البراهين الإسلامية في رد الشبهة الفارسية
عبد اللطيف آل الشيخ
مقدمة
مقدمة ... بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله أوضح الحق بدليله. ونور بصيرة من أراد سبيله وبعد: فإن رسالة البراهين الإسلامية في رد الشبهة الفارسية بقلم مشعل الهداية ورائد التدليل لأقوم سبيل العلامة الشيخ/عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ/قد أعرب مؤلفها بفصيح اللسان وساطع التبيان أن العبودية لله وحده حبا وتعظيما وذلا وانكسارا وأن الوثنية المحبوكة باسم حب الأولياء وقداسة الصالحين ما هي إلا نافذة على ما كان عليه أبو جهل وأضرابه الذين قال الله عنهم إنهم قالوا {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} (1) . والشيخ عبد اللطيف في ردوده بقرن الدليل بالتعليل والأسلوب الدعوي بالمنطق الجدلي وزيادة في التحقيق قام أخونا الفاضل الشيخ محمد عارف بن عثمان الهرري الأرومي بنسخ الرسالة من أصلها وتخريج الآيات والأحاديث والآثار الواردة فيها مع إضافة ما استحسنه مما هو شاهد للباب. وقد أعنته على ذلك بالدعاء وبذل الوسع في إخراج الرسالة ضمن ما تنشره مكتبة دار الهداية وغايتنا في ذلك نيل المراد بعفو رب العباد والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون وحسبنا الله وكفى نعم المولى ونعم النصير. وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم. كتبه إسماعيل بن سعد بن عتيق 15/5/1409
بسم الله الرحمن الرحيم مقدمة الرسالة إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه ونتوب إليه ونستغفره ونتوكل عليه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن ترسم خطاهم إلى يوم الدين وبعد. فإن هذه الرسالة القيمة النافعة التي ألفها العالم الجليل الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب قد قطعت أصول الشرك واجتثت جذوره حيث كاد الباطل يجول ويصول ليغرس شجرة خبيثة ترسخ عروقها في قعر الأرض وتمتد فروعها في السماء لتثمر ثمارا مسمومة هالكة، ولكن الله سبحانه وتعالى كفى عباده المؤمنين شرورها وأضرارها حيث وفق هذا العالم النحرير بقلعها وقوي عزمه وشد أزره ليستأصلها من جذورها إنجازا لوعده بقوله: {وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} (1) وذلك أن رجلا ينسب إلى فارس- كما ذكره المؤلف-أراد أن يهدم الأسس المتينة التي أحكمها الباري وأتقن بناءها وأرسى قواعدها في أغوار أراضي الفطرة وأعماق قلوب البرية بالحب والذل له والطاعة في السر والعلانية، وأنزل الكتب وأرسل
الرسل لهذا الغرض العظيم وهو تجريد العبادة لله وإخلاص الدين له والتبري عن عبادة غيره وتخصيص المعبود الواحد خالق الخلق رب العالمين بالدعاء والطلب والقصد والرجاء والرغبة والرهبة والمحبة والتوكل في نيل المرغوب وحصول المطلوب ودفع المرهوب وإنقاذ الملهوف المكروب دون غيره من الآلهة الباطلة التي يعبدها المشركون من دونه. وأجاز هذا الضال المضل أن يصرف جميع ذلك لغيره تعالى في جلب الخير وسلب الضير، ولذلك لا يشك المؤمن الذي أنار الله بصيرته أن ما قام به هذا الشخص المذكور معول هدام استعمله لهدم هذا الركن الوثيق لولا عنايته لدينه الحنيف وحفظه له من أن يناله التبديل والتحريف والتغيير تصديقا لوعده حيث قال: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (1) إنكاره لما دعا إليه القرآن والسنة المطهرة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم وسلف هذه الأمة وأجمعت عليه الأئمة الأعلام ومصادم للعقل الصريح والنقل الصحيح إذ عدل المخلوق بالخالق الرازق وسوى العاجز الفاتر بالقادر القاهر سبحانه وتعالى عما يشركون فكفر بذلك برب العالمين، قال تعالى منزها نفسه المقدسة عن النقائص ومثنيا عليها بصفات الجلال والجمال ونعوت المدح والكمال: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} (2) . وقال تعالى حاكيا عن شجار وخصام أهل النار فيها حيث يتبرأ العابدون عن المعبودين الذين عبدوهم في الدنيا من دون الله: {وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ وَمَا أَضَلَّنَا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ} (3) . وقد تجرأ هذا الجاحد المعاند على ترويج الزيغ والزيف والضلال وغارفي عمق الإلحاد وبالغ في ترويج الخرافات والشرك والعناد حيث حاول أن
يمنح العباد ما هو خالص لرب العباد وقرر أن غيره تعالى يعلم الغيب ويتصرف في الكون وينجد الملهوف وينقذ المكروب من الكرب الذي نزل به، وبذلك صرف لغيره تعالى حقه الخاص به، وساق أدلة من الكتاب والسنة على ذلك التي تدل على فراغ جعبته من فهم الشريعة وعلى جهله المركب حيث ظن أن هذه الأدلة التي استدل بها حجة له لا عليه ولم يدر هذا المسكين أنها شاهدة على بعده عن الحق والصواب وعمقه في الغي والضلال حيث يعتبر هذا التبجح منه جحودا لما نطق به القرآن وقام عليه البرهان من تفرده تعالى بعلم الغيب قال تعالى: {قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} (1) ونحو هذه الآية الكريمة كثير من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية التي تخص الباري بعلمه الغيب وتنفي ذلك عن غيره نفيا قاطعا إلا ما يعلمه أنبياءه بطريق الوحي مما استثناه الخالق من هذا العلم الخاص به مثل قوله تعالى: {وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ} (2) وقوله: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} (3) الآية. ولا شك أن هذا الكلام الذي كتبه هذا الشخص حول هذه الشبهة التي غرق فيها يدل على مرض قلبه إذ علامة مرض القلب عدوله عن الأغذية النافعة الموافقة إلى الأغذية الضارة، وعدوله عن دوائه النافع إلى دوائه الضار. فهنا أربعة أشياء: غذاء نافع، ودواء شاف، وغذاء ضار، ودواء مهلك. والقلب الصحيح يؤثر النافع الشافي على الضار المؤذي، والقلب المريض بضد ذلك، وأنفع الأغذية غذاء الإيمان، وأنفع الأدوية دواء القرآن، وكل منهما فيه الغذاء والدواء، فمن طلب الشفاء في غير الكتاب والسنة فهو من أجهل الجاهلين وأضل الضالين، قال تعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ
شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَاراً} (1) . فالقرآن هو الشفاء التام من جميع الأدواء القلبية والبدنية وأدواء الدنيا والآخرة وما كل أحد يؤهل للاستشفاء به، وإذا أحسن العليل التداوي به ووضعه على دائه بصدق وإيمان وقبول تام واعتقاد جازم واستيفاء شروطه لم يقاومه الداء أبدا وكيف تقاوم الأدواء كلام رب العالمين الذي لو نزل على الجبال لصدعها أو على الأرض لقطعها؟ فما من مرض من أمراض القلوب والأبدان إلا في القرآن سبيل الدلالة على دوائه وسببه والحمية منه لمن رزقه الله فهما في كتابه. ولكن هذا المردود عليه لم يهتد بهديه ولم يستضيء بنوره بل أراد أن يحمله ما لم يحتمله وضل سواء السبيل حيث ادعى أن غيره تعالى يعلم الغيب مما نفاه القرآن عمن سواه وزعم أن دليل ذلك من القرآن والحديث ولا شك أن ما ذكره حجه عليه لا له. وانطبق عليه المثل "حفرت الشاة بظفلها السكين بحثها حتفها" وهو مثل يضرب لمن يؤديه اجتهاده في الأمر إلى هلاك نفسه والقضاء عليها من حيث لا يشعر ذلك وهذا جزاء من كابر صريح العقل وصحيح النقل وعادى الحق ووالى الباطل ونصر البدعة وحارب السنة حتى أدى به الأمر إلى دعواه علم الغيب لغيره جل وعلا وجحد بذلك ما هو معلوم من دين الإسلام بالضرورة {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} (2) . 3-وزعم أيضا أن الأولياء والصالحين لهم تصرفات في الكون في الحياة وبعد الممات ينفعون ويضرون ويعطون ويمنعون ويقصدون من دون الله في جلب الخير ودفع الضير وقضاء الحاجات وكشف الملمات ويسمعون نداء المنادي بهم ويجيبون صيحتهم وقد أبعد بذلك في الضلال وأعمق في بحور الشرك وجاوز الحد وجعل لله الشريك والند في تصريف الأحوال وتدبير الأمور وإعطاء المطالب وكشف المثالب مما هو حق خالص لله، وقد أشرك
عباده معه في تصريف الكون وجحد بذلك توحيد الربوبية الذي أقره المشركون والكفار والخليقة جمعاء والذي لم يحصل النزاع فيه بين جميع الطوائف قط، ولاشك أن ذلك يعتبر جحودا للصانع المدبر الحكيم الخالق الرازق المحيي المميت رب العالمين الذي لم يجحد به العقلاء حتى الفلاسفة إلا طائفة شذت ونهجت نهجه وإلا فرعون الطاغية الذي ادعى الربوبية مما حكى عنه القرآن حيث قال: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} (1) وادعى كذلك الألوهية حيث تبجح وقال: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} (2) الآية وقال أيضا: {لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ} (3) ولكن الله انتقم منه وعاقبه على هذا الادعاء حيث أخبر ذلك بقوله: {فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى} (4) {فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ} (5) ، {فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ} (6) . وهكذا كل من سلك هذا المسلك الإلحادي الذي سلكه فرعون ومن كان على شاكلته سيلقى جزاءه ويذوق وبال أمره إن عاجلا أو آجلا وله عذاب أليم في الدنيا والآخرة. وقد بين الله سبحانه وتعالى إقرار الجميع بهذا النوع من التوحيد حيث أنزل الآيات التي قررت ذلك بوضوح لا يخالطه أي لبس قال تعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} (7) . ومن هنا نعرف تماما أن الذين عبدوا غير الله من المشركين الأولين لم يعبدوهم إلا ليكون هؤلاء المعبودون وسطاء بينهم وبين الله في رفع طلبهم إلى الله كما حكى الله عنهم ذلك بقوله: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِن َّ
اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} (1) . ولم يوجد من بينهم من صرف خالص الحب والذل والخضوع والعبادة والطلب والقصد والخوف والرجاء لغيره ولم يشركوا مع الله أحدا في الربوبية والخالقية والرازقية بل كان شركهم في العبادة والقصد والطلب والخوف والرجاء حتى أنهم لم يخلصوا ذلك لآلهتهم بل أشركوا الله معهم في ذلك كما قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ} (2) الآية. ولقد كرر الحق سبحانه وتعالى ذكر توحيد الربوبية في مواضع كثيرة من كتابه إقامة للبراهين الساطعة والدلائل الواضحة والحجج المقنعة على وحدانيته ووجوب عبادته وطاعته وحبه والذل والخضوع له ووجوب الكفر بما يعبد من دون الله والبراءة منه عما سواه. ومعنى هذا الكلام: أنتم أيها العقلاء من الإنس والجن إذا اعترفتم وأقررتم أن الله هو الخالق الرازق المدبر المحيي المميت والمعطي المانع يعطي ويمنع ويعز ويذل ويقدر على كل شيء ويعلم كل شيء لا يعزب عن علمه مثقال حبة من خردل، إذا اعترفتم أن جميع ما في الكون علويه وسفليه ملكه وخلقه يدير كيف يشاء لا معقب لحكمه فهذا الإقرار والاعتراف يوجب عليكم أن تخصوه بالعبادة والحب والذل والخوف والرجاء والرغبة والرهبة فاعبدوه ولا تشركوا به شيئا تسعدوا في الدنيا والآخرة فإن أبيتم تخصيصه بذلك فلا نجاة لكم في الدنيا والآخرة لأنكم معاندون ومكابرون وكاذبون فيما أقررتم به من توحيد الربوبية الذي يستلزم توحيد الألوهية لأن توحيد الربوبية دليل على توحيد الإلهية والعبادة والقصد ووسيلة له. قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ} (3) .
والمشار إليه في اسم الإشارة في قوله تعالى: {إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} (1) هو توحيد الألوهية المدلول عليه بتوحيد الربوبية الذي هو غاية له، والدليل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم "يقال للرجل من أهل النار يوم القيامة: أرأيت لو كان لك ما على الأرض من شيء أكنت مفتديا به. قال فيقول نعم فيقول: قد أردت منك أهون من ذلك قد أخذت عليك في ظهر آدم أن لا تشرك بي شيئا فأبيت إلا أن تشرك بي" رواه البخاري ومسلم وأحمد. فإذا صرف هذا الفارسي توحيد الربوبية الذي وحد الله به جميع الخلائق ولم يقع الخصام فيه فإذا صرف هذا للمشايخ والأولياء والصالحين فما باله في توحيد الألوهية الذي أبى أن يقره المشركون ورفضوه والذي أوجب الله الجهاد لتقريره وأرسل الرسل وأنزل الكتب له وهو أشد عنادا وجحودا في هذا النوع من التوحيد حيث أنه صرح أن الأولياء والمشايخ والصالحين يقصدون لقضاء الحاجات وكشف البليات سبحان الله ما أعظم هذا الشرك وأقبحه وما أجهل من اعتقد هذا الاعتقاد وأغفله ولا حول ولا قوة إلا بالله. 4-وكذلك رمى من أخلص الدعاء والتوجه والقصد والرجاء والخوف لله وحده لا شريك له وتبرأ عما سواه في جميع ذلك بالاعتزال جهلا منه بأصول المعتزلة ومذاهبهم وعقائدهم وقد انقلب رأسا على عقب حيث لم يفرق بين الغث والسمين. 5-كما قرر أيضا بجواز الاستمداد من أهل القبور وقطع بسماعهم في القبور من يناديهم في طلب قضاء الحوائج وإسعاف الفواجع وجزم كذلك أنهم يتصرفون ويدبرون الكون في قبورهم وأن تدبيرهم وتصريفهم وإغاثتهم لقاصديهم أتم وأقوى من حال حياتهم، ومن هنا نعرف أن هذا المبتدع لم يترك شيئا مما هو خالص حق الله إلا صرف لهؤلاء الأموات الذين هم في أمس الحاجة على الترحم عليهم والاستغفار لهم والدعاء لهم بالعفو والرحمة. كما أرشد الله عباده المؤمنين إلى ذلك بقوله: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِن ْ
بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} (1) ، سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين. هذا موجز تلك الشبه التي أثارها هذا الجاحد المبتدع وأراد أن يغزو بها قلوب الغافلين ويروجها بين البسطاء وبذل أقصى جهده في نصر الباطل وإبطال الحق وقد أخبر الله سبحانه وتعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن ما عدى الله ورسوله فأولئك في الأذلين حيث قال: {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} (2) . فأنى له ذلك وقد وعد الله سبحانه وتعالى أن ينصر دينه ويعلي كلمته ويخزي أهل الزيغ والفساد والشرك والإلحاد ويحق الحق ويبطل الباطل ولو كره الملحدون أمثاله والحمد لله رب العالمين قال تعالى: {وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ} (3) . وقال جلا وعلا أيضا: {وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ} (4) . وقال تعالى: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ} (5) {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً} (6) . هذا ولما وقف الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن رحمه الله على الأوراق التي كتب فيها هذا الشخص المذكور هذه الآراء الفاسدة والأفكار المسمومة والعقائد الزائفة بادر إلى نقضها وإبطالها وبيان زيفها ورفع الستار عنها بالدلائل المقنعة والحجج المدمرة التي تبدد تلك العقبات التي تعترض طريق الحق وتعوق السالك عن السير فيه وتعرقله، ولقد وفقه الله في نفض الغبار الذي ذره هذا الجاحد الملحد على صفحات عقائد السلف البيضاء
النقية النظيفة ليغطيها بهذه الشركيات والخرافات والجحود والإلحاد حيث وقف رحمه الله عند كل رأي باطل رآه وشبهة ذكرها وقفات طويلة ودقيقة وقف من ذلك موقف ناقد بصير ومدرك ونظر فيها نظرة عميقة ثاقبة وأرسل سهامه إلى تلك الوحوش الضارية وسدد إليها وأرداها قتلى وبدد تلك الحجج الواهية التي احتج بها من الكتاب والسنة على زعمه بالدلائل التي لا تدع مجالا للشك ولا ريبا للمرتابين والشاكين وتزداد يقينا وثباتا لأهل الإيمان والبصيرة والمعرفة كما ستقف أيها القارئ إن شاء الله تعالى على تلك الردود الحسان التي تناولها الشيخ في نقض هذه الشبه الواهية وتفكيكها وتمزيقها إربا إربا كل رأي على حدة وكل شبهة بانفرادها بحيث لا رواج لها بعد ذلك أبدا ولا غرابة في ذلك أن الله سبحانه وتعالى جعل العلماء العاملين الذين يعلمون الناس الخير ويمنعونهم عن الشر مفاتيح الخير ومغاليق الشر ولله الحمد والمنة على ذلك. هذا ولقد شرفني الله سبحانه وتعالى بهذه الخدمة البسيطة حيث جعلني أحظى بتحقيق هذه الرسالة النافعة وأسهم في قراءتها ونسخها والتعليق عليها بما من الله على مع الاستفادة منها بما حوته من بيان مناهج السلف وعقائدهم ودحض آراء الملحدين والمارقين وأفكار المبطلين بالأساليب التي تقنع أهل الحق وتفحم أهل الباطل مما يزيد القارئ المتأمل والسامع المتدبر قوة في الإيمان وثباتا في العقيدة ورسوخا في الشريعة وبصيرة في الدين وتمرينا على مواجهة الشبه الباطلة وجلدا في المناظرة التي يقارع بها المحق أهل الجدل والكلام، ومن هنا يتبن القارئ أنها فريدة في نوعها قل أن تجد القرائح بمثلها أسأل الله سبحانه وتعالى أن يسبل على مؤلفها وابل الرحمة والرضوان والعفو والغفران وأن يسكنه وجميع المسلمين فسيح الجنان يا حنان يا منان يا ذا الفضل والإحسان وأنت المستعان. هذا وقد كان قيامي بهذا العمل المتواضع -تحقيق هذه الرسالة التي هي مفخرة لأهل التوحيد ومنار لطلاب الحق ورواد الإيمان وحماة هذا الدين الحنيف وحملة الشريعة– تلبية لرغبة أخي في الله الشيخ إسماعيل بن سعد
بن عتيق في إحياء هذا التراث العظيم الذي خلفه جهابذة العلماء ونشر مذهب السلف في بقاع المعمورة التي ابتلي أكثر أهلها بأمثال هذا المردود عليه الذين يروجون الخرافات والأباطيل ويحاربون عقائد أهل السنة والجماعة من إفراد الله بالعبادة والحب والذل والخوف والرجاء وإثبات ما أثبته لنفسه وأثبته له رسله من الأسماء والصفات ونفي ما نفى عن نفسه المقدسة ونفى عنه رسله من النقائص حيث طلب مني ذلك سائلا العلي القدير التوفيق والسداد، تقديرا لحرصه الشديد ورغبته العميقة في هذا الخير العميم وتعاونا على البر والتقوى وإدراكا مني بحسن ظنه في. أسأل الله العلي العظيم أن يحقق رغبته ويتم نواياه الحسنة وينفذ عزمه بجعل هذه الجهود المتواضعة موفقة فيما يحبه ويرضاه وخالصة لوجهه الكريم، كما أسأله سبحانه - وهو ولي ذلك- أن يبارك فيه وفي عقبه كما بارك في أصوله حيث كانوا بيوت العلم والمعرفة والدين والعبادة والتواضع كما أرخ لهم ذلك في تاريخ علماء نجد ويغفر لي ولوالدي ووالديه وجميع المسلمين وهو حسبي ونعم الوكيل ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. بقلم محمد العارف بن عثمان بن موسى الهرري الأرومي
مقدمة
