البدر التمام شرح بلوغ المرام

الحسين بن محمد المَغرِبي

البدرُ التمام شرح بلوغ المرام للإمام القاضي الحسين بن محمد المغربي (1048 هـ- 1119 هـ) تحقيق علي بن عبد الله الزبن عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية قدم له فضيلة الشيخ صالح بن محمد اللحيدان رئيس مجلس القضاء الأعلى الجزء الأول

البدر التمام شرح بلوغ المرام

حقوق الطبع محفوظة الطبعة الأولى 1414 هـ = 1994 م

تقديم فضيلة الشيخ صالح بن محمد اللحيدان رئيس مجلس القضاء الأعلى

تقديم فضيلة الشيخ صالح بن محمد اللحيدان رئيس مجلس القضاء الأعلى الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، خلق الإِنسان وعلمه البيان، وهدى من شاء إلى سلوك طريق الجنة، فأعظم عليه بذلك المنة، ونفع به الأمة، والصلاة والسلام على إمام الهداة المهتدين، وقائد الغر المحجلين، المبعوث رحمة للعالمين، الذي أخرج الله به الأمة المحمدية إلى خير المنازل وأقوم المسالك، فصاروا خير أمة أخرجت للناس؛ تقوم بالعدل، وتحكم به، وتأمر بالمعروف، وتنهى عن المنكر، وتنشر العلم، وتبث المعارف، وتدعو إلى سواء السبيل، وتحافظ على ميراث النبوة، وتصونه عن العبث والتحريف، وتبين مقاصده، وتوضح مراميه، وتحل مشكله، وتبسط القول في مجمله. وذلك لأنَّ الله أراد حفظ هذا الدين وصيانته. وبعد، فإن أفضل العلوم وأجلُّها ما كان سببًا لنيل أشرف المنازل وأرفعها، وهو علم الشريعة الغراء، وأعلى ذلك وأرفعه ما كان متعلقًا بكلام الله أو كلام رسوله محمد - صلى الله عليه وسلم -، إذ إن كلام الله وكلام رسوله قُطْبَا رحى علوم الشريعة، وعليهما مدار أحكام الشريعة في العقيدة والعبادات وسائر أحوال النَّاس. فالقرآن كلام الله الذي هو الحكم والفصل في كل ما شجر بين النَّاس، وكلام رسوله - صلى الله عليه وسلم - بيان لما نزله الله للناس من الأحكام. وقد عنى علماء الإِسلام بخدمة الكتاب والسنة، وقاموا بذلك خير قيام، ولم يوجد في الأمم السابقة من العلماء من خدم شريعة نبي كخدمة علماء الإسلام لشريعة الله المنزلة على خير الأنام، فقاموا بضبط نصوصها، وحل ما قد يستغلق على بعض النَّاس من ألفاظها، كما قاموا بجمع ما ورد منها جمعًا عامًّا وجمعًا خاصًّا، فألَّفوا أدلة الأحكام، وأدلة العقائد، والإِيمان

ما بين مبسوط ومختصر، واعتنوا بشروح الأحاديث عناية فائقة، وقاموا بحفظ متونها واستنباط الأحكام والقواعد من نصوصها، فكثرت الشروح على الكتاب الواحد ما بين مختصر ومطول، واعتنى متأخرو علماء الحديث بالاختصار تبعًا لتقاصر الهمم وضعف المدارك. ومن أجَلِّ ما أُلف في جمع أدلة الأحكام مع الاختصار كتاب "بلوغ المرام" للعلامة الحافظ، ابن حجر العسقلاني، الذي صار عمدة المتأخرين، يعتنون بحفظه والمذاكرة في أحاديثه، وكان الحافظ قد بالغ في اختصار الكلام عن الأحاديث، فيأتي بخلاصة ما يرى عن الحديث صحة وتحسينًا أو ضعفًا، فكان هذا الكتاب الحائز للدرجة العالية من حسن الجمع وحسن الاختصار يحتاج إلى شرح يستغني به قارئه عن مراجعات مطولات الشروح وكتب اللغة والأحكام، وكان أول من وصل إلينا شرحه لهذا الكتاب العلامة محمد بن إسماعيل الأمير الصنعاني صاحب الكتب النافعة البديعة، فوضع كتابه "سبل السَّلام" وتداولته الأيدي، وتناقله طلحة العلم، ونهلوا من فيض معارفه، فقَلَّ أن تجد مكتبة خالية منه، وبه ذاع وانتشر حيث أصله كتاب "البدر التمام شرح بلوغ المرام" لمؤلفه العلامة القاضي الحسين بن محمد المغربي اليماني من مغرب اليمن. وكان طالب العلم يتطلع إلى رؤية أصل سبل السَّلام، ويتمنى مطالعة هذا الشرح، وقد أعجب بالفرع الذي هو "سبل السَّلام"، غير أن ضخامة كتاب "البدر التمام" قد عاقت عن الحصول عليه وانتشاره بين النَّاس رغم الحاجة إلى تداوله. ولما صارت الجامعات الإسلامية في هذه البلاد السعودية تشجع أهل العلم وتحثهم على بعث نوادر الكتب من مراقدها، وإخراجها من غياهب سجونها، وتسهيل سبل الاستفادة منها، قوى الرجاء ودبَّ في النفوس الأمل بأن يتوالى نفض الغبار عن مكنونات تراثنا المجيد وإخراج كنوزه؛

لينهل طلاب العلم ورواد المعرفة من معينه الثر وموارده العذبة. وكان من بين هؤلاء الرواد الدكتور علي بن عبد الله بن عبد الرحمن الزبن، الذي توجهت همته إلى نيل الدرجات العلمية بتحقيق كتب السنة وعلومها، فكان بدو ثمرات جهده واجتهاده إخراج كتاب "شرح تراجم صحيح البُخاريّ" للعلامة بدر الدين ابن جماعة، الذي نال به درجة الماجستير، فكان جهده بإخراج ذلك الكتاب جهدًا يذكر فيشكر، وكم من الفوائد والدرر في تراجم الإِمام البُخاريّ رحمه الله، ثم توجهت همته لنيل الدكتوراه بإخراج كتاب "البدر أقام شرح بلوغ المرام" فقام بذلك بكلِّ جد ونشاط، وجمع عددًا من نسخ الكتاب ترى الإِشارة إليها في مقدمة الكتاب وجمع قدرًا من مراجع الشارح من مخطوطة ومطبوعة، وبذل جهدًا بارزًا في إخراج الكتاب بصورة مشرقة، واعتنى بشرح المفردات الغامضة، وترجمة الأعلام الذين يحتاج القارئ إلى معرفتهم وذكر الطوائف التي أشار إليها الشارح بتعريف موجز مفيد، وخرّج الأحاديث بالطريقة الفنية المعاصرة، واستدرك على المؤلف الشارح في بعض مواضع من الكتاب، راجعًا في ذلك إلى مراجع معتمدة عند أهل العلم. ولما نال شهادة الدكتوراه بجزء من هذا الشَّرح سمت همته إلى إبراز الكتاب كاملًا، وهو بذلك يُسدي إلى المكتبة الإسلامية يدًا بيضاء بإبراز أوفى شرح لبلوغ المرام وأكمله، إذ الحاجة إلى إبرازه داعية، وحاجة دارس كتاب بلوغ المرام إلى تداوله ملحة، وقد هيأ الله أسباب ذلك بتوفيقه لفضيلة الدكتور علي بن عبد الله الزبن للقيام بهذه المهمة. وسيجد القارئ في هذا الشَّرح من التعليقات والاستدراكات المبثوثة في حواشيه ما يحمد المحقق على عمله ويشكره على عنايته. ولن أتحدث بتفصيل عن مزايا هذا الشَّرح، ولا عن فوائد الهوامش التي زيّن بها المحقق صفحات الكتاب وأشار إلى مواضع أقوال العلماء من مراجعها عند إشارة الشارح

إلى رأى بعض أهل العلم، ممَّا يعين الباحث المتطلع لاستقصاء البحث، وهي طريقة نافعة وجذابة يسَّرت للباحثين اختصار الوقت، والإِطلاع الواسع بأقصر مدة. وقد رغب مني فضيلة الدكتور علي أن أكتب كلمة بين يدي الكتاب، فأجبته إلى طلبه، مع علمي أن الكتاب غني عن كلمتي، إذ هو شرح لأجَلِّ مختصرات كتب علماء الحديث المتأخرين، كما أن مختصره "سبل السَّلام" قد صار له كالطليعة إذ إن كتاب "سبل السَّلام" مختصر منه، فتغني معرفة ذلك عن مدحه، وقد ازدانت حواشيه بتعليقات رائقة ومباحث فائقة، أسأل الله أن ينفع بها جامعها ومطالعها ومن أعان على نشرها. وإني بهذه المناسبة أحثُّ طلاب العلم على العناية بالحديث وتفهم معانيه ومراجعة شروحه وتتبع ألفاظه من مختلف رواياته، وعدم الاكتفاء والاجتزاء بالمختصرات ما أمكن الوصول إلى المطولات لما في مطولات الشروح من البسط والوضوح وإبراز فضل العلم وإظهار مزاياه والدلالة على تفاوت أصنافه في الفضل؛ "فإن فضل العلم تبع فضل المعلوم، وأفضل العلوم علم القرآن والسنة، فحري بطالب العلم غير المتخصص أن يكون له نصيب من ذلك، فضلًا عن المتخصص بهذه العلوم، إذ يُطلب منه بذل الوسع والتقصي بما يمكن، لا سيما وقد يسر الله سبحانه أسباب انتشال المدفون من أمهات الكتب ومطولات الشروح، كهذا الكتاب الذي ما كان يعرف إلَّا من قول الصنعاني رحمة الله عند تعرضه للحديث عن معاني نصوص "بلوغ المرام" باختصار لكلام الشارح أو استدراك عليه أو توضيح له. أسأل الله أن يجزي الدكتور علي بن عبد الله الزبن على عمله جزاء الصادقين الناشرين لعلوم سنة سيد الأنام، وأن يمنحنا وإياه وسائر طلاب العلم ومحبيه من أسباب التحصيل والتحقيق ونشر كنوز تراثنا الإسلامي

ما يكون سبب يقظة علمية ونهضة مباركة، تسمو بها معارفنا، وتسعد بها مجتمعاتنا، وتزكو بها مداركنا، إنه سبحانه سميع مجيب، وأخيرًا أكرر شكري للدكتور محقق هذا الشَّرح وأتمنى له مزيدًا من التقدم والمشاركات العلمية المفيدة، والله الموفق. وصلى الله على سيدنا ونبينا محمد وآله وصحبه وسلم. حرر في مدينة الرياض في ليلة 7/ 8 / 1414 هـ رئيس مجلس القضاء الأعلى صالح بن محمد اللحيدان

مقدمة [المحقق]

بسم الله الرحمن الرحيم مقدمة الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم الذي علم بالقلم علم الإِنسان ما لم يعلم، والصلاة والسلام على سيدنا ونبينا محمد، وعلى الله وصحبه ومن اقتدى بهديه وبعد: فإن العلم أشرف المطالب، وأجل الرغائب، وأجلُّه وأعلاه معرفة الخالق سبحانه وتحليل حلاله وتحريم حرامه، وكان رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم - المبلغ عن الله رسالاته المبيّن لمراده سبحانه، والمعبر عن مقاصد كتابه. فإن العلوم إذا تنوعت وتفاوتت مراتبها كان علم السنة رواية ودراية من أعلاها مرتبة، وأرفعها منزلة بعد كتاب الله تعالى. وكيف لا يكون وهو كلام الهادي البشير الذي بعثه الله رحمة للعالمين وأوتي القرآن ومثله معه، بأبي هو وأمي صَلَّى الله عليه وآله وصحبه وسلم. وقد تسابق في هذا الميدان علماء هذه الأمة خلفًا بعد سلف، وقام اللاحق يتم ما بدأه السابق، حتَّى أحاطوا كلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأسوار منيعة، ورسموا لتلقيه وحمله ضوابط دقيقة، ووضعوا أصول الرّواية والتحمل حتَّى أحكموا مباني هذا الشأن، ورفعوا مناره فبادروا في استخراج درره وجواهره، وفرعوا الفروع على أضوائه، وقعّدوا القواعد المستنبطة من مدلول جوامعه عقيدة وفقهًا وسلوكًا وآدابًا، ثم جعلوا يؤلفون في كل فن ما يدل عليه ويرشد إلى الصواب فيه ومن ذلك أدلة الأحكام. وقد اختلفت وجهات النظر لدى الأئمة الأعلام ما بين متوسع ومطول، ومتوسط ومقل، وكان كتاب "بلوغ المرام من أدلة الأحكام" للعلامة الحافظ ابن حجر قد حاز رضى أهل هذا الفن، وصار من أهم ما يقصده الطلاب حفظًا

واستدلالًا، وقد حوى من الأدلة غالب ما يحتاج إليه الفقيه، فصار عمدة المتأخرين لما امتاز به من حسن الاختيار وذكر علل الأخبار في غالب الأحيان. ولمنزلة مؤلفه لدى أهل هذا الفن انصرفت الهمم إليه، وكتبت عليه الشروح لكشف غوامضه والجمع بين ما يظن التعارض فيه في بعض متونه، وكان شرحه الموسوم "سبل السَّلام" للأمير الصنعاني -رحمه الله- عمدة لحفاظ كتاب البلوغ والمشتغلين به لأنَّه أوسع شرح متداول بين النَّاس وهو من أهم مراجع الطلاب في جامعة الإِمام محمد بن سعود الإِسلامية وغيرها في مادة الحديث، كما هو كذلك في بعض الجامعات العريقة كالجامع الأزهر. وقد اعتمد الصنعاني في شرحه لبلوغ المرام على كتاب سابق ألفه الإِمام القاضي الحسين بن محمد المغربي وسماه "البدر التمام شرح بلوغ المرام" ويمتاز هذا الأصل بما يلي: 1 - العناية بعلوم الحديث دراية ورواية؛ بنقد الأسانيد واستخراج الأحكام من متونها. 2 - تخريج الأحاديث وبيان طرقها من مصادرها الأصلية، وذكر العلل وآراء العلماء حولها، ممَّا يجعل الناظر المجتزئ بقدر الحاجة يعتمد عليه في العمل بما ذكره عن أسانيد تلك الأحاديث. 3 - العناية بالمسائل الفقهية المستنبطة من أحاديث الكتاب، إذ إن ثمرة علوم الحديث هي استخراج الأحكام من أدلتها وبيان وجه الدلالة منها. 4 - أن هذا الأصل لكتاب سبل السَّلام يمتاز عن فرعه بتفصيل ما أجمله وبسط ما طواه وما نجم عن ذلك أحيانًا من غموض أو قصور. 5 - ولأنه لما تتوافر الهمم لتحقيق هذا الكتاب وطبعه مع ما له من أهمية ومميزات وما ذكرته بعضًا منها. 6 - أن كتب الشروح تجمع في الغالب كافة الفنون بدءًا بكتب الفن، فتعنى بتخريج الأحاديث ودراسة أحوال الرجال وألفاظ الجرح والتعديل وعلم مصطلح

الحديث، زيادة على ما فيها من دراسات قرآنية ونكات فقهية وشوارد لغوية ولمحات بلاغية. فلِما ذكرته ولغيره من مميزات وفوائد الكتاب الذي بذل فيه مؤلفه رحمه الله جهدًا كبيرًا وأودعه علمًا غزيرًا، وجدتني مدفوعًا للعمل في تحقيق هذا السَّفر والتقدم به لنيل درجة الدكتوراه في علوم السنة. وكان الجزء الذي تقدمت به من بداية الكتاب إلى نهاية كتاب الجنائز. ولما أنهيت هذا الجزء لنيل الدرجة العلمية وجدتني مدفوعًا لإكمال بقية الكتاب لا سيما أن الفائدة لا تكتمل إلَّا بذلك. ولكن السير على نفس المهج الأول يطيل الكتاب ويثقل حواشيه، فاستقر رأيي على إكمال بقية الكتاب بمنهج يجمع بين الفضيلتين فأقلل الحواشي من الجزء السابق، وأقتصر في الجزء المتبقى على ما أراه ضروريًّا، كتخريج أو استدراك؛ خشية من الإطالة. فأرجو أن أكون موفقًا في ذلك، ومن الله أستمد العون والتوفيق. والله أسأل أن يوفق الجميع إلى ما فيه الخير والصلاح، وأن ينفعنا بما علمنا، وأن يجعل هذا العمل خالصًا لوجهه الكريم، وأن يبيض به وجهي -يوم تبيض وجوه وتسود وجوه- ووالديَّ الكرام ومشايخي ومن لهم فضل علي وللمسلمين، إنه جواد كريم. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى الله وصحبه وسلم. كتبه علي بن عبد الله بن عبد الرحمن الزبن الرياض صباح السبت 25/ 8 / 1411 هـ

الحسين بن محمد المغربي

الحسين بن محمد المغربي قبل أن ندخل في ترجمة الإمام القاضي الحسين بن محمد المغربي يحسن بنا أن نقف على صورة موجزة عن الحياة السياسية والعلمية ولا ريب أن الحالة السياسية وما يصاحبها من أمن واستقرار ورغد عيش يؤثر على الحالة الاجتماعية والعلمية في نفوس النَّاس فتستقر نفوس الناس ويهدأ بالهم وينصرف تفكيرهم إلى العمل والتحصيل وغير ذلك، وإذا كانت الحالةُ السياسية سيئة انعدم الأمن والاستقرار وأصبح النَّاس يخافون على أنفسهم وأموالهم، والعلم له ارتباط وثيق بهذا، فإذا كان الأمن موجودًا ساعد على نشر العلم وعلى الانتقال من مكان إلى آخر للتحصيل والدرس على المشايخ وغير ذلك. والعصر السياسي الذي عاش فيه الإمام المغربي من أسوأ الفترات التي عاشتها اليمن داخليًّا حيث كانت النزاعات مستعرة بين الأئمة، وخارجيًّا حيث كانت الحروب دائرة بين الأئمة من جهة والأتراك من جهة أخرى، على أن هذه الحالة السياسية العصيبة ما كانت لتظهر فجأة، بل كانت امتدادًا لأحداث سبقتها، ويقول أحمد حسين شرف الدين (¬1): إن الحكم الإمامي قد تمكن فعلًا من تثبيت أقدامه بصنعاء وتدعيم كيانه فيها خلال الشطر الأول من حكم الإمام شرف الدين وولده المطهر لولا ما مُنِىَ به من الغزو الخارجي من جراكسة وأتراك، ذلك الغزو الذي أخرج الإمام شرف الدين وابنه من صنعاء وجعلهما يتقهقران عنها ويلجآن إلى رؤوس الجبال. ¬

_ (¬1) اليمن عبر التاريخ 239.

الحروب الداخلية وأسبابها

وبالرغم من ذلك فقد ظل الإِمام المطهر يقاوم هذا الغزو الكثيف ويحارب فيالق الجيش التركي بصورة أثارت إعجاب المؤرخين وأدهشتهم كما استمر بعده الإمام المنصور القاسم ثم ولده المؤيد الذي أتيح له إخلاء الأتراك نهائيًّا من الأراضي اليمنية سنة 1045 (¬1) ولم يعودوا لغزوها إلَّا عام 1252 إثر خلافات داخلية بين الأئمة من أجلها عاد الأتراك للمرة الثَّانية إلى اليمن. وأمَّا السياسة الداخلية فقد عصفت باليمن فتن داخلية للخلاف على الإِمامة دامت عدة قرون سجل المؤرخون فيها عشرات المعارك (¬2). الحروب الداخلية وأسبابها: إن السبب للحروب الداخلية هو التنافس على الإمام، ومبعث هذا شيء واحد هو وجود العدد الكافي من الهاشميين الذين كانوا يُحَتِّمُون على أنفسهم وجوب القيام بمجرد إحساس أحدهم بشيءٍ من الفضل على الآخر، ومع هذا فإنَّه لم يحدث في الغالب وخصوصًا فيما بعد القرن العاشر الهجري أنْ مات إمام ولم يعقبه إمامان أو أكثر، كل منهم يرى أنَّه حقيق بالإمامة، وهذه الرغبة هي التي ساعدت الدولة على الاستمرار والبقاء طوال عدة قرون بغضّ النظر عما كانت تجرّه من التطاحن والانقسامات التي لا يتسع المقام لذكرها، ثم ما خلّفته من ضغائن وأحقاد بين القبائل جعلتهم يعيشون في صراع مستمر وفوضى مستحكِمة. يقول أحمد حسين شرف الدين في وصف الحالة الداخلية لليمن (¬3): عندما نتصفح كتب التاريخ في هذا الوقت بالذات نجد أن اليمن قد عاش حوالَي قرنَيْن من الزمان كلها فوضى وقلاقل وفتن داخلية، وإن القبائل اليمنية قد سئمت ¬

_ (¬1) المرجع السابق 243. (¬2) تاريخ اليمن السياسي 67. (¬3) اليمن عبر التاريخ 243.

