآيات، فجعل علم آدم بما أظهره له وأخفاه عن ملائكته دليلاً على فضله ورياسته، وأنه المستحق من بينهم ما أفضى به إليه من خلافته، لأن من حكمه ألا يسوي بين العالم وغيره، ولو سوى بين الملائكة وبينه في علم ما علمه إياه لم يكن هناك تفاضل يوجب له المنزلة التي جعلها له، ولو جعل - تقدست أسماؤه - الأسماء كلها خفية لم يكن إلى علم شيء سبيل، ولتساوى الناس في الجهل [لكنه] بحكمته ومتقن صنعه جعل بعضها ظاهراً مستغنياً بظهره عن طلبه، وبعضها باطناً يحتاج إلى إظهاره والفحص عنه، وجعل الظاهر دليلاً على الباطن وسلماً إليه، ولم يقنع من عباده بعلم الظاهر من الأشياء التي يعرفوا معانيه، وباطن تأويله، وذم من اقتصر على علم ظاهر الأمور دون بواطنها، وفي العلم عنهم فقال: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ * يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} وشبه من حمل التوراة حمل حفظ لظاهرها من غير تدبر لمعانيها بالحمار، فقال: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا} وقال في ذم قوم: {بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَاتِهِمْ تَاوِيلُهُ} وقال: {وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَاوِيلِ الأَحَادِيثِ} وقال الرسول - صلى الله عليه وسلم - "نية المؤمن خير من عمله" والنية باطنة، والعمل ظاهر، ولذلك لم يقنع بعلم الباطن،

والعمل به دون الظاهر فقال: (إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن) وأعلمنا أن بالظاهر تقوم الحجة فقال: {قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي الأَرْضِ أَمْ بِظَاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ}، وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "الإيمان عقد بالقلب، وقول باللسان وعمل بالأركان"، وقال "ليس الدين بالتجلي ولا بتمني ولكنه ما وقر في النفوس، وصدقته الأعمال" وذلك لأن النية مغيبة عنا، وليس يعلمها إلا الله - عز وجل - وصاحبها، وإنما يستدل عليها بالقول والعمل، ألا ترى أن الإنسان إنما تعرف حكمته الباطنة بما يظهر لنا من صحة قوله وإتقان عمله، وبين في العقل أنه لما كان الظاهر سبباً إلى الباطن، وعلة لنيله والوصول إليه وجب أن يكون معلقاً به، وغير منفصل عنه، وأن يكون ما يدرك من فضيلة العلم منسوباً إليهما لاشتراكهما في إيضاحه، فإن لعلة بالمعلول تدرك، والمعلول بالعلة يوجد، وأن لا يكون الأمر كما ظن قوم أرذلوا علم الظاهر وتركوا العمل به، وهم مع ذلك مقرون بأنه لا يصلون إلى علم الباطن، والإيضاح عن حقيقته إلا به، فجعلوا ما لا تدرك الحاجة إلا به غير محتاج إليه، وهذا هو المحال البين، ولو كان الأمر كما ظنوا لبطلت حقوق الناس، وتعطلت تجاراتهم، وفسدت معاملاتهم، وسقطت أخبارهم، لأنهم إنما يعملون في جميع ذلك على الظاهر دون الباطن، ووضوح هذا يغني عن الإطالة فيه.

باب البيان الأول وهو الاعتبار

باب البيان الأول وهو الاعتبار قد قلنا: إن الأشياء تبين بذواتها لمن تبين، وتعبر بمعانيها لمن اعتبر، وإن بعض بيانها ظاهر، وبعضه باطن، ونحن نذكر ذلك ونشرحه فنقول: إن الظاهر من ذلك ما أدرك بالحس كتبيننا حرارة النار، وبرودة الثلج على الملاقاة لهما، أو ما أدرك بنظره العقل التي تتساوى العقول فيها مثل تبيننا أن الزوج خلاف الفرد، وأن الكل أكثر من الجزء والباطن ما غاب عن الحس، واختلفت العقول في إ ثباته، فالظاهر مستغن بظهوره عن الاستدلال عليه والاجتماع عليه لأنه لا خلاف له، والباطن هو المحتاج إلى أن يستدل عليه بضروب الاستدلال، ويعتبر بوجوه المقاييس والأشكال. والطريق إلى علم باطن الأشياء في ذواتها والوقوف على أحكامها ومعانيها من جهتين هما: القياس، والخبر، وحجتنا في القياس (أن الله - عز وجل - قال: {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ} وذلك الأمثال التي جاءت في كتابه كمثل كذا وكذا في مواضع كثيرة، وذلك كله تشبيه وقياس. وأيضاً فقد قاس) في كتابه فقال لمن حرم وحلل وهو جاحد للرسل الذي يأتون بالتحليل والتحريم: {أَمْ كُنتُمْ

شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَذَا} وقال: {قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ} فلما لم يمكنهم أن يدعوا أن الله سبحانه شافههم بذلك، وكان في قولهم واعتقادهم إبطال الرسل الذين يؤدون عن الله - عز وجل - أمره، تبين لهم أن الذي شرعوه لأنفسهم ضلال وبهتان من غير حجة ولا سلطان، فقال لهم بعد أن تبين ذلك لهم: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} ومن الحديث ما حدثه زبيد، الأيامي يرفعه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "كل قوم على بينة من أمرهم ومفلحة عند أنفسهم يردون على من سواهم" والحق في ذلك يعرف بالمقايسة عند ذوي الألباب وأما الخبر فحجتنا فيه من الكتاب قول الله عز وجل: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ}، {فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ} ولم يكن ليأمر بمسألتهم إذا لم يعلم، إلا وأخبارهم تفيدنا علماً وتزيل عنا شكاً. ومن الأثر قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم: "نضّر الله امرءاً سمع مقالتي فوعاها فأداها" وقوله: "ليبلغ الشاهد منكم الغائب"، ولم يأمر بذلك إلا وإبلاغ الشاهد الغائب يوجب الحجة، واستماع الغائب من الشاهد يكسب علماً وفائدة.

ذكر القياس والقياس في اللغة التمثيل، والتشبيه، وهما يقعان بين الأشياء في بعض معانيها لا في سائرها، لأنه ليس يجوز أن يشبه شيء شيئاً في جميع صفاته فيكون غ يره، والتشبيه في الأشياء لا يخلو من أن يكون تشبيهاً في حد أو وصف، أو اسم، فالشبه في الحد هو الذي يحكم لشبهه بمثل حكمه إذا وجد فيه فيكون ذلك قياساً صادقاً وبرهاناً واضحاً، والشبه في الوصف هو الذي يحكم لشبهه به فيكون في بعض الأشياء صادقاً، وفي بعضها يكون كاذباً. والشبه في الاسم غير محكوم فيه بشيء إلا أن يكون الاسم مشتقاً من وصف؛ ونحن نمثل ذلك فنقول: إن حلول الحركة في المتحرك لما كانت حداً له، وجب أن يكون كل ما حلت فيه الحركة متحركاً، وهذا حق لا نطعن فيه. فأما السواد الذي هو من أوصاف الحبشي فليس حيث وجدناه حكمنا لحامله بأنه حبشي، ومتى قلنا ذلك كنا مبطلين، ولكنا إذا قلنا: إن بعض من يوصف بالسواد حبشي صدقنا، وأما زيد الذي هو من الأسماء فليس بموجب أن يكون بينه وبين غيره ممن اتفق هذا الاسم له مماثلة ولا مشابهة إلا أن يكون الاسم مشتقاً من وصف فيلحق الوصف ما شاركه من ذلك الاشتقاق ما يلحقه، مثل الأبيض الذي يسمى به كل (ما كان البياض فيه) لأنه مشتق منه. والاشتباه في الأسماء لا يوافق بين معانيها إذا اختلفت ذواتها، فإن الهوى الواقع على هوى

النفس مخالف للهواء الذي بين السماء والأرض وإن اتفقنا في الاسم، وكذلك اختلاف الأسماء إذا اتفقت المعاني لا يوجب اختلافاً في المعاني كالنأي والبعد، وكلاهما واقع على معنى واحد، فمن أراد أن يحكم الأمر في القياس فليصحح الكلام، ويتفقد أمر الحد والوصف ويتأمل ذلك تأملاً شافياً حتى لا يجعل الوصف الذي يوجب الحكم الجزئي في موضع الحد الذي يوجب الحكم الكلي، وأن يتثبت في القضاء ولا يعجل في الحكم فإن العجل موكل به الزلل، وقد قالت القدماء: إن أحد أسباب الخطأ في القضية، قصر مدة الروية، وأكثر من غلط في القياس إنما غلط في سوء التمثيل، ومسامحة النفس في ترك التحصيل، والمبادرة في الحكم بغير روية ولا فكر. وليس يجب القياس إلا عن قول يتقدم فيكون القياس نتيجة كقولنا: إذا كان الحي حساساً متحركاً فالإنسان حي، وربما كان ذلك في اللسان العربي مقدمة أو مقدمتين، أو أكثر على [قدر] ما يتجه من إفهام المخاطب. فأما أصحاب المنطق فيقولون: إنه لا يجب قياس إلا عن مقدمتين لإحداهما بالأخرى تعلق، والقول على الحقيقية كما قالوا، وإنما يكتفى في لسان العرب بمقدمة واحدة على التوسع وعلم المخاطب. والنتائج ثلاث: إحداها ما صدر عن قول مسلم في العقل لا خلاف فيه، فتكون النتيجة عنه برهاناً كقولنا: إذا كان الزوج ما ركب من عددين متساويين فالأربعة زوج، والأخرى ما صدر عن قول مشهور إلا أنه مختلف فيه، فتكون النتيجة عنه إقناعاً كقولنا: إذا كان حق الباري

- عز وجل - واجباً علينا، لأنه على لوجودنا، فقد وجب حق الوالد أيضاً وصحة هذه النتيجة إنما تقع بالاحتجاج لمقدمتها حتى يعرف بها من لا يعرف ثم تصح. والثالثة ما صدر عن قول كاذب وضع المغالطة، كقولنا: إن اللصوص يخرجون بالليل [للسرقة] ففلان سارق لأنه خرج بالليل، وهذا باطل، لأن السارق ليس هو سارق من أجل خروجه بالليل، وإلا فكل من خرج بالليل فهو سارق. والحد مأخوذ من أصل الشيء الذي منه كونه، وفصله الذي به بتفصل من غيره، فإن حد الحي هو الجسم الحساس المتحرك، فالجسم أصله، والحساس والمتحرك فصلاه اللذان ينفصل بهما من غيره من الأجسام التي لا تتحرك ولا تحس، وكذلك حد الديار فإنه مأخوذ من المدينة والمحلة اللتين هي منهما، ومن الجهات التي تنفصل بها من غيرها، وليس يتجه الحكم في سائر المذاهب على شيء غير محدود، ولا منفصل؛ ألا ترى أنه متى شهد شاهدان على رجل بحق عند قاض احتيج إلى أن يشهد الشهود جنسه الذي هو أصله وبعينه واسمه اللذين هما فصلاه اللذان يتفصل بهما من غيره، فإن عرفوا ذلك وشهدوا به، وإلا لم يمض القاضي حكماً عليه، وكذلك الحق في نفسه فإنه يحتاج إلى أن يذكر أصله من الورق أو الذهب، وفصله من النقد والوزن فيقال: ورقاً أو عيناً وزن سبعة مثاقيل، فإذا فعل ذلك كان الحكم ماضياً بيقين من القاضي أنه قد أصاب الحكم فيما

أمر به. وأما الوصف فهو ذكر بعض الأشياء التي تخص الشيء وليست ثابتة على حد كما يقال في الدار: إنها الواسعة، أو الضيقة أو المبنية بالجص أو الآجر كما يقال في الرجل الطويل الأسمر الأقنى، وكل هذه أوصاف لا تأتي على الحد بل يشرك الموصوف بها غيره فيها، ومثل ذلك التحلية التي تستعملها الكتاب والحكام فيمن لم يعرفوه باسمه وعينه ونسبه، فيكون من الاحتياط إذا لم يجدوا سبيلاً إلى غير ذلك. وأما الاسم فليس يقع به حكم البتة إلا أن يكون مشتقاً من وصف كالأبيض، فإنا نسمي بهذا الاسم كل من غلب البياض على لونه، والاشتقاق والوصف يعمل فيهما على الأغلب والأكثر، ألا ترى أن الزنجي حامل البياض في ثغره وفي بياض عينه، وأن الرومي حامل السواد في حدقتيه وشعره، فلا يسمى الزنجي أبيض بما فيه من البياض، ولا الرومي أسود بما فيه من السواد، لكن يسميان بالأغلب على ألوانهما، وإن دعت ضرورة إلى ذكر ما في الأسود من البياض، أو في الأبيض من السواد لم يطلق ذلك لهما حتى ينسب إلى العضو الحامل له، فيقال: الأبيض الثغر، والأسود الشعر. واعلم أن القول المنفي ليس بموجب حكماً غير حكم النفي، وليس يحصل منه تشبيه ولا تمثيل يقع بهما قياس، وذلك كقولنا: زيد غير قائم، وعمرو غير قائم؛ فقد نفينا عنهما جميعاً القيام ولم نثبت لهما اجتماعاً في معنى آخر،

لأنه قد يجوز أن يكون أحدهما قاعداً والآخر نائماً وكلاهما غير القيام، وكذلك إذا نفينا عن جسمين البياض، فلم نثبت لهما اجتماعاً في لون آخر من الحمرة أو الصفرة أو السواد، ولو شهد شاهدان عند حاكم بأن فلاناً لم يبع ضيعته من فلان لم يكن ذلك بموجب الا يكون فلان ملكها عليه، لأن للملك وجوهاً أخرى غير المبيع، ولذلك قالت القدماء: إن صفات الباري - عز وجل - إنما ينبغي أن تكون بالسلب، يعنون النفي، لأنه لا يحصل في النفي ما يقع به تشبيه. واعلم أن كل مطلوب فإما أن يكون موجوداً أو غير موجود، وأن الموجود إما أن يكون موجوداً بالحس كالمبصرات والمذوقات والأجسام والأشكال وما أشبه ذلك، وإما أن يكون موجوداً بالعقل كوجودنا ما غاب عنا، وكوجودنا الجوهر والباري - عز وجل، وإنما وجودنا بالعقل من الأشياء الغائبة التي لا تحس في ذواتها فإنما تتلقط مبادئ المعرفة بها من الحس فيعرف الجوهر من الأعراض المحمولة فيه كما يعرف ذو اللون باللون، وذو العدد بالعدد، وكما يعرف البارئ - عز وجل - بموضوعاته وآثار فعله، وأن ما يظهر من ذلك عند التأمل له دليل على أن الأشياء لم تكن بالاتفاق، وأنها من قصد حكيم دبرها، وأحكم صنعه منها، ودلالة الشيء [على غيره] تكون بأحد أربعة أشياء. إما بالمشاركة [وقد ذكرنا جملاً منها] وإما بالمضادة، فإن الضد يكسب

معرفة الضد، فإنا إذا عرفنا الحياة، وعلمنا أنها بالحس والحركة [وعرفنا ضدها الذي هو الموت وأنه بعدم الحس والحركة]، وإذا انتفى الحكم في أحد الضدين وجب في الآخر ضرورة إذا كان الضدان لا واسطة لهما كالموت والحياة، والحركة والسكون، والضياء والظلام، فأما إذا كان بينهما واسعة فليس الأمر كذلك، وذلك كالسواد والبياض اللذين بينهما الحمرة والصفرة والخضرة، وكالقيام والقعود اللذين بينهما الاضطجاع والركوع والسجود، فنحن نعرف بالسواد الذي هو البياض، وبالقيام ضده الذي هو القعود، وإن نفينا السواد عن شيء لم يجب له البياض ضرورة كما كنا إذا نفينا عن الشيء الحياة وجب له الموت ضرورة، لأن الحياة والموت لا واسطة بينهما، وهذه أضداد لها واسطة. وإما العرض كما يعرف الجسم بالطول والعرض والسمك، وإما بالفعل كما يدل الولد على الوالد، وكما يدل الباب على النجارة. والمعقول من الموجودات التي لا تحس لا يحد، لأن الحد مأخوذ من الأصل والفصل كما قلنا، والأشياء المعقولة التي لا تقع تحت الحس ليست لها مادة تكون أصلاً لها، ولا تنفصل أيضاً عن غيرها من المعقولات انفصالاً طبيعياً فيستعمل ذلك في حدها فإنما تعرف بأسمائها، وتوصف بأوصاف غير محيطة بحدودها فيقال [في] الجوهر: إنه الذي يحمل

المتضادات في أنواعه من غير تبدل يلحقه في ذاته، ويقال في البارئ - عز وجل - إنه القديم الذي هو علة لمصنوعاته وأشباه هذا، ألا ترى أن موسى - عليه السلام - لما سأله فرعون: {وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ * قَالَ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إنْ كُنتُمْ مُوقِنِينَ} ولما قال: {فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى * قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} فوصفه بأفعاله ولم يحده لامتناع الحد في ذاته. والأشياء التي يقع الوصف بها تسعة أشياء: وهي أعراض كلها، منها الحال كقولك: زيد ظريف، ومنها العدد كقولنا: المال درهمان، ومنها المكان كقولنا: زيد خلفك، ومنها الزمان كقولك: جاءني زيد أمس، ومنها الإضافة كقولنا: هذا ابن زيد، ومنها القنية كقولنا: هذا مالك وغلامك ومنها النصبة كقولنا: زيد مضطجح وقاعد، ومنها الفاعل كقولنا: زيد يضرب ومنها المنفعل كقولنا: زيد مضروب، ولا يكون وصف بغير هذه الوجوه التسعة. والحال قد تكون لازمة، فتسمى هيئة كبياض القطن وسواد الفحم، وتكون غير لازمة فتختص باسم العرض كصفرة الوجل، وحمرة الخجل. والعدد منه منفصل ومنه متصل؛ فالمتصل ما كان له واسطة تجمع بين طرفيه، وكان متصلاً بالمادة كالدرهم والدرهمين، وكالأشكال والأماكن؛ والمنفصل ما انفصل من المادة، ولم تكن له واسطة تجمع بين طرفيه، كالواحد والاثنين، وكالزمان الذي هو حركة الفلك المنفردة، والإضافة نسبة شيء إلى شيء يدور كل واحد منهما إلى

صاحبه، فإن الصديق، صديق صديقه، والجار جار جاره، والقنية وهي الملك وهي تشبه المضاف من جهة الإضافة، إلا أنها تخالفه بأنها لا تدور على الشيء، فإنا إن قلنا في المال إنه مال زيد، فليس يجوز أن نقول. في زيد: إنه زيد المال، كما قلنا في المضاف، وضد القنية العدم، وليس يستحق المعدم اسم العدم إلا بعد استحقاقه اسم القنية لأنا لا نسمي الطفل فقيراً، ولا جرو الكلب أعمى لأن الطفل لم يستحق بعد أن يملك شيئاً يعدمه، وكذلك جرو الكلب لم يستحق أن يكون بصيراً فيعمى. والنصبة: تشارك الحال، وهي انتصاب الجسم، وما يشاهد عليه من قيام أو قعود وانحراف إلى بعض الجهات المحيطة به، وهي ست جهات، وهي فوق، وتحت، وأمام، وخلف، ويمين، وشمال. والفاعل: هو الموقع فعله بغيره، وفعله ربما كان باقي الأثر كأثر النجار في السرير، أو غير باقي الأثر، كضرب زيد عمراً. والمنفعل: هو القابل لوقوع فعل الفاعل [به] وتأثيره فيه، وقد يفعل الشيء بطبعه، ويفعل باختياره. فالفاعل بالطبع لا يمتنع من الفعل في كل أوقاته، وعلى كل أحواله، كالنار التي تحرق كل شيء ما لاقاها في سائر الأوقات، وعلى كل الأحوال. والفاعل بالاختيار: هو الذي يفعل الشيء إذا أراد فعله، ويمتنع منه إذا أراد الامتناع منه، كالكاتب الذي متى شاء كتب، ومتى شاء أمسك عن الكتابة، ويقال في المختار، إذا أمسك عن الفعل وهو قادر عليه متى هم به: فاعل بالاستطاعة وبالقوة، كالكاتب الذي يسمى بهذا الاسم،

وإن كان ممسكاً عن الكتابة، لأنه مستطيع لها متى هم بها، فإذا فعل الكتابة كان كاتباً بالفعل. أنواع البحث والسؤال: وأنواع البحث والسؤال تسعة أنواع: فأولها: البحث عن الوجود بهل تقول: هل كان كذا أو كذا؟ فيقال: نعم أو لا. والثاني: البحث عن أنواع الموجودات بما؛ تقول: ما الإنسان؟ فيقال: الحي الناطق، وما رأيك في كذا؟ فيقال: رأيي الفلاني. والثالث: البحث عن الفصل بين الموجودات بأي، تقول: أي الأشكال المربع؟ فيقال: [هو] الذي يحيط به أربعة خطوط. والرابع: البحث عن أحوال الموجودات بكيف، تقول: كيف الإنسان؟ فيقال: منتصب القامة. والخامس: البحث عن عدد الموجودات بكم، تقول: كم مالك؟ فيقال: عشرون درهماً. والسادس: البحث عن زمن الموجودات بمتى، تقول: متى كان هذا؟ فيقال: في زمن الرشيد. والسابع: البحث عن مكان الموجودات بأين تقول: أين زيد؟ فيقال: في الدار.

والثامن: البحث عن أشخاص الموجودات بمن يقال: من خرج؟ فيقال: زيد، ومن لا تستعمل إلا في المسألة عمن يميز ويعقل. والتاسع: البحث عن علل الموجودات بلم، وليس يقع الجدال والحجة إلا في العلة ولا يجب الحق والباطل إلا فيها، ونحن نذكر اعتبار العلل، والواجب منها والفاسد إذا صرنا إلى ذكر الجدل في كتابنا هذا إن شاء الله. فهذه جمل في وجوه الاستدلال والقياس تدل ذا اللب على ما يحتاج إليه، ومن أراد استيعاب ذلك نظر في الكتب الموضوعة في المنطق فإنها جعلت عياراً على العقل ومقومة لما يخشى ذَلَلُه، كما جعل البركار لتقويم الدائرة، والمسطرة لتقويم الخط، وجعل الميزان مثالاً للقياس والموازنة بين المتشابهين، لئلا تقع المجازفة والبخس في الحقوق، وليكون الإنسان على يقين من الإصابة في ذلك، وقد أتى المتقدمون في جميع هذه الأحوال بما فيه كفاية لمن فهم إن شاء الله. الخبر: وأما الخبر فمنه يقين، ومنه تصديق. فاليقين: منقسم ثلاثة أقسام: أحدها خبر الاستفاضة والتواتر الذي يأتي على ألسن الجماعة المتباينة

هممهم وإرادتهم وبلدانهم، ولا يجوز أن يتلاقوا فيه ويتواطئوا عليه، فذلك يقين يلزم العقل الإقرار بصحة، وبهذا النوع من الأخبار ألزمنا الله - عز وجل - حجج الأنبياء - عليهم السلام - ونحن لم نشاهدهم [ولم نر آياتهم] ولم نسمع احتجاجهم على قولهم، وذلك من تسخير الله - عز وجل - الناس حتى تقوم الحجة، وإلا فكل أحد من الناس يجوز عليه الكذب، فإذا تواترت أخبارهم كان ذلك زائداً حقاً، لما قدمناه، وليس التواتر فعلهم، فيجوز أن يفعلوا ضده، وإنما هو شاهد لصدقهم ودليل عليه، والدليل غير المدلول عليه، فقولهم: محتمل الصدق والكذب لأنه فعلهم، وهم ممكنون مختارون، والتواتر والاستفاضة معنى آخر ليس من فعلهم ولا من اختيارهم، وهو دليل الصدق إذا وجد، وليس هذا في أخبار العدول دون الفساق، ولا المؤمنين دون الكفار، لكنه في أخبار الجماعة كلها، ولو كان لا يقبل من التواتر إلا ما أتى به أهل الإيمان لم يكن لأحد من المخالفين علوم ينقلونها، ولا أخبار يرثونها، وقد تكلمنا في هذا الباب في كتابي "الحجة، والإيضاح" بما أغنى عن إعادته، وليس يخالفنا فيه أحد من أهل ملتنا، [وأكثر المخالفين لنا] محتاج إلى زيادة في الشرح له، والاحتجاج فيه. والثاني خبر الرسل - عليهم السلام - ومن جرى مجراهم من الأئمة الذين قد قامت البراهين والحج من العقل عند ذوي العقول على

صدقهم وعصمتهم، وظهور المعجزات التي لا يجوز أن تكون بنوع من الحيل، وليس في طبع البشر الإتيان بمثلها على أيديهم، فدلت من ليس علم المعقولات والتميز بين المتشابهات من شأنه، على أن هذه الأشياء إنما جرت على أيديهم ليعلم أنهم عن الله - عز وجل - نطقوا، وعليه في إخبارهم عنه قد صدقوا، فتعم الحجة بهم الغافل والجاهل، والمميز والعاقل، فلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل، ولو لم تكن أخبارهم حجة توجب في عقل من شاهد الأنبياء والأئمة، أو نقلت إليه أخبارهم نقلاً يوجب الحجة تصديقها لما قال - عز وجل -: {لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} ولما أمرهم الله - عز وجل - بطاعتهم فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} لأن الله - عز وجل - لا يأمر بطاعة من يعلم أنه يعصيه، أو يكذب عليه. وقد ذكرنا هذا الباب في كتاب "الإيضاح" بما أغنى عن إعادته والإطالة فيه. والثالث: ما تواترت أخبار الخاصة به مما لم يشهده العامة فإن تواترهم في ذلك نظير تواتر العامة، وقد بين الله تعالى لزوم ذلك، ووجوب التصديق به فقال: {أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ} فجعل علم العلماء - وهم الخاصة به - حجة على العامة. وأما خبر التصديق فهو الخبر الذي يأتي به الرجل والرجلان [والأكثر] فيما لا يوصل إلى معرفته من القياس والتواتر، ولا أخبار

المعصومين ولا يعلم إلا من جهة الآحاد، وذلك مثل الفتيا في حوادث الدين التي ابتلى بها قوم دون آخرين، فسألوا عنها فخبروا بالواجب فيها، فنقلوا ذلك ولم يعرفه غيرهم، وليس يقع ذلك في أصول الدين التي يتساوى الناس فيها وفي فرضها، والناس محتاجون إلى الأخذ بهذه الأخبار في معاملاتهم ومتاجراتهم ومكاتباتهم، فإن ذلك أجمع مما لا يقوم البرهان على صدق المخبر به من عل ولا تواتر ولا خبر معصوم؛ وإنما يعمل في جميعه على خبر من حسن الظن به، ولم يعرف بفسق، ولم يظهر منه كذب. وقد أبى قبول خبر الواحد قوم من أهل الملة مع إقرارهم بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - وآله قد بلغ من نأى عنه بالواحد من أصحابه والاثنين، وبلغ النساء المخدرات اللواتي ليس من شأنهن البروز بما ألزمهم إياه من قبول أخبار أزواجهن، آبائهن وأبنائهن وكل هؤلاء آحاد، وقد استقصينا الكلام في هذا في كتاب "الحجة". وقد استنبط علم باطن الأشياء بوجه ثالث، وهو الظن والتخمين فيما لا يوصل إليه بقياس، ولا يأتي فيه خبر، وفي الظن حق وباطل. ولذلك قال الله - عز وجل -: {إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} وقال عز وجل في مواضع أخر. فأخرجه مخرج اليقين: {وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلا إِلَيْهِ} وقوله عز وجل في سورة الكهف: {فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا}، وذلك يقين منهم وظن كل امرئ على مقدار

علمه وعقله، فإن من كان عقله صحيحاً، وكان تمييزه معتدلاً، وعلمه ثابتاً، وسلم من متابعة الهوى فيما يواقع الظن فيه فقد صدق ظنه، وقد قيل: ظن الرجل قطعة من عقله، وقيل: إذا ازدحمت الظنون على سر أظهرته، وقال أردشير: "الظنون مفاتيح اليقين"، وقال الشاعر: (الألمْيَعِيّ الذي يظن بك الظن ... كأنْ قد رأي وقد سَمضا) وقال آخر: (تناصَرَت الظنون عليك عِندي ... وبعضُ الظن كالعلم اليَقينِ) وقد حكم عمر بن الخطاب - رضوان الله عليه - في القوم الذين قاسمهم أموالهم بهذا النحو، فإنه قاسمهم على الظن فيهم، ولو قد تبين خيانتهم أموال المسلمين لما وسعه أن يأخذ بعض ذلك، ويدع عليهم بعضه، لكنه لما ظهر له منهم ما يوجب التهمة، ولم يقو في نفسه قوة اليقين قاسمهم. ومن الظن العيافة والقيافة والزجر والكهانة، واستخراج المعمى، والمترجم من الكتب، فكل ذلك إنما ابتداؤه الظن والتطير؛ فمرة يجعلون الغراب دليلاً على الغربة، والبان على البين، والقضب على قضب النوى، فيزجرون على الأسماء واشتقاقها دون

المعاني، كما قال الشاعر: (رأيت غراباً ساقطاً فوق قَضْبَةٍ ... من القَضْب لم يَنبت لها ورق خضر) فقلت: (غرابُ لاغترابٍ، وقَضْبَةٌ ... لقضب النوى، هذي العيِافةُ والزَّجرُ) ومرة يزجرون على الأحوال فيكرهون الأعضب والأعور والناقص الخلق لما فيهم من التقصير عن التمام، ويكرهون الشيخ لإدبار عمره والأحدب لظهور عاهته، كما قال الشاعر: (ولم أغدُ في أمر أُؤمّلُ نجحَه ... فقابلني إلا غُرابٌ وأرنبُ) (فإن كان من إنسٍ فلا شك كافرٌ ... وإلا فشيخٌ أعوَرُ العَينِ أحدبُ) وإنما يتشاءمون بالأرنب لقصر يديه فكأنه إذا مد يديه إلى شيء يريد نيله فقابله أرنب - وهو قصير اليد - فقد بين له أن يده تقصر عن نيل ما أراده، ومد إليه يده، وقد روي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سمع بعض القافة وقد رأى رِجل أسامة بن زيد ورِجل أبيه - يقول: هذه أقدام بعضها من بعض فسرّ بذلك. وحكم أهل الحجاز بقول القافة في الولد ابن الأمة إذا جحده أبوه، أو شك فيه. فإذا أردت أن يصدق ظنك فيما تطلبه بالظن مما لا تصل إلى معرفته بقياس ولا خبر فأقم الشيء الذي يقع ظنك إلى سائر أقسامه في العقل، وأعط

كل قسم حقه من التأمل، فإذا اتجه لك أن الحق في بعض تلك الأقسام على أكبر الظن، وأغلب الرأي جزمت عليه وأوقعت الوهم على صحته، وذلك مثل أن تظن بإنسان عداوة لك، ولا يتبين ذلك في تغيير وجهه لك، ولا نبو طرفه عنك، ولا في شيء مما يظهر في فعله بك فتحظر الأشياء التي توقع العداوة بين المتعادلين، وهي الشركة والمناسبة والمنازعة، والميراث والجواز والصناعة، والمنزلة والمشارعة، والخلاف في الديانة، والحقد و؟ ؟ ؟ ؟ ، والإساءة المقدمة، وما أشبه ذلك من الوجوه الموجبة للعدالة، وثم ننظر فإن اجتمعت بينكما تلك الأحوال أو أكثرها أوقعت وهمك على أنه لك عدو، وكان قوة التوهم منك في ذلك على حسب كثرة ما يجتمع بينكما من الأحوال الموجبة للعداوة، فتجنبه وعامله معاملة العدو الذي قد بان أمره وإن وجدته ينفرد ببعضها استبريت صحة الظن، بأن تنظر هل جمعكما بعض ما يوجب اللطف والمودة، ويزيل ثلبة تلك الخلة، من موافقة في مذهب، أو إحسان متقدم، أو غير ذلك، ثم وازنت بين الخلال الموجبة للعداوة، والخلال الموجبة للصداقة، وكنت في حيز الأقوى من الصنفين. وإن لم تجد بينكما ما يوجب العداوة أزلت عن قلبك باب الظنة، وكنت على ما لم تزل عليه لصاحبك من الثقة.

وقد استخرج أمير المؤمنين - عليه السلام - أشياء من الأحكام لما عدم البينات فيها، وتجاهل أهل الدعوى ولزموا الإنكار بهذا النوع من الاستخراج، فمن ذلك أنه لما أتى بامرأتين وصبي، وادعت كل واحدة منهما أن الصبي ابنهما أعمل فكره وظنه، فعلم أن من شأن الوالدة الرقة على الولد، والمحبة لدفع الآفة عنه فقال قنبر: خذ السيف واقطع الولد نصفين، وادفع إلى كل واحدة منهما نصفه، فلما سمعت الوا لدة بذلك أدركها الإشفاق فقالت: أنا أسمح بحصتي لصابحتي، فعلم أنه ابنها فسلمه إليها. وكذلك فعل بالرجلين اللذين ادعى كل واحد منهما أن الآخر عبده، فإنه علم ما يتداخل النفس من الجزع عند معاينة الموت، وأن تلك الحال تذهب عن لزوم الدعوى، وتشغل عن طلب الحجة، فقد مهما ومد أعناقهما، وقال لبعض أصحابه: اضرب عنق العبد، فثنى العبد عنقه حذراً من السيف، فظهر، بذلك أنه العبد دون الآخر، فسلمه إلى صاحبه. وكل هذه الأحوال التي عددناها إنما تقع أوائلها بالظن، فإن شهد لها ما يخرجها إلى اليقين صارت يقيناً، وإلا كانت تهمة وظَنة وإثماً، ألا ترى أنك تظن بالترجمة أنها حروف فإذا أردتها في سائر المواضع التي تثبت صورها فيها، وامتحنتها فوجدتها مصدقة لظنك، حكمت بصحتها، وإذا خالفت علمت أن ظنك لم يقع موقعه، فأوقعته على غير تلك الحروف إلى أن يصح. ويشهد لما قلناه - من أن الظن إذا لم يشهد له ما يقويه ويحققه، فليس ينبغي أن نلتفت إليه - قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ثلاث

لا يسلم منهن أحد: الطّيرة، والظن، والحسد. قيل. فما المخرج منهن يا رسول الله؟ قال: إذا تطيّرت فلا ترجع، وإذا ظننت فلا تحقق، وإذا حسدت فلا تبغ". وقد حصل الآن لنا من علوم ما تبين عنه الأشياء بذواتها "يقين": وهو ما تعترف العقول بصحته، ويلزمها الإقرار به؛ و"تصديق"، وهو ما تقتنع النفوس به، وإن كان من الممكن أن يقع غيره أوكد من موقعه؛ "وظن" قد احتيط فيه حتى وقع موقع اليقين عند مستعمله. وقد شبهت القدماء اليقين من هذه العلوم بحكم القاضي، والتصديق بحكم صاحب المظالم، والظن بحكم صاحب الشرطة، وطلبوا في الأشياء اليقين؛ فإذا وجدوه تركوا غيره، فإذا عدموه طلبوا الإقناع الذي يقع به التصديق، فإن وجدوه أخذوا به، وإن لم يجدوه أعملوا الظن حتى يستخرجوا به علم ما يحتاجون إليه. وكذلك الحقوق إنما تطلب من الحكام بالبينات العادلة، والشهادات القاطعة فيما يحضره العدول، فإن كان الحق مما لم يشهده العدول، وطلب من أصحاب المظالم الكشف ومسألة أهل الخبرة من المشهورين، والمجاورين؛ فإن كان مما لم يشهده أحد وآخر سراً طلب من صاحب الشرطة فيوقع الظن على أهل التهمة ومن قدر جرت عادته بالريبة، فيبسط عليهم، ويحتال في تقريرهم إلى أن يظهر ما عندهم؛ وقد يجوز أن يكون فيمن توقع التهمة عليه من هو برئ

إلا أنه لا يتوصل إلى استخراج الحقوق من اللصوص وأشباههم إلا بمثل هذه الحال، ولو طلب في ذلك البينة من العدول المرضيين، أو أخبار المستوردين من المجاورين ما تهيأ استخراج سرقة أبداً، فليس في هذه الأحكام الثلاثة، إذا خرج كل واحد منها من معدنه وجرى على ترتيب ما وضع له ما ينسب إلى ظلم وجور، ولكن إن اختلفت مواقعها ومخارجها فقضى القاضي بالكشف والمسألة، وقضى صاحب المظالم بالظن والتهمة، وقضى صاحب الشرطة بالعدول والبينة، نسب كل واحد منهم إلى الجور لعدوله عما توجبه رتبته، وخروجه عن الرسم الذي رسم له، وكما لا يستغني بواحد من هؤلاء الحكام الثلاثة عن باقيهم، فكذلك لا يستغني في استخراج بواطن العلوم بواحد من هذه الوجوه التي ذكرناها عن سائرها، وهذا فيما أوردنا ذكره من الاعتبار مقنع إن شاء الله.

باب البيان الثاني وهو الاعتقاد

باب البيان الثاني وهو الاعتقاد قد قلنا: إن الأشياء إذا تبينت بذواتها للعقول، وترجمت عن معانيها للقلوب، صار ما ينكشف المتبين من حقيقتها معرفة وعلماً مركوزين في نفسه. وهذا البيان على ثلاثة أضرب: فمنه حق لا شبهة فيه، ومنه علم مشتبه يحتاج إلى تقويته بالاحتجاج [فيه]، ومنه باطل لا شك فيه. فأما الحق الذي لا شبهة فيه، فهو علم اليقين، واليقين ما ظهر عن مقدمات قطعية، كظهور الحرارة للمتطبب عند توقد اللون، وسرعة النبض، واحمرار اللون؛ أو عن مقدمات ظاهرة في العقل، كظهور تساوي الأشياء إذا كانت متساوية لشيء واحد، وكظهور زيادة الكل على الجزء؛ أو عن مقدمات خلقية مسلمة بين جميع الناس كظهور قبح الظلم، وكل خبر أني على التواتر من العامة أو التواتر من الخاصة، أو سمع من الأنبياء والأئمة، وكل هذا يوجب العلم، ومن شك في شيء منه كان آثماً، ولذلك صار من شك في الباري - عز وجل - كان كافراً لأن نتيجة المعرفة به عن مقدمات ظاهرة للعقل. وكذلك من شك فيما تواترت به الرواية أو تضمنه الكتاب الذي نقله من تجب بنقله الحجة. فأما المشتبه فيهو الذي يحتاج إلى التثبت فيه، وإقامة الحجة على

صحته، فكل نتيجة ظهرت عن مقدمات غير قطعية، ولا ظاهرة العقل بأنفسها، ولا مسلمة عند جميع الناس، بل تكون مسلمّة عند أكثرهم، ويظهر للعقل تغيرها فتغير الفحص عنها، والاستدلال عليها؛ وذلك كرأي كل قوم في مذاهبهم، وما يحتجون به لتصحيح اعتقاداتهم ونحلهم، وكل خبر أتى به الآحاد والجماعات التي لا يبلغ خبرهم أن يكون متواتراً، بل يجوز على مثلهم - في العادة - الاجتماع عن الكذب والاتفاق عليه، إذا كانوا عدولاً، ولم يخالف قولهم ما جرى به العرف والعادة، وذلك مثل روايات كل قوم فيما اعتقدوه، وأخبارهم عن أهل العدالة عندهم فيما اجتنبوه، وكل ظن قويت شواهده، وكان الاحتياط في الرأي والدين تغليبه، وكل هذه الأمور التي عددناها فإنما يأتي العلم بها على طريق التصديق لا على اليقين، والحجة على معنى الإقناع لا البرهان، وهي توجب العمل ولا توجب العلم، وليس على من شك فيها إثم ولا لوم، وذلك كالحكم بالشاهدين وتصديقهما في الحقوق، وإن كنا لا نعلم حقيقة قولهما، ولا تشهد بصحته عينهما، لأنهما قد يجوز أن يكونا كاذبين إلا أن علينا العمل بما شهدا به إذا كانا عدلين مرضيين، وكذلك ما أتانا من الأخبار في الأحداث التي تنقض الوضوء من الدم السائل، والقهقهة في قول العراقيين، والملامسة للذكر في قول أهل الحجاز، فإن ذلك كله يوجب العمل على من صحت عنده عدالة المخبر له، وليس يوجب العلم، ولا يكون من شك في ذلك وجحده آثماً. وأما الظن فإنه إذا قويت شواهده، وعضده من الرأي ما يوجبه، فإنما يجب العمل عليه، ولا يجب العلم بحقيقته، والفرق بينه وبين ما نحن فيه يأتي من الإخبار عن الآحاد، ومن القياس المقنع أن ذلك مقبول

على ظاهره، فإنا نقبل كل آت به، ولا نتهمه بكذب، وكل نتيجة ظهرت عن مقدمة يجوز استعمالها عند أهل النظر، وإن لم يشهد بصحة ذلك، ولسنا نقبل الظن على ظاهره، ولا نعمل عليه إلا إذا شهد له غيره، فهو كخبر الفاسق أو الكافر الذين لا يكذبان ولا يصدقان فيه إلا أن يظهر لسامعهما ما يوجب التصديق أو التكذيب فيعمل عليه. وأما الباطل الذي لا شبهة فيه فما ظهر عن مقدمات كاذبة مخالفة للطبيعة مضادة للعقل، أو جاء في أخبار الكاذبين الذين يخبرون بالمحال، وما يخالف العرف والعادة، وذلك مثل اعتقاد السوفسطائيين أنه لا حقيقة لشيء من الأشياء، وأن الأمور كلها بالظن والحسبان، واعتقادهم حقيقة ما يقولونه دليل على أن للأشياء حقائق في أنفسها، فإنهم مبطلون دعواهم؛ وكإخبار النصارى عن المسيح -عليه السلام - بأنه كان بشراً فصار إلهاً، وكان محدثاً فصار قديماً، وأن الواحد الذي هو جزء للثلاثة ثلاثة من غير تفريق، وأن الثلاثة التي هي كل للواحد واحد من غير جمع [وتركيب]: وإتيانهم في ذلك بالمحال الذي لا يعقل. ولما أن كان الله - عز وجل - قد أمرنا أن نعتقد الحق، ونقول به، وألا نعتقد الباطل ولا ندين به، فقال الله - عز وجل - {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ} وقال: {أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ}، وعرفنا زهوق الحق، وخسران أهله، فقال عز وجل:

{وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا}، وقال: {وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ} وجب أن يحتاط العاقل لنفسه ودينه، فلا يعتقد إلا حقاً، ولا يكذب إلا بباطل، ولا يقف إلا عند شبهة، حتى لا يكون ممن شهد بما لم يعلم، أو كذب بما لم يحط به علمه. وإذا نظرنا في الثلاثة الأضرب التي قدمنا ذكرها وجدنا من الواجب أن نعتقد صحة جميع ما ذكرنا أنه يقين وحق لا شبهة فيه، ونشهد بصحة ذلك فلا تلجلجنا الشكوك فيه، فإنا متى شككنا في شيء منه أخطأنا وأثمنا. كما قلنا قبل هذا الموضع، وأن ننظر فيما أتى من الصنف الثاني الذي قد وقع الاشتباه فيه، وادعى كل قوم إصابة الحق فيه، فإن كان مما أتى من جهة القياس احتفظنا فيه بتصحيح المقدمات التي انتجته وحراستها من المغالطة التي قدمنا ذكرها، فإذا صحت ميزناها على كلم المقال إن كانت مما يقع لفظه على معان كثيرة، وننظر إلى أي وجه منها هو مراد المتكلم في قوله، فإذا ميزنا ذلك استخرجنا فصولها التي تنفصل بها غيرها، حتى يظهر الحد الذي يفرق بينها وبين ما يباينها، فإذا فعلنا ذلك صححنا التشبيه وألحقنا كل شيء بما يشبهه، فإذا أتينا بذلك على هذا الترتيب والتحصيل صح لنا ما نريد تصحيحه بالقياس إن شاء الله. وإن كان ما أتى من جهة الخبر عن الآحاد والجماعات القليلة العدد احتيط في ذلك أولاً بعرضه على العقول، فإن باينها وضادها فهو باطل، وإن لم

يباينها، وكان مما يجوز في العقل وقوع مثله يتثبت في أمر نقلها حتى لا نؤخذ إلا ممن ظهرت عدالته، ولم يتهم بكذب، ولا وهم في خبره، ولم يكن فيما أخبر به جاراً إلى نفسه، ولا دافعاً عنها، ولم يعارضه خبر مثل خبره يبطل ما أخبر به وبجميع ما ذكرناه قد جاء القرآن، وجرت الأحكام، فقال الله - عز وجل - {وَأَشْهِدُوا ذَوَي عَدْلٍ مِنْكُمْ}، وقال: {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا}، وأجمعت الأمة على ألا تقبل دعوى أحد لنفسه، ولا شهادته فيما جر إليها أو دفع عنها، وعلى أن الأخبار إذا تكافأت بطلت. ثم إن كان الخبر في أمر الدين عرض على كتاب الله - عز وجل - الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فإن وجد مخالفاً خلاف مضادة علم أنه ليس من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يضاد كتاب الله - عز وجل - وإن كان الخلاف من جهة خصوص وعموم، وناسخ ومنسوخ، ومحكم ومتشابه، ومجمل ومفسر، كان ذلك معمولاً عليه مأخوذاً به على الشرائط التي ذكرناها في كتاب التعبير. وإن لم يوجد لذلك أصل في كتاب الله - عز وجل - وكان مما يجوز التعبير به، فليس ينبغي أن يدفع لأن الله - عز وجل - قد شرع على لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم - شرائع لم يثبتها في كتابه، منها: رجم الزاني المحصن، واليمين مع الشاهد، وتحريم كل ذي ناب ومخلب، وأشباه لذلك، ولذلك قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم-: "أوتيت الكتاب ومثله معه"، أي من السنن التي شرعها الله - عز وجل - على يده، وقد روى عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "لا ألفين

أحدكم متكئاً على أريكته يأتيه الأمر من أمري فيقول: لا أدري، ما وجدت في كتاب الله - عز وجل - عملت به، بل يؤخذ بذلك إذا أتى عن الثقات، وكان مما يجوز أن يتعبد الله - عز وجل - عملت به" بل يؤخذ بذلك إذا أتى عن الثقات، وكان مما يجوز أن يتعبد الله - عز وجل - به عباده، ولم يضاد العقل والكتاب فإذا أتت أخبار الثقات بالشيء وضده، ولم يكن في نقلة المخبرين من يتهم بقلة ضبط ولا وهم، ولم يكن الخلاف في ذلك من جنس ما قدمنا، إلا أن من رواية الشيعة عن الأئمة - عليهم السلام - فقد علم أنهم - صلوات الله عليهم - لا يأمرون بالشيء وضده لأنهم حكماء، والمناقضة عن الحكماء منفية، احتاط العالم بأن سبب الخلاف في ذلك إنما هو خروج الجواب في أحد الحالين على سبيل التقية، والتقية إنما هي فيما خالف فتيا العامة، فلذلك أوصوا - عليهم السلام - فيما يؤثر عنهم، ولا يختلف فيه علماؤهم بأن نعمل فيما تضادت به الرواية عنهم بما يخالف فتيا العامة وعملها. وإن نقل إلينا أصحابهم عنهم - عليهم السلام - ما لا يعلم مخرجه [وقفنا فيه] ووكلناه إلى عالمه، ولم نعتقد في شيء منه تصديقاً ولا تكذيباً إلى أن يتبين لنا ما يوجب أحدهما فنعتقده، إذ كان اعتقاد الباطل عندنا كدفع الحق، وبذلك أمرونا فقالوا: الأمور ثلاثة، فأمر تبين لك رشده فاتبعه، وأمر تبين لك غية فاجتنبه، وأمر اشتبه عليك فكله إلى عالمه وهذا ما في الاعتقاد [وبالله التوفيق والسداد].

باب البيان الثالث وهو العبارة

باب البيان الثالث وهو العبارة فأما البيان بالقول، فهو العبارة، وقد قلنا: إنه يختلف باختلاف اللغات وإن كانت الأشياء المبين عنها غير مختلفة في ذواتها، وإن منه ظاهراً وإن، منه باطناً، وأن الظاهر منه غير محتاج إلى تفسيره، وإن الباطن هو المحتاج إلى التفسير، وهو الذي يتوصل إليه بالقياس والنظر والاستدلال والخبر، ونحن نذكر الآن ذلك بشرحه إن شاء الله. فنقول: إن الذي يوصل إلى معرفته من باطن القول بالتمييز والقياس مثل قول الله -عز وجل-: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} وهو لم يفوض إليهم أن يعملوا بما أحبوا، ولم يخلهم من الأمر والنهي، ومثله قول الله - عز وجل-: {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} فلم يطلق لهم الكفر ولم يحببهم إياه، فهذا وإن كان ظاهره التفويض إليهم فإن باطنه التهديد والوعيد لهم، ويدل على ذلك قوله بعقب هذا: {إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا}. وأما ما يوصل إليه بالخبر فمثل الصلاة التي هي في اللغة: "الدعاء" والصيام الذي هو الإمساك، والكفر الذي هو ستر الشيء، فلولا ما أتانا

من الخبر في شرح مراد الله - عز وجل - في الصلاة والصيام، ومعنى الكفر، لما عرفنا باطن ذلك. ولا مراد الله - عز وجل - في الصلاة والصيام [ومعنى الكفر، ولما عرفنا باطن ذلك لا مراد الله فيه] ولا كان ظاهر اللغة يدل عليه، بل كنا نسمى كل من دعا مصلياً، وكل من أمسك عن شيء صائماً، وكل من ستر شيئاً كافراً، فلما أتانا الرسول - صلى الله عليه وسلم - بحدود الصلاة والتكبير والركوع والسجود، والتشهد، ومحدود الصيام من ترك الأكل والشرب والنكاح نهاراً، وأن الكافر الذي يجحد الله - عز وجل - ورسله، وصلنا إلى علم جميع ذلك بالخبر، ولولاه ما عرفناه. وللغة العربية - التي نزل بها القرآن، وجاء بها عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم - البيان - وجوه وأقسام، ومعان وأحكام متى لم يقف عليها من يريد تفهم معانيها، واستنباط ما يدل عليه لفظهما، لم يبلغ مراده، ولم يصل إلى بغيته. ومنها ما هو عام للسان العرب وغيرهم؛ ومنها ما هو خاص له دون غيره، ويجمع ذلك في الأصل: الخبر والطلب، والخبر: كل قول أفدت به مستمعه ما لم يكن عنده، كقولك: قام زيد، فقد أفدته العلم بقيامه: ومن الخبر ما يبتدئ المخبر به فيخص باسم الخبر، ومنه ما يأتي [به] بعد سؤال فيسمى جواباً، كقولك في جواب من سألك: ما رأيك في كذا؟ فنقول: رأيي كذلك، وهذا يجوز أن يكون [ابتداء منك فيكون] خبراً، فما أتى بعد سؤال كان جواباً كما قلنا. والطلب. كل ما طلبته من غيرك؛ ومنه الاستفهام، والنداء، والدعاء: والتمني، لأن ذلك كله طلب. فإنك إنما تطلب

من الله - عز وجل - بدعائك ومسألتك، وتطلب من المنادي الإقبال إليك أو عليك، وتطلب من المستفهم [منه] بذل الفائدة لك. ومن الاستفهام ما يكون سؤالاً عما لا تعمله لتعلمه، فيخص باسم الاستفهام؛ ومنه ما يكون ظاهره الاستفهام ومعناه التوبيخ كقوله تعالى: {أَلَمْ يَاتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا} ومن السؤال ما هو محصور، ومنه ما هو مفوض، فالمحصور ما حصرت فيه على المجيب أن يجيب إلا ببعض السؤال، كقولك: ألحما أكلت أم خبزاً؟ فقد حصرت عليه أن يجيبك إلا بأحدهما؛ والمفوض كقولك: ما أكلت؟ فله أن يقول ما شاء من المأكولات لأنك قد فوضت الجواب إليه. وليس في فنون القول ما يقع به الصدق والكذب غير الخبر والجواب، إلا أن الصدق والكذب يستعملان في الخبر، ويستعمل مكانهما في الجواب الخطأ والصواب، والمعنى واحد وإن فرق في اللفظ بينهما، وكذلك يستعمل في الاعتقاد في موضع الصدق والكذب الحق والباطل والمعنى قريب من قريب. والخبر منه جزم، ومنه مستثنى، ومنه ذو شرط، فالجزم مثل: زيد قائم، فقد جزمت في خبرك على قيامه، والمستثنى: قام القوم إلا زيداً، فقد استثنيت [زيداً] ممن قام، وذو الشرط: إذا قام زيد صرت إليك، فإنما يجب مصيره إليه إذا قام زيد، فهو متعلق بشرط، وكل واحد من هذه

المعاني إما أن يكون مثبتاً أو منفياً. فالمثبت كقولك: قام زيد، والمنفي: ما قام زيد، والمستثنى من المثبت منفي، ومن المنفي مثبت. وليس يخلو الخبر المثبت أو المنفي من أن يكون واجباً أو ممتنعاً أو ممكناً فالواجب مثل حرارة النار لأنها واجبة في طبعها، والممتنع مثل حرارة الثلج لأن ذلك ممتنع في طبعه، والممكن مثل قام زيد، لأنه قادر عليه جائز أن يقع منه وألا يقع. ثم لا يخلو الخبر بعد هذا كله من أن يكون عما مضى مثل قام زيد، أو عما أنت فيه مثل قولك: قائم زيد، ولا يخلو مع ذلك من أن يكون عاماً كلياً، أو خاصاً جزئياً، أو مهملاً. وكل ما ظهر فيه حرف العموم فهو عام كقولك: كل القوم جاءنا، وجميع المال انفقت، ومنه قوله - عز وجل-: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} فهذا لا يجوز أن يراد به الخصوص لظهور حرف العموم فيه. وكل ما ظهر فيه حرف الخصوص فهو خاص، كقولك: بعض المال قبضت، ومن القوم من جاءنا، ومثل قول الله - عز وجل-: {وَمِنَ الأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ مَغْرَمًا} فهذا لا يجو أن يراد به العموم لظهور حرف الخصوص فيه. وما لم يظهر فيه حرف العموم، ولا حرف الخصوص فهو مهمل، وقد يكون عاماً [وقد] يكون خاصاً، واعتباره أن ينظر فإن كان في الأشياء الواجبة أو الممتنعة فهو عام، وإن كان لفظه واحداً، كقول الله - عز وجل-: {بَلِ الإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ} لأنه من الواجب أن يكون كل واحد على نفسه بصيرة، وإن كان

في الممكن فهو خاص كقول الله - عز وجل-: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا} فهذا خاص وإن كان لفظه على الجماعة، لأن القول ممن قال، والجمع ممن جمع من الأشياء الممكنة، وجائز أن يقع منهم وألا يقع، فهذا أصل يعمل عليه في الخاص والعام والمهمل. ومن البين للعقل أن الأخبار المثبتة الجازمة من الأمر الواجب - ماضيها ومستقبلها وما أنت فيه منها، وعامها وخاصها ومهملها - صدق أجمع، وأن منفيات ذلك كله كذب، وأن مثبتات هذه الأخبار في الأحوال التي قدمنا ذكرها إذا كانت في الممتنع فهي كذب، ومنفياتها صدق، وأن جميع هذه الأخبار في هذه الأحوال إذا جاءت في الأمر الممكن فقد تكون صدقاً وقد تكون كذباً؛ وقد دللنا على جمل ما يعرف به الصدق في ذلك من الكذب، ولم نستقصها لئلا يطول الكتاب بها، وهي في كتب المنطقيين مشروحة، فمن أراد علمها فليطلبها هنالك إن شاء. وأعلم أن من الأخبار أخباراً تقع بها الفائدة ولا يحصل منها قياس يوجب حكماً؛ فمن ذلك الخبر المنفي، فإنه يفيدنا انتفاء الشيء الذي ينفيه ولا يحصل في نفوسنا منه حكم، ذلك مثل قولنا: "زيد غير قائم"، فلم يحصل بهذا القول غير العلم بانتفاء القيام عنه، ثم لسنا ندري على أي حال هو من قعود أو اضطجاع أو سجود. والخبر الذي بشرط لا يحصل في النفس منه حكم، لأنا إذا قلنا: إذا قام زيد

صرت إليك فليس يحصل في نفس المخاطب علم بمصير المخاطب إليه لأنه متعلق بقيام زيد الذي يجوز أن يقع وألا يقع. والكذب إثبات شيء لشيء لا يستحقه [أو نفي شيء عن شيء يستحقه، والصدق ضد ذلك، وهو إثبات شيء لشيء يستحقه، أو نفي شيء عن شيء لا يستحقه]. والخلف في القول إذا كان وعدا دون غيره، وهو أن يعمل خلاف ما وعد فيقال: أخاف فلان وعده ولا يقال: كذب، وقد يخلف الرجل الوعد بفعل ما هو أشرف منه فلا يقال: أخلف وعده، وذلك كرجل وعد رجلا بثوب فأعطاه ألف دينار فقد تفضل عليه، وإن كان قد عمل به خلاف ما وعد، ولا يسمى ذلك مخلفاً لوعده، وبهذا تعلق من أبطل الوعيد، فزعموا أن إنجاز الوعد كرم، وأن إخلاف الوعيد عفو وتفضل، وأنشدوا: (وإني إذا أوعدته أو وعدته ... لأخلف ميعادي، وأنجز موعدي) وعليهم في ذلك كلام لأهل الحق ليس هذا موضعه. والنسخ في الحكم تبدله برفعه، ووضع غيره مكانه؛ وأصله في اللغة وضع الشيء مكان غيره إذا كان يقوم مقامه، [ومنه نسخ الكتاب لأنه وضع غير موضعه، وإقامته مقامه]، ومنه قوله عز وجل: {مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَاتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا}، والنسخ لا يكون في الخبر لأن الخبر إذا تبدل عن حاله بطل، وفي بطلان

قول الصادق [وجوب الكذب لا محالة، وليس بجوز الصادق] أن يخبر بخبر فيكون ضده ونقيضه صدقا، إلا أن يكون خبره الأول معلقا بشرط أو استثناء، كما وعد الله سبحانه قول موسى-عليه السلام-، دخول الأرض المقدسة إن أطاعوه في دخولها، فلما عصوه حرمها عليهم، فلم يدخلها أحد منهم، وكما أوعد قوم يونس - عليه السلام - العذاب إن لم يتوبوا، فلما تابوا كشف عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا، وإلى هذا المعنى تذهب الشيعة في البداء على قبح هذه اللفظة، وبشاعة موقعها في الأسماع. فأما الخبر إذا لم يكن معلقاً بشرط ولا بشيء مما ذكرنا، فليس يجوز أن يقع غيره [موقعه] فيكون صدقاً، ولذلك قال الله -عز وجل-: {مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ}. والمعارضة في الكلام: المقابلة بين الكلامين المتفاوتين في اللفظ، وأصله من معارضة السلعة بالسلعة في القيمة والمبايعة، وإنما تستعمل المعارضة في التقية وفي مخاطبة من خيف شره، فيرى بظاهر القول، ويتخلص في معناه من الكذب الصراح، وذلك مثل قول بعضهم، وقد سأله بعض أهل الدولة العباسية عن قوله في لبس السواد، فقال: هل النور إلا في السواد؟ ! أو أراد أن نور العين في سوادها، فأرضى السائل

ولم يكذب، وكقول شرمح. وقد خرج من عند عبد الملك في الساعة التي مات فيها، وسئل عن حاله فقال: تركته يأمر وينهى، فلما فحص عن ذلك قال: تركته يأمر بالوصية، وينهي عن النوح، وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم-: "رأس العقل بعد الإيمان بالله - عز وجل - مداراة الناس". ومن المعارضة قول مؤذن يوسف - عليه السلام -: {أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ}، وهم لم يسرقوا الصاع، وإنما عني سرقتهم أياه من أبيه [وإذا كان]، الكذب إنما استقبح في العقل، وخرج عن شريعة العدل، من أجل أنه مخالف لحقيقة الأشياء في أنفسها من غير نفع يقصد به حتى قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: - "الكذب مجانب للإيمان، "وقال الله - عز وجل -: {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} وسمى الكاذبين ظلمة، ولعنهم فقال: {وَيَقُولُ الأَشْهَادُ هَؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} كان الكذب إذا أريد به الصلاح العام والمنفعة الحقيقية مطلقاً، وقد روى: "لا كذب إلا في ثلاثة مواطن: كذب في حرب، وكذب في إصلاح بين الناس، وكذب الرجل لامرأته ليرضيها به"، وقد قال أمير المؤمنين عليه السلام: - "والكذب كله إثم إلا ما نفعت به مسلماً، أو دفعت به عن دين،