مقدمة الفصل الأول: بيان منهج تحقيق الرسالة ... منهج التحقيق: تمهيد: يجدر بنا أن نذكر في هذا المقام الجهود المباركة التي قام بها أسلافنا الأمجاد (علماء المسلمين) حيث غادروا هذه الفانية وقد خلفوا وراءهم مواريث عظيمة فريدة عديمة النظير، بيد أن هذه المواريث الغالية -مع الأسف-لم تخلد كما هي بل طرأت عليها صروف الدهر من المحن التي أدت إلى تلف أعظم ثروة علمية نادرة أنتجها هؤلاء المخلصون وقدموها للأجيال المتعاقبة لتكون لها نبراسا ودليلا إلى كل خير ولكن الله شاء أن تتلف جل هذه الجهود الجبارة التي لا نظير لها حيث سلط أعداء المسلمين على بلادهم بسبب معاصيهم وأتلف هؤلاء الكفار أكثر المؤلفات العلمية القيمة بإحراقها وإغراقها وتمزيقها -مما يرثى له- وبعض هؤلاء الأعداء الذين أقدموا على هذه الجرائم البشعة نقل معه إلى بلاده ما تبقى من هذا العمل الإجرامي- المؤلفات القيمة النافعة من فنون متعددة دون أن يدركوا قيمة ما تحويه هذه الكتب التي نقلوها معهم، وغرضهم من ذلك أن يجعلوها مظاهر تاريخية يحتفظون بها في مكتباتهم كمتاحف للزوار. وحتى هذه الكتب المنقولة إلى بلادهم بالنسبة لما بقي في المكتبات الإسلامية الذي لم يقع في أيدي هؤلاء المتلفين كثيرة جدا كما ذكر ذلك المؤرخون (1) الذين ألفوا في
الكوارث التي أصيب بها المسلمون في تلك الحقبة مما يبكي كل من يحب الفضائل ويكره الرذائل، وقد بقيت هذه المؤلفات المنقولة من بلاد المسلمين إلى بلاد الكفار محتفظة في مكتباتهم مئات السنين ولا علم للمسلمين بشأنها إلا ما تحيل إليه الكتب الموجودة لديهم كمراجع، ولما أراد الله إبرازها لورثتهم الحقيقيين حفز همم الكفار إلى دراسة اللغة العربية التي ألفت بها غنيمتهم هذه وكتبت بها تلك الكتب العظيمة دراسة عميقة بليغة فهموا من خلالها أسرار اللغة العربية ومراميها الدقيقة وطرق كتابتها وتأليفها وأضافوا إلى هذه الثقافة الجديدة ما عندهم من قواعد ومناهج متبعة في تحقيق المخطوطات ونشر التراث، ولما اطلعوا على هذه الكتب العربية الإسلامية التي زخرت بها مكتباتهم بعد هذا الفهم الدقيق فسابقوا إلى إحيائها ونشرها بعيدة عن التبديل والتغيير لأنهم طبقوا في نشر النصوص العربية القواعد التي تتبع في أوروبا لنشر النصوص الكلاسيكية وهي قواعد دقيقة تضمن الأمان في إخراج النص وتضمن أن يأتي النص المنشور كما وضع في أصله وهذا يمثل قول الشاعر: وإذا أراد الله نشر فضله طويت ... أتاح لها لسان حسود لولا اشتعال النار ما جاورت ... ما كان يعرف طيب عرف العود هذا ورغم أن الهدف الأساسي من هذه الدراسة نيل الإسلامي والمسلمين وطعن أقدس ما يملكونه من الكتاب والسنة وتشويه جمالهما الباهر بيد أنهم أنصفوا في هذه الجانب -في تحقيق المخطوطات ونشرها حيث ألزموا أنفسهم أن ينتهجوا تلك القواعد المتبعة في إحياء التراث عندهم سواء كان عربيا أم غيره-وهو إخراج النص المنشور سليما كما وضع في أصله وإلا يعتبر عيبا فاحشا في دنيا الثقافة لديهم ويتمثل فيهم قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "صدقك وهو كذوب". هذا ولم يأل أيضا الورثة الحقيقيون -علماء هذه الأمة- جهادا في الحفاظ على ما سلم من صروف الدهر وتحقيق ونشر ما تبقى في أيديهم
وتعويض مكتبات المسلمين التي أتلفتها الأيدي الآثمة الفاجرة بما جادت به قرائحهم من تأليف ما يقرب ذلك المتلف من العلوم النافعة إلا أنهم لم يضعوا قواعد متبعة توحد مسالكهم في تحقيق المخطوط ونشر التراث مثل هؤلاء المستشرقين مما دعا بعض علماء المسلمين إلى الاعتراف بفضلهم وتنويه شأنهم. وممن نوهوا -شأنهم في هذا الجانب- من العلماء المفكرين الذين ألفوا الكتب النافعة في قواعد تحقيق المخطوطات الدكتور صلاح الدين المنجد حيث قال (1) : اهتم العرب في ربع القرن الماضي بنشر تراثهم القديم وتحقيقه، وكان المستشرقون قد سبقوا إلى نشر هذا التراث منذ أكثر من مئة عام فنشروه متبعين نهجا علميا دقيقا مع ضعف فريق منهم باللغة العربية أو اطلاع آخرين منهم عليها. وشاء العرب أن يحذو حذوهم في تحقيق النصوص، فنجح أناس أوتوا العلم والمنهج العلمي، وأخفق آخرون أعوزهم المنهج العلمي الذي ينبغي اتباعه في النشر وحاول هؤلاء ستر نقصهم هذا بالغض مما نشره المستشرقون واتخذوه هزؤا ثم زاد الاستخفاف مما نشر المستشرقون وبالمنهج الذي اتبعوه عن جهل بالمنهج العلمي وعصبية ضده ورأينا كل ناشر ينهج في نشره منهجا ويزعم أنه ابتدع طريقة، ومن الإنصاف أن نقرر أن المستشرقين كان لهم فضل السبق في نشر تراثنا العربي منذ القرن الماضي وأنهم أول من نبهنا إلى كتبنا ونوادر مخطوطاتنا وأنهم وضعوا بين أيدينا نصوصا لولاهم لم نعرفها نضرب على ذلك مثالا، ففي سنة 1866م نشر وستنفلد (معجم البلدان) لياقوت وفي سنة 1819 نشر فريتاغ (المنتخب) من تاريخ حلب لابن النديم. وقال الدكتور صالح المنجد: وكان على ناشري النصوص من العرب
اتباع الطريقة العلمية التي اتبعها المستشرقون والاطلاع على قواعدهم واقتباسها أو اقتباس الجيد منها واتباع قواعد المحدثين القدامى في ضبط الروايات والأعلام. هذا وما ذكره الدكتور -أثابه الله- هو محاولة توحيد طرق نشر النص المخطوط وقد كتب في ذلك كتابا أسماه (قواعد تحقيق المخطوطات) ولخص فيه المناهج السليمة التي تنتهج في إبراز الكتاب نزيها من كل عيب يمس النص متنا وحاشية. وقد أفاد هذا الكتيب طلبة العلم في هذا المجال، والكتاب مع صغر حجمه استوعب الطرق المحكمة في نشر المخطوطات. فجزى الله المؤلف خيرا عن العلم وأهله. هذا وقد رحبت هذه القواعد التي ألفها الدكتور صلاح الدين المنجد لتكون دليلا للمحققين من قبل كبار العلماء حيث قدمت إلى مؤتمر المجامع العلمية الذي انعقد بدمشق سنة خمس وستين وتسعمائة وألف 1965م للنظر فيها، ودرست لجنة التراث العربي في المؤتمر هذه القواعد وأشادت بقيمتها ووافقت عليها لتكون دليلا للناشرين عندما ينشرون النصوص القديمة. هذه شهادة من علماء أجلاء يعتمد على قولهم، وترجمت هذه القواعد إلى ست لغات أجنبية غير عربية، الفرنسية والإسبانية والإيطالية والفارسية والتركية والإنكليزية. هذا وقد ذكرت هذا التمهيد لعلاقته بهذا الموضوع الذي نحن بصدده حيث أنه تحقيق التراث القديم المخطوط، والله ولي التوفيق والسداد وهو حسبنا ونعم الوكيل. 1-منهج تحقيق هذه الرسالة إن أول عمل يقوم به المحقق في هذا المجال السعي إلى معرفة نسخ
الكتاب المخطوط القديم، فإذا كانت للكتاب نسخ عديدة بينها تفاوت ما اعتمد على نسخة يراها أوثق وأنقى ويجعل الباقيات للمقابلة لتكمل بعضها بعضا. وعندما لا تتوفر للمحقق إلا نسخة واحدة بعد استنفاد الطاقة في التفتيش عن نسخ الكتاب فإنه يعتمدها في النسخ ويقابلها مع النصوص المقتبسة عنها في المؤلفات اللاحقة. وهذه النسخة التي اعتمدت عليها في التحقيق فريدة، أعني أن هذه المخطوطة التي حققتها لم أجد لها إلا نسخة واحدة وبذلت قصارى جهدي لأجد نسخا أخرى لأستعين بها على إتقان العمل فلم أعثر على شيء منها مما اضطرني أن أراجع كتبا كثيرة من مؤلفات المؤلف حيث كانت له ردود مثلها على بعض المتجاهلين للحق. إلا أن الناسخ الذي نسخ النسخة التي بين يدي كتب في آخرها على هامش المخطوط ما نصه: (بلغت مقابلة على أصل المصنف ولله الحمد والمنة) . وهذا يدل على أن النسخة الأصلية التي كتبها المؤلف بخطه موجودة في مكان ما حتى قوبلت عليها هذه النسخة التي أمامنا كما أثبته الناسخ. وقد ذكرت ذلك لأن قواعد تحقيق المخطوطات تنص على عدم جواز نشر كتاب مخطوط على نسخة واحدة إذا كان للكتاب نسخ أخرى معروفة لئلا يعوز الكتاب إذا نشر التحقيق العلمي والضبط ولكن هذه النسخة مصححة وسليمة وكاملة ولم يوجد فيها أي نقص وبياض إلا في موضعين، وقد ملأت ذلك بما جاد الله مما يناسب الموضوع ومع ذلك استنفدت طاقتي في مراجعة المظان التي توجد فيها المعلومات التي سجلها المؤلف كما يقتضي منهج التحقيق عندما تكون النسخة المخطوطة فريدة وبالله التوفيق.
2- توثيق صلتها بالمؤلف: والمرتبة الثانية من قواعد التحقيق دراسة الكتاب المنشور من حيث صلته بالمؤلف لأن بعض المخطوطات لا تحمل اسم المؤلف لحرصه على إخفاء نفسه خوفا من الرياء والسمعة والعجب وفي تلك الحال يتم توثيق الصلة بالمؤلف بما يلي: 1- شهرة ذلك بطريق التواتر عن الموثوقين من التلامذة والزملاء والمعاصرين أن هذا المخطوط من مؤلفاته. 2- شهادة المؤتمنين العارفين بذلك. 3- كون الأساليب التي كتب بها المخطوط مشهورة بالمؤلف بحيث أن العبارات التي سيقت في تركيب الجمل مما يخصه وذلك أن لكل مؤلف بصمات لا تحاكي غيره وطريقة خاصة بتأليفه. 4- وجود المخطوط بخط المؤلف أو خط وراقه الخاص به. 5- تصريح المؤلف في أحد كتبه بأن من مؤلفاته كتابا فلانيا وغير ذلك مما يوثق صلة المخطوط به ويقوي إضافته إليه. ولكن الأمر هنا واضح لا خفاء عليه إذ كتب على غلاف الرسالة ما يصرح بأنها تآليف الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن آل الشيخ رحمهم الله ومن هنا لا داعي إلى تطويل الكلام في ذلك والله الموفق لكل خير. 3- إن الغرض الأساسي الذي يصبو إليه المحقق هو إبراز الكتاب المنشور بصورة مشرقة صحيحة كما وضعه مؤلفه ما استطاع إلى ذلك سبيلا على أن يستنفد جهده وطاقته في ذلك والغاية القصوى أن يحقق المخطوط وينشر سليما من الأخطاء النحوية واللغوية والإملائية. وأما ما يحتاج إليه من بيان الغامض وحل المشكل وشرح الخفي فذاك
في الهامش وهذا هو غاية التحقيق، وقد بذلت قصارى جهدي في ذلك ما استطعت إليه سبيلا والله أسأل الإعانة والتوفيق والسداد فيه. 4- النقص والبياض تشير قواعد تحقيق المخطوطات إلى أنه إذا كان في الأصل المخطوط نقص وبياض فإنه يوضع مكانه نقط كل ثلاث نقط مكان كلمة ... ولكن كما أشرت إلى ذلك لم أفاجأ أثناء نسخ الأصل بالنقص والبياض إلا موضعين وقد كملت ذلك النقص وسددت ذلك الفراغ بما يناسب المقام ولله الحمد والمنة على ذلك. 5- الآيات القرآنية الآيات القرآنية التي استدل بها المؤلف في الرسالة ذكرت اسم سورتها وسجلت رقم الآية التي جاءت فيها. وقد جرت عادت المؤلفين عند استدلالهم بآية قرآنية في مؤلفاتهم باقتصارهم على موضع الاستشهاد وعدم كتابتها كاملة غالبا بيد أنهم يأمرون غيرهم بإكمالها بهذا الرمز (الآية) وقد درج المؤلف رحمه الله تعالى على هذه القاعدة حيث أنه رمز في كثير من الآيات التي استدل بها في الرسالة بهذا الرمز (الآية) ولم يرسمها كاملة ولكنني لم أنحتها مثل نحته بل رسمتها كاملة إتماما للفائدة حيث أن معظم الناشئين لم يكونوا حفاظا لكتاب الله فإذا أرادوا أن يقرأوا الآية كاملة يضطرون إلى فتح المصحف وهذا يستغرق أوقاتا لا يستهان بها، وأما الآيات التي كررها المؤلف في الاستدلال نحتها كما نحتها وكما أنني في المقدمة التي كتبتها للرسالة رمزت إلى بعض الآيات التي استشهدت بها. والطريق المثلى في رسم الآيات القرآنية كتابتها بالرسم العثماني الأول بيد أني رسمتها بالرسم الإملائي المعهود بين المعاصرين في أغلب الأحيان
خوفا على أكثر القراء الذين لا يتقنون الرسم العثماني من الوقوع في الخطأ في تلاوة كتاب الله كما لوحظ على كثير منه حيث أن الرسم العثماني مختلف المنطوق والمخطوط أحيانا ولا يتأتى إجادة التلاوة إلا بالتلقي وهذا أمر معروف لدى أهل هذا الشأن. وحسما لما يعتقده أكثر الناس من عدم جواز كتابة الآيات القرآنية إلا بالرسم العثماني واعتقاده وجوب ذلك -وحقيقة الأمر هو هذا الاعتقاد- إلا أن ذلك في رسم المصحف كاملا أو بعض الأجزاء القرآنية أو السورة كاملة. وأما الآية أو بعض الآيات التي يستدل بها المؤلفون التي تتداولها أيدي مختلفي الثقافات فأرى وجوب رسمها بالرسم المعاصر صونا لكلام الله من التحريف والتبديل والغلط من قبل الجاهلين لحقيقة هذا الرسم كما ذهب إلى ذلك عز بن عبد السلام رحمه الله تعالى. 6- الأحاديث التي جاءت في صلب الرسالة وقد أورد المؤلف رحمه الله تعالى الأحاديث التي استدل بها في الرسالة دون أن يعزوها إلى مصادرها الأصلية ولم يذكر الرواة الذين رووها ولا درجتها وكان عملي في ذلك أنني خرجتها في الحاشية وبينت درجتها ما استطعت إلى ذلك سبيلا وعزوتها إلى مصادرها الرئيسية التي وردت فيها كما أسندتها إلى رواتبها ومع ذلك لم أستوعبها بذلك حيث أشكل علي بعض المصادر وهي قليلة جدا، ولعلي إن شاء الله سوف أتلافى ذلك في هذا الطبع أو طبع آخر إن شاء الله. 7-الحواشي (الهوامش) ولا شك أن بصمات التحقيق بعد نسخ المخطوطة تتسم في وجود الحواشي حيث أن ذلك يشمل ذكر سور القرآن ورقمها ورقم الآيات التي جاءت مستدلا بها في صلب المتن، وتخريج الأحاديث التي وردت في النص
المحقق، وبيان درجتها من الصحة والضعف وحجيتها وعدمه، وحل المعقد من تراكيب الجمل والألفاظ والعبارات وبيان المشكل من ذلك وشرح الغامض وتوضيح معاني الألفاظ التي لا يظهر معناها بأدنى تأمل. وقد توسعت في التعليق في بعض الصفحات من الحاشية حيث أن المقام قد اقتضى ذلك ولم يسمح لي الاختصار وإن كان هذا التوسع من حيث منهج التحقيق يعتبر إفراطا مملا بيد أن الإسهاب في تعبير الكلام وأداء المراد الذي لا يؤدي إلا به لا يكون مذموما بل هو ممدوح قد اقتضاه التعليق، وأما ما عملته في هذا الجانب فهو متوسط موف بالمقصود على حد قول الشاعر: لها بشر مثل الحرير ومنطق ... رخيم الحواشي لا هواء ولا نزز وعينان قال الله كونا فكانتا ... فعولان بالألباب ما تفعل الخمر والله أعلم بالصواب. 8-الأعلام الذين ذكرهم المؤلف في المخطوطة وقد ترجمت لبعض الأعلام الذين جاء ذكرهم في الرسالة ببيان سنتي مولدهم ووفاتهم، وذكر مؤلفاتهم التي خلفوها تراثا للمسلمين، وأعمالهم التي تقلدوها في حياتهم من التدريس والقضاء والدعوة المباركة التي عملوها والموعظة الحسنة التي أنقذ الحيارى من جرائها حيث أن ذلك يتحتم على المحقق توضيحه، وأما الأعلام المشهورون الذين لا غرابة فيهم ولا تخفى تراجمهم على أفراد الناس فضلا عن العلماء وطلاب العلم فلم أتعرض لتراجمهم باعتبار أن ذلك تحصيل حاصل مثل الأئمة الأربعة أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد وأصحاب الأمهات الست البخاري ومسلم وأبي داود والنسائي والترمذي وابن ماجه، وغيرهم من المشهورين الذي يشار إليهم بالبنان والله أعلم.
9-الكتب التي جاءت أسماؤها في الرسالة فإذا كانت الكتب التي أوردها المؤلف مشهورة فلا أتعرض لذكر موضوعها ولا ذكر مؤلفيها ولا أطلب توثيقها لمؤلفها لأن شهرتها تغني عن ذلك. وأما إذا كانت غريبة فأحاول قدر المستطاع توضيحها بذكر مؤلفها ومضمونها وقيمتها العلمية من بين الكتب التي ألفت في ذلك الفن الذي يدور الحوار فيه. 10-النقط والفواصل والإشارات وقد درجت في ذلك على ما درج عليه المحققون والكتاب من وضع نقطة كبيرة عند انتهاء المعاني في الجمل، ووضع الفواصل بين المتعاطفات، بيد أني قللت من وضع الفواصل بين ذلك عمدا لأنها ليست ذات أهمية قصوى إذ غايتها إشعار الفصل بين الألفاظ والعطف بين الجمل، ويسهل علم ذلك بدونها، واستعملت إشارة الاستفهام؟ والتعجب! في أماكنها، ووضعت نقطتين بعد القول هكذا قال شيخنا: وإذا ورد قولان فأضع نقطتين بعد قال الثانية مثل قال أبو بكر وقال عمر: 11-الأقواس والخطوط والرموز القوسان المزهران يحصران الآيات القرآنية. الفاصلات المزدوجة تحصر أسماء الكتب إذا وردت في النص المنشور. الخطان القصيران يحصران كل زيادة تضاف من نسخة ثانية غير النسخة المعتمدة.
القوسان المكسوران يحصران ما يضيفه الناشر من عنده كحرف أو لفظ يقتضيه السياق. القوسان المربعان يحصران ما يضاف من نصوص ثانية نقلت إلى النص أو استشهدت به وما يضاف من عنوانات جديدة. وهذان القوسان داخل النص يحصران وجه الورقة المخطوطة فيكتب مثلا (15ب) . هذان القوسان داخل النص يحصران ظهر الورقة المخطوطة فيكتب (25ب) . يردف هذان القوسان مع كلمة كذا بما يبهم على المحقق قراءته ويثبت كما ورد. هذه الفقرات البائية من كتاب قواعد تحقيق المخطوطات للدكتور صلاح الدين المنجد لأهميته لعمل التحقيق والله المرجو لجلب الخير ودفع الضير. 12-ترجمة المؤلف رحمه الله تعالى تتضمن هذه الترجمة مولده ونشأته وهجرته من بلده مصر لظروف دعته وأسرته إلى ذلك، والرحلات العلمية التي قام بها في ممارسة التحصيل العلمي الخير والحياة السياسية التي دارت أفلاكها هنا وهناك قوة وضعفا وآخر يوم لقائه لخالقه وإياه نسأل أن يجعل خير أيامنا يوم نلقاه يوم لا ينع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم وهو حسبنا ونعم الوكيل ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم وصلى الله على محمد وعلى آله وأصحابه ومن ترسم خطاهم إلى يوم الدين.
الفصل الثاني: ترجمة المؤلف
الفصل الثاني: ترجمة المؤلف ... ترجمته هو العالم النحرير والزعيم الديني الكبير عبد اللطيف بن الإمام عبد الرحمن بن الشيخ حسن بن شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب، ولد هذا العالم رحمه الله في بلدته (الدرعية) عاصمة (الدولة السلفية) الدولة الإسلامية السعودية وذلك في سنة خمس وعشرين ومائتين وألف للهجرة النبوية 1225هـ. ونشأ وتعلم دروسه الأولى في الكتاتيب المنتشرة في تلك البلدة، وحفظ القرآن الكريم وربي تربية إسلامية كريمة في بيت والده وأعمامه، وكان لتلك التربية أثر كبير في تنشئته وتوجيهه، وما كاد يبلغ السنة الثامنة حتى حلت تلك الكارثة الهوجاء والمصيبة الدهماء ببلدة الدرعية حيث دمرت بأيدي السلطة الغازية وأسقط حكم البلاد بقيادة مجرم الحرب (إبراهيم باشا بن محمد بن علي باشا) ومعه جيش كبير من المرتزقة والخونة وأعداء الدولة السلفية. ومن ثم نقل المترجم له مع والده وعائلته إلى مصر بأمر من الخليفة العثماني وهناك أقام ما يربو على إحدى وثلاثين سنة، وهذه الهجرة كانت فرصة طيبة له على رغم آلامها وأوجاعها المضنية حيث عوضته بما حصل عليه من علم وفضل وبهذا قد انتقل من مربع إلى مرابع العلم ومعهده إلى
معاهد العلم فدخل في مدينة العلم واستقر في دار من دوره فهذا الأزهر الشريف تعقد في جنباته وأروقته حلقات التفسير والحديث والأصول وعلوم القرآن وعلوم الحديث والفقه وأصوله، وعلوم العربية من النحو والصرف والبلاغة وغير ذلك وها هم كبار العلماء متوفرون ليلا ونهارا لإمداد الطلاب بمزيد من العلم والعرفان وها هي المكتبات العامة بنفائس الكتب وذخائر المراجع فصار العلم سلوته في غربته والكتاب جليسه في وحدته والعلماء أنيسه في وحشته فصار يتردد بين بيته والأزهر الشريف فيجد في البيت أباه وعمه وخاله فدرس على جملة من علماء نجد منه جده لأمه الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب وخاله الشيخ عبد الرحمن. وتزوج في مصر وطالت إقامته فيها حتى بلغت واحدا وثلاثين عاما قضاها كلها في العلم تعلما وبحثا ومراجعة ومذاكرة حتى صار من جملة العلماء الكبار وأوعيته الواسعة ولا شك أنه تثقف هذه الثقافة الغزيرة على أيدي رجالا مخلصين حتى استطاعوا أن يكونوا هذه الشخصية الفذة.