هذا الوضع الذي أصبح فيه معظم الأئمة من آل القاسم يتكالبون على الحُكم ويتناحرون على كُرسيّ الإمامة تاركين وراءهم رعاية الأمة، والعمل على نشر العدل وإقرار الأمن في البلاد. كما نجد أن البلاد قد تفرقت إلى شِيَع وأحزاب نتيجة لقيام عدة أئمة في آنٍ واحد كل منهم يقود الحملات ضد صاحبه ويؤلّب عليه القبائل ثم يناجزه الحرب كما حدث مثلًا بين المهدي صاحب "المواهب" وبين ابن عمه المنصور الحسين بن القاسم من جهة، وكما حدث أن قام أئمة خلال خمس سنوات فقط. هذا وصفٌ عام للحالة وحينما نتصفح التاريخ ونرصد أحداثه في هذا الزمن نجد أنَّه بعد موت المتوكل إسماعيل 1087 قامت القيامة على اغتنام الإمامة فقد قام أحمد بن الحسين صاحب "الغراس" وتلقب بالمهدي، ثم أعقب هذه الدعوة ظهور دعوة القاسم بن محمد -بشهاره- وأجابته الأهنوم. وظهور دعوة الحسين بن الحسن بعمران وتلقب بالواثق ثم دعوة السيد محمد بن علي الغرياني -ببرط- والسيد أحمد بن إبراهيم المؤيد -بثلا- والسيد علي بن أحمد بصعدة وتلقب بالمنصور فكان السابع. وانتهى الأمر بأن يكون المهدي حاكمًا شريطة أن يقطع المهدي للقاسم بن محمد المؤيد بلاد حجة وعفار وكحلان والأهنوم، وتمّ الأمر على ذلك، وفي سنة 1092 توفي الإمام المهدي أحمد بن الحسين فدعا بعده الأمير محمد بن إسماعيل بن القاسم وتلقب بالمؤيد، وعارضه بعض آل القاسم وفي النهاية استقر الأمر له وأقام في ضوران، وفي 1097 توفي المؤيد وقام كل واحد من القاسمية بالدعوة لنفسه في شبام كوكبان -وفي صعدة- ورادع -وصنعاء- ومسور خولان، وفي النهاية تمّ الأمر للمهدي بن محمد واستقر بالمواهب بالقرب من ذمار وتغلب على معارضيه يوسف بن المتوكل وجماعته وقيدهم في -قلعة الدملوة-، ثم أطلقهم في سنة 1109 ثم أعاد الكرة مرَّة أخرى فعثر به المهدي واستفتى في أمره العلماء فأفتوا بقتله إلَّا أحدهم رجح

الحالة العلمية

حبسه فحبسه ثم أفرج عنه في سنة 1113 وأقطعه بلاد سنحان، وفي عام 1124 قامت معارك بين الحسين بن القاسم بن المؤيد والإمام المهدي انتصر فيها الحسين بن القاسم حيث حاصره في مكانه المواهب وتنازل المهدي للحسين بن القاسم وتلقب بالمنصور. هذه هي الصورة التي كانت تعيشها اليمن خلال تلك الفترة وهي جلية واضحة في الدلالة على الحالة التي عاشها اليمن آنذاك من حروب ودمار يلحق بالديار، ويساعدنا على تصور ذلك إذا عرفنا الصورة التي تقوم بها الحروب حيث تخرج القبيلة بأكملها للحرب تاركة ديارها ومزارعها، ثم إن اليمن بلد مغلق يعتمد على نفسه في السراء والضراء، كل هذا يعطينا صورة لما كانت عليه حياتهم اليومية وحياتهم الاجتماعية. وما كانت الحياة الاجتماعية إلَّا صورة للواقع السياسي فتلك الحروب الدامية المستمرة المتصلة الحلقات التي لا تكاد تقف بين الأئمة قد أثَّرت على الحياة الاجتماعية تأثيرًا بينا (¬1). على أن استقرار الإمام المغربي في صنعاء وهي بلد ربما كان لها وضعها الاستقراري لبعدِها عن القبائل -ساعد على نشر العلم بها وبقائها بعيدة عن الحروب وهذا ما سنراه في الحالة العلمية. الحالة العلمية: تنفرد اليمن بصفات خاصة بوضعه السياسي -الحكم الإمامي- والقبلي. وبالمذهب الزيدي. وقد استمر على هذا ردحًا من الزمن وكان لصيحات محمد بن إبراهيم بن الوزير (ت 840) أثر في ترك المذهب والانفتاح الفكري على المذاهب الأخرى وبقيت صيحات ابن الوزير زمنًا حتَّى استجاب لها العلامة صالح بن مهدي ¬

_ (¬1) انظر: تاريخ اليمن السياسي ص 226، وتاريخ اليمن الثقافي، واليمن عبر التاريخ 244.

المقبلي (ت 1108) الذي ألف "العَلَم الشامخ في إيثار الحق على المشايخ". وهذا الإِمام المغربي شرح بلوغ المرام، والإِمام الشوكاني شرح المنتقى للمجد ابن تيمية. وحينما ننظر إلى التعليم نجد أن المدن الكبيرة ينتشر فيها العلم والدين، فشهدت حركة علمية لا بأس بها والسبب في ذلك أن أهل المدن يكون التأثير القبلي عليها ضعيفًا، ثم إن الحروب التي دارت بين الأئمة كانت بعيدة عن صنعاء، بل ولم يؤثر الفقر وشظف العيش على طلب العلم. يصف أحد طلبة العلم حالة الطالب وحرصه على العلم مع شظف العيش قائلًا: كم بها من طالب فقير ... يقنع في الأرزاق باليسير لا يجعل الفقر له ذريعة ... إلى اطراح العلم والشريعة موزع أوقاته شطرَيْن ... على الذي ينفع في الدارين (¬1) وحينما نقرأ "أدب الطّلب" (¬2) للإِمام الشوكاني نجد صورة لما كانت عليه المدارس والكتب، فقد ذكر كتب التفسير والحديث والفقه وأصوله والنحو والبلاغة وآداب المناظرة وكتب المنطق. وكانت إجازات العلماء مستمرة للطلاب يجيزون فيها طلابهم إيذانًا بالانتهاء والتأهيل للتعليم، وإليك صورة من ذلك: فقد أجزت ما قرأ ... في فقه آل المرسل وإنني أجبته ... إلى بلوغ الأمل منها تصانيف رقت ... على محل زحل (¬3) بعكس الأرياف التي قَلَّ فيها العلم فانعكَست على أوضاعهم السلوكية، قال الجرموزي واصف الحال: ¬

_ (¬1) الأدب اليمني ما بين 1045 - 1289. (¬2) أدب الطّلب 107. (¬3) الأدب اليمني 85.

ولادته ونسبه وأسرته

جهلة غمر وأنعام مكلفون لا يوجدُ فيهم من الألف من يصلِّي أو يعرف شيئًا من التكليف الشرعي ولا العقلي. ويصف سلطانهم بأنه جاهل لا يعرف شيئًا وأنه كانت تصله رسائل من الإِمام فكانت تُقرأ عليه فلا يعرف معانيها، وربما يضحك ويقول: هذا كلام مليح ولكن وِش يبغي مني الزيدي (¬1). هذه صورة للناحية العلمية، على أن قلة الكتب التي وصفت أوضاع اليمن في هذا العصر مع أن أكثرها لا يزال مخطوطًا جعلني لا أستطيع أن أقف على الصورة لذلك العصر وما ذكرته في هذا لعله يؤدي الغرض في الجملة. وبالله التوفيق. ولادته ونسبه وأسرته: إحدى وسبعون عامًا قضاها قاضي صنعاء ومحدثها وعالمها الحافظ الحسين بن محمد بن سعيد بن عيسى اللاعي المغربي في التدريس والقضاء والإصلاح بين النَّاس إذ كان مولده في صنعاء سنة 1048. وبيت آل المغربي في بلاد اليمن من بيوتات العلم يمثل سلسلة توارثت العلم وله ولأخيه الحسن ذرية صالحة. قال الشوكاني (¬2): ولهذين الأخوين الحسن والحسين ذرية صالحة هم ما بين عالم وعامل إلى الآن وبيتهم معمور بالفضائل. أما أخوه الحسن (¬3) فقد ولد بصنعاء سنة 1050، وأخذ عن أخيه القاضي الحسين بن محمد وعن القاضي محمد بن إبراهيم السمولي كان من محاسن اليمن، له حاشية على "نشر القلائد" للجزي في أصول الدين. وقال صاحب "نعمات العنبر" (¬4): هو العلامة ناموس أهل التحقيق ¬

_ (¬1) تاريخ اليمن السياسي 110. (¬2) البدر الطالع 1/ 230. (¬3) و (¬4) نشر العرف 1/ 500 - 501.

ومنهم

والمتفرد بالنظر الدقيق، نشأ مجتهدًا في تحصيل العلوم، فائقًا لإِثر أخيه الحسين فأدرك ما أدرك وسلك في تحقيق الفنون كل مسلك، كان فصيحًا ناطحًا ناثرًا سليم الصدر، متواضعًا مع الطلبة وغيرهم من سائر المسلمين. فمنهم (¬1) القاضي التقي الحسين بن أحمد بن حسين المغربي الصنعاني، كان فاضلًا زاهدًا مشغولًا بالعلم لا يدع الصَّلاة في جماعة بجامع صنعاء كأخيه علي بن أحمد بن الحسين في السمت والإِخبات، وهو من المعتذرين عن الولايات بعد أن طلب إلى ذلك، توفي ثاني ذي القعدة سنة 1223. وعلي بن أحمد بن الحسين المغربي ترجم له صاحب "نيل الوطر" فقال: القاضي علي بن أحمد المغربي الصنعاني، كان عالمًا فاضلًا عابدًا ناسكًا مشغولًا بالعلم لم ينطق ابتداء إلَّا لضرورة، ولا يدع الصَّلاة في جماعة، يلازم جامع صنعاء ليله ونهاره، توفي سنة 1223 في ثالث شوال (¬2). ومنهم: القاضي الحسين بن محسن بن حسين بن محسن بن علي بن الحسين بن محمد المغربي ولد بصنعاء 1244 أو في سنة 1245. كان باذلًا نفسه للتدريس والتعليم، ومع تواضع وحُسن خُلُق (¬3). ومنهم القاضي العلامة الحسن بن إسماعيل بن الحسين بن محمد المغربي الصنعاني، ولد بصنعاء سنة 1141، وكان مسلمًا مطلعًا بكافة الفنون من التفسير والحديث والنحو والصرف والمعاني والبيان، مع زهد، وعفاف وتواضع. أثنى عليه الإمام الشوكاني وقال: هو من جملة من أرشدني إلى شرح "المنتقى"، توفي رحمه الله سنة 1208 فرثاه الإمام الشوكاني بقصيدتين إحداهما مطلعها: ¬

_ (¬1) نيل الوطر 1/ 375. (¬2) نيل الوطر 2/ 118. (¬3) نزهة النظر 1/ 280 - 281.

نسب "المغربي"

كذا فليكن رزء العُلَى والعوالم ... ومن مثل ذا يهدر كن المعالم والأخرى مطلعها: حض المعارف من فراقك سافح ... والعذب منها بعد بُعدك مالح رحمه الله (¬1). نسب "المغربي": ونسبة بيت المغربي لأنَّه من "لاعة" وهي عزلة معروفة من لواء حجة، وهي في جهة الغرب من العاصمة صنعاء وهذا عُرْفٌ يمني إذ ينسب كل شخص إلى جهته التي يرجع أصله إليها، فإن كان من جهة الشمال من صنعاء قيل في نسبته "الشامي" كالذي يجيء إلى صنعاء من لواء "صعدة"، وإن كان من جهة الغرب من صنعاء قيل مغربي، والله أعلم. طلبه للعلم ورحلاته: رغم كثرة المصادر التي تحدثت عن حياة الشَّيخ فإنَّها جميعًا لم تذكر أنَّه اغترب في سبيل العلم أو أنَّه طلب العلم في غير موطنه باليمن، ويبدو لمن يتصفح معالم الفقه الإِسلامي ويقرأ ثمرات القرائح والأقلام في القرن الحادي عشر الهجري أن اليمن برغم نار الحرب التي كانت تستعر بين جنباته طلبًا للإِمامة وكان الفقر ينتشر بين أبنائه والحروب القبلية تأتي على الأخضر واليابس كان عملاقًا في العلوم الإسلامية بحيث ألف الكتب المطوّلة، ومن يطالع "نشر العَرف" بجزئيه، و "التاج المكلل" يجد مئات العلماء الذين عاشوا في هذه الحقبة. ويبدو أن الحالة السياسية هي التي منعت من انتشار العلم وضيقت حوله الخناق بحيث يبقى الإنسان دائمًا في مكانه طالبًا للأمان وللحفاظ على النَّفس والنفيس. وسنحاول أن نذكر بعض شيوخه الذين كان لهم أثر بارز على حياته: ¬

_ (¬1) البدر الطالع 1/ 195 - 197، نيل الوطر 319 - 320.

شيوخه

شيوخه: إن أهم الشيوخ الذين أخذ عنهم القاضي الحسين بن محمد المغربي في مرحلة التلمذة قد ورد ذكرهم في الجزء الأول من كتاب "نشر العرف" (¬1) قال: وأخذ عن القاضي الكبير محمد بن إبراهيم بن يَحْيَى السحولي، والسيد العلامة أحمد بن محمد الحوتي، والقاضي العلامة عبد الواسع العلفي، والسيد العلامة عز الدين بن علي العبالي، والقاضي الحافظ عبد الرحمن بن محمد الحيمي، والقاضي المحدث عبد العزيز بن محمد المفتي التغري، والشيح يَحْيَى بن أحمد الصابوني، والفقيه أحمد بن عبد الهادي المسوري الخولاني، والفقيه علي بن جابر الشارح، والقاضي علي بن جابر الهيل، والقاضي محمد بن علي العنسى المتوفى سنة 1098، وأخذ واستجاز من جُلّ مشايخه المذكورين. وسأحاول أن أبسط الحديث لبعض مشايخه الذين ورد ذكرهم: 1 - محمد بن إبراهيم السحولي (¬2): كان عالمًا زاهدًا فاضلًا عابدًا حليف القرآن، كثير الخلوات، وكان خطيبًا بجامع صنعاء، ثم ولاه المهدي -الخطابة بالخضراء التي اختطها، وكان مبرَّزًا في العلوم والأدب، توفي سنة تسع ومائة وألف. 2 - عبد الواسع بن عبد الرحمن بن محمد القرشيُّ الأموي ينتهي نسبه إلى عبد الملك بن مروان الخليفة، وُلد سنة 1026 أو 1027 في بلاد حيدان، ثم انتقل إلى صنعاء، وطلب العلم على شيوخها، كان له إلمام واسع بعلم النحو، وكان المتوكل على الله يقول مَنْ أراد النحو فليقرأ على القاضي عبد الواسع، له تفسير لطف على سورة الإِخلاص، وله مجموع في خُطَب السُّنة، ومختصر سماه "الوعظ النافع فيما أنشاه القاضي عبد الواسع"، توفي سنة 1108 وقبره في الغراس (¬3). ¬

_ (¬1) تقاريظ العرف 2/ 620 - 621. (¬2) نشر العرف 2/ 433. (¬3) نشر العرف 2/ 58، البدر الطالع 2/ 96.

تلاميذه

3 - عبد الرحمن بن محمد بن نهشل الحيمي الحافظ الكبير، كان من العلماء الجامعين بين علم المعقول والمنقول، وله اشتغالٌ بالتدريس في الأمهات، وقد أخذ عنه النَّاس واستمر على ذلك حتَّى توفاه الله تعالى سنة 1068 بصنعاء، ودفن بقرية الروض (¬1). من هنا يمكن القول بأن مشايخه الذين أخذ عنهم كانوا على نصيب وافر من العلم والعمل به، بالإِضافة إلى ما كانوا يتمتعون به من الفقه والتقى والورع وسعة الأفق في الكتاب والسنة، كل هذه الصفات انعكست على نفس القاضي الشَّيخ الحسين بن محمد المغربي مع ما كان يتمتع به من مواهب فُطِر عليها، رحمه الله تعالى. تلاميذه: كان الشَّيخ المغربي مدرسة تخرَّج به عدد كبير من طلاب العلم الذين صار لهم أثر بليغ في بلاد اليمن فيما بعد، تدريسًا وتأليفًا وقضاءً. فمنهم أخوه الحسن الذي مرت ترجمته، والمولى هاشم بن يَحْيَى الشامي، والحسن بن أحمد بن صلاح زبارة، وعبد الله بن علي الوزير، والمحسن بن الإمام المؤيد، ومحمد بن المتوكل، والفقيه محمد بن الهادي الخالدي، وإبراهيم بن القاسم بن المؤيد، وغيرهم. وإليك تعريف ببعضهم: 1 - هاشم بن يَحْيَى الشامي (¬2): الإمام، الحافظ، المجتهد، المحدث، نشأ بجدة وصنعاء، كان جادًّا مشمرًا في طلب العلم، على خلق رفيع، تحدث عنه حفيده فقال (¬3): بقيت في حِجره سبع سنين ما رأيتُه غضبانًا قط، ولا دخل إليه مكدّر إلَّا خرج من مقامه منشرح الصدر، وهو ممن يعز وجود نظيره في جميع الخِلَال، وكان جليل القدر، مُهَاب الجناب، ملء الصدور، محبوبًا عند كل أحد، معروفًا بالورع ¬

_ (¬1) البدر الطالع 1/ 340. (¬2) نشر العرف 2/ 783، البدر الطالع 2/ 321. (¬3) نشر العرف 2/ 785.

والزهد والكرم الخالق، شرح البحر الزخار في مذاهب علماء الأمصار ولم يكمل، له شعرٌ فائق وفصاحة زائدة، يقول: لا تندبن زمنًا مضى ... أبدًا ولا دهرًا تقادم فالدهر يوم واحد ... والنّاس من حوا وآدم تولى القضاء بجدة، وخطابة الجامع في عهد المتوكل القاسم بن الحسين، وحَمِدَ النَّاسُ سيرته، ثم طَلَب الإعفاء فتجرّد عن الدُّنيا، وانقطع إلى العبادة، وتُوفي في صفر سنة 1158. 2 - والحسن بن أحمد زبارة الصنعاني: الحافظ، الضابط، الحسين بن أحمد بن صلاح بن أحمد بن الأمير الحسين المعروف بزبارة، ولد سنة 1088، وقيل 1068، قال عنه صاحب "نشر العرف" (¬1): حقق علم الفقه والفرائض والحديث والتفسير والأصولَيْن والنحو والصرف والمعاني والبيان، وهو الآن من محاسن عصرنا، قد اجتمعت فيه خلال الكمال، ومَن نظر مسائله وجواباته علم أنَّه إمام وقته في الفقه والحديث والأصول، توفي سنة 1141، وقيل 1135. 3 - عبد الله بن علي بن أحمد بن محمد بن عبد الإله بن أحمد بن إبراهيم المعروف بالوزير، الصنعانيّ الدار والنشأة، العالم المشهور، والشاعر المؤرخ، ولد سنة 1704. له كتاب "طبق الحلوى" ألفه في التاريخ، جعله على السنين. توفي سنة 1147 هـ -رحمه الله تعالى (¬2). 4 - محمد بن الهادي بن محمد بن أحمد الخالدي: القاضي، العلامة، الآنسي المولد، الصنعاني النشأة، الجيلي الوفاة، قال عنه صاحب "مطلع الأقمار" (¬3): ¬

_ (¬1) البدر الطالع 1/ 216. (¬2) السابق 1/ 388. (¬3) نشر العرف 2/ 723 - 724.

مكانته العلمية وثناء العلماء عليه

"القاضي العلامة نادرة زمانه، وقدوة الفضلاء في أوانه، كان من العلماء المبرزين الأخيار والأتقياء الأبرار، قرأ في الأصول والفروع، وحقق في ذلك، وبلغ الغاية والنهاية، وكان من حكام المهدي صاحب المواهب". 5 - إبراهيم بن القاسم بن المؤيد بن محمد بن الإِمام ينتهي نسبه إلى القاسم من سلالة علي رضي الله عنه. اشتهر بكتابه "طبقات الزيدية" الذي صنفه في أئمة الزيدية. وقد جعله على ثلاثة أقسام: 1 - القسم الأول: فيمن روى عن أئمة الآل من الصّحابة. 2 - القسم الثَّاني: فيمن بعدهم إلى رأس الخمسمائة. 3 - القسم الثالث: في أهل الخمسمائة ومن بعدهم إلى عصره. وقد جعله على حروف المعجم، ولا يزال مخطوطًا. هذا بعض الضوء ألقيناه على من تتلمذ على يد الشَّيخ الحسين المغربي رحم الله الجميع. مكانته العلمية وثناء العلماء عليه: لكي نعرف ما يتمتع به القاضي الحسين من المكانة العلمية يَحْسُنُ بنا أن ننقل ما قاله عنه معاصروه ولا شك أن مَن عاصره أعلم به: قال عنه صاحب "الطبقات" إبراهيم بن القاسم بن المؤيد (¬1): نشأ على طلب المعارف، وتفيأ في ظلال روضها الوارف، واقتنص شواردها، واقتاد أوابدها، ووقف على كنزها المدفون، واطلع على سرها المخزون، وكان بحرا من البحور، علامة متيقنًا متفننًا، وعاء من أوعية العلم، ودوحة عرفان ثمرتها الفضل والحلم. ¬

_ (¬1) نشر العرف 2/ 621.

أعماله التي قام فيها

أدرك الإِمام المتوكل على الله إسماعيل وله عليه سماع، وتولى القضاء بمدينة صنعاء عن أمر الإِمام المهدي أحمد بن الحسين، وكان هو الحقيق بذلك المنصب لما منحه الله من النظر السليم، والطبع المستقيم، والرأي السديد، والورع الشديد، ولم يصده ذلك عن التدريس، وتأكيد الفوائد التي تقدم له فيها تأسيس وكان كعبة الطالبين يأتون إليه من كل فج سحيق ... ثم تولى القضاء في دولة الإِمام المؤيد بالله محمد بن المتوكل، ثم شطرًا من خلافة المهدي صاحب "المواهب" محمد بن أحمد بن الحسن، وكان عالمًا فاضلًا، محققًا في الأصول والفروع والحديث، حجة، ثبتا، ذا أناة، راجح العقل، واضح النقل ... ولم يزل مواظبًا على التدريس والقضاء حتَّى توفي في شهر رجب سنة 1119. وقال عنه الشوكاني (¬1): "قاضي صنعاء وعالمها ومحدّثها، مصنف "البدر التمام شرح بلوغ المرام"، وهو شرح حافل". وقال عنه صاحب "نفحات العنبر" (¬2): "إمام العلوم والنظر، قدوة من بدا ومن حضر، له مشايخ تقدموا في الشيوخ وسبقوا في الإِتقان والرسوخ، وله رسائل كثيرة، وأنظار ثاقبة، وأبحاث نفيسة، وفتاويه لا تُحْصَى". قلت: بل إن توليه القضاء في صنعاء عاصمة الحكومة الزيدية لدليل على تمكنه واطلاعه في مذاهبهم وعلى مكانته عند حكومة الإِمام، لأنهم لا يُقَدِّمُون إلَّا مَنْ يوافق مذهبهم. أعماله التي قام فيها: 1 - القضاء: القضاءُ أهم مناصب الدولة الإسلامية وأسماها بعد الخلافة، وهذا المنصب الخطير الرفيع الذي كان يقف في رحابه أحيانًا الخلفاء أنفسهم يلتزمون به ويعيدون الحق إلى طالبيه خصم الخليفة. ¬

_ (¬1) البدر الطالع 2/ 220. (¬2) نشر العرف 2/ 622.