وليس يدخل كذب الإنسان لنفع نفسه، وضر غيره في هذا المعنى، لأن النفع الحقيقي هو [الذي] لا يقع به ضرر على وجه. وقد استعمل الناس أشياء ظاهرها كذب، ولهم فيها معان تخرجها عنه كتسميتهم الصبي بأبي فلان، وهو لم يستحق أن يكون أباً، (ودعي أبو فلان) وربما توفى قبل أن يولد له ولد، وربما ولد له ولد فيسمى ولده بغير ما كنى به فهذا على ظاهره كذب، ولذلك أبته رهبان النصارى وجماعة من أهل الأديان، والذي نقصده، العرب بذلك في الصغير التفاؤل [له] بالحياة، وطول العمر والولد، وتقصد به الكبير وذي الشرف التعظيم له من التسمية باسمه، ولذلك ترى السلطان إذا شرف وزيراً من وزرائه أو ولياً من أوليائه كناه، وقد تجعل العرب للرجل الكنية والكنيتين والثلاث على مقدار جلالته في النفوس، وممن كان له كنى أمير المؤمنين، - عليه السلام-، وحمزة، - رضوان الله عليه-، ومن العرب عامر بن الطفيل، وعمرو، بن معد يكرب، وغيرهما، وذلك معروف في أخبارهم ومما استعملت فيه العرب أيضاًَ التفاؤل تسميتهم أبنائهم أسداًَ تفاؤلاًَ بالشجاعة والنجدة والبسالة، وكلباً تفاؤلاً بالحراسة والمحافظة، وأشباه ذلك مما سموا به. ومما قلبوه عن معناه وسموه بضد ما يستحقه على سبيل

التفاؤل "المفازة" وإنما هي مهلكة" "والسليم" الملموع، وإنما هو التآلف. ومما أرادوا به التعظيم لرؤسائهم أيضاً اللقب، كتلقيبهم بذي يزن. ومكلم الذئب، والباقر، والصادق، والرضا، وأشباه ذلك، واللقب يجري على وجهين: أحدهما بالاشتقاق والتمثيل كتلقيبهم الغريض بالغريض لتشبيههم إياه في بياضه بالإغريض وهو الطلع؛ والآخر بالاتفاق كتلقيبهم بالقليزر، والدمحاك، وربما لقبوا الإنسان بغير لسان العرب كتلقيبهم بالإخشيد، وبرجيس. ومما جرى من الألقاب على جهة التعظيم تلقيب الخلفاء أنفسهم، ومن رفعوا منزلتهم من أوليائهم، وذلك مشهور يغني عن تمثيله، ومن اللقب ما جرى على سبيل الذم [كتلقيبهم]: بذنب العذر، ورأس الكلب، وأنف الناقة قبل أن يمدح بنوه بذلك. فهذا، أقسام للعبارة التي يتسارى أهل اللغات في العلم بها. فأما العرب فلهم استعمالات أخر من الاشتقاق، والتشبيه، واللحن والزمر، والوحي، والاستعارة، والأمثال، واللغز، والحذف، والصرف: والمبالغة والقطع [والعطف] والتقديم والتأخير والاختراع، ونحن

نذكرها بوجيز من القول ليعرفها الناظر في هذا الكتاب، ويحيط بأقسام معاني كل منها إن شاء الله. فمن ذلك: الاشتقاق: الاشتقاق، وهو ما اشتق لبعض الأفعال، من بعض، كما يشتق من الزيادة اسم زيد، وزيادة، وأزيد، ومزيد، ويزيد، وهو مأخوذ من شقك الثوب أو الحشبة، فيكون كل جزء منها مناسباًَ لصاحبه في المادة والصورة، وللأسماء والأفعال في اللغة العربية أبنية يحتاج إلى معرفتها في الاشتقاق والتصريف، فمن ذلك الأسماء، وأقل ما جاء منها على حرفين مثل: من، وما، وأشباه ذلك، وليس يجوز أن يكون اسم على أقل من حرفين، لأن المتكلم لا يجوز له أن يبتدئ نطقه إلا متحركاً، ولا أن يقف إلا على ساكن، وصار، أقل الأسماء على حرفين لذلك، ولما أشبه ما كان على هذا المثال حروف المعاني منع من الصرف، وجعل مبنياً، وأصل البناء على السكون إلا ما كان قبل آخره ساكن فيحرك لالتقاء الساكنين. فأما ما بني على الفتح فلخفة الفتح نحو: كيف، وأين، وأما وأما ما بني على الكسر، [فلأن الساكن إذا حرك حرك إلى الكسر] مثل أمس وحذام، وأما ما بني على الضم فما أعرب في بعض الأماكن مثل قبل، وبعد فإنك إذا أعربتهما وإذا أفردتما بنيتهما على الضم فرقاً بينهما وبين ما لا يعرب على حال. وشرح هذا في كتب اللغة وهو

يغنينا عن الإطالة فيه؛ ثم يلي ذلك الثلاثي، وهو ما بني على ثلاثة أحرف، وله عشرة أمثلة: فعل مثل رجل، وفعل مثل جمل، وفعل مثل كتف، وفعل مثل برد، وفعل مثل كبش، وفعل مثل عطر، وفعل مثل عنق، و [فعل مثل عضد] (وفعل مثل عنب)، وفعل مثل صرد، وفعل مثل إبل. ثم يلي ذلك الرباعي وهو على خمسة أبنية: فعلل مثل جلجل، وفعلل مثل جعفر، وفعلل مثل سمسم، وفعلل مثل درهم وفعل مثل قمطر. ثم يلي ذلك، الخماسي وله أربعة أمثلة: - مثل فعلل مثل سفرجل، وفعلل مثل جر دحل، وفعلل مثل جحمرش، وفعلل مثل خزعبل، وسائر الأسماء التي تتجاوز خمسة أحرف فإنها تلحقها زيادات ليست من بناء الاسم مثل عنكبوت وأشباهه. والحروف التي تسمى حروف الزوائد عشرة. وهي الهمزة، واللام، والباء، والواو، والميم، والتاء، والنون، والسين، والألف، والهاء. وليس يأتي من الأفعال السالمة شيء على أقل من ثلاثة أحرف، ولا أكثر من أربعة أحرف إلا ما لحقته الزيادة. والثلاثي، ثلاثة أبنية وهي فعل مثل ضرب، وفعل مثل كرم،

وفَعِل مثل علم؛ فأما فعل لما لم يسم فاعله كضرب فليس بأصل، ولكنه يدخل على، كل بناء. والرباعي السالم له بناء واحد وهو فعلل مثل دحرج. وإذا لحقته الزوائد صارت خمسة عشر بناء. وصار جميعها مع ما لا زيادة فيه من الثلاثي والرباعي تسعة عشر بناء، فمن الأبنية التي تلحقها الزوائد تسعة أبنية، في أولها الهمزة، وهي ألف الوصل، وهي افتعل نحو افتقد واستفعل نحو استخرج، وانفعل نحو انطلق، وافعلل نحو احرنجم، وأفعل نحو أحر، وأفعال نحو احمار، وأفعول نحو أخروط، وأفعوعل نحو اغدودن، وأفعلل نحو افشعر؛ وبناء واحد في أوله ألف القطع نحو أخرج؛ وخمسة لا ألف في أولها: وهي فاعل مثل قاتل، وتفاعل مثل تهالك، وفعل مثل كسر، وتفعل مثل تكسر (وتفعلل مثل تكبر)، وتفعلل مثل تدحرج. ولكل زيادة من هذه الزيادات معنى تحدثه في الفعل إذا دخلته، وذلك مثل قولنا: خرج زيد، فهذا بلا زيادة يدلنا على خروج زيد بإرادته، فإذا قلنا: أخرج زيد عمراً، فزدنا ألف القطع كان المخرج له غيره، وكقولنا: قال زيد خيراً، فإذا بنينا من ذلك فاعل قلنا: قاول زيد عمراً، فصار الفعل من اثنين، فعل كل واحد منهما بصاحبه كفعل صاحبه به، وكقولنا: كسر زيد القدح، فيدل على وقوع الكسر به؛ فإذا قلت: كسر القدح دللت على ترداد الفعل وتكراره، وتقول: اعتل زيد فدل على علته؛ فإذا قلت: تعالل زيد دللت على أنه أظهر علته وليس بعليل، فكذلك كل مثال من هذه الأمثلة

يفيد معنى ليس في الآخر، فإذا أرددت أن تشتق من الانطلاق اسماً للفاعل قلت: منطلق، فإذا أردت أن تشتق منه اسماً للمفعول به قلت: منطلق به، وإن أردت أن تشتق منه فعلاً ماضياً قلت: انطلق، وإن أردت أن تشتق منه فعلاً مستقبلاً قلت: ينطلق، فإذا أردت أن تأمر منه قلت: انطلق، فإذا نهيت عنه قلت: لا تنطلق؛ فهذه أوجه الاشتقاق في الأسماء والأفعال. فأما الأمر فكل فعل كان ثاني مستقبله متحركاً فإنك تسقط علامة الاستقبال منه، وتقر الباقي على بنائه فيكون أمراً مثل، دحرج يدحرج الأمر فيه دحرج؛ وما كان ثاني مسقبله ساكناً فلست تصل إلى النطق به مبتدئاً: فلابد أن تدخل الهمزة لتتوصل بها إلى النطق، وتسمى ألفاً على المجاز لا على الحقيقة، لأن الألف لا تكون إلا ساكنة. فما كان من الرباعي فهي ألف قطع! مثل أخرج يخرج، فيكون الأمر أخرج، وهذه ألف مفتوحة على كل حال، وما كان من ذلك في الثلاثي فه ألف وصل. وحركتها فيما كان ثالثه مضموماً، وفي المستقبل بالضم نحو قولك في أخرج يخرج، وفيما كان [ثالث]، مستقبله مفتوحاً أو مكسوراً بالكسر نحو قولك في ضرب يضرب أضرب وفي نفع ينفع انفع وليس يجيء فعل يفعل إلا فيما كان موضع عين الفعل فيه أو لامه أحد حروف الحلق؛ فأما ما ليس فيه في [هذين الموضعين] حرف من حروف الحلق فإنما يجيء على يفعل بالكسر أو يفعل بالضم إلا أحرفاً،

جئن نوادر منها: أبى يأبى، وركن يركن، وقلى يقلى، وغشى الليل يغشى: إذا أظلم. والمعتل من الأفعال ما كان في موضع الفاء منه أو العين أو اللام حرف من حروف المد واللين، وهي الواو، والألف، والياء، ولها أحكام في التصريف إن أردنا أن نستوعبها طالب ها الكتاب لكننا، نذكر جملاً من ذلك تدل ذا القريحة على ما فيها. المعتل الفاء: ما اعتلت فاؤه - كل واو كانت فاء الفعل وكان الماضي منه على فعل والمستقبل على يفعل فإنها تسقط في المستقبل نحو وعد يعد، ووزن يزن؛ وإن كان مستقبله على يفعل، وماضيه على فعل صحت نحو وضؤ يوضؤ؛ وإن كان [ماضيه] على فعل ومستقبله على يفعل صحت نحو ولع يولع، ووجل يوجل. المعتل العين: ما اعتلت عينه - كل واو تكون عيناً للفعل الذي على فعل فإنها تجعل في الماضي ألفاً لفتحه ما قبلها، وتسكن في المستقبل وتصح، نحو: قال يقول، وعال يعول، وكذلك الياء إذا وقعت هذا الموقع نحو: باع يبيع، وكان يكيل، وتسقط الواو في المفعول منه نحو: مقول، ومكيل، والأصل مكيول ومبيوع [ومقوول] وكل واو وياء تحركتا بأي حركة كانت وقبلهما فتحة فإنهما تقلبان ألفاً نحو طال وقام. وإذا اجتمعت الواو والياء وسيقت الأولى منهما بالسكون قلبت الواو

ياء وأدغمت في الأولى. فما سبقت الياء فيه الواو قولهم: سيد وأصله سيود، ومما سبقت فيه الواو الياء قولهم: لويته لياء، وأصله لؤيا؛ وكل واو وياء وقعتا بعد ألف زائدة جاز أن تبدل همزة نحو قائم وهائم، وكل واو انضمت وهي أول الفعل فهمزها جائز نحو أقتت ووقتت، وأجلت ووجلت. وكل واو انكسرت في أول الحرف فهمزتها جائزة نحو وشاح وإشاح، وإكاف ووكاف. ما اعتلت لامه: كل واو ياء في آخر الفعل سكنتا، وانضم ما قبل الواو وانكسر ما قبل الياء صحتا نحو يغزو ويحصى، فإن كانت في الأسماء وانكسر ما قبلها أسكنت في الخفض والرفع، وفتحت في النصب نحو: قاض، ورأيت قاضياً، فإذا أضيف ذلك أو دخلته الألف واللام صحتا؛ وكل واو في آخر الفعل قبلها ضمة، أو ياء قبلها كسرة، فإنهما تسكنان في الرفع، وتفتحان في النصب، وتحذفان في الجزم نحو زيد يغزو، ولم يغز، [وإن يغزو] وإن كانت في آخره ألف ساكنة أقرت على سكونها في الرفع والنصب، وحذفت في الجزم، نحو زيد يخشى ويسعى ولن يسعى ولم يسع. التشبيه: وأما التشبيه فمن أشرف كلام العرب، وفيه تكون الفطنة والبراعة

عندهم، وكلما كان المشبه منهم في تشبيهه ألطف كان بالشعر أرعف، وكلما كان إلى المعنى أسبق كان بالحذق أليق. والتشبيه ينقسم قسمين: تشبيه الأشياء في ظواهرها وألوانها ومقدارها كما شبهوا اللون بالخمر، والقد بالغصن، وكما شبه الله - عز وجل - النساء في ورقة ألوانهن بالياقوت، وفي نقاء أبشارهن بالبيض [قال تعالى: {كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ}] وكما قال الشاعر: (كأن بيض نعام في ملاحفها ... إذا اجتلاهن قيظ ليلة ومد) وقال آخر: (أيا شبه ليلى لا تراعي فإنني ... لك اليوم من بين الوحوش صديق) (فعيناك عيناها وجيدك جيدها ... ولكن عظم الساق منك دقيق) وقال آخر: (وردت اتساقاً والثريا كأنها ... على قمة الرأس ابن ماء محلق) ومنه تشبيه في المعاني كتشبيههم الشجاع بالأسد، والجواد بالبحر، والحسن الوجه بالبدر، وكما شبه الله -عز وجل - أعمال الكافرين في تلاشيها مع ضلالتهم أنها حاصلة لهم بالسراب الذي إذا دخله الظمآن الذي قد وعد

نفسه به لم يجده شيئاً، وكما شبه من لا يقنع بالموعظة بالأصم الذي لا يسمع ما يخاطب به، وشبه من ضل عن طريق الهدى بالأعمى الذي لا يبصر ما بين يديه، وفي هذا النوع من التشبيه قال الشاعر: (فإنك كالليل الذي هو مدركي ... وإن خلت أن المنتأى عنك واسع) وقال غيره: (هو البحر من أي النواحي أتيته ... فلجته المعروف والجود ساحله) (فلو لم يكن في كفه غير نفسه ... لجاد بها فليتق الله سائله) وهذا كثير في القرآن والشعر، وما ذكرنا منه دليل على ما تركنا إن شاء الله. اللحن: وأما اللحن: فهو التعريض بالشيء من غير تصريح، أو الكناية عنه بغيره كما قال الله -عز وجل-: {وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ}، والعرب تفعل ذلك لوجوه [وهي] نستعمله في أوقات ومواطن؛ فمن ذلك ما استعملوه للتعظيم، أو التخفيف، أو للاستحياء، أو للبقيا، أو للإنصاف، أو للاحتراس، فأما ما يستعمل من التعريض

للإعظام، فهو أن يريد [مريد] تعريف ما فوقه قبيحاً إن فعله فيعرض له بذلك من فعل غيره، ويقبح له ما ظهر منه، فيكون قد قبح له ما أنا من غير أن يواجهه به، وفي ذلك يقول الشاعر: (ألا رب من أطنبت في ذم غيره ... لديه على فعل أتاه على عمد) (ليعلم عند الفكر في ذاك أنما ... نصيحته فيما خطبت به تصدى) وأما التعريض للتخفيف: فهو أن يكون لك إلى رجل حاجة فتجيئه مسلماً لا تذكر حاجتك، فيكون ذلك اقتضاء له وتعريضاً بمرادك منه، وفي ذلك يقول الشاعر: (أروح لتسليم عليك وأغتدى ... وحسبك بالتسليم منى تقاضيا) وأما التعريض للاستحياء فكالكتابة عن الحاجة بالنجو والعذرة، والنجو: المكان المرتفع، والعذرات الأفنية، وبالغائط وهو الموضع الواسع، فكنى عن الحاجة بالمواضع التي تقصد لوضعها فيها، وكما كي عن الجماع بالسر، وعن الذكر بالفرج، وإنما الفرج ما بين الرجلين وكما تقول لمن كذب ليس هذا كما يقال. فأما التعريض للبقيا فمثل تعريض الله - عز وجل - بأوصاف المنافقين وإمساكه عن تسميتهم إبقاء عليهم وتألفا لهم، ومثل تعريض الشعراء بالديار والمياه والجبال والأشجار بقياء على ألا فهم وصيانة لأسرارهم، وكتماناً لذكرهم، ومنه قول الشاعر:

(أيا أثلات القاع من بطن توضح ... حنيني إلى أفيائكن طويل) ومنه قول الآخر: (ألا يا سيالات الرحائل باللوى ... عليكن من بين السيال سلام) وهذا باب تكثر [فيه] الشواهد من الشعر وغيره، وقد صرح بعض الشعراء عن المراد سنه فقال: (أدور ولولا أن أرى أم جعفر ... بأبياتكم ما درت حيث أدور) وأما التعريض للأنصاف فكقول الله - عز وجل - {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ}. ومنه قول حسان بن ثابت في مناظرته بعض من هجا رسول الله -صلى اله عليه وسلم-: (أتهجوه ولست له بكفء ... فشر كما لخيركما الفداء) وأما التعريض للاحتراس: فهو ترك مواجهة السفهاء والأنذال بما

يكرهون، وإن كانوا لذلك مستحقين، خوفاً من بوادرهم وتسرعهم، وإدخال ذلك عليهم بالتعريض، والكلام اللين، وفي ذلك يقول الله -عز وجل - {وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} وقال لموسى وهارون في فرعون: {فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى}. الرمز: وأما الرمز: فهو ما أخفى من الكلام، وأصله للصوت الخفي الذي لا يكاد يفهم، وهو الذي عناه الله -عز وجل - بقوله: {قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا} وإنما يستعمل المتكلم الرمز فيما يريد طيه عن كافة الناس، والإفضاء به إلى بعضهم فيجعل الكلمة، أو الحرف اسماً من أسماء الطير أو الوحش، أو سائر الأجناس، أو حرفاً من حروف المعجم، ويطلع على ذلك الموضع من يريد إفهامه رمزه، فيكون ذلك قولاً مفهوماً بينهما مرموزاً من غيرهما، وقد أتى في كتب المتقدمين والحكماء والمتفلسفين من الرموز شيء [كثير]، وكان أشدهم استعمالاً للرمز أفلاطون، وفي القرآن من الرموز أشياء عظيمة القدر، جليلة الخطر، قد تضمنت علم ما يكون في هذا الدين من الملوك والممالك، والفتن والجماعات، ومدد كل صنف من ذلك وانقضائه، ورمزت بحروف المعجم وغيرها من الأقسام

كالتين والزيتون، والفجر والعاديات، والعصر، والشمس، وأطلع على علمها الأئمة المستودعون علم القرآن، ولذلك قال أمير المؤمنين -عليه السلام - "ما من مائة تخرج إلى يوم القيامة إلا وأنا أعلم قائدها وباعثها، وأين مستقرها من جنة أو نار؛ وروى عن ابن عباس -[رضي الله عنه]- أنه سئل عن الم وحسم وطسم، وغير ذلك مما في القرآن من هذه الحروف؛ فقال: ما أنزل الله كتاباً إلا وفيه سر، وهذه أسرار القرآن، وهي حروف الجمل، [ومنها كان علي يعلم حساب الفتن، فهذه الرموز هي أسرار آل محمد، ومن استنبطها من ذوي الأمر وقف عليها، فعلم جليل ما أودعهم اله إياه من الحكمة، وقد ذكرنا مما تأدى إلينا من تفسير ذلك في كتابنا الذي لقبناه بأسرار القرآن" ما أغنى عن إعادته ها هنا، فإن رغبت في النظر فيه فاطلبه تقف عليه إن شاء الله]. الوعي: وأما الوحي فإنه الإبانة عما في النفس بغير المشافهة على ايمعني وقعت من إيماء، وإشارة، ورسالة، وكتابة، ولذلك قال الله - عز وجل -

{وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا} وهو على وجوه كثيرة فمنه الإشارة كما قال الله -عز وجل-: {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا}، ومنه الوحي المسموع من الملك كقول الله عز وجل: {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى} ومنه الوحي في المنام، وهو الرؤيا الصحيحة كما قال الله -سبحانه-: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ} ولذلك قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "للرؤيا الصالحة جزء من سبعين جزءاً من النبوة" ومنه الإلهام كما قال الله -عز وجل-: {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ}، أي ألهمها، ومن الكتاب، ويقال منه: وحيت الكتاب إذا كتبته، قال الشاعر: (ما هيج الشوق من أطلال [دراسة] ... أضحت قفارا كوحي خطه الواحي) ويقال منه: وحيث أحي كما يقال: رفيت أفي. ومن الوحي الإشارة باليد والغمز بالحاجب، والإيماض بالعين كما قال الشاعر: (وتوحى إليه باللحاظ سلامها ... مخافة واش حاضر ورقيب)

وقال آخر: (أشارت بطرف العين خيفة أهلها ... إشارة محزون ولم تتكلم) (فأيقنت أن الطرف قد قال مرحبا ... وأهلاً وسهلاً بالحبيب المسلم) وقال آخر: (أشارت بأطراف كأن بنانها ... أنابيب در قمعت بعقيق) (وقالت: كلاك الله في كل مشهد ... مكانك في قلبي مكان شقيق) (فهذا ما في الوحي والإشارة). الاستعارة: وأما الاستعارة فإنما احتيج إليها في كلام العرب لأن ألفاظهم أكثر من معانيهم، وليس هذا في لسان غير لسانهم، فهم يعبرون عن المعنى الواحد بعبارات كثيرة، وربما كانت مفردة له، وربما كانت مشتركة بينه وبين غيره، وربما استعملوا بعض ذلك في موضع بعض على التوسع والمجاز، فيقول إذا سأل الرجل شيئاً فبخل به عليه: "لقد بخله فلان، وهو لم يسأله ليبخل، إنما سأله ليعطيه، لكن البخل لما ظهر منه عند مسألته إياه جاز في توسعهم ومجاز قولهم أن ينسب ذلك إليه، ومنه قول الشاعر: فللموت ما تلد الوالدة

والوالدة إنما تطلب الولد ليعيش لا ليموت، لكن لما كان مصيره إلى الموت جاز أن يقال: للموت ولدته، ومثله في القرآن: {وَإِذَا قَرَاتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا * وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا}، وذلك لأنهم كانوا عند تلاوة القرآن قد حجبوا قلوبهم عن فهمه، وصدقوا بأسماعهم عن تدبره، فجاز أن يقال على المجاز والاستعارة: إن الذي تلا ذلك عليهم جعلهم كذلك، والدليل على ما قلنا، وأن حقيقة الأمر أنهم هم الفاعلون دون غيرهم، قول الله، - عز وجل - في موضع آخر: {وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا}؛ ومثل الأول قوله: {وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا} لأنه لما غفل عن الذكر كان بمنزلة من غفل عن الكلام فجاز، أن يقال الذي أذكره إنه إغفل قلبه، كما جاز أن يقال الذي يسأل ذلك فيبخل عليه [قد] بخله. ومن الاستعارة ما قدمنا من إنطاق الربع، وكل ما لا ينطق إذا ظهر من حاله ماشا كل النطق. ومما جاء من هذا النوع في القرآن قوله -عز وجل-: {يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلاتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ}

جاز أن تحتمل مزيداً من الكافرين حسن أن يقال: نقول: هل من مزيد؟ وكذلك قوله -عز وجل - {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} وذلك لما كانتا عن إرادته من غير عصيان له ولا استصعاب عليه جاز أن يقال: إنهما قالتا: أتينا طائعين وكذلك قوله -عز وجل-: {فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنقَضَّ فَأَقَامَهُ}، لما كانت الإرادة من أسباب الفعل، وكان وقوع الفعل يتلوها، جاز (لما قد كاد يقع وقرب وقوعه) أن يقال أراد أن يقع، ومثل ذلك قول الشاعر: امتلأ الحوض وقال قطني أي لما كان فيه سعة لغير ما قد وقع فيه من الماء، جاز على الاستعارة أن يقال: حسبي، وهذا شائع في اللغة كثير. الأمثال: وأم الأمثال فإن الحكماء والعلماء والأدباء لم يزالوا يضربون الأمثال، ويبنون للناس تصرف الأحوال بالنظائر والأشكال، ويرون هذا النوع من القول أنجح مطلباً، وأقرب مذهباً، ولذلك قال الله -عز وجل-:

{وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ} وقال: {وَسَكَنتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الأَمْثَالَ}. وإنما فعلت العلماء ذلك لأن الخبر في نفسه إذا كان ممكناً فهو محتاج إلى ما يدل على صحته، والمثل مقرون بالحجة، ألا ترى أن الله -عز وجل - لو قال لعباده: إني لا أشرك أحداً من خلائقي في ملكي لكان ذلك قولاً محتاجاَ إلى أن يدل على العلة فيه، ووجه الحكمة في استعماله فلما قال: {ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنفُسَكُمْ} كانت الحجة من تعارفهم مقرونة بما أراد أن يخبرهم به من أنه لا شريك له في ملكه من خلقه، لأنهم عالمون بأنهم لا يقرون أحداً من عبيدهم على أن يكون فيما ملكوه مثلهم بل يأنفون من ذلك ويدفعونه، فالله -عز وجل - أولى بأن يتعالى عز ذلك. وكذلك جعلت القدماء أكثر آدابها، وما دونته من علومها بالأمثال والقصص عن الأمم، ونطقت ببعضه

على ألسن الطير والوحش، وإنما أرادوا بذلك أن يجعلوا الأخبار مقرونة بذكر عواقبها، والمقدمات مضمومة [إلى] نتائجها، وتصريف القول في ذلك حتى يتبين لسامعيه ما آلت إليه أحوال أهليها عند لزومهم الآداب أو تصنيعهم إياها، ولهذا بعينه قص الله علينا أقاصيص من تقدمنا ممن عصاه، وآثر هواه، فخسر دينه ودنياه، ومن اتبع رضاه، فجعل الخير والحسنى عقباه، وصير الجنة مثواه ومأواه، وقال في ذلك: {وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ}. اللغز: وأما اللغز: فإنه من لغز اليربوع إذا حفر لنفسه مستقيماً ثم أخذ بمنة ويسره ليخفي بذلك على طالبه، وهو قول استعمل فيه اللفظ المتشابه طلباً للمعاياة والمحاجته والفائدة في ذلك في العلوم الدنيوية رياضة الذكر في تصحيح المعاني وإخراجها من المناقضة والفساد إلى معنى الصواب والحق، وقدح الفطنة في ذلك واستنجاد الرأي باستخراجه، وذلك مثل قول الشاعر: (رب ثور رأيت في جحر نمل ... ونهار في ليلة ظلماء)

فالثور هنا القطعة من الأقط، والنهار فرخ الحباري، فإذا استخرج هذا صح المعنى، وإذا حمل على ظاهر لفظه كان محالاً، وكذلك قول الآخر: (فأصبحت والليل مستغلس ... وأصبحت والأرض بحر طمى) فأصبحت: أشعلت المصباح ولو حمل على الصبح لنا في القول ومسد، والفائدة في استعمال ذلك في الدين المعارضة التي ذكرناها وقلنا: إن للإنسان استعمالها عند التقية. حتى يخرج بهذا الكلام عن الكذب باشتراك الاسم ومن هذه الأسماء المشتركة المحنون الذي به الخبل، والمجنون الذي قد جنه الليل، والنبيذ الذي يشرب، والنبيذ؛ الصبي المنوذ، والعلي: المرتفع والعلي: الفرس الشديد؛ والجرح: المصدر من الجراح، والجرح: الكسب، والطعن بالرمح، والطعن في العرض، والبطن: ضد الظهر، والبطن من العرب؛ والفخذ العضو، والفخذ من القبيلة؛ والبعل: الزوج، والبعل: النخل الذي يشرب ماء السماء؛ (واليد الجارحة] واليد النعمة، واليد القدرة وأشباه هذا كثير، وقد جمعه أهل اللغة. وممن جوزه وجمع أكثره ابن دريد في كتاب "الملاحن"، فإن أردته فاطلبه منه إن شاء الله.

الحذف: وأما الحذف: فإن العرب تستعمله للإيجاز والاختصار والاكتفاء بيسير القول إذا كان المخاطب عالماً برمادها فيه، وذلك كقوله عز وجل: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} وسكت عن تمام الكلام لعلم المخاطب به، وكان تقدير ذلك: وإذا قيل لهم اتقوا ما بين أيديكم وما خلفكم استكبروا وعتوا وتمادوا، وكذلك قوله: {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ} حذف ما بعده لعلم المخاطب به، وإن كان تقديره: ولولا فضل الله عليكم ورحمته لعد بكم [بما فعلتم]. من ذلك قول الشاعر: (أجدك [لو] شيء أتانا رسوله ... سواك، ولكن لم نجد لك مدفعاً) أراد لدفعناك، ولكن لم نجدلك مدفعاً، فحذف اكتفاء لعلم المخاطب بما أراده، ومثله قوله: (فلما أجزنا ساحة الحي وانتحى ... بنا بطن حقف ذي قفاف عقنقل)

[وهذا كثير في كلام العرب، وإذا مر بك عرفته إن شاء الله] الصرف: وأما الصرف: فإنهم يصرفون القول من المخاطب إلى الغائب، ومن الواحد إلى الجماعة، كقوله: {حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ}. وكقول الشاعر: (وتلك التي لا وصل إلا وصالها ... ولا صرم إلا ما صرمت يضبر) وقال آخر: (يا لهف نفسي كان جده خالد ... وبياض وجهك للتراب الأعفر) المبالغة: وأما المبالغة: فإن من شأن العرب أن تبالغ في الوصف والذم، كما أن من شأنها أن تختصر وتوجز، وذلك لتوسعها في الكلام واقتدارها عليه، ولكل من ذلك موضع يستعمل فيه، وسيمر بك في مواضعه إذا صرنا إلى ذكره إن شاء الله.

والمبالغة تنقسم قسمين: أحدهما في اللفظ، والآخر في المعنى، فأما المبالغة في اللفظ فتجرى مجرى التأكيد، كقولنا: رأيت زيداً نفسه، وهذا هو الحق بعينه، فتؤكد زيداً بالنفس والحق بالعين، وإن كان قولك: هذا زيد وهذا هو الحق قد أغناك عن ذكر النفس والعين، ولكن ذلك مبالغة في البيان. ومنه قول الشاعر: (ألا حبذا هند، وأرض بها هند ... وهند أتى من دونها النأي والبعد) (فذكر البعد بعد النأي - وهما شيء واحد - تأكيداً ومبالغة). وأما المبالغة في المعنى: فإخراج الشيء أبلغ غايات معانيه، كقوله -عز وجل-: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ} ولربما قالوا بأنه قد أقتر فقتر علينا، فبالغ الله -عز وجل - في تقبيح قولهم وإخراجه على غاية الذم. ومن المبالغة في المعنى قول الشاعر: (وفيهن ملهى للطيف ومنظر ... أنيق لعين الناظر المتوسم) فلم يرض من أن يكون فيهن ملهى، وإن كان ذلك مدحاً لهن حتى قال: اللطيف، لأن اللطيف لا يلهو إلا بفائق، وقال: ومنظر أنبق، وهذا في الوصف

مخبر، فلم يكتف به حتى قال: "لعين الناظر المتوسم"، لأن الناظر إذا كرر نظره وتوسم تبينت له العيوب عند توسمه وتكراره ونظره، ولذلك قال الشاعر: (يزيدك وجهها حسناً ... إذا ما زدتها نظراً) ومن هذا قول الشاعر أيضاً: (فلما صرح الشر ... فأمسى وهو عريان) (مشينا مشية الليث ... غدا والليث غضبان) فلم يرض بتصريح الشر حتى عراه من سائر ما يستره، ولم يرض بمشية الليث حتى جعله غضبان وأشباه هذا كثير في القرآن والشعر. القطع والعطف والتقديم والتأخير: وأما القطع والعطف (والتقديم والتأخير) فو واضح لمن أراد أن يعرفه، وهو في القرآن كثير، ومنه - مما قطع الكلام فيه وأخذ في فن آخر من القول ثم عطف بتمام القول الأول عليه - قوله -عز وجل-: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ} إلى آخر الآية] ومثله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ

وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالأَزْلامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ} ثم قطع وأخذ في كلام آخر فقال: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} ثم رجع إلى الكلام الأول فقال: {فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} ومثل ذلك ما حكاه عن لقمان في وصيته لابنه إذ قال له: {يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} ثم قطع وأخذ في آخر فقال: {وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ} إلى قوله: {فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} ثم رجع إلى تمام القول في وصية لقمان فقال: {يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَوَاتِ أَوْ فِي الأَرْضِ يَاتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ} إلى آخر الآيات. وأما التقديم والتأخير فكقوله -عز وجل-: {وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى} [أراد ولولا كلمة سبقت من ربك وأجل مسمى لكان لزاما].

وكقوله {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ شَيْئًا وَلا يَسْتَطِيعُونَ} أراد ما لا يملك لهم رزقاً من السموات والأرض لا يستطيعون شيئاً وفيما ذكرنا دليل على ما لم نذكره إن شاء الله. الاختراع: وأما الاختراع: فهو ما اخترعت له العرب اسماً فيما لم تكن تعرفه، فمنه ما سموه من عندهم كتسميتهم الباب في المساحة باباً، والجريب جريباً، والعشير عشيراً، ومنه ما عربته وكان أصل اسمه أعجمياً كالقسطاس المأخوذ من لسان الروم، والشطرنج المأخوذ من لسان الفرس والسجيل أيضاً المأخوذ من كلام الفرس، وكل من استخرج علماً، واستنبط شيئاً، وأراد أن يضع له اسماً من عنده، ويواطئ من يخرجه إليه عليه فله أن يفعل ذلك، ومن هذا الجنس اخترع النحويون اسم الحال والزمان والمصدر والتمييز والتبرئة، وأخرج الخليل ألقاب العروض، فسمى بعض ذلك الطويل، وبعضه المديد وبعضه الهزج، وبعضه الزجر وقد ذكر أرسطا طاليس ذلك وقال: إنه مطلق لكل أحد احتاج إلى تسمية شيء ليعرف به أن يسميه بما شاء من الأسماء، وهذا الباب مما يشترك العرب وغيرهم فيه، وليس مما ينفردون به.

باب تأليف العبارة اعلم أن سائر العبارة في لسان العرب إما أن يكون منظوماً أو منثوراً، والمنظوم هو الشعر، والمنثور هو الكلام، فالشعر ينقسم أقساماً: منها القصيد وهي أحسنها وأشبهها بمذاهب الشعراء، ومنها الرجز وهو أخفها؛ والراجز الساقي الذي يسقي الماء، وكان الأصل في الأراجيز أن يجريها الساقي على دلوه إذا أمدها، ثم أحدث الشعراء فيه فلحق بالقصيد ومنها المسمط: وهو أن يأتي الشاعر بخمسة أبيات على قافية، ثم يأتي ببيت على خلاف تلك القافية، ثم يأتي بخمسة أبيات على قافية أخرى، ثم يعود فيأتي على قافية البيت [الأول] وكذلك إلى آخر الشعر. ومنها المزدوج: وهو ما أتى على قافيتين فافيتين إلى آخر القصيد، وأكثر ما يأتي وزنه على وزن الرجز. وفي الشعر والنثر جميعاً نقع البلاغة أو العي، والإيجاز أو الإسهاب، إلا أن البلاغة والإيجاز إذا وقعا في الشعر والقول قضى الشاعر بالفلج، والعي والإسهاب، وإذا وقعا في الشعر والقول كان الشاعر أعذر، وكان العذر عن المتكلم أضيق، وذلك لأن الشعر محصور بالوزن، محصور بالقافية، فالكلام يضيق على صاحبه، والنثر مطلق غير محصور، فهو يتسع لقائله.

فما تساوى القول والشعر فيه من هذا الفن، فحكم الشاعر فيه بالفضل قول بعضهم في بعض كتب الفتوح "فكانت معاقله تعقله، وما يحرزه يبرزه". وقال الشاعر: (وإن يبن حيطاناً عليه فإنما ... أولئك عقلاته لا معاقله) وقيل لبعضهم، وقد أطال الوقوف في الشمس على باب بعض الولاة: (لقد أطلت الوقوف في الشمس) فقال: الظل أريد لا وقال الشاعر: (نقول سليمي لو أقمت سررتنا ... ولم تدر أني للمقام أطوف) وأشباه هذا كثير فأما عذرهم الشاعر في التقصير واغتفارهم [له] العيوب، فقد جوزوا له من قصر الممدود، وحذف الحركة، وتخفيف الهمزة، وصرف ما لا ينصرف، ما لم يجيزه المتكلم، فأجازوا له في الوزن استعمال للزحاف والمخرم في القافية والإكفاء والإقواء

والسناد والإيطاء، والتضمين، وكل ذلك عيوب وهي على من استعمل البديهة وقال الشعر على الهاجس والسجية أقل عيباً منها على من استعمل الروية والتفكير، وكرر النظر والتدبير؛ وقد ذكر الخليل وغيره في أوزان الشعر وقوافيه ما يغني من نظر فيه، ويغنينا عن تكلف شرح ذلك إذ كنا نرى أن تكلف ما قد فرغ منه عناء لا فائدة فيه، إلا أنا نذكر جملة من ذلك في باب استخراج المعمى تدعو الضرورات إلى ذكر ما فيه إن شاء الله. معنى البلاغة: وقد ذكر الناس البلاغة ووصفوها بأوصاف لم تشتمل على حدها، وذكر الجاحظ كثيراً مما وصفت به، وكل وصف منها يقصر عن الإحاطة بحدها؛ وحدها عندنا: "القول المحيط بالمعنى المقصود، مع اختيار الكلام، وحسن النظام، وفصاحة اللسان، وإنما أضيف إلى الإحاطة بالمعنى اختيار الكلام، لأن المامي قد يحيط قوله بمعناه الذي يريده، إلا أنه بكلام مرذول من كلام أمثاله، فلا يكون موصوفاً بالبلاغة، وزدنا فصاحة اللسان لان الأعجمي واللحان قد يبلغات مرادهما بقولهما فلا يكونان موصوفين بالبلاغة، وزدنا حسن النظام لأنه قد يتكلم الفصيح بالكلام الحسن الآتي على المعنى، ولا يحسن ترتيب ألفاظه، ويصير كل واحد

مع ما يشاكله، ولا يقع ذلك موقعه؛ فمما أتى في نهاية النظم قول أمير المؤمنين -عليه السلام - في بعض خطبه: "أين من سعى واجتهد، وجمع وعدد، وزخرف ونجد، وبنى وشيد"؟ فاتبع كل حرف بما هو من جنسه، وما يحسن معه نظمه، ولم يقل: أين من سعى ونجد، وزخرف وشيد، وبنى وعدد؟ ولو قال ذلك لكان كلاماً مفهوماً مستقيما، وكان مع ذلك فاسد النظم، قبيح التأليف. معنى الشعر: والشاعر من شعر يشعر فهو شاعر، والمصدر [الشعر] ولا يستحق الشاعر هذا الاسم حتى يأتي بما لا يشعر به غيره، وإذا كان إنما يستحق اسم الشاعر لما ذكرنا فكل من كان خارجاً عن هذا الوصف فليس بشاعر، وإن أتى بكلام موزون مقفى؛ وقد كره قوم قول الشعر واستماعه، وإنما الشعر كلام موزون، فما جاز في الكلام جاز فيه، وما لم يجز في ذلك لم يجز فيه، وقد سمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم - الشعر واستنشده وأناب عليه، وأنشد في مسجده على منبره، وقال لحسان: "اهج قريشاً ومعك روح القدس" وقال: إن من الشعر لحكماً". ومما احتج به من كرهه ما روى عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من قوله: "لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحاً حتى يريه خير له من أن يمتلئ شعراً"، وما روي

عنه في شأن امرئ القيس وقوله: "ذلك رجل مذكور في الدنيا منسي في الآخرة، ويأتي يوم القيامة ومعه لواء الشعراء حتى يقودهم النار". وهذا القول منه -عليه السلام - خاص في كفار الشعراء، والدليل على ذلك إجماع الأمة على أن حسان بن ثابت، وكعب بن زهير، وغيرهما من شعراء المؤمنين الذين كادوا يناضلون عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم - بأشعارهم، ويجاهدون معه بألسنتهم وأيديهم، خارجون عن جملة من يرد النار مع امرئ القيس، وقد وصف رسول الله -صلى الله عليه وسلم - حسان بن ثابت بذلك فقال: "جاهد معي بيده ولسانه"، وأقعد كعب ابن زهير على منبره فأنشد: (بانت سعاد فقلبي اليوم متبول) حتى إذا بلغ إلى قوله: (إن الرسول لنور يستضاء به ... وصارم من سيوف الله مسلول) أومأ إلى الناس باستماع قوله. وقد قلنا: إن كل مهمل من الأخبار إذا كان في الأمر الممكن فهو خاص، وهذا في الممكن فهو خاص، ويزيد ما قلناه وضوحاً قول الله - عز وجل - {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ* أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ* وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ} ثم بين مراده، وأنه خاص في الكفار منهم ومن تعدى الحق وفسق فقال: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا

وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ} وأما قوله: "لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحاً [حتى يريه] خير من أن يمتلئ شعراً" فإن المعقول من معنى الامتلاء أن يشعل المالئ للشيء جميع أجزائه حتى لا يكون فضل لغيره، وإذا كان هذا هكذا فإنما أراد النبي - صلى الله عليه وسلم - بهذا القول من امتلأ جوفه من الشعر، حتى لا يكون فيه موضع للذكر ولا لحفظ القرآن، ولا لعلم الشرائع والأحكام، والسنة في الحلال والحرام، وهذا ظاهر لمن تدبره، ويزيده وضوحاً ما روى عنه عليه السلام من أنه سمع قوماً يقولون: فلان علامة، فقال: وما هو علامة؟ فقيل: يعلم أيام العرب وأشعارها، وأنسابها ووقائعها فقال: ذلك علم لا ينفع من علمه ولا يضر من جهله، إنما العلم آية محكمة، أو فريضة عادلة أو سنة قائمة، [وما خلاهن فهو فضل] ولم يزل الشعر ديوان العرب في الجاهلية لأنهم كانوا أميين [ولم تكن الكتابة فيهم] إلا أهل الحيرة ومن تعلم منهم، فإنما حفظت مآثرها وأخبر آبائها، وما مضى من أيامها [ومذكور أحسابها] ووقائعها، ومستحسن أفعالها ومكارمها بالشعر، [الذي قيل فيها، ونقلته الرواة عن شعرائها]، ولولا الشعر ما عرف جود حاتم طيء، وكعب بن مامة، وهرم بن ستان، وأولاد جفنة، لكن

الذي قيل فيهم من الشعر أشاد بذكرهم، وبين عن فخرهم؛ فقال الفرزدق في حاتم: (على ساعة لو أن القوم حاتماً ... على جوه ضنت بها نفس حاتم) وقال زهير في هرم: (من يلق يوما على علاته هرما ... يلق السماحة منه والندى خلقا) (لو نال حي من الدنيا بمكرمة ... أفق السماء لنالت كفه الأنقا) وقال آخر: (فما كعب بن ملعة وابن سعدي ... بأجود منك يا عمر الجواد) إلى غير ذلك مما قيد على الأبطال ذكر شجاعتهم، وشهر في الناس ذكرهم، وعرفنا به غناءهم في مواقفهم وآثارهم في وقائعهم، فقال عنترة: (ولقد شفى نفسي وأبرأ سقمها ... قول الفوارس وبك عنتر أقدم) وقال آخر: (وفككنا غل امرئ القيس عنه ... بعد ما طال حبسه والعناء)

وقال آخر: (أليسوا بالألي قسطوا قديماً ... على النعمان وابتدروا السطاعا) (وهم وردوا الكلاب على تميم ... بجيش يبلع الناس ابتلاعا) وقد ذكر أرسطاطاليس الشعر في "كتاب الجدل"، فجعله حجة مقنعة إذا كان قديماً، واحتج في كثير من كتب السياسة بقول أوميروس شاعر اليونانيين؛ وقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم - أحق بالتقدمة وأولى بالأتباع، وقد قال: إن من الشعر لحكما، وروى عن بعض السلف: أعربوا القرآن والتمسوا عربيته في الشعر". وقيل: "حسبك من الأدب أن تروي الشاهد والمثل". وقال معاوية لابنه: "يا بي إرو الشعر، وتخلق به، ولقد هممت يوم صفين بالفرار مرات فما ردفي عن ذلك غلا قول ابن الإطنابة: (أبت لي همتي وأبي علائي ... وكسبي الحمد بالثمن الربيح) (وإجشامي على المكروه نفعي ... وضربي هامة البطل المشيح)

(وقولي كلما جشأت وجاشت ... مكانك تحمدي أو تستريحي) (لأدفع عن مكارم صالحات ... وأحمي بعد [عن] عرض صحيح) وقال عبد الملك بن مروان لمؤدب ولده في وصيته إياه: "وعلمهم الشعر يحمدوا به". وللشعراء فنون من الشعر كثيرة يجمعها في الأصل أصناف أربعة، وهي: المديح، والهجاء، والحكمة، واللهو، ثم يتفرع عن كل صنف من ذلك فنون، فيكون من المديح: المرائي، والافتخار، والشكر، واللطف في المسألة، وغير ذلك مما اشبهه، وقارب معناه معناه؛ ويكون من الهجاء: الذم، والعتب، والاستبطاء، والتأنيب، وما أشبه ذلك وجانسه؛ ويكون من الحكمة: الأمثال، والتزهيد، والمواعظ، وما شاكل ذلك، وكان من نوعه؛ ويكون من اللهو: الغزل، والطرد، وصفة الخمر والمجون، وما أشبه ذلك [وقاربه]. فما أجمعوا على استحسانه من المديح قوله:

(على مكثريهم حق من يعتريهم ... وعند المقلين السماحة والبذل) وقول الآخر: (يجود بالنفس إن ضمن الجواد بها ... والجود بالنفس أقصى غاية الجود) ومن المرائي قول الخنساء: (ولولا كثرة الباكين حولي ... على إخوانهم لقلت نفسي) (وما يبكون مثل أخي وسكن ... أعزى النفس عنه بالتأسي) وفي الشكر قوله: (لأشكرنك معروفا هممت به ... إن اهتمامك بالمعروف معروف) (فلا ألومك إن لم يمضه قدر ... فالشيء بالقدر المحتوم مصروف) وفي الافتخار قوله: (أخذنا بآفاق السماء عليكم ... لنا قمراها والنجوم الطوالع) وفي الهجاء قوله: (فغض الطرف إنك من نمير ... فلا كسبا بلغت ولا كلابا)

وفي الاستبطاء قوله: (كلانا غني عن أخيه حياته ... ونحن إذا متنا اشد تفانيا) وفي الحكمة قوله: (ستبدى لك الأيام ما كنت جاهلا ... ويأتيك بالأخبار من لم تزود) وفي الزهد قوله: (إذا امتحن الدنيا لبيب تكشفت ... له عن عدو في ثياب صديق) وفي الوعظ قوله: (وما الناس إلا هالك وابن هالك ... وذو نسب في الهالكين عريق) وفي اللهو والمبادرة به قوله: (كم من مؤخر لذة قد أمكنت ... لغد وليس له غد بموات) وفي الغزل قوله: (وما ذرفت عيناك إلا لتضر بي ... بسهميك في أعشار قلب مقتل) وفي الطرد قوله: (فعادى عداء بين ثور ونعجة ... داركاً ولم ينضج بماء فيغل) وفي الخمر قوله: (لا يسكن الليل حيث حلت ... فدهر شرابها نهار)

ما يحتاج إليه الشاعر: ويحتاج الشاعر إلى تعلم العروض، ليكون معياراً له على قوله، وميزاناً على ظنه؛ والنحو ليصلح به من لسانه، ويقيم به إعرابه، والنسب وأيام الناس، ليستعين بذلك على معرفة المناقب والمثالب، فيذكرهما فيمن قصده بمدح أو ذم، وأن يروى الشعر ليعرف مسالك الشعراء ومذاهبهم وتصرفهم فيحتذي مناهجهم، ويسلك سبيلهم، فإذا لم يجتمع له هذا فليس ينبغي أن يتعرض لقول الشعر، فإنه ما أقام على الإمساك معذور، فمتى تعرض لما يظهر فيه عيبه وخطؤه كان مذموماً، وقد قال الشاعر: (الشعر صعب وطويل سلمه ... إذا ارتقى في الذي لا يعلمه) (زلت به إلى الحضيض قدمه ... يريد أن يعربه فيعجمه) [فإذا كملت هذه الأدوات ورأى من طبعه] انقياداً لقول الشعر وسماحة به قاله وتكلفه، وإلا لم يكره عليه نفسه، فالقليل مما تسمح به النفس، ويأتي به الطبع خير من الكثير [الذي] يحمل فيه عليها، وإن أعين مع هذا بأن يكون في شرف من قومه، ومحل من أهل

دهره، كان قليل ما يأتي به من الصواب كثيراً، وكثيره جليلاً خطيراً، ولذلك قال الشاعر: (وخير الشعر أكرمه رجالا ... وشر الشعر ما قال العبيد) وقال على بن الجهم في قريب من هذا المعنى: (وما أنا ممن سار بالشعر ذكره ... ولكن أشعاري يسير بها ذكري) (ولا كل من قاد الجياد يسوقها ... ولا كل من أجرى يقال له مجرى) والذي يسمى به الشعر فائقاً، ويكون إذا اجتمع فيه مستحسناً رائقاً: صحة المقابلة، وحسن النظم، وجزالة اللفظ، واعتدال الوزن، وإصابة التشبيه، وجودة التفصيل، وقلة التكليف، والمشاكلة في المطابقة، وأضداد هذه كلها معيبة تمجها الآذان، وتخرج عن وصف البيان. فأما صحة المقابلة فمثل قول الشاع: (أميل مع الذمام على ابن أمي ... وأحمل الصديق على الشقيق) (وأفرق بين معروفي ومني ... وأجمع بين مالي والحقوق)

فأحسن القسمة في المقابلة، ومال مع ما ينبغي أن بمال معه، وحمل على ما يحسن الحمل عليه، وفرق بين ما ينبغي أن يفرقه، وجمع بين ما ينبغي أن يجمعه وأساء الآخر المقابلة حيث يقول: (أموت إذا ما صد عني بوجهه ... ويفرح قلبي حين برجع الموصل) فجعل حذا الموت فرح القلب، وحذاء الصد بوجهه الوصل وهذه مقابلة قبيحة، ولو قال: (أموت إذا ما صد عني بوجهه ... وأحيا إذا مل الصدود وأقبلا) فجعل حذاء الموت الحياة، وحذاء الصد بالوجه الإقبال، لكان مصيباً. وأما حسن النظم فكقوله: (متاركة اللثيم بلا جواب ... أشد على اللثيم من الجواب) وكقوله: (يا أيها المتحلي غير شيمته ... إن التخلق يأتي دونه الخلق) فهذا نظم حسن جميل، له رونق غير محيل، فاما [قول الشاعر]:

(أم سلام أثيبي عاشقاً ... يعم الله يقينا ربه) (إنكم في عينه من عيشة ... فاعلميه يا سليمي حسبه) قبيح النظم بادي العوار، ظاهر الاضطراب، مختلف غير مؤتلف. وأما جزالة اللفظ فكقوله: (وعلى عدوك يا ابن عم محمد ... رصدان ضوء الشمس والإظلام) (فإذا تنبه رعته وإذا غفا ... سلت عليه سيوفك الأحلام) فأما سخافة اللفظ، وركاكته فمثل قول الآخر: (أيا عتب سيدني أمالك دين ... حتى متى قلبي لديك رهين) (فأنا الصبور لكل ما حملتني ... وأنا الشقي البائس المسكين) وأما اعتدال الوزن فكقوله: (إنما الذلفاء همي ... فليدعني من يلوم) (أحسن الناس جميعاً ... حين تمشي أو تقوم) (أصل الحل لترضى ... وهي للجبل صروم) فهذا الشعر ليس فيه معنى فائق، ولا مثل سابق، ولا تشبيه مستحسن،

ولا غزل مستطرف، إلا أن الاعتدال قد كساه جمالاً، وصير له في القلوب جلالاً؛ فإذا جئت إلى قول امرئ القيس: (وتعرف فيه من أبيه شمائلا ... ومن خاله، ومن يزيد ومن حجر) (سماحة ذا، وبر ذا ووفاء دا ... وفائل ذا إذا صحا وإذا سكر) وجدته قد أتى من الوصف بما لم يأت به أحد، ومدح أربعة في بيت، وجمع لو أحد فضائل الأربعة في بيت آخر، وجعل ما مدحه به سجية له: في صحوة وفي سكره، ففاق في هذه الأحوال كل شاعر، إلا أن اضطراب وزنه، وكثرة الزحاف فيه، قد بهر جاء، وعن حد القبول قد أخرجاه. وأما الإصابة في التشبيه فكقول الشاعر: (فإنك كالليل الذي هو مدركي ... وإن خلت أن المنتاى عنك واسع) وكقول الآخر: (كأن مثار النقع فوق رؤسهم ... وأسيافنا ليل تهاوت كواكبه) ومما سلك شاعره فيه سبيل التشبيه فأساء ولم يحسن، قوله: (خطاطيف حجن في حبال متينة ... نمد بها أيد إليك نوازع)

وكقول الآخر: (ألا إنما ليلى عصا خيزرانة ... إذا لمسوها بالأكف تلين) وأما سهولة القول، وقلة التكلف فكقول الشاعر: (خير المذاهب في الحاجات أنجحها ... وأضيق الأمر أدناه من المرج) فهذا اللفظ سهل قريب، قد جرى صاحبه فيه على سجيته وعادته، فإذا جئت إلى قول الآخر: (وما مثله في الناس إلا مملكا ... أبو أمه حي أبوه يقاربه) وجدته قد تكلف تكلفا غير خفي على سامعه، فالقلوب له آبية والآذان عنه نابية. وأما جودة التفصيل فكقوله: (بيض مفارقنا، تغلي مراجلنا ... نأسو بأموالنا آثار أيديقا) وكقول الآخر: (بيضاء في دعج، صفراء في نعج ... كأنها فضة قد مسها ذهب) وأما المطابقة والمشاكلة فكقول الشاعر: (نعرض الطعان إذا التقينا ... وجوها لا تعرض للسباب)

وقول الآخر (في أحمد بن الخطيب): (سموه أحمد فالإسلام يحمده ... والدهر كاسم أبيه ممرع خصب) ومما ينبغي للشاعر أن يلزمه فيما يقوله من الشعر ألا يخرج في وصف أحد ممن يرغب إلي أو يرهب منه، أو يهجوه أو يمدحه أو يغازله [أو يهازله] عن المعنى الذي يليق به ويشاكله، فلا يمدح الكاتب بالشجاعة، ولا الفقيه بالكتابة، ولا الأمير بغير حسن السياسة، ولا يخاطب النساء بغير مخاطبتهن، ولكن يمدح كل أحد بصناعته، وبما فيه من فضيلته، ويهجوه برذيلته، ومذموم خليقته، ويغازل النساء بما يحسن من وصفهن، ومداعبتهن، والشكوى إليهن، فإن في مفارقته هذه السبيل التي نهجناها، وسلوكه غير هذه الطريق وضعا الأشياء في غير مواضعها، [وإذا وضعت الأشياء في غير مواضعها] قصرت عن بلوغ أقصى مواقعها، ولذلك قال الأمين لأبي نواس إذا قلت في الخصيب: (إذا لم تزر أرض الخصيب وكابنا ... فأي فتى بعد الخصيب تزور) فماذا أبقيت لي؟ قال: قولي يا أمير المؤمنين: (إذا نحن أثنينا عليك بصالح ... فأنت كما تثني وفوق الذي تثني) (وإن جرت الألفاظ يوماً بمدحة ... لغيرك إنساناً فأنت الذي تعني) ولقد لعمر - أحسن الأمير السؤال ووضعه موضعه، وأحسن أبو نواس الاعتذار وتلافي ما فرط منه.

ومما وضع [في] غير موضعه فعيب، وإن كان في معناه جيداً قوله: فقلت لها يا عز كل مصيبة ... وإذا وطنت يوماً لها النفس ذلت فقالوا: لو قال هذا في الزهد كان من أشعر القول: وكذلك قول الآخر: (يمشين رهواً فلا الأعجاز خاذلة ... ولا الصدور على الأعجاز تتكل) فقالوا: لو وصف بهذا النساء لكان من أحسن الوصف، وأغزل الشعر. ومما ينبغي له أيضاً أن يجتهد فيه: أن يكون معنى كل بيت ولفظه متساويين حتى يتم المعنى بتمام اللفظ، كما قال الشاعر: (ولا يواتيك فيما ناب من خلق ... إلا أخو ثقة فانظر بمن نثق) فهذا بيت قد تم معناه بتمام لفظه من غير حشو، وكذلك قوله: (وقف الهوى بي حيث أنت فليس لي ... متأخر عنه ولا متقدم) (أجد الملامة في هواك لذيذة ... كلفاً بذكرك فليلمني اللوم) فأما إذا تم المعنى قبل تمام البيت، فالشاعر حينئذ محتاج إلى حشو البيت بما لا فائدة فيه من اللفظ، وذلك مثل قول الشاعر: (وقد أروح إلى الحانوت يتبعني ... شاو مثل شلول شلشل شول)

وإن تم لفظ البيت قبل أن يتم معناه احتاج إلى أن يضمن البيت الثاني تمام المعنى كما قال الشاعر: (وجناح مقصوص نحيف ريشه ... ريب الزمان تحيف المقراض) فهذا لا يقوم بنفسه، ولا يبين عن معنى ما أريد به حتى يأتي معناه في البيت الثاني وهو: (فنعشته ووصلت ريش جناحه ... وجبرته يا جابر المنهاض) وجميعاً معيبان، فينبغي أن يجنبهما ما وجد السبيل إلى ذلك. واعلم أن الشاعر إذا أتى بالمعنى الذي يريده، أو المعنيين في بيت واحد كان في ذلك أشعر منه إذا أتى بذلك في بيتين، وكذلك إذا أتى شاعران بذلك، فالذي يجمع المعنيين في بيت أشعر من الذي يجمعهما في بيتين، ولذلك فضل قول امرئ القيس: (كأن قلوب الطير رطباً ويابساً ... لدى وكرها العناب والحشف البالي) على قوله: (كأن عيون الوحش حول خبائنا ... وأرحلنا الجزع الذي لم يثقب) لأنه جمع في البيت الأول وصف شيئين [لشيئين]، وإنما وصف في هذا شيئاً بشيء. وللشاعر أن يقتصد في الوصف أو التشبيه أو المدح أو الذم، وله أن يبالغ، وله أن يسرف حتى يناسب قوله المحال ويضاهيه، وليس المستحسن السرف والكذب والإحالة في شيء من فنون القول إلا في الشعر.