الفصل الثالث: ذكر مؤلفاته
الفصل الثالث: ذكر مؤلفاته ... مؤلفاته الفذة ومع انشغاله بالمهام والأعمال الكبيرة ومع حصول هذه الفتنة العمياء الصماء ومع اختطاف المنية له وهو في منتهى قوته ونشاطه وإنتاجه فقد شارك مشاركة كبيرة في المؤلفات إلا أنها في الرد على المبطلين ودحض شبه المنحرفين ففتن السياسة وفتن الإلحاد لم تعطه الفرصة لإتمام شرح النونية وإتمام شرح الكبائر وإخراج كتب أخرى تعالج علوما غريبة أو تقرب مسائل بعيدة. ولذا مؤلفاته رحمه الله هي: 1-منهاج التأسيس في الرد على داود بن جرجس. 2-مصباح الظلام في الرد على من كذب على الشيخ الإمام. 3-البراهين الإسلامية في الرد على الشبهة الفارسية. وهو الذي نحققه الآن. 4-الرد على عبد المحسن الصحافي. 5-عيون الرسائل والمسائل على أن له مجموع رسائل وفتاوى تبلغ إلى ست وسبعين رسالة وقد جمعها الشيخ سليمان بن سمحان.
الفصل الرابع: تلاميذه الذين تلقوا العلم عنه
الفصل الرابع: تلاميذه الذين تلقوا العلم عنه ... تلاميذه ومن تلاميذه الذين تلقوا العلم عنه: 1-ابنه العلامة الشيخ عبد الله 2-أخوه الشيخ إسحق 3-الشيخ حسن بن حسين آل الشيخ 4-الشيخ سليمان بن كمان 5-الشيخ محمد بن محمود 6-الشيخ حمد بن فارس 7-الشيخ صعب التويجري 8-الشيخ محمد بن عمر بن سليم 9-الشيخ عبد الرحمن بن محمد المانع 10-الشيخ محمد بن عبد الله بن سليم 11-الشيخ إبراهيم بن عبد الملك آلا لشيخ 12-الشيخ علي بن عيسى 13-الشيخ أحمد بن عيسى 14-الشيخ عثمان بن عيسى السبيعي 15-الشيخ محمد بن إبراهيم بن يوسف 16-الشيخ عمر بن يوسف 17-الشيخ صالح بن فرناس 18-الشيخ صالح الشهري 19-الشيخ عبد العزيز بن عبد الجبار 20-الشيخ عبد العزيز العديان 21-الشيخ عبد الله الوهيبي 22-الشيخ عبد الله الخرجي 23-الشيخ عبد الله بن جريس وكثير من حملة العلم الكبار هم تلاميذه والآخذون عنه لانفراده في زمنه.
وفاته وثناء أهل الفضل عليه توفي رحمه الله في مدينة الرياض في اليوم الرابع عشر من شهر ذي القعدة عام ثلاثة وتسعين ومائتين وألف للهجرة النبوية 1293هـ وله من العمر يومئذ ثمانية وستون -68- عاما سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين سبحان الحي الذي لا يموت ولا يزول وصلى الله على خير خلقه محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
الفصل الخامس: شيوخه الذين ثقفوه بالثقافة العلمية واللغوية والدينية
الفصل الخامس: شيوخه الذين ثقفوه بالثقافة العلمية واللغوية والدينية ... 3- شيوخه: وممن لهم اليد البيضاء في تثقيفه العلماء النجديون الذين هاجروا إلى مصر في تلك المأساة التركية الباشية مثل: 1-جده لأمه الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب. 2-وخاله الشيخ عبد الرحمن بن عبد الله بن محمد. 3-ووالده الشيخ عبد الرحمن بن حسن. 4-الشيخ أحمد بن حسن بن رشيد المشهور بالحنبلي. كل هؤلاء من النجديين الذين تلقى عنهم في مصر يلقنونه العقيدة الصحيحة ويدرسونه علوم السلف الصالح ويجد في الأزهر بقية من البحث وتدقيق المناقشة واستيعاب ما في المتون والشروح عند حملة ذلك من العلماء الأجلاء ومن هؤلاء العلماء:
1-الشيخ العلامة محمد بن محمود الجزائري. 2-والشيخ العالم الفرضي المعروف إبراهيم الباجوري شيخ الجامع الأزهر آنذاك. 3-والشيخ العالم مصطفى الأزهري. 4-والشيخ أحمد الصعيدي. وغير هؤلاء المذكورين من كبار علماء مصر والمغرب المقيمين في الأزهر ونال إجازات كثيرة من جلة العلماء الأفذاذ وأجيز في مسلسلات الحديث المشهور وعرف آنذاك في الأزهر الشريف بالعالم النجدي وكانت له مجادلات ومناظرات في كتب السلف ومعتقداتهم وقد أشار إليه مؤرخ الجبروتي في تاريخه.
عودته إلى نجد فلما طهرت نجد من الجيش العثماني المحتل ونادى داعي العودة في ربي نجد مستنهضا الهمم في استعادة مجد الدعوة وبناء كيان الدولة الإسلامية السعودية من جديد وكان ذلك المنادي أحد القادة الكبار الإمام تركي بن عبد الله بن مؤسس الدولة الأولى محمد بن سعود، وكان الشيخ عبد اللطيف ووالده الإمام الشيخ عبد الرحمن بن حسن والد المترجم له أول من سارع في الخطو إلى نجد فتقدم أبوه عبد الرحمن بن حسن وتأخر الشيخ عبد اللطيف عنه مدة من الزمن كان مشغولا فيها بطلب العلم واستجلاء الأمر واستيضاح السبيل ثم خرج إلى نجد عام أربعة وستين ومائتين وألف بعد استشهاد الإمام تركي بن عبد الله في حادث اغتيال لئم فتولى السلطة بعده الإمام العادل والزعيم الكبير فيصل بن تركي خرج الشيخ عبد اللطيف من مصر متوجها إلى نجد عن طريق مكة المكرمة. قال صاحب كتاب علماء نجد خلال ستة قرون (الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن بن صالح البسام) :حدثني وجيه الحجاز الشيخ محمد بن حسين بن عمر بن عبد الله نصيف قال: بينما الشيخ عبد اللطيف يطوف بالكعبة بعد انصرافه من القاهرة إلى نجد إذ بصر به أمير مكة الشريف محمد بن عون وهو في بيته المطل على الحرم ومعه عبد الله بن محمد بن عون وهو يومئذ قائم مقام مكة المكرمة، فأرسلا إليه أحد خدامهما يطلبان منه المجيئ إليهما فلما فرغ
الشيخ من طوافه وصلاته ذهب إليهما وكان قد تعارف معهما في مصر فقابلاه بالحفاوة والإكرام وعاتباه على عدم نزوله عندهما فاعتذر إليهما الشيخ عبد اللطيف بقوله: إني خشيت من إمارة مكة أن تردني إلى مصر فطمأناه وتحدثا معه عن صفة خروجه من مصر فقال: اشتقنا إلى بلادنا ووجدنا السبيل إلى الخروج ميسرا فأكرماه بما يليق بمقامه ثم توادعوا لقرب سفر الشيخ إلى نجد. وكان قدومه الرياض -العاصمة الجديدة للمملكة السعودية- عام أربعة وستين ومائتين وألف للهجرة 1264هـ وصاحب السلطة المطلقة يومئذ الإمام فيصل بن تركي في بلاد نجد وأبوه الشيخ عبد الرحمن بن حسن هو المرجع في الشؤون الإسلامية والشرعية. وكان الشيخ عبد الرحمن قد دخل العقد الثامن من عمره واحتاج إلى مساعد قوي يعينه على مهامه الكبيرة الكثيرة وأعماله الجليلة. وكان في مقدمة مستقبليه والمرحبين إيابه يوم قدومه الرياض علما الجهاد ومجددا الدعوة في عصرها الثاني الإمام فيصل ابن الإمام تركي وأبوه الشيخ عبد الرحمن بن حسن ووالده آنذاك رئيس العلماء ومفتي الديار، فاستقر الشيخ المترجم له في مدينة الرياض بعد رحلة شاقة قطعها متنكرا من مصر حتى مدينة الرياض وقد تعرض في تلك الرحلة لمشاق كبيرة وجرت له حوادث طريقه ساعد على تجسيمها وتضخيمها لهجته المصرية التي هي غير مألوفة في نجد ولباسه التنكري الذي أراد منه أن يخلص من سفه جهال البادية وقطاع الطرق المنتشرين في طريقه. وعندما استقر به المقام في الرياض اتخذ من المسجد الكبير المعروف بمسجد الشيخ (عبد الله) مدرسة كبيرة لتدريس مختلف الفنون والعلوم لا سيما تلك العلوم التي لم يشتهر نعليمها في نجد سابقا مثل علوم البلاغة وقواعد الفقه والأصول والتجويد بالإضافة إلى العلوم الأخرى التي كانت معرفة في نجد، وقد عرف حينذاك بسعة الأفق في العلوم وقوة الحافظة والقدرة على التعبير.
رحلته إلى الأحساء عندما دانت الأحساء ونواحيها فلإمام فيصل بن تركي وكانت إذاك مدينة حضرية مزدحمة بالعلماء والأدباء رأى الإمام فيصل أن يبعث ذلك العالم الجليل إليها للقيام بمهمة نشر العقيدة السلفية التي يتردد في قبولها فئة خاصة من العلماء هناك ويرون في مذهب الخلف غنى وعلما أكثر مما في مذهب السلفي وهناك تجرد الشيخ عبد اللطيف لمناظرتهم ومذاكرتهم وتقرير عقيدة السلف بينهم فاستجاب له معضمهم والتقت قوة الفكر بقوة المعتقد فزلزلت العقائد المشوهة وانتشر مذهب السلف أيما انتشار وانتفع بوجوده في الأحساء كثير من العلماء وسمعوا منه وتلقوا عنه علوما لم تكن معروفة في غير الأزهر. مهام وظائفه التي شغلها بعد عودته من الأحساء ثم عاد الشيخ عبد اللطيف إلى مدينة الرياض ليكون مستشارا ومفتيا ومساعدا لوالده الذي بلغ من الكبر حد العجز عن تولي تلك الشؤون فكان عضدا للإمام فيصل ومفتيا له ولم يعرف أن الإمام فيصل خرج في غزوة إلا كان الشيخ عبد اللطيف في رفقته ويصحبه عدد من طلبة العلم ومجموعة من الكتب في الفنون المختلفة. وكان الشيخ عبد اللطيف ينتهز الفرصة في تلك الرحلات فيعظ ويذكر وينشر الدعوة ويعلم الجاهل ويرشد الضال ويتعرف على طبيعة البلاد وسكانها فيمد إمام المسلمين بالرأي والمشاورة. وله صفات ذاتية وفكرية مميزة، فهو أكثر علما ممن سبقه من آل الشيخ باستثناء والده وجده العظيم محمد بن عبد الوهاب، ومن أبرز صفاته الجسدية أنه كان ضخم الجثة قوي البنية سليم الأعضاء والحواس أبيض مشربا بحمرة كث اللحية مستدير الوجه جهوري الصوت حاد البصر، وكان جميل الخط
واضح العبارة فصيح اللسان تغلب على لغته الدارجة اللهجة المصرية الخفيفة. وكان يحب -أحيانا- أن يحافظ على زيه الأزهري، فكثير ما يلذ له أن يلبس العمامة والثوب الفضفاض وكان مهيب الطلعة جسورا في قول الحق وكان ذكر الله وتلاوة القرآن ديدنه يتفانى في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ويحب أن ينصح غيره ويستمع إلى نصيحة غيره وكان يحرر الرسائل الكثيرة المشتملة على المعاني والنصائح القيمة يوجهها إلى العلماء والقضاة والأمراء والملوك وكانت بعض رسائله العامة ونصائحه تتلى في المساجد على العامة بعد أداء فريضة الصلاة في كل مناسبة تجد أو تحدث. وكان الشيخ عبد اللطيف مع علمه الغزير وفضله الكبير سياسيا داهية خبير بشؤون المجتمع وعندما وقعت الفتنة العمياء بين أولاد الإمام فيصل عبد الله الفيصل وسعود الفيصل بعد وفاة والدهما سعى المؤلف إلى إخمادها ولذلك لم يستقر له قرار ولم يهنأ له بال حتى هدأت تلك الفتنة وانجابت تلك الغمة وبذل رحمه الله من ذاته ورأيه في إخمادها ما جعل كل مواطن يذر فضله ويعترف له بالفضل والقدرة وحسن التصرف ولقد طال أمد تلك الفتنة العمياء وامتد زمانها فكانت مليئة بالحزن والأسى والفزع لكنه رحمه الله وقف منها موقف الشرف الذي شهد له بالزعامة والإخلاص والوطنية ويؤخذ من كتاباته التي سجلها في هذه الفترة ومن مجادلاته لغيره من العلماء حول تلك الفتنة أنه كان ينظر إليها من زاوية تختلف عن كل رؤية يراها البسطاء وضعفاء الهمم. وقد كانت نظرته العميقة الشاملة لتلك الفتنة أنها ليست بين أميرين فحسب وإنما كانت أبعد عمقا وأكثر اتساعا فقد كانت تستهدف دك حصون الدعوة وسحق الكيان المتماسك الذي أسسه السادة من آل سعود وكان المؤلف رحمه الله يرى أن الخوف كل الخوف ليس من نزاع الأميرين وإنما يرقب بحذر تحرك الأعداء التقليديين والأعداء الدخلاء المتربصين الجاثمين
على الحدود، لهذا كان يرى أن أيا من ذينك الأميرين استطاع الغلبة وقيادة السفينة وأصبح قادرا على الولاية فإنه أحق من صاحبه لا سيما قد كان كل منهما متحمسا للدعوة وللحفاظ على ذلك التراث العظيم الذي تركه فيصل وقد جاء في إحدى رسائله لمن لامه على هذا المسلك قوله: أما ما صدر في حقي من الغيبة والقدح والاعتراض والمسبة ونسبتي إلى الهوى والعصبية فتلك أعراض انتهكت في ذات الله أعدها لديه جلا وعلى ليوم فقري وفاقتي وليس الكلام فيها وإنما المقصود بيان ما أشكل على الخواص والمنتسبين من طريقتي من تلك الفتنة العمياء الصماء إلى أن قال: فوقاني الله شر تلك الفتنة ولطف بنا وإنما الكلام في بيان ما نراه ونعقده في أمر الولاية بعد الغلبة والقهر فهي تنفذ بها الأحكام وتوجب الطاعة في المعروف كما عليه كافة أهل العلم على تقادم الأعصار ومر الدهور.
نص الكتاب
نص الكتاب ... بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين ولا حول ولا قوة إلا بالله الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى، وبعد. فإن قد وقفت على أوراق كتبها بعض الملحدين يرد فيها بزعمه ما دل عليه الدليل من وجوب إخلاص الدعاء لله وترك مسألة ما سواه من الأنداد والأموات، وكذلك جحد فيها ما قام عليه البرهان ونطق به القرآن من اختصاصه تعالى من علم الغيب، وزعم أن للأولياء والصالحين بعد الممات تصرفا وأنهم يجيبون من قصدهم بالاستغاثة والدعاء (وإعطاء ما اختص به الباري لغيره ورد الشيخ على ذلك) . (قال الناقد الشيخ عبد اللطيف رحمه الله) : وهذه الأقوال التي أوردها والشبه التي صدرها يعلم بطلانها وفسادها بالاضطرار من دين الإسلام وما جاءت به الرسل الكرام ولكن غربة الدين وقلة من يعرفه من المنتسبين قد يروج بسببها الباطل والشرك على الأكثرين. قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه (إنما تنقض عرى الإسلام عروة عروة إذا نشأ في الإسلام من لا يعرف الجاهلية) . فإذا كان عدم معرفة الجاهلية سببا لنقض العرى الإسلامية فما ظنك بمن لا يعرف الإسلام ولا الجاهلية كما هو الغالب في هذه الأوقات.
عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه أخذ (1) حصاة بيضاء فوضعها في كفه ثم قال: هذا الدين قد استضاء استضاءة هذه ثم أخذ كفا من التراب فجعل يذره على الحصاة حتى واراها ثم قال: والذي نفسي بيده ليجيئ أقوام يدفنون هذا الدين كما دفنت هذه الحصاة ولتسلكن طريق الذين كان من قبلكم حذو القذة بالقذة وحذو النعل بالنعل. يشير رضي الله عنه إلى جنس هؤلاء الذين يلقون على عوام الناس وضعفاء البصائر من الشبهات ما يستميلونهم به إلى دعاء غير الله والالتجاء بسواه والاعتماد والتوكل على الأولياء والصالحين، حتى ينسلخ من استجاب لهم من حقائق الملة والدين، ويصير في زمرة الجاهلية والمشركين. وفي حديث ثوبان: (إنما أخاف على أمتي الأئمة المضلين) (2)
(رمى أهل التوحيد بالاعتزال جهلا منه) : قال: وقد زعم أن من آمن بإخلاص الدعاء لله وآمن بأنه علام الغيوب وأنكر أن يكون لأحد من الأموات تصرف في ملك الله يصير معتزليا (وقال) : وكأن الرجل لا يعرف الاعتزال بالمعنى الاصطلاحي. فإن أصل الاعتزال هو القول بالمنزلة بين المنزلتين ثم انضاف إلى هذا القول ما كانت عليه المعتزلة من تعطيل الصفات وجحدها والقول في القدر والجبر ونحو ذلك مما هو معروف عنهم (1)
وأصل التسمية أن عمرو بن عبيد وأصحابه اعتزلوا مجلس الحسن البصري رحمه الله وأظهروا مخالفته. هذا أصل الاعتزال في اصطلاح الفقهاء والمتكلمين، والنظار، وهذا هو الذي يطلق عليه عندهم الاعتزال بالمعنى الاصطلاحي. وأما اعتزال من دعا غير الله والتجأ واعتمد على ذلك الغير لحصول مطلوبه أو دفع مرهوبه فإن اعتزال من فعل هذا والبراءة منه هو دين الإسلام الذي جاء به الرسل الكرام قال تعالى عن خليله إبراهيم: {وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيّاً} (1) . ولله در الإمام الشافعي رحمه الله، حيث يقول: يا راكبا قف بالمحصب من مني ... واهتف بجانب خيفها والناهضي إن كان رفضا حب آل محمد ... فليشهد الثقلان أني رافضي (2) وكانت الجاهلية تسمي رسول الله صلى الله عليه وسلم الصابيء وتقول صبأ محمد لما فارق دينهم وما هم عليه من عبادة الملائكة والصالحين والأوثان وكان أبو
جهل يتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الموسم وهو يدعو الناس إلى أن يمنعوه (1) لئلا
يبلغ كلام ربه ويقول: لا تطيعون هذا الصابئ، ومعنى الصابئ قريب من معنى المعتزلي. (قال الشيخ عبد اللطيف رحمه الله) : قال المعترض: فصل ونحمدك يا واجب الوجود، (وقال الراد رحمه الله) : هذا القول الذي صدر به رسالته وهذه العبارة لا تعرف في كلام الله الذي لا يضل من اتبعه ولا يشقى ولا في كلام رسوله الكريم الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى ولا في كلام أحد من أئمة الإسلام والهدى وإنما أخذها بعض المصنفين عن أهل الكلام. والمناطقة الذين أعرضوا في باب معرفة الله وإثبات وجوده وربوبيته عن الكتاب والسنة وما درج عليه أهل العلم والإيمان من سلف الأمة واعتمدوا في هذا الباب على مجرد الأقيسة الكلامية والمقدمات المنطقية، وأول من عرفت عنه هذه العبارة هو ابن سينا الطبيب المتكلم وخالف سلفه (1) في التعبير بهذا فإنه قسم الوجود إلى واجب
وممكن وجعل الممكن مستلزما للواجب لكنه قال: الواجب لا يكون إلا
واحدا فلا يكون له صفة ثبوته فسلبه صفات الكمال ونعوت الجلال ونعته هو ومن وافقه بالسلوب التي تقتضي أنه واجب العدم وهؤلاء أصابهم في لفظ واجب الوجود ما أصاب القدرية في القديم (1) والحادث والفلاسفة الذين يسندون الحوادث إلى الفلك يقولون بواجب الوجود، لكنه عندهم علم كل حال واحد في الأزل إلى الأبد يمتنع أن يصدر عنه حادث.