مؤلفاته

وقد تولى الشَّيخ الحسين المغربي القضاء عن أمر الإِمام المهدي أحمد بن الحسين، ثم تولى القضاء في دولة المؤيد بالله محمد بن المتوكل، ثم شطرًا من حكم المهدي صاحب المواهب محمد بن أحمد بن الحسن. ولا شك أن توليه القضاء في عهود مختلفة ليدل على مكانته وما يتمتع به من مؤهلات للقضاء ولما يتسم به من العلم والزهد هذا إذا ما عَلِمنا أن حكومة الإمام في اليمن لا ترضى إلَّا بمن بلغ مرتبة الاجتهاد عندهم. 2 - التدريس: تولى مع القضاء التدريس، وهذه صفة العلماء تجد حياتهم بين القضاء والتدريس والتأليف والدعوة، بل وماذا يعني التدريس في تلك المرحلة السياسية التي كان يعيشها اليمن من الفوضى والانحلال السياسي والتردي وتسلط الأئمة بعضهم على بعض. يقول صاحب "نشر العرف" (¬1): "تولى الشَّيخ الحسين المغربي منصب القضاء ولم يصرفه ذلك عن التدريس". ويعلم الله كم من المعاناة يعانيها الإِنسان حينما تكون الأوضاع السياسية متردية وما ظنك بطلاب العلم الذين يتصدون لهذه النزعات، ماذا يصيبهم من الهموم والأحزان، ولكن في سبيل الله يهون كل أمر عظيم. مؤلفاته: 1 - البدر التمام شرح بلوغ المرام- وسيأتي الكلام عليه. 2 - رسالة في إخراج اليهود من جزيرة العرب: وهي رسالة رَجَّح بها أنَّه إنَّما يجوز إخراجهم من الحجاز فقط، مستدلًا بما في الحديث من روايات وهي اقتصارها على الحجاز فقط (¬2). ¬

_ (¬1) نشر العرف 1/ 621. (¬2) نشرها محمد بن حسين الزبيدي في مجلة المورد العراقية 1394.

مذهبه الفقهي

مذهبه الفقهي: الإمام الحسين المغربي زيدي المذهب، تدل على ذلك ترجمته في كتاب "طبقات الزيدية" (¬1)؛ يدل على ذلك ما في كتابه البدر من آراء الزيدية، إلَّا أنَّه لا يتعصب للمذهب، ويبدو أن الصيحات التي قلنا إن ابن الوزير والمقبلي نادوا بها قد أثرت على الجو العام وعلى الإِمام المغربي بالذات. وفاته: توفي رحمه الله تعالى سنة 1119 في الروضة، وقد أسف لموته العلماء وطلاب العلم، ورثوه بالمراثي فمن ذلك قول تلميذه ابن الوزير: مصاب له خفت من الصيد أحلام ... وجفت به في سالف العلم أقلام أرى القدر المحتوم ليس يصده ... من الجدل المحكوم منع وإلزام وفي كل داء للإِساءة نقلة ... وسيموا بخسف حين أعياهم السام وقد حكى صاحب "النفحات" أن وفاته سنة 1115، ولكن الأرجح والأقرب ما حكاه صاحب "الطبقات" فإنَّه معاصر له وتتلمذ عليه. وقد أرخ وفاته الأديب بن الحسين الركيجي في أبيات رسمت على حجر وهي: هذا ضريح القاضي المجتبى ... شمس علوم الفرقة الناجية العابد الأواه بحر التقى ... غوث اليتامى الصبية الناشئة أقام في طاعات مولاه كي ... ينال بالفانية الباقية فجاءت البشرى بتاريخه ... رقى الحسين في جنت عالية 301 - 159 - 543 - 116 سنة 1119 رحمه الله، وأجزل له الأجر والمثوبة، وغفر الله لنا وله ولوالدينا ولجميع المسلمين. ¬

_ (¬1) نشر العرف 2/ 621.

وصف النسخ

وصف النسخ وجدت لكتاب البدر التمام عدة نسخ في أماكن متعددة من العالم ومِنْ نِعَم الله تعالى أن الجامعات تسابقت إلى جَلْبِ هذه النسخ فهي كلها في جامعة الإِمام محمد بن سعود الإِسلامية بالرياض أو الجامعة الإِسلامية بالمدينة المنورة. وهذه النسخ هي: 1 - نسخة المؤلف: نسخة مكتبة صنعاء، وهذه يوجد منها نسخة مصورة في الجامعة الإِسلامية برقم 445، وتمتاز بالآتي: إنَّها بخطِّ المؤلف كما أشار إلى ذلك حفيده في الووقة الأولى والورقة الأخيرة من الكتاب، ومن وقف المصنِّف في الورقة الأولى، "وهذا الكتاب من وقف مصنِّفه القاضي العلامة شرف الإِسلام الحسين بن محمد المغربي رضوان الله عليه وعلى العلماء والمتعلمين من ذريته فمن بَدَّلَهُ بعد ما سمعه فإنَّما إثمه على ... " وعليها قراءة من "محمد بن أحمد بن سهيل" من أولها إلى آخرها. ومحمد بن أحمد بن سهيل كان عالمًا فاضلًا تولى القضاء (¬1). وعليها كلمات التعقيب وهي الكلمات التي توضع في أسفل الصفحة اليمنى لتدل على أول كلمة في الصفحة المقابلة وهي مهمة لمعرفة الصفحات وعدم السقط، وهي تستخدم عادة في النسخ غير المرقمة. والسقط الموجود مثبت بالحاشية وبآخرها "صح". ¬

_ (¬1) نيل الوطر 2/ 230.

ويوجد تقديم وتأخير في بعض الكلام وقد أشار إلى ذلك الشارح كما في لوحة 186، 197. وأحيانًا يستخدم ورقة زائدة لإِضافة ما يستحب عنده من تعديلات كما في لوحة 166 أ 166 ب، - مصورة عليها. وقد اعتمدتُ على هذه النسخة وأشرت إليها بالأصل ونقلت منها، فإذا اختلفت النسخ أثبتُّ ما كان موجودًا فيها إلَّا إذا كان الغلط بَيَّنًّا فأضعه بين معقوفين (¬1) وأشير إلى ذلك في الهامش. وما كان بالحاشية أخرجه بين معقوفين وأشير إلى ذلك. وعدد لوحات هذا الجزء 331 وينتهي كتاب الجنائز عند اللوحة 214 ب، وقد وضعتُ أرقام الصفحات في بداية كل لوحة. 2 - النسخة الهندية: وعنها مصورة في الجامعة الإسلامية تحت رقم (759). ورمزت لها بالحرف (هـ). وهي نسخة كُتبت بقلم نسخيّ جميل، كتبها السيد؛ أحمد بن إسماعيل الحمدي نسبًا والزيديّ مذهبًا وبالمرة بلدًا، والعبدلي معتقدًا، وانتهى منها صبيحة يوم الإِثنين لعله ثالث يوم في شهر صفر سنة 1171، وعليها مقابلة في ربيع الآخر سنة 1208. اللوحة الأولى من مصورة المخطوطة أبيات من الشعر منسوبة للسيوطي مطلعها: "سبع من العبد بعد الموت تتبعه .. " وأربعة أختام تملك مكتبة الآصفية بالهند، وعليها تملكات أخرى مثل: 1 - "الحمد لله من كُتُب علي بن محمد عفا الله عنه وعافاه .. آمين اللَّهم آمين". ¬

_ (¬1) وضعت في البحث أقواسًا لتعذر طباعة المعقوفات.

2 - "الحمد لله من كُتُب سيدي السيد جمال الدين علي بن محمد بن علي حماه الله تعالى وهو عارية لدينا بتاريخ شهر جمادى الآخرة 1178". 3 - "ثم صار في نوبة الفقير إلى عفو الله إسماعيل بن حسين بن يَحْيَى الشَّافعي غفر الله ذنوبهم أجمعين" بتاريخ ربيع أول 1207. وهي تقع في 326 ورقة، وعدد أسطرها 29 سطرًا. والمخطوط به خروم في بعض الهوامش لم يبلغ الكتابة إلَّا في النادر جدًّا. وبعض الكلمات والأبواب كُتب بالحرف الكبير، والأحاديث مكتوبة بالقلم الأحمر ممَّا جعلها غير ظاهرة في التصوير. 3 - نسخة الرباط: وهي مصورة عن المكتبة العامة بالرباط رقم 4205 وعنها نسخة مصورة في الجامعة الإِسلامية تحت رقم 852، ورمزت لها بالحرف (ب). وهذه النسخة بها سَقْطٌ في آخر الصَّلاة عند حدثِ عقبة بن عامر: "ثلاث سماعات ... " وما بعده إلى أول كتاب البيوع. وهي نسخة كتبت بقلم نسخيّ لم يعلم ناسخها، ينقصها وقد كتبت صفحة 14 - 15، 120 - 121 بخطٍّ مغاير لبقية الجزء. وعدد صفحاتها 128 ص، وعدد الأسطر 35 سطرًا. وتمتاز هذه النسخة بما عليها من مقابلات على نسخة المؤلف، ففي الصفحة الأولى من الجزء الأول عليها مقابلة: "الحمد لله شرعنا في مقابلة هذا الجزء المبارك نفع الله به على نسخة المؤلف رحمه الله يوم الأحد لعله ثامن شهر صفر الخير سنة 1161 أعان الله على تمامه بفضله وإحسانه وصلى الله على نبينا محمد وآله وسلم".

4 - نسخة جامعة محمد بن سعود: النسخة المحفوظة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإِسلامية برقم 2454، وهي من الشَّيخ مشرف عبد الكريم باليمن، ورمزت لها بالحرف جـ. وهي نسخة كتبت بقلم معتاد، ولم يُذْكر اسم الناسخ الذي انتهى من نسخها في شهر محرم سنة 1142. كتبت فيها الكلمات (قوله) وغيرها والأبواب بالقلم الأحمر. وفي آخر النسخة بلاغ بالقراءة في ذي القعدة سنة 1267. وفي الهامش إشارة إلى عنونة بعض المباحث على الزاوية اليمنى العالية ذكرت المباحث. عدد أوراقها 281، وعدد الأسطر 35. قلت: وهذه النسخة لا تختلف عن النسخ السابقة إلَّا في جزء من المقدمة فيختلف اختلافًا جذريًّا. ولهذا آثرتُ أن أنقل المقدمة هنا، وهي:

بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين الحمد لله الذي أوضح المحجة إلى معالم الإِسلام، وأبان لعباده طرق الحلال والحرام، وهداهم بسنة نبيه محمد - صَلَّى الله عليه وسلم - إلى ما أوصلهم إلى بلوغ المرام، وبصرهم بكيفية استنباط الأحكام، واصطفى صفوة من عترة نبيه وصحابته وتابعيهم بإحسان لتحمل الشريعة الغراء يذودون عن مواردها المبتدع من الأنام، وأشهد أن لا إله إلَّا الله وحده لا شريك له، شهادة لأجلها أرسل الله رسله، وأنزل كتبه، وشرع شريعته، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله النَّبيُّ الأُمي المبعوث بالكلم الجوامع والألفاظ الروائع، المؤيد بالدلائل القواطع، الذي شنف بحديثه المسامع، وتزينت بإملائه المجامع صَلَّى الله عليه وعلى الله وأصحابه الساطعة أنوارهم، المقتفين لأثره، فلا يحوم حول ذلك قاطع، الذين جعلهم نجومًا يهتدى بهم في معالم الهدى، ومصابيح يكشف بهم ظلم الشَّك عمن اقتدى، فهم وسائل النجاة في المشتبهات، المشار إلى رفع قدرهم بقول الله -عز مِنْ قائل: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ}. وبعد فإنَّه لما كان العلم أشرف ما تحلى به الوجود، وأعز ما أنعم الله به على عباده من الجود، نوه سبحانه بفضل من تحمل بأن جعلهم شاهدين على وحدانيته وأفردهم بحصر خشيته عليهم، فأجزل عطاءهم بتخصيصهم في رفيع ذكره وأورثهم المقام العالي لأنبيائه وأفضل خلقه، وكان أفضل ذلك وأولاه بهذا المقام هو العلم المقتبس من مشكاة النبوة التي لا يطفأ نورها ولا تأفل نجومها وشموسها، وكان ذلك العلم الشريف يحتاج المنتفع به إلى تمييز الصَّحيح من السقيم وسلوك طريق

الاعتبار ليكون العمل به جاريًا على السنن المستقيم، وهذه طريقة عزب نيلها وتقاعدت الهمم العوالي عن أن تشتري مِنْ سوقها، وتفرد بذلك أفراد من نحارير العلماء وفرْسان الحفاظ للآثار النبوية النبلاء، واختلفت طرائقهم في تدوين ذلك، فبين مطول ومقصر على اختلاف المقاصد وتباين المطالب، وكان من أعظم المؤلفات في ذلك "التلخيص الحبير" المعلق على شرح الرافعي الكبير للحافظ العلامة شهاب الدين أحمد بن علي العسقلاني الشَّهير بابن حجر، فهو نسيج وحده وفريد عصره، ثم اتبع على ذلك المنوال مختصره بلوغ المرام في أدلة الأحكام في جميع أبواب الفقه وأصول المسائل التي يمكن اللبيب أن يرد إليها أكثر الفروع في كل باب ولكنه التزم في الإشارة إلى نقد الحديث الإجمال دون التوضيح، واكتفى بإطلاق صحيح وحسن وضعيف أو نحو ذلك من دون بيان الوجه، وكان ذلك غير كامل بما يطلب من الإِفادة، ولا واف بما قصد من الإِجادة. ا. هـ 5 - نسخة أخرى بجامعة محمد بن سعود: النسخة المحفوظة بجامعة الإِمام محمد بن سعود الإِسلامية برقم 413. وهي مكتوبة بقلم نسخيّ، كتبها الشَّيخ الحسين بن إبراهيم بن يَحْيَى بن القاسم بن المؤيد بالله محمد بن القاسم المنصور بالله، انتهى من نسخها يوم الأربعاء 23 جمادى الآخرة سنة 1161. وعدد أوراقها 302، وعدد ورقات المخطوطة 305. وعدد الأسطر 29 سطرًا. وهذه النسخة لم أثبت فروقها -وإن كنت قد قمت بمقابلتها والاستفادة منها- لتأخرها عن عصر المؤلف، ولأنني من خلال تتبع الفروق لم أجد شيئًا يذكر واكتفيت بالنسخ السابقة ولذا آثرت أنَّ لا أثبت فروقها. 6 - نسخة المكتبة السعودية: النسخة المحفوظة بالمكتبة السعودية التابعة لرئاسة إدارة البحوث العلمية والإِفتاء والدعوة والإِرشاد، ورقمها 744.

وهي نسخة أصلية، بخطٍّ نجديّ، كتبها أحمد بن عبد الله بن سعد العجيري، ويوجد منها الجزء الأول فقط. وهي تبلغ 510 صفحة، وعدد الأسطر 32 سطرًا. وهذه النسخة قال عنها كاتبها، إنه نسخها من نسخة كثيرة التحريف والسَّقْط ونبه على ذلك بعلامة الغلط، وما كان ظاهرًا وجعل عليها علامة "صح"، وكتبها سنة 1295 لعله آخر صفر. وهذه النسخة لم أقابلها لهذا السبب. وأحب أن أشير إلى بعض الأمور التي قمت بها في مقابلة النسخ والتحقيق وهي: 1 - ما كان بهامش النسخ الأخرى غير الأصل أخرجه بين قوسين مفتوحين (أأ). نظرًا لكبر الكتاب وتوسع مباحثه فقد حاولت بقدر المستطاع أن لا أذكر الفروق التي ليس لها أهمية وظاهرها اختلاف النساخ مثل (الفرض) والصحيح القرظ، أو مثل (حديث عطاء الآتي عن جابر) وفي بعض النسخ (التي عن جابر). 3 - لا أشير إلى الأخطاء النحوية والإملائية التي في النسخ الأخرى إلَّا أن تكون هناك حاجة لذلك. 4 - إذا تكرر الغلط في الاسم فإنني أشير في أول موضع ولا أشير في الباقي مثل (اللَّيث بن سعيد) والصّواب (اللَّيث بن سعد). 5 - اعتنيت بوضع علامات الترقيم لأهميتها في توضيح المعنى. 6 - يوجد في النسخ أحيانًا إشارة إلى طمس الكلام ففي نسخة المؤلف يطمس عليها وفي نسخة (ب) يضع عليها دائرة. وفي نسخة (هـ) يضع عليها كشط خفيف، وفي (جـ) يضع عليها علامة (×). 7 - اختصرت في التعليق أسماء الكتب دعوة ورودها مثل الإصابة، الفتح، التهذيب، التمهيد، وغير ذلك كما تجده في ثنايا الكتاب خشية الإطالة. هذا والله أسأل أن يجعل عملنا خالصًا لوجه الكريم، وأن يوفقنا لخدمة كتابه وسنة رسوله - صَلَّى الله عليه وسلم - والعمل بها إنه جواد كريم .. وصلى الله على محمد وعلى الله وصحبه وسلم.

صورة من غلاف نسخة الأصل وعليها سماعات وقراءات

الورقة الأولى من نسخة الأصل

آخر ورقة من كتاب الجنائز

صورة من نسخة هـ

صورة من نسخة هـ.

آخر ورقة من نسخة ب

صورة من نسخة جـ

صورة من النسخة المحفوظة بجامعة الإمام

صورة من النسخة المحفوظة بالرئاسة العامة لإدارة البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد الرياض

البدر التمام شرح بلوغ المرام للإمام القاضي الحسين بن محمد المغربي (1048 هـ - 1119 هـ)

[مقدمة المصنف]

بسم الله الحمن الرحيم وبه نستعين (أ) الحمد لله الذي أوضح المَحَجَّة إلى معالم الاسلام، وأنارَ لعباده طُرُق الحلالِ والحرامِ، وهداهم بسنة نبيه محمد -عليه أفضل الصلاة والسلام- إِلى ما أوصلهم به من بلوغ غاية المرام، وَعرفَهُم به من العلم بكيفية استنباط الأحكام، واصطفى لتحمل شرعه الأغر صفوةً من عترة (¬1) نبيه الكرام، وصحابته ذَوِي ¬

_ (أ) ساقطة من (هـ).

الإِجلال والاحترام، ومَنْ تبعهم بإحسان، المقتفِينَ الأعلام فذادوا عن موارد سنته (أ) ما كاد يغشاها من ظلم (ب) حشو الكلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةً [لأجلها أرسل اللهُ رُسُلَه فأوضح بها معالم الإِسلام، وأنزل كتبه وشرع شريعته فهدى بها طرائقَ الحل والحرام] (جـ)، أنجو بها من هوْلِ اليوم الجامع، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله النبي الأمي المختص بالكلم الجوامع والألفاظ النيرة الدوامغ اللوامع، المؤيَّد بالدلائل القواطع، والبراهين السواطع، الذي تشنفت بحديثه المسامع، وتزينت بإملائه المجامع، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الساطعة أنوارهم في أشرف المطالع، المقتفين لأثره فلا يحوم حول ذلك قاطع، الذين جعلهم نجومًا يُهْتَدَى بهم في معالم الهدى، ومصابيح يكشف بهم ظُلَم الشك عن من اقتدى، فَهُم وسائل النجاة في المشتبهات، المشار إلى رَفْع قدرهم يقول الله عز مِنْ قائل: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} (¬1) صلاةً دائمةً متصلة البركات. ¬

_ (أ) زاد في ب، هـ: الغراء. (ب) ساقطة من (ب). (جـ) ما بين القوسين في هامش الأصل، وفي ب، وهامش هـ: (شهادة لأجلها أرسل الله رسله فأنار بهم غياهب الظلام، وأنزل كتبه فأوضح بها معالم الإسلام).

وبعد: فإنه لما كان العلم أشرف (أ) ما تحلي في الوجود، وأعز ما أنعم الله به على عباده من الجُود نَوَّه سبحانه بفضل مَنْ تحمله بأن جعلهم شاهدين على وحدانيته مذعنين بجلاله وفردانيته وأفردهم بحصر خشيته عليهم وكفى لهم فخرا بتخصيصهم بحميد ذكره وأورثهم المقام العالي لأنبيائه وأفضل نذره، وكان أفضل (ب) ذلك وأولاه بهذا المقام هو العلم المقتبس من مشكاة النبوة التي لا يطفأ نورها ولا يأفل بدورها وشموسها، وكان ذلك العلم الشريف يحتاج المنتفع به إلى تمييز الصحيح من السقيم وسلوك طريق الاعتبار ليكون العمل به جاريا على السَّنَن المستقيم وهذه طريقة عَزُبَ نَيْلُها، وَبَعُدَ تحصيلها، وتقاعدت الهِمَمُ العوالي عن أنْ تشتري مِنْ سوقِها لانتشار طريقها وتفرد بذلك أفراد من نحارير العلماء، وفرسان الحفاظ اللآثار النبوية النبلاء الفهماء، واختلفت طرائقهم في تدوين ذلك فبين مطول ومقتصر ومخلص ومختصر على اختلاف المقاصد وتباين المطالب واعتبار كل قاصد وطالب، وكان من أعظم المؤلفات في ذلك "التلخيص الحَبير" (¬1) المعلَّق على شرح الرافعي الكبير للحافظ العلامة شهاب الدين أحمد بن علي العسقلاني الشهير بابن حَجَر فهو نَسِيْج وحده، وفريد عصره، ثم أتبع على ذلك المنوال مختصره "بلوغ المرام في أدلة الأحكام" (¬2) صغير الحجم عظيم القَدْر، فلقد أجاد فيه وأفاد، ووقف (جـ) الآخذ منه على كمال (د) ¬

_ (أ) في هـ: أعظم، ومصوبة: أشرف. (ب) في هـ: أجود، ومصوبة: أفضل. (جـ) في ب: ورتب. (د) في هـ: بلوغ، مصوبة كمال.