وقد ذكر أرسطاطاليس الشعر فوصفه بأن الكذب فيه أكثر من الصدق، وذكر أن ذلك جائز في الصياغة الشعرية، فمما اقتصد الشاعر فيه قوله: (يخزك من شهد الوقيعة أنني ... أغشى الوعي وأعف عند المغنم) ومما بالغ فيه قوله: (يطعنهم ما ارتموا حق إذا طعنوا ... ضارب حتى إذا ما ضربوا اعتنقا) فجعل له غايتهم في كل من الأحوال مع البسلة والشجاعة فضلاً ومبالغة، ومما أصرف فيه الشاعر حتى أخرجه إلى الكذب والمحال، وهو مع ذلك مستحسن [قوله]: (وثفت بحبل من حبال محمد ... أمنت به من طارق الحدثان) (فلو تسأل الأيام ما اسمي مادرت ... وأين مكاني ما عرفن مكاني؟ ! ) (تغطيت من دهري بظل جفاحه .. فعيني ترى دهري وليس يراني) ومما يزيد في حسن الشعر، ويمكن له حلاوة في الصدر: حسن الإنشاد وحلاوة النغمة، وأن يكون الشاعر قد عمد إلى معاني شعره فجعلها فيما يشا كلها من اللفظ فلا يكسو المعاني الجدية ألفاظاً عزليةفيسخفها، ولا يكسو المعاني الهزلية ألفاظاً جدية فيستوخمها سامعها، ولكن يعطي كل شيء من ذلك حقه، ويضعه موضعه، ويتمثل في ذلك ما وصف به الشاعر بعض الحذاق بترتيب الكلام فقال: (أخو الجد إن جاددت أرضاك جده ... وذو باطل إن شئت أرضاك باطله) وألا يجعل شعره كله جداً فيشتقل، إذ كانت النفوس ربما ملت الحق فاستثقلته

واحتاجت إلى أن تمتري نشاطها وتبقى جمامها بشيء من الهزل، وألا يجعل شعره كله هزلاً فيكسد عند ذوي العقول، ولكن يخلط جداً بهزل، ويستعمل كلاً في موضعه وعند أهله، ومن ينفق عليه. وممن عرف هذا المعنى في الشعر فأخذ فيه، وابر فيما أتى منه على من تقدمه (بيتاً) من يقول: (أنت أمرؤ أوليتني نعماً ... أوهت قوى شكري فقد ضعفا) (لا تحدثن إلى عارفة ... متى أقوم بشكر ما سلفا) ويقول: (تنازع الأحمدان الشبه فاشتبها ... خلقا وخلقا كما قد الشر أكان) (شبهان لا فرق في المعقول بينهما ... معناهما واحد والعدة اثنان) حتى يقول: (عتقت في الدن حتى ... هي في رقة ديني) وبقول: (اطلبي لي مواجرا ... واذهبي أنت قحبي) (لست ما عشت مدخلا ... أصبعي حجر عقرب) فاجبتباه العلماء لما جد فيه، قال أبو عبيدة أو غيره لولا ما أخذ فيه

أبو نواس من الآفات لاحتجنا بشعره. واجتباه الخلفاه وأهل المجانة لما هزل فيه. فأما وضع المعاني مواضعها التي تليق بها فكقول امرئ القيس؛ في عنفوان أمره وجدة ملكه: (فلو أن ما أسعى لأدنى معيشة ... كفاني ولم أطلب قليل من المال) (ولكنما أسعى لمجد مؤثل ... وقد يدرك المجد المؤثل أمثالي) فوضع طلب الرفعة وسمو المنزل موضعه إذ كان ملكاً، لأن ذلك يليق بالملوك، ثم وضع القناعة في موضعها لما زال عنه ملكه فصار كواحد من رعيته، لأن ذلك أولى بمن هذه منزلته فقال: (إذا ما لم تكن إبل فمعزي ... كأن قرون جلتها عصى) (إذا ما قام حلبها أرنت ... كأن الحي بينهم نعي) (فتملأ بيتنا اقطا وسمناه ... وحسبك من غني شبع وري) ويتبع لمن كان قوله للشعر تكسبا لا تأدبا أن يحمل إلى كل سوق ما ينفق فيها، ويخاطب كل مقصود بالشعر على مقدار فهمه، فإنما ربما قيل الشعر الجيد فيمن لا يفهمه فلا يحسن موقعه منه، وربما قيل الشعر الداعر لهذه الطبقة فكثرت فائدة قائله لفهمهم إياه، ولهذا المعنى قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حديث يرويه عنه الشيعة: إنا أمرنا - معاشر الأنبياء - أن نكلم الناس على مقادير عقولهم, وقال الشاعر:

(وأنزلني طول النوى دار غربة ... إذا شئت لاقيت الذي لا أشاكله) (فجاهلته حتى يقال سجية ... ولو كان ذا عقل لكنت أعاقله) فهذا ما حضرنا في أقسام الشعر المنظوم وهو مقنع إن شاء الله النثر: فأما المنثور فليس يخلو من أن يكون خطابة، أو ترسلا، أو احتجاجاً، أو حديثاً، ولكل واحد من هذه الوجوه موضع يستعمل فيه. فالخطب تستعمل في إصلاح ذات البين، وإطفاء نار الحرب، وحمالة الدماء، والتشييد للملك، والتأكيد للعهد، وفي عقد الإملاك، وفي الدعاء إلى الله - عز وجل -، وفي الإشادة بالمناقب، ولكل ما أريد ذكره ونشره وشهرته في الناس. والترسل في أنواع من هذا، وفي الاحتجاج على من زاغ من أهل الأطراف، وذكر الفتوح، وفي الاعتذارات والمعاتبات، وغير ذلك مما يجري في الرسائل والمكاتبات. والبلاغة في الجميع واحدة، والعي فيه قريب من قريب؛ إلا أن الخطابة لما كانت مسموعة من قائلها، ومأخوذة من لفظ مؤلفها، وكان الناس جميعاً يرمقونه ويتصفحون وجهه، كان الخطأ فيها غير مأمون، والحصر عند القيام بها مخوفاً محذوراً.

فأما الرسائل فالإنسان في فسحة من تمكينها، وتكرر النظر فيها، وإصلاح خلل إن وقع في شيء منها، ثم هي نافذة على يد الرسول، أو في طي الكتاب، فقد كفى صاحبها المقام الذي ذكرناه، والخطر الذي وصناه، فلهذا صار الخطيب إذا ساوى المترسل في البلاغة كان له الفضل عليه، كما كان الفضل الشاعر إذا ساوي المتكلم في تجويد المعاني، وبلاغة اللسان، وقد كان الفضل للشاعر إذا ساوى المتكلم في تجويد المعاني، وبلاغة اللسان، وقد قال عبد الله بن الأهتم: إني لست أعجب من رجل تكلم بين قوم فأخطأ في كلامه، أو قصر عن حجته، لأن ذا الحجا قد تناله الخجلة، ويدركه الحصرن ويعزب عليه القول، ولكن العجب ممن أخذ دواة وقرطاساً، وخلا بفكره وعقله، كيف يعزب عنه باب من أبواب الكلام يريده، أو وجه من وجوه المطالب يؤمه؟ ! وقد ذكرنا المطالب التي يصير بها الشعر حسناً، وبالجودة موصوفاً، والمعاني التي يصير بها قبيحاً مرذولاً. وقلنا: إن الشعر كلام مؤلف، فما حسن منه فهو في الكلام حسن، وما قبح منه فهو في الكلام قبيح، وكل ما ذكرناه هناك من أوصاف جيد الشعر فاستعمله في الخطابة والترسل، وكل ما قلناه من معاتبة فتجنبه ها هنا. ثم إنه يخص الخطابة والترسل أشياء نحن نذكرها، ونبتدئ باستقامة الخطابة والترسل من اللغة فنقول: إن الخطابة مأخوذة من خطبت أخطب خطابة: كما يقال؛ كتببت أكتب كتابة، واشتق ذلك من الخطب وهو الأمر الجليل، لأنه إنما يقال بالخطب في الأمور التي تجل وتعظم، والاسم منها خاطب مثل راحم، فإذا جعل وصفا لازماً قيل خطيب كما قيل في راحم رحيم، وجعل رحيم أبلغ في

الوصف، وأبين في الرحمة، وكذلك لا يسمى خطيباً إلا من غلب ذلك على وصفه، وصار صناعة له. والخطبة الواحدة من المصدر كالقومة من القيام، والضربة من الضرب [والخطبة الكلام المخطوب به]، فإذا جمعتها قلت خطب مثل جمعة [وجمع] والخطبة اسم المخطوبة، وجمعها خطب مثل كسرة وكسر فأما المخاطبة فيقال منها: خاطبت أخاطب مخاطبة، والاسم الخطاب، مثل قاتلته أقاتله مقاتلة، والاسم القتال. والترسل من ترسلت أنرسل ترسلا، وأنا مترسل، كما يقال: توقفت بهم أتوقف توقفا وأنا متوقف، ولا يقال ذلك إلا فيمن تكرر فعله في الرسائل، كما لا يقال تكسر إلا فيمن تردد عليه اسم الفعل في الكسر. ويقال لمن فعل ذلك مرة واحدة أرسل يرسل إرسالا وهو مرسل، والاسم الرسالة، أو راسل يراسل مراسلة وهو مراسل، وذلك إذا كان هو ومن يراسله قد اشتركا في المراسلة؛ وأصل الاشتقاق في ذلك أنه كلام يراسل به من بعيد فاشتق له اسم الترسل، والرسالة من ذلك. والخطابة والخطاب اشتقا من الخطب والمخاطبة لأنهما

مسموعان، فمن أوصاف الخطابة أن تفتتح [الخطبة] بالتحميد والتمجيد، وتوشح بالقرآن وبالسائر من الأمثال، فإن ذلك مما يزين الخطب عند مستمعيها وتعظم به الفائدة فيها، ولذلك كانوا يسمون كل خطبة لا يذكر الله -عز وجل - في اولها البتراء؛ وكل خطبة لا توشح بالقرآن ولا بالأمثال الشوهاء. ولا يتمثل في الخطب الطوال التي يقام بها في المحافل بشيء من الشعر، فإن أحب أن يستعمل [ذلك] في الخطب القصار وفي المواعظ والرسائل فليفعل، إلا أن تكون الرسالة إلى خليفة فإن محله يرتفع عن التمثل بالشعر في كتاب إليه، ولا باس بذلك في غيرها من الرسائل، وأن يكون الخطيب أو المترسل عارفاً بمواقع القول وأوقاته واحتمال المخاطبين له، فلا يستعمل الإيجاز في موضع الإطالة فيقصر عن بلوغ الإرادة، ولا الإطالة في موضع الإيجاز فيتجاوز في مقدار الحاجة إلى الإضجار والملالة، ولا يستعمل ألفاظ الخاصة في مخاطبة العامة، ولا كلام الملوك مع السوقة، بل يعطي كل قوم من القول بمقدارهم، ويزنهم بوزنهم، فقد قيل: "لكل مقام مقال". وإذا رأى من القوم إقبالاً عليه، وإنصاتاً لقوله فأحب أن يزيدهم زادهم على مقدار احتمالهم ونشاطهم، وإذا تبين منه إعراضاً عنه وتثاقلاً عن استماع قوله خفف عنهم، فقد قيل: من لم ينشط لكلامك فارفع عنه مثوبة الاستماع منك. وليس يكون الخطيب موصوفاً بالبلاغة

ولا منعوتاً بالخطابة إلا بوضع هذه الأشياء موضعها، وأن يكون على الإيجاز -إذا شرع فيه - نادراً، وبالإطالة -إذا احتاج إليها - ماهراً، فقد وصف بعضهم بالبلاغة بما قلناه، وقد سئل عنها: هي الاكتفاء في مقامات الإيجاز بالإشارة، والاقتدار في مواطن الإطالة على الغزارة، وقال الشاعر في هذا المعنى: (يرمون بالخطب الطوال وتارة ... وحي الملاحظ خيفة الرقباء) وقال جعفر بن يحيى: "إذا كان الإكثار أبلغ، كان الإيجاز تقصيراً، وإذا كان الإيجاز كافياً كان الإكثار هذراً"، فين ما يحمد من الإيجاز وما يحتاج إليه من الإكثار. فأما المواضع التي ينبغي أن يستعمل كل واحد منهما فيه، فإن الإيجاز ينبغي أن يستعمل في مخاطبة الخاصة، وذوي الإفهام الثاقبة الذين يجتزئون بيسير القول من كثيره، وبمجمله عن تفسيره، وفي المواعظ والسنن والوصايا التي يراد حفظها ونقلها، ولذلك لا ترى في الحديث عن الرسول -عليه السلام - والأئمة -عليهم السلام - شيئاً يطول، وإنما يأتي على غاية الاختصار والاقتصار، وفي الجوامع التي تعرض على الرؤساء فيقفون على معانيها، ولا يشغلون بالإكثار فيها. وأما الإطالة ففي مخاطبة العوام، ومن ليس من ذوي الإفهام، ومن لا يكتفي من القول بيسيره، ولا يتفتق ذهنه إلا بتكريره، وإيضاح تفسيره، ولهذا استعمل الله -عز وجل - في مواضع من كتابه

تكرير القصص، وتصريف القول ليفهم من يبعد فهمه، ويعلم من قصر علمه، واستعمل في مواضع أخر الإيجاز والاختصار لذوي العقول والأبصار، فما روي من الخطب القصيرة، والرسائل الموجزة والألفاظ المختصرة وما نحن ذاكرو بعضه ليدل على سائره. فمن ذلك خطبة تروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وهي أن قال بعد حمد الله والثناء عليه: "أيها الناس، كأن الموت في الدنيا على غيرنا كتب، وكأن الحق بها على غينا وجب، وكأن الذي يشبع من الأموات سفر عما قليل إلينا راجعون، بنوئهم أجداثهم، ونأكل تراثهم، كأنا مخلدون بعدهم، قد نسينا كل واعظة، وأمناً كل جائحة، طوبى لمن شغله عيبه من عيوب الناس، وأنفق من مال اكتسبه من غير معصية، وجالس اهل الذلة والمسكنة، وخالط أهل الفقه والحكمة، طوبى لمن أذل نفسه، وحسنت خليفته، وصحت سريرته، وعزل -عن الناس شره، وأنفق الفضل من ماله، وأمسك الفضل من قوله، ووسعته السنة، ولم يعدها إلى البدعة". خطبة أخرى له -عليه السلام - حمد الله وأثنى عليه ثم قال: "أيها الناس إن لكم معالم فانتهوا إلى معالمكم، وإن لكم نهاية فقفوا عند نهايتكم، إن المؤمن بين غايتين: بين أجل قد قضى لا يدري ما الله صانع فيه، وبين أجل قد بقى ما يدري ما الله قاض فيه، فليأخذ

[كل] امرئ من نفسه لنفسه، ومن دنياه لآخرته، ومن الشبيبة قبل الكبر، ومن الحياة قبل الممات، فو الذي نفس محمد بيده ما بعد الموت من مستعتب، وما بعد الدنيا من دار إلا الجنة أو النار". خطبة قس بن ساعدة التي رواها عنه النبي -صلى الله عليه وسلم - ذكر [النبي]-صلى الله عليه وسلم - أنه رآه بسوق عكاظ على جمل أحمر، وهو يقول: "أيها الناس اجتمعوا، ثم اسمعوا وعوا، من عاش مات، ومن مات قات، وكل ما هو آت آت. يا معشر إياد أين ثمود وعاد؟ ! وأين الآباء والأجداد؟ ! وأين المعروف الذي لم يشكر؟ ! وأين الظلم الذي لم ينكر؟ ! ، أقسم قس قسماً [حقاً] أن لله ديناً هو أرضى عنده من دينكم. ثم أنشد شعراً فهل فيكم من يحفظه، فقال بعضهم هو أبو بكر - رضوان الله عليه - أنا أحفظه، فقال: هاته فأنشد: (في الذاهبين الأواليـ .... ن من القرون لنا بصائر) (لما رأيت موارداً ... للموت ليس لها مصادر) (ورأيت قومي نحوها ... يمضي الأكابر فالأكابر) (لا يرجع الماضي ولا ... يبقى من الباقين غابر) (أيقنت أني لا محا ... لة حيث صار القوم صائر)

ومن كلام أمير المؤمنين - عليه السلام - في الحكمة، وألفاظه القصار المتخبة. "المره مخبوه تحت لسانه، قيمة كل امرئ ما يحسن، اعرف الحق تعرف أهله. العلم ضالة المؤمن، أغنى الناس العقل وأفقر الناس الحمق، والدنيا دار ممر إلى دار مقر، والناس فيها رجلان: رجل ابتاع نفسه فأعتقها، ورجل باع نفسه فأوبقها، إذا قدرت على عدوك فاجعل الصفح عنه شكراً للقدرة عليه. والصبر مطية لا تكبو، وسيف لا ينبو. عمرت البلاد بحب الأوطان. كفران النعمة لؤم. وصحبة الأحمق شؤم، إتباع الهوى يصد عن الهدى، الحجر الغصب في الدار رهن بخرابها. ما ظفر من ظفر الاثم به. الغالب بالشر مغلوب". ومن كلام غيره - عليه السلام -[من الظفر] تعجيل اليأس من الممتنع، من لم يعرف شر ما يولي لم يعرف خبر ما يعلي، الكريم للكريم محل، الموت في قوة وعزة خير من الحياة في ذل وعجز، لا زوال للنعمة مع الشكر، ولإبقاء لها مع الكفر، شفيع المذنب إقراره، وتوبته اعتذاره، عجب الرجل بنفسه أحد حساد عقله، لمنع الناس من عرضك بما ينكرونه من فعلك، من أمل أحد أهابه، ومن قصر عن شيء عابه، جهل المرء بقدر إهلاك منه لنفسه، الصبر حيلة من لا حيلة له، حسبك من شر سماعه، استر عورة أخيك لما يعرفه فيك، من خف على عدون ثقل على صديقه، من أسرع إلى الناس بما يكرهون رموه بما يعلمون".

وهذا كثير يطول به الكتاب، وإنما ذكرنا منه بعضه لتستدل به على سائره إن شاء الله. ومن الرسائل القصيرة الآتية على المعاني الكبيرة رسالة النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى مسيلمة لما كتب إليه: "من مسيلمة رسول الله إلى محمد رسول الله: أما بعد فإن الله عز وجل قسم الأرض بيننا، ولكن قريش قوم غدر" فكتب إليه: "من محمد رسول الله إلى مسيلمة الكذاب: أما بعد، فإن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين". ورسالة يزيد بن الوليد إلى مروان بن محمد، وقد بلغه عنه بعض التحبس عن بيعته، فكتب إليه: "من عبد الله أمير المؤمنين يزيد بن الوليد إلى مروان بن محمد، فإني أراك تقدم رجلاً وتؤخر أخرى، فإذا أتاك كتابي هذا فاعتمد علي أيهما شئت والسلام". فصل الحسن بن وهب، "فأسأل الله أن يبلغني أملي فيك، فإنها دعوة على قصرها طويلة". ولسليمان بن وهب "إن الدولة إذا أقبلت أكثرت العدد، وإذا أدبرت

أكثرت العدد وأقلت العدد". ولأحمد بن سليمان: "والنعم ثلاث: مقيمة، ومتوقعة، وغير محتسبة، فحرس الله لك مقيمها، وبلغك متوقعها، وآتاك ما لم تحتسب منها". وله أيضاً: "واعلم أن الحق لمن أصابه لا لمن أخطأه وقد أراده". ولمحمد بن عبد الملك: "ولو لم يكن من فضل الشكر إلا أنه لا يسري إلا بين نعمة مقصورة عليه، أو زيادة منتظرة به". ولأبي الربيع إلى يحيى بن خالد في اختيار العمال: "وليس لك أن تقول لربك: لم أجد وأنت لم تجتهد". ولابن مكرم: " (وأسألك عفو إمكانك في حاجتي)، وأضمن لك جهدي في شكرك". وفصل في تعزية: "وخير حواشي نعمتك ما فقد فوقاك، أو بقي فسلاك". [وفصل آخر: "والناس متقاربون حتى يحدث] غني موسع،

أو فقر مدقع، أو شكر سلطان)، أو نبوة زمان، أو خوف يتصل به خور، أو أمن يدعو إلى بطر". آخر في فصل من كتاب: "ومن أسكد الزمان أنني ما عاشرت أحداً إلا أنزلتني عشرته بين صبر على أذى، أو فراق على قلي". آخر: "والاعتذار منك تفضل، ومنا تنصل". ومن موجز التوقيعات: [وقع أبو صالح بن يزداد إلى رجل أذنب: "وقد تجاوزت عنك] فإن عدت أعدت إليك ما صرفته عنك". وإلى آخر خافه: "ليس عليك بأس، ما لم يكن منك بأس". وإلى آخر أدل بكفايته: "أدللت فأملكت، فاستصغر ما فعلت تنل ما أملت". ووقع المأمون إلى عامل له شكى: "قد كثر شاكوك (وقل شاكروك) فإما عدلت وإما اعتزلت". ووقع في أمر الجند: "لا يعطوا على الشغب، ولا يحوجوا إلى الطلب". ووقع إلى طاهر بن الحسين: "والله لئن هممت لأفعلن، ولئن فعلت لأبرمن، ولئن أبرمت لأحكمن". ووقع يحيى بن خالد في كتبه إلى رجل سأله [عن حاله]: أحسن

الناس حالاً في النعمة من ارتبط مقيمها بالشكر، واسترجع ماضيها بالصبر". ووقع محمد بن خالد إلى عامل له: "أجر أمورك على ما يكسبك الثناء، ويكسبنا الدعاء، وأعلم أنها أيام تنقضي، وأعمار تنتهي، فإما ذكر جميل، وإما خزي طويل". وإن رمنا أن نأتي بكل ما سمعنا في هذا الباب من مختصر الوصايا والأدب، وقصير التوقيعات والخطب، طال علينا، وشغلنا عما عليه أجرينا" وإنما ذكرنا ما ذكرنا مثالاً يحتذى عليه اللبيب، ويستن به الأديب، فأما الخطب الطوال، والرسائل الكبار، فهي مدونة موجودة في كتب الناس. وممن شرع في المعنيين من الإيجاز والإطالة [فسلم في الإيجاز من التقصير، وفي الإطالة] من الإسهاب والتكثير، وتقدم الناس جميعاً في ذلك لتقدمه في سائر فعائله أمير المؤمنين -عليه السلام - وله من الخطب الطويلة المشهورة الزهراء والبيضاء والغراء، وغيرهن مما حمل عنه ونقل إلينا من قوله، وإنما تحسن الإطالة، وبسط الكلام كما قلنا في تفسير الجمل، وتكرير الوعظ، وإفهام العامة، ويليق ذلك بالأئمة والرؤساء، ومن يقتدي به ويؤخذ عنه؛ فأما العامة والجمهور، فلا يليق ذلك بهم، ولا ينبغي أن يتركوا يستعملونه، فإنه لقاح البيان، وسبب الاختلاف والتشتت. وقد روى أن عمار - رضي الله عنه -

تكلم يوماً فأوجز، فقيل له: لو زدتنا، فقال: أمرنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم - باختصار الخطب. ولهذا [المعنى] قال شاعر [الخوارج]. (كنا أناساً على دين ففرقنا ... قذع الكلام وخلط الجد باللعب) (ما كان أغنى رجالاً ضل سعيهم ... عن الجدال وأعفاهم عن الخطب) وممن استعمل في قوله وكتبه الإيجاز والاختصار من القدماء ليهون بذلك حفظ كتبه على من يريد حفظها، ويقرب على ناقل أقواله و [كتبه] فقلها، أرسطاطاليس، وإقليدس، فإنهما [لم] يأتيا في شيء من كلامهما بما لا يتهيأ لأحد أن يختصره، أو أن يأتي في معناهما بأقل من لفظهما فيه. وممن استعمل الشرح والإطالة منهم ليفهم المتعلم، ويفصل المعاني للمتفهم، جالينيوس ويوحنا النحوي، وكل قد قصد مقصوداً لم يرد به إلا النفع والخير. ومن الأوصاف التي إذا كانت في الخطيب سمى سديداً، وكان من العيب معها بعيداً، أن يكون في جميع ألفاظه ومعانيه جارياً على سجيته، غير مستكره لطبيعته، ولا متكلف ما ليس في وسعه، فإن التكلف إذا ظهر في الكلام هجنه، وقبح موقعه؛ وحسبك من ذم التكلف أن الله سبحانه أمر رسوله - صلى الله عليه وسلم - بالتبرؤ منه فقال: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ}.

أو لا يظن أن البلاغة إنما هي الإغراب في اللفظ، والتعمق في المعنى، فإن أصل الفصيح من الكلام ما أفصح عن المعنى، والبليغ ما بلغ الماد، ومن ذلك اشتقا؛ فأفصح عن معانيه، ولم يحوج السامع إلى تفسير له بعد ألا يكون كلاماً ساقطاً، ولا للفظ العامة مشبهاً، ولذلك قال بعضهم في وصف البلاغة: هي أن يتساوى فيها اللفظ والمعنى، فلا يكون اللفظ أسبق إلى القلب من المعنى، ولا المعنى أسبق إلى القلب من اللفظ وليس بنكر مع ذلك أن يكلم أهل البادية بما في سجيتها علمه، ولا ذوو اللب بما في مقدار إرادتهم فهمه، وإنما ينكر أن تكلم الحاضرة والمولدون من العرب بما لا يعرفون، وبما هم إلى تفسيره محتاجون، وأن تكلم العامة السخفاء، بما تكلم به الخاصة الأدباء، وإنما مثل من يكلم إنساناً بما لا يفهمه، وبما يحتاج إلى تفسيره له كمثل من كلم عربياً بالفارسية، لأن الكلام إنما وضع ليعرف به السامع مراد القائل، فإذا كلمه بما لا يعرفه فسواء عليه أكان ذلك بالعربية أم بغيرها؟ ! فما جرى في هذا الباب مجراه المعهود، وسلك به [سبيله المقصود، وأتى به]، طريقه المحمود له طويل أغرب فيه: "ولنا نعم همل أغفال، ما تبض ببلال

ووقير قليل الرسل كثير الرسل، أصابتها سنة حمراء مؤزلة ليس لها علل ولا نهل، فقال - صلى الله عليه وسلم-: اللهم بارك له في محضها ومخضها ومذقها واحبس راعيها في الدثر ببائع الثمر، وافجر له للثمد، وبارك له في المال والولد" في كلام له طويل. وكقول الآخر في بعض سؤاله: أيدالك الرجل امرأته يا رسول الله؟ فقال: نعم إذا كان مفرحا فهذا كلام من السائل والمسئول والقائل والمجيب حسن مأثور، لأنه مفهوم بين من يخاطب به، وإنما يستنكر من ذلك الموضوع غير موضعه، والمخاطب به غير أمله، كقول أبي علقمة النحوي، وقد عثر فسقط، فاجتمعت عليه العامة فقال: "ما بالكم تتكأكأون على كأنما تتكأكأون على ذي جنة فرنقعوا"، وكقول آخر من أهل زماننا: "كنت في عقابيل من علني فتلفعت بالعفشليل، فهذا وشبه منكر قبيح لا ينبغي أن يستعمله ذو عقل صحيح، فقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إياك والتشادق، وقال:

"أبغضكم إلى الثرثارون المتفيهقون" وقال: "من بدأ جفا". ومن أوصاف البلاغة أيضاً الشجع في موضعه، وعند سماحة القول به، وأن يكون في بعض الكلام لا في جميعه، فإن السجع في الكلام كمثل القافية في الشعر، وإن كانت القافية غير مستغنى عنها، والسجع مستغنى عنه، فأما أن يلزمه الإنسان في جميع قوله [ورسائله] وخطبه ومناقلاته فذلك جهل من فاعله، وعي من قائله، وقد رؤيت الكراهية في وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وآله، فروى أن رجلاً سأله فقال: يا رسول الله: أرأيت من لا شرب ولا أكل، ولا صاح فاستهل، أليس مثل ذلك يطل؟ قال. فقال: أسجع كسجع الجاهلية؟ ! وإنما أنكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وآله ذلك لأنه أتى بكلامه مسجوعاً كله، وتكلف فيه السجع تكلف الكهان، فأما إذا أتى به في بعض كلامه ومنطقه، ولم تكن القوافي مجتلبة متكفة، ولا متمحلة مستكرهة، وكان ذلك على سجة الإنسان وطبعه، فهو غير منكر ولا مكروه، بل قد أتى في الحديث: "فيقول "العبد: مالي مالي، وماله من ماله إلا ما أكل فأفنى، أو لبس فأبلى، أو أعطى فأمضى، ومما تكلم به بعض أهل هذا العصر، فأتى بالسجع فيه محموداً، ومن الاستكراه بعيداً، قوله: "والحمد لله الذي ادخر المنة لك، فأخرها حتى كانت منك، فلم يسبقك أحد

إلى الإحسان [إلي]، ولم يحاضك أحد في الإنعام على، ولم تنقسم الأيادي شكري فهو لك عتيد، ولم تخلق المننن [وجهي] فهو لك مصون جديد، ولم يزل ذمامي مضاعاً حتى رعيته، وحقي مبخوساً حتى تضيته، ورفعت من ناظري بعد انخفاضه، وبسطت من أملي بعد انقباضه، فلست أعتد يدا إلا لك، ولا منة إلا منك، ولا أوجه رغبتي إلا إليك، ولا أتكل في أمري بعد الله - عز وجل - إلا عليك فصانك الله عن شكر من سواه، كما صنتني عن شكر من سواك". ومما يباين هذا مما وضع غير موضعه قول صديق لنا في فصل رقعة له: "ورزقني عدلك، وصرف عني خذلك، وقوله أيضاً: "ولقد جلت عندي بأبي فلان المصيبة، وعظمت الشصيب"، وقول آخر في صدر رقعة: "أطال الله لي [بقاءك] خصيصاً، ولأوداتك فيصوصاً". قال: ولقد شهدت مرة ابن التستري، وكان يتقعر في منطقه، ويطلب السجع في كتبه، ويستعمل الغريب في ألفاظه، ولقد لقي امرأة عجوز فقال لها: "خل عن سنن الطريق يا قحمة" فظنت أنه يقول لها: يا قحبة، فتعلقت به وصاحت: يا معشر المسلمين

نصراني يقول لمسلمة: يا قحبة؟ فأخذته الأيدي والنعال حتى كاد [أن] يتلف؛ ولو كان لزوم السجع في القول، والإعراب في اللفظ هما البلاغة لكان الله - عز وجل - أولى باستعمالها في كلامه الذي هو أفضل الكلام. ولكان النبي - صلى الله عليه وسلم - والأئمة المهديون، (والسلف المتقدمون) قد استعملوها، ولزموا سبيلها، وسلكوا طريقهما، فاما ولسا واجدين مما في أيدينا من كلامهم استعمال السجع والغريب إلا في المواضع اليسيرة، فهم أولى بأن يقتدى بهم، ويحتذى بمناهجهم ممن قد نبت في هذا الوقت من هؤلاء الذين ليس معهم من البلاغة إلا إدعاؤها، ولا من الخطابة إلا التحلي باسمها. ومما يزيد في حسن الخطابة وجلالة موقعها، جهارة الصوت، فإنه من أحد [أوصاف]، الخطباء، ولذلك قال الشاعر: (جهير الكلام جهير العطاس ... سريع النياط جهير النغم) وقال آخر: (إن صاح يوما حسبت الصخر منحدراً ... والريح عاصفة والموج يلتعلم) وذم آخر بعض الخطباء بدقة الصوت وضآلته فقال: (ومن عجب الأيام أن قمت خاطباً ... وأنت ضئيل الصوت منتفخ السحر"

وليس يلفت في الخطابة إلا حلاوة النغمة إذا كان الصوت جميلاً لأن حلاوة النغمة إنما تراد في التلحين والإنشاد دون غيرهما. وليس ينبغي للخطيب أن يحصر عند رمي الناس بأبصارهم إليه، ولا يعبأ بالكلام عند إقبالهم عليه، وقد روى أن عثمان - رضوان الله عليه - لما بويع له صعد المنبر، فحصر وأرتج عليه فقال: "أيها الناس إنكم إلى إمام عادل، أحوج منكم إلى إمام قائل" وإن أبا بكر وعمر - رضوان الله عليهما - كانا يعدان لهذا المقام مقالاً، وستأتيكم الخطبة على وجهها إن شاء الله". وأرتج على آخر - وقد صعد المنبر - فنزل وأنشأ يقول: (فإلا أكن فيكم خطيباً فإنني ... بسيفي إذ جد الوغي لخطيب) فكان يقال: لو قاله وهو على المنبر كان من أخطب الناس. وقد استعاذ الشاعر من الحصر والعي فقال: (أعذني رب من حصر وعي ... ومن نفس أعالجها علاجا) وينبغي له أن يتقي خيانة البديهة في أوقات الارتجال، ولا يغره انقياد القول له في بعض الأحوال، فيركب ذلك في سائر الأوقات، وعلى جميع الحالات، وإن وفق بانقياد القول له ومسامحته إياه فأتى بالبديهة عما يأتي به غيره بعد التروية، فذلك الخطيب الذي لا يعادله خطيب.

والأديب الذي لا يوازيه أديب، وبذلك وصف الشاعر بعضهم فقال: (قهر الأمور بديهة كروية ... من غيره وقريحة كتجارب) وأن يقل التنحنح والسعالن والعبث باللحية، فإن ذلك من دلائل العي، وفيه يقول الشاعر: (ومن الكبائر مقول متتعتع ... جم التنتحنح متعب مبهور) ومما يدل [عندهم] أيضاً على الحصر وتصعب القول وشدته على القائم به العرق، قال الشاعر: (لله در عامر إذا نعلق ... في حفل إملاك وفي تلك الحلق) (ليس كقوم يعرفون بالسرق ... من كل نضاح الذفاري بالعرق) ويروى أن يزيد بن عمر بن هبيرة تكلم بحضرة هشام فأحسن، فقال هشام: "ما مات من خلف هذا، قال الأبرش الكلبي:

"ليس هناك، أما ترى جبينه يرشح لضيق صدره؟ ! فقال [له] يزيد: ليس لذلك رشح، ولكن لقعودك في هذا الموضع، وكانوا يتعاطون سعة الأشداق وتبيين مخارج الحروف، ويمتدحون بذلك وبطول اللسان، ويعدونهما من آلات الخطابة، قال الشاعر: (تشادق حتى مال بالقول شدقه ... وكل خطيب - لا أباك - أشدق) وروى عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال لحسان: ما بقي من لسانك؟ فأخرجه حتى ضرب بطرفه جبهته ثم قال: "والله ما يسرني به مقول من معد، والله لو وضعته على صخر لفلقه، أو على شعر لحقه". وينبغي الخطيب ألا يستعمل في الأمر الكبر الكلام الفطير: الذي لم يخمره التدبر والتفكير، فيكون كما قال الشاعر: (وذي خطل في القول يحسب أنه ... مصيب وما يعرض له فهو قائله) بل يكون كما قال الآخر: (وقوف لدى اأمر الذي لم يبن له ... ويمضي إذا ماشك من كان ماضياً).

وأن يكون لسانه سالماً من العيوب التي تشين الألفاظ، فلا يكون ألثغ ولا فأفاء، ولا تمتأما، ولا ذا رنة، ولا ذا حبسة، ولا ذا لفف، فإن ذلك أجمع مما يذهب بهاء الكلام، ويهجن البلاغة وينتقص حلاوة النطق، وقد ذكر أن واصل بن عطاء كان قبيح اللثغة على الراء [وكان إلى المناقلات وارتجال الخطب لأهل نحلته، ومستحسني دعوته، فراض لسانه حتى أخرج الراء] من سائر منطقه، وخطب خطبة طويلة تدخل في عدة أوراق لم يلفظ فيها بالراء، فكان هذا مما يعد من فضائله وعجيب ما اجتمع فيه. ويروى أن زيد ابن على - عليه السلام - خطب بعد خطبة خطبها الجمحي فأحسنها وأجادها، إلا أن الجمحي كان بأسنانه فلج شديد، فكان يصفر في كلامه، فلما تساوى كلامهما في الوزن وحسن النظم، وإصابة المعنى، وسلم زيد ابن على - عليه السلام - من الصفير الذي كان في كلام الجمحي، فضل عليه، فقال عبد الله بن معاوية بن جعفر يصف خطبة زيد: (قلت قوادحها وتم عدبدها ... فله بذاك مزية لا تنك) فهذا جمل ما يحتاج إليه في الخطابة إذا كانت مسموعة.

الرسائل: فأما الرسائل فهي مستغنية عن جهارة الصوت، وسلامة اللسان من العيوب، لأنها بالخط تنقل فتحتاج إلى أن يساعد حسنها حسن الحظ، فإن ذلك يزيد في بهائها ويقربها من قلب قارئها، والأصل في الخط أن تكون حروفه بينة قائمة، ومن الأشكال بعيدة سالمة، ثم إن كان مع صحته وبيانه حلواً حسناً، كان ذلك أزيد في وصفه، وألا يستعمل فيه التحنيف الذي يعميه إلا مع من جرت عادته بقراءة مثل ذلك، واستعماله كنحو ما جرت به عادة الكتاب في تعليق الميم، وإقامة الكاف، وتصيير شكلة عليها تفرق بينها وبين اللام، ومد الشين، وتصير شكلة عليها، أو بتنقيط ثلاث نقط من فوقها، فغن استعمال ذلك مع من قد جرت عادته باستعماله كاستعمال الغريب مع من يفهمه، واستعمال إقامة الحروف على حقائقها وأصول أشكالها، كاستعمال المعهود من الكلام المصطلح عليه مع سائر الناس، وألا يكثر مد الحروف التي لم تجر العادة بمدها، فإن أبا أيوب رحمه الله، كان يقول: المدة في غير موضعها لحن في الخط، وأن يتفقد قلبه بقطه وتسويته فإن ابا ايوب كان يقول: "القلم الردئ كالولد العاق" ومما يزيد الخط حسناً، ويمكن له في القلب، وضعاً شدة سواد المداد. وجودة الإفة الدراة، يجرى من الخط مجرى القطن من الثوب، [فمتى كان] القطن ردئ

الجوهر لم ينفع النساج حذقه، ووضع من الثوب سوء جوهره، وإن أحكم الصانع صنعته. اختيار الرسول: والذي يحتاج إليه المرسل في الرسول حتى يكون عند ذوي العقول ليبيا، ومن الصواب قريباً، أن يختاره حتى يكون أفضل من بحضرته في عقله وضبطه، وأدبه وعارضته، ودينه ومروءته، فقد كان يقال: ثلاثة تدل على أهلها: الهدية على المهدي، والرسول على المرسل والكتاب على الكاتب وكان يقال: رسول الرجل مكان رأيه، وكتابه مكان عقله، وكذلك جعل الله - عز وجل - رسله أفضل خلقه، وأخبر أنه اصطفاهم على العالمين، فقال: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} وإنما وجب أن يختار العاقل رسوله، لأنه قد أقامه فيما يؤدبه عنه مقامه، فعليه أن يجعله يختار العاقل رسوله، لأنه قد أقامه فيما يؤدبه عنه مقامه، فعليه أن يجعله أفضل من بحضرته، وعلى الرسول [أن] يؤدي ما حمل كما قال الله - عز وجل - {فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ} وكما قال: {فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ}، وإنما وجب عليه البلاغ لأن الرسالة أمانة فعليه تأديتها، لأن الله - عز وجل - يقول: {إِنَّ اللَّهَ يَامُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا}، وليس للرسول أن يزيد في الرسالة، ولا أن ينقص منها، لأن ذلك خيانة للأمانة، إلا أن يكون المرسل قد فوض إليه أن يتكلم عنه بما يرى فقد قال الشاعر: (وإن كنت في حاجة مرسلاً ... فأرسل حكيماً ولا توصه) وإنما أمر بذلك لأن الحكيم إذا وصيته لم يتجاوز وصيتك، وإن

كان الرأي عنده خلافها، فربما ضرك ترك الأصوب عنده، وأتباع أمرك ولا لوم عليه في ذلك، وإذا فوضت إليه عمل بحكمته ورأيه. وقد روى في هذا المعنى أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجه أمير المؤمنين في بعض أموره، فقال له: "أكون يا رسول الله في الأمر إذا وجهتني كالسكة المحماة إذا وضعت للميسم، أو يرى الشاهد ما لا يرى الغائب؟ (فقال: "بل يرى الشاهد ما لا يرى الغائب") ففوض إليه لما [رأى منه خبراً] ووثق برأيه؛ وقال لغيره من سائر الناس: "نضر الله امرأ سمع مقالتي فوعاها وأداها"، ولم يفوض إليهم لقلة ثقته بهم فعلى العاقل أن يستشعر هذا المعنى في رسله، فإذا أرسل من يثق بأمانته وعقله، فوض إليه أن يقول عنه ما يراه أولى بالصواب عنده، وإذا لم يكن بهذه المنزلة إلا أنه أفضل من يقدر عليه الوقت وصاه ألا يتجاوز قوله. وعليه أن يتخير من الرسل من لا تكون فيه العيوب التي نذكرها [أو بعضها] وهي: الحدة: فإن صاحبها ربما فقد عقله، وليس من الحزم أن يقيم الإنسان مقامه من يفقد عقله. والحسد: فإن صاحبه عدو نعم الله - عز وجل-، ولا يحب أن يرى لك ولا لغيرك حالاً مستقيمة، ومتى رأى شيئاً من ذلك حمله حسده على أن يفسده. والغفلة: فإن صاحبها لا يضبط ما يحمله عنك، ولا ما يعود به إليك

والعجلة: فإن صاحبها يضع الأشياء في غير مواضعها، ويسبق بها أوقات فرصتها. وقد قيل: "رب عجلة كسبت ريثاً". وقال الشاعر: (قد يدرك المتأني بعض حاجته ... وقد يكون مع المستعجل الزلل) والنميمة: فإنها تفسد الإخاء، وتكدر الصفاء، ولا يتم معها أمر، ولا تنجح لمستعملها طلبة، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "استعينوا على نجح حوائجكم بالكتمان"، فمن خالفه كان بعدم التوفيق جديراً، وبالحرمان حقيقاً. والكذب: فإنه بجانب الإيمان، وليس لكذوب رأي، وإذا اعتمد الإنسان في أمره على من يكذبه، كان في ذلك شينه وعطبه. والضجر: فليس للضجور صبر على حفظ [الأسرار في] رسالة، ولا تأذية امانة. والعجب: فإن صاحبه منه في غرور، وربما حمله عجبه على أن يخالفك فيما يضر بك وبه. والهدر: فإن من كثر كلامه كثر سقطه، ومن أسقط لم يحفظ سر صاحبه

لوصف الأديب بلغ بإذن الله - عز وجل - مراده، وأمن ضرره وفساده؛ فهذه عمدة ما يحتاج إليه في اختيار الرسول، وإن اتفق المرسل مع ذلك أن يكون الرسول مقبول الصورة، حسن الاسم. كان ذلك زائداً في توفيق الله - عز وجل- وقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسأل الوافد عن اسمه، فإن كان حسناً تفاءل به وأعجبه، وإذا كان مكروهاً غيره. وعلى الذي تؤدي إليه الرسالة أن يستمعها، ولا يلوم الرسول إن أغلظ له فيها، فليس على (رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لوم لأنه مؤتمن، وإنما اللوم على المرسل إن كان) لوم، فإن أحب أن يقابله بمثل رسالته [فعل] فقد أباحه الله - عز وجل - ذلك بقوله سبحانه: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} فإن أمسك وعفا فالعفو أقرب للتقوى، وأولى بالرأي عند ذوي الحجا. الجدل والمجادلة: وأما الجدل والمجادلة، فهما قول يقصد بهما إقامة الحجة فيما اختلف فيه اعتقاد المتجادلين، ويستعمل في المذاهب والديانات، وفي الحقوق والخصومات، وفي التساؤل والاعتذارات؛ ويدخل في الشعر وفي النثر، وهو منقسم قسمين: وأبداه، وإن لم يكن ذلك مغزاه. فإن سلم الرسول من هذه العيوب، وكان مع ذلك أديباً، أو مقارباً

أحدهما محمود، والآخر مذموم: فأما المحمود، فهو الذي يقصد به الحق، ويستعمل فيه الصدق، وأما المذموم، فما أريد به المماراة والغلبة، وطلب به الرياء والسمعة، وقد جاء في القرآن والخبر مدح ما ذكرنا أنه محمود، وذم ما ذكرنا أنه مذموم، وقد أثر فيه قول الحكماء، وألفاظ الشعراء، فقال الله - عز وجل - {وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} وقال: {يَوْمَ تَاتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا}، وقال إبراهيم - عليه السلام -: (وحاجه قومه، قال: {قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ} وقال: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ} وبذلك تعبد أنبياءه وصالحي عباده، فقال [عز وجل]: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} وقد أجمعت العلماء وذوو العقول من القدماء على تعظيم من أفصح عن حجته، وبين عن حقه، واستنقاص من عجز عن إيضاح حقه، وقصر عن القيام بحجته؛ ووصف الله - عز وجل - قريشاً بالبلاغة في الحجة، واللدد في الخصومة، فقال: {وَتُنذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا} وقال: {فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً

عَلَى الْخَيْرِ} وقال: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ} وقال: {وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ}. وذم من لا يقيم حجة، ولا يبين عن حقه في خصومة، وشبههم بالولدان والنسوان، فقال: {أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ}. وقال الشاعر: (وإن امرأ يعيا بتبيين حقه ... إذا اعتركت عند الخصام القراحُ) (لآِبائه إن كان في بيت قومه ... وللحَسَبِ المأثور عنهم لَفَاضِح) وأما ما جاء في ذم التعنت والمِراء، وطلب السمعة والرياء، وقصد الباطل، وركوب الهوى، فقول الله - عز وجل -: {هَاأَنْتُمْ هَؤُلاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلا} وقوله: {وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ}. ووصف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صديقا كان له في الجاهلية فقال: كان لا يشاري ولا يماري"، وقال: "من سمّع سمّع الله به"

وقال بعضهم: "المراء يفسد الإخاء" وأنشد: (فدع المِراء إذا نَطَقت فإنه ... يغري بك الأعداء والحسادا) وقيل: "دع المراء لقلة خيره". وقال أمير المؤمنين - عليه السلام - لابن الكواء: "سل تفقهاً، ولا تسأل تعنتا". وحق الجدل أن تبنى مقدماته بما يوافق الخصم عليه، وإن لم يكن نهاية الظهور للعقل، وليس هذا سبيل البحث، لأن حق الباحث أن يبني مقدماته بما هو أظهر الأشياء في نفسه، وأثبتها لعقله، لأن يطلب البرهان ويقصد لغاية التبيين والبيان، وألا يلتفت على إقرار مخالفه. فأما المجادل فلما كان قصد، إنما هو إلزام خصمه الحجة، كان أوكد الأشياء أن يلزمه إياها من قوله، وذلك مثل قول الله - عز وجل - لليهود لما أراد إلزامهم الحجة فيما حرموه على أنفسهم بغير أمر ربهم: {كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَاتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} فجادلهم بكتابهم الذي يقرون بفرض ما فيه ووجوبه عليهم،

وأعلمهم أنهم إذا حرموا على أنفسهم ما لم يحرمه الله - عز وجل - في كتابهم الذي هذه سبيله في وجوب التسليم، فقد ظلموا واعتدوا وهذا لازم لهم. وقد قلنا: إن الجدل إنما يقع في العلة من بين سائر الأشياء المسئول عنها، وليس يجب على المسئول الجواب إلا بعد [أن] يستأذن في السؤال، فإن لم يأذن له في ذلك، وليس ينسب إلى انقطاع ولا محاجزة، فإن أذن له فقد لزمه الجواب، وإن قصر نسب إلى العجز. وطلب العلة يكون على وجهين: إما أن تطلبها وأنت لا تعلمها لتعلمها، وإما أن نطلبها وأنت تعلمها ليقر لك بها. وليس لك أن تجادل أحداً في حق يدعيه إلا بعد مسائلته عن العلة فيما ادعاه فيه، فإن كان علمك بعلته قد تقدم في شهرة مذهبه، فالأحواط أن تقره بما بني عليه أمره، لئلا يجحد بعض ما ينتحله أهل مذهبه إذا أوقف عليه الكلام، ويدعي أنه يخالفهم فيه، فإن أمنت منه ذلك فلا عليك أن تجادله وإن لم تقره بعلته. واثنان لا يلزمك منهما سؤال، ولا يجب لهما عليك جواب: أحدهما: من سألك عن العلة في شيء ادعيته فأخبرته بها، وهي مما يجوز أن يعلل ذلك الشيء بمثله فطالبك بعلة العلة، فمطالبته في ذلك غير لازمة، ومساءلته ساقطة، لأن ذلك يوجب [أن] يطالب لعلة العلة بعلة، ثم كذلك إلا ما لا نهاية. والآخر من أراد مناقضتك في مذهبك، ولم ينصب لنفسه مذهباً يجب له عليك فيه بمخالفتك إياه المخاصمة، فليس تلزمك له حجة في ذلك،

ولا يجب له عليك فيه سؤال. ومثال ذلك أن رجلاً لو صار إلى بعض الأئمة والحكام برجل قد قتل رجلاً، أو أخذ ماله، وأقام البينة على ذلك، ثم لم يكن ولي الدم، ولا صاحب المال، ولا وكيلاً لأولياء الدم، أو لصاحب المال، فلم يكن للإمام ولا للحاكم أن يقيما حداً عليه، [أو يطالباه برد ما أخذ]، إذ كان الرافع له والمطالب بذلك فيه غير مستحق للمطالبة بما يجب عليه من الحكم. والعلل علتان: قريبة وبعيدة. فالقريبة: ما كان المعلول تاليها، والبعيدة ما كان بينه وبينها غيره وذلك كوالد الذي علته القريبة النكاح، وعلته البعيدة والداه، والعلل وجوه: منها اعتبارها فإن اطردت في معلوماتها صحت، وإن قصرت عن شيء من ذلك علم أنها غير صحيحة؛ ومثال ذلك أن الحركة لما كانت علة المتحرك، كان قولنا إذا سئلنا عن الجسم المتحرك: ما علة حركته؟ فقلنا حلول الحركة فيه قولاً صحيحاً، لأنه يطرد في معلوماته، ويوجد في كل جسم متحرك، فأما (إذا) سئلنا عن العلة في حركة الجسم فقلنا: لأنه جسم، كان ذلك باطلاً؛ لأنه قد تكون أجسام لا حركة فيها. ومنها: أن تكون العلة في صحة الشيء هي العلة في بطلان ضده، إذا كان صداً لا واسطة له، وقد مضى تمثيل ذلك.

ومنها أن العلة في الشيء إذا كانت من اجتماع شيئين، أو أكثر من ذلك، لم تكن واجبة إذا انفرد بعض تلك الأشياء، مثل رجل أراد قلب حجر ثقيل فلم يطقه، فلما عاونه عليه غيره وتأيدت قواهما قلباه، (فليس العلة في استقلال أحدهما به)، لأن كل واحد منهما عاجز عنه إذا انفرد به، وإنما العلة اجتماعهما. ومن هذا المعنى يحتج للتواتر بأنه حجة، وإن كان كل واحد من المخبرين يجوز عليه الكذب. ومنها أن العلة إذا كانت مأخوذة مما يوافق الخصم فيه، فلا مطعن له، فيها، وذلك مثل قول موحد سأله مشّبه عن العلة في وقله: إن الله سبحانه ليس بجسم. فقال: لاجتماعنا على أنه ليس يشبهه شيء، فلو كان جسماً لكان مثل الأجسام في معنى الجسمية. وإذا كانت العلة مأخوذة مما يخالفك فيه الخصم، فليس يجوز أن تحتج عليه بها إلا بعد أن تعلمه أن علتك مأخوذة مما يخالفك فيه، وأنه لا سبيل إلى تعريفه صحتها إلا بعد أن تصح عنده المقدمات التي أوجبتها، وذلك كجواب موحد سأله ملحد عن العلة في إثبات الرسل، فليس يمكنه أن يبين ذلك إلا بعد أن يدل على البارئ - سبحانه - فإذا صح في نفس خصمه أنه موجود، وأقر له بذلك، ذكر العلة في الرسل، فأما قبل ذلك فلا سبيل له إلى إيجاده العلة في ذلك. ومنها أن الجدل في العلة والسؤال عنها ماض في سائر ما تخالف فيه خصمك، فإذا صرت إلى ما يخالفك فيه فليس لك أن تسأل عن العلة، ولا أن تجادله فيها، لأنك حينئذ تكون مجادلاً لنفسك، اللهم إلا أن يكون سؤالك عن العلة في ذلك لتقريره بها، ثم تأخذه بطردها في شيء

- قد أتاه - وحكمه حكم ما وافقك عليه، وذلك مثل قولك لمن وافقك على إثبات الباري - عز وجل -، وهو مجسم: ما علتك ودليلك اللذان أوجبت بهما وجود الباري عز وجل؟ فيدل على ذلك بما تشاهده من تأليف الأجسام ووجودها بعد أن لم تكن، وتناهيا وتركيبها وآثار الصنعة فيها، فتكون علته في ذلك هي العلة في أن صانعها لا يشبهها ولا يكون مثلها، وأنه متى كان جسماً لزمه حكم الأجسام في الحاجة إلى صانع غيره (تعالى عما يقول الظالمون علواً كبيرا). ومنها أن المعارضة في الجدل صحيحة، وإن كان قوم قد أبوها، وقالوا إنها لا مسألة، ولا جواب، فليس الأمر كما ظنوا. والمعارضة هاهنا المقابلة، كما يقال: عارضت السلعة بمثلها. فإذا قابلت بين الأمرين والعلتين، وطالبت خصمك بأن يحكم للشيء بما توجبه العلة في نظيره، كان ذلك وابجاً، وقد عارض الله - سبحانه - من أبى البعث واستنكره مع إقراره بابتداء الخلق واختراعه، فقال: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ}. فألزمهم ألا ينكروا إعادتهم بعد أن فقدوا مع إقرارهم بابتداء

الله إياهم [و] ما كانوا، وكل زيادة تقع في المسألة أو العلة من جنس المسألة، فليس ذلك بخروج عنها. فأما ما خالف معنى المسألة والعلة فهو خروج وتخليط. وقد ذكر المتكلمون الخلاف والمناقضة، وكثيراً ما يستعملون بعض ذلك في موضع بعض، ونحن نبين كل واحد منهما، ونرمم فيه ما يعرف به الفرق بينه وبين الآخر، فيستعمل كل واحد منهما في موضعه. فالمناقضة في اللغة: المفاعلة، من نقضت البناء والغزل وغيرهما، [فإذا] بنى الإنسان قوله على إثبات شيء لشيء بعينه ثم نفاه عنه، أو بنى قوله على نفي شيء عن شيء بعينه ثم أثبته له، فكأنه قد نقض ما بنى، واستحق اسم المناقضة، وإنما جعل ذلك على المفاعلة؛ لأن المجادلة لا تتم إلا بين اثنين. وإنما تقع المناقضة في الكلام إذا كان المخبر عنه واحداً والخبر واحداً، ولم تتشابه الأسماء والأخبار في لفظها مع اختلاف معانيها، وكان الزمان في القول واحداً والمكان واحداً، والنسبة في الاستطاعة والفعل واحدة، ثم اختلفا [في ذلك] بالإيجاب والنفي، فتلك المناقضة. فأما إذا لم يكن المخبر عنه واحداً في الاسم كقولنا: زيد قائم، وعمرو غير قائم. فليس ذلك بمناقضة، [وإذا لم يكن الخبر واحداً في اللفظ كقولنا: زيد قائم وزيد غير قائم ليس ذلك مناقضة]، وإذا اتفقت الأسماء واختلفت معانيها كقولنا: "إسحاق مغن وإسحاق غير مغن"

ونحن نريد بإسحاق الأول الموصلي، وبالآخر الظاهري، فليس ذلك مناقضة، وإذا اشتبهت الأخبار واختلفت معانيها كقولنا: زيد أسود من عمرو (وليس زيد أسود من عمرو) ونحن نريد بأحدهما السؤدد، والآخر السواد [الذي هو ضد البياض] فليس ذلك مناقضة، فإذا اختلف الزمان في القول فقلنا: زيد قائم وزيد غير قائم، وأردنا أن زيداً قائم الساعة، وغير قائم في غد، فليس ذلك بمناقضة، وإذا اختلف المكان في ذلك وقلنا زيد خارج، وزيد غير خارج، وأردنا أنه خارج من داره وغير خارج من المدينة، فليس ذلك بمناقضة، وإذا اختلفت النسبة في الاستطاعة والفعل فقلنا: زيد كاتب، وزيد غير كاتب، ونحن نريد أنه يحسن الكتابة ويستطيعها متى أرادها، وهو غير كاتب بيده في حال الإخبار عنه، لم تكن ذلك مناقضة - فهي معنى المناقضة. وأما الخلاف: فهو ما خالف [الشيء] الشيء فيه في بعض ما ذكرناه، ولم يجتمع له شروط المناقضة التي وصفناها، وأكثر ما وقع [من] الخلاف في الشرائع خاصة من جهة النسخ أو التشابه في الأسماء والأخبار،

أو من جهة الخصوص والعموم، أو من جهة الإجمال والتفسير، أو من جهة الرأي والتخيير، وقد ذكرنا ذلك بشرحه في كتاب "التعبد" بما أغنى عن إعادته، إلا أنا نذكر من ذلك جملاً تدل عليه. أما "الاختلاف من جهة النسخ: فهو أن يكون الشيء محرماً ثم يحلل، أو محللاً ثم يحرم، أو مفروضاً ثم يترك، أو متروكاً ثم يفرض، فيعلم الأول قوم ولا يعلمون بالنسخ فيعملون بما علموا، أو يعرف النسخ آخرون، فيأخذون بما عرفوا، فيقع الخلاف بينهم من هذا الوجه، وذلك مثل المسح على الخفين، فإن الشيعة تزعم أنه منسوخ، والعامة ماضية على الأول، وك المتعة التي تزعم العامة أنها منسوخة، والشيعة ماضية فيها على الأمر الأول، وإنما خالف النسخ المناقضة لاختلاف الأوقات، فيها على الأمر الأول، وإنما خالف النسخ المناقضة لاختلاف الأوقات، وأن الوقت الذي حرم فيه الحلال غير الوقت الذي حلل فيه الحرام. وأما الاختلاف من جهة التشابه في الأسماء أو الأخبار، فمثل تحريم المسكر، فإن قوماً حملوه على أنه الشراب الذي هذا نعته، فحرموا قليل النبيذ وكثيره، وقوم حملوه على أنه الجزء الذي يسكر دون غير، فأحلوا منه ما كانوا دون السكر، فوقع الاختلاف بينهم لاختلاف التأويل. وأما "الخصوص والعموم" فهو أن يعم بالنهي جنس، ثم يخص نوع منه بالتحليل، أو يعم بالتحليل جنس، ويخص منه نوع بالتحريم

وذلك كتحليل الله - عز وجل - البيع جملة، واختصاص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تحريم الدرهم بالدرهمين، والدينار بالدينارين، والرطب بالتمر، وأشباه ذلك، وقد ذهب هذا التخصيص، على عبد الله بن عباس - رضوان الله عليه -، وكان يجيز بيع الدرهمين بالدرهم إذا كان نقداً فوقع الخلاف بينه وبين غيره من هذا الوجه. وأما "الإجمال والتفسير" فكقوله - عز وجل -: {وَاللَّاتِي يَاتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً}. [ثم إنه فسر السبيل فقال: خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلا]. البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم، وقد حمل الشراء أمر السبيل على ظاهر القرآن، وأبطلوا الرجم وكذلك قوله في تحريم الحمر الأهلية وكل ذي ناب ومخلب، لأنهم أخذوا في ذلك بالجملة من قوله: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً}. إلى آخر الآية، وذهب عنهم التفسير، فوقع الخلاف بينهم وبين الجماعة من هذا الوجه. وأما الرأي: فهو أن ترد الحادثة على بعض العلماء ولا يكون عنده

فيها حكم لله - عز وجل - ولا سنة لرسوله - صلى الله عليه وسلم - فيجهد رأيه، فيأخذ الناس ذلك عنه. ثم يبلغه الحكم في ذلك، فيدع رأيه ويرجع إلى ما يبلغه من حكم الله ورسوله، ويتمسك أتباعه بما جملوه عنه؛ لأنهم لا يعلمون برجوعه، ولذلك قال ابن مسعود: "ويل للناس من زلة العالم، لأنه يجتهد رأيه، فيؤخذ [عنه] ثم يتبين له الصواب غير ما رأى فيرجع إليه، ويذهب الأتباع بما سمعوا، فيقع الخلاف من هذا الوجه". وأما التخيير: فكالإقامة مثنى مثنى أو فرادى [فرادى]، وكتخيير الله - عز وجل - في كفارة اليمين في الطعام، أو الكسوة، أو تحرير رقبة. فهذه جمل ما في الخلاف والمناقضة وهي تكفي وتغني إن شاء الله. أدب الجدل: فأما أدب الجدل فأن يجعل المجادل قصده الحق وبغيته الصواب، وألا تحمله قوة إن وجدها من نفسه، وصحة في تميزه وجودة خاطره، وحسن بديهته، وبأن عارضته، وثبات حجته على أن يسرع في إثبات الشيء ونقضه، ويسرع في الاحتجاج له ولضده، فإن ذلك مما يذهب بها علمه،

ويطفئ نور بهجته، وينسبه به أهل الدين والورع إلى الإلحاد، وقلة الأمانة، ولذلك أطرح الناس "الراوندي" ومن أشبهه على قوتهم في الجدل، وتمكنهم من النظر وليعلم أن عواقب إطلاق اللسان، وجنايات البيان على كثير من الناس كبيرة غير محمودة، ولذلك قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "ما أوتي امرؤ شراً من طلاقة اللسان". وأخذ أبو بكر رضوان الله عليه بطرف لسانه فقال: هذا أوردني الموارد". وألا تسحره الكثرة والقلة فيما يطلبه من الحق فيقلد الأكثرين، [أو يريد التكبر عليهم] أو يريد التكثر بهم والترؤس عليهم بمتابعتهم. فإن الله - سبحانه - قد ذم الكثرة، ومدح القلة فقال - عز من قائل: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ} وقال: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} وألا يقلد الحكم الفاضل في كل ما يأتي به إذا كان غير مأمون منه الخطأ، فقد يخطئ العاقل ويصيب الجاهل، ولذلك قال أمير المؤمنين - عليه السلام - للحارث ابن حوط: "يا حارث إنه ملبوس عليك. إن الحق لا يعرف بالرجال، ولكن

اعرف الحق تعرف أهله، وأن تخرج من قلبه التعصب للآباء، فإن الله يقول لهم: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا}؛ وأن يعتزل الهوى فيما يريد إصابة الحق فيه، فإن الله عز وجل يقول: {وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ}، والانقياد لزخرفة القول، وظاهر رياء الخصم، فقد حذر الله - عز وجل - من هذه الطبقة على أيدي أنبيائه فقال: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ * وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ}. وقال عز من قائل: {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ}. وقال المسيح - عليه السلام - في الإنجيل: {احذَرُوا الكَذَبةَ الذين يَأتونكم بألسنة الحملاَنِ وقلوبِ الذئَابِ}. وألا يقبل من ذي قول مصيب فيه كل ما يأتي به لموضع ذلك الصواب الواحد، ولا يرد على ذي قول مخطئ فيه كل ما يأتي به لموضع ذلك الخطأ الواحد، بل لا يقبل قولاً إلا بحجة، ولا يريده إلا لعلة، فيكون في ذلك كالوزان الحاذق المتفقد لميزانه وصنجاته، فإن الخطأ في الرأي أعظم

[ضرراً] من الخطأ في الوزن، والا يجادل ويبحث في الأوقات التي يتغير فيها مزاجه ويخرج عن حد الاعتدال، لأن المزاج إذا زاد على [حد] الاعتدال في الحرارة كان معه العجلة، وقلة التوقف، وعدم الصبر، وسرعة الضجر، وإذا زاد في البرودة على حال الاعتدال أورث السهو والبلادة، وقلة الفطنة وإبطال الفهم. وقد قال جالينوس: "إن مزاج النفس تابع لمزاج البدن"، وأن يتجنب العجلة ويأخذ بالتثبت، فإن مع العجلة الزلل؛ وألا يستعمل اللجاج والمحك، فإن العصبية تغلب على مستعملها فتبعده عن الحق وتصده عنه، وألا يعجب برأيه، وما تسوله له نفسه حتى يفضي بذلك إلى نصائحه ويلقيه إلى أعدائه، فيصدفونه عن عيوبه ويجادلونه، ويقيمون الحجة عليه، فيعرف مقدار ما في يده إذا خولف فيه، فإن كان مجر بخلاء [يسر]. وإن لم يشعر برأيه، ولم يدر أنه في غرر من رأيه" كان بعيداً في نيل شفائه، وأن يتجنب الكذب في رأيه وخبره لأنه خلاف الحق، وإنما يريد بالجدال إثارة الحق واتباعه، وأن يتجنب الضجر وقلة الصبر، لأن عمدة الأمر في استخراج الغوامض وإثارة المعاني الصبر على التأمل والتفكير.