والواجب في هذا الباب وغيره اتباع ما جاء في كتاب الله والتعبير بالعبارة الشرعية التي دل عليها الكتاب والسنة وترك المتشابه من الكلام، ونحن لا ننكر أن العقل يوجب وجود رب قادر قاهر حكيم خلاق رزاق وهذا تقتضيه العقول السليمة وتوجبه الفطر المستقيمة كما دل عليه كتاب الله في غير موضع. وهؤلاء لا يعنون هذا بل يوافقون ابن سينا وشيعته على سلب الصفات، ومن صح قصده فعليه أن يعبر بالعبارة الشرعية ويختار الوصف الذي اختاره الرب لنفسه والتعبير بالاسم الكريم المتناهي في التنزيه والتقديس (1) المستلزم لجميع صفات الكمال ونعوت الجلال. قال الله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (2) وقال جلا وعلا: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} (3) وقال: {الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (4) ونحو ذلك كثير مما يدل على تعليق الحمد بهذا الاسم الأقدس الموصوف بجميل الصفات والنعوت وقد يعلق الحمد بغيره سواء كان جملة إسمية أو فعلية وما جاء في كتاب الله أكمل وأتم. (قال الناقد رحمه الله تعالى) : (فصل رمي أهل التوحيد الذين أنكروا الاستغاثة بغير الله بالاعتزال) . (قال الناقد رحمه الله تعالى) : قال المعترض: اعلم أن المنكرين للاستمداد من أهل القبور أهل
الاعتزال مطلقا وبعض الفقهاء من أهل السنة فيما عدا الأنبياء عليهم السلام وقد ظهرت طائفة أفرطوا في الإنكار فأردت أن أورد في هذه الأوراق شبهاتهم الدائرة على ألسنتهم مع الأجوبة وأورد أدلة لإثبات ما ينفونه (قال الشيخ عبد اللطيف رحمه الله) والجواب عن هذا أن يقال: هذا الكلام يشهد بجهالة قائله وضلاله وإفلاسه من العلم والهدى فإن هذه العبارة لا تصدر عمن عرف الإسلام والتوحيد ولا من عرف الاعتزال والسنة، وما يراد بهما عند أهل العلم، فإن الاستمداد من الأموات ودعائهم هو طلب المدد بما شأنه أن يستمد ويطلب فيدخل تحت هذه العبارة كل مطلوب ومرغوب من أمر الدنيا والآخرة وهذا هو دين المشركين من الكتابيين والأميين، قال تعالى فيمن دعا الأنبياء والملائكة والصالحين واستمد منهم: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً} (1) . قالت (2) طائفة (3) من السلف: نزلت هذه الآية فيمن يدعوا الملائكة والمسيح وأمه وعزيرا وصالح الجن فأخبرهم تعالى أن هؤلاء المدعوين عبيده كما أن الداعين لهم كذلك يرجون رحمته ويخافون عذابه، ومن كانت هذه حاله وهذا نعته فلا يدعي مع الله ولا يرجى من دونه لأن الدعاء هو العبادة
وهي حق الله لا يليق صرفها لغيره لكمال غناه، وعلمه وقدسيته ورحمته وقيوميته وانفراده بالتأثير والتدبير وقال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} (1) . (قال الشيخ رحمه الله تعالى) : قال بعض السلف: هذه الآية تقطع عروق الشرك فإنه تعالى نفى عمن دعاه المشركون أن يكون له من الملك شيء ولو مثقال ذرة ونفى مشاركته ولو قلت ونفى أن يكون له ظهير يعاونه ويؤازره لكمال غناه وعلمه ورحمته وعموم قيوميته ثم نفى الشفاعة عنده إلا لمن أذن له ففي هذا من صرف الوجوه إليه وترك التعلق على غيره (2) كائنا من كان ما لا يخفى على من عقل عن الله، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ} (3) . فذكر عجزهم عن خلق الذباب الذي هو من أضعف المخلوقات وأخبر أنه لو سلبهم شيئا لم استطاعوا استنقاذه منه وهذا غاية في الحجة والبيان وتقرير ضعف من دعا مع الله ممن يستمد منه عباد القبور ومن يدعوا الأموات لأن العجز عن خلق الذباب وصف مشترك بين جميع المخلوقات، فدلت هذه الآية الكريمة مع اختصار لفظها على إبطال دعوة كل مخلوق وقررت دليله بذكر العجز عن خلق الذباب واستنقاذ ما سلب فأي شيء يستمد ويطلب ممن هذا حاله؟، فالحمد لله الذي جعل كتابه تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة
وبشرى للمسلمين، وقال تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} (1) . وطلب الاستمداد دعاء بإجماع أهل اللغة والمفسرين قال تعالى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} (2) فأمر بدعائه وندب عباده إليه، كما قال في الآية الأخرى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} (3) . ومن دعا الناس إلى الاستمداد من الأموات ودعاءهم فقد شاق الله ورسوله وسعى في صرف الوجوه عن مسألة باريها وفاطرها إلى مسألة مخلوق ضعيف لا يملك ولا يستطيع لنفسه نفعا ولا ضرا وكيف يجيز لاستمداد من الأموات؟ (4) والرغبة إليهم من يؤمن بما أنزل الله من الكتاب والحكمة؟ قال تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} (5) قيل معناها: سلوني أعطكم، وقيل معناها: اعبدوني أثبكم، والقولان متلازمان لأن كل سائل عابد وكل عابد سائل، وقال تعالى: {يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمّىً ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} (6) فنفى عنهم الملك لشيء وإن قل كالقطمير الذي هو قشر النواة، وذكر أنهم لا يسمعون دعاءهم (7) وأنهم لو سمعوا على سبيل الفرض والتقدير ما استجابوا لداعيهم، فأي استمداد يبقى بعد هذا لو كانوا
يعلمون فكل من سمع هذا وله قلب يعقل به لابد أن يعرف ويستيقن أن هذا غاية في البيان والكشف عن حال من استمد منه المشركون أو زعموا أن له تصرفا أو شفاعة ترجى منه وتطلب، وقال تعالى: {فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} (1) فأمر عباده بإخلاص الدين له والدعاء، وطلب الاستمداد من أكبر أصول الدين، فمن صرفه لغيره تعالى فهو غير مخلص له الدين لأن الدعاء من أجل العبادات وأفضل الطاعات كما في حديث النعمان بن بشير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الدعاء هو العبادة" (2) وفي حديث أنس: "الدعاء مخ العبادة" (3) وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "الدعاء سلاح المؤمن وعماد الدين" (4) ، وبهذا نعلم أن من أجاز صرفه للأموات فهو ممن يجيز دين المشركين وأن يعدل (5) لله رب العالمين. وذكر البخاري رحمه الله وغيره أن عمر رضي الله عنه استسقى بالعباس في خلافته ولم يستمد السقيا من رسول الله صلى الله عليه وسلم وكلهم أقره ورضيه ومضت السنة على ذلك سلفا وخلفا ولم ينقل عن أحد ممن يعتد به عند المسلمين حرف واحد يدل على جواز الاستمداد من الأموات بل لما وقع بعد القرون المفضلة من العامة استمداد الأموات كفرهم أهل العلم والإيمان وأنكروه أشد
الإنكار وذكروا أنه فعل عابد الأصنام قال الإمام ابن عقيل (1) في (فنونه) : لما صعبت التكاليف على الجهال والطغام عدلوا عن أوضاع الشرع إلى تعظيم أوضاع وضعوها هم لأنفسهم فسهلت عليهم إذ لم يدخلوا بها تحت أمر غيرهم وهم عندي كفار بهذه الأوضاع مثل تعظيم القبور وتخليقها وطلب الحوائج من الموتى، ودس الرقاع في القبور، فيها يا مولاي افعل بي كذا، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: من جعل بينه وبين الله وسائط يدعوهم ويسألهم ويتوكل عليهم كفر إجماعا فحكى الإجماع على كفر من فعله. وقال الإمام الحافظ ابن عبد الهادي في رده على السبكي: قوله أي قول السبكي: المبالغة في تعظيمه أي تعظيم الرسول صلى الله عليه وسلم واجبة، يريد بها المبالغة بحسب ما يراه كل أحد تعظيما حتى الحج إلى قبره والسجود له والطواف به واعتقاد أنه يعلم الغيب وأنه يعطي ويمنع ويملك لمن استغاث به من دون الله الضر والنفع وأنه يقضي الحوائج للسائلين ويفرج كربات المكروبين، وأنه يشفع فيمن يشاء، ويدخل من يشاء الجنة، فدعوى المبالغة في هذا التعظيم مبالغة في الشرك (2)
وانسلاخ من جملة الدين، وهذا اعتقاد عباد القبور فيمن هو دون الرسول صلى الله عليه وسلم فضلا عن الرسول، والأمر أعظم وأطم من ذلك. وفي الفتاوى البزازية من كتب الحنفية قال علماؤنا من قال: أرواح المشايخ حاضرة تعلم يكفر، فإن أراد بالعلماء علماء الشريعة فهو حكاية للإجماع على كفر معتقد ذلك وإن أراد علماء الحنفية خاصة فهو حكاية لاتفاقهم. وفي شروح الدر المختار الذي هو عمدة الحنفية في هذه الأعصار: التشنيع والتشديد في ما أحدثه العامة عند قبر أحمد البدوي (1) من التعظيم وطلب الحوائج وإرخاء الستور وقال صنع الله الحلبي الحنفي في كتابه الذي ألفه في الرد على من ادعى أن للأولياء تصرفات في حياتهم وبعد الممات، ويستغاث بهم في الشدائد والبليات، وبهم تكشف المهمات، فيأتون قبورهم وينادونهم في قضاء حوائجهم (2) مستدلين على أن ذلك منهم كرامة، وقالوا:
منهم الأبدال ونقباء وأوتاد، ونجباء وسبعون وسبعة، وأربعون وأربعة، والقطب هو الغوث للناس وعليه المدار بلا التباس وجوزوا لهم الذبح والنذور، وأثبتوا فيهما الأجور وقال: وهذا الكلام فيه تفريط وإفراط بل فيه الهلاك الأبدي، والعذاب السرمدي، لما فيه من روائج الشرك المحقق ومضادة الكتاب العزيز المصدق، ومخالف لعقائد الأئمة وما اجتمعت عليه الأمة. وفي التنزيل: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً} (1) إلى أن قال: (الفصل الأول فيما انتحلوه من الإفك الوخيم والشرك العظيم، إلى أن قال: فأما قولهم: (إن للأولياء تصرفات في حياتهم وبعد الممات) فيرده قوله تعالى: {أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ} (2) وقوله: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} (3) ولله ملك السماوات والأرض ونحوه من الآيات الدالة على أنه المنفرد بالخلق والتدبير والتصرف والتقدير ولا شيء لغيره في شيء بوجه من الوجوه فالكل تحت ملكه وقهره تصرفا وملكا وإحياء وإماتة وخلقا وتمدح الرب بانفراده في ملكه بآيات من كتابه كقوله تعالى: {هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} (4) {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ} (5) ، وذكر آيات في هذا المعنى ثم قال: فقوله تعالى في الآيات كلها: {مِنْ دُونِهِ} أي من غيره فإنه عام يدخل فيه من اعتقدته من ولي، وشيطان تستمد، فإن من لم يقدر على نصر نفسه كيف يمد غيره؟ إلى أن قال: فكيف يتصرف لغيره من لا يمكن أن يتصرف لنفسه؟ إن هذا من السفاهة لقول وخيم وشرك عظيم إلى أن قال: وأما القول: بالتصرف بعد الممات فهو أشنع وأبدع من القول بالتصرف في
الحياة، قال جل ذكره: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} (1) وقال جل وعلا: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} (2) . {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} (3) ، {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} (4) ، وفي الحديث: "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له (5) . فجميع ذلك هو ونحوه دال على انقطاع الحس والحركة من الميت، فإن أرواحهم ممسكة، وإن أعمالهم منقطعة عن زيادة ونقصان، فدل ذلك على أن ليس للميت تصرف في ذاته فضلا عن غيره بحركة، وأن روحه محبوسة مرهونة بعملها من خير وشر فإذا عجز عن حركة نفسه فكيف يتصرف في غيره؟ فالله سبحانه يخبر أن الأرواح عنده وهؤلاء الملحدون يقولون إن الأرواح مطلقة متصرفة، {قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} (6) قال: وأما اعتقادهم أن هذه التصرفات لهم من الكرامات فهو من المغلطة لأن الكرامة شيء من عند الله يكرم بها أوليائه لا قصد لهم فيه ولا تحري ولا قدرة ولا علم، كما في قصة مريم بنت عمران، وأسيد بن خضير وأبي مسلم الخولاني (7)
قال: وأما قولهم يستغاث بهم في الشدائد، فهذا أقبح مما قبله، وأبدع لمصادمة قوله جل ذكره: {َمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ} (1) . وقال جل وعلا: {قلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ} (2) وذكر آيات في هذا المعنى ثم قال: فإنه جل ذكره قرر أنه الكاشف
للضر لا غيره وأنه المتعين لكشف الشدائد والكرب، وأنه المنفرد بإجابة المضطرين، وأنه المستغاث لذلك كله، وأنه القادر على دفع الضر والقادر على إيصال الخير فهو المنفرد بذلك فإذا تعين هو جل ذكره خرج غيره من ملك ونبي وولي، قال: الاستغاثة تجوز في الأسباب الظاهرة العادية من الأمور الحسية في قتال أو إدراك عدو أو سبع ونحوهم كقولهم يا لزيد ويا لقوم للمسلمين (1) ، كما ذكروا ذلك في كتب النحو بحسب الأسباب الظاهرة بالفعل، وأما الاستغاثة بالقوة والتأثير أو في الأمور المعنوية من الشدائد من المرض وخوف الغرق والضيق والفقر وطلب الرزق ونحوه فمن خصائص الله فلا يطلب فيها غيره. قال: وأما كونهم معتقدين التأثير منهم في قضاء حاجاتهم كما تفعله جاهلية العرب والصوفية الجهال وينادونهم ويستنجدون بهم فهذا من المنكرات إلى أن قال: من اعتقد أن لغير الله من نبي أو ولي أو روح أو غير ذلك في كشف كربة وقضاء حاجة تأثيرا فقد وقع في واد جهل خطير فهو على شفا حفرة من السعير. وأما كونهم مستدلين على أن ذلك منهم كرامات فحاشا لله أن يكون أولياء الله بهذه المثابة فهذا ظن أهل الأوثان كذلك أخبر الرحمن: {هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} (2) . وقال أيضا: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ
فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} (1) . {أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنْقِذُونِ} (2) ، فإن ذكر ما ليس من شأنه النفع ولا دفع الضر من نبي وولي وغيره على وجه الإمداد منه إشراك مع الله، إذ لا قادر على الدفع غيره ولا خير إلا خيره، قال: وأما ما قالوه: من أن منهم أبدالا ونقباء وأوتاد ونجباء وسبعين وسبعة وأربعين وأربعة، والقطب هو الغوث للناس فهذا من موضوعات إفكهم كما ذكره القاضي المحدث ابن العربي في سراج المريدين، وابن الجوزي، وابن تيمية انتهى باختصار. ومثل هذا يوجد في كلام غيرهم من العلماء، والمقصود أن أهل العلم ما زالوا ينكرون هذه الأمور ويبينون أنها شرك، وإن كان بعض المتأخرين ممن ينسب إلى العلم والدين ممن أصيب في عقله ودينه قد يرخص في بعض هذه الأمور وهو مخطئ في ذلك، ضال مخالف كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وإجماع المسلمين فكل واحد مأخوذ من قوله ومتروك إلا قول ربنا وقول رسوله صلى الله عليه وسلم فإن ذلك لا يتطرق إليه الخطأ بحال، بل واجب على الخلق إتباعه في كل زمان، على أنه لو أجمع المتأخرون على جواز هذا لم يعتد بإجماعهم المخالف لكلام الله، وكلام رسوله في محل النزاع لأنه إجماع غير معصوم، بل هو من زلة العالم التي حذرنا من اتباعها. وأما الإجماع المعصوم فهو إجماع الصحابة والتابعين وما وافقه وهو السواد الأعظم الذي ورد الحث على اتباعه وإن لم يكن عليه إلا الغرباء الذين أخبر بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: "بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدا فطوبى للغرباء" (3) لا ما كان عليه العوام والطغام، والخلف المتأخرون الذين يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون.
تنبيه
تنبيه اعلم أن المشركين الأولين لا يقولون بجواز الاستمداد في كل شيء، وكل مطلوب كما تقتضيه عبارة هذا المعترض لأن الله تعالى حكى عنهم في كتابه أنهم يخلصون الدعاء والطلب في الشدة والضراء كما قال تعالى: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْأِنْسَانُ كَفُوراً} (1) وقال: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} (2) . وبهذا نعلم أن قول هذا المعترض شر من قول المشركين الأولين والله تعالى المستعان وسيأتي مزيدا لهذا عند الكلام على مسألة التصرف إن شاء الله تعالى، وقوله إن المنكرين للاستمداد مطلقا معتزلة ومن قصره على الأنبياء ليس معتزليا، وأظنه سمع إنكار المعتزلة للكرامات وإثبات بعضهم المعجزات فقط فظن أن هذه هي مسألة الاستمداد، وهذا جهل عظيم وخلط وخيم، بل مسألة الاستمداد من الأموات نوع من الشرك الأكبر الذي لا يغفر ولم يجزه أحد ممن ينتسب إلى الإسلام لا المعتزلة ولا غيرهم بل كلهم مجمعون على تكفير من فعله كما تقدمت حكاية الإجماع عن شيخ الإسلام
وليس هذا من المسائل التي تختلف فيها الأمة سنيهم وبدعيهم بل هذه من أكبر دعائم الملة وأعظم أركان الإسلام لا يخالف فيها من عرف الإسلام وما جاءت به الرسل الكرام ولكن الرجل غلبت عليه العجمة فلم يفرق بين الاعتزال وبين الشرك الذي هو الاستمداد من غير الله، قال الحسن رحمه الله: دهمتهم العجمة (1) ، وقال أبو عمر وابن العلاء لعمر وابن عبيد: لما قال له: إن الله لا يخلف وعده قال له: من العجمة أتيت إن هذا وعيد لا وعد وأنشده: وإني وإن أوعدته أو وعدته ... لمخلف إيعادي ومنجز موعدي قال المعترض: الشبهة الأولى أن الموتى لا سماع لهم) ، لقوله تعالى: {وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ} (2) وقوله تعالى: {إِنَّكَ لا تُسْمِع ُ
الْمَوْتَى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ} (1) . وإذ لا سماع لهم فلا استمداد، وهكذا نقل المعترض ثم قال: وأجيب على أن الآيتين لا تدلان على نفي السماع من الأموات لأن مبناهما على التشبيه والتمثيل والمراد هنا الكفار حقيقة، ووجه الشبه عدم الانتفاع بالسماع، وعدم الإجابة، فكما أن الأموات لا ينتفعون بسماع ولا يجيبون كذلك الكفار لا ينتفعون بسماع الموعظة، ولا يجيبون للحق فيتبعونه فكأنهم أموات، قال صاحب معالم التنزيل (2) في تفسيره قوله تعالى: {إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} أي الكفار، وقال القاضي في تفسيره في سورة النمل: إنما شبهوا بالموتى لعدم انتفاعهم لما يتلى عليهم كما شبهوا بالصم في قوله تعالى: {وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ} فإن إسماعهم في هذا الحال أبعد. ثم ساق حديث قتادة في سماع أهل القليب، وحديثا في سماع الميت كقرع النعال وحديث بريدة، وحديث ابن عباس في التسليم على الموتى. وأطال الكلام بما لا طائل تحته، وكلامه يدل على عدم علم قائله وعدم شعوره بأدلة خصمه، فإن نفي الاستمداد من الموتى ودعائهم عليه من الأدلة ما لا يمكن حصره ولا استقصائه. وعبارته التي ساقها في نفي انتفاع الموتى بالسماع، وبما يتلى عليهم
كافية في إبطال الاستمداد من الموتى، وطلبهم، والاستعانة بهم وهذا والله أعلم هو مراد من نفي السماع عنهم ممن حكى قولهم الفارسي وتصدى للرد عليهم، ولا نعلم قائلا ينفي سماع الموتى إلا بهذا المعنى. وما حكي عن أم المؤمنين في إنكار السماع ثبت رجوعها عنه لما بلغتها الأحاديث المثبتة فإذا عرفت أن نفي السماع يطلق على من لم ينتفع ولا يجيب وعرفت أن هذا هو الوجه في تشبيه من لم ينتفع بسماع آيات الله من الكفار والفساق بالموتى عرفت حينئذ وتبين لك أن عدم انتفاع الأموات بالسماع من أوضح الحجج والبيانات على أن الميت لا يدعى ولا يستمد منه لأنه إذا ثبت أنه لا ينتفع وأنه هو المشبه به بطل استمداده، واستحالة إجابته. وفي الحديث الصحيح: "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث، صدقة جارية أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له" (1) فإذا انقطع عمله وكسبه لنفسه وعجز عن ذلك، وحيل بينه وبينه فكيف يمد غيره؟ ويتصرف في شيء من ملك الله: {سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ} (2) . واعلم أن مسألة السماع فيها كلام للمحققين لا يحيط به علما إلا من فقه عن الله قلبه ودق في باب العلم نظره، وفهمه، وأما غليظ الطبع، قليل العلم باللسان فهو بعيد عن إدراك هذا الشأن، فتأمل قوله تعالى: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} (3)
فإن هذا فيه دعوى نفي الإجابة فقط مع بقاء أصل السماع لئلا يتحد فعل الشرط وجوابه، والأظهر أن سماع الميت مقيد بحال دون حال لا في جميع حالاته كما يشير إليه قول قتادة من أهل القليب، وحال الأموات يختلف اختلافا كبيرا (1) . وللأرواح بعد مفارقة هذا الجسم شأن لا يحيط بتفصيله إلا الله تعالى، وأيضا فالفرق بين القرب والبعد ثابت عند الأئمة (2) القائلين بسماع الموتى، ومن زعم أم الاستمداد منهم جائز لا يفرق بين القريب والبعيد كما هو مشاهد ممن يدعوا الأنبياء والصالحين ويستمد منهم، وأفضل الخلق صلى الله عليه وسلم قد ثبت أنه يبلغ صلاة أمته مع البعد عن قبره ولا يسمعه فكيف بغيره؟ والاستمداد من الأموات هو أصل شرك العالم وضلالهم (3) كما ذكر غير واحد في تفسير قوله تعالى: {وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلا سُوَاعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً} (4) . فإن هذه الأسماء رجال صالحين كانوا في قوم نوح فماتوا فعكفوا على قبورهم وصوروا تماثيلهم بقصد التشويق إلى العبادة ومحبة الصالحين فلما مات أولئك ونسي العلم قال من بعدهم إنما كانوا يعبدونهم وبهم يسقون المطر فعبدوهم. وهو كما ترى صريحا (5) في أنهم عبدوا لأجل الاستمداد واستسقاء
المطر، وذكر أبو الجوزاء عن ابن عباس (1) في قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى} (2) قال كان اللات رجل يلت السويق للحجاج فعكفوا على قبره انتهى، ولم يقصد هؤلاء سوى الاستمداد بالموتى والصالحين، وطلب جاههم وشفاعتهم، ولولا ذلك لم تعبد وهذا مطلوب كل مشرك كما قال الفرابي وابن سينا وغيرهما من أكابر المشركين: إن الميت المقرب يفيض على روحه إفاضات فإذا علق الزائر قلبه وهمته به فاض على روح الزائرين من روح المزورين تلك الإفاضات كما ينعكس النور والشعاع من الجسم الصافي في المقابل، وهذا محض الشرك والكفر فإن تعليق القلب والهمة بغير الله والإقبال على سواه تعالى هو عين الشرك الأكبر الذي أنكره القرآن وكفر أهله وأباح دمائهم وأموالهم لأهل التوحيد والإيمان قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ} (3) وقال تعالى: {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ} (4) وقال عن شعيب: {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} (5) والفرابي (6) وابن سينا من عباد الكواكب ومن الدعاة إلى دين الصابئة المشركين الذين بعث فيهم إبراهيم الخليل كما يعرف ذلك من وقف على كلامه.