المراد من استكماله (أ) أدلة الأحكام في جميع أبواب الفقه وأصول المسائل التي يمكن اللبيب أنْ يَرُدَّ إليها أكثر الفروع في كل باب ويجتنى كل ثمرة تستطاب، ولكنه التزم في الإشارة إلى نقد الحديث الإِجمال دون التوضيح، واكتفى بإطلاق لفظِ صحيح وحَسن وضعيف أو نحو ذلك عن إفادة التصريح من بيان الوجه ولو بطريق التلويح وكان ذلك غير كامل بما يطلب من الإِفادة ولا واف بما قصد من الإِجادة. قصدت إكمال الانتفاع به وبيان أسباب (ب) ما أشار إلى تعليله وتحسينه وتضعيفه وانقطاعه وإرساله على الطريقة المعتبرة عند أهل الحديث والأصول (جـ بوضع شرح يتضمن جميع ذلك جـ)، ولم آلُ جهدًا في استيفاء هذا المطلب ليكون الناظر فيه على بصيرة لا يحتاج معه إِلى غَيره ثم تبيين ما يفهم من الحديث من الأحكام منطوقا ومفهوما ومَنْ ذهب إلى ذلك من أحبار الأمة من الصحابة والتابعين والأئمة المجتهدين من جميع المذاهب، والسلوك معهم طريق الإنصاف غير محام على مذهب ولا متحامل أحد من الأمة، سلامة عن العدول إلى سيء المذهب، وأضفتُ إلى ذلك بيان حال من روى الحديث وما يتعلق بذلك من المولد والوفاة وتوجيه ما يحتاج إليه إعراب اللفظ المشكل وشرح الغريب، وانجرَّ الكلام إلى فوائد كثيرة لا يعرف قدرها إلا المطلع على شروح كتب الحديث، ومن الله أستمد التوفيق وأن ينفع به ويجعله خالصًا لوجهه الكريم وهو حسبنا ونعم الوكيل. ... وأذكر (د) إسنادي لهذا المختصر إلى مؤلفه -أعاد الله من بركته- فأخبرني به شيخي المحدث العلامة الغرة في وجه العلماء الأعلام العلامة عبد العزيز بن محمد بن عبد العزيز بن تقي الدين التغري الحبيشيّ (¬1) -نسبة إلى "حبيشة" (¬2) ¬

_ (أ) في ب: استكمال. (ب) من هنا بدأت المقابلة من نسخة جـ، كما تقدمت الإشارة إليه في وصف النسخ. (جـ) ساقطة من ب، مثبتة في هامش هـ. (د) ساقطة من ب.

قريب من رداع من بلاد مذحج-[حفظه الله تعالى ووسع في مدته ونفع بعلومه] (أ) مناولة قال: أخبرني به شيخي الفقيه العلامة الورع الزاهد إبراهيم بن عبد الله بن جعمان (¬1) -رحمه الله تعالى- قراءة مني له بجميعه في مدينة "زَبِيْد" (¬2)، قال أخبرني الفقيه العلامة مفتي الأنام محمد بن إبراهيم بن جعمان (¬3)، قال: أخبرني به شيخ الإِسلام إبراهيم بن محمد بن جعمان (¬4)، قال: أخبرنا به السيد الطاهر بن حسين (ب) الأهدل (¬5)، قال: أخبرنا به الشيخ العلامة عبد الرحمن بن علي الديبع (¬6)، قال: أخبرنا به شيخنا الحافظ السخاوي (¬7) عن مؤلفه شيخ الإِسلام أحمد بن (جـ) حجر العسقلاني -رحمه الله-. ¬

_ (أ) مثبت بهامش الأصل. (ب) في هـ: الحسين. (جـ) زاد في ب: على.

قال المصنف -رحمه الله ورضي عنه-: (الحمد لله)، افتتح هذا المختصر بالحمد بعد التسمية اقتداء بالكلام (أ) المجيد، وابتداء بخير الكلام، وامتثالا لما ندب إليه الشارع - صلى الله عليه وسلم - في حديثي الابتداء بالبسملة والتحميد (¬1). والحمد في اللغة: هو الوصف بالجميل الاختيارى. وفي الاصطلاح: هو الفعل الدال على تعظيم المنعم من حيث أنه منعم، واصلة كانت النعمة أو غير واصلة، وبين المعنيين عموم وخصوص (ب من وجهه ب) (¬2). والمدح في اللغة والاصطلاح: هو الوصف بالجميل اختياريا كان أو غيره، فالنسبة بينهما عموم وخصوص مطلق (¬3) (جـ) بالنسبة إلى (د) الحد الأول (3)، وعلى (هـ) الثاني من وجه) (و). وقد قيل: إنَّ المَدحَ يخصُّ الاختيارى، فيساوي الحمد. ¬

_ (أ) مصححه في هـ: (بالكتاب). (ب) بهامش ب، وضرب عليهما في هـ وأثبت: (مطلق). (جـ) زاد في هـ: (أعني الحمد). (د) زاد في ب: معنى. (هـ) الواو ساقطة من هـ. (و) بهامش الأصل.

والشكر في اللغة: بمعنى الحمد الاصطلاحِيّ، وفي الاصطلاح: هو صرف العبد جميع ما أعطي في الجهة التي أُعطِي لأجلها، كصرف النظر في مطالعة المصنوعات للاستدلال على وجود الصانع، ومعرفة آثار صنعته، وتصرفات حكمته، ونحو ذلك في السمع وغيره من الحواس الباطنة والظاهرة (أ)، والتقرب إليه بإفاضة ما أفيض عليه من النعم الدنيوية في جهات مرضاته، فحينئذ الحمد والشكر ليستا (ب) عبارة عن قول القائل: "الحمد لله"، "الشكر لله"، وإنما ذلك (جـ) اللفظان فردان من أفرادهما إذ قد حصل بهما استعمال اللسان في النطق بما خلقت له من الذكر لله تعالى. والحمد مصدر حذف فعله لسده مسده وكان أصله النصب، ولكنه عدل إلى الرفع للدلالة على الدوام والثبات، والمصدر دال على الماهية والحقيقة دون الأفراد، وعَرَّفَ باللام لتعيينها، وأفاد حصر المبتدأ في الخبر أن هذه الماهية مختصة بالكون لله تعالى، فلا يشذ فَردٌ من أفرادها عن ذلك، إذ الماهية موجودة بوجود الفرد. واللام في "لله": للاختصاص، ففي هذا التركيب دلالتان (د) على اختصاص الحمد بالله، إحداهما: تقديم المبتدأ المُعَرَّف، وهو يدل على الاختصاص الثبوتي بمعونة (¬1) المقام، والثاني: هو لام الجرّ، وهو يدل على الاختصاص الإثباتي (¬2)، وبينهما فرقٌ واضح، فإنه لا يلزم من الثاني القَصر بخلاف الأول. ¬

_ (أ) في هـ: ظاهرة والباطنة. (ب) في ب، هـ: ليسا. (جـ) في ب: (فإنما ذلك)، وفي هـ: (وإنما ذانك). (د) في الأصل، وجـ، وب: دالان.

ويَرِدُ على اختصاص الحمد هنا بالله تعالى الحمدُ المتعلقُ بغير الله فإنَّ ذلك شائع لغة وشرعا. ويجابُ عنه بأنه راجع إلى الله تعالى باعتبار أنه المقدر على الصفات التي تَعلَّقَ الحمدُ لأجلها بالمحمود والممكن منها، وهذا صحيح الاعتبار (لا) (¬1) على مذهب الاعتزال وغيره، أو أنّ المحصور هو الحمد الكامل الذي لا يتطرق إليه نقصان، ولا خفي في أن ذلك لا يكون لغير الله. و"الله" عَلَمٌ (¬2) لذات (أ) الواجب الوجود المستحق لجميع المحامد، وخصه من بين الأسماء الحسنى للدلالة على أنَّ استحقاقه للحمد لوجهيْن، ذاتيّ وإنعاميّ بخلاف غيره من الأسماء الحسنى، فإنه يوهم أن تعلق الحمد إنما هو لأجل معنى ذلك. (على نِعَمِهِ الظاهرة والباطنة قديمًا وحديثًا)، "النِّعَم" جمع نِعْمَة، والمقصود هو الاستغراق إذ الإِضافة في معنى اللام، وجعل الحمد متعلقا بالمنعم به، لأن الحمد على الإِنعام إنما يكون من حيث وقوعه عليها (وكان (ب) تعلقه بها أولى، وإضافة النِّعَم لِيُستفاد منه الاستغراق، فحَصُل الحمد على كل فرد من أفرادها، فلا (جـ) يلزم منه إحصاء النعم، فيكون في الظاهر مخالفا لقوله تعالى: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا} (¬3) لأنه لا يلزم مِنْ ذكرها لصيغة الاستغراق العَدّ، فتأمل) (د). ¬

_ (أ) في هـ: للذات. (ب) في هـ: فكان. (جـ) هـ: ولا. (د) بهامش الأصل.

و "الظاهرة": المدرَكَة بالحواسّ، و "الباطنة": المعقولة، أو "الظاهرة": ما تعرَف، و "الباطنة": ما لا تُعرَف. و"القديم": ما تقدم زمانُهُ على الزمان الحاضر، و "الحديث" ما حضُر زمانه. ويحتمل أن يريد بالقديم من النعمة: ما تقدم على الأسلَاف فهي نعمة على الأخلاف، كما قال الله تعالى: {يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ ....} (¬1) الآية مع أن النعمةَ بالإِنجاء على السلف ولكنها نعمةٌ على الخَلَفِ، إذ الخَلَف هم أثَر تلك النعمة. و"الحديث": ما كان على الحامد في نفسه. (والصلاةُ والسلامُ على نبيه ورسوله محمد)، عَطَفَ الصلاة على الحمد، وذلك لأنه لما كان الكمالات العلمية والعملية وصلت إلى العبد مِن اللهِ تعالى -بواسطةِ صاحبِ الشرعِ فوجب المقابلة لهذه النعمة بالثناء عليه - صلى الله عليه وسلم -، وكان العَلَم في باب الثناء الذي أمرنا به هو الصلاة والسلام، فأتى بهما جميعًا امتثالًا لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (¬2)، ولقوله - صلى الله عليه وسلم -: "كلُّ كلام لا يُذْكَرُ اللهُ فيه، ولا يُصَلَّى عليَّ فيه فهو أقطعُ أكتعُ ممحوقٌ من كلِّ بركةٍ" (¬3). والصلاةُ مِن اللهِ بمعنى الرحمة كذا في "الصِّحَاح" (¬4)، والسلام: الأمان، أي السلامة من النار والأمان منها. وقال القشيرىّ: "الصلاة" مِن الله تعالى لمن دون النبي - صلى الله عليه وسلم - رحمة وللنبي- صلى الله عليه وسلم - تشريف وزيادة تكرمة، وفي معنى "السلام عليه" ثلاثة وجوه: ¬

_ (¬1) الآية 40 من سورة البقرة. (¬2) الآية 56 من سورة الأحزاب. (¬3) بهذا اللفظ عزاه في كنز العمال إلى أبي الحسين أحمد بن محمد بن ميمون في فضائل علي بن أبي هريرة، وزاد: فيبدأ به بعد لفظ لا يذكر الله فيه، 2/ 265 ح 6463. (¬4) الصحاح 6/ 2402.

أحدها: السلامة لك ومعك، الثاني: السلام على حفظك ورعايتك متول له كفيل به، فيكون اسما لله تعالى (¬1)، الثالث: أن السلام بمعنى المسالمة والانقياد. وفي شرح المشارق (¬2): إن الصلاة على النبي عبارة عن طلب الوسيلة له التي أمرنا بها، وأما الرحمة والمغفرة فهر تحصيل الحاصل، وطلب الوسيلة وإنْ كان موعودا به، ولكنه يجوز أن يكون ذلك مشروطًا بشروطٍ من جملتها الدعاء، فلذلك حَرَّضَ عليه وخص من بين صفاته المادحة النبيَّ والرسول، لأنهما أفضل الصفات له، وبسببهما فُضِّلَ على سائرِ الخَلْق. و"النبي" مشتق من الإنباء الذي هو الإخبار (¬3)، فيكون أصله الهمز، ويجوز التخفيف، وإنما كره النبي - صلى الله عليه وسلم - قول الأعرابي "يا نبيء الله" بالهمز (¬4)، لأنه لما كان في ذلك ما يوهم أنه من "نَبَأ" يعني خرج مِنْ أرض إلى أرض، فيكون في ذلك ظَنْزٌ للمنافقين الذين كانوا يحبون إطلاق اللفظ المحتمل مثل "رَاعِنَا" في نحوه فنهاه النبي - صلى الله عليه وسلم - عنه لذلك. ويجوز أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - مأخوذًا من النبوة بمعنى الرفعة (¬5)، وكلا المعنيين قويمان. والنبي في لسان الشرع عبارة عن: إنسانٌ أنزل عليه شريعة من عند الله تعالى بطريق الوحي، فإذا أُمِر بتبليغها إلى الغيْر سُمِّيَ رصولا، كذا في "شواهد النبوة". ¬

_ (¬1) ثبت في صحيحَيْ البخاري ومسلم أن الله هو السلام. البخاري مع الفتح كتاب الأذان باب التشهد في الآخرة 2/ 311 ح 831، ومسلم 2/ 40. (¬2) في شرح المشارق: بعض الدعاء للنبي - صلى الله عليه وسلم - طلب الوسيلة لا طلب الرحمة إذ هي حاصلة لأن ما تقدم من ذنبه وما تأخر معفو عنه، وأما إعطاء الوسيلة فيحتمل أن يكون مشروطا بالدعاء ولذا حرض أمته عليه. أهـ. مبارق الأزهار في شرح مشارق الأنوار 1/ 60. (¬3) القاموس 1/ 30. (¬4) لم أقف عليه. (¬5) القاموس المحيط 1/ 30.

وفي "شرح العقائد العضدية" (¬1) للشيخ جلال الدين الدواني: "النبي إنسانٌ بعثه الله إلى الخَلْق لتبليغ ما أوحاه الله إليه، و "الرسولُ" قد يُسْتَعمل مرادفا له، وقد يختص بمن هو صاحب كتاب فيكون أخص من النبي. وفي "أنوار التنزيل": "الرسول" مَنْ بعثه اللهُ تعالى بشريعة محددة يدعو الناس إليها والنبي يعمه ومَنْ بعثه لتقرير شرع سابق كأنبياء بنى إسرائيل الذين كانوا بين موسى وعيسى، فالنبي على الحدود هذه (أ) أعمّ من الرسول. وعَطْفُ الرسول على النبي من عَطْفِ بعض الصفات على بعض وهو جائز. و "محمد" هو العَلَم له - صلى الله عليه وسلم - عطف بيان من النبي، وهو عَلَم ملحوظ فيه أصله، وهو اتصاف المذكور (ب) بالمحامد الكثيرة، ويجوز ملاحظة المعنى الوصفيّ مع العَلَم كما قال: وشق له من اسمه ليجله ... فذو العرش محمود وهذا محمد (¬2) (وآله وصحبه الذين ساروا في نصرَةِ دينه سيرًا حثيثًا) "الآل": أصله أهل بدليل تصغيره بأهيل، ولا يستعمل إلا فيما شَرُفَ غالبًا. وفي معنى "الآل" أقوال: جميع الأمة، أو بنو هاشم وبنو (جـ) المطلب، أو أهل بيته وذريته، رجح النووي في "شرح مسلم" (¬3) الأول لقوله - صلى الله عليه وسلم - لما سئل عنه فقال: ¬

_ (أ) في هـ: على هذه الحدود. (ب) في جـ وب وهـ: المدلول. (جـ) في (هـ) (وبنو) وأثبت فوقها: (أو بنو).

"آلي كُلُّ تقي" (¬1)، وفي رواية الطبراني: "آل محمد كل تقيّ"، [وروي هذا من حديث عليّ، ومن حديث أنس، وفي أسانيدها ضعف. قال الحليميّ: المراد كل تقيّ من قرابته (¬2). قال البيهقي: ومن الأدلة على أنَّ الآل هم القرابة حديث الأضْحِية: "اللهمَّ تقبل مِن محمد، وآلِ محمد، ومن أمةِ محمد" أخرجه مسلم (¬3)، وكذلك (أ) ما سيأتي (ب). ¬

_ (أ) في هـ: وكذا. (ب) في هـ: ما سيأتي لفظه.

في الزكاة: "لا يحلُّ لآلِ محمد منها شيءٌ" (أ)] (¬1) وفي معنى أنهم جميع الأمة قول أبي طالب (¬2): وانصر على آلِ الصليبِ ... وعابِدِيه اليوم آلك فـ "آل الصَّلِيب" المراد به: أتباع الصليب، وهذا هو اختيار الأزهريّ (¬3) وغيره مِن المحققين، ورجح الأكثرون الثاني. وذهب جماعةٌ مِن أئمة أهل البيت إلى أن المراد بهم ذرية النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬4). و"الصَّحب" اسمُ جمع لصاحب، وقد اختُلف (ب) في تحقيق معنى الصحابي فقيل: مَنْ طالت مجالسته للنبي - صلى الله عليه وسلم - مُتَّبعا لشرعه، والاتباع على أحد وجهيْن: إما في حياته -وهو رأي أكثر أهل هذا القول- أو في حياته وبعد وفاته، وهو رأي أقلهم، لأنَّ هذا الاسم يفيد التعظيم ولا يستحقه مَنْ بَدل بعده. والظاهر هو الأول، ويدل على هذا القول ما أخرجه ابنُ الصلاح عن موسى السبلانيّ قال: أتيتُ أنس بن مالك فقلتُ: هل بقَي مِن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحد غيرُك؟ قال: "بقيَ ناسٌ من الأعراب قد رأوه، أما مَن صَحِبه فلا" (¬5). ¬

_ (أ) بهامش الأصل. (ب) في هـ: اختلفوا.

وقيل: مَنْ طالت مجالسته متبعا له مع الرواية، ذهب إلى هذا القاضي عبدُ الله بن زيد. وذهب ابنُ المسيب إلى أنه مَنْ أقام معه سنة، أو غزا غزوة أو غزوتَيْن (¬1). وقال بعضُ أهل الحديث وبعض الفقهاء: هو مَنْ رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - مع إسلامه (¬2)، وهذا القولُ يتأيد بقوله: - صلى الله عليه وسلم -: "طُوبى لمن راني، أو رأى من رآني" (¬3)، فلا يبعد أن يكون رؤية النبي - صلى الله عليه وسلم - محصلة من الفوائد وجميل العوائد الكثير الطيب الذي يستحق صاحبها الشرف الكبير والفضل العميم. [واختار المصنفُ -رحمه اللهُ تعالى- لفظ: "مَنْ لقى" دون "من رآني"، لعموم اللقاء للأعمى. قال: "وكان مؤمنًا ومات على الإِسلام، ولو تخلّلت ردّة" لإِطباق المحدثين على عَدِّ الأشعث بن قيس (¬4) ونحوه ممن وقع منه ذلك، وأما مَنْ لقيه غير مؤمن ¬

_ (¬1) قال العراقي: لا يصح عنه فإن في الإسناد إليه محمد بن عمر الواقدي وهو ضعيف الحدبث (التقييد 297). وقال ابن الصلاح: وكأن المراد بهذا -إن صح عنه- راجع إلى المحكي بن الأصوليين ولكن في عباراته ضيق يوجب أن لا يُعَدّ من الصحابة جرير بن عبد الله البجلي ومَنْ شاركه في فقد ظاهر ما اشترطه فيهم ممن لا يعرف خلافا في عده من الصحابة. (علوم الحديث 263 - 264). (¬2) قال البخاري: ومَن صحب النبي - صلى الله عليه وسلم - أو رآه فهو من أصحابه. البخاري 7/ 3. قلتُ: وهو رأي ابن الصلاح: وقال الحافظ ابن حجر إنه أصح ما وقفت عليه. غلوم الحديث 263 الإصابة 1/ 7. (¬3) الحاكم من حديث عبد الله بن بسر بلفظ: "طوبى لمن رآني، وطوبى لمن رأى من رآني، ولمن رأى من رأى من رآني وآمن بي) قال الحاكم: وهذا حديث قد رُوى بأسانيد قوية عن أنس بن مالك - رضي الله - عنه مما علونا في أسانيد منها، وأقرب هذه الروايات إلي الصحة ما ذكرناه. قال الذهبي: جميع واهٍ. وأخرجه أحمد والطبراني وابن حبان من حديث أبي أمامة بلفظ: "طوبى لمن رآني وآمن بي، وطوبى لمن آمن بي ولم يرني سبع مرارا" أحمد 5/ 248، الطبراني 8/ 310 ح 8009. ابن حبان: الإحسان 9/ 178 ح 7189، وقال الهيثمي في المجمع: رواه أحمد والطبراني بأسانيد ورجالها رجال الصحيح غير أيمن بن مالك الأشعري وهو ثقة 10/ 67. (¬4) تدريب الراوي 396، الإصابة 1/ 8.

وأسلم بعد موته فخارج عن العدِّ أخذًا من مفهوم: "وكان مؤمنا" (¬1)، وعلى الأرجح دخول الجن للقطع بِبَعثِهِ إليهم، وهم مكلفون، فمن عُرف اسمُه منهم لم يُتَرَدد في عده من الصحابة، ولم يرتضه ابنُ الأثير (¬2) بِلا استناد منه إلى حُجة. وأما الملانكة فيتوقف عدهم فيهم على ثبوت بعثته إليهم، وفيه خلاف، وقد نقل بعضُهم الإجماع على ثبوته (¬3)، وعكس (أ) بعضُهم. وأما من رآه بعد موته قبل دفنه فالراجح أنه غير صحابي، وكذلك من كُشِف له (¬4) عنه من الأولياء ورآه يقظةً كرامة لانقطاع أحكام الحياة وإنْ كان - صلى الله عليه وسلم - حيًّا في قبره (¬5)، وكذا مَنْ رآه مناما] (ب). والسير مجازٌ عن الجد في أعلى معالم الدين، وإضافة النصرة إلى الدِّين مَجَاز، والحقيقة إضافتها إلى صاحب الدين، والظاهر أنَّ (لفظ) (جـ) الصُّحبة تسمية تدل على النصرة، وأما الجمع بينهما فلا يظهر له توجيه إِلا بتكلف. و"سَيْرًا" منتصب على أنه مفعول مطلق ذُكِر لبيان النوع بالصفة له "بحثيث". ¬

_ (أ) في هـ: عكسه. (ب، جـ) بهامش الأصل.

(وعلى أتباعهم الذين ورثوا علمهم، والعلماء ورثة الأنبياء وأكْرِم بهم وارثا وموروثا) الأتباع: جمع تابع، وفاعل تُجمع على أفعال كما صرّح بذلك الزمخشري في قوله تعالى: {وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ} (¬1) قال: "جمع بَرّ أو بَارّ" (¬2)، وكذا في قوله: {وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} (¬3)، والجوهري (¬4) أنكر أن يُجمع فاعل على أفعال، وقال: "إن الأصحاب جع صِحب بالكسر تخفيف صاحب، كنِمر وأنمار"، ولكنه لا يكون حُجة على الزمخشري، فإن الزمخشري صرَّح بأن "الصِّحاح" مشحونٌ بالخطأ. ووراثة الأتباع لعلم الآل والأصحاب لأنهم الذين نقلوه عنهم وتلقوه حتى صار كأنه ميراث. وقوله: "والعلماء ورثة الأنبياء"، اقتباسٌ من الحديث وهو قوله - صلى الله عليه وسلم -: "العلماء ورثة الأنبياء" (¬5) رواه أبو الدرداء، أخرجه عنه أحمد وأبو داود والترمذي وابن حبان، وضعفه الدارقطني في "العلل"، وهو مضطرب الإِسناد قاله المنذري (¬6)، وقد ذكره البخاري في صحيحه بغير إسناد (¬7). و"أكرِم" فعل تعجب، و "بهم" إما فاعل والباء زائدة عند سيبويه أو مفعول به عند الأخفش (¬8)، وفي "أكْرِم" ضمير الفاعل، "ووارثا" (أ) "وموروثا" من باب اللف والنشر، "وارثا" عائد إلى العلماء و "الموروث" إلى الأنبياء. ¬

_ (أ) في هـ: ووارثا لعلمه!