ولذلك قال أمير المؤمنين - عليه السلام -: "منزلة الصبر من الإيمان منزلة الرأي من الجسد، ولا إيمان لمن لا صبر له"، وأن يكون منصفاً غير مكابر، لأنه إنما يطلب الإنصاف من خصمه، ويقصده بقوله وحجته، فإذا طلب الإنصاف بغير الإنصاف فقد طلب الشيء بضده، وسلك فيه غير مسلكه، وأن يجتهد في تعلم اللغة، ويتمهر في العلم بأقسام العبادة فيها، فإنه إنما يتهيأ له بلوغ ما يقتضي الجدل بلوغه من: قسمة الأشياء إلى ما ينقسم إليه، وإعطاء كل قسم منها ما يجب له، والاحتراس من إشراك لأسماء واختلاط المعاني باللغة والمعرفة بها، وأن يتحرر من مغالطات المخالفين. ومشبهات المموهين، وأن يحلم عما يسمع من الأذى والنبز، ولا يشغب إذا شاغبه خصمه، ولا يرد عليه إذا أربى في كلامه، بل يستعمل الهدوء والوقار، ويقصد مع ذلك لوضع الحجة في موضعها، فإن ذلك أغلظ على خصمه من السب، وربما أراد الخصم باستعمال الشغب قطع خصمه، وأن يشغل خاطره عن إقامة حجته، فإذا أعرض المجادل عن ذلك ولم يتحرك له طبعه ولم يشغل ذهنه، وجمع مع قهر خصمه والاستظهار بالحجة عليه ظهور حلمه للناس، ومعرفة الحضور بوقاره ووفوره، ونقص خصمه وخفته، وأن يتجنب الجدل في المواضع التي يكثر فهيا التعصب لخصمه، فإنه لا يعدم فيها أجد شيئين: إما الغيظ فتقصر قريحته، [وإما] الحصر فيعيا بحجته، وألا يستصغر خصمه، ولا يتهاون به، وإن كان الخصم صغير المحل في الجدال، فقد يجوز أن يقع لمن لا يؤبه له الخاطر الذي [لا] يقع لمن هو فوقه في الصناعة، ولقد أوصى

القدماء بالاحتراس من العدو، وألا يستصغر صغير منه، والخصم عدو لأنه يجاهدك بلسانه، وهو أقطع سيفيه كما قال أردشير، وقد قال حسان [بن ثابت]. "لِسَاني وسَيفي صارِمان كِلاَهما ... ويَبلغ ما لا يَبلغ السّيف مُذوَدِي) وأن يصرف همته إلى حفظ النكت التي تمر في كلام خصمه، مما بنى منها مقدماته، وينتج فيها نتائجه، ويصحح ذلك في نفسه، ولا يشغل قلبه بتحفظ جميع كلام خصمه، فإنه متى اشتغل بذلك أضاع ما هو أحوج إليه منه، وألا يكلم خصمه وهو مقبل على غيره، أو مستشهد لمن حضر على قوله، فإن ذلك سوء عشرة، وقلة علم بأدب الجدل، وظهور حاجة إلى معونة من حضر له، وألا يجيب قبل فراغ السائل من سؤاله، ولا يبادره بالجواب قبل تدبره، واستعمال الروية فيه، وأن يعلم بعد هذا أنه لا يعد في المجادلين الحذاق حتى يكون بحسن بديهته، وجودة عارضته، وحلاوة منطقه قادراً على تصوير الحق في صورة الباطل، والباطل في صورة الحق، متى شرع في ذلك، وأقام كل واحد منهما في [النفوس] مقام صاحبه، فقد وصف الشاعر بعض الجدليين بذلك فقال: (يسُرُّك مظلوماً وينجيك ظالماً ... ويحمِل إن حَمَّلتَه كل مغرَمِ) وقال آخر: (ألا رب خصم ذي بيَان عَلَوتُه ... وإن كان ألوَي يغلبُ الحق باطله)

ويستشعر [مع] هذا أن الأنفة من الانقياد للحق عجز، وأن الاعتراف به والتجرع له عز، فلا يمتنع من قبول الحق إذا وضع له، ولا يكون قصده في الجدل ألا يقطع، فإن من كان ذلك غرضه لم يزل في تنقل من مذاهبه وتلون في دينه، وإنما ينبغي له أن يعتقد من المذاهب ما قام البرهان عليه إن كان مما يقوم على مثله برهان أوضحت الحجة المقنعة فيه إن كان مما لا يوجد عليه برهان، ويناضل عن ذلك من ناضله، ويجادل من جادله، فإن وقع عليه خصم هو أحسن عارضة منه، وألحن بحجته، وقصر هو في عبارته عن إيضاح حقه لم يتصور له الحق الذي قد قام في نفسه بصورة الباطل إذ قصر هو عن حجته، ولا يسحره بيان خصمه، فيظن أن حقه قد بطل لما انقطع هو عن الزيادة عليه، بل يدع الكلام في الوقت إذا وقف عليه، ويعاود النظر بعد الفكر والتأمل، فإنه لا يعدم من نفسه إذا استنجدها ولاذ بها مخرجاً فيما قد نزل به إن شاء الله. وليعلم مع هذا أن الانقطاع [ليس] بالسكوت فقط، والتقصير عن الجواب، لكن المكابرة وجحد الصورة، والخروج عن حد الإنصاف إلى اللجاجة والتنقل من مذهب إلى مذهب، وعلة إلى علة كله انقطاع، وهو أصبح عند ذوي العقول من السكوت.

وقد قال الشاعر: (XXXX في الجواب مُجادِلٌ ... دل العقولَ على انقطاعٍ حاضرِ) وعلم أن السائر أشد استظهاراً من المجيب، لأن له أن يروي في المسألة قبل أغلالها، والمجيب في غفلة عما يريده السائل، فليس ينبغي المجيب أن يأذن في السؤال إلا بعد أن يعلم في أي معنى هو؟ فإن أحس من نفسه القوة على الجدال فيه، وإلا لم يأذن، وإذا أذن فيه [فقد] تضمن الجواب، فإن لم يجب فقد عجز، وإن أجاب فلم يقنع، أو وقف الكلام عليه فلم يرد، ولم يرجعه إلى قول خصمه فقد انقطع، وإذا استأذن السائل فأذن له فلم يسأل [فقد عجز وإن تبرع عليه بالإذن من غير أن يستأذن فإنه لم] ينسب إلى عجز ولا انقطاع، لأنه مخير في ذلك، والإقناع بالجواب الذي يوجب على السائل القبول، فإن لم يقبل ولم يرد فقد انقطع، وإن مال المجيب نحو قول السائل، ولم يكن ذلك اعتقاده فقد حاجز خوفاً من الانقطاع، وكذلك إن ادعى أن الجواب قد أقنعه [ثم] لم يرجع إليه، ويعتقد فقد حاجز خوف الانقطاع، وإذا أقنع المجيب السائل، فقد زال عنه ما انعقد عليه من تضمن الجواب، ؟ ؟ ؟ ؟ ؟ ؟ من السائل والمجيب دون إظهار الحجة في تحقيق ما تجادلا فيه، وإبطاله من حيث تقر به النفس، فإن جحد اللسان انقطع، إما من الذي قصر عن الزيادة، أو من الذي نكل عن الجواب. والفلج في الجدل [إظهار الحجة] التي تقنع، والغالب هو المظهر لذلك.

ثم إن للمتكلمين من أهل هذه اللغة أوضاعاً ليست في كلام غيرهم مثل: الكيفية، والكمية، والمائية، والكمون، والتولد والجزء والطفرة [وأشباه ذلك] فمتى كان المتكلم غيرهم كان المتكلم بذلك مخطئاً، ومن الصواب بعيداً، ومتى خرج عنها في خطابهم كان في الصناعة مقصراً. وكذلك للمتقدمين من الفلاسفة والمنطقيين أوضاع متى استعملت مع متكلمي أهل هذا الدهر، وأهل هذه اللغة كان المستعمل لها ظالماً، وأشبه من كلام العامة بكلام الخاصة، والحاضرة بغريب أهل البادية. فمن ألفاظهم "السولوجسموس" والهيولي، والقاطاغورياس، وأشباه ذلك مما إذا خاطبنا به متكلمينا أوردنا على أسماعهم مالا يفهمونه إلا بعد أن تفسره، وكان ذلك عيا وسوء عبارة، ووضعا للأشياء في غير مواضعها، ومتى اضطرتنا حال إلى أن نكلمهم بهذه الأشياء، عبرنا لهم عن معانيها بألفاظ قد عهدوها وعرفوها فقلنا في مكان السولوجسموس: القرينة، وفي موضع الهيولي: المادة، وفي موضع القاطاغورياس: المقولات، وكذلك ما أشبهه من ألفاظ الفلاسفة. وقد أتى في شعر من لابس الكلام والجدل وعاشر أهلهما من ألفاظ

المتكلمين ما استظرف لأنه خوطب به من يعلمه، وتكلم به من يفهمه فمن ذلك قول أبو نواس: (تأمل العينُ منها ... محاسناً ليس تنفد) (فبعضها يَتَنَاهى ... وبعضها يتزيد) وقوله: (تركت منى قليلا ... من القليل أقَلا) (يكاد لا يتجزّا ... أقلّ في اللفظ مِن لا) وقول النظام: (أُفرِغَ من نور سمائيّ ... مُصَوّر في جِسم إنسِي) (وأفتقر الحُسنُ إلى حُسنه ... فَجل عن تحديد كيفي) فأما مخاطبة من لا يلابس الكلام، ويعرف أوضاع أهله بألفاظ المتكلمين، وأوضاع الجدليين، فهو جهل من قائله، وخطأ من فاعله، ويلحق ركبه في سوء البناء ما لحق من قال في بعض خطبه، في دار الخلافة: "ثم إن الله عز وجل بعد أن سوى الخلق وأنشأهم، ومكن لهم لاشاهم". وكما لحق الآخر حين خطب فقال: فأخرجه الله - عز وجل - من باب الليسية

إلى باب الأيسية، وعلى أن الطغام والعوام، ومن لا علم له بالكلام إذا سمعوا ألفاظاً لم يعهدوا، ولم يقفوا على معانيها ربما اعتقدوا في قائلها الكفر، واستحلوا دمه، ولذلك شهد بعض سفلة العوام على الخليل وأصحابه بالزندقة لما سمعهم يذكرون أجناس العروض، ويقطعون الشعر، فورد عليه من ذلك ما لم يفهمه، فظن أنه زندقة، حتى قال الخليل فيه: (لو كنت تَعَلمُ ما أقول عذرتني ... أو كنت أجهل ما نقول؟ ؟ ؟ ؟ ؟ ؟ ؟ ) (لكن جهِلتَ مقالتي فَعَذَلتنيِ ... وعلمتُ أنك جاهل؟ ؟ ؟ ؟ ؟ ؟ ) فهذا ما في باب الجدل، وأدب الجدل، وفيه بلاغ للمتميز العاقل إن شاء الله تعالى. الحديث: وأما الحديث فهو ما يجري من الناس في مخاطباتهم ومجالسهم ومناقلاتهم، وله وجوه كثيرة: فمنها الجد والهزل، والسخيف والجزل، والحسن، [والقبيح والملحون] والفصيح، والخطأ والصواب، والصدق والكذب، والنافع والضار والحق والباطل، والناقص والتام، والمردود والمقبول، والمهم والفضول، والبليغ والعمي. فأما الجد: فإنه كل كلام أوجبه الرأي وصدر عنه، وقصد به قائله وضعه موضعه، وكان مما تدعو الحاجة إليه، وباستعمال ذلك وبالإمساك عما سواه أوصت الحكماء فقالوا:

"من علم أن كلامه من علمه قل كلامه إلا فيما يعنيه"، وقالوا: المغبون من مضى عمره في غير ما خلق له، "وقال الله - عز وجل -: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ}. ووصف نبيه - صلى الله عليه وسلم - فقال: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى}. وأما الهزل: فما صدر عن الهوى، والناس في استعماله عن ضربين: أما الحكماء والعقلاء فاستعملوه في أوقات كلال أذهانهم، وتعب أفكارهم ليسجموا به أنفسهم، ويستدعوا به نشاطهم، ويروجوا به عن قلوبهم خوفاً من ملالها وكلالها وأمروا بذلك فقالوا: أروحوا القلوب تعي الذكر، وقالوا: "روحوا عن القلوب فإن لها سآمة كسآمة الأبدان، وجاء أيضاً في الخبر: "روحوا قلوبكم ساعة بعد ساعة، فإن القلوب تمل" ومن قصد هذا بالهزل فالجد أراد، لأنه قصد المنفعة، وما يوجبه الرأي في سياسة نفسه وعقله، وإجمام فكره وقلبه، وقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يمزح ولا يقول إلا حقاً. (وروي أن عجوزاً جاءت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وقالت يا رسول [الله]: إني

أدخل الجنة؟ فقال - عليه السلام -: العجائز لا يدخلون الجنة أراد - عليه السلام - أنه لا تبقى المرأة في الجنة عجوزاً، بل تكون في سن أربعة عشر كما جاء في الخبر). وقال عمر في أمير المؤمنين - عليهما السلام - "هو والله لها لولا دعابة فيه. وقال الشعبي "وصلت بالعلم، ونلت بالملح وذلك لما عليه النفوس من استثقال الحق والجد، واستخفاف اللهو والهزل. وأما السفهاء والجهال. فاستعملوه للخلاعة والمجون، ومتابعة الهوى، وذلك المذموم الذي قد عاب الله - سبحانه - مستعمله، ومدح المعرض عنه. فقال فيمن عابه: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا} وقال: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا} وقال فيمن مدحه بالإعراض عن ذلك: {وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ} وقال في موضع آخر: {وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا}، وقد أوصت العلماء بتجنب هذا الفن من الهزل فقالوا: "إياك والمزاح، فإنه يجري عليك السفلة" وقالوا: "المزاح: السباب الأصغر". وقال أمير المؤمنين عليه السلام: "من أكثر من شيء عرف به، ومن كثر ضحكه قلت هيبته، ومن مزح استخف به" وأما السخيف من الكلام: فهو كلام الرعاع والعوام الذين لم يتأدبوا، ولم يسمعوا كلام الأدباء ولا خالطوا الفصحاء، وذلك معيب عند ذوي العقول لا يرضاه لنفسه إلا مائق جهول، إلا أن الحكماء ربما استعملته في خطاب من لا يعرف

غيره طلباً لإفهامه، كما أنه ربما تكلف الإنسان لمن لم يحسن العربية بعض رطانة الأعاجم ليفهمه، فإذا جرى استعمال هذا اللفظ السخيف هذا المجرى، وغزى به هذا المغزى كان جائزاً، وللفظ السخيف موضع آخر لا يجوز أن يستعمل فيه غيره، وهو حكاية النوادر والمضاحك، وألفاظ السخفاء والسهاء، فإنه متى حكاها الإنسان على غير ما قالوا خرجت عن معنى ما أريد بها، وبردت عند مستمعها، وإذا حكاها كما سمعها وعلى لفظ قائلها وقعت موقعها، وبلغت غاية ما أريد بها، فلم يكن على حاكيها عيب في سخافة لفظها. وأما الكلام الجزل: فهو كلام الخاصة والعلماء والعرب الفصحاء والكتاب الأدباء الذي قد تقدم وصفه في الشعر والخطابة، وليس شيء أعون على جزالة الكلام، وخروجه عن تحريف العوام من مجالسة الأدباء، ومعاشرة الفصحاء، وحفظ أشعار العرب ومناقلاتهم، والمختار من رسائل المولدين الأدباء ومكاتباتهم، ولذلك كانت ملوك بني أمية يخرجون أولادهم إلى البوادي لينشئوهم على الفصاحة، وجزالة الألفاظ، وله أيضاً علم الناس أولادهم الرسائل، ورووهم شعر القدماء، وحفظوهم القرآن، وأمروهم بتحقيقه، ورفع أصواتهم بالقراءة والإنشاد، ليعتادوا الكلام الجزل، وتتفتق به لهواتهم، وتذل به ألسنتهم، وتتشكل بتلك الأشكال ألفاظهم، فإن الخلق يأتي دون الخلق، والعادة كالطبيعة، ولا شيء أفسد للكلام، ولا أضر على المتكلم، ولا أعون على سخافة اللفظ من معاشرة أضداد من ذكرنا، وطول ملابستهم، واستماع قولهم، فينبغي لمن

أراد تجنب الكلام السخيف، ولزوم الجزل للشريف أن يتقي معاشرة من يفسد بمعاشرته بيانه. [كما ينبغي أن يلزم معاشرة من تصلح معاشرته لسانه]. وأما البليغ: فقد ذكرناه حين وصفنا البلاغة ما هي. وأتينا بأشياء مما حضرنا ذكره من القول البليغ الموجز، وأغنى ذلك عن إعادته. والعي: ضد البلاغة، وهو مذموم من الرجال محمود في النساء، لأن العي والحصر، يجري منهن مجرى الحياء والخفر، ولذلك قال امرؤ القيس: (فتور القيام قطيعُ الكلام تَفْتَر عن ذي غروب خصر) وقال الآخر: (ليس يُستَحسن في وصف الهوى ... عاشقٌ يُحسِنُ تأليفَ الحُجَج) وقد يستحسن أيضاً الحصر والعي في المسألة، وعند [وصف] الفاقة والخلة، لأنهما يدلان على كرم الطبع والأنفة من حال المسألة، والتصون عن ذكر الخلة، وقد مدح الله - سبحانه - قوماً بمثل هذا فقال: {يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا}. وأما الحسن من الكلام: فهو كل ما كان في معالي الأمور ومحاسنها، وأحسنه الدعاء إلى الله، والأمر بالمعروف، وقد قال الله - عز وجل -:

{اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} وقال: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ}. ثم يتلوه كل ما كان من مكارم الأخلاق، فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "بُعِثتُ لأتمم مكارِمكم" وكل ما كان من دعاء إلى بر وتعطف، وإصلاح وتآلف، وخير يجتلب، وشر يجتنب. فهو من أحسن الكلام وجميله، ومما يستعمله أهل العقل والحكمة، ويثابرون عليه ولا يرون تركه، ولا السكوت عنه، لأن ترك استعمال الحسن قبيح، ورأي من أهمله غير صحيح. والقبيح من الكلام: ما كان في سفساف الأمور وأراذلها كالنميمة والغيبة، والسعاية والكذب، وإذاعة السر، والنفاق والمكر والخديعة، فكل ذلك قبيح؛ لأنه مذموم الأخلاق ومعيب الأقوال، وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله يحب معالي الأمور ويكره سفسافها" وذم الله - عز وجل - النميمة فقال: {وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ * هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ} وقال عز من قائل في الغيبة: {وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا}، وقال

عز وجل [في الكذب]: {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ}، وقال عز وجل في السعاية: {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ}. وقال في النفاق: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا}، وقال في المكر: {أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الأَرْضَ أَوْ يَاتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ}. وقال في إذاعة السر: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ [لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهم]}. وقال في الخديعة: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ}. فإذا أردت أن تنفي عن نفسك وقولك القبح فانظر ما استقبحته من فعل غيرك وقوله فتجنبه، فإنه القبيح، وما استحسنته منها فاتبعه فإنه الحسن، ولا تسامح نفسك بأن تستحسن منها ما مستقبحه من غيرك فقد قال الشاعر: (ابدأ بنفسِك فَانهَهَا عن عَيِّها ... فإذا انتهت عنه فأنت حَكيمُ)

وأما الفصيح من الكلام: فهو ما وافق لغة العرب، ولم يخرج عما عليه أهل الأدب، ولتصحيح ذلك وضع النحو، ولجمعه وضعت الكتب في اللغة، وذكر المستعمل منها والشاذ والمهمل، وحق من نشأ في العرب أن يستعمل الاقتداء بلغتهم، ولا يخرج عن جملة ألفاظهم، ولا يقنع من نفسه بمخالفتهم فيخطئوه ويلحنوه. واللحن: ما خالف اللغة العربية، وخرج عن استعمال أهلها وما بنى عليه إعرابها، وهو معيب عند الأدباء في الجملة وعلى من يأخذ نفسه بالإعراب، ويتكلم بالغريب من لغة الأعراب أعيب، ويروى أن عمر - رضي الله عنه - كان يضرب على اللحن. فأما العرب إذا لحن أحد منهم لقربه من الحاضرة، ونزوله على طريق السابلة سقطت عند أهل اللغة منزلته ورفضت لغته، وإنما يصح الإعراب لأحد رجلين: إما أعرابي بدوي قد نشأ حيث لا يسمع غير الفصاحة والإصابة، فيتكلم على حسب عادته وسجيتهن ومتى خوطب باللحن لم يفهمه مثل ما حكي عن رجل لبعض الأعراف، وقد سأله عن أهله كيف أهلك؟ فقال له الأعرابي "قتلاً بالسيف إن شاء الله" فظن الأعرابي أنه سأله كيف يموت؟ ولو قال له: كيف أهلك؟ لأجابه بجوابه، ويروى أن الوليد قال لرجل: من ختنك؟ قال: يهودي. فضحك منه فقال له: لعلك أردت من ختنك؟ فهو فلان ابن فلان، وإما المولد الذي قد تأدب ونظر في النحو واللغة، وأخذ بهما نفسه، ومرن عليهما لسانه، حتى صار ذلك عادة له. فأما لغيرهما فليس يصح إعراب، وربما اغتفر في دهرنا هذا اللحن للإنسان في كلامه لكثرة اللحن

في الناس، وأنه قد فشا وعظم وفسدت الفصاحة بمخالطة العرب الأعاجم، والأنباط وسائر الأجناس. فأما في الكتاب فغير مغتفر له ذلك، لأن الطرف متكرر نظره فيه، وللروية تجول في إصلاحه، وليس كمثل الكلام الذي يجري على غير روية ولا فكرة. وأما المواضع التي يجب أن يستعمل اللحن فيها ويتعمد له أكثره في أمثالها، ويكون ذلك مما يوجبه الرأي، فهو عند الرؤساء الذين يلحنون، والملوك الذين لا يعربون. فمن الرأي لذي العقل والحنكة، والحكمة والتجربة ألا تعرب بين أيديهم، وأن يدخل في اللحن مدخلهم، ولا يريهم أن له فضلاً عليهم. فإن الرئيس والملك لا يحب أن يرى أحداً من أتباعه فوقه، ومتى رأى أحداً منهم قد فضله في حال من الأحوال نافسه وعاداه، وأحب أن يضع منه، وفي عداوة الرؤساء والملوك لمن تحت أيديهم البوار، ومن ذلك ما يحكى عن بعض من تكلم في مجلس بعض الخلفاء الذين كانوا يلحنون، فلحن فعوتب على ذلك فقال: "لو كان الإعراب فضلاً لكان أمير المؤمنين إليه أسبق"، وسأل الوليد رجلاً عن سنيه فقال: "كم سنيك؟ " فقال "أربعين سنة" فقال: لحنت فقال: إنما اتبعتك فقال: "فكم سنوك" فقال أربعون سنة، وقد يستملح اللحن من الجواري، والإماء، وذوات الحداثة من النساء، لأنه يجري مجرى الغرارة فيهن وقلة التجربة، وفي ذلك يقول الشاعر: (وحديثُ ألَذُّه هو مما ... تشتهيه النفوس يوزنُ وزنا)

(منطِق صائب وتلحن أحياناً ... وأحلى الحديث ما كان لحناً) ولست أدري كيف صار اللحن عند هذا الشاعر خير الحديث، (وأحسن أحواله، وأن يغتفر لمستعمليه)، وأظنه أراد أملح الحديث، فاضطره الوزن إلى أن جعل في موضع ذلك خير الحديث، وقد تأول له بعض الناس فقال: إنما أراد باللحن الفطنة للمعاني، ومنه قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - "إنكم لتتحاكمون إلي فيكون أحدكم ألحن بحجته" يريد أفطن لها، وما أوتي في هذا التأويل بشيء، وقوله: "منطق صائب" قد أتى على إصابة المعنى فما وجه فطنتها لذلك أحياناً. وأما الخطأ والصواب: فإن الصواب كل ما قصدت به شيئاً فأصبت المقصد فيه، ولم تعدل عنه، ومنه قيل: "سهم صائب" وأصبت الغرض، وصواب القول من ذلك مأخوذ. ويقال: "قول صائب" من صاب يصوب وهو صائب. مثل قال يقول فهو قائل، وقول مصيب من أصبت في القول أصيب إصابة، وأنا مصيب، والقول مصيب. كما تقول أردت الشيء أريده إرادة فأنا مريد، والقول المصيب هو ما أعطي المفعول فيه اسم الفاعل مثل "راحلة"، وإنما هي مرحولة، "وعيشة راضية" وإما هي مرضية، ومدح الله - عز وجل - الصواب فقال: {يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا}. ومن الصواب أن يعرف أوقات الكلام، وأوقات السكوت، وأقدار الألفاظ، وأقدار المعاني، ومراتب القول، ومراتب المستمعين له، وحقوق المجالس وحقوق المخاطبات فيها، فيعطي كل شيء من ذلك حقه، ويضم كل شكل

منه إلى شكله، ويأتيه في وقته، وبحسب ما يوجبه الرأي له. فإنه متى أتى الإنسان بالكلام في وقته. أنجحت طلبته، وعظمت في الصواب منزلته، ولذلك ترى من له الحاجة إلى الرئيس يرقب لها وقتاً يرى فيه نشيطاً فيكلمه (في حاجته، فيكون يسير القول منه في ذلك القول، منجحاً، ومتى عجل كلمته) وهو ضيق الصدر أو مشغولاً ببعض الأمر، كان ذلك سبب حرمانه، وتعذر قضاء حاجته. وارتقاب الأوقات التي تصلح للقول، وانتهاز الفرصة فيها إذا أمكنت من أكثر أسباب الصواب، وأوضح طرقه، ثم متى سكت عن الكلام في الأوقات التي يجب أن يتكلم لحقه من الضرر بترك انتهاز الفرصة [فيها] مثل ما يلحقه من ضرر الكلام في غير وقته، ول لك قال أمير المؤمنين - عليه السلام -: "انتهزوا الفرص فإنها تمر كمر السحاب"، وللسكوت أوقات هو فيها أمثل من الكلام، وأصوب ما فيها السكوت عن جواب الأحمق، والهازل، والمتعنت، وفي ذلك يقول الشاعر: (وأصْمُتُ عن جوابِ الجَهل جُهدي ... وبعض الصّمتِ أبلغُ في الجوابِ) وقال بعضهم "رب سكوت أبلغ من منطق". ومنها السكوت عن مقابلة السفيه على سفهه، واللئيم على ما ينالك به، والتصون عن إجابتهما، والحلم عما يبدر منهما، وقد مدح الله - عز وجل - الحلم فقال: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأَوَّاهٌ حَلِيمٌ} وسمي نفسه الحليم وقال الشاعر:

(ولم أرَ مثل الحِلم زَينا لصاحبٍ ... ولا صاحباً للمرء شراً من الجهلِ) وقال الله - عز وجل - في وصف المؤمنين وتنزههم عن مقابلة الجاهلين: {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا}. وقال عز وجل: {وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ} وقال: {وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ}. وقال الشاعر: (مُتارَكَةُ اللئِيم بلا جوابٍ ... أشدّ على اللئيمِ من الجوابِ) وقال آخر: (فقد أسَمع القولَ الذي كادَ كلّما ... تذكرته بالنفسُ قلبي يُصدع) (فأبدي لمن أبداه منّي بشاشَةً ... وإني لمسرور بما منه أسَمعُ) (وما ذاك من عُجب بهِ غير أنني ... أرى أن ترك الشرِّ للشرِّ أقطعُ) والحلم إنما هو عن نظيرك، أو من هو دونك. فأما من هو فوقك ومسلط عليك، فليس يسمى السكوت عن مقابلته حلماً، بل هو بباب التقية أشبه، وبالمداراة أليق، وبذلك أوصى الشاعر حين يقول:

(بُنيّ إذا ما ساَمَك الذُّل قادرٌ ... عليك فإن الذلَ أحرى وأحرزُ) (ولا خير في كلّ الأمور تَعَزُّزاً ... فقد يورثُ الذل الطويل التعززُ) ومما يستحسنه الأدباء، ويراه صواباً كثير من العلماء: الحلم عن النظير ومن هو دون النظير، لأنه يبين عن فضل الإنسان في نفسه، ويرفعه عن مقابلة من جهل عليه، ووضع نفسه لأذيته، وقد قيل: "من عاجل نفع الحلم كثرة أعوان الحليم على الجاهل، والتقية والمداراة للسلطان والرئيس لدفع المرهوب من جهتهم، واجتذاب المحبوب منهم، ومقابلة من يرى نفسه فوقك، ويتوهم أن إمساكك عنه خوفاً منه، فيجترئ عليك بحلمك عنه، ويكون سكوتك عنه زيادة فيما ينوبك منه، ولذلك قال الله عز وجل: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ}. وقال: {وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ}. وإنما كان الصواب في مقابلة من هذه حالته، لأن في مقابلته قطعاً لمادة أذيته، وردعاً له عن معاداته بمثل فعله، وقد قال الشاعر: (وإذا كُنت عِند الحِلم تزداد جُرأةً ... عليَّ وعند العفوِ والصفح يَجهلُ) (ردعتُك عنيّ بالتجاهُلِ والخَنَا ... فإنهما عندي مِثلِك أمثلُ) وقول الآخر: (ألا لا يجهَلن أحدٌ علينا ... فنجهلَ فوقَ جهل الجاهلينا)

وأما أقدار الألفاظ، وأقدار المعاني، فهو أن يأتي المعنى فيما يليق به من اللفظ، وقد مضى الكلام فيه بما أغنى عن إعادته، وأما مراتب القول، ومراتب المستمعين له. فهو حسن التلطف فيه، والإتيان به على تقدير وتمرين لسامعه، وحسن حيلة في إيراد ما يقبل عليه وتجنيبه ما ينكره، وألا يهجر منه عليه بما يغضبه، أو لا يحتمله قلبه، ولا يسعه صدره، ولا يليق به قبوله، ثم يزيده شيئاً بعد شيء حتى يبلغ به أقصى مراده منه، فيكون في ذلك مثل المربي للصبي، فإنه متى هجم عليه بالغذاء من أول مرة قتله، ولكنه يسقيه اللبن ثم ينقله في الغذاء من حال لطيفة إلى ما هو فوقها حتى يكمل تربيته. أو كالطبيب الحاذق الذي إذا رأى العليل يكره الدواء ويمتنع من أخذه، لطف له واحتال في إقامة شيء مكان شيء، وخلط ما يستبشع طعمه بما يذهب ببشاعته، والتدبير لذلك حتى يسهل عليه أخذه، ويبلغ مراده من فقهه ولذلك بدأ الرسول - صلى الله عليه وسلم - في أول النذارة بالدعاء إلى التوحيد بشهادة الإخلاص، فنظر ثم لم يزل يزيدهم فريضة بعد فريضة، وأمراً بعد أمر إلى أن أكمل لهم الدين، وانتهى في ذلك، ولو هجم به عليهم في أول وهلة لاستثقلوه ورفضوه، وخالفون ولم يقبلوه، فينبغي للعامل أن يكون بصيراً يترتب قوله، عالماً بمراتب المستمعين له في قبوله، فلا يأتيهم منه بما ينافر طبائعهم، ويكون سبباً إلى إعراضهم، ثم لا يزال يلطف لهم في ذلك ويرقيهم في حال إلى حال فيه، حتى يبلغ بهم مقصده، فإن ذلك

أصوب في الرأي، وأولى بالقبول. وقد أوصى بعض حكماء العرب بنحو ما قلناه فقال: "أعلم أنه لا يتهيأ لك نقل رجل عن طريقته بالمناقضة والمكابرة، ولا سيما إذا كان ذا سلطان أو ذا نخوة، ولكنك تقد أن تعينه على رأيه، وتنبهه على إحسانه، وتقربه من قلبه، فإنك إذا قربت منه المحاسن كانت هي التي تكفيك المساوي، وإذا استحكمت منه ناحية من الصواب كان ذلك الصواب هو الذي يبصره الخطأ بألطف من تبصيرك، وأعدل من قضيتك، لأن الصواب يؤيد بعضه بعضا، يدعو بعضهم إلى بعض. وإنما حقوق المجالس وحقوق القول فيها، فإن مجالس السلطان مخالفة لمجالس الرعية، ومجالس العلماء مخالفة لمجالس الجهال، ومجالس الجد مخالفة لمجالس الهزل، فحق العاقل أن يعظم مجالس السلطان والعلماء فلا يأتي فيهما مخالفة بشيء من الخنا، ولا الهزل ولا اللهو إلا أن يشاء السلطان ذلك منه، فيأتي ما يأتي ذلك عن إذنه وطاعة لأمره وتحسب ما يحتمله نشاطه من غير زيادة على ما يخرج به عن حد الخلاف عليه، والعصيان لأمره، ولا يملي لنفسه مع ذلك في الاسترسال، والجري على عادة النفس في الإهمال، وأن يكون في مجلس السلطان بين ثلاثة أحوال: إما أن يكون منصتاً، أو معظماً لحقه عن الابتداء بالكلام في مجلسه، أو مجيباً عما يسأل عنه، من غير دخول في جواب مسألة لغيره، أو منهياً نصحه إليه فيما أصلح ملكه ورعيته من غير أن يشوب النصح بالسعاية، أو يخلط المشورة بالنميمة، والتحميل على الرعية، فالتوقير للرؤساء والأئمة مما قد أمر الله سبحانه به حيث يقول:

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ * إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ}. والنصيحة للأئمة واجبة، فقد روى جرير أنه بايع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على السمع والطاعة والنصيحة، وروي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "إن الدين النصيحة لله ولرسوله ولأئمة المسلمين". والسعاية والنميمة وتحميل السلطان على الرعية مذموماً عند الحكماء وقد روي أن أفلاطون أعرض عن أرسطاطاليس لشيء بلغه عنه، فسأله عن سبب إعراضه، فقال شيء بلغنيه الثقة عنك، فقال: "الثقة لا يكون تملقاً". وروي أن رجلاً سعى إلى الإسكندر ببعض أصحابه، فقال: إن أردت أن أقبل قولك فيه على أن أقبل قوله فيك فعلت، وإلا بدع الشر يدعك. وإن يكون في مجلس العلماء في أحد ثلاثة أحوال: إما سائل متعلم، أو منصت متفهم، أو مذاكر بالعلم للمتعلم. فقد روي: كن عالماً أو متعلماً أو منصتاً ولا تكن الرابع فتهلك وأن يوقر العلماء، ويتملقهم، فقد روي

في بعض الحديث: "ليس الملق في أخلاق المؤمن إلا في طلب العلم". وروي عن أمير المؤمنين - عليه السلام -: "حق العالم ألا تكثر عليه السؤال حتى تضجره، وألا تأخذ بثوبه، وإذا دخلت على قوم فسلم عليهم جميعاً وخصه بالتحية، واجلس بين يديه، ولا تغمز بعينك، ولا تشر بيدك إلى مجلسه، ولا تكثر من قول قال فلان وقال فلان خلافاً عليه، ولا تضجر بصحبته". وذكرنا في الحديث وأن يكون في مجلس الجد جاداً في منطقه، وقوله، غير مهجن بكلامه ونفسه باستعمال الهزل والإضافة فيه، فقد قيل: لا تخلط الجد بالهزل فيسخفه، ولا تخلط الهزل بالجد فيكدره. وإن اضطرته حال إلى مجالسة السفهاء وأهل الهزل فليكن بينهم متسلماً، وعن جملتهم خارجاً، ولما هم فيه نافياً، وعنه بسمعة معرضاً، وليكن في استعمال ما لا إثم فيه من المرح والهزل، وما لا يسقط مروءة ولا يثلم ديناً ولا جاهاً، قاصداً إلى ترويح قلبه وإجمامه لمعاودة ما فيه نفعه، فقد روي أن في حكمة داود: على العاقل ما لم يكن مغلوباً على أمره أن يجعل نهاره أربع ساعات: فساعة يناجي بها ربه، وساعة يحاسب فيها نفسه، وساعة يفضي بها إلى إخوانه الذين ينصحون له ويصدفونه عن عيوبه، وساعة يخلي بين نفسه فيها وبين شهواته ولذاته

فيما يحل ويجمل، فإن في هذه الساعة له عوناً على هذه الساعات. وأما مجالس السوقة فليس يخلو من عاش بينهم من حضورها ولابد للإنسان من ملابستهم فيها، فحق العاقل الا يلقاهم بكل رأيه، ولا بجميع عقله فيها، وأن يستعمل في مخاطبتهم ومعاملتهم بعض المقاربة لأحوالهم، فإن ذلك أولى بسياستهم. وقد روي أن عمر - رضي الله عنه - صرف زياداً عن بعض عمله، فقال له: الذنب كان صرفك إياي؟ ! فقال: لا، ولكني كرهت أن أحمل فضل عقلك على العامة. وقد فسر هذا المعنى بعضهم، والناس في أشكالهم أمثل. وربما كان التغابي من الإنسان للعوام، والتغاضي لهم في الأمور العظام، أحد الطرق المستقيمة إلى بلوغ المراد منهم، لأنهم متى تصوروا الإنسان صورة من هو أعلى في الفهم والضبط منهم حذروه، واستعملوا الاحتراس منه فيما ينبغي أن يحترس منه فيما لا ينبغي، واستشعروا فيه في جميع أمره الحيلة عليهم، فاستدت الطرق بذلك على معاملهم في بلوغ مراده منهم، وإذا كان عندهم مساوياً لهم في العقل والحيلة والتجربة والرجلة استرسلوا إليه، وعاملوه بمثل معاملة بعضهم لبعض، فلا بأس أن يتغابى العاقل لهم، وأن يظهر ما يستديم به أنسهم واسترسالهم، ولا يفتح باستعمال غيره باب التقبض والاحتشام بينه وبينهم من غير أن يزيد في ذلك على مقار ما توجبه السياسة، فإنهم متى اجترأوا عليه وطمعوا فيه لحقه من الضرر بذلك أكثر مما يلحقه بانقباضهم عنه. وقد أمر معاوية عمراً حين أرسله للحكومة هذا الذي ذكرناه بعينه

فقال: "قد وجهتك إلى رجل قريب الغور، فلا تلقه بكل عقلك، وأجد الحز، وأصب المفصل"، ولولا مقاربة عمرو لأبي موسى وتخادعه له لما تم له ما يريد منه، وينبغي أن يجعل وكده وكده مداراتهم على طبقاتهم، وإعطاء كل صنف منهم من القول ما يرضيه، فإن العاقل من دارى أهل زمانه وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "رأس العقل بعد الإيمان بالله مداراة الناس". فإن أمكنك ذلك باستعمال الحق في بعض، والمعارضة في البعض، فقد ظفرت بما إليه أجزت الحكماء، وقصدت العلماء، وإن لم تظفر بذلك لاختلاف جبلات الناس، وأن اجتماعهم على الرضا بالشيء من الأمور العسرة الوجود، فليكن وكدك مداراة خواصهم، وأهل العقل منهم، فإن لكل قوم رؤساء وأفاضل والمرؤوسون أتباع الرؤساء، والمفضولون تبع للفاضلين، فإذا حزت رضا الرؤساء والنظراء، فإنك قد حزت رضا الجميع. وأما الخطأ: فهو ضد الصواب ومعناه العدول عن المقصد من غير تعمد وإنما الفرق بين الخطأ والجور، وإن كانا جميعاً عدولاً عن الطريق المقصود والسبيل المسلوك، أن الخطأ إنما هو عدول عن الطريق بغير قصد، والخاطئ اسم الفاعل من خطئ يخطأ خطأ مثل عمل يعمل عملاً وهو عامل، وقال للشاعر في خطئي.

(والناسُ يَلحَونَ الأميرَ إذا همُ ... خطِئُوا الصوابَ ولا يلامُ المُرشِدُ) والمخطئ: اسم فاعل من أخطأ يخطئ وهو مخطئ مثل أكرم يكرم وهو مكرم، والذي ذمه الله - عز وجل - فقال: {لا يَاكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ}. فهو المأخوذ من الخطيئة لا من الخطأ الذي هو السهو، ولذلك أمر الله عباده أن يسألوه ألا يؤاخذهم بالخطأ الذي من جهة الخطيئة، لأنه قد وضع عنهم ما لا يعتمدنه. وكل ما قلناه من الصواب فإن الخطأ في ضده. وأما الصدق والكذب: فقد ذكرناهما فيما تقدم من كتابنا هذا، وكذلك الحق والباطل، وقد أمر الله - عز وجل - باستعمال الحق والصدق، ووصف نفسه بهما فقال: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلا} وحديثاً {فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ}. وقال: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} و {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} ولو لم يكن في شرف الحق والصدق إلا أن جميع الأمم على كثرتها واختلاف طبائعها وهمتها تمدحهما، وسائر الناس إنما يقصدون بقولهم وفعلهم إصابتهما، فلا ترى أحداً إلا وهو [يحرص] أن يصدق في قوله، وأن يصيب الحق اعتقاده وفعله، حتى إن الكاذب إنما يكذب ليصدق على كذبه، فطلب الصدق قصده، ونيله بغيته، والمبطل إنما يقصد الحق فيخطئ في الوصول إليه، وطلب الحق قصده، وإن كان من المموهين على الناس، فإنما يزخرف لهم باطله حتى يقيمه مقام الحق الذي يقبل ويعمل به، وكفى بهذا فضيلة للحق والصدق، ولمن عرف بهما، ونسب إليهما، فإن الصادق المحق عظيم

المنزلة عند الله - عز وجل - وعند خلقه، والكاذب المبطل ساقط المحل عند الله - عز وجل - وعند خلقه. فالعاقل حري بلزوم شرف المنزلتين، وطلب أعلى الدرجتين إن شاء الله. ولما علم سبحانه أن الباطل والكذب قرينان مع طبائع كثير من عباده، ملائمان لشهواتهم، مطابقان لمداراتهم، وكان طول استماع الكذب ومعاشرة أهله مخوفين على إطلاق الناس، خليقين بأن يصيرا إعادة لهم على طول الملابسة نهى الله - سبحانه - عن القعود مع المبطلين كما نهى عن الخوض في الباطل وذم مستمعي الكذب، كما ذم الكاذبين فقال - عز وجل -: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ}، وقال في ذم قوم: {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ}. وكقول الشاعر: (فسامعُ القول كمن قاله ... ومُعظِم المأكول كالآكل) وإنما أمر الله - عز وجل - الحكماء بذلك لما قدمناه من الاحتياط على الناس لئلا يصير ذلك عادة لهم، ولأن استماع الكذب، والصبر على معاشرة المبطلين على باطلهم رضا بذلك، ومن رضي بالباطل فهو مبطل، ومن قنع بالكذب فهو كاذب، [فعليه أن يتجنبهم] ويهرب من استماع كذبهم وباطلهم ما أمكنه ذلك، فإن اضطرته نفسه إلى حضور ذلك أو استماعه صدف عنه، ولم يرعه سمعه وكان كالغائب عنه، فإن ذلك أولى به في إصلاح أخلاقه وتأديب نفسه. وأما النافع والضار: فإن النافع من الحديث ما كانت عواقب القول فيه

والاستماع له، والعمل عليه مفضية بسامعه إلى نفع عاجل أو آجل. والضار: ضد ذلك. فمن النافع طلب الحوائج، ومنه الشكر المنعم، ومنه حفظ السر، ومنه معاقبة المذنب، ومنه معاتبة المتنصل من الذنب، ومنه السؤدد، ومنه الأخذ بشهود الحديث في حكايته. والطلب ينقسم أربعة أقسام: دعاء، ومسألة، وطلب، وأمر. فالدعاء لله وحده قال سبحانه: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَّا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى}. والمسألة قد تكون لله - عز وجل -، وقد تكون لمن هو فوقك من الرؤساء والمديرين. وفي المسألة لله - عز وجل - يقول الله - عز وجل - {وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ}. والطلب من النظير، ومن هو دون النظير، والأمر لمن هو دونك. فحق العاقل أن يدعو الله - عز وجل - بحوائجه، ويرغب إليه في أموره، وأن يعلم أن الخير والشر في خزائنه، وتحت قدرته وملكه، وأنه لا يملك ذلك أحد إلا بإذنه، فيكون دعاؤه إياه بالإخلاص والإخبات والتضرع كما قال سبحانه: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً}، وكما قال في وصف أنبيائه: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ}، وأن يقدم قبل الدعاء التحميد والتمجيد والثناء على الله سبحانه، فإن المدح قبل المسألة. وقد روي ذلك عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حديث مشهور، وأن يعلم أن الدعاء هو العبادة الكبرى.

ولذلك قال الله - عز وجل -: {قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعَاؤُكُمْ} فإن من دعا ربه، فقد أطاع أمره، وعرف قدره لأن الله سبحانه بذلك أمره حيث يقول: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ}. قال قائل: فإذا كان الله - عز وجل - قد قدر الأشياء تقديراً واحداً، وعلم ما يكون منها، وكان غير جائز أن يقع شيء بخلاف ما علم منه، فما معنى الدعاء؟ ! وقد فرغ الله - عز وجل - مما يدعو فيه. قلنا: لو كانت الأشياء السابقة في علم الله محتومة كلها لكان ما قلت، ولم يكن لدعاء موقع، ولا للاستجابة موضع، لكن الله تعالى علمين: أحدهما محتوم، والآخر موقوف على شرط، وبذلك نطق كتابة، فقال: {الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ}، والمحتوم لا يتأخر عن وقته، كما قال سبحانه: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَاخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ}، والآخر الموقوف على الشرط هو الذي يدفع مكروهه بالدعاء والصدقة والبر، ويغير مرجوه بمثل ذلك، وبالإنابة والتوبة، وهو الذي يقول [فيه] الله - عز وجل -: {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} وفيه يقول: {وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ} ومثله مما قد قص علينا في القرآن قوله: {يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ}

وكانت مكتوبة في سابق علمه لهم على شرط، وهو أن يطيعوه في دخولها، فلما عصوه حرمها عليهم. وقد تواترت الأخبار بأن الصدقة ترد القضاء، وأن برد الوالدين يزيد في العمر، وأشباه هذا. وإنما ذلك فيما هو من علم الله سبحانه معلق بشرط عنده، وقد ذكرنا هذا في كتاب الإيضاح عند ذكرنا لله - عز وجل - فيه من المشيئة بما أغنى عن إعادته. ولعل من لم يقو تمييزه، ويكمل عقله يسوء بربه - سبحانه - إذا دعاه فلم يستجب له، ويتوهم أن ذلك بخلف وقع من الله - سبحانه - في وعده، أو تهاون بدعاء عبده، وليس الأمر كذلك، لكن هاهنا سر في الدعاء فيه تنبيه لكثير من الناس على رشدهم، وهو أن كل أحد مجبول على أن يهيئ لنفسه أعلى المنازل وأشرف المراتب، فهو لا يسأل الله تعالى إلا على قدر تمنيه وشهوته، ولو أعطى الله - عز وجل - كل أحد ما يشاء كان الناس جميعاً على أعلى طبقة، وأشرف منزلة، ولو صار الناس على هذا يوماً واحداً لاستغنى بعضهم عن بعض، ولو استغنى بعضهم عن بعض ما ترافدوا ولا تعاونوا، ولو لم يترافدوا ويتعاونوا لبطلت الحكمة في سياستهم، ودخل الخلل والإضاعة على جماعتهم، لأن الصناع والتجار والمهان كانوا يصرفون عن صنائعهم وتجاراتهم ومهنهم ويستغنون عنها، فيبقى كل واحد من الناس بغير معين، وإذا لحق ذلك كل واحد منهم دخل عليه من الضرر في نفسه وأهله وماله وولده ما لا بقاء معه، ولا صلاح بمده، فإذا دعوت الله سبحانه فاعلم أنك تدعو حكيماً يسوس الخلق، ويدبرهم بحكمته، والحكيم لا يعطيك في نفسك، وأنت جزء

من خلقه ما ينتقض به تدبيره في سار خلقه، ويفسد به سياسته في جميع ملكه، لكنه يستجيب لك فيما ينفعك ولا يضر غيرك، فإذا منعك فإنما يمنعك ما تفسد به تدابير لكل الذي أنت جزء منه، كمنعه إياك لنفعك إذا كان حكم الجزء تابعاً لحكم الكل. وأما السؤال فينبغي أن يكون لله - عز وجل - بالتذلل والاستكانة، وللناس بالتعفف والقناعة، ومجانية التذلل والضراعة، فقد روي أن بعض الحكماء سئل عما يقرب العبد من الله - عز وجل - وما يقرب من الناس فقال: أما ما يقربك من الله - عز وجل - فأن تسله وأما ما يقربك من الناس فألا تسلهم. وروي أن رجلاً سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يعلمه عملاً يدخله الجنة، فقال: "لا تسأل الناس شيئاً، فإذا أردت حاجة من الله عز وجل فاسأله إياها فيما بينك وبينه، وأخلص النية له، وتطهر من الذنوب الموبقة بالتوبة والاستغفار، فإن سميع الدعاء فعال لما يريد". واستشعر الإجابة فيما عرفناك، فاشكره ولا تتهمه إن منعك وحماك. وإذا أردت حاجة من المخلوقين فمثل في نفسك عز الغنى وذل الحاجة، وما تريقة من ماء وجهك في المسألة، ثم انظر فإن كان لك مندوحة عن تلك الحاجة تكرمت عنها، وعزفت عن التذلل للمسألة فيها، وإن وجدت الحال يضطرك إليها عملت في مسألة من لا تعرك مسألته ولا يخلقك بذل له من رئيس مسلط منبسط اليد، أو رجل معروف بالإسعاف والتكرم، والسماحة والتذمم، وأتيت ما تأتيه من ذلك

على سبيل تعفف وتجمل، فقد وصف الله - عز وجل - قوماً بذلك فقال: {يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ} واعلم أن السؤال وإن قل ثمن كل نوال وإن جل - كما قال أكثم بن صيفي: ولم يزل السؤال مكروهاً عند ذوي المروءة من الرجال. وفي ذلك يقول الشاعر: (وفتىً خَلاَ من مالِهِ ... ومن المروءة غير خالِ) (أعطاك قبلَ سُؤالِهِ ... وكفَاكَ مَكروهَ السُؤالِ) وليس ينبغي للعاقل أن يسأل مشهوراً بالبخل، ولا لئيماً بالطبع، ولا قليل ماء الوجه، ولا حديث عهد بسلطان أو نعمة، فإن نتيجة سؤال هؤلاء الحرمان، وهم أعوان الزمان على الإنسان، وينبغي له ألا يسأل إلا ممكناً يجوز أن يسعفه، فقد قيل: إن العاقل لا يرد عن حاجته. فقيل: وكيف ذلك؟ قيل لأنه لا يسأل إلا ما يجوز. وألا يحمل المسئول إذا أنس منه كرم طبع وحسن إسعاف فوق طاقته، أو أن ينزل به من مئونته ما يستنفذ وسعه، فإنه إذا فعل ذلك أحوجه [أن] يفظع به، وفي هذا المعنى يقول الشاعر: (إنك إن كلفتنيِ ما لم أطِق ... ساءَكَ ما سرَّكَ مني [من] خُلق) وينبغي له ألا يلحق على من يسأله حاجته ولا يبرمه، وأن ينظر أي

حالي الاثنين أقرب إلى قلبه، وأولى بإسعافه، وطيب النفس بقضاء حاجته إليه، بالحياء والإعظام، أم حال من يطلبها إليه بالإلحاح والإبرام، ثم ليحكم على نفسه بحكمه في ذلك على غيره، فلا ينبغي أن تسأل رجلاً معونتك على غيره في حاجة لك، ولذلك الرجل إلى من حاجتك إليه حاجة مثل حاجتك، فإنه لا يقدم حاجتك على حاجته، ولا يستفرغ الوسع في معونتك ويدع نفسه، وربما ضرك إذا اعتمدت عليه، وكان من أمرك مقصراً، بجاهه على غير حاجتك موفراً. وقد حكى الأصمعي عن بعض موالي قريش أنه قال: "لا تطلبن حاجتك إلى كذاب، فإنه يقربها وهي بعيدة، ويبعدها وهي قريبة، ولا إلى أحمق، فإنه يريد أن ينفعك فيضرك، ولا إلى رجل له عند القوم مثل حاجتك، فإنه سيجعل حاجتك وفاء لحاجته". وإن كان سؤالك في طلب العلم، فالذي يليق بالعاقل ويحسن [به] الإلحاح بالطلب، واللزوم في الدأب، وألا يرد وجهه عن الاستقصاء في استخراج الفائدة، فقد روي عن الصادق - عليه السلام - أنه قال: على العلوم أقفال، ومفاتحها السؤال. وقيل: من رق وجهه رق عمله. وقيل لابن عباس أن لك هذا العلم؟ فقال: لسان سئول، وقلب عقول. وقد ذكرنا السؤال والأدب فيه في الجدل بما أغنى عن إعادته. وأما الأمر فينقسم قسمين: أحدهما ما أمرت أن تعمل فيخص باسم الأمر، والآخر ما أمرت به أن يترك فيسمى به نهياً.