تتمة ما تقدم لك من حكاية قول المشركين واستمدادهم بالموتى والصالحين أخف ضررا وأقل كفرا ممن قال: يستمد من الأولياء والصالحين كما زعمه الفارسي فإن هذا شرك في الربوبية والتدبير وذاك شرك في الألوهية والعبادة فلا تغفل عن غليظ شركهم وعظيم إفكهم. فصل قال الفارسي: الشبهة الثانية أن الموتى لا علم لهم بأحوالنا لأن العلم بالغيب مختص به تعالى ليس لغيره لقوله تعالى: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} (1) وقوله تعالى: {قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ} (2) وقوله تعالى: {قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} (3) ، وقوله تعالى: {وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ
لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (1) ، إلى غير ذلك من الآيات مما يدل على نفي الغيب عما سواه تعالى. وإذا كان كذلك فكيف يستمد مما لا علم له بأحوالنا خصوصا بعد الموت؟ " قال الشيخ المحقق عبد اللطيف ". قال المعترض: وأجيب بأنها إنما تدل على ثبوت العلم بالغيب له تعالى لذاته بذاته بمعنى أنه لا يحصل له من غيره ولا تدل عن نفيه من عباده مطلقا بل يجوز أن يحصل لهم مستفادا من الله بأن يخلقه تعالى فيهم بلا سبب أو بالأسباب الخفية كالوحي والإلهام والرؤيا الصالحة والمشاهدة الحقة كما يدل عليه الاستثناء في قوله تعالى: {وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلا يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} (2) . وقوله تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً} (3) قال القاضي في تفسيره (4) الأول إلا بما شاء أن يعلم وقال في تفسيره الثاني من رسول بيان لمن، قال: واستدل به على إبطال الكرامات وجوابه تخصيص الرسول بالملك والإظهار بما يكون بغير واسطة، وكرامات الأولياء بإطلاعهم على المغيبات إنما يكون تلقيا من الملائكة كاطلاعنا على أحوال الآخرة بواسطة الأنبياء عليهم السلام انتهى. ثم ساق الفارسي ما جاء في مناقب عمر رضي الله عنه أنه رأى سارية من مسافة بعيدة لا يرى ولا يسمع من مثلها في العادة فناداها يا سارية الجبل، ثم قال: إذا علمت أن العلم (5) قد يحصل لعباد الله الصالحين
بإعطائه إياه، والعلم صفة للنفس ينعم الله تعالى عليهم بها وهي باقية بعد مفارقة البدن فيجوز أن يكون حاصلا لهم بعدها على وجه أتم وأكمل لأنها بعد المفارقة تتخلص عن الكدورات البدنية وتنقشع عنهما الظلمات الجسمية، {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (1) . فكيف بقوم يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم حتى اشتعلت في قلوبهم من كثرة الذكر نار الشوق والمحبة واشتد حبهم يوما فيوما فزادوا حبا على حبهم وشوقا على شوقهم فيصيروا فانين في الله باقين به فبالله يسمعون وبه يبصرون وبه يبطشون ذلك فض الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم. وإذا كان حالهم في الحياة كما ذكرنا فأي سبب حدث وأزال عنهم كراماتهم؟، قال الله تعالى: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} (2) أي الذين يتولونه بالطاعة، ويتولاهم بالكرامة لا يلحقهم مكروه ولا يفوتهم مأمول، هكذا فسره القاضي في تفسيره ثم ساق الفارسي آثارا تروى منها حديث أنس في عرض أعمال الأحياء على أقاربهم وعشائرهم من الموتى، وحديث أبي أيوب، وحديث جابر، وحديث النعمان. والمعنى متقارب، ثم ذكر عن المشكاة: إذا قال العبد: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين أصاب كل عبد صالح في السماء والأرض، ثم قال الملا قاري (3) في المرقاة في شرح قوله صلى الله عليه وسلم: "ولا تجعلوا قبري عيدا فإن
صلاتكم تبلغني حيث كنتم" إنه قال القاضي: وذلك أن النفوس الزاكية القدسية إذا تجردت عن العلائق البدنية عرجت واتصلت بالملأ الأعلى ةلم يبقى لها حجاب فترى الكل كالمشاهدة بنفسها أو إخبار الملك من السر له وأيضا قال في المرقاة في شرح حديث: "إن من أفضل أيامكم يوم الجمعة فأكثروا علي فيه من الصلاة فإن صلاتكم معروضة علي": يعني على وجه القول فيه وإلى فهي دائما تعرض عليه بواسطة الملائكة إلا عند روضته فيسمعها بحضرته ثم قال في شرح آخر الحديث: وأما على ما قدمه الطيب فإنما يفيد حصر العرض والسماع بعد الموت بالأنبياء عليهم الصلاة والسلام وليس المر كذلك فإن سائر الأموات أيضا يسمعون السلام والكلام وتعرض عليهم أعمال أقاربهم في بعض الأيام انتهى المقصود من كلامه (قال المدرك رحمه الله) : والجواب وبالله التوفيق أن يقال: هذه المسألة بينها الله تعالى في كتابه بيانا شافيا بنصوص صريحة لا تحتمل التأويل ولا تقبل التحريف والتبديل، وتأويل هذا الفارسي لتلك النصوص من جنس تأويل الجهمية لآيات الصفات وأحاديثها، ومن جنس تحريف القرامطة والباطنية لآيات الأمر والنهي والوعد والوعيد ومتى سلط التأويل على أديان الرسل وما جاؤوا به من عند الله لم يبق شيء منها فنعوذ بالله من الحور بعد الكور ومن الضلال بعد الهدى ومن الغي بعد الرشاد قال تعالى: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ} (1) الآية، وقال جل وعلا: {قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ} (2) الآية، وقال سبحانه: {قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} (3) الآية
وقال لنبيه: {قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرّاً إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (1) ، وقال: {وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (2) ، وقال جل وعلا: {وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} (3) ، وقال: {سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ} (4) ، وقال تعالى: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} (5) . فمدح الله تعال نفسه وأثنى عليها بانفراده واختصاصه بعلم الغيب دون خلقه فإن كمال العلم وإحاطته بجميع المعلومات كلياتها وجزئياتها وصف كمال استحق به تعالى أن يطاع ويتقى ويرجى ويعبد. وعلم الخلائق أجمعين بالنسبة إلى علمه تعالى كنسبة ما يأخذه العصفور في منقاره من البحار كما في قصة موسى والخضر أنهما لما ركبا في السفينة جاء عصفور فنقر في البحر فقال الخضر: ما نقص علمي وعلمك من علم الله إلا كما ينقص هذا العصفور من البحر فمن تقرر هذا لديه وآمن بما دل عليه لم يلتفت إلى تحريف معطل ولا إلى رأي مجادل مبطل. فقول هذا الفارسي وأمثاله إنها إنما تدل على ثبوت العلم بالغيب له تعالى لذته بذاته بمعنى أنه لا يحصل له من غيره ولا تدل على نفيه من عباده
مطلقا قول باطل وتحريف عاطل فإن بعض هذه الآيات صريحة في النفي عن غيره تعالى وإثبات ذلك له تعالى فدلت على أمرين نفي وإثبات وحق وعدل كما دلت عليه كلمة الإخلاص ومن قال: إن المعنى أنه يعلم بنفسه وليس في ذلك نفي عمن سواه تعالى فهو كمن يقول: إن لا إله إلا الله دلت على إثبات إلهيته وليس فيها نفي لإلهية غيره تعالى الله عن قول هؤلاء علوا كبيرا، وهذا التحريف من وحي الشيطان الذي قصد به رد ما جاء به كتاب الله وسنة رسوله، ومن دان به فقد انسلخ من الإسلام والعياذ بالله ولا يمر على سمع الموحد أسذج من هذا التحريف وأشنع منه. ومن الذي ادعى أن علمه تعالى حاصل له من غيره؟ حتى يقصد رد قوله بهذه الآيات؟ هذا لا يقوله أحد ممن أثبت للعالم صانعا مدبرا وأين قوله تعالى: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ} (1) ، من هذا المعنى الذي أورده الفارسي؟ فإن صريح الآية نفي علم مفاتح الغيب عن غيره وكذلك قوله تعالى: {قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} (2) ، فيه نفي علمه عن كل من في السماوات والأرض الغيب إلا الله تعالى، وهي صريحة في النفي عن غيره كالتي قبلها فكلاهما دل على معنيين: ثبوت علمه بذاته ونفي ذلك عمن سواه، وأبطل شيء قول الفارسي بأنها لا تدل على نفيه عن عباده وكذلك قوله لنبيه: {قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ} (3) الآية صريحة في نفي علم الغيب عن سيد ولد آدم فضلا عن غيره وكذلك قوله تعالى: {وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} (4) ، تقدم الجار والمجرور يفيد الحصر والاختصاص فعلم الغيب له لا لسواه. وقوله تعالى: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} (5) هذا يفيد اختصاصه تعالى وانفراده بعلم الغيب لأن السياق لبيان الكمال والمدح والثناء على نفسه تعالى ولو ثبت ذلك
لغيره لفات المقصود من السياق وكذلك قول المسيح يشير إلى هذا كما يدل عليه إقحام (1) الضمير بين خبر إن واسمها وكما يفيد التأكيد بإن. وفي الخبر عن جويرية رضي الله عنها: تغنت بقولها- والصحيح أنها لم تغن ولكن جاريتين تغنتا عندها كما في صحيح البخاري-: " وفينا رسول الله يعلم ما في غد فسمعها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لها: دعي هذا وقولي غيره " وفي حديث عمر في سؤال جبريل (2) عن الإسلام والإيمان والإحسان والساعة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له في خمس لا يعلمهن إلا الله وتلا قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} (3)
وقالت عائشة رضي الله عنها: (من زعم أن محمد رأى ربه فقد كذب ومن زعم أن أحد يعلم الغيب فقد كذب) (1) وما دلت عليه الآيات من الاستثناء في بعضها كقوله تعالى: {وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاء} (2) وقوله جلت قدرته: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدا إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} (3) الآية، فهذا يدل على أمرين: تأكد النفي وتحققه، وإخراج بعض الأفراد التي يعلمها من شاء الله كما يعلم بالوحي ونحوه (4) . والواجب على الناس اتباع ما أنزل الله على محمد صلى الله عليه وسلم من الكتاب
والحكمة وترك من انتحله المبطلون من رد النصوص بأنواع التحريفات والتأويلات المصادمة لمدلول النصوص، وتأمل قوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ} (1) ، كيف تجد تحته من إثبات الحمد والثناء المطلق على نفسه المقدسة بما دلت عليه هاتان الآيتان الكريمتان (2) ، ولو قيل بمشاركة غيره في ذلك لفات الحمد المقصود ولما تأتى هذا الثناء بما يشاركه فيه مخلوق ضعيف قال مالك بن أنس رحمه الله تعالى: (أو كلما جاءنا رجل أجدل من رجل تركنا ما نزل به جبريل على محمد صلى الله عليه وسلم أو كما قال: وقد ذم الله اليهود بتحريف الكلم عن مواضعه فقال تعالى: {مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيّاً بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلاً} (3) . وفي الحديث: "لتتبعن سنن من كان قبلكم خذوا القذة بالقذة حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه قالوا يا رسول الله: اليهود والنصارى قال: (فمن) ؟ " (4)
فهذا التحريف إنما عرف عن اليهود، وأن ما جاء من الاستثناء في بعض الآيات كقوله: في آية الكرسي: {وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} (1) ، وقوله: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} (2) ، وكذلك إخباره صلى الله عليه وسلم عن أشياء وقعت فيما مضى، إخباره عن أشياء تقع في أمته فهذا ونحوه أمر جزئي بالنسبة إلى ما اختص الله بعلمه كما مر في حديث موسى وقول الخضر له: ما نقص علمي وعلمك من علم الله إلا كما نقص هذا العصفور من البحر، وهذا بالنسبة إلى علم الله وإن كثر واتسع بالنسبة إلى علوم الخلق فإن ما يحصل لرسول الله من العلوم والمعارف لا نسبة بينه وبين علم الله الذي أحاط بكل شيء علما وأحصى كل شيء عددا، وهذا الجزئي لا يفيد أن من علمه فقد علم الغيب أو أنه ناسخ للنصوص العامة المطلقة: غاية ما هناك إثبات ما دل عليه استثناء في الآيات كبعض الأفراد الجزئية وهو لا يمنع العموم بل العام باق على عمومه (3) كما لا يخفى على من له أدنى فهم، وبهذا تعلم
بطلان دعوى هذا الفارسي وأمثاله أن الأموات يعلمون الغيب فإن هذه الدعوة مصادمة ومصادرة لما مر من النصوص ولأن الغيب اسم يقع على كل ما غاب عن الخلق من العلوم والمعارف، وما كان وما يكون وما لم لكن كيف يكون كما قال العلامة ابن القيم في معنى اسمه العليم شعرا: وهو العليم أحاط علما بالذي ... في الكون من سر ومن إعلان وبكل شيء علمه سبحانه ... فهو المحيط وليس ذا نسيان وكذاك يعلم ما يكون غدا وما ... قد كان والموجود في ذا الآن وكذاك أمر لم يكن لو كان ... كيف يكون ذا إمكان فمن عرف هذا عرف أنه لا يجوز إطلاق القول بجواز حصول علم الغيب لأحد من الخلق، ومن المستحيل عقلا وشرعا وجود من يعلم كعلم الله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (1) ، ومن جهل هؤلاء القبوريين إطلاق هذه العبارة الموهومة والترويج على العوام بأن الاستثناء يدل على أن الأولياء يعلمون الغيب، وهذا كما ترى من أعظم الجهل وأقبحه، قال العماد ابن كثير في تفسير قوله تعالى: {قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً عَالِمُ الْغَيْبِ} (2) ، في هذه الآية الكريمة دليل على أن الحديث الذي يتداوله الكثير من الجهلة من أنه عليه الصلاة والسلام (لا يؤلف تحت الأرض) كذب لا أصل له ولم نره في شيء من الكتب وقد كان صلى الله عليه وسلم يسأل عن الساعة فلا يجيب عنها فلما تبدا له جبريل عليه السلام في صورة أعرابي كان فيما سأله أن قال: يا محمد أخبرني عن الساعة قال: ما المسئول عنها بأعلم من السائل: وقال في قوله تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} (3) هذه كقوله تعالى: {وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ} (4) ، وهكذا قال ههنا إنه يعلم الغيب والشهادة حتى أنه لا يطلع
أحد من خلقه على شيء من علمه إلا بما أطلعه تعالى عليه ولهذا قال: {فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} (1) ، وهذا الرسول ملكي وبشري (2) ، ثم قال تعالى: {إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً} ، أي يختصه بمزيد معقبات من الملائكة ليحفظوه من أمر الله ويساوموه على ما معه من وحي الله ولهذا قال: {لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً} ، ثم ذكر الأقوال في مرجع الضمير في قوله: {لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاتِ رَبِّهِمْ} ، قلت: فتأمل سياق الآية فإنه بدأ (3) الكلام بقول: {قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَا تُوعَدُونَ} ، فنفى من علمه بقرب ما يوعدون وهو الساعة وذكر بعد هذا علمه تعالى، وأنه لا يظهر عليه أحدا من خلقه إلا من ارتضى من رسول ملكي أو بشري، وذكر الحرس والرصد الذين يكونون بين يديه ومن خلفه وهم المعقبات الذين يحفظونه من أمر الله، ثم قال: {لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاتِ رَبِّهِمْ} ، فعقد السياق فيه دلالة وبيان للمعنى المراد من الاستثناء وأن ذلك هو وحيه الذي يوحيه إلى رسله من كلامه ورسالته وهي بالنسبة إلى علم الله كنقطة من بحار الدنيا في جنب تلك البحار. وأعظم من ذلك قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (4) .
فإذا كان هذا الحال بكلامه فما ظنك بعلمه تبارك وتعالى، فمن زعم أن أحدا يعلم جميع الغيب فقد أساء الأدب على الله تعالى وتقدس وما قدروا الله حق قدره. وكذلك كرامات الأولياء دون ما ثبت للأنبياء بكثير بل لا نسبة بينها وبينه لا في الكمية ولا في الكيفية. وقول الفارسي نقلا عن البيضاوي (1) واستدل به على إبطال الكرامات وجوابه يختص الرسول بالملك، والإظهار إنما يكون بغير واسطة، وكرامات الأولياء باطلاعهم على المغيبات إنما يكون تلقيا من الملائكة كاطلاعنا على أحوال الآخرة بواسطة (2) الأنبياء عليهم الصلاة والسلام انتهى. وهذا الكلام فيه نظر ظاهر فإن الرسول أعم من الملكي والبشري وعبارة السلف دالة على ذلك، والإظهار أعم من أن يكون بواسطة أو بغيرها وأكثر الرسل إنما يظهرهم على ذلك بالوسائط كما قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ} (3) . واطلاع الأولياء على شيء من الغيب هو من الإلهام الذي تضمنه الوحي لا يتقيد بالتلقي عن الملك كما قال تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوه ُ
إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} (1) ، وهو أعم من أن يكون بواسطة أو بغيرها فكلام البيضاوي مردود، والمعروف في حد الكرامة أنها خرق الله العادة لوليه من غير ادعاء التحدي كما في قصة عمر وقصة آصف وقصة مريم وكما يذكر عن أبي إدريس الخولاني وعن أبي العلاء الحضرمي وأمثالهم (2)
وذلك ونحوه داخل في عموم قوله تعالى: {إِلَّا بِمَا شَاءَ} ، وقد دخل فيه ما يحصل للأنبياء بواسطة وبغير واسطة، وكذلك لا يقال: إن أحدا ثبت له هذا بجميع أنواع الغيب كلية وجزئية لأن ذلك لا يكون إلا لله كما قال عن الملائكة: {سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} (1) ، وقال عن المسيح: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ} (2) ، وقال لنبيه صلى الله عليه وسلم {قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرّاً إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (3) .
ولا عبرة هنا بالمكابرة والدعوى المجردة عن الدليل والبرهان كقول بعض الضالين إن ذلك يتأتى للأولياء على سبيل الكرامة فإن هذا لا دليل عليه من كتاب ولا من سنة بل ولا قاله من يعتد به من هذه الأمة، وإنما يعرف عمن غلظ عن معرفة الله ومعرفة حقه حجابهم وكثر في دينه وخبره ريبهم واضطرابهم وعجزت عن معرفة قدره وعظمته وعموم علمه ألبابهم. (قال الشيخ عبد اللطيف رحمه الله) : وأما قول الفارسي: العلم صفة للنفس أنعم الله بها وهي باقية بعد مفارقة البدن فيجوز أن يكون حاصلا لهم بعدها على وجه أتم وأكمل إلى آخر عباراته. فيقال: هذا من عجائب جهلهم فإن الذي خلق الروح وصورها وعلمها وقبضها وخلصها من الكدورات البدنية وقشع عنها الظلمة الجسمانية هو الذي أخبرنا أن {َعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} الآية (1) ، وأنه لا يعلم من في السموات وأرض إلا الله، وهو القائل لنبيه صلى الله عليه وسلم: {قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ} ،وهو المخبر عن الملائكة الذين خلصوا من الكدورات وخلقوا من النور، {قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا} (2) وهو المخبر عن عبده ورسوله المسيح بن مريم عليه السلام أنه يقول يوم العرض الأكبر: {وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} (3) ، وهو جل ذكره القائل: {وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} الآية (4) ، فسبحان الله ما أجهل من زعم علم الغيب لغيره تعالى من حي أو ميت
وما أضله عن سواء السبيل، كيف يعارضون النصوص بهذا الكلام المموه المزخرف ويعتمدون عليه؟ وينبذون كتاب الله وراء ظهورهم؟ ويقال لهذا: قد تقدم من الآيات والأحاديث ما يدل على أن الحي لا يعلم جميع الغيب وأن علمه وإن عظم قدره بالنسبة إلى علم الله كنسبة ما يأخذه العصفور في منقاره من البحر وإذا كانت هذه حاله في الحياة فكيف بحاله بعد الممات وإطلاعه على بعض الجزئيات لا يدل على علمه بجميع المغيبات، وأيضا فالذي ذكره الفارسي لا ينتج الدعوى لأنها وإن تخلصت من الظلمات الجسمانية والكدورات البدنية فلم تخلص من التبعات الكسبية وما اجترحته في الحيلة الدنيوية، وإن تخلصت على وجه الكمال فهي مشغولة بما هي فيه من العالم الأخروي واللذة الحاصلة بالنعيم والجنة والكرامة، وعالم الأرواح عالم عظيم وحالها فيه حال لا يدرك بمجرد العقل والقياس وإنما يعرف بالنصوص الواردة في ذلك والدالة عليه. (قال الشيخ عبد اللطيف) : وأما قوله (1) : {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} (2) إلى آخر ما قال من ذكرهم الله واشتعال نار الشوق والمحبة في قلوبهم وأنهم يصيرون فانين في الله باقين به، به يسمعون وبه يبصرون ونحو ذلك، فمن احتج بهذا على أنهم يعلمون الغيب فهو كمن يحتج بهذا على أنهم يتصرفون وينفعون ويضرون ويدعون لذلك، ويقال لهذا المشبه: متى ثبت أن الله أعطى أحدا من خلقه علم الغيب كليه وجزئيه في حياته أو بعد مماته ومن الذي أثبت هذا؟ حتى يقال: إن ذلك باق لهم لا يغير مع أن بعض التغير وجنسه يحصل بالموت كالتغير من الحياة إلى الممات ومن الوجود إلى الفناء، قال تعالى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْأِكْرَامِ} (3) ، وطرد كلام الفارسي أن يقال: إنهم باقون لأن الله لا يغير
نعمته عليهم، هذا لو فرض ثبوت ذلك في حال الحياة فكيف ذلك (1) ، قد ردته النصوص والبراهين وكونهم يذكرون الله قياما وقعودا ويفنون به عما سواه ويسمعون به ويبصرون ويبطشون فهذا يفيد تحقيق التوحيد ون أعمالهم وحركاتهم خالصة لله وقعت بالله ولله فهم قد حققوا معنى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (2) ، وهذا هو محض الإسلام وجزيل الفضل والإنعام. وأصحاب هذه الأحوال وهذه المقامات تبقى كرامتهم في الدار الآخرة بمعنى إثابتهم وعلو درجتهم ولذتهم بما حصلوه من حقائق المعارف ولطائف الكرامة (3) وقوله تعالى: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} (4) يدل على هذا كما ذكره البيضاوي ونقله عنه الفارسي لكنه وضعه في غير موضعه واستدل به على غير ما سيق له فإن المعنى الذي دل عليه كلام السلف أنهم لا خوف عليهم مما أمامهم يقدمون عليه ولا يحزنون على شيء مما خلفوه وهذا لا دليل فيه على أن أحدا يعلم الغيب، ثم ساق الفارسي آثارا تروى في عرض بعض أعمال الأحياء (5) على أقاربهم وعشائرهم، من الموتى كحديث أبي أيوب وحديث جابر وحديث النعمان والمعنى متقارب، وهذا لا يدل على الدعوى بوجه من الوجوه لأنه من جنس اطلاع الحي على بعض الجزئيات، والكلام والبحث إنما هو في الكل والجميع لا في بعض الجزئيات وليس هذا الجزئي ثابتا لكل أحد من الأموات فإن الأحاديث لا عموم فيها ولا تدل عليه بل هي خاصة باطلاع البعض على بعض الأعمال لا كلها.