(أما بَعْدُ)، "أما مِن أدوات الشرط بمعنى مهما،، و "بَعد" ظرف زمان مقطوع عن الإِضافة مبني على الضم، نائب مناب شرط "أما"، وهو جزء من الجزاء قُدِّمَ لما حذف الشرط كراهة أن يلي الفاء الداخلة على الجزاء إمَّا بعد حذف شرطها والعامل فيها ما بعد الفاء أو (أ) الشرط المقدر، أو إما لنيابتها عن الفِعل أقوال (¬1). (فهذا مُختصَرٌ)، "هذا" إشارة إلى الألفاظ المرتبة في الذهن أو المعاني كذلك، والمشار (ب) إليه ذهني على كل من التقديرَين مطلقا سواء كان وضع هذه الديباجة قبل التأليف أو بعده إذ لا وجود للألفاظ ولا للمعاني في الخارج. (يَشْتَملُ عَلَى أصُولِ الأدِلَّةِ الحَدِيثيَّةِ لِلأحكَام الشَّرعِيَّةِ)، الاشتمال: الاحتواء والتضَمُّن والانطواء بمعنى واحد، والأصول: جمع أصل، وهو ما ينبني عليه غيره، وإضافة الأصول إلى الأدلة بيانية لأن الأصول هي الأدلة، و"الحديثيَّة" منسوبة إلى الحديث لأن الأصول عامًّ فالصفة للتخصيص، و "للأحكام" متعلق بالأدلة، "والشرعية" منسوبة إلى الشَّرع، ووصف الأحكام بها لتتميز عن العقلية. (حَرّرته تحريرًا بالغا)، التحرير: تهذيب الكلام وتنقيحه. (ليصيرَ مَنْ يحفظه مِن بين أقرانِهِ نابِغًا) الأقران: جمع قرن وهو نظير الشخص (¬2)، والنابغ: الخارج عن نظرائه لزيادته عليهم. (ويستعين به الطالبُ المبتديء، ولا يستغني عنه الراغبُ المنتهي، وقد بينتُ عقيب كل حديث مَنْ خرَّجه من الأئمة -لإرادة نصحِ الأمة- فالمراد ¬

_ (أ) في هـ: والشرط. (ب) في هـ: فالمشار.

بالسَّبعة: أحمد والبخاري ومسلم وأبو داود والنَّسَائي والتَّرمذِيّ وابن مَاجَه، وبالستة: من عدا أحمد، وبالخمسة: من عدا البخاري ومسلما. وقد أقول: "الأربعة وأحمد"، وبالأربعة: من عدا الثلاثة الأول، وبالثلاثة: من عداهم والأخير، وبالمتفق: البخاري ومسلم، وقد لا أذكر معهما غيرهما، وما عدا ذلك فهو مبيَّن. وسميته "بلوغُ المَرام من أدلة الأحكام". والله أسأل أنْ لا يجعل ما عَلَّمنَاهُ علينا وَبَالًا، وأن يرزقنا العمل بما يرضيه سبحانه وتعالى). ذكر المصنف -رحمه الله تعالى- اصطلاحه في ذِكر أئمة الحديث، ولا مُشَاحَّة في الاصطلاح، فلكلٍّ (أ) أن يبتدئ له اصطلاحا فيما أراد وضعه مما يقرب معه الكلام ويتيسر له فيه النظام. ويحسُنُ ذكر تراجم الأئمة المذكورين، وإن كانت أحوالهم مشهورة، وقد أُودِعَتْ تراجمهم الكتب المطولة والمختصرة. فأحمد هو أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل بن هلال الشيباني (¬1)، الإِمام، البارع، المُجْمَع على إمامته وجلالته وورعه وزهادته ووفور علمه وسيادته، رحل إلى الحجاز والشام واليمن وغيرها، وعمن سفيان بن عُيَيْنَة وأقرانه، وروى عنه جماعةٌ من شيوخه وخلائق آخرون لا يُخصَون، منهم البخاري ومسلم (¬2)، وكثر ثناء الأئمة عليه: قال أبو زُرعَة (¬3): كان كتبه اثني عشر حِمْلا وكان ¬

_ (أ) في هـ: بل لكل.

يحفظها على ظهر قلبه، وكان يحفظ ألف ألف حديث، فقيل لأبي زرعة: ما يدريك؟ قال: ذاكرته وأخذت عليه الأبواب (¬1). وقال إبراهيم الحَرْبِيّ (¬2): كأنّ الله جمع له علم الأولين والآخرين من كل صنف يقول ما شاء ويترك ما شاء (¬3). قال الشافعي: خرجتُ من بغداد (أ)، وما خلفتُ بها أتقى ولا أزهد ولا أورع ولا أعلم منه. وامتُحن المحنة المشهورة على يَدَي القاضي أحمد بن أبي (¬4) دُؤاد في أيام المأمون، كتب المأمون إلى نائبه ببغداد -وهو إسحاق بن إبراهيم الخزاعي (ب) (¬5) - في سنة ثمان عشرة ومائتين، وحمل أحمد إلى "طُوْس" ومحمد بن نوح، ومات المأمون وأحمد محبوس، ومات محمد بن نوح، ودفنه أحمد، ثم بويع المعتصم، وأُحضر أحمد إلى بغداد مقيدا، وحُبس في حبس العامة نحوا من ثلاثين شهرا، والناس يقرأون عليه، وبلغت القيود أربعة عشر قيدا، وكان له تكة يرفع بها القيود إذا مشى، ودُعِيَ في بعض الأيام إلى حضرة المعتصم، وألانَ المعتصمُ معه القول، فأغلظ أحمد القول، فأمر بضربه وحبسه، فضرب ¬

_ (أ) في هـ: بغداد -بالذال المعجمة في آخره، وهي لغة في (بغداد). (ب) في النسخ: الجماعي، وفي ب مصححة: الحزاعي وهو الصحيح. انظر الترجمة.

بالسياط حتى ذهب عقله، ثم أفاق وقد زالت القيود عنه، وكان مدة امتحانه وحبسه ثمانية وعشرين شهرا (¬1)، ومن كراماته الباهرة أن تكة لباسه انقطعت فتحرك لباسه إلى النزول إلى عانته، فحرك شفتَيْه (أ) فارتفع وثبت، ولم يظهر شيءٌ من عورته. وروى أنه دعا وقال: "اللهم إني أسألك باسمك الذي ملأ العرش، إنْ كنت تعلم أني على الصواب فلا تهتك لي سترا". وأصاب بعضَ من ضربه البَرَصُ. وروي أن جملة ضاربيه مائة وخمسون رجلا، وفضائله كثيرة، وأنواره مشهورة. ولد في شهر ربيع الأول سنة أربع وستين ومائة، وتوفي سنة إحدى وأربعين ومائتين -على الأصح المشهور- في خلافة المتوكل بمدينة السلام، ودُفِن بباب حرب في الجانب الغربي، وصلى عليه محمد بن طاهر، وحضر جنازته خلقٌ كثير لم يُرَ مثل ذلك اليوم ولا في جنازة أحد ممن سلف. واختلفوا في عدد المصلين، ومِنْ جملة ما قيل: إنّ الأرض التي وقعت الصلاة فيها مُسِحَتْ فوسعت ستمائة ألف وأكثر سوى ما كان في الأطراف والسفن (¬2)، وقيل: كانوا ألف ألف وثلاثمائة ألف. قال أبو زرعة: بلغني أن المتوكل أمر أنْ تُمسَح الأرض التي وقف عليها الناس، للصلاة على أحمد، فبلغ مقام ألفي ألف وخمسمائة ألف (¬3). ¬

_ (أ) في هـ: شفته.

وعن بعض جيران أحمد أنه أسلم يوم موته من اليهود والنصارى والمجوس عشرون ألفا، وقد استبعد الذهبي (¬1) هذه الحكاية من حيث تفرد الراوي والقضية من حقها أن تشتهر، والله أعلم. وكان قبره ظاهرا ببغداد (أ) يتبرك به فطمسته الروافض (¬2) لما استولوا عليها، ثم أعاد ذلك السلطان سليمان، وروي أنه كشف القبر فرئي وهو (ب) على كيفيته حتى كفنه لم يتغير، وهو الآن مزور رحمة الله تعالى عليه (جـ). وله -رحمه الله- المسند الكبير أعظم المسانيد وأحسنها وضعا وانتقاءً (د)، فإنه لم يدُخِل فيه إلا ما يحتج به مع كونه انتقاه من أكثر من سبعمائة ألف حديث وخمسين ألف حديث، وقال: "ما اختلف فيه المسلمون من حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فارجِعوا فيه إلى المسند، فإن وجدتموه وإلا فليس بحجة". وبالغ بعضُهم فأطلق الصِّحَّة على كل ما فيه، وأما ابن الجوزي فأدخل كثيرا منها في "موضوعاته"، وتعقبه بعضهم في بعْضِها وفي سائرها شيخ الإسلام ابن حجر (¬3) وحقق نفي الوضع عن جميع أحاديثه، وأنه أحسن انتقاء وتحريرا من الكتب التي لم يلتزم مصنفوها الصحة في جميعها كالموطأ والسنن الأربع، وليست الأحاديث ¬

_ (أ) في هـ: ببغداذ - بذال معجمة. (ب) ساقطة من هـ. (جـ) سقط من هـ: عليه. (د) في هـ: وانتقادا.

الزائدة على الصحيحَيْن بأكثر ضعفا من الأحاديث الزائدة في سنن أبي داود والترمذي، وبالجملة فمن (أ) أزاد الاحتجاج بحديث من غير الصِّحَاح لا سيما سنن ابن ماجه ومصنف ابن أبي شيبة وعبد الرزاق، فإن كان أهلًا للنقد والتصحيح وجب عليه ذلك، كان لم يكن كذلك فإن كان قد صحيح أو حسن أمن هو أهل له فله أن يقلده، وإلا فلا يحل له أن يقدم على الاحتجاج به، إذ لم يأمن أن يحتج بما لا يحل الاحتجاج به، وبهذا السبب أحال جماعة من المتأخرين الاجتهاد المطلق لتعسر التصحيح، والتقليد في التصحيح يخرجه عن المقصد وهو الاجتهاد ولم يتيسر في الأعصار المتأخرة إلا ترجيح بعض المذاهب على بعض بالنظر إلى قوة الدلالة أو إلى كثرة من صحيح أو جلالته، والواجب الرجوع إلى الظن القوي بحسب الإِمكان. البخاري (¬1) هو الإِمام المجتهد أمير المؤمنين في الحديث أبو عبد الله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة بن (ب) الأحنف بن بَرْدِزْبَه-[بموحدة مفتوحة فراء مهملة ساكنة فدال مهملة مكسورة فزاي معجمة ساكنة (جـ) فموحدة مفتوحة] (د) الجُعفِيّ مولاهم، الحافظ الكبير، حبر الاسلام. كان جده المغيرة مجوسيًّا فأسلم على يد اليَمَان الجُعْفي، وهذا هو سبب الولاء على قول مَنْ يُثبت ولاء الموالاة بالإِسلام. و"الجُعفي" نِسْبة إلى جُعف بن سعد العُشَيرة إلى قبيلة من اليمن من مَذْحج، ووَهِم مَنْ قال إنه اسم بلد ولعله توهم ذلك من قول ياقوت (¬2) في "معجمه": "إنه مخلاف باليمن نسبة لقبيلة من مَذْحِج بينه وبين صنعاء اثنان وأربعون فرسخا" انتهى. ¬

_ (أ) في هـ: من. (ب) في هـ: مِن بني. (جـ) ساقطة من هـ. (د) بهامش الأصل.

وأما جده المغيرة فقال المصنف (¬1) -رحمه الله تعالى:- لم أقف على شيء من أخباره. وأما أبوه إسماعيل فكان من العلماء العاملين، وَرَوى عن حماد بن زيد، ومالك، وصَحب ابنَ المبارك، وروى عنه العراقيون (¬2)، قال: لا أعلم في جميع مالي درهما من شُبهة (¬3)، توفي وولده صغير، فنشأ في حجر والدته، ثم عمي، فرأتْ إبراهيمَ الخليل -على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسلام- قائلًا لها: "قد رَدَّ اللهُ على ابنك بصره بكثرة دعائك له" فأصبح وقد رد الله عليه بصره (¬4)، وله نحو عشر سنين بعد خروجه من المكتب. ورَدَّ على بعض مشايخه غلطًا وهو في أحد عشرة سنة فأصلح كتابه مِنْ حِفْظ البخاري (¬5). وبلغ ست عشرة سنة وقد حفظ كثيرا من كتب الحديث فصنف "التاريخ الكبير" وغيره وهو في ثمان عشرة سنة عند قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - في الليالي المقمرة، وكتبوا عنه الحديث، ثم رحل، واتسع في الرحلة فاجتمع بأكثر مشايخ الحديث بعد أن سمع الكثير ببلده "بُخَارَى" أعظم مدن ما وراء النهر، وسمع من أصحاب الشافعي كالزعفرانيّ وأبي ثور، ولم يرو في "صحيحه" عن الشافعي (أ)، وذكره في موضعَيْن في "صحيحه" (¬6). ¬

_ (أ) في هـ: ولم يرو عن الشافعي في صحيحه.

وألَّف الصحيح بعد أن رأى أنه واقف بين يَدَي النبي - صلى الله عليه وسلم - وبيده مروحة يذب عنه، فعَبَّر له مُعَبِّر بأنه يذب الكذب، قال: وما وضع فيه حديثًا إلا بعد الغُسْل وصلاة ركعتَيْن استخارة، وأخرجه من زهاء ستمائة ألف حديث، وألفه بمكة، قال: "وما أدخلتُ فيه إلا صحيحا، وأحفظُ مائة ألف حديث صحيح ومائتي ألف حديث غير صحيح" أي (أ): باعتبار طرقها الكثيرة مع عده المكرر والموقوف وآثار الصحابة والتابعين وغيرهم وفتاويهم مما كان السلف يطلقون عليه حديثًا، وهذا التأويل متعين، إذ مجموع الموجود بأيدي الناس اليوم لا يساوى ثلث هذا العدد. وكان أئمة الحديث يصححون كتبهم من حفظه وهو شاب، وسأله أهلُ "بَلْخ" الإملاء عليهم، فأملى (ب) ألف حديث عن ألف شيخ (¬1)، والامتحان له في "سمرقند" بخلط الأسانيد بعضها في بعض، وكذا في "بغداد" (جـ) بمائة حديث قلبوا متونها وأسانيدها مشهور (¬2). وامتُحن أيضًا عند مَقْدِمِهِ من "نيسابور" إلى "بُخَارى"، وذلك أنه لما علم أهلُ "بخارى" بمقدمه قال لهم رئيسهم محمد بن يحيى الذهليّ: "إني مستقبله فمن أراد فليستقبله" فاستقبله هو وعامة علمائها، وقد كان قال لهم: "لا تسألوه عن شيء من الكلام فلعله يجيب بما نخالفه فيه فتقع الفتنة بيننا وبينه، فيشمت بنا كُلُّ مبتدع"، فلم يكن بأسرع من أنْ سُئِلَ عن اللفظ بالقرآن هل هو مخلوق؟ فقال: "أفعالنا مخلوقة، وألفاظنا من أفعالنا"، وهذا كلامه -رحمه الله تعالى- متفقٌ عليه بين الأشعرية والمعتزلة، وإنما الخلاف فيه للكرَّامِية وبعض ¬

_ (أ) في هـ: باعتبار أي مع طرقها. (ب) زاد في هـ: عليهم. (جـ) في هـ: بغداد وكذا في جميع المواضع الآتي ذكرها فيها.

الحنابلة القائلين بقِدَم الألفاظ والعبارات، فقال الذهلي: "القرآن كلامُ الله غير مخلوق، ومَنْ زعم أن لفظي بالقرآن مخلوق فهو مبتدع لا يجلس إلينا، ولا نُكلم أحدا بعد هذا ممن يذهب إلى محمد بن إسماعيل"، فانقطع الناس عنه إلا مسلما، ورَدَّ إلى الذهلي ما كان كَتَبَه عنه لأنه ظهر له أنَّ الحق مع البخاري وأن الذهلي حاسدٌ متعصب. ثم قال الذهلي: "لا يساكنني محمد بن إسماعيل في البلد"، فخرج خائفا على نفسه منها (¬1). وتوفي -رحمه الله تعالى- بخَرنتك -بخاء معجمة مفتوحة على الأشهر أو مكسورة، بعدها راء ساكنة مهملة (¬2)، بعدها نون ساكنة- وهي على فرسخين من "سمرقند"، وقيل ثلاثة أيام، وسبب قدومه إليها أن أهل سمرقند طلبوا وصوله إلى بلدهم، فوصل إلى هذه البلدة فبلغه وقوع فتنة فيما بينهم وأنَّ بعضهم يريد وصوله وبعضُهم كره ذلك، فبقي في هذا المحل حتى يتجلى له الأمر وكان له أقرباء فيه، فأقام أياما، فمرض ثم وصل إليه رسول أهل سمرقند يطلبون وصوله، فتهيأ للركوب، ولبس خفيه وتعمم، فلما مشى قَدر عشرين خطوة إلى الدابة ليركبها، قال: أرسلوني قد ضَعُفْت، فأرسلوه، فدعا بدعوات ثم اضطجع فقضي، فسال منه عَرَقٌ كثير لا يُوصَفُ وما سكن منه العرق حتى أُدرج في أكفانه. وقيل: ضجر ليلة فدعا بعد أن فرغ من صلاة الليل فقال: "اللهم قد ضاقت عليَّ الأرضُ بما رحبت فاقبضني إليك"، فمات في ذلك الشهر وقت العشاء ليلة السبت ليلة عيد الفطر سنة ست وخمسين ومائتين عن اثنتين وستين سنة إلا ثلاثة عشر يوما، لأنهُ ولد يوم الجمعة لثلاث عشرة ليلة خلت من شوال سنة أربع وتسعين ومائة. ¬

_ (¬1) انظر قصته مع الذهلي في سير أعلام النبلاء 12/ 453. (¬2) لا يتأتى النطق بساكنين متتابعين في العربية، وفي الأصل، وب تعليق لابن حجر الهيتمي: (ففوقية مفتوحة فنون). وفي هـ: (في تاريخ ابن خلكان: خرتنك بفتح المعجمة وسكون الراء وفتح التاء وسكون النون).

وفاح من قبره عقيب دفنه رائحة عظيمة جدا (أ) كالمِسك أو أقوى، ودامت أياما، وانثال الناسُ على قبره يأخذون من ترابه لشدة رائحته التي لا يجدون مثلها عندهم، وتسمى البلد بخرنتك -وكان اسمه غير ذلك- لضيقه بالزائرين، لأن معنى "خرنتك" بالفارسية: الضيق. ولم يعقب البخاري أحدًا من الأولاد، وقد رزقه الله ما هو أعظم وأجلّ من تخليف الولد الصالح من شهرة "صحيحه" وانتفاع الأمة به في جميع أقطار الإسلام. مسلم (¬1): هو الإمام مسلم بن الحجاج بن مسلم بن كوشاذ، القُشَيْرِيّ من بني (¬2) قُشَيْر قبيلة من العرب معروفة، أحد أئمة أعلام هذا الشأن، وكبار المبرزين فيه، والرحالين في طلبه إلى أئمة الأقطار، المُجْمَع على تقدمه فيه على أهل عصره كما شَهِد له بذلك إماما وقهما حِفْظًا وورعا وحديثا أبو زُرعة وأبو حاتم. سمع من مشايخ البخاري وغيرهم كأحمد، وروى عنه جماعة من كبار أئمة عصره وحُفاظه، ومنهم مساويه درجة كأبي حاتم الرازي والترمذي وابن خزيمة، وله المؤلفات الجليلة الكبيرة لا سيما "صحيحه" الذي امتن الله به على المسلمين وأبقى له به الثناء الحَسَن الجميل إلى يوم الدين، فإنَّ مَنْ اطلع على ما أودعه في أسانيده وترتيبه وحُسْن سياقه وبديع طريقته من نفائس التحقيق وأنواع الورع التام والاحتياط والتحري في الرواية وتلخيص الطرق واختصارها متفرقة وكثرة اطلاعه، عَلِمَ أنه إمام لا يُلْحَق، وفارس لا يُسْبَق. ¬

_ (أ) في هـ: رائحة عظيمة جدا عقيب دفنه.

قال: صنفت "المُسْنَد الصحيح" من ثلاثمائة ألف حديث مسموعة، ولما قدِم البخاري نيسابور آخِر مرة لازمه مسلم وأكثر التردد إليه، ومن ثَمَّ حذا حَذوه في "صحيحه" (¬1)، وكان هذا مراد الدارقطني بقوله: "لولا البخاري ما ذهب مسلم ولا جاء". ولد سنة أربع ومائتين، وتوفي -رحمه الله- عشِية يوم الأحد لأربع بقين من شهر رجب سنة إحدى وستين ومائتين، ودُفن يوم الاثنين بنيسابور وقبره بها مشهور، يُزار يُتبرك به. ويُذكر في سبب موته: أنه عُقد له المجلس للإملاء فذُكر له حديث فلم (أ) يَعرِفه فانصرف إلى منزله، فَقُدِّمَت له سلة تمر فكان يطلب الحديث ويأخذ تمرة تمرة، فأصبح وقد فنيَ التمُر ووَجد الحديث، وكان ذلك سبب موته (¬2)، ولذا قال ابن الصلاح (ب): "كانت وفاته بسبب غريب نشأ من غمرة فكرية علمية". أبو داود (¬3): هو سليمان بن الأشعث بن بشير بن شداد بن عمرو بن عمران، السجستاني -بفتح [السين] (جـ) وبكسر الجيم (د) - و "سِجِسْتَان" (¬4) اسم للولاية التي قصبتها زَرَنْج التي أبو داود منها وهي قُرب "كِرمان" إلى ناحية الهند. ¬

_ (أ) في هـ: فلمن. (ب) في هـ: وكانت. (جـ) بهامش الأصل. (د) في ب: وكسر، وفي جـ: وكسرها.