ومن الواجب على ذي الحجا، وأخى النهي ألا يأمر إذا أمر، ولا ينهى إذا نهى وزجر إلا بعد تثبت ونظر، وأن يأتي في الأمر والنهي ما هو عند العلماء مألوف، وعند الحكماء معروف، مما هو بين النفع لذي الأدب، خارج عن ذي العبث واللعب. ومن أوجب ما أمر به الإنسان ونهى عنه: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لأن الله تعالى قد حض على ذلك، وعنف على تركه، وعاقب على إهماله، فقال عز من قائل: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَامُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ} وقال: {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَامُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ} وقال: {كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ}، وقال: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ}. والمنفعة في الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر بينة ظاهرة، لأن الله - عز وجل - لما خلق الخلق فباعد بين هممهم وفطرهم، وخالف بين عقولهم وفكرهم، وكان أكثرهم إلى الفساد سراعاً، وللهوى أتباعاً وكانوا متى تركوا وما تدعوهم إليه نفوسهم فسدوا وأفسدوا غيرهم، وليس للفساد خلقوا، ولا بما خالف الصلاح جعلوا، أمر الله - عز وجل - الأنبياء

بتأديبهم وأمرهم، وبحثهم والأخذ على أيدي سفهائهم، وأقام الأئمة في ذلك بعد الأنبياء مقامهم وقال: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ}. فجعل الأمر والنهي باللسان لذوي العقول والأبصار، ومن يردعهم الحياء عن مقارفة ما لا يليق بذوي الأخطار، وجعل السوط لمن لا ينفعه الزجر من شراب الخمور، ومرتكبي الفجور، وجعل السيف لمن لا يقنع في تأديبه بالسوط من المتقاتلين، والبغاة والمارقين: وكل ذلك أمرٌ بالمعروف ونهي عن المنكر، وقد روي "من رأى منكم منكراً فلينكره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان". وليس من العدل عند ذوي العقول أن يصلح الإنسان غيره، وهو غير صالح في نفسه، ويقوم أخلاق الناس بقوله وفعله، وهو غير مقوم في خلقه، وإنما ينبغي أن يبتدئ بنفسه فيحملها على ما يريد إحلاء الناس به، فإنها أقرب إليه، وأولى بنصيحته، فإذا انقادت به أخذ في إصلاح عيوب غيره، ومن ذلك قول الله - عز وجل -: {أَتَامُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ}. وقال المسيح - عليه السلام -: "ما بالك ترى القذاة في عين أخيك، ولا ترى السارية التي في عينك،

فأخرج أولاً السارية من عينك، ثم أخرج القذاة من عين أخيك. وقد روي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه يؤتى بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار فتندلق أفتاب بطنه، فيدور بها كما يدور الحمار بالرحى، فتجتمع عليه أهل النار فيقولون: يا فلان، أما كنت تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر؟ ! فيقول: "كنت آخر بالمعروف ولا أفعله، وأنها عن المنكر وآتيه". ومن الحق أيضاً عند ذوي الحكمة ألا يبذلوا نصيحتهم في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لمن يعاديهم على ذلك، ويخافون سطوته فيه، ولا يرجون قبوله إياه، ولا رجوعه إليه، فإن ذلك جهل من فاعله، وهو شبيه بوعظ الأصم، ومخاطبة الموتى، في قلة الانتفاع به، والتضييع له، ونظيره التعرض للسبع بما يغضبه، وللأفعى بما يوثبه فهو إنما يتعرض من بلاء هذه الطبقة لما لا يطيقه، ولذلك استعمل أهل الدين والفضل والحكمة والعقل التقية هذه، وأمروا بها، وأطلقها الله ورسوله. فروى عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال لأبي ثعلبة الخشني يا أبا ثعلبة أئتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر، فإذا رأيت دنيا مؤثرة وشحاً مطاعاً، وإعجاب كل ذي رأي برأيه، فعليك نفسك، "، وذكر باقي الحديث. وروي عن الحسن أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه

وسلم -: "ليس للمؤمن أن يذل نفسه". قيل: وكيف إذلاله لنفسه؟ قال: أن يتعرض من البلاء لما لا يطيقه. وقال سفيان: أنا لا أنهاك عن أن تأمر وتنهى، إنما أخاف عليك أن تبتلى فلا تصبر. وأما ما وري عن الصادقين - عليهم السلام - من أنه لا دين لمن لا تقية له، وقال العالم عليه السلام: "التقية دين آبائي، فإن قال قائل: إنك قلت إن الأمر والنهي لمن هو دونك، ثم ذكرت هاهنا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فجعلتهما لمن هو دونك، ولمن هو فوقك ممن يبسط يده عليك، وتخاف أن يسبق بمكروه إليك، فما وجه ذلك؟ قلنا: إن المأمور المنهي من الملوك وغيرهم، فإن كانوا فوق الآمر لهم والناهي بالقدرة والسلطان، فإنهم دونه في حقيقة الإيمان، لأنهم إذا ارتكبوا من الأمور الموبقة المفسدة [ما] يوجب عليهم نهيهم عنها ووعظهم فيها؛ فقد صارت منزلتهم دون منزلته في حكم الشريعة وترتيب العقل. فأما من دون الإنسان من تابع وعبد وغيرهما، فالواجب على العاقل ألا يأمرهم من حوائجه، إلا بما يطيقونه ولا يجعلهم منها ما لا يحملونه

وأن يعلم أنهم بشر مثله، فإن الله - سبحانه - فضله عليهم ليبلو شكره وصبرهم دونه ليبتلي صبرهم، وأن من العمل عليهم ألا يأتي إليهم إلا ما يحب أن يؤتى إليه لو كان في مثل حالهم، فلا يضربهم ولا يجهدهم ولا يمنعهم مصلحة لهم، وأن يأتي في صلاحهم وسياستهم ما يأتيه في سياسة نفسه وولده وأخص أهله من حيث لا يرخى لهم العذار فيما يفسدهم، ولا يلزمهم من الدعة ما يعيقهم، فإذا فعل ذلك كان قد مضى بحبهم وبلغ مراده منهم إن شاء الله. وقد جاء في الخبر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "أوصاني جبريل بالمماليك حتى ظننت أنه سيورثهم، وبالنساء حتى ظننت أن طلاقهن حرام". وروي أيضاً أنه قال - عليه السلام - "إذا ملك أحدكم مملوكاً فليحسن إليه، فإنه كما ملككم رقابهم فلابد أن يملكهم رقابكم" والله أعلم. وأما الشكر: فإنه في؟ ؟ ؟ ؟ ؟ ؟ للمزيد ومكافأة للنعمة، وقد أمر الله سبحانه به فقال عز وجل: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ} وقال: {وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ} وقال:

{اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا}. والمنفعة: أن المنعم إذا شكر تبين ثمرة عمله، وزكاة حرثه، وقد قال الله عز وجل: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ}. وقال الشاعر: (نُبِّئتُ عَمْراً شاكرِ نعمتيِ ... والكفُرُ محتَةٌ لنفس المنعمِ) ومن فعل بكل جميلاً فأنت مرتهن بشكره أو مكافأته، بذلك حكمت شريعة العقل، وقضى محض العدل، وقد أوجب الله المكافأة على القول والفعل فقال: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} وقال: {هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إلا الإِحْسَانُ}. فجزاء من أحسن إليك أن تكافئه بمثل فعله إن لم يتهيأ لك ما هو أفضل منه، فإن أعجزتك المكافأة شكرته، ونشرت محاسن فعله، وذكرت ما نالك من فضله، فقد أمرك الله - سبحانه - بأن تشكره، وتتحدث بنعمته لما أعجزك عن مكافأته، فقال: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ}. وقال الشاعر: (ارفع ضعيفك لا يحربك ضَعفُهُ ... يوماً فتُدرِكه العواقِبُ قد نما)

(يجزيك أو يُثني عليك َ فإنَّ من ... أثنى عليك بما فَعلتَ فقد جزى) ويروى أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سمع هذين البيتين فقال: قال لي جبريل عن الله: "من أسديت إليه يا محمد معروفاً فكافأك فذلك، وإن عجز وأثنى عليك فقد كافأك". وقد قال أمير المؤمنين - عليه السلام-: "كفران النعمة لؤم، وصحبة الأحمق شؤم". وقد يستعمل الناس الحمد في موضع الشكر، وبينهما من الفرق ما أنا ذاكره: وهو أن الحمد أعم من الشكر، لأن الشكر إنما هو الثناء بالفعل الجميل الذي قد وصل إليك نفعه، والحمد الثناء بالفعل الجميل، وإن لم يصل إليك نفعه، ألا ترى أنك تحمد الرجل في صواب منطقه، وتحمد السيف في مضي ضريبته، والفرس في سرعة عدوه، ولا تشكر شيئاً من ذلك، وتشكر الله سبحانه على نعمته، وتشكر الرجل على معروفه، فهذا فرق ما بين الحمد والشكر. وأما حفظ السر والمنفعة به: فإنه سبب لنيل كل مطلوب، والاحتراس من كل مرهوب، ولذلك قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "استعينوا على نجح حوائجكم بالكتمان، فإن لكل ذي نعمة حاسداً". وقال عليه السلام "من كتم سره ملك أمره" وأوصت الأئمة - عليهم السلام - بكتمان أسرارها؟ وما أترى من ذلك من وصايا القدماء والحكماء في تحصين الأسرار وكتمان من الأشرار كثير لا يحتمله كتابنا، وليس كتمان السر من سائر الناس محموداً لأن الإنسان إذا كتم سره من نصيحة وذي الثقة عند أخطأ الرأي من جهتين:

إحداهما أنه يعدم المشورة، وقد أمر الله بها فقال: {وشَاوِرهُم في الأمر} وأمننا الرسول - عليه السلام - من سوء عاقبتها فقال: "لن يهلك امرؤ بعد مشورة" وقيل: "ما حار من استخار، ولا ندم من استشار" فمن كتم النصيح أمره، وطوى عنه سره، واستغنى برأيه عنه، كان كمن كتم الطبيب علته، واستغنى بتجربته عن مشاورته، فهو حقيق بزيادة علته حتى يؤديه إلى ما يعجز عن تلافيه. والثاني إيحاش أخي النصيحة وإفساد قلبه، إذا رآك قد حصنت سرك دونه، واستظهرت عليه بالمكاتمة له، والعدل في ذلك وصواب الرأي أن تصن أيضاً ممن اتهمته، وتغلق باب الأنس بينك وبينه، حتى لا يطلع لك على مكنون، بظن ولا يقين؛ وأن تحترس أيضاً ممن لا تثق غاية الثقة به، فلا تطلعه من أمرك على ما تخاف منه بدو سرك، وإذا وثقت الثقة كلها بالإنسان، وكشفت له عن صحة عيبه شواهد الامتحان، فلا عليك أن تطلعه على أكثر أمرك، وعلى ما يصلح أن تطلعه عليه من سرك، فتشتري بما تطلعه عليه أنسه، وتملك به قلبه، وتزيد به في تأكيد الحال بينك وبينه، وتقيس الصواب من مشورته فيما اشتبه عليك من رأيه، فإن الرأي في صدور الرجال كما قال الأول؛ وإنما صار الإنسان محتاجاً إلى المشورة، وكان المشير أولى بالصواب من المستشير، لأن المستشير يلقيى من استشاره بقلب فارغ مما قلبه مشغول به، وذهن غير مكدود بما ذهنه مكدود به، فيكون إلى إصابة الرأي أقرب، فليس ينبغي أن يكتفي المستشري بنصيحة المستشار حتى يأنس منع عقلاً صحيحاً، ورأياً مصيباً، فإن النصيحة من الجاهل غير نافعة، لأن رأيه غير صحيح، والرأي من العاقل الذي لا يوثق بنصيحته غير نافع أيضاً لما

لا يؤمن من غشه، فإذا اجتمعت النصيحة والعقل في رجل فحق المستشير أن يصغي إلى قوله، ويعمل برأيه، فقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما سئل عن الحزم ما هو؟ قال: "أن تستشير ذا الرأي، وتطيع أمره" ومن كانت هذه صورته فليس لك أن تخالف مشورته إلا فيما يبين لك أنه أخطأ وجه الرأي فيه، فإن المستشار مجتهد، والاجتهاد يخطئ ويصيب، فليس على المجتهد أن يصيب، وإنما عليه الاجتهاد في الإصابة، وإذا كنت مشيراً فاعلم أن المستشار مؤتمن، وأن من أشار بغير الحق عنده سلب رأيه، فامحض من استشارك النصيحة وإياك ومقاربته في رأيه المتفق عليه، والتقريب من قلبه إذا كان ذلك مدخلاً عليه ضرراً في عاجل أمره أو آجله، فإن ذلك من الخيانة، ولا يكرئك كراهيته لقولك فيما أصلحه، فإن الطبيب العالم لا يلتفت إلى كراهية العليل للدواء إذا علم أنه ينفعه، بل يحمله من ذلك ما يبشعه ويحميه، من لذيذ الغذاء ما يشتهيه ويلذه، وإن استشارك عدوك في أمر فانصح له فيه فإنك تجمع بذلك مع تأدية الأمانة في المشورة شيئين: أحدهما أن يكون عدوك عاقلاً، ويراك قد اجتهدت في نصيحة، فيتبين عقلك وفضلك، وربما كان ذلك سبيلاً إلى نزوعه عن عداوتك، ورجوعه إلى تلافيك واستقالتك. والآخر أن يكون عدوك جاهلاً بموقع النصيحة ومخارج الرأي، وهو مع ذلك معتقد لعدواتك، فيتيقن أنك تغشه فيما تشير به، فربما خالف مشورتك بجهله بصحتها، وقد محضته النصيحة فيها، فإذا فعل ذلك فقد أهلك نفسه، وأراحك من عداوته، وكنت موفوراً، وعند

ذوي العقول مشكوراً. وقد مدحت [العرب] الاستبداد بالرأي ووصفت نفسها بالاستغناء عن المشاورة فقال بعضهم: (ليتَ هنداً أنجزتنا ما تعِد ... وشفَت أنفسَنا مما نجِد) (واستبدَّت مرةً واحدةً ... إنما العاجزُ من لا يستبد) وقال الآخر: (إذا هَمَّ ألقى بين عينيه عزمه ... فأعرض عن قول العواذل جانباً) (ولم يستشر في رأيه غير نفسهِ ... ولم يرضَ إلا قائم السّيف صاحباً) وليس ذلك أخلاق ذوي العلم والأدب، وإنما هو شيء امتدحت به العرب على طريق الوصف لأنفسها بالجرأة والأنفة والإقدام. ومن أمثالهم في ذلك: من طلب غرر، ومن فكر قصر، وليس العمل عند الحكماء على ذلك. وأما الاستعتاب: فإن المنفعة به بينة في تلافي من تريد تلافيه واستصلاح من لك رأي فيه، فإنك متى تركت صديقك للذنب بذنبه، أو للجرم بجرمه، ولم تعاقبه على ذنبه، ولم تؤنبه بجرمه بقيت بلا صديق، لأنك لا تجد أحداً ممن تصاحبه بعده، أو ممن يتعاض به منه إلا ولا بد

أن تأتي بمثل فعله لك، لما في جبلات الناس من الخلاف، وقلة المراقبة في ذلك يقول الشاعر: (وكنتُ إذا الصديق اراد هَجري ... وأشرقني على حَنَقٍ برِبقي) (غَفرتُ ذُنَوبه وصفحتُ عنه ... مخافة أن أكون بلا صديقِ) وأعلم أن من طلب عيباً وجده، ومن أراد السالم من العيوب فقده ولابد للإنسان من الناس، وقد قال أمير المؤمنين - عليه السلام -: العاجز من عجز عن اتخاذ الأصدقاء، وأعجز منه من ضيع من ظفر به منهم وأكمل الأصدقاء أقلهم عيوباً، وأشدهم مؤالفة، وأقلهم مخالفة، فأما حتى لا نجد في الصديق عيباً، ولا تراه في شيء من هواك مخالفاً، فهذا عسر وجوده، ومن طلبه أوشك أن ينفد عمره، ولا يجده، ولا يظفر به، فكن في أمور أصدقائك كما قال الشاعر: (إذا كنت في كلِّ الأمورِ مُعاتباً ... صديقك لم تَلقَ الذي لا تُعاتِبُه) (فعِش واحداً أوصِل أخاكَ فإنّه ... مُقارِفُ ذنب مرَّةً ومجانِبُه) (إذ أنت لم تشرب مِراراً على القَذَى ... ظَمِئتَ وأيُّ الناسِ تصفو مشاَرِبه) واعلم أن ترك العتاب من دلائل الزهادة، ومن دواعي القطيعة، ولذلك قال الشاعر: (إذا انقرض العِتاب فليسَ وُدٌّ ... ويبقى الوُدُّ ما بَقَي العِتابُ) وإن كانت المعاتبة على كل ذنب، والتعلق بكل جرم من دلائل التجني والملالة، وقد قال الشاعر: (إذا العتابُ أتىَ في غيرِ موضعهِ ... فإنّه مُفصِح من شدَّة المَلل) ونتيجة كثرة العتاب ففي غير موضعه قلة احتفال المعاتب، فإن الشيء

إذا كثر هان، ومن العدل إذا أذنب صديقك إليك أن تفحص عن مخرته فإن كان أتاه من غير تعمد له اغتفرته وتناسيته، ولم تعاتبه على ارتكابه، بل تنبهه على موضع خطئه ليحترس من معاودة مثله، وإن وجدته قد أتى ذلك عامداً، وكان من الأمور التي يصير بالمودة والإخاء احتمالها احتملتها وصفحت عنها، وإن كان ممن إذا أغضى على مثله عاد بالضرر وقبح فيه الخبر، عاتبته عليه غير مهتبل لزلته، ولا مغتم لصرعته فإن اعتذر بما يوجب حجة قبلته فأفلته، وإن اعترف وسأل الصفح صفحت عنه، فإن المقدرة توجب المغفرة، والتوبة تمحو الحوبة، والاعتراف يزيل الاقتراف، وقد قال الشاعر: (إذا اعتذَر الجاني مَحا العذرُ ذنبَه ... وكلّ امرئ لا يقبلُ العذرَ ظالمُ) وعلى هذا الترتيب رتب الله - عز وجل - عباده في ذنوبهم، فعفا عن الخطأ، وما جرى على غير تعمد، وعفا عن صغائر ما اعتمده، وتجاوز عن الكبائر، مع الندم والتوبة، وعذب على الإصرار على ما يعود العفو عنه بالإضرار، وإذا كنت معتذراً أو متنصلاً فلا تعتذر إلا إلى من تحب أن يجد لك عذراً، ولا تعتذر إلى ممتحن أو متعنت، فإن الاعتذار إلى هذين الصنفين ضائع، ولا تخلط الاعتذار إذا وجب أن تعتذر بالاحتجاج فإن ذلك يدل على مقامك على الذنب، لأنك ليس تحتج إلا فيما لا ذنب لك فيه، وليس هذا موقف التنصل والاعتذار، وإنما هو موقف النفح

عن النفس والاحتجاج، فإن كنت على حجة فأنت غني عن الاعتذار، وسبيلك أن تقيمها، وتجتهد في التخلص من اسم الذنب بما تظهره منها، وإن كنت مذنباً فسبيلك أن تعترف بذنبك وتعتذر منه، وتسأل الصفح عنه، فإن مزج الاعتذار بالاحتجاج يدل على استئناف الذنب، ولذلك قال بعضهم - وقد اعتذر رجل إليه فأتى في اعتذاره بما قدمناه: ما رأيت عذراً أشبه باستئناف ذنب من عذرك؛ وذلك أن المذنب إذا كان عند نفسه غير مذنب، وكان له فيما يظن حجة زيل عنه الذنب، فهو غير مقلع عن ذنبه لأنه إنما يرجي الإقلاع عن الذنب للمذنب إذا عرف ذنبه وقبح فعله، وأنه لا حجة له فيه؛ وكان يقال: من وثق بحسن العذر وقع في الذنب، وغذا اعتذر إليك معتذر فاقبل عذره، وصدق في ذلك ظنه، إلا أن يكون ممن ترى أن الراحة في قطيعته، فإن كان كذلك فاجعل ذنبه سبباً لهجرك له، ولا تستعتبه، ولا تسمع عذره، فإن العضو الفاسد ليس لصاحبه راحة إلا في قطعة وفارقته، ومن هاجرك بذنب، أو ذكرك بما يسوءك في ملأ ثم جاء معتذراً فيما بينك وبينه فلا تقبل تنصله وعذره حتى تكونا في ملأ، وعلى المجاهرة كما كانت زلته وذنبه، وكذلك من أذنب إليك فيما بينك وبينه فلا تكلفه الاشتهار بالذنب عند من لم يعرف ذنبه، واقبل عذره فيما بينك وبينه. وعلم أن الأنس بمواقف الاعتذار، وليس باختلاف ذوي الأقدار فاهرب مما تحتاج إلى إقامة العذر فيه، هربك من التلف، فليس في كل حين تقال الهفوة، ولا في كل وقت تغتفر الذلة، ومن القبيح أن يختار الإنسان اللؤم من الحمد عوضاً، وأن يجعل نفسه للألسن غرضاً، وقد قيل: إياك وما يعتذر منه، فقلما اعتذر أحد إذا كذب، ومن عرض نفسه للتهمة فلا يلومن من أوقع به الظنة. وأما التودد: فمن أنفع الأشياء للإنسان، وأعونها على الزمان، لأن

بالمودة صلاح جميع الأمور، وبالعداوة فسادها، وبذلك أمر الله سبحانه بالتواصل والمودة، ونهى عن التعادي والفرقة، وقال: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا} وقال: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} وقال: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا}. والود ودان: ود للمشاكلة والمجانسة، وهو الذي يقول فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "القلوب كأجناد مجندة، فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف". وود بالعرض، وهو ينقسم قسمين: أحدهما ود العصمة في الدين، والآخر: ود المنفعة في الدنيا. فأما العصمة في الدين فالود فيه، والمحبة هي الولاية التي فرضها الله تعالى على عباده المؤمنين لأئمتهم وإخوانهم فقال - عز من قائل -: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ} وقال: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} وحظرها على المخالفين إلا في حال التقية فقال: {لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ}، وجاء عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن أوثق

عرا الإيمان الحب في الله - عز وجل - والبغض فيه"، والذي تخال به مودة ذي العصمة ألا يرى أخاه مفارقاً لما جمعهما عليه الدين في سر وعلانية. وأما المودة للمنفعة في الدنيا فتتأكد بتأكد الأسباب الموجهة لها، ويزيد فيها الإحسان والإفضال، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "جبلت القلوب على حب من أحسن إليها" وينمي ذلك ويزيد في البشر والطلاقة والكلمة الطيبة، فإنه يروى عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنكم لم تسعوا للناس بأموالكم، فسعوهم بأخلاقكم". وفي حديث آخر "بالبشر وطلاقة الوجوه"، وقد قال الله - عز وجل -: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ}. وقال أمير المؤمنين - عليه السلام -: "من لانت كلمته وجبت محبته" والذي يجوز به الإنسان هذه المودة ممن يرومها منه هو أن يرى الله مواسياً بما يقدر عليه، فقد قال أرسطاطاليس: "ليس مع الإيثار بغضة، ولا مع الاستكثار محبة"، وأن يكون متابعاً له فيما يقوده إليه، فإن الخلاف أذى، والأذى مخالف للهوى، وقد قال الشاعر: (يُحَبُّ ويُدنَيِ مَن يَقلُّ خِلافُهُ ... وليس بمحمودٍ حبيبٌ مُخالِفُ) وقال آخر فأحسن: (فإني رأيت الحبَّ في الصدرِ والأذى ... إذا اجتمعا لم يلبث الحبُّ يَذهَبُ)

فتودد إلى الناس جهدك، واجعل نيل محبتهم وكدك، فإنك لن تعدم بذلك مروءة كريم، أو أمن عداوة لئيم، فتكون قد نلت المحبوب وكفيت المرهوب، إن شاء الله. وأما الأخذ بالمشهور من الحديث والقول وحكايته، وترك الغريب والمنكر منهما، واجتناب روايته: فإن المنفعة في ذلك عظيمة، والفائدة جسيمة، وذلك إنك تحرز به النبل في عيون الناس، والجلالة في صدورهم، ومتى أخذت بالشذوذ، وبالبديع والغريب من الأحاديث والروايات، وأحكمت ذلك، ونقلته كنت عند الناس غير محصل، ولا يغرنك: "إنما أحكي ما أسمع" فكفاك عيباً أن تحكي كل ما تسمع لأن أكثر ما تسمع الباطل، وإنما الحق جزء من أجزاء كثيرة مما تسمعه، وقد قيل: "حسبك من شر سماعه"، فكيف حكايته وفعله، ومن رضي بأن يكون حاملاً للأباطيل، ورواية الأكاذيب، فقد رضي بما لا يرضى به اللبيب، فإن استطعت فلا تحكي إلا ما تصدق فيه، وما لا تحتاج إلى إقامة شاهد عليه فافعل، فهو أولى بك إن كنت من أهل التحصيل، وأردت أن تسلم من العيب والتجهيل، فقد روي عن بعض الأعراب أنه قال: إياك وما يسبق إلى القلوب إنكاره، وإن كان عندك أعذاره، فليس كل من حكى عنك نكراً يوسعك عذراً، واحذر الحذر كله من شهوة الاستطراف، وطلب الغرائب، فإن كثيراً من الناس يطلب ما كان طريفاً، ولم يكن عند الناس معروفاً، وذلك لما في النفوس من التطلع إلى استماع ما يسمعوه، والكلف بما لم يعهدوه ويعرفوه، وكلما كان الشيء ليس عندهم كان إليهم أعجب، ومن قلوبهم أقرب، ومن هاهنا ضل كثير من الناس، ودخلت عليهم الشبهة في اعتقاداتهم ودياناتهم، فإنك إذا نظرت في كثير من مذاهب أهل المذاهب وجدتها لم تنفق على أهلها إلا بطرافتها

وغرابتها وامتناع دعاتهم في إظهارها لهم، والنفس طلعة، وهي ضنينة بما تمنعه، وليس عندها فيما قدرت عليه من الرأي والهوى مثل الذي عندها من الغريب المستطرف، وكل ما كان في ملك غيرها كانت إليه أشوق، ونحوه أتوق، ولهذا صار أزهد الناس في العالِم جيرانه، وصار الإنسان بما استفاده منه أشد ضناً مما ورثه، فاحترس من هذا الباب، ولا تراعين في مستطرف من المور إلا ما كانت أمارات الحق فيه ظاهرة، والشكوك التي تعرضه واهية فقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "شر الأمور محدثاتها وقال: وكل محدثة ضلالة" ولا يثقل عليك الحق، وإن كبر عليك استماعه، ولا تملنه وإن كثر على سمعك مروره، فإن الحق جديد لا تخلقه الأيام. وأما المقبول والمردود: فإن المقبول كل ما أريد به المنفعة من الأمور التي ذكرناها وعددناها، وكانت القلوب له قابلة، وبفضل اقتنائه غير جاهلة. والمردود ضد ذلك، فما ينبغي أن يقبل وعظ من واعظ، ونصح من نصحك بما وقرك فيهما، وألان لك القول فيما يورده عليك منهما، وإن تعجرف مخاطبك في ذلك بما يغلظ عليك استماعه، فإن كان ممن تثق بنيته، ولا تثريب بمودته وطويته، تشجعت على الصبر له، والقبول منه، وكنت كالعاقل الذي يتشجع على أخذ الدواء الكريه إذا علم أنه

ينفعه، ويصبر في ساعة الخوف تحت ظلال السيوف إذا علم أن الصبر خير له، فإن كان ممن تعرفه بعداوة وسوء نية، وخبث طوية، رددت عليه قوله على استماعك المكروه الذي حصل له، فإن في الناس من يريد عيب عدوه والإشادة بمساويه، فلا يجد طريقاً إلى ذلك أبلغ وأسهل من الوعظ والنصيحة، لأنهما يشتملان على ذكر عيوبه، فهو يبلغ مراده من فضيحته والإغلاظ من حيث لا يستحق في الظاهر لوماً منه، ولا مكافأة على قبيح ما يلقاه به، وقد ذكر "أردشير" هذه الطبقة وزرايتها على الملوك وتوصلها إلى عيبهم بالوعظ، وحذر منهم، وعرف الملوك كيف السبيل إلى الراحة منهم، ونحن نذكر قوله إذا صرنا إلى موضعه، فاعرفهم أنت وأنزلهم منزلهم، وقد حكي عن بعض أهل هذه الطبقة أنه قال لبعض الخلفاء: "إني أريد أن أنصحك يا أمير المؤمنين بكلمات، فاحتمل إغلاظي فيها"، فقال: لا ولا كرامة، إن الله بعث من هو خير منك إلى من هو شر مني، فقال له: {فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} ومن ذلك قبول العذر ممن اعتذر إليك إن صدق في عذره، وإن كذب، فقد قال الشاعر: (اقبَل معاذير مَن يأتيكَ مُعتذِراً ... إن بَرَّ عندك فيما قالَ أو فَجرَا) (فقد أطاعَكَ من أرضَاك ظاهرُهُ ... وقد أجَلَّك من يعصيك مستترا) فإذا قبلت معذرته، وأقلته عثرته مرة بعد أخرى، وثانية بعد أولى، ورأيته مقيماً على الإصرار، ولا يزيدك على الاعتذار، عند تخوفه عواقب الإنكار، علمت أنه يريد مخادعتك، فيطلب الحيلة عليك، فحينئذ لا تقبل عذره، وتأس برسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما صنعه ببعض أسرائه وأحسبه أبا عزة فإنه أمر بضرب عنقه وقال: "لا تقعد في نادي قومك فتقول

خدعت محمداً ثلاث مرات، ومما يقبله العاقل مدح من مدحه بما فيه، ولم يخرج في وصفه عما يستحقه بمساعيه، فقد سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدح وأثاب عليه، فأما إذا رأيت المادح يزكيك بما ليس فيك، ويواريك ويريد أن يخدعك عن نفسك، ويغمز جانبك، فلا يكونن من شأنك الإصغاء إلى قوله، ولا الاستماع منه، ولا الرضا بمنطقه، فإن ذلك ثلمة في عقلك، فإن لم تسدها اقتحم الناس عليك منها، وتوصلوا إلى حوائجهم منك بها، ثم لم تسلم بعد ذلك من غيبتهم لك، وضحكهم منك. وقد قالت الحكماء: "قابل المدح كالمادح نفسه"، وإنما قالوا ذلك لهذه الطبقة من المادحين، وهم الذين أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بأن يحثي التراب في وجوههم. ومن المقبول أيضاً إطالة القول فيما أريد به تأنيس المستوحش، وتسكين روع المرتاع، فإن ذلك مما قد امتدحوا به فقال شاعرهم: (سَلي الطارقَ المَعَترَّ يا أُمَّ مالكٍ ... إذا ما اعتراني بين قِدرِي ومَجزِري) (وأَبسُط وَجْهي إنه أول القِرَا ... وأبذُل معروفي له دون تنكيِري) وقال آخر: (أحدِّثُه إن الحديثَ مِنَ القِرا ... وتعلم نفسي أنه سوف يهجعُ) ومما يتسع فيه القول، ويكون عند ذوي العقل مقبولاً، أن يجد القائل فيمن يقصد القول فيه مقالا ًبما يظهر من خلقه وفعله، ونقصه أو فضله، فيكون المادح له، أو الذام لفعله منبسطي اللسان، غير كليلي البيان، ويكون

لسامع ذلك منهما قابلاً مصدقاً، ولقولهما فيه محققاً، وقد قال الشاعر: (بهواك صيَّرني العذور نَكالا ... وجَدَ السبيلَ إلى المقال فقالا) وقال آخر يعتذر من تركه مديح قومه: (فلو أنَّ قومي أنطقتني رِماحُهم ... نطقتُ ولكنّ الرِّماحَ أجَرّتِ) ومما تقبل فيه الإطالة، المذاكرة بالعلم، فإن مذاكرة الرجال تلقيح لألبابهم، وروي عن الصادقين - عليهم السلام - المذاكرة بالعلم عبارة حسنة، فهذا ما في المردود والمقبول. وأما المهم والفضول: فإن المهم كل ما دعت الإنسان حاجة إليه في قوام معيشته وإصلاح عاقبته، أو سياسة نفسه وخاصته، وذلك مطلق له الكلام فيه، وغير مستقبح منه الطلب له من حيث لا يشوب المبالغة بالهذر، ولا الطلب بالطمع، ولا المسألة بالإلحاف، ولا الوعظ بالتسليط، ولا الأمر بالعنف، ولا النهي بالغلظة، ولا التنبيه على الذنب بالتوبيخ، فقد قال سفيان بن عيينة: يستحب للعالم إذا علم ألا يعنف، وأن يتلطف فيما قاله حتى يأتي به على ما ذكرناه، فيبلغ مراده من حيث لا يلحقه عيب ولا ينسب إلى تقصير، وقد أمر الله - عز وجل - بالكلام فيما تدعو الحاجة إليه، وبالرفق واللين والتأني، فقال - عز وجل -: {خُذِ الْعَفْوَ وَامُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} وقال: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} وقال:

{فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} ولم يقنع من أنبياءه وصلحاء خلقه بترك الكلام في المهم من أمر الدين، بل قد عاب من ترك الكلام في ذلك فقال فيما أمر به نبيه - صلى الله عليه وسلم - من البشارة والنذارة: {وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} وقال في غير هذا: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ}، وقال أمير المؤمنين - عليه السلام -: "إن الله - عز وجل - لم يرض للأئمة أن تعصى في أكناف الأرض وهم ممسكون، لا يأمرون ولا ينهون، وقد أجاب الله - عز وجل - عباده عما يسألونه عنه من مبهم دينهم فقال: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ} إلى آخر الآية وقال: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} وقال: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ}، وكذلك سائر ما سألوا عنه مما يهمهم في أمر دينهم، فلما سألوا عما لا يهمهم وما هو فضول منهم كانت نتيجة إخلافهم وتفرقهم، أمسك عن جوابهم، فقال: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ

مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً} ولما سألوا عن آبائهم قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} وقال: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي} فكل ما جرى مجرى المهم الذي ينتفع به، وتدعو الحاجة إلى استعماله فَحَسنُ الكلام فيه، وكل ما خالف ذلك، وجرى غير مجراها فيما لا يعني الإنسان ولا يجدي نفعاً فهو الفضول، الذي سمعت العلماء تذمه، ورأيت الحكماء تنهى عنه فقالوا: إنما يهلك الناس في فضول المال وفضول القول، وقال رجل لابنته وقد نقلها إلى زوجها، لا بنية، أمسكي عليك الفضلين: فضل القول، وفضل الشهوة، ومن ذلك يكون العطب، فكم ممن قتله كثرة فضوله، ولم ير أحد قط قتل لسكوته، ولا ضرب بالسوط على قلة كلامه، وإنما يفعل به تلك الأفاعيل ويورد تلك الموارد، بفضول قوله ولسانه، ولذلك قال الشاعر: (وجُرحُ الِّلسان كجَرحِ اليَدِ) وقال الآخر: (يموتُ الفتى من عثرةٍ بلسانهِ ... وليس يموتُ المرءُ من عثرة الرجلِ) وأما التام والناقص: فأما التام من الكلام ما اجتمعت فيه فضائل هذه الأقسام، فكان بليغاً صحيحاً، وجزلاً فصيحاً، وكان جداً صواباً، وحسناً حقاً، ونافعاً صدقاً، وعند ذوي العقول مقبولاً، ولم يكن تكلفاً ولا فضولاً، فإذا اجتمع ذلك فيه، ووضعه قائله موضعه، وأتى به في حينه، وأصاب به مقصده، فهو التام.

ومثله من الكلام ما روي عن رجل قدم من اليمامة على عمر بن عبد العزيز، فسأله كيف الناس؟ فقال: "ظالم مقهور، ومظلوم منصور، وفقير مجبور، وغني موفور" فقال: سرك الله وأكسن بشراك". وما روي عن رجل من سمرقند قام بين يدي المهدي فقال: يا أمير المؤمنين: "إنا قوم نأينا عن العرب، وشغلتنا الحروب عن تحفظ الخطب، وأمير المؤمنين يعرف طاعتنا، ويعلم ما فيه مصلحتنا، فيجتزي منا باليسير من الكثير، وبما في الضمير دون التفسير" فقال له: اصبت وأجدت، أنت خطيب القوم. وشكا بعضهم حاله إلى بعض الرؤساء، فقال: "إن الدهر كلح فجرح، وجمع فطمح، وأفسد ما صلح، فإن لم تعن عليه فضح". وأوصى خالد بن صفوان ابنه فقال: "كن يا بني أحسن ما تكون في الظاهر حالاً، أقل ما تكون في الباطن مآلاً، فإن الكريم من تكرمت طبيعته، واللئيم من خبثت عند الحاجة طمعته، وإياك وكثرة الكلام فيما لا يعنيك، فإنه فضل، ولا آمن عليك فيه الوزر، والموت خير من طلب الحاجة إلى غير أهلها". والناقص عن التمام، وما قصر عن هذه الأقسام، كان معيباً عند ذوي الأفهام. كما روي أن بعض جلساء عبد الملك تنقص مصعب بن الزبير، وقد أفاضوا في ذكره بحضرته، فقال: مه أما علمت أن من صغر مقتولاً فقد

صغر قاتله، وهو إنما أراد التقرب من قلب عبد الملك بتنقيصه وتصغير شأنه، وجهل ما في ذلك من التقصير بعبد الملك، والوضع من ظفره، فكان كلامه بادي النقص عند ذوي العقول، غير محمود عند ذوي التحصيل. وكذلك قال بعض الأعراب لرجل رآه نطق بمنطق مذموم غير ناص ولا مقبول، فقال: يا هذا، إن عورات الرجال بين أرجلهم، وإن عورتك لبين فكيك، وهذا في هذا الباب مقنع إن شاء الله. أدب الحديث: فأما أدب الحديث فإن أصله وعمدته، وبهاءه وزينته اتقاء الخطأ فيه والزلل واللحن والخطل، ثم أن يكون حقاً سالماً مما يهجنه من معايب القول التي قدمنا ذكرها، ثم أن يقدر المحدث مقدار كلامه، ومقدار نشاط مستمعه فلا يحمله منه ما يضجره ويقصر عنه شيئاً، وإلا وقع من مخاطبه موقع إياس بن معاوية من ابن شبرمة فإن ابن شبرمة قال له: أنا وأنت لا نتفق، قال: ولم؟ قال: لأنك لا تشتهي أن تسكت، وأنا لا أشتهي أن أسمع، وألا يردد القول إذا أعجبه؛ فإن في التوراة لا يعاد الحديث مرتين. وروي أن ربيعة الرأي تكلم يوماً فأعجبه كلامه فقال لأعرابي:

حضر: ما تعدون العي فيكم؟ قالوا: ما أنت فيه منذ اليوم. وتكلم ابن السماك في قصصه فردد أشياء من مواعظه، فقالت له جاريته: لم تردد كلامك؟ فقال: ليفهمه من لا يفهمه، فقالت: إلى أن يفهمه من لم يفهمه [يكون] قد مله من فهمه؛ وألا يكون نزر الكلام فينسب إلى العي، ولا كثير الكلام فينسب إلى الهذر. بل يتوسط في منطقة، فإن خبير الأمور أوسطها، وإذا أعجبه الكلام فليصمت، وإذا أعجبه الصمت فليتكلم، فإن البركة في مخالفة الهوى، وأن يتجنب الأيمان في حديثه، فإنما يحمل الرجل على اليمين إحدى ثلاث خلال: إما مهانة يجدها في نفسه، وقد وصف الله - سبحانه - الحلاف بذلك فقال: {وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ} أوعى في الكلام، فهو يجعل الأيمان حشواً له، أو تهمة ظهرت منه، فهو لا يثق من الناس بتصديقه إلا بعد اليمين، ولذلك قال بعض الأعراب في بعض ما تكلم به: والله فإنها مهانة أو فجور أي: بأن الإنسان لا يحلف بالله إلا من فجور قد ظهر منه فأحوجه إلى استعمال اليمين حتى يصدق، أو مهانة يجدها في نفسه، ولا يبتدي كلامه إلا بعد أن يتروى فيه، فإن الرجوع عن الصمت إلى الكلام، أحسن من الرجوع عن الكلام إلى بعد الشروع فيه. وقد روي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه أوصى رجلاً سأله أن يخصه بشيء من العلم، فقال له: أمستوص أنت؟ فقال نعم

فقال: إذا أردت أمراً فتدبر عواقبه، فإن كان خيراً فامضه، وإن كان شراً فانته عنه، وأن يخزن كلامه إلا عند إصابة المواضع، فإنه ليس في كل حين يحسن الصواب. وإنما تمام الإصابة بإصابة الموقع، فإن أخطأه دخل على كلامه الهجنه ولم يبلغ به البغية، وألا يحضر كلاماً لم يحضره، ولا يدخل بين اثنين في شيء لم يدخل فيه، ولا يجيبن عن شيء لم يسأل عنه، وألا يجيب من خاصمه وأغضبه بجواب الغضب والشر، فإنه ربما ظهرت عليه عند الغضب أمارات تصدق عليه قول العائب له، ولكن ليكن جوابه بالحلم والوقار، فإن الغلبة للحليم، وليعلم أن جهل خصمه يبين عن فضله إذا لم يقابله، فقد قيل: لولا جهل الجاهل ما عرف عقل العاقل. وقد قال أمير المؤمنين - عليه السلام - "الغالب بالشر مغلوب" وألا يتهاون بالكذبة تحفظ عليه في الجدر أو الهزل، فإنها سريعة في إبطال ما يأتي من الحق، وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم- "إن الرجل ليكذب الكذبة فلا يزال بها حتى يصير عند الله كاذباً"، وإذا سئل غيره فلا يسلب الجواب منه، وإذا حدث أنصت لمحدثه، وإن كان يعرف الحديث فقد روي عن الأحنف: تجنب في حديث جليسك ثلاثاً: الإعراض عنه، وسوء الاستماع

منه، وإن تريه أنك قد عرفت ما أراد. وإذا بلي بالجواب عن شيء قد سئل عنه هو وجماعة معه، فلا يبادرهم بالجواب، فيكونوا متعقبين لقوله، آخذين بأحسنه، ممكنين من عيبه، بل يكون آخرهم جواباً، فإنه يجمع بذلك أخذ محاسن قولهم، وتعقب آثارهم، والسلامة من عيبهم وطعنهم، وليدع التطاول في المجالس على أهلها بالقول مما يعرض له من الصواب لئلا يظنوا أنه يريد التكبر عليهم، والوضع منهم فيعاودوه، وليكن قصده بحضرة العلماء أن يعرفوا منه أنه على الاستماع أحصر منه على القول، فإن نازعته نفسه إلى القول بحضرتهم - وهم نقاد القول وجابذته - فلا يخرجن منه إليهم إلا ما كان صحيحاً جائزاً، وليستحسن من تكذيب صاحبه في حديثه. وإن كذب فأراد تنبيهه على كذبه تلطف له في ذلك بألطف القول، فإنه يجمع بذلك البقيا على مودته، وقضاء حقه في التأني لإصلاح خلقه، وليحدث الناس بما يعرفون، ويعفيهم مما يكرهون، تدوم له بذلك مودتهم. وقد روي عن الصادقين - عليهم السلام -: "رحم الله من حببنا إلى الناس بأن حدثهم عنا بما يعرفون" وليعلم أن لسانه آفة مرسلة عليه إذا أطلقه فليضبطه. وقد روي عن العباس بن عبد المطلب أنه قال لابنه عبد الله: يا بني احفظ لسانك إلا مما لك، وانه نفسك إلا عما أمرت به، وإذا غلب على الكلام فلا يغلب على السكوت، فقد قيل: إذا فاتك المنطق،

فلا يفوتك الصمت، واستشعر ما وصى به أكثم بن صيفي بعض ولده فإنه قال له: "ومن الجمال والمروءة أن تكون عالماً كجاهل، وناطقاً؟ ؟ ؟ ؟ ؟ ، والعلم مرشده والصمت محمدة، وفضل القول على العمل لؤم، وفضل العمل على القول كرم، ولم يلزم الكذب شيئاً إلا غلب، والانقباض عن الناس مكسبة لعدوانهم، والتقرب منهم مجلبة لقريبن السوء، فكن من الناس بين المنقبض والمشترك، فإن خير الأمور أوساطها، ومن لم يكن له من نفسه واعظ تمكن منه عدوه على شر فعله، ولا ينبغي أن يمنعه حذر المراء من حسن المجادلة، ولا خوف العي من استعمال الصمت في وقته، وليعلم أن الرجل قد يكون زميتاً فيحمله الحرص على أن يقال لسن، والخوف من أن يقال عي على أن يتكلم في غير موضعه، فيصير ما هرب منه خيراً مما أقع نفسه فيه وليعلم أن من عاب للناس وذكر مساوئهم جمع مع الإثم في الغيبة التي نهى الله عنها الاستهداف لعيبهم، والتعرض لشر قولهم وقد قال الشاعر: (ومن دَعَا الناسَ إلى ذَمِّه ... ذَمُّوه بالحقِّ وبالباطِلِ) (مقَالةُ السُّوء إلى أهلها .. أسرَعُ من مُنْحدِرِ سائلِ)

وقال آخر: (ولا ينتطلِق منكَ اللِّسان بسَوءة ... فللناس عوراتٌ وللناس ألسن) وليعلم أنه ليس من علم يذكره عند غير أهله إلا عاوده واستثقلوه، فلا تجالس أحداُ بغير طريقته، ولا تحدثه إلا بما يستحقه فإن للعلم حقين: أحدهما بذلة لمستحقيه، والآخر صرفه عمن ليس من أهله، وألا تستعمل المزاح إلا في الأحوال التي يخرج بها من حد العبوس، ومتى زاد في المزح على إنسان فأجابه بما يحرك من طبعه، فلا يلومن إلا نفسه إذ ليس من العدل أن يغضب من شيء وهو المبتدئ به، فقد قال حكيم العرب: (وأوّل راضٍ سُنّة من يَسُنّها) وينبغي أن تتعلم حسن الاستماع كما تتعلم حسن القول، وهذا آخر باب العبارة، وقد أتينا بجمل مما حضرنا فيه تغني عن الإطالة إن شاء الله تعالى.

باب البيان الرابع وهو الكتاب

بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله رب العالمين باب البيان الرابع وهو الكتاب قال أبو الحسين إسحاق بن إبراهيم بن سليمان بن وهب الكاتب: قد ذكرنا فيما تقدم من كتابنا هذا نعمة الله - عز وجل - على عباده فيما ألهمهم إياه من الكتابة، ودللنا على حكمته سبحانه في ذلك، وأنه أراد إتمام منافعهم، وإيجاب الحجة عليهم، فإنه لولا الكتاب الذي قيد علينا أخبار من مضى من الرسل، ونقل إلينا ما أتوا به من الكتب لما قامت - لله سبحانه - حجة علينا إذ كنا لم نشاهدهم، ولم نسمع حججهم، ولم نعاين آياتهم. وانقرضت العلوم والروايات بانقراض أهلها، وموت من تحملها، ولم يبق في أيدي الناس من ذلك، ومن أخبار الماضيين، وآثار المتقدمين إلا اليسير مما يلقاه الخلف عن السلف، وكم عمي أن يكون ذلك، وما يرى أن نبلغ من العلوم الحالية، والأخبار الماضية، فلما أعطاهم هذه الموهبة قيدوا بها ذلك أجمع، وحفظ فصار من قرأ كتب الأولين وتأمل أخبار الماضيي، كمن عمر معهم، وكان في أيامهم، وأخذ عنهم، وسمع منهم، ولذلك قيل: "الكتاب أحد اللسانين لأنك إذا قرأت كتاباً كأنك قد سمعت لفظ صاحبه. وقيل القلم أبقى أثراً واللسان أكثر هذراً.

وقالوا: "اللسان مقصور على الشاهد، والقلم ينطق في الشاهد والغائب". وقال بعضهم: "استعمال القلم أجدر أن يحضر الذهن عن تصحيح الكتاب، من استعمال اللسان على تصحيح الكلام" والكتاب يقرأ بكل مكان، ويدرس في كل زمان، واللسان لا يعدو سامعه، ولا يتجاوز إلى من بعده، وقد بين الله - عز وجل - فضيلة الكتاب والخط ومعوتهما على الحفظ والضبط فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ} ثم بين العلة في أمره بذلك فقال: {وَلا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا} وإنما وضع الجناح في ترك كتب التجارة الحاضرة، لأنه ليس يجري فيما يكون مؤجلاً، ولما كان هذا موقع الكتاب في النفوس بين المعونة على الحفظ والنفي للشك خاطب الله - عز وجل - الناس من ذلك بما يعرفون، فقال: {هَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} وقال: {قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنسَى} فقال: ذلك على المجاز والتعارف، وإلا فهو غير محتاج في علم ما كان ويكون إلى كتاب من ينسى ويغفل، والله - عز وجل - لا ينسى ولا يغفل وقد شرف الله - عز وجل - منزلة الكتاب وأحوج الناس إليهم، وأمرهم بمعاونة من استعان بهم، فقال: {وَلا يَابَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ} ولو لم يكن فضل الكتابة إلا أن الله سبحانه مدح الملائكة بها فقال: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامًا

كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ} والكتاب خمسة: كاتب خط، وكاتب عقد، وكاتب حكم، وكاتب تدبير؛ [وكاتب لفظ] ولكل واحد من هؤلاء مذهب من الكتابة يخالف مذهب غيره، ونحن نذكر منها ما يحضرنا ذكره. كاتب الخط: أما كاتب الخط فإنه إما أن يكون وراقاً أو محرراً، وهما موصوفان ينقل الألفاظ وتصورها، ويحتاجان إلى أن يجمعا مع حلاوة الخط وقوته وسواد المداد وجودته، وتفقد القلم وإصلاح قطته، إلى جودة التقدير والعلم بمواقع الفصول، وأن يعرفا من النحو المقصور والممدود والمؤنث والمذكر، وحكم الهجاء مايسلمان معه من اللحن والخطأ، ثم يحتاج المحرر إلى إطالة سن قلمه، فإنه أصفى لكتابته، وأن يعفي قلمه فلا يلح على شحمه لأن ذلك أقوى لخطه، وكذلك سائر ما يكتب بالمداد. فأما ما يكتب بالحبر فيخاف على الشحم فيه ليقل ما يحمل من الخبر، ويحتاج الوراق إلى تحنيف قطة قلمة، والمحرر إلى أن يجعلها بين التحنيف والاستواء، فإن ذلك أحسن لخطه، وكلما كان اعتماد الكاتب وراقاً كان أو محرراً على سن قلمه الأيمن كان أقوى لخطه، وأبهى بخطه، ويختار الوراق ألا يكتب في الجلود والرق بالحبر المثلث، فإنه قليل الليث فيهما سريع التفرك منهما، وأن يكتب فيهما بالحبر المطبوخ، وفي الورق بما أحب، ويختار المحرر أن يكتب عن السلطان في أنصاف الطوامير وفي الأدراج المنصورية العريضة، وعن نفسه وعن سائر الناس فيما

أحب بعد أن يكون ذلك ألطف مقداراً من مقادير كتب السلطان ووزرائه، فأما جودة التقدير، فإن يكون ما يفضله من البياض أو القرطاس أو الكاغد أوالورث عن يمين الكتاب وشماله، وأعلاه وأسفله على نسب متساوية وأن تكون رؤوس السطور وأواخرها متساوية، فإنه متى خرج بعضهاعن بعض قبحت وفسدت؛ وأن يكون تباعد ما بين السطور على قسمة واحدة إلا أن يأتي فصل فيزاد في ذلك، والفصل إنما يقع بعد تمام الكلام الذي يبتدأ به واستئناف كلام غيره، وسعة الفصول وضيقها على مقدار تناسب الكلام فإن كان القول المستأنف مشاكلاً للقول الأول، أو متعلقاً بمعنى منه جعل الفصل صغيراً، وإن كان مبايناًله بالكلية جعل أكثر من ذلك، فأما الفصل قبل تمام القول فهو من أعيب العيوب على الكاتب والورَّاق جميعاً، وترك الفصل عند تمام الكلام عيب أيضاً إلا أنه دون الأول. وأما النحو فقد ذكر النحويون منه، ومن حكم المقصور والممدود، والمؤنث والمذكر والهجاء ما فيه كفاية، إلا أننا نذكر جملاً من ذلك لئلا يخلو كتابنا من سائر ما يحتاج إليه البيان. ونبتدي بذكر النحو فنأتي منه بما يكون إعرابه بالحروف وتعيين أشكالها دون الحركات التي لا تبين في الكتاب، وإنما يعرف بالشكل إذ كان الكتاب لا يشكلون، وإنما الشكل للوراقين؛ ولهم فيما قد سطره النحويون في كتبهم من حكم الإعراب ما يغنيهم عن كتابنا هذا؛ فنقول: إنه ليس يعرب من الكلام إلا الاسم المتمكن، والفعل المستقبل، وما سواهما مبني غير معرب، وليس في المبنيات ما تتغير صورته في الكتاب بتغير الأعراب فيه؛ وإنما يقع ذلك في بعض الأسماء المتمكنة، والأفعال المستقبلة؛ فمن ذلك

ما رفعه من الأسماء بالواو، ونصبه بالألف، خفضه بالياء، وهي خمسة أسماء: أبوك وأخوك وفوك وذومال تقول، جاءني: أخوك ورأيت أخاك ومررت بأخيك. ومن ذلك الاثنان، والجمع الذي يسمى جمع السلامة، وهو الذي يسلم فيه بناء الواحد، وتزاد عليه علامة الجمع، فإن علامة رفع الاثنين الألف، وعلامة رفع الجمع الواو، وعلامة النصب والخفض فيهما الياء، إلا أن ياء الجمع مكسور ما قبلها، وياء الاثنين مفتوح ما قبلها، تقول: مررت بالمسلَمينَ والمسلمَينْ، ومن ذلك الألف التي تدخل في النصب بدلاً من التنوين في الاسم العلم المنصرف، كقولك رأيت زيداً، والألف التي تبدل من النون الخفيفة نحو قولك: اضربا زيداً، وما لا ينصرف لا يدخله التنوين، فليس تبدل في منصوبه ألف، وخفضه بالفتح كنصبه، فإذا أضيف أو دخلته الألف واللام صرف، ومما لا ينصرف: ما لا ينصرف في معرفة ونكرة، ومنه ما ينصرف في النكرة، ولا ينصرف في المعرفة فمما لا ينصرف في معرفة ولا نكرة خمسة أشياء منها: كل نعت على أفعل وأنثاه على فعلاء نحو: أحمر وحمراء، ومنها كل نعت كل فعلان أثناء فعلى نحو عطشان وعطش، ومنها كل اسم في آخره ألف تأنيث ممدودة نحو أربعاء وكل جمع في آخره هذه الألف نحو فقهاء، ومنها كل اسم في آخره ألف تأنيث مقصورة نحو: حبلى، وكل جمع كذلك نحو: صرعى، وكل جمع لا نظير له في جموع الأسماء، وهو ما كان في وسطه ألف قبلها حرفان وبعدها ثلاثة أحرف، أو حرفان أو حرف مشدد، نحو دنانير، ودراهم ودراب. واما ما لا ينصرف في المعرفة، وينصرف في النكرة، فكل اسم فيه زيادة من زيادات الأفعال المستقبلة، نحو: أحمد وتغلب ويشكر وأصبح وكل اسم لمؤنث فيه هاء التأنيث أو ليست فيه هاء التأنيث، إلا ما كان على ثلاثة أحرف وسطه ساكن، ليست فيه هاء تأنيث، فإنه ينصرف نحو هند ودعد، وأسماء السور والبلدان والقبائل إن اردت بها البلد والرجل ذكرت وصرفت، وإن أردت بها السورة والقبيلة والمدينة أنثت ولم

تنصرف. وكل اسم في آخره ألف ونون زائدتان على أي بناء كان نحو كيسان، فإن كانت النون من أصل الكلمة انصرف نحو: تبان من التبن: وكل اسم أعجمي نحو عج وكنج ويعقوب وزكريا لا ينصر ف في المعرفة، وكل اسم معدول نحو: عمر من عامر، وزفر من زافر، وثلاث من ثالث ورباع من رابع، فكل ذلك لا ينصرف في المعرفة، وينصرف في النكرة فهذه جمل ما [لا] ينصرف، وكل شيء بعد ذلك منصرف. ومما يعرب فيتغير بتغير الإعراب الأسماء التي في أواخرها ياء ساكنة قبلها كسرة، فإن رفعها وخفضها بإسكانها، وحذفها لسكونها، وسكون التنوين والاجتزاء بالكسرة والتنوين منها، ونصبها بالفتح، وإظهار الياء لأنها قد تحركت فزال الحذف، تقول: رأيت قاضياً وغادياً فإن أضيفت أو دخلتها الألف واللام صحت على كل حال، لأن التنوين يفارقها فلا تحذف؛ تقول: جاءني قاضيكم، وجاءني القاضي، ومررت بقضايكم وبالقاضي. ومن ذلك خمسة أمثلة من الأفعال المستقبلة وهي: تفعلين وتفعلان ويفعلان ويفعلون وتفعلون، رفع هذه بثبات النون، ونصبها وجزمها بحذف النون. والحروف الناصبة والجازمة مذكورة في كتب النحويين. ومن ذلك كل فعل مستقبل قبل آخره واو أو ألف أو ياء سواكن فإن ذلك يحذف في الجزم، لأن إذا أسكن اجتمع والساكن الذي قبله، وهم لا يجمعون بين ساكنين، فتقول في تقوم: لم تقم وفي تنال لم تنل وفي تبيع لم تبع. وإذا كان آخر الفعل حرفاً ساكناً حذفته نحو يدعو ويقضي ويخشى، تقول: لم يدع، ولم يقض، ولم يخش. وإن كان آخره همزة قبلها ألف أسكنت الهمزة للجزم، وأسقطت الألف لئلا يجتمع ساكنان، فقلت لم يشأ وإذا أمرت غائباً أدخلت في الأمر اللام

فقلت: ليقم زيد، وكذلك إذا أمرت فيما لم يسم فاعله كقولك: ليُدفع إليه ألف درهم، وليخرج من الدار. وأسماء الإشارة تجري في بعض أحوالها هذا المجرى، وهي: هذا، وهذه وذلك، وتلك، لا يبين الإعراب في واحدها ولا جمعها، ويبين في تثنيها، نقول: ذانك الرجلان جاءا، ورأيت ذينك الرجلين [وتثنية هذا "هذان" وجمعه "هؤلاء" وتثنية هذه وجمعها ذانك وأولئك، وتثنية ذانك وجمعه تانك وأولئك] فالذال والألف، والذال والهاء في هذا وهذه إن ثنى المشار إليه قلت هذان وهؤلاء، الهاء لا تثنى ولا تجمع، وكذلك الذال والألف في ذلك، والتاء واللام في تلك أسماء المشار إليه، والكاف للمخاطب، فإذا أردت أن تثني المشار إليه وتجمعه خاطبت واحداً قلت: ذلك، وأولئك، فإذا أردت أن تثني المخاطب وتجمعه، وتفرد المشار غليه قلت ذلكما، وذاكم فإن أردت أن تثنيهما جميعاً قلت: ذانكما، وإن أردت أن تجمعهما قلت: أولئكم، وكل ذلك قد جاء في القرآن. وأما أسماء المكى: فهي أيضاً تتغير بتغيير إعرابها في بعض الأحوال دون بعض، فتكون التاء المضمومة، وأنا للمتكلم في الرفع ذكراً أو انثى، وتثنية أنا وجمعه نحن، وتثنية التاء وجمعها بالنون والألف الساكن ما قبلها، تقول: في قمت قمنا في الاثنين والجمع، والنون والياء، وإياي للمتكلم المنصوب، وتثنية النون والياء بالنون والألف

محرك ما قبلهما نحو: قولك ضربنا، والياء للمتكلم المخفوض ذكراً كان أو انثى، وتثنيتها وجمعها بالنون والألف موصولاً بحرف الخفض أو الإضافة، وأنت المخاطب المذكر المرفوع مفتوح التاء [وتثنيته] وجمعه أنتما وأنتم، وأنت للمؤنث المخاطبة بكسر التاء، وتثنيته وجمعه أنتما وأنتن، وكذلك التاء المفتوحة في قوله: ضربت وقمت، والمكسورة في قمت وذهبت وتثنية المذكر وجمعه قمنا وقمتم، وتثنية المؤنث [وجمعه] قمتما وقمتن وإياك مفتوحة الكاف، والكاف وحدها إذا كانت مفتوحة للمخاطب المنصوب، وتثنيته إياكما، وجمعه إياكم، وإياك مكسورة الكاف، فالكاف وحدها إذا كانت مكسورة للمؤنث وتثنية إياك وجمعها إياكما وإلاكن، وتثنية الكاف وجمعها ضربكما وضربكن، والكاف المفتوحة للمخاطب المخفوض إذا كان مذكراً، كقولك: مر بك زيد، وتثنية ذلك وجمعه بكما وبكم، والكاف المكسورة للمؤنث، وتثنيتهما وجمعهما: بكما وبكن. وهو وما في الفعل من ذكر الفاعل إذا أضمر للغائب المذكر المرفوع نحو هو قام، وهما، وهم، وقام وقاما وقاموا. والتاء الساكنة وهي للغائب المؤنث المرفوع نحو قامت وقامتا وقمن، وهي وهما وهن والفعل في سائر الأحوال واحد، وإنما يثنى ويجمع دلالة على الفاعلين وجمعهم، وإلا فالفعل على الحقيقة واحد، ولذلك لا يثنى ولا يجمع إذا تقدم الأسماء، لأنه لا ذكر

فيه منها، ويثنى ويجمع إذا تأخر عنها، لأن فيه ضميراً منها. والهاء المضمومة وتثنية إياه وجمعه: إياهما وإياهم، وإياه للغائب المنصوب إذا كان مذكراً نحو قولك: إياه ضرب وضربته، وتثنية ضربته وجمعه ضربتهما وضربتهم، وكذلك الهاء والألف وإياهما للمؤنث الغائب، وتثنية ذلك وجمعه: إياهما وإياهن وضربتهما وضربتهن، والهاء المكسورة للمكنى الغائب، نحو مررت به، وتثنيتهما وجمعهما بهما وبهن. وإذا جمعت بين الفاعل والمفعول به في الكتابة كان الفاعل بعد الفعل لأنه أحق به، وكان المفعول بعد ذلك نحو ضربته وضربتهما وضربتك، وإن وقع الفعل على مفعولين جئت بهما أيضاً بعد الفاعل، كقولك: كسرتكه وأعطيتكه، وأعطيتها إياه، وكفيتموه، وسيكفيكهم الله، وتقول للرجلين من أجل واحد: فسيكفيكما الله، وللاثنين من أجل رجال فسيكفيكهماهم الله، ولنسوة من أجل رجال فسيكفيكهم ولنسوة من أجل نسوة فسيكفيكهن الله، فإن كان الخطاب واقعاً على غائب من أجل مخاطب قلت: سيكفيه الله إياك، وإن كان واقعاً من أجل اثنين قلت: سيكفيهما الله وإن كان واقعاً على جماعة من أجل جماعة قلت: سيكفيهموكم الله، موإن كان واقعاً على مؤنث من أجل مذكر قلت: سيكفيهاك الله، وللاثنين، فسيكفيهماك الله وللمثلث فسيكفيكهن الله إياك، فقس على هذا كل ما يأتى في هذا الباب. والأسماء المبهمة: الذي والتي، وما ومن إذا كانا بمعنى الذي والتي، وأي إذا كانت بمعنى الذي أيضاً، فكل هذه نكرات مبهمة لا تقع على