وأما فقر العبد وحاجته، ومصلحته، ومفسدته، وغير ذلك، وظاهر أمره وباطنه وشاهده وغائبه فلا يعلمه إلا الله الذي يعلم السر وأخفى، ومن العجب استدلال هؤلاء بما هو حجة عليهم لا لهم فإن هذه الأحاديث فيها أنه يعرض على الميت عمل قريبه وولده وإذا كان يعرض عليه فعلمه قاصر على نفس المعروض لا يتعداه إلى غيره وإذا اختص بالقريب ففيه التنبيه على أنه لا يعلم عمل غير قريبه وإذا اختص بالعمل دل أنه لا يعلم غيره من عموم الأحوال، فالأحاديث والقرآن حجة عليهم لا لهم والحمد لله. وأما كلام الملا قاري في شرح قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تجعلوا قبري عيدا فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم"، قال نقلا عن القاضي: وذلك أن النفوس الزكية القدسية إذا تجردت عن العوائق البدنية عرجت واتصلت بالملأ الأعلى ولم يبق لها حجاب فترى الكل كالمشاهد بنفسها أو بإخبار الملك من السر له فلعل هذا مبني على كلام ابن سينا ومن وافقه من الفلاسفة القائلين بأن الكتب المنزلة فيض فاض من العقل (1) الفعال على النفس المستعدة الفاضلة
الزكية فتصورت تلك المعاني وتشكلت في النفس بحيث يتوهمها أصواتا تخاطبه وربما قوي هذا الوهم حتى يراها أشكالات نورانية تخاطبه وربما قوي ذلك ببعض الحاضرين فيرونها ويسمعون خطابها، ولا حقيقة لشيء من ذلك في الخارج وهذا يكون عندهم بتجرد النفس عن العلائق واتصالها بالمعارفات من العقول والنفوس المجردة، وهذه الخصائص تحصل عندهم بالاكتساب ولهذا طلب النبوة من تصوف على مذهب هؤلاء. (وأقوال (1) هؤلاء دخلت على كثير من الناس) إما باطني ملحد أو جاهل
لا يدري أصول الأقوال ومذاهب الناس كشارح المشارق، وإذا كان هذا قولهم في النبوة وأنها مكتسبة على هذا الوجه فلا يبعد أن يقولوا بأن الأرواح إذا تجردت أدركت علم الغيب وصار الكل لها كالمشاهدة، فنعوذ بالله من زيغ الزائغين وضلال الضالين وتحريف الملحدين وانتحال المبطلين، والذي جاء في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم أن الروح إذا تجردت عن الجسم حال موته يعرج بها فإن كانت روحا طيبة فتحت لها أبواب السماء وعرج بها إلى الله تعالى ثم تكون طائرا يعلق في شجر الجنة وأرواح الشهداء في جوف طير خضر تسرح في الجنة، هذا الذي دل عليه كتاب الله وسنة رسوله يعرف ذلك من عرفه من أهل العلم والإيمان. وأما هذه الأقوال المبتدعة التي لم تصدر عن معصوم بل ربما صدرت عمن لا يحكم بإسلامه كابن سينا وأمثاله من الفلاسفة المنتسبين إلى الإسلام وهم من أبعد الخلق عنه وقد يقولها من يحسن الظن بهؤلاء ممن يخفى عليه حالهم ولا دراية له بأقوال الخلق ومذاهبهم، والعصمة والسلامة في الاعتصام بحبل الله الذي هو كتابه ومتابعة نبيه صلى الله عليه وسلم، وما عدا ذلك أو خالفه فلسنا منه في شيء. قال الفارسي: الشبهة الثالثة أن الأنبياء لا تصرف لهم يعني لا قدرة لهم على إيصال الخيرات ودفع المضرات في الحياة لقوله تعالى: {قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرّاً إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ} (1) ، {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} (2) . وإذا (3) كان حالهم هذا في الحياة فما ظنك بهم أو بغيرهم في الممات.
قال الفارسي: أجيب بأن المراد نفي المالكية الاستقلالية والقدرة الذاتية الكاملة عن غيره تعالى لا مطلقا كما يدل عليه الاستثناء، وقال صاحب معالم التنزيل: إلا ما شاء الله أن أملك فالآيتان ونحوهما تدل على أن ثبوت القدرة الكاملة لله تعالى بذاته لا من غيره ولا تدل على النفي مطلقا بل يجوز أن تكون حاصلة لعباده مفاضا منه ويجوز أن يكون للنفوس الكاملة تصرف في العالم من جهته تعالى بأن يجعلهم متصرفين مدبرين بإذنه ويستجاب لهم دعائهم وتقبل شفاعتهم وينفذ لهم تصرفاتهم، والمدبر المتصرف حقيقة هو الله، والأنبياء عليهم الصلاة والسلام والأولياء في صدور التصرفات والكرامات عنهم في الظاهر مظاهر لتصرفاته تعالى كالمرآة المجلوة المتصلة إذا استنارت من الشمس صارت منورة للأجسام المظلمة ويجوز أن تكون حالهم بعد مفارقة أرواحهم عن الأبدان في التصرفات كحالهم قبلها بل أتم وأصفى وأكمل وأجلى. (قال الشيخ عبد اللطيف رحمه الله) : والجواب عن هذا الكلام أن يقال: إن التصرف لفظ عام وعبارة مطلقة يدخل فيها التدبير والتغيير وسائر أنواع الإيجاد والإحداث والإبداع والتأثير والتسخير وغير ذلك من أفعال الربوبية التي تختص به تعالى وكذلك الأسباب العادية التي تقع في عموم الخلق. والأول هو الذي قصده بقوله: ودعوى حصول هذا لمخلوق مصادمة ومصادرة لنصوص الكتاب العزيز المصدق وفتح لباب الإلحاد والشرك المحقق فإن هذا الأصل أعني اختصاصه سبحانه بالخلق والإبداع والتدبير والتصريف هو أكثر أصول الإسلام وجلها وقاعدته العظمى التي تدور عليها جميع الأحكام وجميع القرآن من أوله إلى آخره يدل على هذا الأصل ويقرره وقد احتج به تعالى على وجوب عبادته وطاعته وأنه الإله الحق دون ما سواه.
وقال تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (1) فأثنى على نفسه بعموم ربوبيته المتضمنة لخلقه وتدبيره وإلهيته، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (2) . وتأمل هاتين الآيتين كيف استدل فيهما بفعله وتدبيره وخلقه وتصريفه على وجوب عبادته وتحريم اتخاذ الأنداد له وخص ما ذكر في الآية (الأخيرة) لأنه أصل يندرج تحته ما سواه من الجزئيات ولأنه مشاهد محسوس يدركه كل أحد حتى البليد الذي لا يدرك سوى الحسيات ولما في ذلك من بديع الصنع والإتقان وظهور القدرة والشأن فجعل الأرض فراشا والسماء بناءا مع عظمهما وسعتهما وما أودع فيهما من الآيات عجائب المخلوقات وأنواع التدبيرات الكليات والجزئيات ما يدل على انفراده تعالى واختصاصه بهذا الأصل العظيم. وفي (3) ذلك من إنزال المطر من السماء على التصريف المخصوص والتدبير المتقن المحكم وجعله أصلا لمادة أرزاق المخلوقات على اختلاف أجناسها وأنواعها وتباين أصنافها وأشكالها ما يدل على أن الله هو المنفرد بالتصريف والتدبير وحده لا شريك له فبطل بنص هذه الآية وعمومها ما زعمه هذا الملحد. أما السماء والأرض وما بينهما من المخلوقات والأرزاق فبطريق التخصيص والعموم وما عداهما فبطريق الفحوى والأولى وقال تعالى: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ
تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (1) فإن فيها من الرد على من قال بأن أرواح المشايخ تتصرف ما لا تتسع لبسطه هذه الفتاوى، ولكن نشير إلى ذلك إشارة فإن إعطاء الملك ونزعه والعز والذل يدخل تحتها من أفراد الكائنات والجزئيات في الدنيا والآخرة ما لا يحصيه إلا الله وفي قوله، (بيدك الخير) ما يدل على أن جميع الخير كليه وجزئيه بيده سبحانه لا بيد غيره كما يفيده الجار والمجرور فأي فرد يخرج عن هذا؟ ويبقى للمشايخ وغيرهم وفي قوله: {تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ} (2) ما يدل على أنه المختص بتصريف الأعصار والدهور ليس لأحد معه شركة، وفي قوله تعالى: {وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ} (3) ما يدل على أنه المختص بإخراج الأشياء وإيجادها فيخرج الضد من الضد والجنس من الجنس والمشاكل من (2) المشاكل، وقوله: {وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} (5) فيه اختصاصه بالتصرف في أرزاق عباده الباطنة والظاهرة وأن مصدر ذلك مشيئته النافذة فأي شيء يبقى بعد هذا للأنبياء والمشايخ؟ لو كانوا يعلمون؟ وقال تعالى: {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (3) وهذه الآية الشريفة عامة لكل تدبير وتصريف في الدنيا والآخرة من جميع الخيرات وسائر الرحمات فهو الذي يمن بذلك ويفتحه لمن يشاء من عباده وما يمسك فلا وجود لمرسل له من بعده، وقوله تعالى وهو العزيز الحكيم فيه تنبيه على مورد التدبير والتصريف ومصدرهما وأنه اختص بذلك لأنه المتفرد بالعزة والحكمة كما يعلم من تعريف الجزئيين، وإذا اختص به ولم يتصف به غيره فبأي شيء يتصرف ذلك الغير ويدبر؟ قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} (4) فأمر عباده
جل ذكره أن يذكروا هذه النعمة العظيمة وهي اختصاصه وتفرده بخلقهم ورزقهم من السماء والأرض. والرزق والخلق يدخل تحتهما كل تدبير وتصريف من الأمور الباطنة والظاهرة ولذلك قال بعده هذا: {لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} فاستدل بربوبيته وعمومها وعلى إلهيته ووجوب عبادته وطاعته ثم قال: (فأنى تؤفكون) إنكارا عليهم فيما صنعوه من الإعراض عن عبادته والاعتراف بإلهيته مع قيام برهانها الأكبر ودليلها الأعظم وهو ما ذكر في صدر الآية وهو سبحانه كثيرا ما يستدل بربوبيته وخالقيته ورازقيته على ألهيته وعبادته كما قال تعالى: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} (1) وقال جلت قدرته: {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ} (2) ، وقال تعالى: {أَيُشْرِكُونَ مَا لا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ} (3) ، فلو قيل: بأن غيره يتصرف لكان هدما لهذا الأصل وإبطالا لهذا البرهان، وقال تعالى عن خليله إبراهيم أنه قال لقومه: {قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِين الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ} (4) . أنظر إلى ما تضمنته هذه الآيات (5) الكريمة من تقرير بعض أفراد ربوبيته تعالى لخليله إبراهيم أفضل الرسل بعد نبينا عليهما الصلاة والسلام من خلقه وهدايته واختصاصه تعالى بإطعامه وإسقائه وما معنى إقحام (6) ضمير الفصل في هذه
الجملة دون غيرها من الجمل وكذلك شفاؤه إذا مرض واختصاصه بإماتته وإحيائه بعد الموت وتعليق الطمع به تعالى وحده في مغفرة خطيئته يوم الدين، هذا الكلام صدر عن خليله أعلم العالمين به مستدلا به على إلهيته تعالى وحده والبراءة مما عبد من دونه من الأنداد والآلهة على اختلافها وتنوعها وحكاه الله تعالى عنه مثنيا عليه به مقررا له راضيا به عنه فهذا حال أنبياء الله وأوليائه عليهم الصلاة والسلام، فليت شعري ماذا يقول الملحدون في مثل هذه الآيات الكريمة؟ وسيأتيك إبطال تأويله الفاسد الذي مر في حكاية كلامه آنفا وقال تعالى: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ} (1) وقال تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُون} (2) إلى قوله تعالى: {إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} فإن في هذه الآيات من تقرير الاختصاص بالتدبير والتصريف في الكليات والجزئيات مع اختلاف أنواعها والاستدلال بذلك عل إلهيته وحده لا شريك له ما لا يتسع لتقريره هذا الموضع واللبيب يدرك ذلك بمجرد تلاوة هذه الآيات وكذلك الحال في قوله في سورة الواقعة: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ} إلى قوله: {نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعاً لِلْمُقْوِينَ} (3) ، وكذلك قوله: {قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ} (4) ففي هذه الآية أعظم دليل وأقوى حجة على إبطال من زعم أن أرواح الأنبياء والمشايخ تصرفا وتدبيرا وذلك من وجوه ظاهرة متعددة في الآية، وكذلك قوله تعالى:
{إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} (1) فقف عند هذه الآية وتدبر فيها من العلوم والمعارف فإنها أصل عظيم وبرهان ظاهر مستقيم يكفي من أراد الله هدايته، قال بعض السلف وهو ابن سميط: دلنا ربنا على نفسه بهذه الآية يشير إلى أن أفعاله شاهدة بربوبيته وألهيته دالة على ذلك ولو لم يكن في هذه الآية إلا قوله: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ} لكان كفيفا في رد قول هؤلاء الملاحدة وقال تعالى لنبيه: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} وقال جل شأنه: {لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ} وألا (2) للاستغراق المفيد لعدم خروج فرد من الأفراد لسواه وقال تعالى: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} (3) وقال تعال لنبيه: {قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا رَشَداً} (4) ، وقال تعالى: {قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرّاً وَلا نَفْعاً إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} (5) وقال جلت قدرته: {قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ} (6) فهذه الآيات تقطع أصول شجرة الشرك والإلحاد وترد مذهب أهله القائلين بأن لأرواح المشايخ تصرفا وتدبيرا في الكون، تعالى الله عن قولهم علوا كبيرا، وفي الحديث القدسي الذي رواه أبو
ذر الغفاري عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه تبارك وتعالى: "يا عبادي كلكم عار إلا من كسوته فاستكسوني أكسكم يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعا فاستغفروني أغفر لكم" الحديث (1) وفي حديث التنزل الإلهي إذا بقي ثلث الليل أن الله تعالى يقول: "لا أسأل عن عبادي غيري" ويروى: أن الله أوحى إلى داود أنه لا يعتصم بي عبد من عبادي دون غيري أعرف ذلك من نيته فتكيده السموات والأرض إلا جعلت له فرجا ومخرجا ولا يعتصم عبد من عبادي بمخلوق دوني أعرف ذلك من نيته إلا قطعت أسباب السماء من يده وأسخت الأرض من تحت قدميه ثم لا أبالي بأي واد هلك (2) قال الشيخ رحمه الله: وقول المعترض في الجواب عن الآيتين إن المراد نفي المالكية الاستقلالية والقدرة الذاتية الكاملة عن غيره
تعالى لا مطلقا كما يدل عليه الاستثناء إلى آخره: فالجواب أن هذه الشبهة إنما نشأت من الجهل بمعاني كلام الله وباللغة العربية التي نزل بها القرآن العظيم فإن قوله: {قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرّاً} (1) عام لكل فرد من الأفراد وجزئي من الجزئيات لا يخرج عنه شيء وإن قل لا على سبيل الاستقلال ولا غيره وكذلك فيه نفي القدرة العامة المطلقة ولم يقل أحد من الخلق بإثبات الملك المستقل والقدرة الذاتية لغير الله تعالى إلى من عطل الصانع ولم يثبت للعالم ربا مدبرا، والآية سيقت لخطاب من يعترف بالربوبية ويثبت الصانع ولا يقول بالملك الاستقلالي ككفار العرب المقرين بالربوبية المشركين في العبادة والإلهية. وعبارات المفسرين تدل على هذا أنه في نفي جميع أنواع الملك وإن لم يكن استقلالا والعربي يدرك ذلك بذوقه وعربيته ولا يحتاج فيه إلى برهان وكذلك قوله تعالى: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ} (2) الآية، فإنها دلت نصا على انتفاء وجود كاشف لما يمسه الله به مكن الضر وعلى انتفاء راد ومانع لما أراده الله تعالى به من خير وفضل، وهذا أعم من أن يكون بطريق القدرة الذاتية أو بغير ذلك كما هو صريح الآية، وقد تقدم لهذه الآيات نظائر تدل على اختصاصه تعالى بالأمر والتدبير والنفع والضر وإنما شاء كان وإن لم يشأ الناس وما لم يشأ لم يكن وإن شاء الناس. وقوله: يجوز للنفوس الكاملة تصرف في العالم من جهته تعالى إن أراد أن ذلك يحصل بغير الأسباب العادية كما يدعيه هو وأمثاله لأرواح المشايخ والصالحين فهذا كذب وتجويز للشرك والباطل والضلال، وقد تقدم رده وإن أراد الأسباب العادية في الحياة الدنيوية كالذي يشترك فيه المؤمن والكافر والبر والفاجر والإنس والجن فهذا النوع لا يطلق عليه إن جعلهم متصرفين مدبرين
وهذا جهل عظيم ومع هذا فلا يجوز أن يطلب منهم كل شيء ويقصدوا بما لا يقدر عليه إلا الله، وأما قوله: والأنبياء والأولياء في صدور التصرفات والكرامات عنهم في الظاهر مظاهر لتصرفاته تعالى كالمرآة المجلوة المتصلة إذا استنارت من الشمس صارت منورة للأجسام المظلمة، فهذه العبارة تمويه وترويج للباطل، وحقيقتها أن العباد يتصرفون في العالم ويدبرون أمره وتصدر الأمور عنهم لأنهم مظاهر، والقائلون بأن الخلق مظاهر لذاته هم أهل الحلول المعطلة لوجود الصانع وربوبيته ومباينته لمخلوقاته وهم من أكفر خلق الله وأضلهم سبيلا فإنهم يعبدون كل ما استحسنوه ومالت نفوسهم إليه لظنهم أنه من مظاهر الحق. والقائلون بأن لأرواح الأولياء في صدور التصرفات عنهم مظاهر لتصرفاته تعالى فيهم مشابهة قوية للحلولية ولعل هذه العبارة إنما أخذت عنهم يبين ذلك أنهم إن أراد الأسباب العادية الحسية فهذا لا يختص بالأنبياء والأولياء وإن أراد ما هو أعم من ذلك من الأمور الباطنية والتدبير بالقوة المؤثرة فهو شبيه بالقول الأول مشتق منه {كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} (1) . وقوله: ويجوز أن تكون حالهم بعد مفارقة أرواحهم عن الأبدان في التصرفات كحالهم قبلها بل أتم وأصفى: فجوابه أن حالهم قبل المفارقة حال عبد لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا ولا موت ولا حياة ولا نشورا كما قال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: {قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا رَشَداً} (2) وقال له أيضا: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} (3) وقال تعالى: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} (4) .