وهو أحد أئمة المسلمين والحفاظ والجهابذة المكْثِرين الذين يُعتمد عليهم، ويُرجع إليهم (أ). قال بعضهم: هو تالي الشيخَيْن في علمهما وفضلهما، سكن البصرة، وروى سننه ببغداد فأخذها أهلُها عنه، وعَرَضه على أحمد فاستجاده واستحسنه (¬1). وقال الخلال: لم يسبقه أحدٌ في زمنه إلى معرفته بتخرج العلم (¬2) وقيل في حقة: أُلِيْنَ له الحديث كما أُلِيْنَ الحديدُ لداود - عليه السلام (¬3) -، سَمِع من أحمد والقعنَبِيّ وسليمان بن حرب وقُتَيْبَة وغيرهم (¬4). وروى عنه خلائق كالترمِذِيّ والنَّسَائي (¬5). قال: كتبتُ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - خمسمائة ألف حديث، انتخبتُ منها ما ضمنته كتاب "السنن"، وأحاديثه أربعة آلاف حديث وثمان مائة (ب) ليس فيها حديث أجمع الناس على تَركِهِ (¬6). قال القاضي: كتابُ الله أصلُ الإسلام، وكتاب أبي داود (¬7). قال الخطابي: هو أحسن وضعا وأكثر فقها من الصحيحين (¬8). ¬

_ (أ) في هـ: "إلى قولهم": وفوتها كلمة: "إليهم". (ب) زاد في هـ: حديث.

وقال ابن الأعرابيّ (¬1): مَنْ عنده كتاب الله وسُنَن أبي داود لم يَحتَج إلى شيءٍ معهما مِن العلم". ومِن ثَمَّ صرح حُجة الإسلام الغزالي (¬2) باكتفاء المجتهد به في أحاديث الأحكام، وتبعه أئمة الشافعية على ذلك، وبمثله صرح الإِمام المهدي -رحمه الله تعالى- في "الغيث" (¬3). وقال النووي: "ينبغي للمشتغل بالفقه وبغيره الاعتناء به وبمعرفته المعرفة التامة، فإنّ معظم أحاديث الأحكام التي يُحْتَجُّ بها فيه مع سهولة تناوله، وتلخيص أحاديثه، وبراعة مصنفه، واعتنائه بتهذيبه". انتهى. وبلغ من شدة الوَرَعِ أنه كان له كُمُّ واسع وكم ضيق، فقيل له في ذلك فقال: الواسع للكتب، والضيق لا أحتاج إليه. وُلْد سنة اثنتين ومائتين (أوتوفي (ب) سنة خمس وسبعين ومائتين أ). وذكر جماعة أنه شافعي، وكان سبب ذلك أخذه عن أصحاب الشافعي، والظاهر أنه حنبلي (¬4). والله أعلم. الترمذي (¬5): هو أبو عيسى محمد بن عيسى بن سَورة بن موسى بن ¬

_ (أ) ما بينهما ساقط من جـ. (ب) زاد في هـ: بالبصرة لأربع عشرة ليلة بقيت من شوال.

الضحاك، السلميّ، الترمذي -بتثليث الفوقية، وكسر الميم أو ضمها كلها، مع إعجام الذال نسبة إلى مدينة قديمة على طرف جيحون نهر بلخ. وهو الإمام الحجة الثقة الحافظ المتقن، أخذ عن البخاري وغيره، وروى عن شيوخ البخاري، وتخرج بالبخاريّ، في روى عنه في "جامعه" حديثًا واحدًا، وهو: "يا علي لا يحل لأحد يجنب (أ) في هذا المسجد غيري وغيرك" (¬1). وحسنه واستغربه. قال -رحمه الله تعالى-: "عرضتُ كتابي هذا -أي كتاب السنن المسمى بالجامع- على علماء الحجاز والعراق وخُرَاسان فرضوا به، ومن كان في بيته فكأنما في بيته نبي يتكلم" (¬2). مات الترمذي بترمذ أواخر رجب سنة سبع وستين ومائتين (¬3). النسائي (¬4): هو أحمد بن شعيب بن علي بن سِنَان بن بَحر بن دينار، الخراساني، أحد الأئمة الحفاظ العلماء الفقهاء، بل أحد أئمة الدنيا في الحديث، سمع كثير من مشايخ الشيخين البخاري ومسلم، ومن أبي داود وآخرين ببلاد كثيرة وأقاليم مختلفة، واتسع أَخْذُهُ ورحلته (ب) حتى قال الذهبي والتاج السبكي: إنه كان أحفظ من مسلم صاحب "الصحيح" (¬5)، وسننه أقل السنن بعد الصحيح حديثًا ¬

_ (أ) في ب: يجتنب. (ب) في هـ: ومرحلته.

ضعيفا ولذا قال ابن رُشَيْد (¬1): إنه أَبدع الكتب المصنفة في السنن تصنيفا وأحسنها ترصيفا، وهو جامعٌ بين طريقتي (أ) البخاري ومسلم، مع حفظِ كثيرٍ من بيان العلل حتى ذهب جماعة من الحفاظ إلى أن كل ما فيه صحيح. قلتُ: ولعل هذا في "المُجْتَبَى من السنن الكبرى"، كما يُفْهِمُهُ اقتراح أصحابه عليه أن يختار لهم الصحيح منها، والله أعلم. مات -رحمه الله تعالى- بالرملة، ودُفن ببيت المقدس، وقيل: أوصى أن يحمَلَ إلى مكة فحُمِل إليها، ودُفن بين الصفا والمروة عن ثمانية وثمانين سنة كما قاله (ب) الذهبي وغيره (¬2)، وكأنه بناه على قول النسائي عن نفسه: "يشبه أن يكونَ مولدى سنة خمس عشرة ومائتين"، كان موته (يوم الإِثنين لثلاث عشرة خلت) (جـ) من شهر ضفر سنة ثلاث وثلاثمائة. وحُكي في سبب موته أنه لما قدم إلى دمشق سُئل عن معاوية فَفَضَّلَ عليًّا -رضي الله عنه- عليه (د) فذَكَرَ له مَنْ يريد تفضيل معاوية على عليّ شيئًا من فضائل معاوية، قال لهم منكِرًا عليهم: "ألا يرضى معاوية أن يكون رأسا برأس حتى يفضل"! وقوله: "رأسا برأس" من باب التنزل مع الخَصم، وإلا فإجماع (5) أهل السنة أنَّ عليا هو الأفضل. ¬

_ (أ) في ب: طريقي. (ب) في هـ: قال. (جـ) بهامش لأصل. (د) في هـ: ففضل عليا - عليه السلام -، فذكر ... (هـ) في هـ: وإلا فإن إجماع ...

فأخرجوه من المسجد وداسوه بالأرجل حتى أشرف على الموت، فحُمل إلى "الرملة" ومات بها (¬1). و "نَسَا" بفتح النون والسين المهملة مِن كُوَر "نيسابور"، وقيل: مِنْ أرض فارس (¬2)، والنسبة (أ) إليها نسائي بهمزة الألف، ويقال: نسوي، وهو القياس، (وفي القاموس: نَسَا: مقصور -بلد بفارس وقرية بسَرَخس وبكرمان وبهمذان) (¬3) (ب). ابن ماجه (¬4): هو أبو عبد الله محمد بن يزيد بن عبد الله بن ماجه، القزويني، مولى ربيعة بن عبد الله، الإِمام، الحافظ، أحد الأعلام، صاحب "السنن" التي يكفيها شَرَفًا أنها جُعِلت من الكتب الستة والسُّنَنَ الأربع بعد الصحيحَيْن بعد أن كان المكمِّل لذلك هو موطأ الإِمام (جـ) مالك، مع كونها شارحة عما حرص عليها أصحاب (د) الكتب الخمسة من المقاصد التي يعتبرها المحدث، وفيها أحاديث ضعيفة كثيرة بل فيها أحاديث منكرة، ونُقِل عن الحافظ المِزِّيّ أنَّ الغالب فيما انفرد به الضَّغف (¬5)، ولذا جرى كثيرٌ من القدماء على إضافة "الموطأ" إلى الخمسة، قال الحفاظ (هـ): ¬

_ (أ) في هـ: ونسبته. (ب) مثبتة بهامش الأصل، وساقطة من جـ. (جـ) في هـ: الموطأ للإمام. (د) في هـ: أهل، وهي مصوبة "أصحاب". (هـ) في ب: الحافظ.

وأول من أضافه (أ) إلى الخمسة أبو الفضل ابن طاهر في "الأطراف"، وكذا في "شروط الأئمة الستة"، ثم الحافظ (¬1) عبد العني في كتابه (ب) في أسماء الرجال الذي هذبه الحافظ المِزِّيّ، وسبب تقديم هؤلاء لها على الموطأ كثرة زوائدها على الخمسة بخلاف الموطأ. قال ابن كَثِير: "كتابٌ مفيد قويّ (جـ) التبويب في الفقه". رحل ابن ماجه فطاف البلاد حتى سمع أصحابَ مالك والليث، وروى عنه خلق كثير منهم أبو الحسن القطان وغيره. توفي يوم الثلاثاءِ لثمان بقين من رمضان سنة ثلاث -أو خمس- وسبعين ومائتين، ومولده سنة تسع ومائتين. واعلم أنَّ المصنِّفَ -رحمه الله تعالى- ذكر مصطحات أهل الحديث في وصف الحديث بالصحة والحُسْن والضعف ونحو ذلك، وهذه الاصطلاحات مستوفاة في علوم الحديب ولنذكر شرح معانيها على وجه الاختصار: فاعلم أنَّ هذا التقسيم إنما هو في الخبر الآحَادِيّ (¬2)، وأما المتواتر فهو المعبّر عنه بلفظه، (من غير تقييد) (د)، وهو المُفِيدُ للعِلْمِ، ومِن شَرْطِهِ أنْ يكونَ الخبِر به عددًا كثيرًا تحيلُ العادةُ تواطؤهم على الكذب، رووا ذلك عن مثلهم من الابتداء إلى الانتهاء، وكان مستَند انتهائه الحِسِّ، فمتى أفاد العلمَ كان ذلك هو المعبَّر عنه بالتواتريّ، وما عدا هذا فهو آحادِيّ. ¬

_ (أ) في هـ: أضاف ابن ماجه. (ب) ساقطة من ب. (جـ) في هـ: كثير، وهي مصوبة: قوي. (د) بهامش الأصل.

وهو ينقسم إلى: مشهور: ويسمى "المستفيض" (¬1) -وهو ما زاد رُوَاتُه على اثنين (¬2). وإلى عزيز: وهو ما رواه اثنان عن مثلهما، ويسمى (أ) بذلك لقلة وجوده، وليس بِشَرْطٍ للصحيح خلافا لأبي علي الجُبَّائِي (¬3)، فقال: "هو شرط للصحيح". وإلى غريب: وهو ما تفرد بروايته شخصٌ واحد في أي موضع وقع التفرد به من السند (¬4)، فإن كان التفرد في أصل السند فهو الفَرد المطلق (¬5)، وإنْ لم يكن فهو الفرد النسبِي (¬6). وإلى صحيح: وهو ما نقله عَدل، تَامُّ الضبطِ (ب)، متصل السند، غير مُعَلَّل ولا شاذ، وهو الصحيح لذاته (¬7). فإن خَفَّ الضبطُ فهو الحَسَن لذاته (¬8)، وإذا كثرت طرقه حُكِمَ له بالصحة. ¬

_ (أ) في هـ: وسمي. (ب) زاد في ب وهـ: عن مثله إلى منتهاه.

فما وقع في عبارة الترمذي من قوله: "حَسَنٌ صحيح" فهو متأول إما بأنه نردد في الناقل هل اجتمعت فيه شروط الصحة أو شرط الحُسْن؟ وهو بتقدير العاطف لأن حقه حَسَن أو صحيح، أو باعتبار إسنادَيْن يكون أحدهما له شرط الصحيح والثاني له شرط الحَسَن، والأول متعين فيما له إسناد واحد فقط (¬1). وإلى ضعيف: وهو ما اختل فيه شرطُ الصحيح والحَسَن. وله ستة أسباب: أحدها: عدم الاتصال، ثانيها: عدم عدالة الرجال، ثالثها: عدم سلامتهم من كثرة الخطأ والغفلة، رابعها: عدم مجيئه من وجه آخر حيث كان في الإِسناد مستور لم يعرف أهليته وليس متهما بالكذب، وخامسها: الشذوذ، وسادسها: العِلة (¬2). وقد دخل في الضعيف (¬3) المُعَلَّق: وهو أن يحذف من أول السند واحدٌ أو أكثر، ويكون ذلك بتصرف من المُصَنِّف، وهو على أقسام: إما بأن يقول: "قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -"، أو يذكر الصحابي ويحذف مَنْ دونه، أو يذكر (أ) مع الصحابي التابعيّ، أو يحذف مَنْ حَدَّثَه ويذكر مَنْ فوقه حيث لم يكن ذلك تدليسا، وإلا فمدلس. ¬

_ (أ) في هـ: ويذكر.

وإنْ كان الحذف من آخر السند بأن يكون مِن بعد التابعي فهو مُرْسَل. ومن أقسام المرسل: المعُضل: بأن يكون الساقط اثنين فصاعدا مع التوالي. والمنقطع: إذا كان اثنَيْن مع عدم التوالي (¬1). ودخل في الضعيف (¬2) ما كان الطعنُ فيه لكذبِ الراوي، أو تهمته بذلك، أو فُحش غلطه، أو غفلته، أو فِسْقِه، أو وهمه، أو مخالفته للثقات، أو جهالته، أو بدعته أو سوء حفظه. والأول يختص "بالموضوع"، والثاني "المتروك"، والثالث "المُنْكَر" -على رأي من لا يشترط في المنكَر نحالفة مَنْ هو أحفظ منه-، وكذا الرابع والخامس يطلق عليهما اسم "المنكر" [وهو "الشاذ": وهو أن يخالِف الراوي مَنْ هو أحفظ وأضبط فيكون ما تفرد به شاذا مردودًا، وإن تفرّد الحافظ الضابط ولم يكنْ مخالفا لمن هو أحفظ منه كان ذلك مقبولًا، وإنْ لم يكن موثوقا بحفظه وإتقانه لِمَا (أ) انفرد به لم يكن صحيحا، وهو دائر بين الحسن إذا كان حفظه قريبا من درجة الحافظ، وإن كان بعيدا من ذلك كان من قبيل الشاذ المنكر كذا حققه ابن الصلاح] (ب) (¬3). والقسم السادس: إن اطلع على الوهم بالقرائن وجمع الطرق خص باسم "المُعلَّل"، وقد يقال: "المعلول" والأول أولى، إذ هو من علله، قال ¬

_ (أ) في هـ: فما. (ب) بهامش الأصل.

الزين: "والأجود في تسميته: المُعَلّ (¬1)، وأكثر عباراتهم في الفعل أنهم يقولون: أعله فلان بكذا وقياسه: مُعَلّ وهو المعروف في اللغة (أ)، قال الجوهري: لا أعلك الله (¬2)، أي: لا أصابك بعلة، قال صاحب "المُحكَم": اللهم إلا أن يكون على ما ذهب إليه سيبويه من قولهم: مجنون ومسلول من أنهما جاءا على جتته وسللته، ولم يستعملا في الكلام (ب) أو استغني عنهما بأفعلت (¬3) " انتهى، وأما عَلَّلَه (¬4) فإنما يستعمله أهل اللغة بمعنى ألهاه بالشيء وشغله، من تعليل الصبي بالطعام. "والعلة" (¬5): عبارة عن أسباب خفية غامضة طرأت على الحديث فأثَرَتْ فيه وقدحت، وهي من أغمض أنواع علوم الحديث وأدقها ولا يقوم بذلك إلا مَنْ رزقه الله تعالى فهمًا ثاقبا، وحفظا واسعا، ومعرفة تامة بمراتب الرواة، وَمَلكة قوية بالأسانيد والمتون (¬6)، ولهذا لم يتكلم فيه إلا القليل من أهل هذا الشأن كعلي بن المَديني، وأحمد بن حنبل، والبُخَارِيّ، ويعقوب بن شَيْبَة (جـ)، وأبي حاتم، وأبي زُرعة، والدارقطني حتى قال بعضهم: إن المحدث المتقِن يجس النبض في الحديث فيدرك منشأ علته. ¬

_ (أ) ساقطة من ب. (ب) في هـ: واستغنى! (جـ) زاد في ب: أبي. وهي من المصحح، خطأ.

مثال ذلك ما قال الحاكم في "علوم الحديث": حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب ثنا محمد بن إسحاق الصغاني نا حجاج بن محمد قال: قال ابن جُرَيْج عن موسى بن عقبة عن سُهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - "مَنْ جلس مجلسا كَثُرَ فيه لَغَطُه فقال قبل أن يقوم: سبحانك اللهم وبحمدك، لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك، إلا غفر له ما كان في مجلسه ذلك". وله علة قادحة: حدثني أبو نصر أحمد بن محمد الوراق: قال: سمعت أبا حامد أحمد بن حمدون القصار يقول: "سمعت مسلم بن الحجاج وجاء إلى محمد بن إسماعيل البخاري فقَبَّل (أ) عَيْنَيه وقال: دعني حتى أُقَبِّل رجلَيْك يا أستاذ الأستاذين وسيد المحدثين وطبيب الحديث في علله، حدثك محمد بن سلام ثنا مخلد بن يزيد الحراني أنا ابن جُرَيْج عن موسى عقبة عن سُهيل عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في كفارة المجلس فما علته؟ قال محمد بن إسماعيل: هذا حديث مَلِيح، ولا أعلم في الدنيا في هذا الباب غير هذا الحديث إلا أنه معلُول، حدثنا به موسى بن إسماعيل ثنا وهيب ثنا سُهيْل عن عون عن عبد الله". قوله: "قال محمد بن إسماعيل" هذا أولى، فإنه لا يُذكر لموسى بن عقبة سماعا من سهيل. انتهى (¬1). قال علي بن المَديْنِيّ (¬2): "الباب إذا لم تُجْمَع طرقُه لم يتُبين خطؤه". والعلة تكون في الإِسناد -وهو الأغلب-، وفي المتن. ثم العِلة في الإسناد قد تقدح في المتن كالإعلال بالارسال، وقد لا تقدح كالإعلال بوهم الراوي في اسم أحد رجال الإِسناد مع ثبوت الإِسناد عن الثقات على الصواب من غير رواية ذلك ¬

_ (أ) في ب: يقبل. (ب) زاد في ب: فيه.

الذي وَهِم، وقد يطلقون المُعَلّ على ما اختل راويه من حيث الفِسْق وذلك موجود في كتب العِلَل. والقسم السابع: مخالفة الثقات (¬1)، وهي إِن كانت بتغيير سياق الإِسناد فيسمى مُدرَج الإِسناد وذلك بأن يروي الحديث جماعةٌ بأسانيد مختلفة فيرويه عنهم راو ويُجمع الكل على إسناد واحد من تلك الأسانيد ولا يبين الاختلاف (أ). أو يكون المتن عند راو إلا طرفًا منه فإنه عنده بإسنادٍ آخر فيرويه راو عنه تامًّا بالإِسناد الأول ونحو ذلك وإن كان مدمجًا موقوفًا من كلام الصحابة أو من بعدهم بمرفوع من كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - فيسمى مدرج المتن. وإن كانت الخالفة بتقديم أو تأخير في السندَ كأن يقول: "مُرَّة بن كعب" في "كعب ابن مُرَّة"، أو في المتن كأن يقول في حديث السبعة: " ... حتى لا تعلم يميُنه ما تنفِق شماله" (¬2). كما وقع له لبعض الرواة، وأصل الحديث: " ... حتى لا تعلم شمالُه ما تُنْفِق يمينه" فيسمى: "المقلوب". وإن كانت المخالفة بزيادة راوٍ في الإِسناد المتصل المُصَرَّح فيه بالسماع فيسمى "المَزِيد" (¬3). ¬

_ (أ) في هامش هـ.

وإنَّ كانت الخالفة بإبدال الراوي براوٍ آخر ولا مُرَجِّح لاحدى الروايتين على الأخرى فيسمى: "مضطرب (أالإسناد"، وقد يكون الإبدال في المتن فيسمى "أيضًا": مضطرب (أ) المتن (¬1). وقد يقع الإبدال لقصد الامتحان كما وقع في امتحان البخاري (¬2). وإن كانت المخالفة بتغيير حرف أو حروف مع بقاء سورة الخط في السياق، فإن كان بالنسبة إلى اللفظ فيسمى: "المُصَحَّف"، وإن كان بالنسبة إلى الشكل فيسمى: "المُحَرَّف" (¬3). القسم الثامن: جهالة الراوي، وهي إما بأنْ يُذْكَرَ بنعت غير ما اشتهر به لغرض، أو بأن يكون مُقِلًّا من رواية الحديث فلا يكثر الأخذ عنه (¬4)، أو بأن يبهمه الراوي اختصارا، وهذا الذي أبهمه الراوي لا يُقْبَل ولو صرح بعدالته بأن يقول: "أخبرني الثقة"، لأنه قد يكون ثقة عنده مجروحا عند غيره (¬5). فإن سمى الراوي وانفرد (ب) واحد بالرواية عنه فيسمى: "مجهول العين" (¬6)، وإنْ روى عنه اثنان فصاعدا ولم يُوَثَّق فيسمى: "مجهول الحال" (¬7) وهو "المستور"، وهذا القسم موقوف على البحث عنه، فلا يُقْبَل ولا يُرَدّ إلا بعد استبانة حاله. القسم التاسع: بدعة الراوي، وهي إما بمُكَفِّر (جـ)، فقيل: يُقبل مطلقا (د)، ¬

_ (أ، أ) ما بينهما بهامش جـ. (ب) زاد في ب: به. (جـ) في ب: بكفر. (د) زاد في هـ: كما قيل.