شخص بعينه، بل على كل نوع، وأنواع كل جنس، وإنما يعرفها ويفسرها صلاتها، ولا فائدة فيها قبل أن توصل، وهي وصلاتها بمنزلة الاسم الواحد، فما و"من" و"أي" لا يثنين ولا يجمعن، و"الذي" يثنى في الرفع بالألف، وفي النصب والخفض بالياء، فيقال اللذان واللذين وفي سائر أحوال الجمع بالياء فيقال الذين. ولابد في صلات هذه الأسماء من عائد يعود عليها، إما مظهر وإما مضمر، وإلا لم تقع بها فائدة، و"أي" من بينها تعرف وباقيها مبني غير معرب. وإذا أردت أن تعلم موضع الاسمين من الإعراب فاردد الكلام إلى نفسك، فإن كان اسمك فيه بالتاء أو بانا أو بالنون والألف ونحن، فهو مرفوع، نحو قولك قمت، فإذا رددت إلى غيرك قلت: قام زيد، وكذلك قمنا، وقام القوم، وإن كان اسمك فيه بالنون والياء أو بإياي أو بإيانا أو بالنون والألف فهو منصوب، نحو قولك: ضربني زيد، فإذا رددته إلى غيرك قلت: ضرب عمراً زيد، وإن كان اسمك فيه بالياء فهو مخفوض نحو مر بي زيد، فإذا ردت إلى غيرك قلت مر زيد بعمرو، فلا يغلطنك في ذلك قولهم لعلي وأني فإن أصل ذلك لعلني وإنني، وإنما أدغمت النون في النون وفي اللام وقد قال حاتم. (أرِيِني جواداً مات هزلاً لعلني ... أرَي ماترين أو بخيلاً مُخلدا)

فأخرجه على الأصل فهذه في معرفة موقع الاسم من الإعراب، وفيما يبين الإعراب في حروفه تدل ذا اللب على ما يحتاج إليه. وينبغي لمن لم يقو في علم اللغة إذا وقع في كلامه ما لا يدري كيف إعرابه أن يدعه، ويفعل في مكانه ما يعرفه، فإن الكلام واسع، وليس يضطر أن يأتي بذلك اللفظ بعينه، بل يجوز له أن يأتي بالمعنى الذي يريده بلفظ آخر أقل إشكالاً عليه. وأما المقصود والممدود: فمنها ما يعرف بالقياس، ومنها ما يأتي مختلفاً فيتبع فيه السماع من العرب ويحفظ عنهم، فما يعرف فيه بالقياس من المقصور كل فَعْل على فَعِلَ يَفْعَلُ، والاسم منه على أفعل فإن مصدره مقصور نحو: عَمِي يَعْمىَ فهو أَعْمىَ ومصدره عَمىً، وكذلك إن كان الاسم منه فعلان نحو صَدىَ يصدى صدىً وهو صديان. وكل مفعول بني من فعل زائد على ثلاثة أحرف في آخره ألف فهو مقصور نحو معطى من أعطيت ومقصى من أقصيت، وكل مفعول من فاعلت في آخره ألف فهو مقصور مثل عاقيت وهو معافى، وكل ما كان جمع فُعلة أو فِعلة على فُعَل أو فِعَل نحو عروة وعراً، ولحية ولحى، وما كان مجموعاً على فعلى نحو: جرحى وصرعى أو على فعالى نحو سكارى فهو مقصور، وكل اسم على بناء هذين الجمعين نحو المبدى والحبارى فهو مقصور، وما كان في المثنى من آخره ألف نحو القهقرى والخوزلى. ومما يدرك بالقياس من الممدود كل مصدر من أفعل في أوله زيادة نحو أعطى إعطاء واستدنى استدناء،

وما كان مصدراً من فاعلت نحو: وآليته ولاء، وما كان من المصادر على التفعال نحو الترماء والتقصاء، أو على الاستفعال مثل الاستدناء، والافتعال كالانتهاء والانفعال نحو الانقضاء. وما جاء من الأصوات نحو الدعاء والرغاء والغناء، وكل ما كان جمعه من الأسماء على أفعِلة نحو كساء وأكسية، وغطاء وأغطية. وما جمع من فُعَل على فعال نحو ظبي وظباء، وكذلك مايجمع من فَعْل على أفعال نحو أحياء وآباء وأبناء، وما كان جمعاً لفعله نحو قشوة وقشاء، وركوة وركاء، فأما قرية وقرى فإنه شاذ لا يعمل عليه. وما جمع على أفعلاء نحو أصفياء وأنبياء، وكل ما كان على فعلاء ومذكره على أفعل نحو حمراء وبيضاء، وكل هذا ممدود يطرد فيه القياس، وما سوى ذلك فإنما يؤخذ سماعاً، وقد ذكر الفراء وابن السكيت وغيرهما من ذلك ما يغنينها عن تكلفة وجمعه. فأما حكم المقصور والممدود في الخط فإن الممدود كله يكتب بالألف، وإذا ثنيته زدت عليه ألفاً للتثنية قلت: رداءان كساءان، وإن شئت اختصرت على ألف وهمزة، فإن كانت المدة للتأنيث قلبت الهمزة واواً

فقلت: حمراوان، وإذا نسبت إلى الممدود قلت كسائي، فإن كانت المدة للتأنيث جعلتها واواً، فقلت: بيضاوى. وماكان من المقصور علىثلاثة أحرف وكان منذوات الياء فاكتبه بالياء، وذوات الياء ما ظهر في تثنيته من الأسماء الياء، أو في تصريفه من الأفعال الياء، كقولك: في فتى فتيان، وفي قضى قضيت أقضى، وما كان من ذوات الواو فاكتبه بالألف كقولك في غزا يغزو، وفي تثنية عصا عصوان. وما كان على أربعة أحرف، وما جاوزها فاكتبه كله بالياء، نحو اعتدى والتوى في الفعل، ومعزى وذكرى في الاسم. وما كان من ذوات الياء واتصل به مكنى فاكتبه بالألف نحو هذه رحاه وهذا فتاه. وكل ما كان قبل آخره ياء فاكتبه بالألف نحو الدنيا والمحيا؛ ولم يأتك في هذا الباب شيء شاذ إلا يحيى اسم رجل بالياء. وإذا أشكل عليك المقصور، فلم تدر أمن ذوات الياء هو أم من ذوات الواو فاكتبه بالالف، لأنها الأصل. وإذا نسيت إلى المقصور قلبت الألف واواً فقلت: رضوى وقروى. وأما المذكر والمؤنث فإن الأفعال كلها مذكرة، وإنما يحلقها التأنيث دلالة على تأنيث فاعلها، فإذا قلت: قامت هند دللت بالتاء على أن القائمة مؤنثة، والقائم في نفسه مذكر اللفظ. فأما الحروف فتذكر وتؤنث، تقول: هذا ألف، وهذه ألف وكذلك إلى آخر حروف المعجم، فأما الأسماء فأصلها التذكير أيضاً، والتأنيث داخل عليه، ألا ترى أنك تقول للشخص هو قبل أن تتبينه، والشخص والشيء مذكران وهما واقعان على كل شيء يخبر عنه، فإذا اجتمع المذكر والمؤنث في هذا الباب غلبت التذكير فقلت: عندي عشرة رجال ونساء. والتأنيث والتذكير في الأسماء على ضربين: أحدهما ما استحق التذكير والتأنيث بالطبع، والآخر ما استحقهما بالوضع، فأما ما استحق

التذكير والتأنيث بالطبع فهو الحيوان الذي خلقه الله تعالى منه ذكراً وأنثى؛ وأما التأنيث والتذكير بالاصطلاح والوضع فكالنجوم والجبال والشجر والدواب، وما أشبه ذلك مما ليس فيه [ذكر] ولا أنثى على الحقيقة. وما كان من الحيوان فهو على ضربين: أحدهما ما يعرف شخص الذكر فيه من الأنثى بالمعاينة، فما كان هكذا فقد فصلت العرب فيه بين الذكر والأنثى لمخالفة الأسماء فقالوا: رجل وامرأة، وديك ودجاجة، وحمار وأتان، وبعير وناقة، وكبش ونعجة، وأشباه ذلك؛ وما اشتبه من ذلك في العيان، فقد فصلوا فيه بالهاء فقالوا: ثعلب وثعلبة، وغلام وغلامة، وفصلوا بين المذكر والمؤنث وأوصافهما بالتاء في قامت، والنون في قمن، والمدة في حمراء، والألف في حبلى والهاء في ظريفة. وأما ما لا يستحق التذكير والتأنيث بطبعه فالأصل فيه التأنيث، والتذكير داخل عليه، فإذا اجتمع المذكر والمؤنث من هذا الباب غلبت التأنيث، كما قال الله عز وجل: {وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ} وقال: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} وقد قسمت العرب ما كان من هذا الباب فأنثت بعضاً وذكرت بعضاً، وعدلت في ذلك بين الشيء ونظيره، فأنثت الشمس وذكرت القمر، وأنثت الأرض وذكرت الجو، وأنثت الناب وذكرت الباب، وأنثت العقاب وذكرت الغراب، وليس يوصل إلى علم المذكر والمؤنث من هذا الباب إلا بالسماع دون القياس، إلا فيما ظهرت فيه علامات التأنيث التي قدمناها من الهاء والياء والمدة والألف، وما ظهرت في تصغيره مثل نار ونويرة وعين وعينية

وأذن وأذينة، وشمس وشميسة، وما بعد هذا فإنما يؤخذ من أفواههم، ويؤدى كما حفظ، وقد يؤتى منه في كتب القراءة وغيرها ما يغني ذكرنا إياه، وتكلفنا جمعه إن شاء الله. وإذا أتاك ما لا تعرف أمذكر هو أم مؤنث، وكان مما يستحق التذكير والتأنيث بالطبع فاكبته بالتذكير فإنه الأصل. وإذا أتاك من ذلك ما تذكيره وتأنيثه بالوضع لا بالطبع فاكتبه على التأنيث، فإنه أصله كما قدمنا. وأما الهجاء فهو على ضربين: ضرب للسمع وضع لإقامة وزن الشعر ولا يثبت في الخط، كالحرف المشدد الذي هو في الشعر حرفان والممدود الذي هو كذلك، والمدغم الذي هو كذلك، وأشباه هذا. وضرب للخط، فالأصل فيه أن يكون على حروف الكتابة كالرحمن الذي أثبت فيه اللام، وإن كان الإدغام في اللفظ قد أسقطها، لأن الأصل رحمان دخلت عليه الألف واللام اللتان للتعريف. فاصل الكتاب أن يكون هجاؤه على الحروف، إلا أن الكتاب زادوا في بعضه ما ليس فيه ليفصلوا بذلك بين متشابه، ويفصلوا منه ما هو فيه تحقيقاً؛ ولأنهم لم يخافوا لبساً، وخالفوا اللفظ في بعض ذلك لأسباب دعتهم إلى المخالفة له، ووصلوا في وضع ما قطعوه في موضع آخر لمعان فصلت بين ذلك، فأما ما زادوه ليفصلوا به بين متشابه، فواو عمرو التي أدخلوها فيه فرقاً بينه وبين عمر، وأسقطوها في النصب لأنهم جعلوا الألف عوضاً عنالتنوين [الذي] لا يدخل عمر لأنه لا ينصرف، فاجتزءوا بالألف في النصب من الفرق بينهما، وواو أولئك التي أدخلوها فرقاً بينه وبين إليك. وألف مائة التي فرقوا بينها وبين ميه والألف في ذهبوا وكفروا التي فرقوا بينها وبين واو الجمع وواو العطف إذا كان في الكلام كفر وفخر وما أشبه ذلك،

وأما يدعو ويغزو وذوي فالاختيار ألا تثبت فيها الألف لئلا يشبه الواحد الاثنين المجزومين والمنصوبين، وقد أثبتها قوم من الكتاب. وأما ما حذف اختصاراً أو لأنهم آمنوا اللبس فألف بسم الله في هذا الموضع فقط لكثرة الاستعمال وقلة اللبس، فإذا قلت: باسم ربك أو ما شاكل ذلك رددتها إلى الأصل، وألف ابن إذا كان نعتاً لاسم علم معرفة مضاف إلى اسم علم معرفة، نحو قولنا: زيد بن عمرو. فإذا ابتدئ أو وقع موقع الخبر أثبت فيه الألف، وإن كان مضافاً إلى كنية أو نعتاً لكنية، فإثبات الألف فيه أحسن، ويجوز إسقاطها. والألف التي للتعريف إذا دخلت عليها لام الإضافة نحو قولك: هذا للرجل، والألف التي في دراهم إذا كان قبلها عدد يدل على الجمع، فإذا لم يكن عدد لم تحذف، لئلا يشبه الجمع بالواحد، وألف صالح إذا كان اسماً، فإن كان نعتاً أو خبراً ثبتت. وألف سلام والسلام لكثرة الاستعمال أيضاً، ومنها حذف الواو الثانية من رءوس وكان حقها أن تكتب بواوين، ومنها حذف ألف "ما" إذا كانت استفهاماً، ووقعت بعد حروف الخفض فرقاً بينها وبين الخبر، كقولك فيم عتبت؟ ولم جئت؟ وفرقوا في ذلك بين الاستفهام وبين الخبر كقولهم، مما عتبت عتبت، ولما أمرتني به جئت. لام الذي أسقطت وكان الأصل أن تكتب بلامين، وإنما فعلوا ذلك لأنها لم تأت منفردة من لام التعريف فلم يخشوا ذلك في هذا فرقاً بينه وبين الذين. وأما ما خولف اللفظ فيه، فكل فعل صار إلى حرف واحد، فإنك تزيد في الخط كقولك: عه من وعيت، وقه نفسك من وقيت، والصلاة والزكاة والربا والحياة فتكتبه بالواو اتباعاً للمصحف، لأن الذين كتبوه على التفخيم وكانت بلغتهم التفخيم، ومن الكتاب من يكتبه

كله بالألف، فإذا أضفت ذلك كتبته بالألف على كل حال، ومن ذلك المدغم إذا كان الحرفان يتولد عنهما في الإدغام حرف غيرهما مثل مذكّر، والأصل مذتكر منالتذكير. ومن الهجاء حكم الهمزة، وهي إذا كانتأول الكلمة كتبت ألفاً على أي حركة كانت نحو إنكم وأحمد، وأصبع وإذا كانت في آخر الكلمة، وقبلها حرف ساكن لم تثبت لها صورة نحو الجزء والخبء والدفء، وإذا أضيفت كتبت على حركتها فجعلت الضمة واو، والفتحة ألفاً والكسرة ياء، فقلت: هذا جزاؤك، وقرأت جزأك، وقرأت في جزئك، وإذا كانت آخراً وكانت قبلها فتحة كتبتها ألفاً على كل حال، نحو هو يقرأ وإن كانت آخراً وقبلها ضمة كتبتها واواً نحو قولك بطؤ يبطؤ، وإن كان قبلها كسرة كتبت ياء نحو يستهزئ، وإذا وليها مضمر كان سبيلها سبيل ما قدمنا من كتبها على حركتها، وإذا وليها وقبلها كسرة فإن شئت كتبتها ياء وأثبت الواو بعدها، وإن شئت أسقطتها فاكتفين بالواو مثل يستهزئون يكتب بالياء وبغير ياء، وإذا كانت الهمزة وسطاً وقبلها فتحة كتبت على حركتها، فتكتب إن كانت مضمومة بالواو نحو لؤم فلان، وإن كانت مفتوحة كتبت ألفاً نحو سأل، وإن كانت مكسورة كتبت ياء نحو سئم فلان، فأما يسأم ويسأل فلان قبل الهمزة ساكناً فالاختيار لا تثبت لها صورة قياساً على الجزء وغيره. ومن الهجاء ما يوصل ويقطع لمعان تفرق بين الموصول والمقطوع فمن ذلك [إلا] إذا كانت استثناء كتبت موصولة، وإذا كانت إن التي للجزاء ووليها لا التي للجحد فقلت: إن لا نقلم أقم فصلتها، وكان ذلك الاختيار،

وقد وصلها قوم على نية الإدغام، وكذلك كلما، وكأنما، وإنما، إذا أردت بها حروف الأدوات وصلتها فإن جعلت ما التي فيها بمعنى الذي قطعتها فقلت: كل ما علمت صواب، وإن ما أعطيتني بعض استحقاقي وأشباه ذلك، وإنما وصلت حروف الأدوات، لأنه لا يجوز الوقف على بعض حروف الأدوات، وقطعت هذه لأنه يجوز الوقف على كل، وإن ما أشبهها، فهذا ما في الهجاء. وإذا أشكل عليك الشيء من الهجاء فلم تدر كيف اصطلاح الكتاب فاكتبه على لفظه فإنه الأصل. ما يحتاج المحرر إلى استعماله: ثم يحتاج المحرر بعد هذا إلى مراتب المكاتبين، واستحقاقات كل واحد منهم من الأدعية والرسم في عنوانات الكتب إليهم، وأصناف التحرير وما يليق بكل صنف منها من الخطوط. فأما مراتب المكاتبين فهي ثلاث مراتب: مرتبة من فوقك، ومرتبة نظيرك، ومرتبة من دونك، والمرتبة العليا تنقسم ثلاثة أقسام: فأعلاها مرتبة الخليفة ووزيره، ومن كان نظير الوزير عنده. ثم مرتبة الأمراء ومن جرى مجراهم (ممن هو دون) الوزراء، ثم مرتبة الرؤساء بعد هؤلاء من العمال وأصحاب الدواوين. والمرتبة الوسطى تنقسم ثلاثة أقسام: وأعلاها طبقة الصديق إذا كان شريفاً أو عالماً، أو شيخاً. والثانية طبقة الصديق إذا كان ذا رحم أو ممن يؤنس به، والثالثة طبقة الصديق إذا خلا من هذه الأحوال: والمرتبة السفلى ثلاثة أقسام: فأعلاها طبقة من قارب محله عقلك، وإن كان دونك، ثم طبقة من جرت

لك رياسة عليه أو وليت عملاً هو من رعيتك فيه، ثم طبقة الحاشية وممن جرى مجراهم من الخدم والأولياء. ولكل طبقة من هذه الطبقات مرتبة في المخاطبة، ومنزلة من الدعاء متى زيد عليها، أو قصر به عنها وقع في ذلك الخلل والخطأ، وعاد بالضرر والأذى، وذلك أن الرئيس متى قصر به عما يستحقه أغضبه ذلك وأحقده، والتابع [إن] زيد على استحقاقه أبطره ذلك وأفسده، اللهم إلا أن يكون قد أتى في الخدمة ما يستحق به رفع المنزلة، فيجعل الزيادة له في المكاتبة، والرفع في المخاطبة ثمرة فعله وليس في الطبقات من الأتعاب زيادته على مقدار استحقاقها إلا الصديق، فإن كل ما تخاطبه مما تريد أن تستخرج مودته به، وتمكن منابينك وبينه باستعماله الجميل، وقد قال شيخنا أبو علي الحسن بن وهب - رحمه الله - وكان قدوة في الأدب: "كاتب رئيسك بما يستحق، ومن دونك بما يستوجبه، وكاتب صديقك كما تكاتب حبيبتك، فإن غزل المودة أرق من غزل الصبابة". وقال

أبو أيوب - رضي الله عنه وكان إماماً في الكتابة -: "طرق الصداقة أملح من طرق العلاقة، والنفس بالصديق، آنس منها بالعشيق"؛ فسرق أبو تمام هذا القول منهم فنظمه فيهم فقال: (وأجد بالخليل من بُرَحاء الشَّوق وِجدانَ غيره بالحبيب) وقد كانت المكاتبة في القديم على ترتيب مرتبة الناس، واستحسنوا غيره، وجرت بذلك عادتهم، ثم خولف بعض ذلك في زماننا هذا. ولم يكونوا في الزمان القديم يستعملون كثرة الدعاء، ولا المخاطبة بالسيادة، وكان أول من خاطب بالسيادة في كتبه أو أيوب رحمه الله، وحدثني الباقطاني قال: قالت لي أمي: رأيت بين يدي أحمد بن إسرائيل كتاباً في صدره: يا سيدي ومولاي، أطال الله بقاءك، ولم أكن أعرف ذلك، فقلت: ما هذا يا سيدي؟ فقال: ملق آل وهب وكانوا يدعون للخلفاء والأمراء وولاة العهود والوزراء بإبقاه الله، وأكرمه الله

وأعزه الله، ونحو هذا، حتى كان أول من غير هذا ورتب فيه الترتيب الذي اقتفى أثره، وجعل سنة من بعده أبو أيوب - رحمه الله - فإنه قال: إذا قلت أمير المؤمنين أعزه الله، أو أكبره الله، أو أيده الله، فإنه قيل له عزيزاً، والله قد أكرمه بخلافته، ولربما ينبغي أن تسأله له إدامة ما وهب له، فتقول أدام الله تأييده وعزه وكرامته. واستحسن الناس ذلك من قوله، وأخذوا به من بعده، ورتبوا الدعاء على ما رتبه، فجعلوا أطال الله بقاءك أول الدعاء، لأن أول ما يسأل الله - عز وجل - الإنسان البقاء، فمن كانت رتبته عالية كانت مكاتبته أطال الله بقاءه، ومن كانت مرتبته دون ذلك كانت مكاتبته بـ "مد الله في عزك"، ومن كانت مرتبته دون ذلك كانت مكاتبته بـ أبقاك الله. وإنما صارت أبقاك الله دون ما تقدمها لأنه يسأل له بقاء قل أو كثر، فصارت مد الله في عمرك أكثر من ذلك، لأنه قد سأله أن يمد له في ذلك، وقد يمد مداً لا يطيله، فإذا سأله أن يطيل بقاءه فقد سأله أكثر ما يسأل في البقاء. ثم يلي ذلك بأدام عزه لمن مرتبته عالية، وبأعزه الله لمن مرتبته دون ذلك، وجعل الإنسان العز تالياً للبقاء، لأن أول ما ينبغي أن يسأل الله - عز وجل - للإنسان بعد البقاء العز، ولذلك قيل: الموت في قوة وعز، خير من الحياة في ذل وعجز. فإن كان المكاتب من أهل العز، فإنما ينبغي أن يسأل الله - عز وجل - أن يديم له ما منحه منه، وإن كان من غيرهم جعل مكان أدام عزه أعزه، ثم يلي ذلك بالتأييد على هذا الترتيب، وجعل السلطان وحده أولياءه الذين يحتاجون إلى التأييد ويقع لأمثالهم، ولا يجعل لغيرهم، وأسقط من مكابتات النساء وإن جل محلهن، ومن مكاتبات أهل الذمة؛ لأن التأييد من الله - عز وجل - لا يقع لأمثالهم. ثم يلي ذلك بالكرامة والسعادة، ثم النعمة والزيادة في الإحسان وتتابع الآلاء، وجميل البلاء، وجزيل القسم والمواهب، ويستعمل

في كل واحد من ذلك ما مثلناه قبل وكان هذا رسم الصدور فيما استعملوه. وكانوا لا يكتبون: وأتم نعمه عليك، وزاد فيها عندك، أو وأدامها لك، إلا لمن دون طبقات النظراء، ومن في المرتبة العليا من الطبقة السفلى، وكانوا لا يخاطبون بجعلني الله فداك، وقدمني قبلك إلا للنظراء، ولا يخاطبون بهما الرؤساء؛ ويجعلون في كتب الاتباع ومن جرى مجراهم: جعلت فداك، وقدمت قبلك، وكان عندهم: وجعلني من كل سوء ومكروه فداك، فوق وجعلني فداك [وجعلني فداك] فوق وجعلني من السوء فداك. وكانت كتبهم إلى السلطان وولاة العهود: لعبد الله فلان بن فلان، أو للوزير فلان بن فلان، وللأمير فلان بن فلان، إلى قوطم: صلى الله، ويثبتون في آخر الكتاب: أتم الله على أمير المؤمنين نعمته، وهناه وكرامته، وألبسه عفوه وعافتيه، وأمنه وسلامته، والسلام على أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته. وعلى العنوان: إلى أمير المؤمنين، بسم الله الرحمن الرحيم، لعبد الله أبي فلان بن فلان، وإلى الوزير: للوزير أبي فلان بن فلان بن فلان. فأما الكتب عنهم فتبدأ في الكتاب عن الخليفة باسمه، فيقال: من عبد الله فلان ابن فلان إلى فلان بن فلان، سلام عليك، وإن أمير المؤمنين يحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، إلى آخر الصدر، ويقال في العنوان: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الله فلان الفلاني، هذا عن يمنة الكتاب، ويقال عن يسرته إلى فلان بن فلان، فإن كان الوزير ملقباً، أو الأمير ولي عهد نحا بهما هذا النحو. ولا يدعي لأحد في الكتب المكتتبة من أمير المؤمنين إلا الوزير وولي العهد، فإنه يدعي لهما بأمتع الله أمير المؤمنين بك، فهذا رسم الخلفاء والملقبين من الوزراء، وولاة العهود من الأمراء في مكاتبتهم ومكاتبة أصحابهم لهم وعمالهم، والإطلاقات فإنه يسقط منها

التقدير، ويقصر فيها الدعاء وذكر الحاجة أو الخبر. وقد ترك الآن في مكاتبة الوزراء وولاة العهد ما ذكرناه، واقتصر بالوزير ملقباً كان أو غير ملقب على أن يخاطب بالوزارة، ويدعي له الدعاء التام، وربما اقتصر من الدعاء على إطالة البقاء، ودوام العز والتأييد، وخوطب مع الوزارة والسيادة فقيل: أطال الله بقاء سيدنا الوزير، وأدام عزه وتأييده. وليس يصلح أن يخاطب بسيدي الوزير، إلا من خص عنده من ولد، ومن ساوت منزلته من أمير، وعلى العنوان ما قدمناه. فإن كان من الرعية أو خدم الوزير وصنائعه كتب: من خادمه فلان، ومن صنيعته، أو من غرسه، أو من عبده بحسب ما يليق بمحله؛ وعبده أشد في تنظيم المكاتبة من خادمه، وعبده وخادمه من خادمه أجل من خادمه وصنيعته وغرسه، وصنيعته وغرسه أجل من وليه. وإن أحب الحاشية والخدم والعمال أن يسقطوا اسم الوزير من العنوان ويكتبوا يسرة الكتاب عبده أو خادمه أو عبده وخادمه، أو غير ذلك مما قدمنا ذكره، وعليه عمل الناس في هذا الوقت. ومكاتبة الوزير عماله وأصحابه مكاتبة الطبقة السفلى. أما الطبقة الثانية من المرتبة العليا فقد وقع اصطلاح الناس في هذا الوقت على مكاتبة الأمراء منهم ثلاثة أدعية: فأعلاها: أطال الله بقاء سيدنا الأمير. والثاني: سيدي الأمير، والثالث: الأمير بلا سيادة، فإن قلت سيدنا الأمير اختصرت الدعاء وأما من ليس بأمير وله رياسة تداني الوزارة أو الإمارة أو كان وزيراً أو أميراً فصرف فمخاطبته سيدنا وبالهاء، فيقول: أطال الله بقاء سيدنا وأدام عزه. وكل ما عظم محله يقصر الدعاء له، ودون

هذا: أطال الله بقاء سيدي وإن شئت أن تزيده في الدعاء زدته وخاطبته أيضاً بالهاء؛ ودون هذا أطال الله بقاء السيد، ثم يا سيدي وموالي ورئيسي، وهذان يخاطبان بالكاف. وإن كان المخاطب قاضياً خوطب بالقاضي، وبالهاء، فقيل أطال الله بقاء القاضي وأدام عزه، فإن نقصت منزلته عن ذلك خوطب بأطال الله بقاءك أيها القاضي. والعنوان إلى [من] خوطب بسيدنا الأمير: للأمير ابن فلان بن فلان بلا دعاء، من فلان بن فلان، أو من عبده فلان ابن فلان، وإن شئت اقتصرت على أن تكتب يسرة الكتاب: عبده وخادمه فلان؛ وإلى من خوطب بسيدي الأمير: لسيدي الأمير أبي فلان ابن فلان، وتدعو له الدعاء التام، من فلان بن فلان؛ وإلى من خوطب بأيها السيد وبالكاف. فعبدك أو خادمك أو وليك. وإلى من خوطب بسيدنا وبالهاء: عبده أو خادمه أو عبده وخادمه، على مقدار محل المكاتب له منه. وإلى من خوطب بيا سيدي ومولاي ورئيسي بأن يجعل يمنة الكتاب: حضرة سيدي أبي فلان بن فلان، أطال الله بقاءه والدعاء التام إلى نعمته، ثم يكتب في يسرة الكتاب: عبدك فلان أو خادمك أو وليك. ولا يخاطب هؤلاء أحدٌ من أهل الذمة، فإن ذلك مما لم يجر عادة الكتاب به، وإنما تركوه لقول الله عز وجل: {لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ} وخاطبوهم بالسيادة، لأن الله تعالى قد حكى عن الكفار أنهم قالوا: {رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا}. والعنوان إلى القاضي إذا كان رفيع المحل وخوطب بالهاء للقاضي

أبي فلان بن فلان بن فلان بن فلان بلا دعاء، وإذا خوطب بالكاف: للقاضي أبي فلان بن فلان، يدعي له من فلان. ولم تكن القدمءا بستجيزون أن يكتبوا إلى القاضي لسيدنا القاضي، ولا يكتبون على عنواناتهم إليهم عبده ولا خادمه، وكانت القضاة تنكر على من يفعل ذلك، ولا تقبله حتى كوتب بذلك أبو الحسين عمر بن محمد بن يوسف فقبله، ورأيت جماعة من القضاة يكتبون به. ومخاطبة جميع هذه المرتبة في الحاجة: "فإن رأيت" فإن كان ممن يخاطب بالهاء من سائر أصنافها قيل له: "إن رأى أن يفعل كذا فعل إن شاء الله"، وإن كان ممن يخاطب بالكاف قيل له: "فإن رأيت فعلت إن شاء الله". وأما المرتبة الوسطى: فالدعاء للطبقة العليا منها بيا سيدي ومولاي، أو شيخي وكبيري، على قدر استحقاقه في العلم أو السن أو الشرف. والطبقة الثانية: بيا سيدي ومولاي، وإن زدت شقيقي وخليلي أو أعز الخلق علي وأقربهم إلي، وآثر الناس عندي وأجلهم لدي، فعلت من ذلك ما توجبه القرابة والمؤانسة، فإن كل ذلك حسن جميل، واستعماله مليح غير مستنكر ولا قبيح. والطبقة الثالثة من هذه المرتبة: يا سيدي أطال الله بقاءك، ودونه، يا سيدي وأخي، ودون ذلك: يا أخي. والعنوان إلى الطبقة العليا من هذه المرتبة بسيدي ومولاي، ورئيسي أبي فلان أطال الله بقاءه، والدعاء إلى نعمته، وفي يسرة العنوان:

من فلان إلى فلان، وتحته: سيدي ومولاي ورئيسي أبو فلان بن فلان أدام الله عزه، وإن شئت اقتصرت على عبدك فلان بن [فلان]، وليس يصلح أن يخاطب أهل هذه الطبقة بخادمك. وإلى الطبقة الثانية: بسيدي ومولاي أبي فلان والدعاء تاما. وفي يسرة الكتاب: من فلان بن فلان، وتحته: سيدي مولاي، أبو فلان بن فلان أيده الله، وإن شئت لأبي فلان والدعاء تاما؛ وفي يسرة الكتاب من فلان ابن فلان، وتحته: أبو فلان فلان بن فلان أدام الله عزه. وإن شئت اقتصرت على أن تكتب يسرة العنوان: عبد إخائك أو شاكر تفضلك، أو أخوك أو ما شاكل ذلك. وإلى الطبقة الثالثة: إذا كان الصدر بأخي وسيدي: لأخي وسيدي أبي فلان وتدعو له وتسقط من الدعاء النعمة، وتكتب يسرة العنوان تحت اسمك: أخي وسيدي أبو فلان بن فلان أعزه الله، ولا تذكر اسمك، واقتصر على ذلك. وإلى من تخاطبه في الصدر بأخي: لأبي فلان، وتدعو له وتسقط ذكر النعمة، وتجعل اسمه يمنة الكتاب بلا كنية، وتدعو له بأعزه الله. ومخاطبة أهل هذه المرتبة على صنفين: فإن كان في أعلاها خوطب: بإن رأيت وبفعلت، وإن كان في أدونها: فبأحب وبإن شاء الله. وأما الطبقة السفلى فأعلى طبقاتها في الدعاء: أطال الله بقاءك: وأعزك وأيدك؛ ودون ذلك: وأعزك وأكرمك؛ ودونه: وأعزك؛ ودونه: أطال الله بقاءك. وقد تستعمل أطال الله بقاءك مفردة في الرقاع للرؤساء إذا كانت ممن بحضرتهم من كتاب المجالس وغيرهم، وتستعمل أيضاً في الخروج وما يجري مجراها. ودون ذلك: أدام الله عزك، ودونه: مد الله

في عمرك، ودونه: أعزك الله ومد في عمرك. ودونه: أكرمك الله وأبقاك ودونه: أكرمك الله، ودونه: أبقاك الله، ودونه: تولاك الله بحفظه، ودونه: عافانا الله وإياك من السوء. وأعلى طبقات الدعاء في العنوانات لهؤلاء: لأبي فلان أطال الله بقاءه، وأدام عزه وتأييده، وتجعل اسمه في يمنة الكتاب، وتدعو له بأعزه الله، ودونه: أطال الله بقاءه. ودونه: أدام الله عزه، ودونه: أعزه الله، ودونه: أكرمه الله، ودونه: أبقاه الله، وتجعل اسم المكتوب إليه في جميع ذلك يمنة الكتاب، ولا يدعي له. وقد يقتصر بهذه الطبقة إذا كان الكتاب توقيعاً مختوماً، أو يجري مجرى التوقيع في يمينه: أبو فلان فلان بن فلان، ويدعي له بحسب استحقاقه من الأدعية التي قدمناها. ومخاطبة أهل هذه المرتبة في الأمر على ضربين: فأعلاهم محلا يخاطب برأيك، ويقال بعد انقضاء ما يؤمر به موفقاً إن شاء الله، وإنما ينصب ذلك على تقدير رأيك موفقاً إن شاء الله. وإلى أدناهم محلاً بافعل ذلك، واعلم ذلك، واعمل به، وما شاكل هذا إن شاء الله. ولما كانت الدول في كثير من الأزمان، وبخاصة زماننا هذا، قد غلب عليها النساء، وصار الرؤساء فيها الخدم والإماء، وكانت لهم أوضاع في المكاتبات، وسنن في الدعاء والمخاطبات، متى خالفها مخالف نسبوه إلى قلة الفهم، ونقص العلم، احتجنا إلى ذكر جمل من ذلك، وإضافتها إلى هذا الباب، فمن ذلك أنه لا يدعي لهن بالكرامة ولا السعادة، لأن كرامة المرأة وسعادتها موتها عندهن، ولا يقال لهن: وتمم الله نعمته عليك، لأنهن يتصون أن يكون شيء عليهن، ولا يخاطبن يجعلني فداكِ، ولا قدمني قبلكِ لأنهما يجريان مجرى المغازلة والمهازلة، ولا يقال بلغني أملي فيكِ ولا كان هذا تقديري فيك، لاستقباحهن أن يكون شيء فيهن.

وقد رأيت شيخنا أبا الحسن علي بن عيسى - رحمه الله - بكاتب أم المقتدر فيتخلص في مكاتبها من هذه الألفاظ المنكرة عندهن، لما ظهر من إنكارهن ذلك على حامد وأمثاله، والسعيد من اتعظ بغيره. الخط: وأما الخط فله أجناس قد كان الناس يعرّفونها أولادهم على ترتيب، ثم تركوا ذلك وزهدوا فيه كزهدهم في سائر العلوم والصناعات، وكان أكبرها وأجلها أمر الثلثين وهو الذي تكتب به السجلات بما يقطعه الأئمة ويوزعونه ويسمى قلم السجلات، ثم ثقيل الطومار، والشامي، وكان يكتب بهما في القديم عن ملوك بني أمية، ويكتب إليهم في المؤامرات بمفتح الشامي، ثم استخلص ولد العباس قلم النصف فكتب به عنهم، وترك ثقيل الطومار والشامي، ثم إن

المأمون تقدم إلى ذي الرياستين بأن تجمع حروف قلم النصف، ويباعد بين سطوره ففعل ذلك، وسمي الرياسي، فصارت المكاتبة عن السلطان بقلم النصف الرياسي، والمكاتبة إليهم بخفيفهما، والمكاتبة من الوزير إلى العمال بقلم الثلث، ومن العمال إليهم بصغيره، وكتب الوزير إلى السلطان بقلم المنثور عوضاً عن مفتح الشامي، وبصغير المنثور وسميا قلم المؤامرات وقلم الرقاع، وهو دون صغير الثلث للحوائج والظلامات والجوامع التي تعرض على السلطان، وقلم الحلية وعيار الحلية وصغيرهما للأسرار، والكتب التي تنفذ على أجنحة الأطيار. وأكثر أهل هذا الزمان لا يعرفون هذه الأقلام، ولا يدرون ترتيبها، وليس في أيديهم منها في هذا الوقت إلا قلم المؤامرات، وصغير الثلث، وقلم الرقاع وقد اقتصر كل كاتب على ما وقف عليه خطه من صغر أو كبر، أو ضعف أو قوة، أو وخامة أو حلاوة، كاقتصارهم في سائر أمورهم على البخوت والحظوظ، فهذا ما يحتاج إليه المحرر. ثم إن في الكتاب أشياء من باب اللغة ينبغي أن نذكرها، لأن الكاتب غير مستغن عن ملها، فمنها قولهم: مددت الدوات، إذا خلطت فيها مداداً، كما قال الله - سبحانه -: {وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ}، أمددتها: إذا زدتها مداداً، فإذا أمرت من مددت قلت: مد الدواة، ومن أمددت: أمدد وأمد، وتقول: ألقت الدواة فأنا أليقها

إلاقة، فإذا أمرت قلت ألق الدواة، ومعناه أدر كرسفها. وتقول: بريت القلم بالياء ولا يقال برأته، ويقال لما يسقط البراية، وإذا أمرت قلت: ابر يا رجل. وتقول: أحددت السكين، وحد هعو إذا صار حاداً، وسكين يحد، فإذا أمرت قلت: أحِدّ السكين. وتقول: أنشأت الكتاب أنشئه من قولك: أنشأ الله الخلق، فإذا أمرت قلت أنشئ الكتاب يا رجل، وتقول: أعجمت الكتاب: إذا نقطته، أعجمه، فإذا أمرت قلت: أعجم الكتاب. وتقول: أخطأت في الكتاب، فالهمزة. وتقول: وهمت في الكتاب، إذا سهوت فيه، فإذا أسقطت منه شيئاً قلت: أوهمت، وإذا نهيت عن الوهم قلت: لا توهم، وإذا نهيت عن الإسقاط قلت: لا توهم، مثل لا توبق، وتقول: عرضت الكتاب بغير ألف، فإذا أمرت قلت أعرض الكتاب. وتقول: محوت الحرف بالواو، فإذا أمرت قلت امح. وتقول: وقعت في الكتاب، فإذا أمرت قلت: وقع، وعلمت فيه وإذا أمرت قلت: علم، وتقول: وكدت الكتاب وأكدته لغتان جيدتان فإذا أمرت قلت: وكد وأكد، وتقول: ورخته وأرخته وإذا أمرت قلت: ورخ وأرخ، وسحيت الكتاب وسحوته: إذا قشرت منه سحاة، ومنه سميت المسحاة لأنه يقشر بها الأرض، فإذا أمرت من ذلك قلت: أسح وسحيت الكتاب إذا شددته بسحاء فإذا أمرت قلت سح وتربت الكتاب أتربه تتريبا، وإذا أمرت قلت: ترب، وطينت الكتاب أطينه

وأطينه، وإذا أمرت قلت: طين الكتاب وأطينه، وختمت الكتاب بغير ألف أختمه، وإذا أمرت قلت: اختم، ويقال: عنونت بالكتاب: وقد قيل عنونته، والعنوان مشتق من عنيت به كذا وكذا، وكأنك أعلمت بالعنوان ما عنيت به في الكتاب، والعلوان مشتق من الإعلان، كأنك أعلمت بما كنيت به على العنوان ما فيه، وإذا أمرت من العنوان قلت عنونه، ومن العلوان قلت علونه؛ لهذه جوامع ما يحتاج إليه كاتب الخط. كاتب اللفظ: فأما كاتب اللفظ فهو المترسل، وقد مضى من ذكر الرسائل والخطب ما فيه كفاية لذوي الأدب، وإذا استشعر الكاتب ما أتينا به هناك، وأخذ محاسنه، وجانب معايبه، رجوت أن يبلغ من هذه الصناعة مبلغاً. وكل ما حسن في الشعر حسن في القول، ولا بأس باستعمال الشعر. وإدخاله في الكتب اقتصاراً وتمثيلاً، وأن يقصد بذلك مكاتبة النظراء، ومن دون النظراء المتوسطي المحل من الرؤساء، ولا يستعمل في الكتب إلى السلطان ووزرائه، لأن محلهم يكبر عن ذلك. الشعر: واعلم أن الشعر أبلغ البلاغة، لأنه كلام بليغ موزون مؤلف. وقد قال أبو تمام: "البلاغة بعض الشعر" وحكى عنه [أبو] أيوب - رحمه الله - أنه قال له يوماً وقد أطلع في كتاب يكتبه: يا أبا أيوب: "كلامك ذوب شعري وإذا استعمل المترسل في كتبه التمثيل بآداب الأوائل والاستشهاد بالقرآن، كان ذلك أحلى لمنطقه، وأحسن عند سامعه. وقد ذكر أبو أيوب - رحمه الله - وحسبنا بقوله في هذه الصناعة

رجلاً بالبلاغة فأني في ذكره بأوصافها، وما يستحسن منها فقال: كان والله بارع المنطق، جزل الألفاظ، فصيح اللسان، ليس بالهذر في منطقه، ولا المتعسف في مقصده، معناه إلى القلب أسبق من لفظه إلى السمع. فجمع في هذه الألفاظ اليسيرة جميعه ما وصفنا به البلاغة، وذكرنا به أهلها، وأمرنا المتعاطي لها أن يستعمله فيها، فمن تهيأ له أن يكون فيها كما وصف، فهو أكتب الناس لساناً، وأحسنهم [بياناً] ولو لم نتقدم من ذكر البلاغة إلا بهذا القول من شيخنا - رحمه الله - لكفى وأجزأ. كاتب العقد: وأما كاتب العقد فهو كاتب قد ذكره - عز وجل - في كتابه: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ * فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا} وقال: {كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا} وقال: {يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ}، وعلم الخاصة والعامة والعقلاء والجهال بمنفعة الحساب، وإقرارهم بالحاجة إليه في سائر أمور معايشهم، وأمر دنياهم وآخرتهم يغنينا عن ذكر فضله، والتشاغل بوصف نفعه، وليس في العلوم كلها ما لا يختلف فيه أهله، ولا تتباين فيه آراء علمائه غيره. وليس في العلوم كلها ما إذا أخطأ المخطئ فيه أو أصاب علم بإصابته أو خطئه المرتضاون فيه كما يعلمه المتمهرون فيه غيره. وإذا تبين متبين أصل تركيبه وجد الحكمة التي فيه، وإتقان الصنعة التي في تركيبه يدلان على أن الله - عز وجل - هو الذي تولى تركيبه، وأنه ليس من صناعات المخلوقين، فإنك إذا فكرت فيه وجدت كل عدد قل أو كثر

يعادل نصف عدد حاشيته إذا جمعتا بعدتا أم قربتا، وذلك مثل الخمسة التي حاشيتاها القريبتان الستة والأربعة، فإن حاشيتيها إذا جمعتا كانتا عشرة، ونصفها خمسة، وكذلك الحاشيتان اللتان هما أبعد من هاتين، وهما السبعة والثلاثة، وكذلك الثمانية والاثنان، وكذلك التسعة والواحد، وهذا مطرد في سائر الأعداد إلى آخر ما يمكن ضبطه منها. ثم إن الواحد أول الأفراد فليس بعدد، ولكنه مبتدأ العدد. وحد العدد إنما هو ما تركب من الآحاد، فإذا أضفت هذا الفرد الأول إلى الفرد الثاني وهو ثانيه، كان من ذلك أربعة هو أول الأعداد المجذورة، وجذره اثنان، وهما أول العدد الزوج، وإذا أضفت إلى الأربعة الفرد الثالث. خمسة اجتمع من ذلك تسعة، وهو ثاني الأعداد المجذورة، وجذره ثلاثة وهو ثاني الأعداد، وإذا أضفت إلى التسعة الفرد الرابع وهو سبعة كان من ذلك ستة عشر، وهو ثالث الأعداد المجذورة، وجذره أربعة، وهي ثالث الأعداد، وكذلك يجري في تركيب الأفراد، وتولد الأعداد منها بجذور الأعداد المجذورة المتركبة من اجتماعها إلى آخر ما يمكن ضبطه من الحساب، وفي ذلك دليل على الفردانية وقدم الواجد، وتنبيه للعقول عليه، على أن الأشياء عن الواحد - عز وجل - تكونت وهو العلة فيها، ولو رمنا استقصاء أعاجيب صنع الله - عز وجل - وآثار حكمته في هذا الباب، لطال به الكتاب، وإنما سنذكر منه ما يشوق المبتدئ إلى قراءة كتب الأوائل والنظر فيما جمعوه، فإنه يهجم به على رياض مونقة، وأحوال معجبة إن شاء الله. كاتب الحساب: وكتاب الحساب ثلاثة: كاتب مجلس، وكاتب عامل، وكاتب جيش،

والذي يعم هؤلاء أنهم غير محتاجين إلى معرفة اللغة والإعراب لاجتماع الناس في هذا الوقت على تركهما في الحساب، ويحتاجون إلى أن يكونوا عارفين بالتقدير حتى يعلموا مواقع الجمل والتفصيلات، وما ينبغي أن يخرجوه من الرءوس في التقديرات، وما ينبغي أن يكون في حشو الحكايات، وأن يكونوا محتاطين ف ألفاظ حكاياتهم حتى تصح معانيها، ولا يقع عليهم تأول فيها، وأن يكونوا ضابطين لما يشرعون فيه من فنونه الحساب حتى لا يقع عليهم خطأ فيه، وأن خفّت أيديهم في العقود وأسرعت كان ذلك زائداً في كمالهم. والحساب الذي يحتاج إليه الكتاب هو خمسة أشياء: الجمع، التفريق، التضعيف، والتصريف، والنسبة. فأما الجمع: فهو تركيب الآحاد من الواحد إلى التسعة، ثم تصير العشرة من العشرات بمنزلة الواحد من الآحاد إلى تسعمائة، ثم يصير الألف من الألفين بمنزلة الواحد من الآحاد إلى تسعة آلاف، وكذلك إلى مبلغ. وأكثر ما يمكن ضبطه باليد من الحساب تسعة آلاف، وتسعمائة وتسعة وتسعون، فإذا زاد على ذلك واحداً، وما زاد صار حفظ ما يجتمع بالقلب دون اليد. وإنما جعل الهند الحروف الهندية لضبط ما لا تضبطه اليد من الحساب، ولا يتسع القلب لحفظه، ولإحصاء ما يدق من ضرب الكسور في الكسور، وجعلوه تسعة أحرف لما قدمنا من ذكر الآحاد وتركيبها، وأن العشرات والمئين والألوف بمنزلتها. وأما التفريق: فهو تجريد الجمل بالتفصيل والقسمة؛ إن التفصيل قد تكون بعض أجزائه أكثر من بعض، وذلك مثل مائة درهم دفعناها،

وذكرنا أنها جاري عشرة من الرجال، ثم فصلناها، فقلنا: جاري فلان عشرة دراهم، وجاري فلان عشرون درهماً، وجاري فلان خمسة دراهم، وجاري فلان خمسة دراهم، وجاري فلان سبعة دراهم، وكذلك حتى نأتي على تفصيلها. والقسمة لا يجوز أن تكون بعض أجزائها أكثر من بعض، بل تكون متساوية وذلك كقسمتنا مائة على خمسة، فيكون منها عشرون جزءاً متساوية، وإن قسمناها على عشرة كان منها عشرة أجزاء متساوية. وأما التضعيف: فهو الضرب، ومعنى الضرب تضعيف العدد بمقدار ما تضربه فيه من العدد الصحيح، وذلك كقولنا: كم عشرة في عشرة، فإنما معناه كم تصير العشرة إذا ضوعفت عشرات، فتقول مائة، وكذلك الاثنان في الاثنين إنما معناه كم الاثنان إذا ضوعفا مرتين؟ فتقول: أربعة، وكذلك الواحد في الواحد إنما معناه كم الواحد مرة واحدة؟ فيقال: واحد، فهذا الضرب في العدد الصحيح، فإذا ضرت العدد الآن في الكسور فإنما معناه أن تأخذ من ذلك العدد بمقدار الكسر كقولنا [عشرة] في نصف، فإنما معناه كم نصف في نصف العشرة؟ فيقال: خمسة، وكم تسعة في ثلث؟ فيقال ثلاثة، لأنك إنما سألت عن ثلث التسعة، وكذلك سائر الباب، فإذا قلت: كم نصف، فإنما معناه كم نصف النصف، فتقول: ربع، وكم ثلث في الثلث فإنما معناه: كم ثلث الثلث؟ فيقال: تسع، وكم ربع في ربع؟ فإنمايرادكم ربع الربع؟ فيقال: نصف ثمن. وأما التصريف: فهو تثمين العين والورق والوزن بالعين، أو تصريف الغلات بعضها ببعض، فإذا فرغت قسمة الدينار في العدد الذي تريده فما

اجتمع فهو قيمة الدنانير، وذلك قولنا: إذا كان الدينار أربعة عشر درهماً فكم لنا بخمسة دنانير؟ فتضرب أربعة عشر في خمسة، فيكون سبعين درهماً، وإن أردت أن تعرف قيمة أقل من دينار، فاعلم أن الدينار ستون حبة والدرهم ستون عشيرا، فإذا كان الدينار بأربعة عشر درهماً، فحبة منه بأربعة عشر عشيرا، وهو دانق، وأربعة أعشرة، وإن سألك عن أقل من حبة أو أكثر فحساب ذلك، وإن أردت أن تعرف كم ثمن الورق من العين، وكان ذلك بأكثر من قيمة الدينار بأربعة عشر درهماً فكم ثمن سبعين درهماً، فيقسم السبعين على أربعة عشر، فتكون خمسة، فهو الذي تريد، وإذا كان الورق أقل من قيمة الدينار فانسبه إلى قيمة الدينار بأربعة عشر درهماً، فكم لنا بسبعة دراهم؟ فتنسب السبعة إلى الأربعة عشر، فتكون نصفا، فتقول: نصف دينار، وكذلك سائر الباب. وأما تصريف الغلة فإنهم يستعملونه في العبر ومعاملات التحصيل للتقريب، وهو تعديل القيم في الغلات، فيجعلون الكر في السمسم وما شاكله أربعة أكرار شعيرا، والكر من الحنطة وما شاكلها كرين شعيرا والشعير بحاله، وإنما يستقيم هذا التصريف في أثمان الغلات بالسواد لأن سعر الشعير هناك أبداً مقارب لسعر نصف الحنطة، وربع السمسم، فأما في الشام وغيرها فليس يصح ذلك؛ وأما الأكرار فالذي يعمل عليها منها في السواد المعدل والفالج، وهو خمسا المعدل، والنصف هو نصف المعدل، فأما سائر النواحي فتختلف أكرارها كاختلاف أوزاننها، وإن رمنا ذكر جميع ذلك طال

به الكتاب، فهذا ما في التصريف، فأما النسبة فقد جعلها الحساب في أعمالهم من سنين، وليس يستعمل الكتاب نسبة شيئين إلا في تصريف العين بالورق والورق بالعين، فأما غير ذلك فإنما يستعملون فيه الدوانيق إلى الربع قالوا: ثلاثة دوانيق، وخمسة أعشراء، وإذا [ارادوا] أن ينسبوا السدس والعشر قالوا: دانق وستة أعشراء وكذلك سائر الأجزاء. وإنما ذكرنا هذه الجوامع إذ؟ ؟ ؟ ؟ ؟ بها لمن علم، ومطالعة بها لمن لم يعلم، فأما شرح أبواب الحساب [فهو] مجموع في كتب الحساب، وقد أتوا منه على ما يحتاج إليه، وهاهنا أشياء تخص كل واحد من كتاب الحساب يحتاج إلى معرفتها فيما هو سبيله دون غيره. فمن ذلك أن كتاب المجلس محتاج إلى أن يكون حاذقاً باقتصاص الكتب وترتيب أبوابها في المعاملة على ما يقتضيه ترتيب وقوع الجماعات والموافقات، لتقابل بذلك عند وروده، وتخريج ما فيه من خلف في المؤامرة التي يعملها للعامل، ويحكم في ذلك بما يوجبه حكم الكتابة. وأن يكون عالماً برسوم العين المحوجة إلى التكميلات، وما يجوز أن يكثر به في ذلك مما يلزم العمل به، وأن يعرف أحكام الخراج، وما يجب رده على العمال من النفقات

ومردود الجاري والاحتسابات، وما ينبغي أن يحسب لهم، وأن يعلم ما ينبغي أن تحمد فيه آثار العمال، وما تقبح به آثارهم، وأن يكون في ذلك عدلاً [لا] يميل به الهوى في بعض العمال إلى التأول له، ومسامحته بما تفسد عند الكتاب صناعته، ولا يحمله الانحراف عن بعضهم على التأول في أمره ومما حكته بما يعيب عند أهل الصناعة في كتابه، ولا يرخص لنفسه في إخراج شيء لنفسه من الديوان بعد أن قد ثبت فيه، ليزيل بذلك حجة عمن تلزمه الحجة، ولا أن يثبت له شيئاً لا أصل له ليقيم به حجة لمن ليست له حجة، فإن مقام الكاتب مقام العدل الذي متى عرف منه، أو جرب عليه ميل مع الهوى، أو قلة أمانة سقطت عدالته، ولم تقبل شهادته. وسمعت أبا الحسن علي بن محمد بن فرات - رحمه الله - يوماً وهو يقول: الكاتب فوق الشاهد، قال: لأني وسائر الوزراء نحكم بقوله وبما يخرجه من ديوانه، والقاضي لا يحكم بقول شاهد واحد حتى ينضاف إليه غيره. كاتب العامل: وأما كاتب العامل فيحتاج إلى أن يكون متحرماً بعلم الزرع والمساحة لكثرة ما يجري في عمله وحساباته من ذلك، وأصل ما نمسح به الأرضون: أشل، وباب، وذراع، فالأشل: حبل طوله ستون ذراعاً، والباب قصبة طولها ستة أذرع، والذراع التي يمسح بها السلطان مسائحه اثنتان وثلاثون

أصبعاً وتسمى الذراع الهامشية، والسوداء أيضاً والتي تمسح بها الدور وغيرها أربع وعشرون إصبعاً، وتسمى الذراع الحديد، والتي تمسح بها الأنهار والرياض ستون إصبعاً، وتسمى الميزان، والأشل عشرة أبواب. والباب ستة أذرع، وأشل في أشل جريب، وأشل في باب قفيز، لأنه أشل في عشر أشل، فيكون عشر الجريب، والجريب عشرة أقفزة، وأشل في ذراع عشير وثلثا عشير، لأن واحداً في ستين ستون، والعشير ستة وثلاثون ذراعاً، لأنه من باب في باب فتكون الستون عشيرا وثلثي عشير، وباب في باب عشير كما قلنا، وباب في ذراع سدس عشير، وذراع في ذراع ربع تسع عشير، والأشكال التي تقع عليها المساحة في الأصل ثلاثة أشكال، وهي المربع، والمثلث، والمدور. والمربع خمسة أصناف: مربع متساوي الأضلاع، ومربع مستطيل [الأضلاع] ومربع مختلف الأضلاع، ومربع معين، ومربع مشبه بالمعين، فأما المربع متساوي الأضلاع، فإذا ضرت أحد أضلاعه في نفسه كان ما يجتمع تكسيره، وذلك مربع متساوي الأضلاع كل ضرع منه عشر أذرع، فتسكيره مائة ذراع، وكذلك المربع المستطيل، وأما المربع المختلف الأضلاع فإن المساح يجمعون طوليه وعرضيه، ويضربون نصف الطولين في نصف العرضين، وما اجتمع فهو التكسير عندهم، وفي هذا عند الحساب غلط يسير، إلا أنا لما كنا إنما نصف ما يستعمله المساح والعمال لم نكن

بنا حاجة إلى ذكر ما يقوله الحساب في الحساب في ذلك، وأما [المربع] المعين فإن استخراج تكسيره بضرب أحد قطريه في نصف الآخر، فما اجتمع من ذلك فهو تكسيره، وأما الشبيه بالمعين، فيقطع مثلثات ومربعات، وتمسح كل قطعة منها على حسابها وتجمع. وأما المثلث فهو ثلاثة أصناف مثلث متساوي الأضلاع، ومثلث متساوي الضلعين، وهذا على صنفين أحدهما قائم الساقي، والآخر منفرج الزاوية، ومثلث مختلف الأضلاع. فأما المثلث إذا تساوت أضلاعه أو تساوت اثنتان منها، فإن عموده مضروباً في نصف القاعدة تكسير، وذلك مثل مثلث عموده عشرة أذرع، ونصف قاعدته خمس أذرع، فإن تكسيره خمسون ذراعاً، فأما استخراج ذراع العمود من قبل الضلع، فإنه أن نضرب الضلع في نفسه، ونقص منه نصف القاعدة مضروباً في نفسه، وتأخذ جذر ما بقي فهو العمود، وإن أردت استخراج الضلع من قبل العمود ضربت العمود في نفسه، ونصف القاعدة في نفسها وجمعتهما وأخذت جذرهما، فهو الضلع. وإن أردت استخراج نصف القاعدة ضربت الضلع في نفسه، ونقصت من ذلك العمود مضروباً في نفسه، وأخذت جذر ما بقي فهو نصف القاعدة، ومثال

ذلك مثلث كل واحد من ضلعيه عشرة، وقاعدته اثنا عشر، إذا أردنا أن نستخرج عموده ضربنا نصف القاعدة في نفسها فكانت ستاً وثلاثين، ونقصناها من الضلع مضروباً في نفسه وهو مائة فبقي أربعة وستون وجذره ثمانية وهو العمود، وإذا ضربنا العمود وهو ثمانية في نفسه كان أربعة وستين، وضربنا نصف القاعدة في نفسها كانت ستاً وثلاثين، فإذا جمعناهما كانا مائة، وجذر مائة عشرة، وهو الضلع، وإذا ضربنا العمود في نفسه كان أربعاً وستين وضربت الضلع في نفسه كان مائة، وحططت الأربع والستين من المائة كان ما تبقى ستاً وثلاثين، وجذره ست، وذلك نصف القاعدة، فهذا ما في المثلث المتساوي الأضلاع، وذي الضلعين المتساويين، فإذا اختلفت أضلاع المثلث، فإن باب مساحته أن تجمع الأضلاع الثلاث، ونأخذ نصف ما يجتمع معك من ذلك فتحفظه، ثم تنظر ما بين كل واحد من الأضلاع وبين هذا النصف فتضرب بعضه في بعض، ثم في هذا النصف تأخذ جذر جميع ذلك فهو تكسير المثلث، ومثال ما قلناه مثلث أحد أضلاعه خمس عشرة ذراعاً، والأخرى أربع عشرة والأخرى ثلاث عشرة، بابه أن تجمع الخمس عشرة والأربع عشرة والثلاث عشرة فيكون ذلك اثنين وأربعين، وتأخذ نصف ذلك فيكون إحدى وعشرين، ثم تنظر كم بين الخمس عشرة والإحدى والعشرين، فتكون ستاً، وكم بينها وبين الأربع عشرة فيكون سبعاً، وكم بينها وبين الثلاث عشرة فيكون ثمانية، فتضرب ستاً في سبع فيكون اثنين وأربعين، ثم في ثمان فيكون ثلاثمائة وستاً وثلاثين، ثم تضرب ذلك في إحدى وعشرين فيكون ثمانية