فإذا كانت هذه حاله صلى الله عليه وسلم فما ظنك بغيره من سائر الخلق وإذا اتحدت الحالة بعد المفارقة وقبلها فليس فيه حجة للمعترض لأنه لا يملك ولا يتصرف لا في حياته ولا في مماته هذا إن سلم أن الحال مستوية في الحياة وبعد الممات والذي دل عليه كتاب الله وسنة رسوله وإجماع الأمة أن الحال بعد مفارقة الأرواح للأبدان ليست كحال الحياة من وجوه كثيرة لا يمكن استقصاؤها، ويكفي للمؤمن قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له" (1) فهذا الحديث يدخل تحته جميع أعماله الباطنة والظاهرة وأنه لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا وأن الأسباب العادية الحسية تزول بالموت فكيف بغيرها؟ وإذا كان لا يملك لنفسه شيئا وعمله قد اقطع فكيف يتصرف ويدبر ويستمد منه وتطلب منه الحوائج؟ إن هذا لهو الضلال المبين والجهل الواضح المستبين وقد تقدم في الحديث أن نسمة المؤمن طائر يعلق بشجر الجنة فإذا كانت في الجنة تعلف بأشجارها فأي دليل دل على أنها تدبر وتتصرف وتتجاوز هذه الحالة التي ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم إلى التدبير والتصريف؟ ولقد كنا غنيين عن رد هذا القول لظهور بطلانه وضلال قائله ولكن غلبة الجهل على الجمهور دعت إلى الجواب. وأما ما نقله عن البيضاوي، واعتمده من أن أرواح الأولياء تتصرف فهو دليل على جهله وعدم معرفته بأخذ العلم من محله وذلك أن البيضاوي قال في قوله تعالى: {وَالنَّازِعَاتِ غَرْقاً} إنها صفات ملائكة الموت فإنها تنزع أرواح الكفار من أبدانهم (بشدة) وتنشط أرواح المؤمنين أي تخرجها برفق ويسبحون في الإخراج ويستبقون بالأرواح إلى مقرها وما أعد لها وتدبر ذلك الأمر المعد هذا هو الذي قدم وأيد وهو الموافق لعبارات السلف، والمحققون من المفسرين جزموا بأنها صفات الملائكة واقتصروا عليه ولم يذكروا سواه وما وقفت على قول أحد حكى هذا الذي ذكر عن البيضاوي سوى البيضاوي
مع أنه قدم سواه وأخره بل قدم عليه القول بأن هذه صفات للنجوم وذكر وجهه فإن كان قول البيضاوي حجة فقد قدم على هذا أنها صفات للنجوم. وعلى قول هذا المعترض واحتجاجه بعبارة البيضاوي يطلب من النجوم ويستمد منها ويقال بأنها تتصرف لأن البيضاوي ذكر أنها من المدبرات أمرا بل يرجع حينئذ إلى عبادة النجوم وما كانت عليه الصابئة في زمن إبراهيم الخليل عليه السلام وكذلك قال في تفسيره أو صفات أنفس الغزاة أو صفات خيلهم وعلى هذا يطلب منهم ومن خيلهم ويستمد لأنها من المدبرات أمرا سبحان الله ما أجهل هذا الرجل وأقل علمه بدين الإسلام الذي اتفقت عليه دعوة الرسل بل ما أجهله بتوحيد الربوبية الذي أقر به المشركون من سائر الأمم الذين آمنوا بربوبية الله وأشركوا في عبادته. وأما ما نقله عن الشافعي أنه قال: الدعاء عند قبر الكاظم (1) ترياق
مجرب فهذا حال أهل الجهل والضلال يعتمدون الأكاذيب ويحرفون النقل الصحيح ومن عرف الشافعي وعرف علمه ومذهبه عرف أن هذا من أوضح الكذب وأظهره ولا يشك في ذلك إلا جاهل فإن الشافعي منع من استقبال القبر الشريف قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم عند الدعاء وأمر باستقبال القبلة عند ذلك، كما حكاه شيخ الإسلام ابن تيمية بل حكى الإجماع عليه وهو من أعلم الناس بأقوال العلماء ومذاهبهم وحكاه غير واحد من أهل العلم كابن القيم الجوزية، والشافعي رحمه الله من أشد الناس متابعة للسنة ونهيا عن البدع فكيف يجيز ما دلت الأحاديث على المنع منه كحديث علي بن الحسين عن أبيه عن جده أنه صلى الله عليه وسلم قال: "لا تتخذوا قبري عيدا ولا بيوتكم قبورا وصلوا علي حيث كنتم"، والعيد اسم لما يعتاد مجيئه والتردد إليه لدعاء أو سلام، ووجه الدلالة من هذا أنه صلى الله عليه وسلم منع من تحري الدعاء واعتياده عند أشرف القبور وأفضلها منبها على ما دونه بطريق الأولى وذكر العلقمي عن الشافعي أنه قال: أكره أن يعظم مخلوق حتى يتخذ قبره مسجدا مخافة الفتنة عليه وعلى من بعده وبهذا تعلم فقه الرجل ودينه، وهذه العبارة، وهي قولهم: الدعاء عند قبر فلان
ترياق مجرب قد تنازعها عباد القبور والمتبركون بها فمنهم من يدعي ذلك لقبر أبي حنيفة ومنهم من يدعيه لقبر معروف الكرخي، وعباد عبد القادر وأحمد البدوي والحسين عندهم ما هو أعظم من ذلك وأطم، وبعضهم يفضل الدعاء عندها على الدعاء في المساجد التي أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه، وبهذا وأمثاله عمرت المشاهد وعطلت المساجد وبنيت القبور وأرخيت الستور على التوابيت مضاهاة لبيت الله والله نسأل وإليه نرغب أن ينصر دينه ويظهره على سائر الأديان ويقيم له أنصارا وأعوانا يدعون إليه ويجاهدون فيه. وأما قوله: قال حجة الإسلام محمد الغزالي (1) : كل من يستمد به في
الحياة يستمد به بعد الوفاة، فالجواب: أن هذا من جنس ما قبله نقل غير صحيح عن قائل غير معصوم لا يحتج به بإجماع المسلمين، وقول الناقل قال حجة الإسلام مجرد تمويه وتخييل، وحجة حجة الإسلام في كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم وما عدا ذلك فيؤخذ منه ويترك كما قال مالك وبقوله يقول علماء الإسلام: كل أحد يؤخذ من قوله ويترك إلا صاحب هذا القبر يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو حامد قد دخل في الفلسفة واعتنى بكتب الفلاسفة ودخل عليه من الشر بسبب ذلك مالا يحصيه إلا الله ومن تأمل كتبه وكلامه في الإحياء وفي غيره عرف ذلك إن كان ممن له ممارسة في العلوم الشرعية قال الفقيه ابن العربي المالكي: دخل شيخنا أبو حامد في جوف الفلسفة ثم أراد أن يخرج فلم يحسن الخروج، هذا كلام تلميذه (1) وهو من أعرف الناس به، هذا إن صح النقل وما أظن هذا ثبت عنه. وأما قوله: قال بعض من المشايخ العظام: رأيت أربعة أشخاص من الأولياء يتصرفون في قبورهم كما تصرفوا في حياتهم أو أزيد الشيخ عبد القادر وعن اثنين آخرين إلى آخره ... فالجواب أن مشايخ الضلال وجهلة الصوفية الذين لا دراية لهم بدين الله وشرعه قد يصدر منهم هذا ونحوه بل قد حكي عن بعضهم القول باتحاد
الخالق والمخلوق والقول بحلول الخالق في خلقه والقول بتعطيل الصفات الثبوتية وكل هذه الأقوال حكيت واشتهرت وخلدت في الدفاتر عن أشياخ يعتقد كثير من الناس أنهم أهل معرفة وتحقيق وأنهم من المشايخ العظام. ومن بنى دينه على هذا رجع إلى ما عليه النصارى من تقديم أقوال أحبارهم ورهبانهم على ما بأيديهم من كتب الله وعندهم من هذا النوع شيء كثير وحكايات معروفة، وقد عاب الله ذلك عليهم وفرهم به، قال تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} (1) . وقد فسر صلى الله عليه وسلم هذه العبادة بطاعتهم في تحريم ما أحل الله وتحليل ما حرم الله كما في حديث عدي بن حاتم وهو حديث صحيح مشهور اعتمده المفسرون وأهل الحديث، وقد رأينا بمصر من يقول: بأن البدوي وزينب والدسوقي يتصرفون وبعضهم يزيد إلى سبعة وبعضهم إلى سبعين، وكل هذه من أقوال عباد القبور، وقد أبطلها القرآن وسائر الكتب السماوية وما جاءت به النبوات بل بطلانه معلوم بالضرورة من دين الإسلام. وأما قول ابن زروق: إن إمداد الميت أقوى من إمداد الحي لأنه في بساط أقرب الحق وحضوره، فهذا القول كما سبق قول عمن لا يرتضي ولا يؤخذ بقوله ولا يهتدي ونحن لا نمنع أن أقوال الضالين في هذا المعنى كثيرة (2) ولكن ليست بشيء، ومعنا أصل عظيم لا يضل من اتبعه ولا يشقى وهو كتاب الله وسنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، وقرب العبد من الحق وحضوره لا يفيد هذا فإن جميع الخلق قريب بالنسبة إلى علم الحق وخواصه لهم قرب خاص
بالنسبة إلى الحفظ والإعانة والنصرة والتأييد والتسديد، والملائكة لهم قرب أخص والأرواح الطيبة كذلك، ومع هذا فقد قيل لأفضلهم وسيدهم (ليس لك من الأمر شيء) (إن عليك إلا البلاغ) وتقدم ما فيه كفاية لأهل الحق. وأما علم الأرواح بالزائرين وأحوالهم فلا دليل فيه لأن كونه يعلم الزائر ويرد عليه سلامه لا يدل على أنه يعلم حاله مطلقا ويتصرف ويدبر الأمر هذا لا مناسبة بينه وبين ما قبله بوجه من الوجوه وأي تلازم بينهما؟ وقد يعرف الكافر من يزوره وهو فيما هو فيه من العذاب. وأما قوله: هكذا في شرح المشكاة فقد تقدم أن الحجة ليست في قول مثل هذا. وأما قوله: وليت شعري ما أراد المنكرون للاستمداد إن أرادوا أن الأولياء لا تصرف لهم أصلا (لا) في الحياة ولا في الممات فهو بعينه مذهب أهل الاعتزال، والجواب أن يقال: قد تقدم أن الرجل لا يعرف معنى الاعتزال، ويسمي المؤمنين الذين يعتزلون الشرك وأهله ويجتنبون الأقوال المكفرة الشركية معتزلة لجهله بالاعتزال. والقول بأن الأولياء لا تصرف لهم أصلا لا في الحياة ولا في الممات بغير الأسباب العادية الحسية هو مذهب أهل الإسلام قاطبة الذين اعتزلوا الشرك وأهله. وقوله: وإن أرادوا أن لا تصرف لهم حقيقة في الحالتين بل المتصرف والمؤثر حقيقة هو الله تعالى، وينسب إليهم مجازا فهو بعينه اعتقادنا، والجواب أن يقال: لا تصرف لأحد من الخلق بدون الأسباب العادية لا حقيقة ولا مجازا، وهذا هو الذي دل عليه كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم كما تقدم من الآيات والأحاديث. وأما الأسباب العادية الحسية فهي تضاف إلى العبد حقيقة بمعنى أنها صدرت منه وقامت به وحصلت بمشيئته وكسبه ولا يمنع من إطلاق هذه الأفعال حقيقة عليه وإن كان الله هو الخالق له ولعمله كما قال تعالى: {وَاللَّه ُ
خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} (1) . ومن قال: لا تضاف إليه هذه الأفعال إلا مجازا فهو من جنس قول المجبرة (2) ومذهب سلف الأمة وأئمتها أن كسب العبد وأفعاله الحسية تضاف إليه حقيقة، وأما أفعال الله التي ليست من جنس أسباب العباد ولا في قدرتهم فهذه لا تضاف إلى العبد أصلا لا حقيقة ولا مجازا. ولكن المعترض خلط هنا ولم يميز وقوله: إن أرادوا أنه لا تصرف ولا كرامة لهم بعد الوفاة أصلا بناء على أنه لا حياة لهم فهذا مع ما فيه من إنكار عذاب القبر باطل لما ذكرناه من السماع والعلم لهم ولا شك أنهما يتفرعان على الحياة، فالجواب: يعلم مما تقدم وهذا كله حشو وتكرير ليس تجديا للدليل هو مجرد تكرير الدعوى ولا يخفى أن الملحدين وعباد القبور القائلين بالتصرف يموهون على الناس بأن تصرف الأولياء كرامة وأن من نفاه فقد نفى الكرامة، وهذا المعترض زاد في التمويه بقوله: بناء على أنه لا حياة لهم وأن هذا يلزم منه إنكار عذاب القبر، وكل هذا تشبيه وترويج للباطل وتمويه على الجهال. وأهل الحق لا ينكرون الكرامة التي جاء بها القرآن الكريم كما في قوله تعالى: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} (3) وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} (4) وقوله: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} (5) وفي الحديث القدسي قال الله تعالى: "أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر" (6)
وكذلك يثبتون خرق العادة للأولياء في بعض الأحيان كما في قصة آصف صاحب سليمان عليه السلام وكما في قصة أصحاب الكهف وكما تقدم في قصة عمر رضي الله عنه، ولكن ليس في هذا دليل على أنهم يتصرفون ولا تلازم بين التصرف والكرامة لأن الكرامة خرق الله العادة لوليه من غير فعل من ذاك الولي (1) . وقول هذا الجاهل: إن ذلك بناء على أنه لا حياة لهم فهذا جهل عظيم وخلط ذميم، فالمسلمون متفقون على إثبات عذاب القبر ونعيمه وإن أريد بالحياة تنعم الأرواح والأجساد وعذابها وإحساسها ونحو ذلك كما ورد فهذا ثابت لا شك فيه لكنه لا يسمى حياة (2) وإنما يطلق اسم الحياة على غير
الأموات، والحياة البرزخية الثابتة للشهداء ونحوهم مقيدة لا مطلقة. وعلى كل فهذا الفارسي لم يفرق بين الحياة وبين الإحساس بالألم والعذاب ولذلك استشكل وأثبت حياة البرزخ للكفار والفساق كما ثبت للشهداء وأمثالهم وزعم أن نفي التصرف في والتدبير عن الميت نفي للحياة يلزم منه نفي الإحساس. وإن أريد أن لهم حياة مساوية للحياة الدنيوية الحسية، وإن حال البرزخ كحال الدنيا، فهذا كذب بحت ومكابرة للعقل والحس بل ولكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} (1) وقال تعالى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} (2) وقال جلت قدرته: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} (3) وقال: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} (4) والآيات في هذا كثيرة. وفي الحديث: "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له" وقد تقدم الحديث.5 فأي فائدة لخلط هذا المعترض وتشبيهه مع وجود هذه النصوص؟ وما أظن أنه فعل هذا إلا لقصد الخديعة والتمويه على الجهال أو هو من أصحاب الجهل المركب الذين وصف الله أعمالهم بقوله: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} (6)
وما نقله عن القاضي في الكلام على قوله تعالى: {وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ} يؤيد ما قلناه ويرد على من قال: إن الروح عرض يفنى بفناء البدن. وأما قوله: وإن أرادوا وقالوا بكرامتهم تصرفاتهم في النشأة الأولى وأما بعد مفارقة الأرواح لا تصرف لهم ولا كرامة وعليهم البيان، فنقول: قد تقدم البيان، والفرق بين التصرف المثبت وهو ما جرت به العادة من أعمال العباد وكسبهم (1) وتقدم الكلام على الكرامة وأنها ليست كما يظنه الجاهلون أنهم ينفعون ويضرون ويتصرفون وتقدم من الأدلة ما فيه الكفاية لمن أراد الله هدايته، ومن يضلل الله فلا هادي له. ومن عجائب جهله أنه يقول: ليس لهم دليل على هذا لا في الكتاب ولا في السنة وأقوال السلف انتهى. والجاهل يخفى عليه الحق ولو كان واضحا في نفسه. ثم قال المعترض: من الشبهات التي تدور على ألسنة المنكرين أن العبد لابد له أن لا يستعين بغيره تعالى ففي الفاتحة {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} لأن معناها نخصك بالعبادة والاستعانة فكما يجب على العباد تخصيصه تعالى بالعبادة كذلك يجب عليهم تخصيصه بالاستعانة فلا يعبدوا إلا إياه ولا يستعينوا إلا به (2) تعالى، هكذا زعم هذا المعترض أن هذه شبهة وكذب في ذلك فإن هذا هو الحق الذي نطق به القرآن في مواضع وجاءت به السنة وعلم وجوبه بالضرورة من دين الإسلام وبالفطر المستقيمة، لكن هؤلاء اجتاحتهم
الشياطين وصرفتهم عن أصل الفطرة فصاروا في شك وريب نسأل الله الثبات على دينه. قال المعترض: ويجاب عن هذه الشبهة بوجوه ذكر منها أن الفاتحة مقروءة على ألسنة العباد تعلما للسلوك والوصول أي ينبغي أن يحمدوا الله ويذكروه بالصفات الجليلة مع الحضور والإخلاص ونفي الخواطر والوساوس مجتهدين في دفعها حتى تندفع بالكلية ولا يبقى في ملاحظتهم إلا الله فحينئذ يستحقون أن يخاطبوا الله ويقولوا: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (1) . وقصد هذا أن تخصيصه بالاستعانة في حال السلوك والخطاب وعدم وجود السوي وارتفاع الوسائط، ومراده أن في غير تلك الأحوال تباح الاستعانة بغير الله وتجوز فنعوذ بالله من الجهل المعمي. ويقال لهذا: إن الله تعالى ذم المشركين وكفرهم مع إخلاص الدعاء والاستعانة به في حال ارتقاع الوسائط والسوي لإشراكهم في حال وجود ذلك كما قال تعالى: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْأِنْسَانُ كَفُوراً} (2) وقال: {وَإِذَا مَسَّ الْأِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَاداً لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ} (3) ، ويقال هذه الآية دلت على أصلين عظيمين ألا يعبد إلا الله ولا يستعان إلا به، كما قال تعالى عن شعيب: {ِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} (4) وقال: {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ} (5) ، ونحو هذه الآيات التي فيها
الجمع بين التوكل والاعتماد والعبادة والإنابة. وإذا كان التوكل والاعتماد في العبادات وغيرها شرطا (1) في حصول الإيمان كما في قوله تعالى: {وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ} (2) . فالاستعانة به في نيل المطلوب ودفع المرهوب أصل وشرط في حصول الإيمان المطلق لما بينها وبين التوكل من التلازم فتسلم أن الفاتحة فيها التعليم للسلوك والوصول وهذا هو دين الإسلام ومعرفة سلوك الصراط والوصول إلى الله هو أصل الدين الذي يجب التزامه، ومتى جاز للعبد أن يخرج عن هذا السلوك وطلب هذا الوصول في حال من الأحوال؟ حتى يقال: إن هذا مخصوص فإن العبد كلف بطريق السلوك وطلب الوصول إلى الممات كما قال تعالى: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} (3) ومتى بقي في قلب العبد ملاحظة واستعانة بالوسائط فهو على درجتين إما أن يلاحظ ما جرت به الأسباب العادية مما هو في طاقة الخلق وقدرتهم فالاعتماد على هذا والتعلق به ينقص الإيمان الكامل وتنحط به درجة العبد لكن لا يخرج به عن الإسلام إذا كان أصل اعتماده وتوكله على الله لا على غيره. وأما ملاحظة السوي والوسائط في غير الأسباب العادية كالذين يلاحظون أرواح الأنبياء والأولياء ويرجونهم ويستمدون منهم هذا هو الشرك الأكبر الذي لا يجامع أصل الإيمان ولا يطابق قوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} والبراءة من هذا ونفيه هو الصراط المستقيم الموصل إلى الله وإلى جنته ومرضاته. وعبارة البيضاوي التي نقل هذا عنه تدل على هذا وتقرره لأنه ذكر أن الله تعالى خوطب بقوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} بعد ذكر الحقيق بالحمد ووصفه بما تقدم من الصفات التي اختص بها، فلهذا خوطب بذلك أيا من
هذا شأنه نخصك بالعبادة والاستعانة ليكون أدل على الاختصاص والترجي من البرهان إلى العيان والانتقال من الغيبة إلى الشهود وكان المعلوم صار عيانا والمعقول مشاهدا والغائب حاضرا إلى آخر عبارته. وأراد بهذا توجيه الالتفات إلى الخطاب من الغيبة وهو صريح في أن العبد يطلب منه هذا ويجب عليه لأن تخلف المدلول إخلال بهذا الواجب ونقض لهذا العهد. وقول الجاهل: إن هذا تعليم بطريق السلوك والسلوك مبدأ ومنتهى ففي المبدأ ذكر الله عبادته وطاعته وفي الانتهاء فناء عما سواه وعن فنائه فلم يبقى إلا الله وجميع الأشياء الكونية يردها العارف الواصل إن أراد بهذا الكلام ونحوه. إن هذا خاص بأناس أهل السلوك وأرباب الطرائق، وإن غيرهم من الخلق وسائر المسلمين لا يجب عليهم تخصيصه بالعبادة والاستعانة فهذا جهل يضحك منه العقلاء ولم يقل هذا أحد ممن يعرف ما يخرج من بين شفتيه إلا أن يكون مكذبا متلاعبا. وكلام المفسرين وأهل العلم يرد ما قال هذا المعترض، ويدل على ما قاله المسلمون من وجوب عبادته تعالى وحده ووجوب الاستعانة به وحده في هذه الآية وعلى زعم هذا يقال في قوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (1) ، إن العبادة تخصه تعالى في حال دون حال لأن هذا مقام تعليم لطريق السلوك وفيه فناء عن السوي، وهذا انسلاخ من الدين وتكذيب لنص الكتاب المبين. وأما قوله: فلأن حق العابد أن لا يلاحظ وقت العبادة غير معبوده فالاستعانة لغيره تعالى فيها ممنوعة ولكن لا تدل على أن
الاستعانة ممنوعة مطلقا كيف والمؤمنون يتعاونون بعضهم بعضا قال الله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (1) فيقال: هذا كلام قريب مما قبله إلا أنه خص الاستعانة به تعالى في حال العبادة وعلى كلامه أن في غير العبادة يجوز أن يستعين بغيره ويستمد منه سواه تعالى. وهذا القول فيه حل لربقة العبودية وخروج عن الأحكام الشرعية ومنع لكتاب الله أن يعمل به إلا في حال دون حال وما رأيت من عباد القبور من بلغ جهله إلى هذه الغاية وتصرف في كلام الله بمقتضى رأيه ومذهبه، وأين هذا عن معنى الحصر والاختصاص المستفاد من تقديم المعمول على العامل وأين هو عن العموم اللفظي الذي اعتبر أهل العلم والتأويل بل تعرفه العامة من المسلمين وتقر به. وأما قوله:- كيف والمؤمنون يتعاونون بعضهم بعضا- فهذا من غباوته فإن التعاون بين المؤمنين لا يدل على أنهم يتعاونون فيما هو من خصائص الربوبية بالقدرة والتأثيرات الباطنية وإنما ذلك خاص بالأسباب العادية والفعال المشاهدة الحسية ومن لم يفرق بين هذا وما قبله فهو ممن طبع الله على قلبه. وما ذكره من الحصن الحصين من طلب الإعانة إذا انفلتت الدابة ليس هو من جنس الاستعانة الشركية فيما لا يقدر عليه إلا الله بل هو من جنس الأسباب العادية لأنهم حاضروه فخاطبهم من جنس خطاب الحي الحاضر وأين هذا؟ من الاستعانة من أصحاب القبور من الأولياء والمشايخ. وقال المعترض: وقد يجاب عن هذه الشبهة بأن الاستعانة طلب المعونة وهي بالأسباب التي يسهل بها الفعل وتقرب الفاعل وبالأسباب التي
يتوقف عليها الفعل المسمى بالاستطاعة، فمرجع الاستعانة هنا طلب التوفيق والهداية ولا شك أنهما فعلان لله مختصان به انتهى كلامه. والجواب: أن هذا الرجل لا يدري ما يقول، فإن عبارته متناقضة، فأولها فيه جعل الاستعانة بالأسباب التي يتوقف عليها الفعل والأسباب التي يسهل الفعل وهذا عام، وفي آخرها قال: ومرجع الاستعانة هنا إلى طلب التوفيق والهداية وهي أخص من الأسباب التي يتوقف عليها الفعل والتي تسهله فقد يوجد السبب ولا يوجد المسبب وليس بين السبب والمسبب تلازم أصلا ومراده بهذا الكلام المختلف أن: التوفيق والهداية مختصان بالله وما عداهما فمستعان به غيره ويستمد ممن سواه تعالى الله عن هذا القول وأي دليل؟ دل على أن المقصود بالآية نوع من الاستعانة خاص دون سائر الأنواع ثم من جهله ساق بعد هذا الكلام عبارة البيضاوي فيها تقسيم المعونة إلى ضرورية وغير ضرورية وهي حجة عليه فإن البيضاوي أدخل جميع الأقسام في الآية وبين أن هداية الصراط المستقيم هي الإعانة المطلوبة وهذا عام في كل ما يستعان به تعالى عليه من أمر الدنيا والآخرة فإن الصراط المستقيم لا يخرج عنه إلا أفعال المغضوب عليهم والضالين فهو لفظ عام يدخل تحته من المقصود والإرادات والأعمال الباطنة والظاهرة والغايات والوسائل كل (1) ما أريد به وجهه تعالى وكان صوابا على المنهاج المحمدي وعبارة البيضاوي ترد قول هذا المعترض وتشهد لما قلناه ولكنه نظر إلى ما فيه من التقسيم فظن أن ذلك حجة له وهو عليه. وأما قوله: فأن قيل ما معنى الاستمداد والاستعانة من الأنبياء والأولياء قلنا معناه الذي نريد به التوسل بهم إلى الله في المهمات فقط بأن يقول المتوسل: اللهم إني أسألك حاجتي هذه وأتوسل بهذا العبد المقرب المكرم عندك أن تعطيني كذا وكذا بلطفك وكرمك.