وقيل: إن كان لا يعتقد حِلّ الكذب لنصرة مقالته والمعتمد أَنَّ مَنْ أنكر أمرًا متواترًا معلوما مِن الشرعِ بالضرورة أو اعتقد عكسه فإنه لا يُقْبَل، لأنه يصير حكمه حكم كافر التصريح. وأما مَن كان كُفره من حيث التأويل لما طرأ عليه من خطأ النظر في الأدلة، فإنه يُقبل مهما كان مستكملا لشرط الرواية من الضبط والعدالة، وإن كانت بمُفسِّق فقيل: يُرَد مطلقا (¬1)، وقيل؛ يُقبل مطلقا، إلا إنْ اعتقد (أ) حِلّ الكذب (¬2)، وقيل: يُقبل مَن لم يكن داعية إلى بدعته. والأولى أن مَن عُرِف من حاله الأمانةْ وصدق اللهجة وأن المذهب لا يحمله على محبة ترويج الباطل وتقويته بما ليس بحق فإنه يُقْبَل (¬3)، وإلا رُدَّ. وقال الجُوْزَجَاني (¬4) شيخ النَّسَائي: "إن مَنْ لم يكن داعية إلى بدعته (ب) يقبل إذا لم يكن ما رواه مُقَوِّيًا لبدعته" (¬5). العاشر: سوء حفظ الراوي، فإِنْ كان لازما له في جميع حالاته فإنه يسمى بالشاذ على رأي بعض المحدِّثين، وإنْ كان سوء الحفظ طارئا عليه سمى: ¬

_ (أ) في ب: يعتقد. (ب) في ب: بدعة.

"بالمُختلِط" فهذه كلها أقسام للضعيف وليست كلها مردودة، بل قد يصير بعضها مرتقيا إلى مرتبة الحسن مع المتابعة له بمعتَبَر (أ)، وذلك كسوء الحفظ، والمرسل، والمستور، ونحو ذلك (¬1). وأعلم أنه يُسَمَّى (ب) بالمرفوع ما انتهى إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، وما اقتصر فيه على الصحابي يسمى بالموقوف، وما اقتصر فيه على التابعي يسمى (جـ) بالمقطوع وكذا مَنْ دون التابعيّ، وقد يقال للأخِيرَيْن: أثَر. وفي هذا المذكور كفاية في معرفة اصطلاح أهل الحديث فيما يتعلق بهذا المختصر. فائدة: يجوز للناظر في علم الحديث العمل بما ذكره الأئمة الملتَزِمون للصحيح، وذلك كالصحيحَيْن فإنهما التزما أن يذكرا ما صَحَّ عندهما، وقد تلقتهما الأمة بالقبول فأفاد ما فيهما العِلم الاستدلالي، وكذا المصنفات المختصة بجمع الصحيح فقط كصحيح أبي بكر محمد بن إسحاق بن خُزَيْمة، وصحيح أبي حاتم محمد بن حِبَّان البُسْتِيّ المسمى: "بالتقاسيم والأنواع"، وكتاب "المُسْتَدْركَ على الصحيحَيْن" لأبي عبد الله محمد الحاكم (¬2) وكذلك ما يوجد من المستَخْرَجَات على الصحيحَيْن (¬3) من زيادة أو تتمة لمحذوف، فهو محكوم بصحته. ¬

_ (أ) في هـ: بغيره. (ب) في هـ: سمى. (جـ) في ب: سمى.

وأما السُّنَنَ الأربع والموطأ والمسانيد مما لم يلتزم مصنفوها التصحيح فإِنْ كانَ مما بين صحته أو حُسنه فيها فلا كلام في جواز العمل به، وما أطلق من ذلك فإن كان الناظر متأهلا للبحث وجب عليه ذلك، كان لم يكن (أ) ولا وجد أحدا من الأئمة (ب) قد نص فيه بتصحيح لم يَجُزْ له الاحتجاج لئلا يقع في الباطل ولا يشعر. وقد بَيَّن أبو داود ما في كتابه من الصحيح وما يقاربه، والضعيف، وما سكت عنه فهو "صالح" (¬1)، وكذا الترمذي فإنه بَيَّنَ (جـ الصحيح والحَسَن جـ) والضعيف وما سكت عنه يحتاج إلى بحث، وكذا مسند الإمام أحمد فإنَّ ما سكت عنه صالح للاحتجاج به (¬2)، والله أعلم. ¬

_ (أ) زاد في هـ: ذلك. (ب) في ب: وقد. (جـ) في ب تقديم وتأخير وأشار إليه.

كتاب الطهارة

كتاب الطهارة باب المياه بدأ بالطهارة كما فعله غيره من المصنفين في الأحكام الشرعية اهتماما بالأمور الدينية وتقديما لها على المصالح الدنيوية، ولِمَا في الصحيحَيْن عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "بُنِيَ الإسلامُ على خَمسٍ (أ): شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، والحج" (¬1)، فرتبوها على هذا الترتيب المتين، وقدموا الظهارة لأنها مِفتاح الصلاة التي هي عماد الدين، وهي بالماء أصل وبالتراب فرع فَقُامَتْ أحكام المياه، ولم يذكر أحاديث الشهادتين، لأن مبنى الإسلام عليهما (¬2)، والكتاب إنما هو في محض الأحكام بعد تقرر الإيمان. "والكتاب" مصدَر كَتَبَ كتابًا وكتابة، ومادة "كتب" دالة على معنى الجَمع والضم، ومنه الكتيبة والكتابة، استعملوا ذلك فيما يجمع أشياء من الأبواب والفصول الجامعة للمسائل. والضم فيه (ب) بالنسبة إلى المكتوب من الحروف حقيقة، وبالنسبة إلى المعاني مجاز (¬3). "والطهارة": مصدر طهر يطهر، وهو لازم، فهي الوصف القائم بالفاعل شاملة للمعنى القائم بالذات المتجردة (جـ) عن الحَدَث والنجس أو عن أحدهما، ¬

_ (أ) في هـ: خمسة. (ب) ساقطة من ب. (جـ) في ب: المجردة.

ويجوز أن يكون مصدر المفعول، وهو الأثر الحاصل عن الفاعل القائم بالمفعول، ويجوز أن يكون اسم مصدر طهر تطهيرًا وطهارة مثل: كَلَّم تَكْلِيما وكلاما. ومعناها لغة: النظافة والنزاهة عن الأقذار (¬1)، وشرعا: على الأول -وهو مصدر اللازم-: صفة حُكْمية تثبِتُ لموصوفها جواز الصلاة به أو فيه أو له، فالأولان الطهارة من النجس والأخير الطهارة من الحدث. وعلى الثاني -وهو كونها اسم مصدر المتعدي (أ) -: استعمال المطهرَيْن أو أحدهما على الصفة المشروعة في إزالة النجس والحدث. وعليهما جميعًا: عدم حدث أو نجس يرفعه أو بالأصالة أو ما في حكمه. فيشمل الأول: ما رفع منه الحدث بعد كونه كالوضوء من الحَدَث والغُسل من الجنابة وما كان طاهرا من الحَدَث بالأصالة كمن بلغ طاهرًا من الجنابة. ويشمل الثاني: ما رفعت منه النجاسة بعد كونها، رما كان طاهرا قبل طُرُوء النجاسة. وقوله: "أو ما في حكمه" أي: حكم الحَدَث، يدخل فيه تجديد الوضوء والغسل المسنون والمندوب. والمعنى الثاني أنسب بالبحث إذ (ب) الفقيه إنما يبحث عن أحوال أعمال المكلفِيْن من الوجوب وغيره لا عن صفات الذوات القائمة بها (¬2). "والباب" في اللغة: ما يُدخل منه إلى غيره، واستعماله هنا مَجَاز في عنوان ¬

_ (أ) في ب: التعدي. (ب) في ب، هـ: إذا، وفي جـ: فالفقيه.

الجملة من المسائل المتناسبة (أ) المعاني كما جرت به عادة العراقيين، ويعبَّر عنه أيضًا بالفصل كما في غالب كتب الخراسانيين. "والمياه": جمع ماء، والماء جنسٌ يقع على القليل والكثير، وجَمَعَه هنا للدلالة على اختلاف أنواعه حتى إنَّ بعض أنواعه مُجْمَع على تطهيره -وهو ما عدا ماء البحر-، والخلاف في ماء البحر لابن عمرو وابن عمر، حجة الجمهور حديث الباب وهو: 1 - عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في البحر: "هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ، والحِلُّ مَيْتَتُهُ" (¬1). أخرجه الأربعة وابن أبي شيبة واللفظ له، وصححه ابن خزَيمة والترمذيّ. أبو هريرة هو أول من كُنِّيَ بهذه الكنية، واختُلف في اسمه واسم أبيه على نحو من ثلاثين قولا، وأصحها: عبد الرحمن بن صخر. قال ابن عبد البر: وهو الذي تَسْكُنُ إليه النفس في اسمه في الإسلام (¬2). وبه قال محمد بن إسحاق والحاكم أبو أحمد (¬3)، ¬

_ (أ) في ب: المتناسفة.

وعلى هذا اعتمدَتْ طائفةٌ صنفت في الأسماء والكنى. وكُنِّيَ بأبي هريرة لأنه كانت له في صغَرِه هِرَّة صغيرة يلعب بها. وهو أكثر الصحابة رواية عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬1)، وذكر (¬2) الحافظ بَقِيّ بن مَخْلَد الأندلسيّ في "مسنده" لأبي هريرة خمسة آلاف حديث وثلاثمائة (1) وأربعة وسبعين (5) حديثًا، وليس لأحد من الصحابة هذا القَدْر ولا ما يقاربه. قال الشافعي: أبو هريرة أحفظ مَنْ روى الحديث في دهره (¬3). وكان ينزل بالمدينة، وبذي الحُلَيْفَة، وله فيها دار. مات بالمدينة سنة تسع وخمسين وهو ابن ثمان وسبعين سنة (¬4)، ودُفِن بالبَقِيْع، وماتت [عائشة] (جـ) قبله بقليل وهو الذي صلى عليها. وقيل: إنه مات سنة سبع وخمسين، وقيل: ثمان، والصحيح الأول. قال أبو نعيم: كان عَرِيْف أهل الصُّفَّة، وأشهر مَنْ سَكَنَها (¬5). هذا الحديث [وقع في جواب سؤال، ولفظ أبي داود (¬6): أن المغيرة سمع أبا هريرة يقول: "سأل رجلٌ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله: إنَّا نَركَبُ (د) البحر ونحمل معنا القليل من الماء، فإِنْ توضأنا به عطشنا، أفنتوضأ بماء البحر؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "هو الطهُورُ مَاؤهُ والحِلُّ مَيْتَتُه". ¬

_ (أ) زاد في هـ: حديث. (ب) في هـ: وسبعون وكذا ى. (جـ) بالهامش في الأصل. (د) في جـ: ركب.

وكأنه شك في جواز الطهارة بماء البحر من أجل ملوحته فسأل عنه. وهو] (أ) أصلٌ عظيم في الطهارة حتى قال الشافعيُّ -كما رواه الحميديّ-: إن فيه نِصف علم الطهارة (¬1). * الحديثُ أيضًا أخرجه ابن حِبان في "صحيحه"، وابن الجارود في "المنتقى"، والحاكم في "المستدرك"، والدارقطني، والبيهقي في "سننهما" (¬2)، وصححه البخاريّ -كما حكاه عنه الترمذي (¬3) -، وحكم ابنُ عبد البر بأنَّ الأمةَ تلقته بالقَبُول (¬4)، ورجح ابن مَندَه صحته، وصححه ابن المنذر، وأبو محمد البَغَوِي (¬5). وقال الشافعي: في إسناده مَنْ لا أعرِف (¬6) (ب)، ومدار إسناده على صفوان (جـ ابن سليم (¬7) عن سعيد بن سلمة عن المغيرة بن أبي بُردة عن أو هريرة، ورواه مالك وأبو أويس عن صفوان جـ) (¬8) والجهالة محتملة إن أراد الشافعي أنه لا يعرف سعيد بن سلمة (¬9) أو المغيرة أو ¬

_ (أ) بهامش الأصل. (ب) زاد في ب: في. (جـ - جـ) بهامش ب.

كلاهما، وقد تَعقب الشافعي بأن سعيد بن سلمة لم ينفرد به بل (أ) قد شاركه في الرواية يحيى بن سعيد الأنصاري، إلا أنه اختُلف عليه فيه، والمغيرة (¬1) قال أبو داود: إنه معروف، وقال ابن عبد البر (¬2): وجدتُ اسمه في مغازي موسى بن نصير (ب) موسى بن عقبة (جـ)، ووثقه (د) النسائي. وتابع صفوان في الرواية عن سعيد بن سلمة الجلاح (¬3) أبو (هـ) كثير. رواه عنه الليث بن سعد وعمر بن الحارث (و) وغيرهما. وأخرجه أحمد والحاكم والبيهقي (¬4) من طريق الليث عن أبي هريرة بسياقٍ أتمّ جواب عن سؤال صياد. * وفي الباب عن جابر بن عبد الله رواه أحمد، وابن ماجه، وابن حبان، والدارقطني، والحاكم (¬5). قال أبو علي بن السَّكَن (¬6): حديث جابر أصح ما رُوِيَ في هذا الباب. ¬

_ (أ) زاد في ب: قال. (ب) في مغازي موسى بن عقبة. قلت: وموسى بن عقبة أول من صنف في المغازي. سير أعلام النبلاء 6/ 114. (ص) زاد في حـ: و. (د) في هـ، ووثقه، ومصححه: ووقفه، وفي ب: ووثقه. وفي جـ: ووقفه. (هـ) في النسخ: الجلاح بن كثير، والمثبت هو الصحيح، انظر ترجمته في تَهْذِيب التهْذِيبِ 2/ 126. (و) في ب: عمرو.

وعن ابن عباس رواه الدارقطني والحاكم من حديث موسى بن سلمة عن ابن عباس (¬1) مرفوعًا بلفظ: "ماء البحر طهور " (أ)، ورواته ثقات (ب، لكن صحح الدارقطني وقفه (¬2). وعن ابن الفراسي ب). أخرجه ابن ماجه (¬3) من حديث يحيى بن بكير بلفظ حديث أبي هريرة. قال الترمذي عن البخاري أن ابن الفراسي ليس له صُحبة، وأبوه صحابي فهو مرسَل (¬4)، وقد رواه البيهقي (¬5) من حديث يحيى بن بكير عن الفراسي نفسه، ولكنه مرسَل على رأي البخاري لأن راويه عنه ابن مخشي، وليس على شرط البخاري. وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مرفوعًا بلفظ: "مَيْتَةُ البحر حلال، وماؤه طهور"، أخرجه الدارقطني (¬6) والحاكم، وفيه المُثَنَّى، وهو ضعيف (¬7). ووقع في رواية الحاكم "الأوزاعي" وهو غير محفوظ. وعن علي - رضي الله عنه - من طريق أهل البيت أخرجه الدارقطني والحاكم، وفي إسناده مَنْ لا يُعرف (¬8). ¬

_ (أ) الواو ساقطة من ب. (ب، ب) في هـ: صحح الدارقطني وقفه على ابن الفراسي.

وعن ابن عمر بلفظ: قال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "إن ماءه طهور، وميتته (أ) حِلّ". أخرجه الدارقطني (1). ومن حديث أبي بكر - رضي الله عنه - أخرجه الدارقطني (2)، وفي إسناده عبد العزيز بن أبي ثابت، وهو ضعيف (¬3)، وصحح الدارقطني وقفه، وكذا ابن حبان في "الضعفاء" (¬4). وعن أنس رواه الدارقطني أيضًا (¬5)، وفي إسناده أبان بن أبي عياش (¬6)، وهو متروك (¬7). * والطَّهُور: بفتح الطاء على فَعُول -صفةٌ، تُطْلَق على المطهر، وبالضم مصدر، وقال سيبويه: إنه بالفتح لهما. * وظاهر الحديث يدل على أنَّ ماءَ البحر طاهرٌ مطهِّر، لا يخرج عن الطهورية بحال، ولكنه مخصَّص بما سيأتي. ¬

_ (أ) في هـ: وميته حلال.

واحْتَجَّ مَنْ لم يَقُلْ بطَهوريته بما رُوي موقوفًا (أ) عن ابن عمر (ب: "ماءُ البحر لا يُجزيء من وضوء ولا جَنابة، إِنَّ تحت البحر نارا ثم ماءً ثم نارا .. حتى عَدَّ سبعة أبحُر وسبع أنيار". ورواه أبو داود عن ابن عمر ب) قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يركب (جـ) البحر إلا حاج أو معتمر، أو غاز في سبيل الله، فإنَّ تحت البحر نارا، وتحت النار بحرا" (¬1) (د). ورواه سعيد بن منصور أيضًا في "سننه". ولكن ذلك لا يعارض حديث الباب لقوته بكثرة طرقه حتى روى الترمذي عن البخاري أنه قال بصحته -وإن لم يخرجه في "الصحيح"-، وأيضًا فإنّ محل الاستشهاد غير مرفوع، والمرفوع آخِره. * وقوله: "والحل مَيتته" فيه دلالة على حِل مَيتة (هـ) البحريّ على أيّ صِفة كانت ومن أي نوع (و)، وسيأتي الكلام عليه إن شاء الله تعالى. [وتعريف الخبر باللام الجنسية في "الطَّهور" لا تُفيد حصر الطهورية (ز) عليه حتى يُفهم أنه لا يتطهر بغيره لأنه لم يقصد به الحَصْر، وإنما وقع جواب لمن شك في الطهور به، فأثبت له (ح) الطهورية، وأما "الحِل ميتته" فيمكن استفادة الحَصر منه لأنه لا يحل (ت) ميتة البريّ إلا الجراد، والله أعلم] (ى). ¬

_ (أ) في جـ: مرفوعًا، والصحيح الوقف. (ب، ب) بهامش ب. (جـ) في نسخة هـ، جـ: تركب. (د) في هـ: بدون الواو. (هـ) في نسخة ب، هـ: ميتته. (و) الواو ساقطة من هـ. (ز) في ب: الطهور. (ح) في ب: به. (ت) في هـ: لم. (ى) بهامش الأصل.

2 - وعن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن الماءَ طَهُورٌ، لا يُنجِّسُه شيءٌ". أخرجه الثلاثة، وصححه أحمد (¬1). * أبو سعيد الخُدْرِيّ: هو سعد بن مالك بن سِنَان، الخزرجي، الأنصاري، اشتهر بكنيته، كان من الحفاظ المكثِرين العلماء الفُضلاء العقلاء، أول مشاهده الخندق، وعُرض على النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم أُحُد وهو ابن ثلاث عشرة سنة فرده النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال (أ): "فلما رجع النبي - صلى الله عليه وسلم - خرجنا نلتقيه، فنظر إليَّ فقال: سعد بن مالك؟ قلتُ: نعم بأبي وأمي (ب)، فدنوتُ فقبلتُ ركبتَه، فقال: "قد آجرك اللهُ في أبيك " وكان قُتل يومئذ شهيدا". وغزا أبو سعيد مع النبي - صلى الله عليه وسلم - اثنتَي عشرة (جـ) غزوة، وروى عنه جماعة من الصحابة والتابعين، مات سنة أربع وسبعين، ودفن في البقيع، وله أربع وثمانون سنة (¬2). ¬

_ (أ) ساقطة من هـ. (ب) ب: بأبي أنت وأمي. (جـ) في هـ: اثني عشر.

"الحديث مُخْتَصَرٌ من حديث بئر بُضَاعة، وهو قيل: يا رسول الله أنتوضأ من بئر بضاعة؟ وهي بئر يلقى فيها الحيض ولحوم الكلاب والنتن، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ الماء طَهُورٌ لا ينجسه شيء" هذا لفظ الترمذي (¬1)، وقال: حديث حسن غريب (¬2). وقد أعله الدارقطني (¬3) بالاختلاف على ابن إسحاق وغيره، وقال في آخر الكلام عليه: وأحسنها إسنادا رواية الوليد بن كثير عن محمد بن كعب يعني عن (أ) عبد الله بن عبد الرحمن بن رافع عن أبي سعيد. وأعله ابن القطان بجهالة راويه عن أبي سعيد واختلاف الرواة في اسمه واسم أبيه. قال: وله طريق (ب) أحسن من هذه ذكرها قاسم بن أصبغ في "مصنفه" (¬4) بلفظ الترمذي إلا أنه قال: "الماء لا ينجسه شيء". وقال ابن مَنده في حديث أبي سعيد: هذا إسنادٌ مشهور، وهو في سنن النَّسائيِّ (¬5) بلفظ: "مررتُ بالنبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وهو يتوضأ من بئر بُضاعة فقلتُ: أنتوضأ منها، وهي (جـ) يطرح فيها ما يكره من النتن؟ فقال: "الماء لا ينجسه شيء" (¬6). ¬

_ (أ) ساقطة من جـ. (ب) في جـ: طرق. (ب) في هـ: وهو.

* ظاهر الحديث يدل على أنَّ الماء لا يتنجس مهما كان يطلَق عليه اسم الماء المطلق، ولو (أ) تغير أوصافه بالنجاسة وإن قَلَّ، إلا أنه قام الاجماع (¬1) على نجاسة ما تغير أوصافه بالنجاسة لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إلا إن تغير ريحه أو لونه أو طعمه" (ب) بنجاسة تحدث فيه؛ سيأتي في حديث أبي أُمَامَة (¬2)، والخلاف فيما عدا ذلك، فذهب القاسم والإمام يحيى وجماعة (¬3) -وهو مذهب مالك والغزالي (¬4) - إلى أنه لا ينجس بما لاقاه من النجاسة وإن كان الماء قليلًا إذا لم يتغير عملا بهذا الحديث (¬5). وذهب (¬6) الهادي (¬7) والمؤيد (¬8) وأبو طالب (¬9) والناصر (¬10) وجماعة إلى أنه ينجس القليل بملاقاة النجاسة وإن لم تتغير أوصافه إذ القليل حده ما يظن (جـ) ¬

_ (أ) في ب: ولم. (ب) في هـ: أو طعمه أو لونه. (جـ) في هـ: ما لم يظن.

المستعمل للماء استعمال النجاسة باستعماله، والمستعمِل له قد استعمل جزءًا من النجاسة، وقد قال الله تعالى: {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5)} [المدثر: 5] (¬1)، ولخبر الاستيقاظ (¬2) , لقوله: "لَا يَبُولَنَّ أحدُكُم في الماء الدائم" (¬3) كما سيأتي، ولأنه تعارض فيه جهة حظر وجهة إباحة فترجح جاتب الحَظْر، ولحديث القُلَّتيْن (¬4) كما سيأتي. فالحديث وإن كان عاما فهو مُخَصَّص يخرج عنه الماء القليل بما ذكرنا من الأدلة. وفَرَّعَ على هذا القول السادة، وهم (أ) المؤيد، وأبو طالب، وأبو العباس (¬5): أن النجاسة إذا كان جرمها مرجودا في ماء كثير فهو محكوم بنجاسة ملاصقها وملاصق الملاصق، وذلك لأن الملاصق ينحل إليه جزء من النجاسة وملاصقه كذلك فمستعمله غير هاجر للرُّجْز (ب)، وهو تخريجٌ قويّ ارتضاه الإِمام المهديّ على مقتضى أصل الهادوية (¬6)، وقياسا منهم على الغسلات الثلاث، وسيأتي الكلام في اعتبارها، ولكن يلزم في ملاصق ملاصق ملاصق النجاسة المعبّر عنه عندهم بالمجاور الثالث أن يكون طاهرا غير مطهر على أصل مَن يقول في ماء الغسلة الثالثة ¬

_ (أ) في هـ: وهو. (ب) في جـ: الرجز.