آلاف وستاً وخمسين ذراعاً، فنجذر ذلك وهو أربع وثمانون ذراعاً تكسير المثلث. وأما المدور فإن استخراج تكسيره بضرب قطره في مثله، وإسقاط سبع ما يجتمع معك، فنصف سبعه، وذلك مثل مدور قطره أربع عشرية ذراعاً، فإنك تضرب أربع عشرة في مثلها فيكون مائة وستاً وتسعين ذراعاً ويكفي من ذلك سبعة ونصف سبعة ومبلغه اثنان وأربعون ذراعاً فنبقي مائة وأربع وخمسون ذراعاً، وهو تكسير المدور [وإن عرفت تكسير المدور] ولم تعرف القطر وأردت أن تستخرجه من التكسير فاضرب التكسير في أربعة عشر واقسمه على أحد عشر، فما خرج فخذ جذره فهو القطر. وإن أردت معرفة المدور ضربت القطر في ثلاثة وسبع فما اجتمع فهو المدور. ويحتاج كاتب العامل مع هذا أن يكون مشفقاً محترساً من حيل الزارعين والعاملين، فهما بوجوه سرقاتهم وحيلهم في تلف الغلة ومغالطاتهم في إقطاع المساحة، عالماً بأحكام المظالم والتحييل وغيرهما، مما يرفد به أصحاب الخراج والمقاسمة حتى لا يجري عليه غبن منهم، ولا يتم عليه صاحبه حيلة من جهتهم. كاتب الجيش: وأما كاتب الجيش فإنه يحتاج مع العلم بالحساب وضبطه إلى أن يعرف الأطماع وأوقاتها والحلي وأحكام أخذها. والأرزاق وما يتوفر منها:

والطمع: هو الوقت الذي يستحق فيه الجاري، والحلية هي وصف الرجل الذي يفصل به بينه وبين غيره ممن يوافق اسمه اسمه، والأصل في أرزاق الجند والمقاتلة المساواة بينهم، وكذلك قسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ووضع الديوان عمر، وفضل بعض الناس على بعض ولم يخالفه في ذلك أحد بعده غير أمير المؤمنين - عليه السلام - فإنه رد الأمر إلى ما كان عليه في أيام النبي - صلى الله عليه وسلم - فنقم في ذلك عليه من خالف عليه، ثم رجع الناس بعد مضيه إلى سنة عمر - رضوان الله عليهما - وكان الجند فيما تقدم يفضلون في الأرزاق وشهورهم واحدة، وكانت استحقاقاتهم تتوافى في وقت واحد، فمتى تأخذ عنهم ما لهم اجتمعت كلمتهم على الطلب، ولقي معاملهم ملأ من الشغب، فلما تقلد شيخنا أبو القاسم عبيد الله بن سليمان رحمه الله [وزارة] المعتضد بالله لطف لتفرقة أرزاقهم، والمخالفة بين أوقات استحقاقاتهم، بأن زاد من أخر رزقه بمقدار الزيادة في الأيام واقتصر، بمن قدم رزقه على ما لا يقصر عن مئونته، فسلم بذلك من شغبهم، وذمهم، وجمع ما صنع ترفيه نفسه وسلطانه، لأن معظم الأموال والأرزاق الوافرة إذا تأخرت إلى أمد بعيد يحمل في مثلها أموال النواحي، ويلحق فيها الغلات درت الأرزاق، وقل الخلاف وتفرقت مع ذلك كلمة الجند باختلاف أوقات أطماعهم، ولم يكن

لمن لم يجب له رزق أن يشغب مع من وجب رزقه، ولا أن يطالب بما لم يستحقه، وإذا تفرقت الكلمة وتشتت الجماعة انكسرت الشوكة، وقلت المئونة، وجعل أقرب الأطماع النوبة، وهي في المشاهرة في كل ثلاثين يوماً أرزاق الحشم، وهي في كل أربعين يوماً، ثم أرزاق المماليك من الخدم والغلمان الحجرية ومن جرى مجراهم في كل شهر ثم أرزاق المختارين في كل خمسة وسبعين يوماً، ثم التسعينية وأرزاقهم في كل تسعين يوماً، ثم الأحرار العظم في كل مائة وخمسية أيام، ثم الأحرار الحليين في كل مائة وعشرين يوماً، ثم الموسابادية وأصحاب الرقاب في كل مائة وثمانين يوماً، يجري الأمر على هذا، وعلى انتخاب الأولياء، واختيارهم ومطالبتهم بالعرض في السلاح التام وعلى الخيل الفرهة ووسمها عليهم لئلا تكون عارية أو كراء، وكتب اسم السلطان [و] ولي عهده على المجان والترسة والامتحان لهم فيما يعالجونه من السلاح، فمن كان في المحنة مرضياً وكانت أداته كاملة، وفرسه فارها وبزته جميلة على مقدار رزقه أمضى أمره إلا حلق على اسمه، ووفر رزقه، فلم يزل الأمر جارياً على

ذلك لا تخالف فيه هذه الأوضاع والسنن إلى أن وقع التخليط، ونضبت الذمامات وأثبت، الجند بالرشى واستعملوا للهوى لا للكفاية والغناء وصاروا يبايعون الأسماء على نقبائهم بيعاً ظاهراً مكشوفاً، ففسدت طبقات الأولياء، ودخل فيهم من لم يحمل السلاح، ولم يشهد الحروب ساعة قط. وكانت نتيجة هذا الإهمال، وثمرة هذه الأفعال، أن خرج السلطان في جيشه على أحسن زينة، لقتال غلام من غلمانه، فقتل وحده من بين أهل عسكره، وتفرق عنه الباقون، ورجعوا موفورين. ومن ترك سياسة رعيته وأولائه بما يوجبه الرأي كان يمثل ما جرى عليه جديراً وبه حقيقاً. وأما التحلية فأولها أن يذكر اسم الرجل في يمنة الورقة، وينسب إلى بلده أو ولائه، فيقال: فلان الرومي، أو فلان المقتدري، أو ما أشبه ذلك ثم يذكر جارية تحت اسمه، ويفصل فصل يسير، ثم يكتب عن يسرة الورقة بعد ذلك الفصل سنه، شاب أو كهل أو مراهق، هذا ما أخذ الناس فيه - والذي كان عليه في القديم كثير من الناس - الآن، فأن يذكر اسم الرجل وولائه وحليته في يمنة الورقة، وجاريه في يسرتها، ولا يذكر في الحلية في الجيش شيخ ولا صبي، فإن كانا ممن يحلى قيل للشيخ كهل مجتمع، وقيل للصبي غلام أمرد، وإنما أسقط ذكر الشيخ والصبي من ديوان الجيش لضعفهما، والطمع الذي يلحق أمثالهما، ثم يذكر قده، فإن كان طويلاً قيل ربعة إلى الطول، وإن كان قصيراً قيل ربعة إلى القصر، وإن كان ربعة قيل مربوع، وإنما لم يقل طويل وقصير على الإطلاق، لأن الطول والقصر من باب المضاف، والطويل إنما يكون طويلاً بالإضافة إلى من هو أقصر

منه، وكل طويل فهو قصير إذا أضيف إلى من هو أطول منه، وكان قولهم ربعة وإلى الطول أو إلى القصر أحوط في تصحيح المعنى، ثم يذكر لونه، فيقال أسود أو آدم، أو أحمر تعلوه حمرة إذا كان أشقر أو أبيض، ولا يقولون أبيض ولا أشقر، لأن البياض والشقرة مما كانت العرب يعبر [به] بعضها بعضا، وتسميهم العبيد والحمران، وبني حمراء العجان وصهب السبال، وتهجين من كان منهم؛ ثم يذكر الجبهة بأوصافها من ضيق أو رحب، وإن كان أجلح أو أصلع أو ذا فروة أو أغم ذكر ذلك، وإن كان في جبهته غضون ذكرت، ثم يذكر الحاجبان بما فيهما من قرن أوبلج، ثم العينان بما فيهما من كحل أوزرقة أو شهل أو حوص أوحور [أو] جحوظ، أو غثور أو حول أو بياض، ثم الأنف بما فيه من قنى أو فطس أو ورود أرنبة أو انتشار مناخر،

ثم الأسنان بما فيهما من درد أو شفا أو فلج أوقلح أو انقلاع بعضها، أوسواد بعض. فإن ذكر الشامات والخيلان وآثار الحديد والفروح، وغير ذلك مما في البدن ويدين وغيرهما فلا بأس، والأعمدة من هذه الحلي ما لا يتغير مثل الفطس والزرقة، والطول والقصر وأشباه ذلك، فإن اقتصر مقتصر عليها أجزأت وأغنت إن شاء الله. وإذا استحق الجند أخرج الكاتب الجرائد باستحقاقهم، فذكر الطمع في وسط الرقعة فقال في وسطها: المختارين والمماليك أو غيرهم، ثم قال في سفلها الأيمن: فلان الفلاني، وجعل جارية تحته، ثم ذكر حليته في الشق الأيسر بعد فصل يسير، إلى آخر الورقة، أو جعل اسمه وحليته يمنة الورقة وجاريه يسرتها، وإن كان الرجل المذكور قائداً. أو أميراً لم يذكر حلبته، واقتصر على اسمه، وذكر جاريه لأنه ربما يحلى من لا يعرف، ومن يخشى أن تقع حلية في اسمه، أو يدخل دخيل مكانه، فأما من عرف باسمه وعينه ونسبه فلا حاجة بالكاتب إلى تحليته. ثم يذكر عددهم، ومبلغ جاريهم في آخر الجريدة، ويكتب إلى الخازن. يحمل مالهم إلى مجلس العطاء، ويخرج الجرائد بالأسماء، والحلي ومبلغ الجاري إلى المنتفعين مع المال، فيتولد عرضهم، ويقبض عن صحت حليته منهم، ورفع الحساب بما ينفقونه

وذكر ما يوفرونه من جاري من لم يصح عرضه من البدلاء والدخلاء والأموات والغياب إلى ديوان الجيش، ورفع الحجج إلى الخزان بما يحملونه إليهم. هذا جملة ما يحتاج إليه كاتب الجيش، وهو آخر ما يحتاج إلى ذكره في أمر كاتب العقد. كاتب الحكم: وأما كاتب الحكم: فهو كاتب الحكام، وليس شيء من أمور الدين وأعمال السلاطين هو أعظم خطراً ولا أجل قدراً، ولا أبقى على الأيام أثراً من الحكم، وكيف لا يكون كذلك وهو خلافة النبوة، وأمر الله في الفروج والدماء والأموال، الباقي على تصرف الأحوال والأزمان، ولذلك جعل الله تعالى الحكومة إلى العدل دون غيرهم، فقال - جل من قائل -: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} وجعل الشهادة أيضاً في العدول، فقال: {وَأَشْهِدُوا ذَوَي عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ} وأعلمنا - عز وجل - أنه إنما يوفق من الحكام من حسنت نيته، وكان الصلاح طويته فقال - عز وجل -: {إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا}، وأمور الأحكام من ملة الإسلام الجارية على أربعة أوجه: أحدها وهو أعظمها حكم القضاء، ثم حكم المظالم، ثم حكم الديوان، وهو حكم الخراج، ثم حكم الشرطة، والذي يعم جميع هؤلاء أنهم لا يستحقون تقلد شيء من هذه الأحكام إلا بأن يكونوا عدولاً في أنفسهم، عالمين بما توجبه مراتب أعمالهم، غير متعدين لرسوم أحكامهم، يرحمون المظلوم، ويخشنون على الظالم، ويؤثرون الحق، ولا يميلون مع الهوى، ولا يشرهون إلى حطام الدنيا ثم على القاضي أن

يختار لنفسه كاتباً يكون مثله، يقاربه في النزاهة والأمانة، والعفة والعدالة والعلم بالحلال والحرام، والسنن والأحكام، وما توجبه أقسام الكلام، ودليل على أنه يشترط عدالة الكاتب - قوله تعالى -: {وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ} ووجه الدليل أنه لا يكتب بالعدل، لأن الفاسق متهم، ويحمله فسقه على خلاف المصلحة والعدل المأمور به، فوجب أن يكون كما ذكرناه، وإذا كان كذلك فترد إليه كتب الشروط والإقرارات والمحاضر والسجلات، ويجعله مؤتمناً على خزن ذلك وحفظه. ولإخراج ما يحتاج إليه في وقت الحاجة إلى إخراج. وقد ذكر الناس في كتاب الشروط والمحاضر والسجلات ما يغني من نظر فيه، إلا أننا لا نحب أن كتابنا [يخلو] من مثال لكل ما نذكره، لتكون معانيه كاملة فيما قصد له؛ فجملة الشروط أن يذكر المشترط والمشترط عليه ويعرفهما بأسمائهما وأنسابهما وبتجارتهما إن كانا تاجرين أو بضاعتهما إن كانا صانعين، أو أجناسهما أو أسماء بلدانهما، أو أنسابهما في العرب أو العجم، ثم يذكر الشيء الذي يجمع الشرط فيه، فإن كان بيعاً ذكرت البيع ووصفته وحددت المبيع إن كان مم يحدد كالأرضين والدور، أو يجنسه ووصفت عينه، إن كان مما لا يحد كالرقيق والدواب وعروض التجارات، ثم تذكر الثمن ومبلغه وتصف بعده ووزنه، ثم يذكر التقابض منهما والتفرق بعد الرضا، ثم يضمن البائع الدرك للمشتري، وإن كان إجارة ذكرت الإجارة ومدتها، والشيء الذي استؤجر ونعته، وحددت ما يحدد منه، وصفت ما لا يحدد، وذكرت مدة الإجارة، وجعلتها على شهور العرب

دون غيرها، وذكرت مال الإجارة، وأوقات وجوبه، وذكرت قبض المستأجر ما استأجر ورضاه به، وتفرقهما بعد الرضا، وإن كان فيما استؤجر نخل أوشجر استثنيت بذلك، وبمواضعه من الأرض من الإجارة، وجعلته في آخر الكتاب معاملة ومساقاة بجزء من الثمر، فإنه لا يجوز في الأحكام غير ذلك، وضمنت المؤجر الدرك المستأجر. وإن كان صلحاً ذكرت الشيء الذي صولح عليه: وإن كان براءة وصفت ما تبرئ من، وإن كانت البراءة بعرض ذكرت العرض، وإن كان إقراراً ذكرت مبلغه، وهل هو حال أو مؤجل، وإن كان مؤجلاً ذكرت أجله، ووقت حلوله، وحددت ذلك بشهور العرب، وإن كان وكالة سميت الوكيل ونسبته، وذكرت ما وكل فيه من خصومة ومنازعة وقبض أو صلح، أو قسمة أو بيع أو شراء أو غير ذلك من الأشياء التي تقع الوكالة في مثلها، وقررت الوكيل بالقبول؛ وإن كان رهناً ذكرت أولاً الدين في صدر الكتاب، ووقت، محله ثم ذكرت قسمته ووصفته وحددته وحددت ما يحدد منه، ثم قررت المرتهن بقبض ذلك، وإن وكله في بيعه عند المحل ذكرت الوكالة بذلك بعد فراغك من أمر الدين والرهن، وإن كانت وصية قررت الموصي بعد تسميتك إياه في صدر الوصية، بشرائع الإسلام، ثم ذكرت أنه أوصى بكذا وكذا. وبدأت بالدين وقررته بمبلغه، ثم ذكرت الوصية بعد الدين فيما يوصى به، وليس له أن يوصي في أكثر من ثلث ماله، ثم سبلت

ذلك في الوجوه التي نذكرها، ثم ذكرت الموصى إليه، وسميته وقررته بالقبول إن كان حاضراً، وإن كان غائباً فلا بأس، وهو بالخيار إن شاء قبل وإن شاء لم يقبل، ثم يؤرخ جميع هذه الكتب بالشهر والسنة اللذين أتت فيهما من شهور العرب وسنى الهجرة، ثم توقع الشهادة على المشترطين والمشترط عليهم، وتقريرهم بأن ما عقدوه على أنفسهم في صحة منهم وجواز أمر، وأنهم قد أقروا به طوعاً بعد تفهمهومعرفته ما فيه. وأما المحاضر فإن الكاتب يكتب إذا حضر عند القاضي رجلان، فادعى أحدهما على صاحبه حقاً فأقر له به: حضرة القاضي ويذكر اسمه ونسبه في ويم كذا من شهر كذا في سنة كذا، فلان بن فلان، وفلان بن فلان، فعرفهما بأسمائهما ونسبهما، وإن لم يكن يعرفهما بأسمائهما ونسبهما قال رجل: ذكر أنه فلان بن فلان، ويصفه ويحليه، ورجل ذكر أن اسمه فلان بن فلان، ويصفه ويحليه أيضاً، فادعى فلان أو الذي ذكر أنه فلان، أو على الذي ذكر أنه فلان كذا وكذا، فأقر له بذلك؛ وإن كانت وكالة قال: قد ذكر أنه وكل فلان بن فلان، ويذكر ما وكله به، ويقول حضر فلان بن فلان فقبل ذلك منه، وتولاه له فإن أحضر المدعي كتاباً يريد أن يثبته بحق أو يبيع غير ذلك قال: وأحضر معه كتاباً ادعى فيه على فلان بن فلان أو الذي ذكر أنه فلان بن فلان ما فيه نسخته، وينسخ الكتاب ثم يقول: وأحضر معه من الشهود فلان بن فلان، وفلان بن فلان، وادعى شهادتهما قبل تضمنه الكتاب الذي أحضره، فسألهما القاضي عما عندهما، وأشهدهما على نفسه في صحة منهما، وجواز أمر مما سمى ووصف فيه فقيل القاضي شهادتهما بذلك وأمضاها؛ وإن أراد القاضي أن يسجل بذلك، وليس يجوز أن يسجل إلا على من عرفه فليذكر في

صدر الكتاب، إشهاد القاضي ويسميه وينسبه في مجلس حكمه وقضائه، وهو يلي القضاء لعبد الله فلان بن فلان، ويذكر لقبه، والناحية التي استقضاه عليها، ويذكر حضور من حضره، ونسخة الكتاب الذي ادعى عنده بما فيه، ويذكر بعد ذلك شهادة الشاهدين ولا يسميهما، بل يقول: رجلان عرفهما القاضي بما قبل معه شهادتهما، ثم يقول: فأنفذ القاضي الحكم بما ثبت عنده من إقرار فلان بن فلان بجميع ما سمي، ووصف في الكتاب المنسوخ في صدر هذا الكتاب بشهادة الشاهدين المذكورين فيه، وحكم به وأمضاه، بعد أن سأله فلان بن فلان ذلك، وقد جعل القاضي فلان بن فلان كل ذي حجة على حجته، ثم يشهد على نفسه بإنفاذ ذلك، ويؤرخ الكتاب بالوقت الذي يسجل فيه [فهذه] جملة في الشروط مقنعة. وإذا أضاف إليها علم الكاتب باختلاف الفقهاء والعلماء حتى يحتاط على ألفاظه، ويخرجها من الخلاف إلى الإجماع، فيحوطها من تأول يبطلها، وذلك مثل قولهم، لا شرط فيه ولا خيار، وقوله: وتفرقا جميعاً بعد عقد البيع بينهما عن تراض بذلك، وقوله: وتخابرا فيما وقع عليه عقد هذا البيع فثبتا على إمضائه؛ وإنما ذلك لما قد روي في باب الخيار من الاختلاف، وأنه قد جاء البيع صفقة أو خياراً، وجاء أن الخيار إلى ثلاث، وجاء البيعان بالخيار ما لم يتفرقا، فقوله: لا شرط فيه ولا خيار يوجب الصفقة؛ وقوله: وتختاج بعد عقد هذا البيع فبما وقعت عليه عقدة هذا البيع، فثبتا على إمضائه يزيل الخيار في ترك الثلاث، وقوله: وتفرقا بعد عقده هذا البيع عن تراض منهما يزيل هذا التأويل في قوله: البيعان بالخيار ما لم يتفرقا، فتكرار هذه الألفاظ قد أخرج البيع عن شروط الخيار كلها، وأوجب صحته، وكان مع

علمه بمذاهب الفقهاء وخلافهم عالماً بوجوه الكلام، مميزاً لما تحتمله الألفاظ الخواص والعوام، حتى يأتي في لفظه، ويعلم قوله بحراسة الشروط من الاشتباه في المعاني والاشتراك فيها، وذلك مثل استعمال كثير من أصحاب الشروط في موضع ذكر التسليم قولهم: بغير دافع ولا مانع، وظنهم أن غير لما كانت جحداً في بعض أحوالها أنها تقوم مقام لا، وليس الأمر كذلك، لأن لا حرف جحد، ولا يجوز أن ينصرف في معناه في هذا الموضع إلى معنى آخر، وغير قد تكون بمعنى الكثرة، فيقال: لقيت فلاناً غير مرة وجاءني غير واحد من أصحابنا، بمعنى لقيته أكثر من مرة، وجاءني أكثر أصحابنا، فإذا قلت: بغير دافع جاز أن يحتمل معنى القول أنك [تريد] أكثر من دافع، وإذا قلت: بلا دافع [لم يجز] شيئاً من ذلك، فإذا فهم هذا الاشتراك والاشتباه، [وأخرج لفظه عن التأويل والاشتباه] وأخرج لفظه عن التأويل والاحتمال، مع إخراجه إياه عن الحادث الذي يوجبه الفقه كان بالكفاية موصوفاً، وبالحذق في صناعته معروفاً، إن شاء الله تعالى. كاتب صاحب المظالم: وأما كاتب صاحب المظالم فهو مثل كاتب القاضي في جميع أوصافه وعمله بواجب الكلام وممتنعه ومحتمله، ومعرفة الشروط وما يوجبه الحكم فيها، غير أنه لا يحتاج إلى الكتب والشهادات لأنه لا يحكم بشيء يسجل به، وإنما إليه أن يخرج الأيدي الغاصبة، ويثبت الأيدي المالكة، ويلزم الناس الحقوق بالخبر الشائع والشهرة والاستفاضة وشهادة صلحاء المجاورين، وأهل الخير من المستوردين، وليس إليه تعديل شاهد،

ومتى تكافأت الشهادات عنده ممن هذه سبيله في الستر والخبرة، وتوازنت الاستفاضة والشهرة، حتى لا يوجد في أحدهما من القوة على صاحبه، ومشابهة الحق في بعض أحواله، ما يجوز له أن يغلب على الخير ويحكم به، وأعجزه مع ذلك أن يوقع بين الخصوم في منازعتهم صلحاً يرضون به ردهم إلى القاضي ليقطع بينهم المحادثة باليمين التي جعلت عوضاً من البينة، فليس بين كاتب صاحب المظالم، وبين كاتب القاضي كبيير فرق يذكر فنستقصيه. كاتب الديوان: وأما كاتب الديوان فيحتاج مع ما قدمنا من الأوصاف أن يكون جيد الفهم، صحيح الذهن، عارفاً بأحكام الديوان، غير جاهل مع ذلك بأحكام الديوان، غير جاهل مع ذلك بأحكام ذلك الحكام، ويكون مع هذا قد عرف أصول الأموال التي تحمل إلى بيت المال وأقسام وجوهها، وكيف كان السبب فيها، وأحكام الأرضين في وظائفها وأملاك أهلها، وما يجوز للإمام أن يقطعه منها ووجه تفرقة الأموال وسبيلها، وما يجوز في جميع ذلك مما لا يجوز، ونحن نذكر باباً باباً من ذلك بأخصر ما أمكننا فيه إن شاء الله. وجه الأموال: وجوه الأموال ثلاثة: فيء، وصدقة، وغنيمة، أما الفيء فمعناه ما رجع على المسلمين نفعه، وهو مأخوذ من فاء يفيء، بالعشي إذا رجع،

ومنه قول الله تعالى: {فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} وهو ينقسم أقساماً كثيرة، فمنه ما أفاء الله على المسلمين من أموال المشركين مما يوجب في مدنهم بعد فتحها، فقسم بين المسلمين، فليس فيه خمس وذلك مثل كنز النخيرجان الذي وجد بعد فتح الأهواز وما يجري مجراه، ومنه ما أفاء الله سبحانه على رسله - صلى الله عليه وسلم - من أهل المدن والقرى التي أجلاهم الرعب، فلم يقاتلوا، ولم يوجب عليهم بخيل ولا ركاب، فذلك لا يخمس ويفرق بين المسلمين كما ذكر الله - سبحانه - في سورة الحشر. ومنه الأرضون التي صالح أهلها عليها بشيء يؤدونه في كل سنة، فذلك أيضاً فيء لا يخمس. ومنها الأرضون التي فتحت عنوة، وأقرت في أيدي أهلها، وجعلوا عمالاً للمسلمين بها، وضرب عليهم فيها الخراج، كما فعل عمر - رضي الله عنه - بالسواد، فذلك فيء لا يخمس. ومنه جزية رءوس أهل الذمة، وما يؤخذ من نصارى بني تغلب عوضاً عن الجزية. وأما الصدقة فليست تلزم عند الشيعة إلا في سبعة أصناف: العين، والورق، والبر، والشعير، والتمر، والزبيب، والمواشي السائمة. وأما غيرهم فنحن نذكر قوله.

ومما يلحق بذلك الركاز وهو ما وجد من دفائن الجاهلية، وفيه الخمس وقاس أهل العراق المعادن عليه، وقال أهل الحجاز منها الصدقة معجلة. فأما الغوص، وسيب البحر فلا زكاة فيه على مذهب أكثر الفقهاء، ومنهم من يقيسه بالركاز، فالصدقة إذن ضربان: زكاة وخمس، والزكاة تجب في كل سنة إذا حال عليها الحول على المال، فإن كان ورقاً كان في كل مائتي درهم خمسة دراهم، وما زاد فبحساب ذلك، فإن كان عيناً ففي كل عشرين ديناراً نصف دينار، وما زاد فبحساب ذلك، وما نقص عن هذين العددين فلا شيء فيه، وليس عند الشيعة في المائتين إذا زادت زيادة على الخمسة الدراهم حتى تبلغ مائتين وأربعين درهماً، فيكون فيها ستة دراهم، وكذلك ما زاد في كل أربعين درهماً درهم، وما نقص عن ذلك فلا شيء فيه، وهو بمنزلة الأشناق والأوقاص وليس عندهم في الزيادة في العشرين ديناراً شيء حتى تبلغ ثلاثين دينار، فيكون فيها نصف وربع، وما زاد فبحساب ذلك، وما لا يجب الزيادة فيه ربع دينار فليس يلزم فيه شيء. والتجارة فيها الصدقة بحساب ثمنها إذا كانت مما تجب فيه الزيادة، فإن بقيت سنين في يد صاحبها، فقد اختلف الناس في ذلك، فقال قوم:

يزكيها لما مضى عليها من السنين، وقال قائلون: ليس عليه غير زكاة واحدة وهي المعمول عليه، وليس على الحلي زكاة إلا عند الشافعي وأهل الحجاز، ولا على المواشي العاملة غير السائمة، ولا على الخيل ولا على الحمير صدقة، وإنما الصدقة في الشاء والإبل، والبقر السائمة. وفي كل خمس من الإبل شاة، ثم ما زاد على ذلك ففي كل خمس شاة إلى خمس وعشرين، فإذا صارت ستاً وعشرين ففيها بنت مخاض، فإن لم توجد فابن لبون ذكر إلى خمس وثلاثين، فإذا بلغت ستاً وثلاثين ففيها بنت لبون إلى خمس وأربعين، فإذا بلغت ستاً وأربعين ففيها حقه إلى ستين، فإذا بلغت إحدى وستين ففيها جذعة إلى خمس وسبعين، فإذا زادت واحدة ففيها بنتاً لبون إلى تسعين، فإذا زادت ففيها حقتان إلى مائة وعشرين، فإذا زادت ففيها جذعتان، ثم بحساب ذلك في كل أربعين بنت لبون، وفي كل خمسين حقة، وفي كل ستين جذعة ومن الفقهاء من يستأنف الفريضة بعد المائة والعشرين فيجعل في كل خمسين شاة إلى آخر الفرائض، وليس بين الأشناق صدقة، وهو ما بين الفريضتين في الإبل وواحدها شنق. وأما البقر ففي كل ثلاثين تبيع، وفي كل أربعين مسنة، وما زاد فبحساب ذلك، والوقص في البقر مثل الشنق في الإبل، وهو ما بين الفريضتين. وأما الغم فليس فيما دون الأربعين صدقة، فإذا صارت أربعين ففيها شاة حتى تبلغ مائة وإحدى وعشرين، فإذا بلغتها ففيها شاتان إلى مائتي شاة وشاة، فإذا بلغتها ففيها ثلاث شياه، ثم ليس في زيادتها شيء حتى تبلغ أربعمائة، فإذا بلغتها ففيها أربع شياه، وما زاد بعد ذلك ففي كل مائة شاة شاة.

فأما زكاة الأقوات فإن الفقهاء يقولون إن كل ما افتاته الناس من البر والشعير والذرة والحمص والعدس واللوبيا والدخن، وما أشبهه مما يؤكل ويعتمد في القوت عليه من الحبوب، أو يدخر من الثمار الجافة مما هو قوت كالتمر والزبيب ففي كل خمسة أوسق منه العشر، وفيما سقته السماء أو شرب بعلا أي بعرقه، وما سقى بالناضح والدولاب ففيه نصف العشر. والوسق ستون صاعاً، والصاع عند أهل الحجاز خمسة أرطال وثلث بالعراقي، وعند أهل العراق ثمانية أرطال، وعند الشيعة تسعة أرطال، وقد ذكرنا قول الشيعة فيما يلزمه الزكاة عندهم من ذلك. وما كان من الأبازير مثل الشونيز، والسمسم، والخردل، ومن الفواكه مثل العنب والتين، والغبيراء، والعناب، والنبق، والفستق، والجوز فلا صدقة فيه. ومن الزكاة زكاة الفطر، وهي واجبة على كل مسلم من ذكر أو أنثى ممن قدر على أدائها، فمن كان حراً بالغاً فعليه أن يؤديها عن نفسه، ومن كان عبداً أو طفلاً أداها عنه مالكه أو وليه، وهي صاع من كل طعام يكون قوتاً للإنسان على مذهب أهل الحجاز والشيعة، أما أهل العراق فيخرجون في ذلك نصف صاع حنطة أو صاعاً، من شعير أو وبر، أو زبيب، ومن لم يجد فأدى ثمن ذلك على أعدل قيمة، أو أخرج خبزاً

أو غير ذلك أجزاء على مذهب العراقيين والشيعة، ولم تجز عنه على مذهب أهل الحجاز. فأما الغنيمة فهو ما غنمه المسلمون من عسكر المشركين، ففي ذلك الخمس؛ تجمع الغنائم فتقسم أخماساً، فيأخذ للسلطان الخمس فيفرقه أخماساً على ما رتبه الله - عز وجل - في سورة الأنفال فيجعل سهم الله والرسول للإمام، وأربعة أخماس، الخمس الباقية لذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل، ويجعل باقي الغنائم لمن شهد الحرب فيقسم بينهم فيعطي الفارس سهمين، والراجل سهماً على مذهب الحجازيين والشيعة، ويدفع على مذهب أهل العراق إلى الفارس سهم وسهمان لفرسه وإلى الراجل سهم. حكم الأرض فيما يجنى منها: أما من افتتح من الأرضين عنوة، فالإمام فيها مخير إن شاء قسمها بين أهلها المستحقين لها، وأخذ الخمس منها فقسمه على أهله، كما فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بني النضير، فإذا فعل ذلك صارت أرض عشر، وملكها أهلها، وكان ما يؤدون عنها صدقة، وإن شاء أن يقرها في أيدي أهلها بخراج يضربه عليهم، أو مقاسمة، أو معاملة إن كانت نخلاً وشجراً، ويكون ذلك فيئاً يقسمه على أهل الفيء مع ما يقبضه من جزية رءوس أهل الذمة فعل ذلك، وقد أقر عمر - رضوان الله عليه - بمشورة من

الصحابة الخراج في أيدي أهله، وضرب عليهم الخراج لكل جريب درهم وقفيز، وأحسب ذلك قد كان رسماً في أيام الإمام، فأقره عمر لأن زهيراً وكان جاهلياً يقول: (فتغلل لكم مالا تُغِلّ لأهلها ... قرىً بالعراق من قفيزٍ ودرهمِ) وجعل على أهل الذمة الجزية طبقات، وإنما كانت تؤخذ منهم في أيام النبي - صلى الله عليه وسلم - لكل حالم دينار قيمته من المعافر، فجعل هو الطبقة العليا أربعة دنانير، والوسطى دينارين، والسفلى ديناراً واحداً. وللإمام أن يزيد في الخراج والجزية، ويقبض منها على حسب ما يراه أعمر للبلاد، وأرفق بالعباد، وهذا مذهب أكثر الفقهاء. وأصل أراضي العنوة للمسلمين مشاع بينهم، وإنما يتبايع الناس فيها السكنى، وقيمة الأبنية والنخل والشجر وغير ذلك. فأما الأرض التي صالح عليها أهلها بشيء معلوم يؤدونه في كل سنة فهو على ما صولحوا عليه، ولا يزاد فيه عليهم ولا ينقصون منه، وعلى

الإمام أن يفرض ذلك على سائر الأرض، [ولا] يعدل بين عامرها وغامرها فيخفف عن الغامر ويزيد على العامر، ويتفقد ذلك في كل مدة من الأزمان، فقد يعمر الغامر، ويخرب العامر، فيرد فضل ذلك على بعض، حتى لا تضعف أحوال بعض رعيته، وهذا هو أصل القوانين في أرض الصلح، وهذه الأرضون لأهلها، يتبايعونها ويملكونها وإنما عليهم فيها وظيفة الفائين. وأما الأرض التي أسلم أهلها عليها مثل مخاليف اليمن والطائف ففيها الصدقة، وكذلك المدن التي اختطها المسلمون مثل البصرة، وما شاكلها من جميع ذلك الصدقة من العشر ونف العشر كما ذكرنا [وهي]، ملك لأهلها؛ وقد اختلف الناس فيها إذا ملكها الذمي بعد المسلم، فقال قوم: عليه فيها العشر، لأن الحق إنما يجب على الأرض. وقال آخرون: بل عليه الخراج لأن الحق عليه في أرضه، وإنما وجب على المسلم الصدقة لأنها ممن يجري عليه حكم الشريعة، وأما ما جلا أهله عند فلم يوجف عليه بخيل ولا ركاب فالإمام أيضاً مخير فيه، إن شاء قسمه على سائر المسلمين، وإن شاء أقره وجعل غلته مقومة عليهم.

وقد فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - في خيبر - مثل ذلك. وأما الصوافي التي كانت للملوك الكفار هي للأمام يقطع منها ذوي البلاء وأولى العناء، ويستعين بلغتها في نوائب المسلمين، ويصرفها في مصالحهم، وقد اقطعت الأئمة مما جرى في هذا المجرى أشياء، وعلى المقطع لها فيها الصدقة، فأما ما خرج من هذا من أراضي العنوة أو الصلح أو العشر، أو ما لا يملكه الإمام؛ فإنما هو لجماعة المسلمين أو لأهله من أهل الذمة، وأهل العهد فلا يجوز إقطاعه. وأما الأرض الموات، وهي التي لا مالك لها فهي لمن أحياها واستخرج لها شرباً، وعليه فيها إن كان مسلماً الصدقة، وإن كان ذمياً، الخراج؛ ويجوز أن يقطع الإمام من أرض الموات قبل أن تحيا ما شاء لأنها لا ملك عليها لأحد، وكذلك أرض الجوامد والمعادن والقبوض والآجام والجزائر وما أشبه ذلك. وأما نصارى

بني تغلب فإن عمر - رضي الله عنه - أعفاهم من الجزية، وضاعف عليهم الصدقة لأنه خشي مع أنفتهم من الصغر وإعطاء الجزية أن يصيروا إلى أرض العدو فيزيدوا في شوكته. وكان أمير المؤمنين - عليه السلام - يقول: إن في فيهم رأياً لو فرغت لهم. فأما الوجوه التي تصرف فيها هذه الأموال، فإن الفيء لأهل هذه الآيات: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ} إلى آخر الآية، ثم فسر أنها في كل زمان، ولكل قرن فقال: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ} إلى آخر الآية فنص بهذه الآية، على المهاجرين فقال: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ} إلى آخر الآية، فنص بهذه الآية على الأنصار، ثم قال: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا} إلى آخر الآية فنص بها على كل من أتى بعدهم من المهاجرين، فليس أحد من المسلمين إلا وله في الفيء حق، ولم يزل مال الفيء في أيام الصحابة رضوان الله عليهم يحمل، فيقسم على المقاتلة والذرية والصغير والكبير، ويرضخ منه للعبيد وضربهم، ولا يجمع منه شيء إلا أن خولف ذلك

وجعل مال الفيء لأرزاق الجند، وجعل ما فضل عن ذلك مجموعاً في بيت مال المسلمين للحوادث والنوائب، فمال الفيء الآن في هذا الوقت لأرزاق الأئمة وأعوانهم وحلفائهم وحكامهم وعمالهم وللمقاتلة، ومن يجري مجراهم من سائر ولاة أمورهم وأموالهم، والفتوق التي تتفتق عنهم، فأما الصدقات فهي لأهل السهمان الثمانية التي نص عليها فقال: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} والفقير: الذي ليس له مادة وله قوت، والمسكين: الذي ليس له قوت؛ والعامل عليها: هو المتولي لجبايتها، والمؤلفة قلوبهم: هو المستمال إلى الإسلام الذي كفت أو خفيت عاديته وشره من وجوه المشركين والمنافقين وأهل الخلاف. وقد ذكر قوم أن ذلك قد سقط وزال لظهور الإسلام؛ وقال آخرون إنه قائم ثابت، وأن للإمام أن يعطي من يريد تألفه من مال الصدقات ما رأى بغير ألا يتجاوز الثمن، وفي الرقاب: في فك الرقاب من الأسر؛ والغارمين: المغرقين بالدين إذا لم يستدينوه في معصية، أو كانوا قد حملوا حمالات في الدماء، واحتاجوا منها إلى أخذ الصدقة، وفي سبيل الله:

كل ما أريد به وجه الله من سائر وجوه البر؛ وابن السبيل: كل منقطع في بلد غربة فهو ابن سبيل، فهذه وجوه الصدقات التي يصرف ما لها فيها وليس لأهل الرسول - صلى الله عليه وسلم - فيها شيء، لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حرم ذلك عليهم، إذ كانت الصدقة أوساخ الناس، فنزههم عنها. وأما الغنائم فإنها لمن ذكره الله - عز وجل - في سورة الأنفال حيث يقول: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} فتقسم الغنائم على خمسة أسهم: فيجعل أربعة منها لمن شهد الحرب من المسلمين، ثم يقسم الخمس خمس أخماس، فيجعل سهم الله لذوي الأمر للقائم بأمل الله بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم يقسم أربعة أخماس الخمس بين ذوي القربى والمساكين وابن السبيل: وذوو القربى بنو هاشم، وبنو المطلب دون غيرهم من سائر بني بطون عبد مناف. وقد زعم قوم أن الخمس يقسم على ستة أسهم، فيكون سهم لله - عز وجل - مفرداً عن سهم رسوله، ويكونان لذي الأمر، وهذا قول شاذ. وذكر آخرون أن سهم ذوي القربى قد سقط، وما ذلك بعجب من زعمهم، وكيف يسقط من بين سائر السهام، وأي آية نسخته، أم أي سنة أسقطته، وكيف يحرمونه وإنما جعل عوضاً لهم مما نزهوا عنه من مال الصدقات، والله المستعان. فهذه وجوه جبايات الأموال ووجوه تفرقها.

أحكام الخراج: فأما أحكام الخراج فكثيرة لا يحتمل كتابنا هذا استيعابها ولا فرق ينها وبين سائر الأحكام إلا فيما نحن ذاكروه، وهو أن صاحب الديوان يحكم بالخطوط التي يجدها في ديوانه ويلزم من أسندت إليه بها الأموال إذا عرفت، والحكام لا يفعلون ذلك؛ ويمضي ضمان الثمار والغلات وأبواب المال، وسائر وجوه الجبايات، وذلك لا يمضيه الفقهاء والحكام، لأن تضمين الغلة قبل أن تحصد هي المخابرة التي نهى عنها، وبيع الثمار، قبل أن يبدو صلاحها هو بيع الغرر، وبيع ما ليس عندك، وقد نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عنهما وحرمها. وأبواب المال من الجوالي وغيرها أيضاً باطل، لأن الجوالي مال على رقاب بأعيانها تجب في أوقاتها على أعيانها ومتى مات الواحد قبل محل ما عليه أو أسلم بظل ما عليه. ووجوه الجبايات من الأسواق والعراص والطواحين، وعلى الأنهار التي ينفرد بملكها إنسان من المسلمين دون سائرهم باطل أيضاً عند الحكام، وجميع ذلك جائز عند الكتاب، وعلى مذهب أحكام الخراج، والمتألهة من الكتاب يجلعون مكان تضمين الثمار المساقاة، ومكان تضمين الغلات تضمين الأرض، وكانوا يتأولون في ضمان الأرحاء أن ماءها ماء الخراج

فيجعلون الجباية خراجاً، وكذلك في الأسواق فإنهم كانوا يجعلون الهدية فيما لما كانت مشتركة بين سائر المسلمين كإخراج الذي منفعته لسائر المسلمين، وكذلك في سائر ما يحملون به من الأحكام المخالفة لأحكام الفقهاء وأصحاب المظالم، وإنما اختاروا أن يؤرخوا ضماناتهم بسنى الخراج لأنها أبداً على حال واحدة، ولا ت دور فتصير شهور الشتاء فيها صيفاً، والصيف شتاء، لأنها جارية على حساب الشمس. فأما سنو العرب فإنها تدور للفصل الذي بين السنة الهلالية والسنة الشمسية، فتصير شهور الشتاء في بعضها صيفاً، والصيف شتاء، والربيع خريفاً، والخريف ربيعاً، فسنة الخراج أصح عندهم في أوقات الخراج وإدراك الغلات، وبلوغ الثمرات، ووجوب أموال الضمانات، ولذا استعمل متألهة الكتاب الاحتياطات في ضماناتهم بذكر سنة الخراج، وأن يقولوا بعد ذلك: ويوافق ذلك في شهور العرب شهر كذا من سنة كذا، فيكون ذلك ماضياً على حكم أصحاب الدواوين والقضاة، وإنما كان أصحاب الدواوين يفعلون هذا في الأوقات التي كان العدل فيها فائضاً، والجور مستقبحاً، فأما الآن فقد سهل الأمر في ذلك، وألف الجور والظلم حتى ما يحتاج متأول منهم إلى تأول والله المستعان. صاحب الشرطة: فأما صاحب الشرطة فينبغي أن يعلم أن صاحبه إنما نصب لشيئين

أحدهم معونة الحكام، وأصحاب المظالم والدواوين في حبس من أمروه بحبسه، وإطلاق من رأوا إطلاقه، وإشخاص من كاتبوه بإشخاصه، إخراج الأيدي أو إقرارها، والشد عليها ولذلك جعل له اسم المعونة؛ والآخر النظر في أمور الجنايات، وإقامة الحدود والعقوبات، والتفحص عن أهل الريب والعناد، والعبث والفساد، وقمعهم والأخذ على أيدي اللصوص والسرّاق، والمقامرين والفساق، وتعزيز من وجب تعزيزه منهم، وإقامة الحد على من استحق الحد منهم، وإنما اشتق له اسم الشرطة من زيه، لأن من زي أصحاب الشرطة نصب الأعلام على مجالس الشرطة، والأشرطة. الأعلام، ومنه قيل: أشراط الساعة أي أعلامها ودلائلها، فلما دل صاحب الشرطة على نفسه بالأعلام التي نصبها على موضع قعوده سمي بذلك. وشرطة الخميس الذين كانوا مع أمير المؤمنين - عليه السلام - من هذا اشتق لهم اسمهم، لأن الجيش الخميس، ولما شهروا أنفسهم من بين سائر الجيش بالتبع له، وبالقتال معه، وصاروا أعلاماً في ذلك قيل شرطة الخميس. فينبغي لهذا الكاتب أن يجعل له مع المعرفة بأحكام الله - عز وجل - في الحدود الويات والخراج والجبايات الرقة على المستورين وذوي الهيئات، والحرص على سير المسلمين من أهل المروءات، فقد جاء: أقيلوا ذوي العثرات عثراتهم، وأن يكون العفو أحب إليه من العقوبة ما لم تقم بينة على حد، فقد جاء: "ادرأوا الحدود بالشبهات، فأما إذا قامت بينة على وجوب حد فينبغي أن يحرص على إقامته، وألا تأخذه

رأفة لصاحبه، ولا تعطله رقة على مرتكبه، فإنه ليس بأرحم من الله - عز وجل - بعباده، ولا أولى بالتفضل عليهم، ولو علم الله - سبحانه - أن الصلاح في تعطيل الحدود ورحمة أهلها لما أمرنا بإقامتها، ولا قال: {وَلا تَاخُذْكُمْ بِهِمَا رَافَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ}، ولا قال: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ} ولا تحمله القسوة على أصحاب الحدود أو غيرهم من المفسدين على أن يزيد في حدودهم، أو يتعدى بهم أمر الله - عز وجل - فيهم، فإن الله سبحانه يقول: {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} وحسب الإنسان أن يقف حيث وقف به حكم الله، فلو علم الله - عز وجل - أن الزيادة في العقوبة على ما حد هو أروع لأهل المعاصي لزاد فيها. وأقل الحد حد السكران، وهو أربعون جلدة، ثم إن عمر - رضي الله عنه - جعله، ثمانين، وعليه الناس في هذا الوقت، والسكران هو الذي لا يضبط نفسه ولا يحصل شيئاً من فعله وقوله؛ ثم حد القاذف وهو ثمانون، وإنما يجب على من قذف حراً أو حرين مسلمين، فإن قذف عبداً أو أمة أو مشركاً لم يكن عليه حد؛ ثم حد الزاني والزانية، وهو - إن كانا بكرين - جلد مائة وتغريب عام، وإن كانا ثيبين فجلد مائة، والرجم على قول أهل العراق، والرجم وحده على قول أهل الحجاز والشيعة. والبكر من الرجال الذي لا زوجة له، ومن النساء التي لا زوج لها، والثيب من الرجال من كانت له زوجة مسلمة، والثيب من كان لها زوج حر مسلم. ثم حد السارق وهو القطع ليده اليمنى إذا سرق من حرز وبلغت

قيمة ما سرق ربع دينار فصاعداً على قول أهل الحجاز والشيعة، وعشرة دراهم على قول أهل العراق. والقطع من الرسغ على قول الفقهاء جميعاً، ومن أصول الأصابع على قول الشيعة، وليس على مختلس ولا خائن قطع، وإذا قطع الرجل ثم سرق قطعت رجله اليسرى، فإن سرق لم يقطع على قول الشيعة وبعض الفقهاء، وخلد في الحبس، وقال آخرون تقطع يده اليسرى ثم رجله اليمنى. ثم حد القاتل عمداً وهو القتل إذا طلب أولياء المقتول القود، فإن عفوا وقبلوا الدية فذلك، ومن لا ولي له فللإمام إن شاء قتل وإن شاء أخذ الدية وعفا. وحد الجارح أو القاطع بعض أعضاء الإنسان عمداً القصاص، العين بالعين، والأنف بالأنف، والأذن بالأذن، والسن بالسن، والجروح قصاص، كما قالله الله - عز وجل -. ولا يجب الحد إلا بإقرار أو بينة، ولا يقبل إقرار الزاني على نفسه حتى يشهد أربع شهادات، وكل من أقر على نفسه بما يوجب حداً، وكان صحيح العقل قبل إقراره، وأقيم الحد عليه، فإن رجع وأكذب نفسه قبل أن يقام الحد عليه درئ الحد عنه، وإن قامت بينة بشهادة شاهدين في سائر الحدود، وبشهادة أربعة في الزنى أقيم الحد على من تقوم البينة عليه، فإن رجع بعض الشهود أو تتعتع وتوقف درئت الحدود، لأنا أمرنا أن ندرأها بالشبهات، فهذه جوامع ما في الحدود. فأما الجنايات فهي تنقسم قسمين: عمداً وخطأ، وقد ذكرنا ما في العمد بما أغنى عن إعادته، وأما الخطأ فينقسم قسمين: خطأ محض، وخطأ شبيه بالعمد؛ فأما الخطأ المحض فهو أن يرمي غرضاً فيصيب إنساناً

أو طائراً فيقتل رجلاً، فهذا خطأ محض. فأما الخطأ شبه العمد فأن يقصد الرجل بالرمية وبالضربة اللتين ليس مثلهما يقتل فيموت، فذلك الخطأ الذي يشبه العمد، وفيه وفي العمد إذا عفي عن القود مائة من الإبل أثلاث: ثلاثون حقه، وثلاثون جذعة، وأربعون خلفة وتسمى هذه الدية المغلظة. وعلى القاتل خطأ بعد الدية الكفاءة، تحرير رقبة مؤمنة، أو صيام شهرين متتابعين. وفي المحض مائة من الإبل أخماساً: فعشرون منها حقاق وعشرون جذاع، وعشرون بنات مخاض، وعشرون بنات لبون وعشرون بنو لبون. وديات النساء على النصف من ديات الرجال، وديات أهل الكتاب على الثلث من ديات المسلمين، ودية المجوس، وعابد الوثن ثلثا عشر الدية، والدية على أهل العين ألف دينار، وعلى أهل الورق عشرة آلاف درهم عند قوم، وعند قوم آخرين اثنا عشر ألف درهم، وفي الرقيق قيمتهم. ولا يقتل مؤمن بكافر، ولا حر بعبد، ولا والد بولد، ويقتل الذكر بالأنثى في قول جميع الفقهاء، إلا الشيعة فإنهم يأخذون نصف الدية من أولياء المرأة، ثم يقتل الرجل، وقولهم في ذلك أقيس، وإن كانوا لا يلون القياس. وكل شيء في بدن الإنسان منه واحد كالأنف والذكر وما أشبه ذلك ففيه إذا جنى عليه بصلمه الدية كاملة، وكل ما كان أكثر من واحد فبحساب ذلك، ففي فرد العين نصف الدية، وفي الأذن الواحدة نصف الدية، ومن أبطل على الإنسان نظره، أو سمعه، أو لسانه كان في ذلك الدية وإلا فبحساب ما يسمع في الحروف أو يبينها بلسانه، أو بحساب ما ينظر. والأصابع والأسنان بحسابها، فيكون في كل واحد من الأصابع خمس من

الإبل، وفي كل واجد من الأسنان ثلاث من الإبل، وبعض الفقهاء يجعل في أصابع اليدين الدية كاملة، وفي أصابع الرجلين الدية كاملة، ويحسب على ذلك، فيكون له بكل إصبع عشر من الإبل. والشيعة تجعل الدية في الأصابع والأسنان على قدر المنفعة فيفضلون بعض ذلك على بعض، وهو في كتب الديات المنصفة للملكي ولحسين بن سعيد، وغيرهما مبين، وكل ما تعمده صاحبه من ذلك ففيه القصاص، والحد فيما يجب فيه الحد، وعلى صاحب الشرطة أن ينهيه إلى الإمام فإذا أمره أن يقيد أو يقتص فعل ذ لك، وتجري الحق في القصاص وتحريره من الخطأ فيه وسير الجراح بالأميال وغيرها حتى يوقع القصاص على حقيقته، أو على غاية ما يمكنه من الاجتهاد في إصابته وكل ما لا دية فيه من خدش وشجة وغير موضحة ففيه حكومة، والشجاج التي لا دية فيها وهي دون الموضحة: الدامية، والباضعة، والخارصة، والدامغة. والتي فيها الدية. والموضحة وفيها خمس من الإبل، والهاشمة. والمأمومة وهي التي تبلغ إلى أم الدماغ، والجائفة ثلث الدية في كل واحدة منها.