فيقال لهذا: هذا الكلام ينافي ما قبله وما بعده لأنك صرحت أولا بأنه يستمد منهم ويستعان بهم ويقصدون في الحوائج ويعلمون الغيب ويتصرفون ويدبرون، ولا يصلح تفسير هذا بأن المراد أن يقول المتوسل: اللهم إني أسألك حاجتي هذه بهذا العبد ونحو هذا الكلام، فإن الأول صريح في سؤال العباد وليس فيه تعرض لسؤال الله بهم والقولان متنافيان. فإما أن يكون الرجل مصابا في عقله أو قصد التمويه والمغالطة والشقشقة ترويجا على العوام وهي مما يزري عند ذوي الأفهام، ويقال أيضا: قولك بعد هذه العبارة: أو يقول: يا عبد الله يا ولي الله اشفع لي صريح في منافاة هذا ويطابق الأول من بعض الوجوه ولكنه يخالفه من حيث أنك هنا ذكرت الشفاعة وفي الأول جزمت بالتصريف والتدبير، والشافع لا يكون متصرفا مدبرا وإنما ينال بجاهه عند المتصرف المدبر إذا تبين هذا- وأن الرجل مخلط- فاعلم أن مسألة الله بجاه الخلق نوع ومسألة الخلق مالا يقدر عليه إلا الله نوع آخر. فمسألة الله بجاه عباده منعها أهل العلم ولم يجزها أحد ممن يعتمد به ويقتدى به كالأئمة الأربعة وأمثالهم من أهل العلم والحديث إلا أن ابن عبد السلام (1) أجاز ذلك بالنبي صلى الله عليه وسلم خاصة وقيده بثبوت
صحة الحديث الذي جاء في ذلك وهو حديث الأعمى الذي جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: ادع الله يا محمد أن يرد علي بصري فأمره أن يتوضأ ويصلي ويدعو الله وفي دعائه أسألك بنبيك محمد، قال ابن عبد السلام: إن صح الحديث فيجوز بالنبي صلى الله عليه وسلم خاصة والحديث في سنده من لا يحتج به عند أهل العلم كما لا يخفى على أهل الصناعة. وجمهور الناس من أهل العلم يقولون: معنى الحديث إن صح: التوسل بدعائه صلى الله عليه وسلم في حياته كما كان الصحابة يتوسلون بدعائه في الاستسقاء وفي غيره، وأما بعد وفاته صلى الله عليه وسلم فليس من هديهم وطريقتهم أن يسألوا الله به، بل لما قحطوا زمن عمر استسقى وتوسل بدعاء العباس كما تقدم، وبالجملة فهذه المسألة نوع ولا يخرج الإنسان عن مسألة الله وإنما الكلام في سؤال العباد وقصدهم من دون الله. كما هو صريح كلام هذا المعترض. وسؤال العباد والاستعانة بهم فيما لا يقدر عليه إلا الله شرك جلي. ولو قال: يا ولي الله اشفع لي فإن نفس السؤال محرم. وطلب الشفاعة منهم يشبه قول النصارى: يا والدة الله اشفعي لنا إلى الابن والإله. وقد أجمع المسلمون على أن هذا شرك. وإذا سألهم معتقدا تأثيرهم من دون الله فهو أكبر وأطم وهو صريح كلام هذا المعترض فيما تقدم لكنه مخاتل موسوس. وقوله: وأما ما يريد به العوام فمع اعتقاد التأثير ممنوع بل شرك وكذلك السؤال من الأنبياء والأولياء أمورا مختصة بالله تعالى، وبعض أفعالهم عند زيارة القبور فهو حرام قطعيا. وأما التوسل بالوجه الذي بينً فهو جائز بالأخبار والآثار فيقال: أي فرق بين ما ذكرته من أن أرواح الأولياء تتصرف وتدبر وتعلم الغيب ويستعان بها وبين ما ذكرته عن العوام؟ بأن قلت: إن العوام يعتقدون أنها تفعل وتؤثر بغير إذن الله وأنها مستقلة بالربوبية فهذا لا يقوله أحد ممن يعترف بأن الله رب كل شيء. وإن قصدت أنه يقولون إنها مفوضة وتأثر وتتصرف وتعلم فهذا عين قولك سواء بسواء ولا فرق بينك وبينهم.
وإنما ذكرك اعتقاد العوام هنا مجرد تلبيس، وكل من نظر في كلامك عرف أنه هو الذي نسبته إلى اعتقاد العوام وقوله: وكذلك السؤال عن الأنبياء والأولياء أمورا مختصة بالله تعالى إن أراد به غير الأسباب العادية فهذا هو الذي فيه النزاع وهو عين كلامه أن أرواح الأولياء تتصرف ويطلب منها قضاء الحاجات ودفع المهمات وهذا مختص بالله وقد زعمه لغيره، وإن أراد به الأسباب العادية تطلب من غيره تعالى كسؤال المخلوق ما يقدر عليه من دفع العدو أو تعليم ما يعلمه من العلم وما في وسعه من الإطعام والصدقة والدعاء ونحو ذلك فهذا لا يمنع منه، والكلام إنما هو في النوع الأول الذي وقع النزاع فيه. وأما حديث عثمان بن حنيف وحديث ابن الجوزي وحديث أنس فهذه الأحاديث حجة عليه لا له لأنه ليس فيها استمداد من المخلوق والاستغاثة به بل فيها الاستمداد من ولي المدد ومالكه سبحانه. واستسقاء عمر ومعاوية بالعباس ويزيد حجة لأهل الحق القائلين أنه لا يستسقى بالأموات ولا يستعان بهم لأن بالمدينة وغيرها من الأنبياء والشهداء والسابقين الأولين من هو أفضل من العباس ومن يزيد بن الأسود ولا استسقى بهم أحد زمن الصحابة ولا في القرون المفضلة فدل على أن ذلك ليس من دين أهل الإسلام وأنه من أبطل الباطلين والسنة أولى بالاتباع وأحق، ثم إن هذا المعترض أتى في آخر كلامه بشبهة سامجة تخالف ما تقدم فقال: إذا تقرر أن أعمالنا تعرض عليهم بواسطة الملائكة أو بواسطتهم فيجوز أن يكون نداؤنا لهم والتوسل بهم يعرض عليهم فيدعوا لنا بالخير ويشفعوا فيشفعوا، والجواب أن يقال: أين الداعي والشافع؟ من المدبر المتصرف؟ وقد تقدم لك وتكرر أنك تقول: بأنهم يدبرون ويتصرفون ويمدون فما بالك رجعت القهقرة وجعلتهم داعين شافعين، والشفيع إنما يشفع بجاهه وكرامته عند من يفعل ولا فعل له هو بنفسه فلا أدري أي المذهبين تختار؟ وأي الطريقتين أرجح عندك؟.
أما الطريقة الأولى فطريقة من أشرك في الربوبية وزعم أن ثم مدبرين وفاعلين ومتصرفين. والطريقة الثانية فطريقة مشركي العرب ومن ضاهاهم وشابههم من عباد القبور الذين يعتقدون أنهم إذا سألوهم وتعلقوا بهم (1) نالوا بجاههم وشفاعتهم، وقد حكى الله عنهم ذلك في قوله تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} (2) وقال تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} (3) وبعض الجهال يظن أنه إذا قال: أنا أريد شفاعتهم وجاههم وأعتقد أن الله هو المؤثر أن ينجوا بهذا من الشرك ويكون مسلما وقد عرفت مما تقدم أن هذا هو الذي كانت عليه العرب في زمانه صلى الله عليه وسلم وأنهم لم يعتقدوا التدبير والتأثير لغر الله تعالى، قال الله تعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ} (4) والآيات في هذا كثيرة فيها أنهم يعترفون لله بالتدبير والتصريف ولكنهم قصدوا من آلهتهم مجرد الجاه والشفاعة وقول هذا قد علم مما ذكرنا أن قول القائل: يا شيخ عبد القادر شيئا لله استمداد منه جائر. فيقال له: تقدم لك أنك تقول: إن الذي نريد التوسل بهم إلى الله بأن يقول المتوسل: اللهم إني أسألك بعبدك وتقدم قولك: بأنهم يدعون لنا ويشفعون. وهذه العبارة الأخيرة صريحة في طلب عبد القادر بنفسه وهذا هو الذي تريدون وهو الذي انطوت عليه
الضمائر ولكنكم تارة تصرحون وتارة تكتمون وتظهرون عيره وعلى كل فأنتم في قول مختلف يؤفك عنه من أفك كما نعت الله بذلك إخوانكم الأولين. وأما حكاية اليافعي في تكملة روض الرياحين (1) أن رجلا استغاث بعبد القادر فأغيث ورأى عند ذلك رجلا عليه ثياب شديدة البياض ونحو هذا الكلام فهذا ليس من أدلة أهل الإسلام ولا يثبت به بإجماعهم حكم من الأحكام ويحتمل أن هذا المستغيث رأى خيالا أو جانا فتوهمه عبد القادر وليس كذلك إلا هذا (2) إن صح النقل ولا يمكن تصحيح مثل هذه الحكايات، ولو لم يكن من الموانع إلا جهالة الراوي لدين الإسلام وعدم معرفته بصحيح الأحكام، والحكاية عن الشيخ عبد القادر أنه يقول: من استغاث بي في كربة ومن ناداني باسمي في شدة فرجت عنه ومن توسل بي إلى الله في حاجة قضية له ومن صلى ركعتين ثم يخطوا إلى جهة العراق إحدى عشر خطوة ويذكر اسمي ويذكر حاجته فإنها تقضى (3) . وهذا الكلام البشع الخبيث نسبه إلى هذا الشيخ الموحد خطأ عظيم وزلل وخيم وقد ابتلي رحمه الله تعالى بمن يعتقد فيه نوعا من الإلهية ويجعله ندا لرب العالمين كما ابتلي بهذا علي بن أبي طالب وابنه الحسين وغيرهم من سادات المؤمنين، وكل من عرف عبد القادر ووقف على كلامه الذي نقله الثقات عنه يجزم ببراءته من هذا وسلامته من هذه الشركيات والخرافات التي ينزه عنها العاقل فضلا عن العالم الفاضل. وعند النصارى وأشباههم من هذه الحكايات ما يملأ الدفاتر وكانت العرب في الجاهلية تعج على عبادة اللات والعزى ومناة ونحو ذلك بمثل هذه الحكايات الضالة والأقاويل الباطلة بل ربما سمع بعضهم الخطاب من نفس
معبوده: قال الله تعالى: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} (1) وقال تعالى: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ} (2) وقال تعالى: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (3) وقال تعالى: {قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} (4) . وقد خرج الطبراني بسنده أنه كان بالمدينة منافق يؤذي المسلمين فقالوا قوموا بنا نستغيث برسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا المنافق فقال لهم صلى الله عليه وسلم: "لا يستغاث بي وإنما يستغاث بالله عز وجل"، فمنع من إطلاق هذا اللفظ حتى في الأسباب العادية سدا للذريعة الشركية وهو سيد ولد آدم صلى الله عليه وسلم ويروى عن أبي عبد الله القرشي أحد مشايخ الطريقة أنه قال: استغاثة المخلوق بالمخلوق كاستغاثة الغريق بالغريق، وعن ذي النون استغاثة المخلوق بالمخلوق كاستغاثة المسجون بالمسجون، ولعبد القادر في كتابه (فتوح الغيب) ما هو قريب من هذا الكلام وهذه هي حال أولياء الله وعباده الصالحين يأمرون الخلق بما يوجب صرف قلوبهم ووجوههم إلى الله وحده لا شريك له والإنابة إليه والاعتماد عليه، كما قال عن إمامهم إبراهيم عليه الصلاة والسلام أنه قال لقومه: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ} (5) وقال تعالى لنبيه: {قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا رَشَداً} (6) فكيف يقول غير الرسول صلى الله عليه وسلم استغيثوا بي ومن استغاث
بي فرجت عنه سبحان الله ما أجهل أعداء الله وقال تعالى: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} (1) ، وتقديم الجار والمجرور يفيد الاختصاص وأن العباد لا يرغبون إلا إليه وفي الحديث: "من لم يسأل الله يغضب عليه" (2) وفيه من حديث ابن عباس: "إذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله" (3) ، وقال تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} (4) . فلأي شيء يستغاث بغيره؟ ألكون غيره أعلم وأرحم وأحكم ولماذا؟ تعالى الله عن قول الظالمين علوا كبيرا والحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله لقد جاءت رسل ربنا بالحق وصلى الله على أشرف المرسلين وإمام المتقين نبينا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما كثيرا غفر الله لكاتبها ولمؤلفها ولوالديهما والمسلمين آمين. الحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات الطيبات وتزداد بشكره العطايا والبركات وتنال الرغبات والخيرات وتدفع بالالتجاء إليه البليات والمضرات لا ملجأ ولا منجى منه إلا إليه ولا حول ولا قوة إلا به لا إله إلا هو رب الأرض والسموات وما بينهما ورب البريات.
الخاتمة
الخاتمة الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين. ونسأل الله وهو لطيف بعباده خبير بأحوالهم أن يهب لنا من لدنه رحمة ويهيئ لنا من أمرنا رشدا ويحسن عاقبتنا في الأمور كلها ويجيرنا وإخواننا المسلمين أينما كانوا من ضيق الدنيا وعذاب الآخرة ويرزقنا حسن الخاتمة عند الممات إنه سميع قريب مجيب الدعوات. وبعد: فإن هذه الرسالة القيمة المفيدة بضاعة ثمينة وسلعة غالية لم يسبق لها رواج بعد، ولكن الباري أراد أن تظهر هذه الجوهرة المكنونة من صدفها لتتلألأ بعد أن خفيت ردحا من الزمن رغم أن مضمونها الذي احتوته سلاح حاد فتاك يجب أن يحمله كل جندي يغامر لإعلاء كلمة الله ورفع راية التوحيد وتقويض صرح الشرك ويدافع عن حوزة الإسلام والمسلمين لأن الغرض الوحيد من تأليفها رد العدوان السافر الذي شنه بعض أهل الشبه الذين انطمست بصائرهم على جمال هذا الدين الحنيف بهائه ونزاهته لتشويهه وتقبيحه ومحو معالمه البراقة التي تتراءى في الآفاق كلها وإيقاع العوام وأمثالهم من مطموسي القلب في شبكات الشرك والوثنية والكفر والإلحاد.
ومن هنا ندرك تماما قيمتها العلمية المرموقة وأن من حظي بها وعرف ما حوته من المعاني الروحية والعلوم الخيرة استطاع بعون الله أن يستنير بها وينير الطريق لغيره من التائهين الحيارى، ويقهر عدو الإسلام والمسلمين ويغلبهم بهذا السلاح الفتاك الذي لا يغلب حامله لأنها صناعة من صنع الله الذي أتقن كل شيء، ولا شك أن مالكه يدمر كل ما من شأنه أن يعوق السير الحثيث إلى الغاية المنشودة كي يصل السائرون إلى تلك المعالم الرفيعة دون أن يتعثروا في طريقهم إليها أدنى انزلاق ولذلك أرى لزاما علي أن أوصي بإخواني في الله الدعاة الميدانيين والمفكرين المثقفين الواعين خاصة والمسلمين عامة أن يولوا عناية بالغة لهذه الجوهرة قراءة وتعلما وتعليما ونشرا في المعمورة حتى تكون بعون الله الغالب حربا على أعداء الله وسلما لأوليائه والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل وإياه أسأل أن ينفع بها كل من علمها وعمل بها ودعا إلى مضمونها إيجابا وسلبا وجميع المسلمين ويجعل هذه الجهود المتواضعة خالصة لوجه الله الكريم ويغفر لي ولوالدي ولمؤلفها والحامل على عملها ولجميع المسلمين إنه جواد كريم وهو حسبي ونعم الوكيل ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم وصلى الله على خير خلقه محمد وعلى آله وصحبه ومن ترسم خطاهم إلى يوم الدين. وقد وقع الفراغ من هذا العمل آخر شهر محرم سنة تسع وأربعمائة وألف من الهجرة النبوية يوم الخميس الموافق سبعة وعشرين من المحرم 27/1/1409هـ. كتبه محمد العارف بن عثمان بن موسى الأرومي الهرري.
مصادر ومراجع
مصادر ومراجع ... بسم الله الرحمن الرحيم فهرس المراجع والمصادر 1-القرآن الكريم. 2-موطأ ابن مالك. 3-صحيح البخاري. 4-صحيح مسلم. 5-سنن الترمذي. 6-سنن أبي داود. 7-سنن النسائي. 8-مسند الإمام أحمد. 9-رياض الصالحين للنووي. 10-بلوغ المرام للإمام ابن حجر العسقلاني. 11-تجريد الصريح. 12-نيل الأوطار للشوكاني. 13-فتح الباري للإمام ابن حجر العسقلاني. 14-تيسير العلام شرح عمدة الأحكام للشيخ عبد الله آل بسام. 15-شرح مسلم للإمام النووي. 16-سبل السلام للأمير الصنعاني. 17-فقه الإسلام شرح بلوغ المرام للشيخ عبد القادر شيبة الحمد.
18-التمهيد لابن عبد البر. 19-الولاء والبراء في الإسلام تأليف محمد بن سعيد القحطاني. 20-الموالاة والمعاداة للحماس الجعلود. 21-شرح العقيدة الطحاوية. 22-شرح العقيدة الواسطية لمحمد خليل هراس. 23-فتح المجيد شرح كتاب التوحيد للشيخ عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ. 24-تيسير العزيز الحميد للشيخ سليمان آل الشيخ. 25-العقيدة التدمرية لشيخ الإسلام ابن تيمية. 26-اقتضاء الصراط المستقيم في مخالفة أصحاب الجحيم لابن تيمية. 27-فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية. 28-كتاب الرد على المنطقيين لشيخ الإسلام ابن تيمية. 29-كتاب الفوائد لابن القيم الجوزية. 30-الآيات البينات في عدم سماع الأموات عند الحنفية السادات للعلامة نعمان بن محمود الألوسي. 31-الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح لشيخ الإسلام ابن تيمية. 32-تفسير ابن كثير. 33-الجامع البيان في تأويل آي القرآن للعلامة ابن جرير الطبري. 34-تفسير البيضاوي. 35-حاشية الجلالين للشيخ سليمان الجمل. 36-نيل الأوطار للشوكاني. 37-الأديان للشيخ عبد القادر شيبة الحمد. 38-التفسير والمفسرون للدكتور محمد بن حسين الذهبي. 39-سيرة ابن هشام. 40-البداية والنهاية لابن كثير. 41-مقدمة ابن خلدون.
42-التاريخ الكبير للطبري. 43-تهذيب التهذيب للعسقلاني. 44-تقريب التهذيب له رحمه الله. 45-فتح القدير الجامع بين الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني. 46-منهاج التأسيس والتقديس في الرد على داود بن جرجيس للمؤلف. 47-مصباح الظلام في الرد على من كذب الإمام للمؤلف نفسه. 48-إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول للشوكاني. 49-إمتاع العقول بروضة الأصول. 50-حاشية الخضر على شرح ابن عقيل في النحو. 51-أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ محمد الأمين الشنقيطي. 52-رسالة في آيات الصفات له.