أقل من الحد على مذهب أكثر الفقهاء، وقال مالك: ذلك إلى الإمام إن شاء زاد في الحد، وإن شاء نقصه، هذا ما فيه الحدود والديات والقصاص في الجنايات. وينبغي لصاحب الشرطة أن يرسم بكل ربع من أرباع عمله صاحباً له، عفيف الطعمة، عارفاً بأحكام الشرطة، ويقرن به عارضاً يكتب قصص المرفوعين إليه، وفي أي شيء رفعوا وأي صاحب مسلحة رفعهم، ويعمل ما يجتمع من هذه القصص التي يرفعها عراض الأرباع إليه في كل يوم جامعاً يعرضه على من فوقه من أمير أو إمام، فيوقع تحت ذكر كل رجل فيما يراه في أمره من تأديب أو حبس أو إطلاق أو إقامة حد إن كان الموقع إماماً، وأن ينسخ هذه الجوامع والقصص والتوقيعات وما يخرج بها من الإمام من إقامة حد، أو إيقاع قصاص في ديوان الشرطة، وكذلك ما يخرج من صلح بين المترافعين، ومبارأة من مطالبة، فإن الذي يثبت من ذلك في مجلس الشرطة نظير ما يثبت من المحاضر، ونسخ السجلات في ديوان الحكم. وليس ينبغي لصاحب الشرطة أن يقدم بالتعزيز إلا على من عرف بالريب وألف منه العبث، وكان قد عرف غير مرة في مثل ما اتهم به فأما المقامر والشاطر والمؤاجر ومن يجري مجراهم من نباذ وخمار وقواد فيعزرون ويؤدبون وينهون عن المعاودة، فإن عاودوا حبسوا، وإذا تابوا وضمنوا ألا يعودوا أطلقوا ولا ينبغي له أن يحبس أحداً بقذف ودعوى

إلا إذا كان ظنيناً في خيرته متهماً عند أهل الخبرة، فهذه جمل ما يحتاج صاحب الشرطة وكاتبه إلى استعماله في عملها. كاتب التدبير: وأما كاتب التدبير فهو ويزر السلطان، وأخص أصحابه به، ولولا الرعية لم يكن سلطان ولولا العامة لم تعرف الخاصة، ومنزلة السلطان من رعيته كمنزلة الروح من جسدها الذي لا حياة له إلا بها، ومنزلة الرعية منه كمنزلة الجسد الذي لا يظهر للروح عمل إلا فيه، فحاجة الرعية إلى صلاح سلطانها كحاجة الجسم إلى بقاء روحه، وحاجة السلطان إلى إصلاح رعيته كحاجة الروح إلى صحة جسدها، والدين والسلطان مربوطان كل واحد منهما بصاحبه، فلولا ما أمر به الدين من طاعة السلطان لكان أمره واهياً، ولولا ما عليه السلطان من أخذ الناس بشرائع الدين لكان الدين متروكاً، فمتى دخل الدين خلل وهي من السلطان بقدره، ومتى عرض من السلطان وهن ضاع من الدين بحسبه، وكذلك قال أردشير في عهده: اعلموا أن الملك والدين أخوان توأمان لا بقاء لاحدهما إلا بصاحبه، فالدين أس والملك حارس إلى آخر الكلام. وليس يكون السلطان عزيزاً إلا بالأعوان، ولا تستقيم طاعة الأعوان إلا بالكفاية، وإلا كانوا مسلطين أو مسخرين، والضرر بهذين الصنفين أكثر من النفع، ولا يتهيأ أن يكفوا إلا بالأموال، ولا تكثر الأموال وترخوا إلا بعمارة البلدان ولا تعمر البلدان إلا بالعدل، ولا يكون العدل تاماً حتى تكون نية السلطان في صلاح رعيته كنيته في صلاح جسده، بل يكون في بعض أحواله مؤثراً لصلاحها على صلاحه، فقد قال أردشير. "وقد كان من الملوك قبلها: من كان صحة ملكه أحب إليه من صحة جسده، "ومن أولى ما ينظر السلطان فيه اختيار الوزير الصالح

فإن أعماله واسعة، وأشغاله كثيرة، ومتى أراد مباشرة جميعها بنفسه أوضاع أكثرها، فقد قيل: إذا ألزم الراعي نفسه مباشرة ما ينبغي أن يفرضه إلى الكفاءة، وفوض ما ينبغي أن يباشره بنفسه إلى غيره ضاع أمره، والسلطان يزيد برأي وزيره استبصاراً كما يزيد المصباح بالدهن ضياء، وإنما يظفر للسلطان من الراحة واللذة والأمن والاستبانة بمقدار ما يظفر به من الوزير الصالح، ولو لم يكن في البيان عن الحاجة إلى الوزير الصالح إلا قول موسى - عليه السلام - وهو نبي، ويكلمه الله - عز وجل - وحيه، ولو استغنى أحد عمن يؤازره لا يستغني هو لموضعه من ربه: {وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي * كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا * وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا * إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا}. وليس ينبغي للسلطان أن يختار من الوزراء إلا الذي يجمع مع الصلاح أدباً وحكمه، ومع العقل تجربة وحنكة ومن يجري على عرق في الخير معروف، وديدن في ذلك من آبائه مألوف، وأن يكون من بيت رياسة، فإن ذلك مما يعنيه على صحة السياسة، لأن العروق عليها ينبت الشجر، وقل أصل طاب إلا طاب فرعه. فإن اتفق له من يجمع الفهم والدراية بنفسه، وينزع إلى رياسة في أصله، فقد تم له ما يريده، وإلا طلب من يجتمع له العقل والدراية، ولا عليه ألا يكون من أصل شريف، ونسب معروف، فإنه قد يكون الإنسان بفضله نسباً لمن بعده من أهله، ويكون آخر شين أصله فضيحة لمن ساد من أهله، وأن يكون من ذوي المودة للسلطان والاعتقاد لولايته، ومن لا يذيع له سراً، ولا يحابي في رأي يراه صواباً له أحداً، فإذا وجد ذلك فوض إليه، واعتمد عليه. وينبغي للوزير أن يعلم أن الله - عز وجل -

قد أعطاه منزلة لم يعطها أحداً بعد السلطان غيره، فيقابل نعمة الله عنده في ذلك بما يستحقه من الشكر عليها، وتأدية الأمانة فيها إلى أهلها، فإنه يجمع بذلك الفوز عند الله - عز وجل -، والذكر الجميل في العاقبة، وإن كان ممن [لا] يعتقد إمامة من سلطانه، ويرى أنه غاصب على ما في يده، فليس اعتقاده ذلك مما يطلق له غشه، ولا يرخص له في ترك نصحه لأحوال منها: أنه قد قبل نعمته، وشاركه في أمره فوجب عليه المكافأة على النعمة، وأن يعلم أن وزره في معاونته، والدخول معه فيما غضب عليه، أعظم من الوزر في تأدية الأمانة إليه؛ ومنها أن الله عز وجل قد أمر بتأدية الأمانات إلى أهلها أمراً عاماً، لا يجوز تخصيصه إلا ببيان منه. وقد روي عن الصادقين - عليهم السلام - ما يدل على أن الأمر بذلك عام، وهو قولهم: أدوا الأمانة ولو إلى قتلة أولاد الأنبياء؛ ومنها أنه لا بد للناس مع فقد أئمة العدل من السلطان، لأنهم لو فقدوا السلطان مع عدم الأئمة لأكل بعضهم بعضاً، لكن مثل السلطان وإن جار، كمثل المطر الدائم الري، وإن كان يضر بالأبنية، ويقطع المسافر وذا الحاجة، فما ينفع الله به من إخراج الثمرات، والزيادة في الأقوات أكثر. وقد روي عن أمير المؤمنين - عليه السلام - أنه قال في حديث طويل، ولابد من إمارة برة أو فاجرة"، قيل له: هذه البرة قد عرفناها، فما الفاجرة؟ قال: "يقال بها العدو، ويجبى بها الفيء، ويؤخذ بها على يد الظالم" في قول كثير قبل ذلك وبعده. ثم إن الوزير محتاج إلى معاملة طبقات من الناس، فمنهم سلطانه، ومنهم حكامه، ومنهم جنده، ومنهم عماله، ومنهم خاصته،

ومنهم رعيته، وأوصاف بعض هؤلاء تخالف أوصاف بعض، ولكل طبقة معاملة غير معاملة الطبقة الأخرى. معاملة الوزير لسلطانه: أولى ما ينبغي أن يعامل به السلطان توقيره وتعظيمه، والشكر له على ما رفعه إليه بالنصيحة له، والتقرب إلى قلبه بكل ما يجد السبيل إليه، مما لا يثلم ديناً، ولا يسقط مروءة، والصبر على ملازمته، والاجتهاد في خدمته، ثم عليه إذا رآه قد أراد أمراً وأمر به وكان صواباً أن يشجعه عليه، ويزينه له، ويبصره بما فيه من الذكر الجميل، والقول الجزيل حتى يزيد علماً بصواب رأيه، وسروراً بما وفق له، وإذا رآه قد أراد أمراً أو أمر به، وكان خطأ عنده بصّره ما في عواقبه من الشين، وما في تركه من الزين، ويبين له الخطأ فيه بأبهى خطاب وأرفقه، فكما أنه ليس له أن يكتمه النصيحة، وإن خالف هواه، فكذلك ليس له أن يخرج كلامه في ذلك مخرج التأديب له، والتقويم، فإن الوزير العاقل لو شاء أن يبصر بسلطانه جميع عيوبه بالأمثال التي يضربها، والعيوب التي يذكرها من غيره حتى يعرف عيبه بعيب غيره، لفعل، وقد قيل: من كتب السلطان نصحه والأطباء مرضه، والإخوان سره، خان نفسه وروي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقوله أحق بالتقدمة: "إنما الدين النصيحة لله ولرسوله ولذوي الأمر وكافة المسلمين". معاملة حكامه: وأما معاملته ح كامه. فأول ذلك أن يختار منهم ذوي العلم والسنن

والفرائض والأمر والنهي والحظر والإباحة، وأولى المعرفة بدقائق الأحكام وأصول الحلال ولا حرام، والعلم بما توجبه أقسام الكلام، وينتخب ممن هذا وصفه من هو معروف بالستر والصيانة، والعدل والديانة، فيذكره لسلطانه، ويشير عليه باستكفائه الحكم بين رعيته، ثم يعهد إليه من السلطان بألا يحتج عن الناس، وأن يكون مجلسه متوسطاً لمصره، وأن يعدل بين الخصمين إذا حضراه في نظره إليهما، وخطابه لهما في مجلسهما، ولا يقلقن أحدهما حجته، وألا يفتى في علمه، وأن يتجنب القضاء في الأوقات التي يتغير فيها طبعه بغضب أو هوى أو جوع أو عطش أو نعاس أو شبق، وألا يعجل الحكم في الشيء حتى يتبين الحق فيه، فإذا أتاه ما يتشبه الحكم فيه عليه، شاور الفقهاء فيه، وأخذ بآرائهم، ولم يستغن برأيه عنهم، وإن لم يجد عندهم في ذلك ما يقنعه، ويليق بالحق والصواب عنده أنهاه إلى السلطان، وأخذ فيه برأيه، وإن جعل في العهد آيات من كتاب الله - عز وجل - في الأمر بالعدل، والزجر عن الجور كان ذلك أحسن وأوكد إن شاء الله. ثم ينبغي أن يعلم الحكام منه شدة في ذات الله عز وجل، وحرصاً على إقامة الحق، وإنصاف المظلوم، وظلفاً عن أموال الناس، وأن يوقر في نفوسهم أن المحمود منهم عنده من ظهرت عفته، وطابت طعمته، وحسنت سيرته، وثبتت أمانته ونزاهته، وبرئ من معاملة الهوى، وترك الرشى ثم إن ظهر أن أحداً من حكامه على طبقاتهم التي صنفناها من القضاء وأصحاب المظالم، وكتاب الدواوين، وأصحاب الشرط جار حكم، أو مال مع خصم، أو خرج مما جعل إليه، أو تعداه إلى غيره نكل به وجعله أدباً لغيره، وعظة لمن بعده

ثم لم يستعن به في شيء من أمره، فإذا فعل ذلك أوشك أن تستقيم طرائقهم وتصلح خلائقهم، ولا يميل بهم الشر إلى إسقاط أنفسهم. معاملة الجند: وأما معاملته الجند فينبغي أن يختار منهم ذوي البطش والقوة، والحيلة والحنكة، ممن قد عرف الحرب وجربها، ومارسها وصُلي بها ممن يحسن حمل السلاح ويعمل به، ويضع الإقدام موضعه، والانحياز موضعه، ولا يجمع به الغضب والبسالة إلى التهور في الهلكة، ولا يحمله حب الحياة على الفرار، والرضا بما يورث العار، فإذا ظفر بمن هذه صفته تمسك به، وقدمه على غيره من جنده، وإن ظفر بمن له الجلد والقوة، ولم تكن له الحنكة والتجربة، قارن به ذوي الحنكة وأمره أن يطيعهم، ويتصرف في أمرهم، فإن أمير المؤمنين - عليه السلام - قال: "موقف الشيخ في الحرب أعجب إلي من مشهد الغلام". وإن ظفر بذي الحنكة والتجربة والرأي والمكيدة، وكان عادماً للجلد، جعل بين يديه من هذا الصنف من يتدبر بتدبيره، ويتصرف على إرادته، لتجتمع له الحالان من جماعة إن عدمها من واحد. ثم ينبغي له أن يجمل الغرض في سياستهم، أن يجتمع له في صدورهم المحبة والهيبة، وأن يكون بعضهم في موافقة بعض، والتآلف معه كأعضاء الجسم في تآلفهم وتعاونهم، وأن يتفقد من أمورهم ما يعود عليهم بفضله، ويكفون به مئونة أنفسهم، ومن يلزمهم أمره، وأن يزيد ذا البلاء منهم، والطاعة في مرتبته ومنفعته، ليستدام بذلك ما حمد منه، وارتضى من فعله، وينافسه من لا له فيما يرى من الزيادة والمنفعة

فيباريه في إبلائه، ويسابقه إلى رضا سلطانه، ومتى أساء واحد منهم أو قصر تلقاه بالاستيعاب الرقيق، والاستصلاح الجميل من غير اعتبار ألته، ولا كف لغامض عورته، فإنه لا يصلحهم من لا يغضى عن فلتات زللهم، من حيث لا يملي لهم، ويزاد في احتمالهم، فيعود بذلك بتمرنهم على الخطأ، وتجرئتهم على ركوب الهوى، ولا يستفرغ وسعهم حتى لا يكون لهم جمام يمترى به نشاطهم، فيكل بذلك حدهم، ولا يزيد عليهم في ذلك حتى يصير فراغاًَ يدعوهم في ذلك إلى استعمال ما فيتنهم ويفسدهم، وألا يؤخر عنهم أطماعهم في وقت حلولهم ليقطع بذلك عذرهم، ويستقيم به أمرهم، وأن يقبض أيديهم عن ظلم الرعية وأخذ أموالها، والتنزل عليها، والتعرض لأولادها وحرمها، ويعرفهم إنما أقيموا لحماية الناس من مثل هذه الأحوال. ثم متى ظهر أن أحدهم قد قارف شيئاً من ذلك، أو فعله أحسن تأديبه ليرتدع به غيره، ثم ليكن أول تدبره في حروبه حروبه كتمان سره وتحصينه من سائر أهل عسكره، حتى لا يقف له عدوه على خبر، [وعليه] بإذكاء العيون والجواسيس على عدوه، حتى لا يخفى عليه أثر، ثم ليجعل الحذر رأس مكيدته، ولا يغتر بضعف من عدوه، فإن صرعات الاغترار لا تستقال، وليستعد له بأكثر من قدره، فإنه إن لقيه صغيراً

وقد أعد له كثيراً لم يضره ذلك، وإن وقع الأمر بضد ذلك فلا خفاء بما يلحقه منه. ولينتهز الفرصة إذا أمكنته، فإنها تمر مر السحاب، كما قال أمير المؤمنين - عليه السلام -: "قلّ من ضيع فرصة قد أمكنته وأخرها حتى تفوته، فظفر بمثلها"، واعلم أن التأني عند إمكان الفرصة يعود من الضرر بمثل ما تعود به العجلة قبل إمكانها، وليأخذ بالأناة ما استقامت، ولا يعجل بمناجزة العدو ما وجد إلى الحيلة سبيلا، فإن أهنأ الظفر ما كان بالمخاتلة دون المخاطرة، وأحزم الناس من لم يلتمس من عدوه القتال، وهو يجد إلى غيره سبيلا، وقد قيل: إذا كان وزير السلطان من يأمره بالمحاربة فيما يقدر فيه على حاجته بالمسالمة، فهو أشد عداوة له من عدوه. ولا ينبغي أن يضجر بمطاولة عدوه، والإبطاء عن لقائه، حتى تمكنه الفرصة، وتبدو له العورة، وليكن الظفر بالطاعة أحب إليه من الظفر بالغلبة، فإن في ذلك وفور أصاحبه وسلامة دينه، وإذا ظهر على عدون، وضع أوزار الغضب عنهم، مع أوزار الحرب، وتبدل بالقسوة رحمة، فإنهم يصيرون حينئذ رعية بعد أن كانوا مقاومين. ولا يقاتل عدوه إلا بعد (الإعذار) إليه، وإقامة الحجة عليه، وتبصيره الخطأ فيما ركبه، فإن قبل وأناب سر برجوعه، وتقبل ذلك منه، وإن أبى وأصر وأقام على الشقاق حاربه؛ فإن كان العدو من المشركين فالسنة في قتاله بعد الدعاء والإعذار ألا يقبل منهم غير الإسلام، فإن اسلم وإلا قوتل حتى يقتل أو يظفر به، فإذا ظفر به كان الإمام بالخيار

في أمره إن أحب قتل، وإن أحب فادى، وإن أحب منّ، وكل ذلك قد فعله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكانت نساؤهم وذراريهم رقيقاً للمسلمين. وإن كان العدو من أهل الكتاب لم يقبل منه غير الإسلام، فإن أبى طلبت منه الجزية عن يد وهو صاغر؛ فإن أباها قوتل حتى يقتل أو يظفر به، ومن أسر منهم وسبى من حرمهم وذراريهم فسبيلهم سبيل من قبلهم. وإن كان من المتلصصة، وقطاع الطريق ومن جرى مجراهم من المحاربين على غير تأويل، فالسنة في قتالهم بعد الوعظ والزجر أن يقاتلوا حتى يقتلوا أو يظفر بهم، فإن تابوا من قبل أن يقدر عليهم عفا عنهم، وإن لم يفعلوا حتى ظفر بيهم لم تقبل توبتهم، وكان الإمام مخيراً في قطع أيديهم وأرجلهم من خلاف، أو قلتهم، أو صلبهم، أو نفيهم من الأرض، وهو على قول كثير من المفسرين تخليدهم في الحبوس. وليس للمسلمين أن يسترقوا ذراريهم، ولا أن ينكحوا نساءهم، لأن الشهادة وظاهر الملة تجمعنا وإياهم. وإن كان من البغاة والمتأولين على الأئمة وعظوا، فإن فاءوا قبل منهم، وإن لم يقبلوا الوعظ استأنى بهم حتى يبدأوا بالقتال، ويجاهروا بالخلاف وحمل السلاح، فإذا فعلوا ذلك وبدروا بالقتال قوتلوا حتى يكفوا عن بغيهم، ومن أسر منهم أطلق، ولم يتبع منهم مدبر، ولم يجهز على جريح.

وليكن الوزير في حروبه على غاية الأكماش، والإقبال على النظر في وجوه الحيل والتدبير اللذين يصرف بهما عن نفسه ورعيته المعرة، ويوقع بهما على عدوه المضرة، وترك التشاغل عن ذلك بلذة أو بنوم، فليس أخو الحرب بالنؤوم ولا السئوم، وإنما يضيع في هذا الباب إذا أضاع الحزم فيه لنفسه وخاصته، وسائر من تحت يده، فهذه جملة ما ينبغي للوزير أن يسوس بها جنده، ويجري عليها أمره في حربه. معاملة الوزير للأعوان والعمال: وأما معاملته الأعوان والعمال فأول ذلك أن يختارهم في أماناتهم وثقتهم وعملهم بما يسند إليهم، ودربهم فيه حتى يكونوا أفضل من ييسره الوقت إليه من نظرائهم، وألا يؤثر بالعمل من وجب حقه وتأكده حرمته إذا لم يكن منه كفاية من عمله، بل يسع هذا الصنع من الناس ماله، فيقضي به حقوقهم عنه، ولا يضيع أمر سلطانه بأن يسندها إلى من لا يضطلع، وليكن من يختاره من الكفاة ذوي النزاهة والطب دون ذوي الشره والنطف وليكن باختيارهم أعنى منهم بجمعهم، فإن زجاء الأعمال ليس بكثرة الأعوان، ولكن بصالحي الإخوان، وليس ما ينفع بالأعوان حتى يكونوا لمن هم معه وأدين، وعلى نصيحته مثابرين، ولا ينتفع بالمحبة والنصيحة

إلا مع الرأي والعفة. وأعمال السلطان كثيرة، ومن يحتاجون إليه فيها من العمال كثير، ومن يجمع لهم كل ما يحتاجون إليه قليل. والوجه الذي يستقيم به تدبير الوزير في أمرهم أن يعرف ما عند كل واحد منهم من الرأي والغناء والأمانة، وما فيه من العيوب، ثم بوجه لكل عمل من أعماله من قد عرف أن له من الرأي والقوة ما يحتاج إليه في ذلك العمل، وأن ما فيه من العيب لا يضر به وأن يتفقد أمورهم بعد ذلك حتى لا يخفى عليه إحسان محسن، ولا إساءة مسيء، ثم عليه ألا يدع محسناً بغير وثاب، ولا مسيئاً بغير تأديب وعقاب، فإنه إن ضيع ذلك منهم تهاون المحسن واجترأ المسيء، وفسدت الأمور؛ وأن يتهم بعضهم على بعض، ويعرف مخرج النصيحة من مخرج السعاية، فقد تتشابه مخارجها على من لم يلطف ليتميز ما بينهما، ومتى وجد بعض أصحابه طريقاً إلى إهلاك بعض أو تهجينه أو تغطية محاسنه لم يأل في ذلك جهداً، إما للبغي والحسد، وإما للمنافسة في المحل، وليعلم عماله منه أن الخير لا يصاب من جهته إلا بالمعونة على الخير، وأن الشر لا يلحقهم من جهته إلا بالمعونة على الشر، فإنهم إذا علموا ذلك منه وافقوه عليه، وتصنعوا به له، والمتصنع خير من أنت واجده بعد الموافق ثم ليعلم أنه ليس من أحد خلا من العيوب ولا من الفضائل، بل في كل واحد من الآخرين جميعاً منافسون له فلا يطرح ذا العيب الواحد حتى لا يستعين به، ولا يخشى ذا الفضلة حتى يركن إليه، بل يتوفى عيب هذا، ويستمتع بما فيه من الفضائل، ويستمتع بفضل هذا ويتقي

ما فيه من العيوب، وليعلم أن كثيراً من الأعوان والعمال ربما تجمعوا عند السلطان لجمع المال وتوفيره، وركبوا في ذلك ظلم أهل الخراج فبالإغضاء لهم، والإحسان إليهم، والعدل عليهم يتوفر ماله، وبالتقصي عليم، والظلم لهم يكن ذهابه، فمن تزين عند سلطانه بما يخرب به مملكته ويفسد من أجله سلطانه، ويقرب إليه بعاجل يفسد به الآجل، فإن عقوبته الإبارة به، وقد كانت الأكاسرة تقتل أمثال هؤلاء، وتقطع أيديهم وأرجلهم، وتمثل بهم، وكان المأمون يقول: ما استغزر الفيء بمثل العدل، ولا استنزر بمثل الجور فمن وجد من عماله قد أتى من ذلك ما وصفناه، فإنما أتى بما يعود بالضرر على الكافة، وتنتقض به عرا المملكة، فليبالغ في عقوبته وتأديبه، ومن رآه مستقصياً لحقوق عمله من غير إضراب رعيته ولا تحيف لمن تحت يده، مؤثراً للعدل، عاملاً بما يعود بالعمارة وصلاح الأحوال، ورفاهة العيش، فليعلم إنما حلب حلباً للسلطان شطره، وعمل بما يعود عليه في سلطانه نفعه، فليحسن إليه، وليتبين جميل أثره عليه، فهذه جملة ما ينبغي للوزير أن يسوس به عماله. فأما نظره في أمور الأموال، فهو أن يطالب منها بالواجب دون ما لا يجب، وألا يرهق الرعية في المطالبة بها بل يتحلبها، وقبل ميسورهم فيها، فإن ذلك أردم للأحوال، وأرجى للأموال، فقد نرى الحالب إذا ألح في الحلب انقطع اللبن، وإذا ترفق لم

يزدد الضرع مع الحلب إلى غزارة. وإذا صار المال إليه أحسن تقديره وابتدأ بإزاحة علل السلطان في نفقاته ومئونته، وجميع مصالحه، ثم ثنى بالأعمال (بين) الجند والحكام والكتاب والعمال وسائر الأولياء على طبقاتهم ومراتبهم فأزاح عللهم، ووقاهم حقوقهم، ثم قبض لنفسه، ولمن في جملته ما رسمه سلطانه له، ثم جعل ما يفضل من ذلك عدة لفتق ينفتق على المملكة من عدو محتاج إلى محاربته، أو فتق تدعو الضرورة إلى سده، أو بلد يطيف به العدو فيحتاج إلى تحصينه، أو ما أشبه ذلك. الصدقة: وأما الصدقة فأربعة أخماس: الخمس في الغنائم، فلا تقع في يده على شيء منها إلى ريثما يصرفه إلى أهله، ويفرقه في سبيله، وليجعل ما ينفقه أقل مما يجتنيه، فإنه متى كانت نفقة الإنسان أكثر من دخله عد فقيراً، والسلطان من أحوج الناس إلى ضبط ماله، وتقدير ما فيده وينفقه، فقد تكون الرعية بلا مال، ولا يكون السلطان بلا مال، وجماع أمر المال أربعة أشياء وهو: فائدته من أجمل وجوهه، ثم حفظه، ثم تثميره، ثم إنفاقه فيما يعود بعاجل النفع وآجله، فمن أضاع شيئاً من هذه الاربعة الوجوه لم يستقم له أمر ماله، إن هعو لم يفد لم يكن له مال، وإن أفاد من الجهات المذمومة لم يكن ما يعتقده عوضاً من سوء الثناء وغليظ الجزاء، وإن أفاده من الجهات المحمودة، ثم لم يحفظ ما يفيده أو شك أن يبقى

بغير مال، وإن حفظه ولم يثمره لم تمنعه قلة النفقة والتقتير فيها من سرعة الفساد، كالكحل الذي إنما يستعمل منه مثل الغبار وهو مع ذلك سريع فناؤه لبثه، وإن هو أفاد وحفظوا ثمر ولم ينفق كان الفقير الذي لا مال له، إذ ليس يصل إليه من نفع ماله شيء في عاجله ولا آجله، ولم يمنع ذلك ماله من أن يفارقه، ويذهب عنه كالماء الذي يجتمع من مسيل الأودية والأشجار، فإذا لم يكن له مغيض يخرج منه بمقدار ما ينبغي تحلب وسال من جوانبه، وربما انبثق منه البثق العظيم، فذهب الماء ضياعا. والذي به فائدة السلطان عمارة البلاد، وغزو الأمم المخالفة، فإن بعمارة البلاد يكثر الفيء، وبالغز وتكثر الغنائم. وأما الوجوه المحمودة فهي لزوم العدل في جميع ذلك، وشريعة الدين. وأما التقدير في النفقة فأن يكون الإنفاق دون الفائدة، فهذا أصل ما يتوفر به مال السلطان ويستقيم عليه حاله إذا ساس به الوزير أمره. معاملة الوزير لخاصته: وأما معاملته لخاصته، فإن خاصة الوزير أربعة، وهم: صاحب سره ومشورته، وصاحب خبره، وكتابه، وحاجبه. أما صاحب السر والمشورة فينبغي أن يكون أوثق أصحابه في نفسه، وأشدهم مشاركة له، وصحبته لا تقتصر منه على المحبة والمشاركة حتى يكون ممن يجمع معها رأياً وجودة معرفة، واجتهاداً في النصيحة. فقد قيل: شاور نصيحاً أو عاقلاً،

وأنا اقول: ولا تشاور إلا من جمع النصيحة والعقل، فإن نصيحة من لا عقل له غير نافعة، وعقل من لا نصيحة له ربما أوقع في ورطة. وقال بعضهم: لا تشاور أحداً في شيء له خيره وعيله شره، فإنه ربما أذهله الخوف أو الطمع من تصفح ما تسبق إليه النفس، ولكن شاور فارغاً عاقلاً محباً للصواب معنياً به، لا يبالي إن كان ذلك لك أو عليك، فرد هذا القول أحمد بن الطيب وقال: "هذا عندي فاسد، لأن مشاور العاقل المحب إذا كان شريكاً في الأمر أحرى بالصواب، ولأن الحاجة تبعث الحيلة، وليشاور فيما يحتاج إلى المشاورة فيه ذا الرأي والنصيحة من ثقاته وبطانته، ولا يضره أن يعم المشورة فيما لا يبالي بإظهاره من أراد أن يخلطه بثقاته، ويعرفه أنه قد جعله في منزلة من يستشيره ويستنصحه ويعمل برأيه، فأما ما تكره إذاعته فالتذكره عند الضرورة إلى المشورة فيه للبطانة واللموثوق بها دون غيرها، ولكن ذكره له بالنظائر والأشباه، لا بالتصريح والإفصاح وكانوا يكرهون أن يشاوروا في الحروب خوفاً من ظهور السر أو بدو العورة، ولذلك قيل: ما استطعت أن نحترس في الحرب بكتمان سرك ممن تقاتل فافعل. إذاعة السر: واعلم أن إذاعة السر من وجوه: منها المستشار، ومنها وضع الثقة في غير موضعها، ومنها الاستهانة بمن يحضر السر من صغار الخدم، ومن لا يؤبه له من العجم، ومنها لحن القول، ومنها الفراسة، ومنها تعقيب

مخارج الأمر والنظر فيه، فليحترس الوزير من ذلك أجمع، يستقم له أمره، ويتكلم عليه سره. وإن ظهر من مشير على أنه لم ينصح له فلا يكشفه عن مذهبه، فإنما هو أحد رجلين: إما رجل تعمد الغش، فذلك أهل لأن تسقط منزلته، ولا تستعتب فيما أتاه، لأنه إنما يستعتب من يراد إصلاحه، وإما رجل اجتهد فأخطأ، فليس ينبغي أن يعنف على خطأ لم يعتمده؛ وهذا من أوصاف المستشار، والمشورة مع ما تقدم كاف. صاحب الخبر: وأما صاحب الخبر فينبغي أن يكون من أصح عماله ديانة، وأكملهم أمانة، وأظهرهم صيانة، لأنه مأمون على الدماء والأموال، وهو عين الوزير التي ينظر بها في رعيته، ورائده في مصالح من تحت يده، فليس ينبغي أن يتقدمه أحد في الصدق والثقة والأمانة غير القضاة ومن جرى ومن جرى مجراهم، ومتى نصب الوزير لرفع الأخبار من يخالف هذه الصفة فقد غش نفسه، وأضاع الحزم في سياسته، وخان الأمانة في رعيته. وعلى الوزير أن يوسع على صاحب الخبر في رزقه، ويشتري بذلك دينه وأمانته، ويعلمه أنه إنما فعل ذلك به من بين نظرائه لئلا تشره نفسه إلى أموال الرعية، ولا يحتاج إلى استئكالهم أو التكسب منها، ثم يعلم أنه متى ظهر على أنه ولد خيراً في خاصي أو عامي، وكذب فيه لانحرافه عن إنسان، أو هواه فيه، أو لغرض يفيده بما يأتيه، وأتى من عقوبته ونيله بالمكروه في نشره ما يؤدب به أمثاله من أهل طبقته، ليتفقد أحواله، ويفحص في السر والعلانية عنه، فمتى وجده قد أتى شيئاً مما نهاه عنه، وزجره عن فعله حقق له ما يواعده به.

وأما الكاتب فينبغي أن يكون مقبول الصورة، حسن الأدب، خفيف الظل، مفتنا فيما رسمناه من أبواب الكتابة، لحاجة الوزير إلى ملابسة جميع هذه الأبواب، والنظر فيها والاستعانة بالكاتب الذي بين يديه في جميعها، فإنما يظفر الوزير من الراحة بمقدار ما عند كاتبه من الكفاية، كما أن السلطان إنما يظفر من الراحة بمقدار ما عند وزيره منها، وعلى الكاتب الصبر على الملازمة والاجتهاد في النصيحة، والوفاء للوزير في حال الدولة والنكبة، والمواساة له بنفسه في حال اليسرة والعسرة، والرخاء والشدة، وكتمان أسراره وطي أخباره، ويزين أموره بكل ما يجد السبيل إليه، ومتى ظفر الناس بعيب من عيوب صاحبه اجتهد في ستر ذلك وتغطيته، والتأول فيه حتى يخرجه من العيب فيه، كما يحكى عن بعضهم وقد قال [له] بعض رسل الملوك إني رأيت في مذهبكم مساكين يشكون الجوع، ويسألون الناس في الطريق، فقد كان ينبغي لملككم أن يغنيهم عن ذلك، فقال له: إن ملكنا لرأفته برعيته ومحته لمنافعهم أغنى في رعيته قوماً في أموالهم حقوق لله - عز وجل - لا يستحقون من الله - عز وجل - التواب في الآخرة إلا بإخراجها، فلو أغنى المساكين لما وجد الأغنياء الذين في أموالهم الحقوق من يدفعون ذلك إليه، فكان يوابهم يبطل، فترك ملكنا هؤلاء المساكين على أحوالهم إنما هو لهذا المعنى، ولتعرض الأغنياء للثواب بمواساتهم، فتأول لملكه فيما عابه به رسول عدوه تأولاً حسناً أخرجه من العيب به، فلذلك ينبغي أن

يكون كاتب الوزير له فيما يجمل به أمله، ويزيل به عيباً إن لحقه. وليس الكاتب أن يوقع توقيعاً، ولا أن يكتب كتاباً عن الوزير إلا بعد إذنه واستطلاع رأيه، إلا أن يكون قد فوض ذلك إليه، وأمره أن يوقع ويكتب عنه بما يراه. وعلى الوزير إذا فعل الكاتب جميع ما ذكرناه، ولزم ما وصفناه يكفيه مئونته، ويزيد على الكفاية بالإحسان إليه، والإفضال عليه، فإن الله - عز وجل - يقول: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} والحسنى المكافأة، والزيادة، هي الزيادة على الاستحقاق في المجازاة. الحاجب: وأما الحاجب فهو المؤتمن على الأعراض، وأداء الأمانة في الأعراض، أوجب منها في الأموال، لأن الأموال وقاية للأغراض، ولهذا نرى الأحرار يرضون بذهاب أموالهم، ويأنفون من أن ينالوا بضرر في أعراضهم. فكذلك ينبغي للوزير أن يجعل حاجبه من صح عقله وغريزته، وحسن خلقه ولانت كلمته، وأن يخظر استعمال المجازاة في الإذن عليه، أو الحجبة عنه، ويعرفه أنه قد ائتمنه على أعراض من يغشاه، وإنما أعراضهم أقدارهم، ويأمره أن يفرها عليهم، ويوفيهم حقوقهم، ولا يتجاوز بامرئ فوق حده، ولا ينقصه عن قدره، وأن يتوقى الجور في ذلك، فإنه متى رفع إنساناً فوق قدره وضع نظيره وظلم من فوقه، لأنه [إن] لم يرفع نظيره كما رفعه فقد وضع منه، وألحق من فوقه بمن لا يلحقه فقد ظلمه، ومتى وضع إنساناً دون قدره فقد ظلمه ووضع منه، ورفع نظرائه عليه؛ وأن يتلقى من يحجبه عنه بالعذر الموجب ذلك بالبشاشة واللطافة وإظهار الود، حتى يكون

انصرافه مع حسن لقاء الحاجب يقوم مقام وصوله وقضاء حوائجه، ثم متى وقف على أن حاجبه قد خالف وصيته، أو تعدى ما رسمه له، أو استعمل في إيصال الناس إليه أو حجبهم عنه ما يستعمله الناس في هذا الدهر من التقدمة من كرمهم ونفعهم، وتأخير من قبض يده عنهم ومنعهم أدبه وصرفه عن حجبته. فهذه جملة ما ينبغي للوزير أن يسوس بها خاصته. معاملة الرعية: وأما معاملته للرعية، فأصل ما تساس به الرعية العدل، وقد قيل: خير السلاطين أعدلهم على الرعية، وخير الرعية أصلحها على عدل السلطان. فإذا عدل الوزير فيهم، وقام بالقسط في كافتهم، فليجمع إلى عدله رأفة عليهم، وعفواً عن جاهلهم، وتبصيراً له، وشدة على مفسدهم وتقويماً له، وأن يخلط أمر اللين بالشدة، والرأفة بالغلظة، ليستقيم على كل واحد منهما من لا يستقيم إلا بذلك، فيصلح على الرأفة والرقة واللين أهل الحياء والفضل والدين، ويصلح على القسوة والغلظة والإبعاد أهل الجهل والشر والفساد. وقد قال صاحب المنطق: "الرياسة لا تقوم إلا بطريقين مختلفين، وذلك أن سفل الناس إنما يذعنون للسلطان بالخوف، فلابد من الشدة عليهم، وأما الأفاضل فيذعنون بالمحبة والرضا، فقد يحتاج السلطان إلى الرفق بهم حتى

يجتمع له الناس طوعاً وكرهاً، وبهذا الأدب أدب الله سبحانه نبيه - صلى الله عليه وسلم - وبهذه السياسة أمره بأن يسوس أمته فقال: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} وقال: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ}. وينبغي للوزير أن يكون أشد الناس على الظالم من رعيته، وإن كبر عنده وخص بسلطانه حتى يقمعه، ويأخذ الحق منه، وألطفهم بالمظلوم منها، وإن صغر محله وخمل ذكره حتى ينصفه ويأخذ له بحقه. ومتى وجد الرعية على سبيل تحزب وتلفف وتجمع فرقهم وشردهم، ولم يدعهم وذلك في أمرهم، فإذا رآهم ينظرون في أمر الدين مع نقص عقولهم وبعد إقامتهم [نهاهم عنه]، ورضاهم مع ذلك عن أنفسهم. وإعجابهم برأيهم سبب لكل شر، وداعية إلى كف فساد وضر، ومتى حضروا لشهادة تبرعاً من غير أن يستدعوا، أو نصبوا أنفسهم للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من غير أن يأذن لهم في ذلك سلطانهم، وتشاغلوا بذلك من مهنهم وأسواقهم وتجاراتهم ورأوا الترؤس، ورفع من أرادوا، وحط من أرادوا نكّل بهم، وبولغ في معاتبتهم، ولم يرقهم السلطان ووزيره على ذلك من رأيهم وفعلهم، فقد روي عن أمير المؤمنين - عليه السلام - أنه استعاذ بالله من شرهم، فقال: "أعوذ بالله من قوم إذا اجتمعوا لم

يملكوا وإذا تفرقوا لم يعرفوا. وقال واصل بن عطاء: "ما اجتمعت العامة إلا ضرت، ولا تفرقت إلا نفعت" قيل: قد عرفنا مضرة اجتماعهم، فما منفعة افتراقهم؟ ! فقال: يرجع الطيان إلى تطيينه والحائك إلى حياكته، والفلاح إلى فلاحته فيكون ذلك مرفق المسلمين، ولهذا كانت الأكابر تمتحن العامة، من وجدته فارغاً أكسبته شغلاً، وجعلت له عملاً، لأن الفراغ مبعثة الفكر الرديئة، والهمم المنكرة، وفي العمل زوال هذه الفكر والشغل عنها ورفاهة العيش وحسن الحال، فالمكتسب الذي يستفاد بالعمل، وكان عمر بن عبد العزيز إذا نظر إلى الطغام والحشو من العوام قال: قبح الله هذه الوجوه التي لا ترى إلا عند كل شر. وتمثل المنصور وقد رأى جماعة منهم، وقد قفوا للنظر إليه في بعض أيام ركوبه فقال: (كما قال الحمار لسهم رامٍ ... لقد جمعت من شتى لأمرٍ (حديدة صيقل في عود نبعٍ ... ومتن خلالة وجناح نسرِ) ثم أمر بتفريقهم فتفرقوا. وقال الكندي بغض العامة للسلطان كبغض الصبيان للمعلم، فليس ينبغي أن يجازيهم على ذلك بالبغض لهم، ولكن بالتأديب

والتقويم فإنهم إذا تقوموا عرفوا فضل ما أريد بهم، كما أن الصبي إذا كبر وعقل عرف فضل الأدب. وينبغي للوزير أن يتفقد رعيته، وينزل كل أحد منزلته، فإنما يستخرج ما عند الرعية ولاتها، وما في الدين علماؤه، وما عند الجنود قادتها. وليوسع على الكريم منهم، وليضيق على اللئيم، ويسقط رتبته، فإن الكريم إذا احتاج خيف ضره، واللئيم إذا شبع ظهر شره، وقد قال أردشير: "إن العاقل المحروم يسل عليكم لسانه، وهو أقطع سيفيه، وإن أشد ما ضركم به من لسانه ما صرف القول فيه والحيلة إلى الدين، فكان بالدين يحتج، وله فيما يظهر بغضب، فيكون للدين بكاؤه، وإليه دعاؤه، وهو أحدج التابعين والمصدقين والمناصحين منكم لأن بغضة الناس وموكلة بالملوك ومحبتهم ورأفتهم موكلتان بالضعفاء، ثم قال: "وقد كان من قبلنا يحتالون للطعانين على الملوك بالدين فيسمونهم المبتدعة، فيكون الدين هو الذي يفلهم، ويربح الملك منهم، ولا ينبغي للملك أن يعترف للعباد والنساك بأنه [ليس أعرف] بالدين ولا أحدب عليه ولا أشد تقصياً له منه، وألا يدعهم من الأمر والنهي في نسكهم ودينهم، فإن خروج النساك من أمر الملوك ونهيه عيب عليه وثلمة في سلطانه. وينبغي للوزير أن يأمر الرعية بعد منعه إياهم من الاختلاف في الدين

والتعصب والتلفف بإجماع الكلمة واتفاق النية، والائتلاف فيما بينهم، فبذلك أمر الله - عز وجل - حيث يقول: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا} وحيث يقول: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا} وقد قالت القدماء: بالجماعة تمام أمر الدنيا، وعليها مدار الغلبة، ومن دواعيها وتوابعها الأمن والسلام، ومن توابع الفرقة الخوف والهلكة والفتنة، فما مثل الفرقة إلا مثل الموت المفرق بين الروح والجسد، ولا مثل الألفة إلا مثل الحياة الجامعة لهما، المظهرة لأفعالهما ومنافعهما، ألا ترى أن الشعرات المتفرقة تكون في نهاية الضعف والدقة، فإذا قتلت كان منها الحبال التي تصوع بها الجواميس والفيلة؛ وإنا لنجد الدواب والطير قد كاست وأبصرت الصلاح في الجماعة، فهي تألفها وتنفر من الوحدة وتهرب عنها، وكفى بالإنسان فندا وجهلاً أن يقصر فهمهم عما أبصرته النملة، وفهمته النحلة، وما أشبهها. والجماعة لا تكون إلا برئيس جامع لها، وإلا قل لبث اجتماعها وتفرقت كلمة أهلها ولا رياسة إلا بطاعة، ولا طاعة إلا لشريعة، ومتى خالف الذي يأخذ الناس بالشرع شريعته كان المأخوذون بها إلى الخلاف لها أسرع وليعلم الوزير أن التودد من الذليل يعد ملقاً، والتودد من العزيز يعد تواضعاً ونبلاً، فيتودد إلى العامة ينل بذلك محبتهم، وشرف الذكر فيهم ولا يقتصر على التودد إليهم دون إيداع الهيبة صدورهم، وغلا لم يكن للتودد موقع عندهم، فإنه إذا ساس

رعيته هذه السياسة صحت له عليهم الرياسة، وصلحت أخلاقهم، واستقامت طاعتهم، وأقبلوا على منافعهم، وتركوا ما لا عائدة فيه عليهم، ولا فائدة في استعماله لهم، وانتفعوا وانتفع بهم إن شاء الله. فهذه أبواب الكتابة الظاهرة. فأما الكتابة الباطنة: فإن القول لما كان فيه ما يحتاج الإنسان إلى ستره وكتمانه، ورمزه لنوع من أنواع الرأي في استعمال ذلك، ووجه من وجوه المصلحة المقصودة فيه، حتى لا يقفع عليه إلا من وثق به، وسكنت النفس إليه، وجعلت الترجمة والتعمية في الكتاب بدلاً من اللحن والرمز والإشارة، وسائر ما ينبغي به القول، فعمي وترجم به الكتاب ما أريد ستره وكتمه، كما رمز وعمي من القول ما أريد ستره. وقد قلنا: إن الكتابة تتغير في كل مكان، يتغير أوضاع أهلها، وحروفها المستعملة كثيراً في اللسان العربي تسعة وعشرون حرفاً، منها ثمانية وعشرون حرفاً لها صورة معلومة غير الألف، فإنها لما كانت ساكنة أبداً، وكان لا يوصل إلى النطق بساكن وصلت باللام لتكون حركة اللام مفتاحاً للنطق بها، فجعلت "لام ألف" فأما الألف التي في أول حروف المعجم فليست ألفاً على الحقيقة، وإنما هي همزة تسمى الألف الحقيقية على الاستعارة. وقد تقع في لغات العرب التي يستعملها بعضهم حروف لا صورة لها مثل همزة بين بين، والألف الممالة إلى الياء، والألف المفخمة بالواو، والشين التي كالجيم، والصاد التي كالزاي، والجيم التي كالكاف، وكان من الواجب أن يفرد كل حرف من حروف المعجم بصورة، لكنهم استثقلوا ذلك، فجمعوا حروفاً كثيرة، وحرفين بصورة واحدة كالباء

التي صورتها وصورة التاء والثاء واحدة، وكالسين التي صورتها صورة الشين واحدة، وكذلك سائر الحروف المشتركة الصورة فصلوا بينها بالنقط، وكان ذلك أخف عليهم، فصارت الصور ثماني عشرة صورة لتسعة وعشرين حرفاً، فمن الناس من قد جعل النغمة والتعمية على عدد الحروف، ومنهم من قد جعلها على عدد الصور، ومنهم من قد زاد في ذلك ونقص، وأنا أذكر من وجوه الحيلة في استخراجه ما يحضرني إن شاء الله. فأقول: إن كل قول مترجم أو معمىّ: فإما أن يكون شعراً منظوماً، أو كلاماً منثوراً، وإن التعمية غير الترجمة، والترجمة ما ترجم به عن شكل الحرف، إما بشكل حرف آخر غيره يبدل منه، أو بصورة تخترع له ليست من صور الحروف، فأما ما ترجم بحرف مثله فهو كوضعنا العين مكان الجيم، والألف مكان الواو، وقد استعمل ذلك في الترجمة البسطامية، وهما مسهورتان، وقد يكون هذا النوع من الترجمة في بعض الحروف، وقد يكون في سائرها فأما ما ترجم عنه بصورة مخترعة له فهو كثير من الترجمة، ولكل إنسان أن يخترع منه ما أحب، ومنه ترجمة لآل مقلة، ولأبي الحسن علي بن خلف بن طباب رحمه الله.

فأما التعمية فهي تنقسم ثلاثة أقسام: أحدها التعمية بالمعاني المشتقة، كتعميتنا الطاء باسم الطير، والواو باسم الوحش، والعين باسم العطر، وهذه التعمية بالأجناس؛ وغما أن يوضع لكل حرف اسم من أسماء الناس أو الوحش أو الطير، كتصيير هم النون فتخة، واجيم بطة، والكاف رمان، والصاد رند وأشباه ذلك، والأولى أغلق من هذه. والثاني من وجوه التعمية أن تعمي الكلمة بتغيير مراتب حروفها، فتجعل آخرها أولها وأولها آخرها، وترتيب سائر حروفها على هذا الترتيب مثل تصييرنا الهاء أول اسم الله - عز وجل - والألف آخرها، والصورة "هللا"، وهذه التعمية التي يتغير مراتب الحروف تنقسم أقساماً: منها ما ذكرناه، ومنها أن يجعل أول حرف من الكلمة في أول السطر، وثانيها في آخر السطر وثالثها يلي أولها في أول السطر، ورابعها إلى جانب ثانيها في آخر السطر، وكذلك إلى أن تلتقي الحروف في وسط السطر؛ وإما أن تجعل آخر حرف من الكلمة تالياً لأولها، ثم تجعل ثاني الكلمة تالياً لهما، والذي قبل آخرها تالياً للثالث، وكذلك إلى آخر التعمية، وقد يسلك هذا المسلك في التعمية لمن يترجم عن ذلك إما بإبدال الحروف، وإما بإخراج الصور فيكون أغلق، وربما جعلت مراتب الحروف على غير هذا على حسب ما يتفق للإنسان. والوجه الثالث من وجوه التعمية بالزيادة والنقصان، اما الزيادة فأن تزاد حروف إغفال بين الحروف المعماة، أو المترجمة لا تحتسب بها،

يراد بذلك أن يشكل المستخرج كزيادتنا [تاء] بعد ميم محمد، وكافاً بعد حائه، وجيماً بعد ميمه، وصاداً بعد داله، فتصير صورته متحكمجدص، وربما فعل هذا وترجم عنه بنوع من نوعي الترجمة، ويجعل لكل حرف من حروف المعجم صورة مفردة، ولا يقتصر بها على الاشتراك الذي يحصل في صورة المشتركات منها. وأما النقصان فأن يجعل للحروف المقترنة مثل مع، وعن، ومن، وما، وهل، وأشباه ذلك صورة مفردة، فيجعل بكل حرفين منها حرف واحد، وأن يجعل لاسم الله - عز وجل - صورة واحدة، ولا يجعل لكل حرف من ذلك صورة ليعمي بذلك على من يريد استخراج الكلام، إذ كان أكثر ما يتضح من الكلام إنما هو بأمثال هذا، وأن يجعل للحروف التي تشترك في الصورة شكلاً واحداً، كالجيم والحاء والخاء، والعين والغين وأشباه ذلك. وصورة التعمية أكثر من أن تحصي، لأنها بالوضع والاصطلاح، وليست بالطبع، ووجوه الوضع والاصطلاحات ليست مما تحصر فيها الصنعة الطبيعية، بل هي بلا نهاية. ومما يحتال به في استخراج المعمى والمترجم إذا طال أن يعد كل ما فيه من كل صورة من صورة الحروف، أو نوع من أنواع ما يترجم به منها، تكتب كل واحد من ذلك على عدده الأول فالأول حتى تأتي على آخره، فإن كانت الأشكال في تسعة وعشرين، فقد جعل لكل حرف صورة وإن كانت أكثر يزيد فيها أغفال، وإن كانت أقل وكانت زائدة على ثمان عشرة، فقد جعل للحرفين منها وللثلاثة صورة واحدة، وإن

كانت ثمان عشرة بلا زيادة فقد جعل لكل الحروف المشتركة في الصورة صورة واحدة مشتركة بينها على ما وضعت عليه حروف المعجم، ثم ينظر إلى أكثر حروفها، ثم الذي يليه، ثم الذي يليه، فتقضي على كل واحدة من الجمل مما سنذكره منها وهدته التجربة، وهو أن أكثرها وقوعاً في هذا المسلك الألف، ثم اللام، ثم الميم، ثم الياء، ثم الواو، ثم الباء، ثم النون، ثم الراء، ثم العين، ثم الفاء والكاف، فهما لشيء واحد، ثم الدال، ثم الفاء، ثم النون، ثم القاف، ثم الحاء، ثم الجيم، ثم الذال، ثم الصاد، ثم الشين، ثم الضاد، ثم الخاء، ثم الزاي، ثم الطاء، ثم العين، ثم الظاء. وهذا النوع يصدق فيما طال من المعمى أو المترجم لتكون الحروف فيه ووقوع جميعها في نظمه. فأما السطر والسطران ونحوهما فلا يصدق هذا فيه وإذا كان ذلك فينبغي أن يستعمل في استنباطه حيلة أخرى، وهي أن تعرف ما يأتلف من الحروف في اللسان العربي، وما لا يأتلف، فإذا وقع الظن على حرفين نظرت هل هما مما يأتلف أم لا، فإن كانا مما يأتلف طلبت كل واحد منها في موضع آخر، ونظرت أيضاً هل هي مما يقترن أو لا يقترن، ثم [إن وضح] ذلك فافعل حتى تظهر لك الألفاظ بحقائقها. ومما يستشهد به أيضاً في هذا النوع الحروف التي يكثر اقترانها في هذا اللسان مثل من، ومع، وعن، وما، وفي، والألف، واللام، فإن صورها تأتي معاً في مواضع كثيرة، فيدل ذلك على استنباط الحروف بعد الأصلين اللذين قدمناهما، ومما يعين على الاستدلال

على هذه الحروف إذا طلبت، وهي على صورها، أو أفرد كل اثنين منها بصورة، معرفة ما يقع منها في هذا اللسان أكثر، وما يقع منها فيه أقل، فأكثرها، ما فيه لا، ثم من، ثم إن، ثم ما، ثم في، ثم لم، ثم عن، ثم هو، ثم هم، ثم إذ، ثم ثم، ثم هي، ثم أو، ثم لو، ثم بل، ثم هل، ثم كل، ثم أي، ثم لن، ثم كم، ثم مع، وأم، وذي، ثم ذا، ثم لي وذو، ورب، ثم مذ، وهن، فهذه مراتب الحروف المقترنة، في الأعداد. ومما يستدل به على استخراج المعمى أيضاً التدلالاً قوياً فواتح الكتب (بسم الله الرحمن الرحيم) وكالتحميد والتمجيد في أوائل الكتب وكالصدور التي قد كثر استعمالها من أهل الدهر مثل أطال الله بقاءك، ويا سيدي أطال الله بقائك، وأطال الله بقاء الوزير، وأطال الله بقاء سيدنا الأمير، ومن عبد الله أبي فلان لعبد الله أبي فلان، وأما بعد في أوائل الكتب، وأشباه هذا. وإذا اتفقت الشهادات ووجدتها في التكرار تصح فاقض باليقين فيها، فإن هذا من جنس ما يستخرج الحق فيه بالظنون مما قدمنا ذكره في أول الكتاب. فأما الحروف التي تقترن وتأتلف في هذه اللغة مع كل حرف فهي حروف المد واللين، وهي الواو والألف والياء. مخارج الحروف: ثم إن مخارج الحروف ثلاثة عشر مخرجاً: أولها من بين الشفتين مخرج الواو والباء والميم والفاء، وهي حروف الشفة، ومن طرف اللسان وأطراف الثنايا العليا مخرج الثاء والظاء والذال، وهي حروف النفث،

وأدخل من ذلك قليلاً بإطباق اللسان على أصول الثنايا مخرج التاء والدال والطاء، وهي حروف الإطباق، وأدخل من ذلك قليلاً إلى ظهر اللسان مخرج الصاد والسين والزاي، وهي حروف الصفير، ومن طرف اللسان مخرج الراء والنون واللام، ومن أحد جانبي اللسان مخرج الضاد، ومن الناس من يخرجها من الشق الأيمن، ومنهم من يخرجها من الأيسر، وفيما بين وسط اللسان وجانبه يخرج الياء والجيم والشين، وفوق ذلك إلى اصل اللسان مخرج الكاف، وفوقه من أصل اللسان القاف. ثم حروف الحلق من ثلاثة مخارج: أولها مما يلي الفم مخرج الخاء والغين، ومن وسطه مخرج العين والحاء، ومن أقصاه مما يلي الصدر الهمزة والألف، وهي أدخلها إلى الصدر، ومن الخياشيم مخرج النون الخفيفة، فكلما تقارب مخرج الحرفين كانا أثقل على اللسان منهما إذا تباعدا. ومن شأن العرب استعمال ما خف وتجنب ما ثقل، ولذلك لا يكادون يجمعون بين حرفين من مخرج واحد، أو مخرجين متساويين، وإذا اجتمعا أدغموا أحدهما في الآخر، والأصل في الإدغام أنه إذا اجتمع حرفان من مخرج واحد أو على صورة واحدة وسبق أحدهما بالسكون وكانا متجاورين أدغمت أحدهما في الآخر لا غير، وذلك مثل قوله: {فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ} وقوله: {عَصَوْا وَكَانُوا}، وإن كانا في كلمة واحدة لم يجز غير الإدغام نحو قوله: {فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ}، وإذا سكن الثاني لم يجز الإدغام نحو قوله: {هَاأَنْتُمْ هَؤُلاءِ حَاجَجْتُمْ} ومثله مددت ورددت وكللت. وإذا اجتمع حرفان متجاوران من مخرج واحد، أو على صورة واحدة وهما مترحكان كنت بالخيار إن شئت

أظهرت وإن شئت أدغمت، كقولك ضرب بكر عمراً، أو ضرب بكر (وكقوله: "الذي جعل لكم" و"جعل لكم"). فإن كان الحرفان من كلمة واحدة، وهما متحركان نظرت لما كان من ذلك في الاسم فأظهرته، نحو العدد والمدد، وكقوله: {لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا}، وإذا كان من فعل أدغمت نحو: مدَّ، وردَّ، ولا نقل مدد وردد، وذلك لخفة الأسماء وثقل الأفعال، فكذلك حكم اللام والراء لأنهما من مخرج واحد في الإدغام، وحكم الدال والسين في قوله: {لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ} لتقارب مخارج الحرفين. فحروف الحلق لا تأتلف ولا تقترن الهمزة والألف منها، لأنهما من حروف الزوائد، وإحداهما من حروف المد واللين، فهما يجتمعان مع سائر الحروف، ولا يجمعون بين القاف والكاف في أصل بناء كلمة، فإن كانت الكاف زائدة التشبيه جاز ذلك فقالوا: كقولك ليس هذا مقارنة، وإنما هي مجاورة، وأما الجيم والشين والضاد فلأن بعضها أطول مدى في المخرج من بعض، وأن مراتب بعضها دون مراتب بعض في مخرجها تقارنت في بعض أحوالها، فقارنت الجيم الضاد بتقديم الضاد في الضجيع ولم تقارنها بالتأخير، وقارنت الشين الجيم بالتقديم، والتأخير، فقيل جش وشج، ولم تقارن الضاد الشين بتقديم ولا تأخير لتقارب مخرجهما. وأما حروف الصفير فإن بعضها لا يقارن بعضاً، وحروف النفث لا يقارن بعضها بعضاً. وأما حروف الانطباق فتقارن، لأن مخارجها وإن كانت متساوية فإنها متباينة، وأكثر العرب تدغم ما يتقارن منها، فيقال في متطهر مطهر، وفي عنيت عنت، قال الله - عز وجل - {إِنَّ اللَّهَ

يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} وقال: {لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الأَمْرِ لَعَنِتُّمْ}. [أما] الحروف التي تخرج من طرف اللسان فليس يكادون يجمعون اثنين منها إلا أدغموا أحدهما في الآخر، كقولهم: الرحمن والنجوى، فإذا تأخرت اللام فربما أظهروا الحرفين، وربما اكتفوا من الحرف المتقدم وأسقطوه فقالوا في [بني] الحارث بالحارس، وفي من الأشياء ملأشياء. وحروف الشفة يأتلف بعضها مع بعض لخفتها، وقلة الكلفة على اللسان فيها. فهذه جمل القول في مخارج الحروف وما يأتلف من حروف كل مخرج وما لا يأتلف، فأما استيعاب جمعيها فيطول فإذا بدأت بالتاء من حروف المعجم فأضفها إلى سائر الحروف بالتقديم والتأخير، ثم ما بعدها على الترتيب، تبين لك ما يأتلف منها وما لا يأتلف، وغنينا عن الإطالة بذكره إن شاء الله. وإذا وجدت التعمية أو الترجمة حروفاً موصولة فاعلم أنها بإبدال الحروف، فإن وجدت أكثر كلماتها الموصولة على ثلاث أحرف وأربعة أحرف، ووجدت في الإفراد فيها ما تجاوز الأربعة فاعلم أنه لم يزد فيها حرف إعفال، وإن وجدت أكثر ما فيها من الكلمة يتجاوز الأربعة وزيد على الستة والثمانية، فاعلم أنه قد زيد فيها حروف إغفال، لأنا قدمنا أن

أكثر ما يجيء من الأسماء السالمة على خمسة أحرف، وأن أكثر ما يجيء من الأفعال على أربعة، وأن ما زاد على ذلك فقد لحقته الزيادة، وبينا وجوهه. فإذا صحت لك الحروف وقامت في نفسك، ولم يصح لك نظمها علمت أن ترتيب الحروف في تلك التعمية قد غيرت، واستعملت التقديم والتأخير والقلب والإبدال أبداً حتى يصح لك، وهذا أتعب باب في التعمية. ثم اعلم أن أسهل كلام العرب وأكثر ما تستعمله من الحروف ما كان بطرف اللسان أو الشفتين، وليس يكاد يكون اسماً أو فعلاً مبنيين من أربعة أحرف فما زاد إلا وفيه أحد هذه الحروف أو اثنان منها إلا الشاذ كإسحاق، وعلم هذا دليل عظيم على استنباط المعمي والمترجم إذا كان لكل كلمة منه فصل، فإذا امتحنت فصول الكلمات وقست بعضها إلى بعض وقلت: إن بعض هذه الحروف فيها أو جميعها إذا [كانت] أكثر الكلام نظرت أكثرها فيها فهو أكثر في اللسان العربي كما ذكرنا، ثم الذي يليه في الكثرة، ثم الذين يليه، حتى يؤتى على آخره، فهذا [ما] جاء في المنثور من الكلام. فأما الشعر فاستخراجه أيسر، وذلك لأن الشعر موزون مقفى، فوزنه وقافيته يعينان على استخراجه، وطريق ذلك أن تنظر إلى حرف القافية أين هو من التعمية والترجمة، ثم تعد الحروف من أول البيت إلى آخره، فإن كان من أربعة عشر حرفاً ونحوها وما فوقها ودونها، فهو من الأرجاز، وقصير الشعر، وإن كان فيما بين ذلك فهو من متوسطه، وإن رأيت حرف القافية يلي بيت العدد بتقديم أو تأخير من حيث

لا يبعد فالبيت مصرع. فإن وجدت بيتاً أنقص من بيت في عدد حروفه فلا يغلطنك، والعم أنه ربما لحقه الخرم والزحاف، وهما نقص في حروف الشعر، وربما كان في الكلام الحرف الممدود أو المشدد، وكل واحد منهما في الشعر حرفان، وهو في الكتابة واحد، فلهذا ربما نقص بيت عن بيت في عدد حروفه، ثم أعدد الحرف إن كانت الكلمات مفصولة واعرضها على الأوراق، فإذا وافقها استنبطت الحروف بالحيل التي قدمناها. فإذا خرج من ذلك ما يتفق أن يكون كلاماً موزوناً مقفى، وعاد مثله من الحروف في الأبيات فانتظم: ولم يختلف فقد أصبت استخراجه. وأوزان العروض السالمة ثمانية، منها خماسيان وستة سباعية، فالخماسيان فعولن، وفاعلن، والستة السباعية: مفاعلين، ومستفعلن، وفاعلانن، ومفاعلنن ومفاعلن، ومفعولانن، فإذا وقفت على وزن بيت وأردت أن تدري من أي نوع من العروض فانظر فإن كان أوله فعولن أو مواحفة، فهو من الطويل أو من المتقارب، وإن أردت أن تعلم من أيهما فهو فانظر ما يلي فعولن، فإن كان فعولن أو مزاحفة فهو من المتقارب، وإن كان مفاعلين أو مزاحفة فهو من الطويل، وليس في العروض بيت أوله فاعلن. وإن كان أوله مفاعيلن أو مزاحفة فهو من الهزج (أو المضارع، فإن أردت أن تعلم من أيهما هو فانظر إلى ما بعده، فإن وليه مفاعلين أو مزاحفة فهو من الهزج)، وإن وليه فاعلاتن أو مزاحفة فهو من المضارع، وربما كان مزاحف الوافر مفاعيلن، ومحنة ذلك أن تنظر فإن رأيت الأوزان كلها مفاعيلن، ولم يكن في نصف البيت فعولن فهو من الهزج، وإن كان

فيها مفاعيلن أو في نصف البيت فعولن فهو من الوافر. وإن كان أول البيت مستفعلن أو مزاحفة فهو من البسيط، أو الرجز، أو السريع، أو المنسرح أو المجتث، فإن أردت أن تعلم أيها هو فانظر إلى ما يليه، فإن كان فاعلن أو مزاحفه فهو من البسيط، فإن وليه مستفعلن أو مزاحفة فهو من الرجز أو السريع، إلا أن ثالث السريع فاعلن، وثالث الرجز مستفعلن، وإن وليه مفعولات أو مزاحفة فهو من المنسرح، وإن وليه فاعلانن أو مزاحفة فهو من المجتث. وإن كان أول البيت فاعلاتن أو مزاحفة فهو من المديد أو الرمل أو الخفيف، أو المقتضب، فإن أردت أن تعلم من أيها هو فانظر إلى ما يليه فإن كان فاعلن أو مزاحفة فهو من المديد، وإن كان الذي يليه فاعلاتن أو مزاحفة فهو من الرمل، وإن كان الذي يليه مستفعلن أو مزاحفة فهو من الخفيف، وإن كان الذي يليه مفتعلن فهو من المقتضب. وإن كان أول البيت مفاعلتن أو مزاحفة فهو من الوافر. وإن كان أول البيت متفاعلن أو مزاحفة فهو من الكامل. فهذه جمل وإشارات فدل ذا القريحة ممن تخرج بالعروض ونظر فيها وبغيته في معنى ما أوردنا الدلالة عليه من استخراج المعمي في الشعر إن شاء الله. وقد اشتهر في أيدي الناس بيت قد جمعت فيه حروف المعجم وهو هذا: (قد ضج زَحْرٌ وشَكَا بثه ... مذ سخطت غصن على الأنط) استعملوا التعمية فيه، فإذا أرادوا الألف: قالوا الحرف الرابع من الرابع، وإذا أراجوا الحاء قالوا: الحرف الثاني من الثالث، وإذا أرادوا

خاتمة الكتاب

الميم قالوا: الحرف الأول من السادس، وإذا أرادوا الدال قالوا: الثاني من الأول، وكذلك ما يريدونه من الحروف. وكل أحد يقدر على أن يقول مثله ويصيره وسما بينه وبين من يكاتبه، إلا أني ذكرت هذا البيت لشهرته وكثرة استعمال أهل هذا الزمان له في التعمية، فهذه أبواب في استخراج المترجم والمعمى تدل وترشد، وفيها كفاية وغنى لمن أنعم النظر، وأعمل الفكر، ونثبت وتصبر، وقد تتفتح للإنسان إذا داوم على هذا الباب وشغل به طرق، وتسنح له سبل لم نذكرها، ولعلها لا نخطر لاه ببال تدله على ما يحتاج إليه، وتسهل ذلك عليه، إلا أن ذلك بعد لزوم ما نهجناه له، وأرشدناه إلى مسلكه إن شاء الله. وقد انتهينا إلى الغرض فيما أردنا أن نتكلم فيه من أقسام البيان، وتوهمنا أن قد سلكنا من الإطالة له بعض ما لعله يظن بنا مخالفة لما وعدنا به في أول كتابنا من الإيجاز، ولم نأت في كل فصل إلا بأقل ما يمكن أن تؤتى به. وإذا نظرت في كل باب منه وجدتنا قد اختصرناه، وإنما طال الكتاب لكثرة فنون القول وأقسامه، واختلاف معاني البيان وأحكامه، لأنا لم نحب أن نحل بشيء منه حتى ندل عليه، ونشير إليه، ونحن نحمد الله - عز وجل - من قبل كل شيء وبعده، ونسأله أن يصلي على محمد وجميع رسله وأهل بيوتات المرسلين، وعلى جميع المؤمنين والمسلمين، وأن ينفعنا بما علمنا، وأن يقينا شر أنفسنا، وسيئات أعمالنا وأن يصلح لنا سائر أمورنا وأحوالنا إنه سميع الدعاء فعال لما يشاء. وحسبنا الله ونعم الوكيل، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وعليه نعتمد وبه نستعين.

تم كتاب البرهان في وجوه البيان والمنة لله والعزة لله رب العالمين، وافق الفراغ من نساخته يوم الجمعة أول شهر ربيع الأول من شهور سنة سبع وسبعين وستمائة، بخط العبد الفقير إلى الله سبحانه، المقر بذنبه، الراجي رحمة ربه، المستغفر من ذنبه، إبراهيم بن سليمان بن عبد ربه، عفا الله عنه وعن مالكه وعن والديهم، وعن الناظر فيه بعين الصلاح، وعن جميع المسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

§1/1