كذلك، إلا أنه يمكن الفرق بين المجاور الثالث والغسلة الثالثة بأنها لما رفعت حكمًا زال عنها حكم الطهورية بخلاف المجاور الثالث فإنه لم يرفع حكما فبقى على أصل الطهورية، والقائلون بعدم نجاسة الكثير إذا لم يتغير اختلفوا في تحديده، فذهب أبو طالب والمؤيد إلى أنَّ الكثير ما لم يظن استعمال النجاسة باستعمال الماء تحقيقا أو تقديرا والقليل ما عداه، والوجه في ذلك أنه لا يتحقق هجران النجس (أ) المأمور به في الآية والمستنبط من حديث الاستيقاظ وحديث البَول في الماء الراكد إلا بذلك. واختلفت الحكاية عن الهادي، فحكى في "شرح الإبانة" عن الهادي، وأطلقه القاضي زيد للمذهب أن الكثير ما لا تستوعبه القوافل الكبار شربا (ب) وطهورا، والقليل عكس ذلك، ونظَّرَه الإمام المهدي (¬1) بأنَّ في ذلك جهالة، فإنه لا يدري كم يغترفون (جـ) يعني لشربهم في الطريق، وهل شربهم قبل الاغتراف أو بعده. وعن الأمير الحسين الهادي أن حده ستة أذرع عرضا ومثلها عمقا، ولعل مستند ذلك ما ورد في بئر بُضَاعة أنَّ عرضها ستة أذرع. قال أبو داود: سمعت قتيبة بن سعيد قال: سألت قَيِّمَ بئر بُضَاعة عن عُمقها، فقلت: أكثر ما يكون فيها الماء؟ قال: إلى العانة، قلتُ: فإذا نقص؟ قال: دون العَورة. قال أبو داود: "قَدَّرْتُ بئر بضاعة بردائي مددته عليها ثم ذَرَعْتُه فإذا عرضها ستة أذرع، ¬

_ (أ) في هـ: لنجس. (ب) في ب: مشربا. (جـ) في ب: يغرفون.

وسألتُ الذي فتح لي باب البستان فأدخلني (أ) هل غُيِّر بناؤها عما كانت عليه؟ فقال: لا، ورأيت فيها ماءً متغير اللون" (¬1). ولكن هذا أثبت الذرع من جهة العرض فقط (1). وقال المنصور بالله والناصر والشافعي (¬2): إن الكثير قلتان من قِلَال "هَجَر"، القلتان: خمسمائة رِطْل (¬3) بالعراقي. قال الغزالي: أو ذراع وربع طولا ومثله عرضا ومثله عمقا بالذراع الهاشمي (¬4). وعن النووي (ب): بذراع اليد، وهو شِبران باليد، وفي المستدير ذراع عرضا والعُمق ذراعان. و (جـ) قال ابن أبي شريف: وروى ابن جُرَيج عن الشافعي أنه قال: رأيتُ ¬

_ (أ) في هـ: فأدخلني إليه. (ب) في هـ: النواوي. (جـ) الواو ساقطة من هـ.

قِلَالَ "هَجَر"، والقلة منها تَسَع قربتين، أو قربتين وشيئا، فاحتاط الشافعي وحسب الشيء نصفا إذ لو كان فوقه لقال ثلاث قِرب إلا شيئًا، فإنه عادة أهل اللسان فيكون خمس قرب والقربة من قرب مكة وهي التي عناها ابن جُريج لا تزيد غالبا على مائة رِطْل بغدادي. قال: وسيأتي في الزكاة أن رطل بغداد على ما رجح الرافعي مائة وثلاثون درهما، وعلى ما رجح النووي (أ) مائة وثمانية وعشرون درهما وأربعة أسباع دِرهم. ومستندهم ما أخرجه الشافعي، وأحمد، والأربعة، وابن خزيمة، وابن حبان، والحاكم، والدارقطني، والبيهقي من حديث عبد الله بن عبد الله بن عمر عن أبيه -واللفظ لأبي داود-: سُئلِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الماء وما ينوبه من السِّبَاع والدواب فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا كان الماء. قُلَّتَيْن لم يحمل الخَبَث" (¬1). ولفظ الحاكم: "فقال: إذا كان الماء قلتين لم ينجسه شيء". وفي رواية لأبي داود وابن ماجه: "فإنه لا ينجس". قال الحاكم: صحيحٌ على شرطهما، وقد احتجا بجميع رواته. ¬

_ (أ) في هـ: النواوي.

وقال ابن منده: إسناده (أ) على شرط مسلم، ومداره على الوليد بن كثير (¬1)، فقيل: عنه عن محمد بن جعفر بن الزبير (¬2)، وقيل: عنه عن محمد بن عباد (ب) بن جعفر (¬3)، وتارة: عن عبيد الله بن عبد الله بن عمر (¬4)، وتارة: عن عبد الله بن عبد الله بن عمر (¬5) فهذا الحديث ظاهر في المدعي واعترض بأن سنده مضطرب لاختلافهم في راويه (جـ) واضطراب متنه، إذ قد روي "قلة" و "قلتين" و "ثلاث قلال" و "أربعين قلة"، ومعارَض بحديث أبي سعيد المار، وبحديث (د) ابن عباس: "إن الماء لا يجنب". وأجيب عنه بأن الاضطراب في الراوي ليس اضطرابا قادحا، فإنه على تقدير أنْ يكون الجميع محفوظا انتقال مِن ثقة إلى ثقة، والتحقيق أنه عند الوليد بن كثير عن محمد بن عباد بن جعفر بن الزبير عن عُبَيْدُ الله بن عبد الله بن عمر المُصَغَّر (¬6)، ¬

_ (أ) ساقطة من هـ. (ب) في هـ: عبادة. (جـ) في هـ: رواته، وليس بصحيح. (د) في ب: ولحديث.

قال الحافظ المصنِّف: "ومَنْ رواه على غير هذا الوجه فقد وَهِم" (¬1). وأما اضطراب المتن فكذلك إذا ثبت التخيير بين قُلة أو قلتين،؛ حكاه الإمام المهدي في "البحر" (¬2)، أو كما رواه أحمد والدارقطني إذا كان الماء قدر قلتين أو ثلاث (¬3). وفي رواية للدارقطني وابن عدي والعقيلي: "إذا بلغ الماء قلة فإنه لا يحمل الخَبَث" (¬4) فإن ذلك لا يضر إذ التخيير (أ) بين قلتين أو ثلاث أثبت أن ما دون القلتين فهو قليل، والقلتين أو الثلاث كثير، وأما حديث: "قلة واحدة" فلم يصح، وقيل: موضوع. وأما المعارضة بحديث أبي سعيد، وحديث ابن عباس فالجمع ممكن بأنهما عَامَّان بالنظر إلى القَدر، وهذا خاص، والعمل بالخاص فيما تناوله، وبالعام فيما بقى، فمفهوم العدد يقضي بأن ما دون القلتيْن (ب) يحمل الخَبَث أو ينجس، ¬

_ (أ) في هـ: إذا المتخيير. (ب) في هـ: (مخصوص هنا) زائد بعد قوله "القلتين"، وكأن المصحح أو الناسخ أشار إلى أنها زائدة.

فيخصِّص عموم قوله: "إن الماء طهور لا ينجسه شيء"، بأنه إذا لم يكن دون قلتين (أ)، وحديث القلتين أيضًا بحديث الاستثناء، فأمكن الجمع بين الأخبار من دون تعارض، فكان العمل به أرجح. وقالت الحنفية (¬1): الكثير ما إذا حرك جانبه لم يتحرك الآخر .. قال بعضهم: باليدَيْن، وبعضهم: بالاغتسال (¬2). وفي "مجمع البحرين ": ويقدر (ب) بعشرة أذرع طولًا ومثلها عرضًا وعُمقًا بما لا ينجس (جـ) بالعرف (¬3) [واستدلوا على ذلك بقوله (د): "لا يبولن أحدُكُم في الماء الدائم الذي لا يجري ثم يغتسل منه" (هـ)، وفي رواية: "لا يغتسل أحدكم في الماء الدائم، وهو جنب" متفقٌ عليه (¬4) فإن الصيغة صيغة عموم، فظاهر الحديث أنَّ الماء إذا وقعت فيه النجاسة صار نجسا، إلا أنهم خصصوا هذا الحديث بالماء المستبحر لقيام الإِجماع أنَّ النجاسة لا تؤثر فيه، وما ذكر لاحق بالمستبحر فكان (و) حدًّا للكثير الذي لا تغيره النجاسة] (ز). ¬

_ (أ) في هـ: القلتين. (ب) في ب: فيقدر. (جـ) في هـ: مما لا ينحسر. (د) زاد في ب: - صلى الله عليه وسلم -. (هـ) في هـ: فيه، وزاد بعدها في ب: وفي رواية منه. (و) في هـ: وكان. (ز) بهامش الأصل.

واعتذر الطحاويّ لم مِنْ الحنفية عن العمل بحديث القلتين -مع اعترافه بصحته (¬1) - بأنَّ القلة في العُرْف تطلق على الكبيرة والصغيرة كالجرة، ولم يثبت في الحديث تقديرهما (¬2)، فيكون مُجْمَلا. وقواه ابن دقيق العيد، [واعتذر عن (أ) حديث بئر بضاعة (¬3) بما رواه (ب) عن (أ) الواقِدِي (¬4): أنها كانت سبخًا تجرى ثم أطال في ذلك، وقد خالفه البَلَاذُرِيّ في "تاريخه" فقال: عن إبراهيم بن عباد عن الواقدي قال: "تكون بئر بضاعة سبعا في سبع، وعيونها كثيرة، وهي لا تنزح". ورد عليه بأنَّا لا نسلم الإجْمَال بل الظاهر أنه أراد القُلَّة] (جـ) [الكبيرة] (د) إذ لو أراد الصغيرة لم يذكر العدد واكتفى عنه بجَرَّة كبيرة بمقدار صغيرتَيْن، ويرجع إلى العُرف في معرفة الكبيرة عند أهل الحجاز إذ الظاهر أنَّ الشارع إنما خاطب الصحابة بما يفهمون وترك التحديد تَوْسِعةً. ¬

_ (أ) في هـ (عن) ساقطة. (ب) في هـ: لما. (جـ) بهامش الأصل. (د) ساقطة من الأصل، ومثبتة في النسخ الأخرى، والمعنى يتطلبها.

وقد ورد أيضًا من حديث ابن عمر: "إذا بلغ الماءُ قلتين من قلال هجر" (¬1)، وفي إسناده المغيرة بن صقلاب (¬2) وهو منكر الحديث. ويؤيده من جهة النظر صحة التقدير بقِلَال "هَجَر" (¬3) أنه أكثر استعمال العرب لها في أسفارهم وورد أيضًا في حديث المعراج (¬4) التشبيه بها فدل على أنها مشهورة متبادرة عند الإطلاق. وورد الاعتذار الثاني بالمعارضة بما رواه أبو داود أنها (أ) غير جارية، وأن قدرها عرضا ستة أذرع، وماؤها متغير، وبما ذكره البَلَاذُرِيّ، وهذا الذي مر من الخلاف في الماء الراكد. وأما الجاري فالإِمام يحيى (¬5) وغيره: هو كالراكد في التنجيس، إذ لم تفصل أدلة تنجيس القليل، وقال المنصور بالله وأحد قولَي الشافعي (¬6): الجري كالكثرة لنفوذه عن النجاسة وعدم استقراره، فلا يتلوث بها بخلاف الراكد، ولاستنجاء السلف في الأنهار القليلة، والراكد الفائض كالجاري على الأصح، ويحتج على طهارته بروايةٍ في صحيح مسلم: "لا يبولن أحدكم في الماء الدائم الذي لا يجري ثم يغتسل منه" (¬7)، فإن مفهوم الصفة يقضي بأن الراكد الجاري غير داخل في النهي، وما ذاك إلا لعدم تنجيسه. ¬

_ (أ) في هـ: وأنها.

• فائدة ذكرها بعض الأفاضل (¬1) في قوله في حديث بئر بضاعة: "وهي بئر يطرح فيها (أ) الحيض ولحوم الكلاب والنتن" وهي قد يظنُّ بعض الناس إذا سمع هذا الحديث أن هذا كان منهم عادة وأنهم كانوا يأتون هذا الفعل قصدًا وتعمدًا، وهذا ما لا يجوز أن يظن بذمي بل وَثَنِيّ فضلًا عن مسلم، فكيف يُظَن بأهل ذلك الزمان الذين هم في أعلى طبقات التحرز من (ب) المآثم والبعد عن الشبه والمظالم، والماء ببلادهم أعز، والحاجة إليه أمس، وقد لعن رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: مَنْ تَغَوَّطَ في موارد الماء ومشارعه (¬2) فكيف بمن اتخذ عيون الماء ومنابعه رصدًا للأنجاس ومطرحا للأقذار، وإنما كان ذلك من أجل أن هذه البئر موضعها في حدود من الأرض، وكان السيول كانت تكسح هذه الأقذار من الطرق والأفنية وتحملها وتلقيها فيها وكان الماء لكثرته لا يؤثر فيه وقوع هذه الأشياء ولا يغيّره فسألوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن شأنها ليعلموا حكمها في الطهارة والنجاسة فكان (جـ) من جوابه لهم أن الماء ... الحديث. انتهى. ¬

_ (أ) ساقطة من هـ. (ب) في هـ: عن. (جـ) في هـ، جـ: وكان.

3 - وعن أبي أمَامَةَ البَاهِلِيّ قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ المَاءَ لَا يُنجِّسُه شيءٌ، إلا ما غَلَبَ على رِيحه وطَعمِهِ ولَوْنه". أخرجه ابن ماجه (¬1)، وضعفه أبو حاتم (¬2). وللبيهقي: "الماء طَهُورٌ، إلا إنْ تَغيَّر رِيحُه أو طعمُه أو لونه بنجاسة تحْدُث فيه" (¬3). أبو أمَامَة: هو صُدَيّ -بضم الصاد المهملة وفتح الدال وتشديد الياء، وقد جاء في رواية: الصديّ بالتعريف- ابن عَجْلَان، البَاهِلِيّ. واختلف في نَسَبِهِ وآبائه مع الاتفاق على كنيته واسمه واسم أبيه وأنه باهِلِيّ، سكن مصر، ثم انتقل إلى حِمص، ومات بها. وهو من المكثرين في الرواية، وأكثر حديثه في الشاميين (أ). روى عنه سُلَيم بن عامر (ب) -بضم السين- ومحمد بن زياد، وخالد بن مَعْدَان، وسليمان بن حبيب المحاربيّ. مات سنة ست وثمانين، وقيل سنة إحدى وثمانين، وله إحدى وتسعون سنة. وهو آخر من مات من الصحابة بالشام (¬4)، وقيل: إن آخر من مات منهم بالشام عبد الله بن بُسْر (¬5) (¬6). ¬

_ (أ) زاد في هـ، جـ: و. (ب) في النسخ: عمير، وفي جـ: عميرة، والمثبت هو الصحيح. انظر: الخلاصة 150، الاستيعاب 5/ 170.

* الحديث أخرجه ابِن ماجه والطبراني من حديث أبي أمَامَة، وأخرجه الدارقطني (¬1) من حديث ثوبان، وهؤ مُضَعَّف برشدين بن سعد المصرى، وهو متروك. قال ابن يونس: "كان رجلا صالحا أدركته غفلة الصالحين، فخلط قوله الحديث". وقال أبو زُرعة (¬2): "كان رجلا صالحا سيئ الحفظ". قال الدارقطني: "ولا يَثْبُت هذا الحديث". وقال الشافعي: "ما قلتُ من أنه إذا تغير طعم الماء أو ريحه أو لونه كان نجسا يُرْوَى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من وجهٍ لا يُثْبِتُ أهلُ الحديث مثله، وهو قول العامة لا أعلم بينهم خلافًا" (¬3). و (أ) قال النوويّ: اتفق المحدثون على تضعيفه (¬4). وقال ابن المنذر: أجمع العلماء على أن الماء القليل والكثير إذا وقعت فيه نجاسة فغيرت له طعما أو لونا أو ريحا فهو نجس (¬5). فالشافعي رجع إلى العمل بالإِجماع دون الحديث (¬6)، ولكنه رواه البيهقي (¬7) موصولا من طريق عطية بن بقية عن أبيه عن ثور عن راشد بن سعد عن أبي أمامة. ورواه الطحاويّ والدارقطني (¬8) من طريق راشد بن سعد مرسلًا بلفظ: "إن الماءَ لا يُنجسه شيءٌ إلا ما غلب على ريحه أو طعمه"، وزاد الطحاوي: "أو لونه". ¬

_ (أ) في هـ، جـ: "الواو" ساقطة، وفي هـ: النواوي.

وصحح أبو حاتم (¬1) إرساله. وليس هذا الاستثناء الذي هو موضع الحُجَّة في حديث "بئر بُضاعةكما تَوَهمه الرافعي (¬2) والغزالي، وليس هو أيضًا في سنن أبي داود كما توهمه ابن الرفعة فنسبه إليها. * الحديث يَدُلُّ على أنه لا ينجس من الماء إلا المتغير، وهو عامٌّ لما عدا المتغير سواء كان قليلا أو كثيرا، راكدا أو جاريا، ولكن ذلك مخصَّص بحديث القلتين، وحديث الاستيقاظ الآتي. فيخص من ذلك العموم القليل، وكل من العلماء على أصله في تحديد القليل، ويبقى الكثير على ظاهر الحديث. والكلام قد مضى لما تحقيق (أ) القليل والكثير اختلاف العلماء في الماء فلا نعيده. 4 - وعن ابن عمر (ب) رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذَا كَانَ الماءُ قُلتَيْن لم يحمل الخبَث". وفي لفظٍ آخر: "لم ينجس". أخرجه الأربعة، وصححه ابن خزيمة، وابن حبان، والحاكم (جـ) (¬3). * عبد الله بن عمر: هو أبو عبد الرحمن عبد الله بن عمر بن الخطاب، القرشيّ، العدوي، أسلم مع أبيه بمكة وهو صغير، وقيل: إنه أسلم قبل أبيه ¬

_ (أ) في جـ: تحديد. وكذا في هـ وصربت تحقيق. (ب) في هـ: عبد الله بن عمر. (جـ) في جـ, ب ساقطة.

ولم يصح، ولم يشهد بدرا، واختلفوا في شهوده أحدا، والصحيح أنَّ أول مشاهده الخندق، وقيل: إنه استُصغر يوم بدر، وأجازه النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم أحد. ورُويَ عن نافع أنه رده يوم أُحُد لأنه كان له أربع عشرة سنة، وشَهِد ما بعد الخندق من المشاهد. ولُد قبل الوحي بسنة، ومات بمكة سنة ثلاث وسبعين بعد قَتْل ابن الزبير بثلاثة أشهر، وقيل: بستة أشهر، ودُفِن بذي طُوى (¬1) بمقبرة المهاجرين -وقيل: دفن بفَخّ (¬2) - وله أربع وثمانون سنة، وقيل: ست وثمانون سنة. روى عنه خلقٌ كثير منهم ابناه سالم وحمزة، ونافع مولاه، والقاسم بن محمد، وعروة بن الزبير، وخلقٌ سواهم (¬3). * والكلام على الحديث بالنظر إلى طريقه وإلى متنه قد مر ما فيه كفاية. ولفظ الحاكم: "إذا كان الماء قلتَيْن لم يُنجسه شيء (¬4) أصرح في المقصود من حديث أبي داود (¬5) "لم يَحْمِل الخبث" لاحتمال قوله: لا يحمل الخَبَث" أنه لا يحتمل وقوع الخبث فينجسه وإن كان يفيد أنه لا يتنجس (أ) ما زاد على القلتين وإن قَلَّ لمفهوم (ب) العَدَد، ولكن رواية الحاكم مُفَسِّرة للمراد، صريحة في موضع الاحتجاج. ¬

_ (أ) في جـ: ينجس. (ب) في ب، جـ: بمفهوم.

و " الخبث" -بفتحتين- النَّجَس، ومنه الحديث: "نهى عن كل دواء خبيث كالخمر" (¬1). وخَبَثُه من جهتين أحدهما النجاسة والأخرى الحرام، والخبيثُ قد يُطلق على الحرام كقوله: "مَهْر البَغِيّ خبيث " (¬2)، وقد يُطلق على المكروه كقوله: "كَسْب الحَجَّام خبيث" (¬3)، وعلى كريه الطعم (¬4) والرائحة كقوله: "مَنْ أكلَ من الشجرة الخبيثة ... "، وعلى الثقيل كقوله: "فأصبح يوما وهو خبيث النفس" (¬5) أي ثقيلها، ومنه الحديث: "لا يقولن أحدكم خبثت نفسي" (¬6) أي: ثقلت، وقد يُطلق على غير ذلك- ذكره في النهاية (¬7). 5 - وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لَا يَغتَسِلْ أحدُكم في الماء الدائم وهو جُنُب". أخرجه مسلم (¬8). وللبخاري: "لا يبولَن أحدُكم في الماء الدائم الذي لا يجري ثم يغتسل فيه" (¬9). ولمسلم: " ... منه " (¬10). ولأبي داود: "ولا يغتسل فيه من الجنابة" (¬11). * [وفي رواية الأصيلي (¬12) عن الأعرج: "لا يَبُولن في الماء الدائم"، و (أ) كذا ¬

_ (أ) في ب: بدون واو.

رواه شعيب، ووافقه ابن عيينة فيما رواه الشافعي [عنه] (أ) عن أبي الزناد، وكذا أخرجه الإِسماعيلي، ورواه أكثر أصحاب ابن عيينة عنه عن أبي الزناد عن موسى بن أبي عثمان عن أبيه عن أبي هريرة. ومن هذا الوجه أخرجه النَّسائيُّ، وكذا (ب) أخرجه أحمد (¬1) من طريق الثوْرِيّ عن أبي الزِّنَاد، والطَّحَاوِيّ (¬2) من طريق عبد الرحمن بن أبي الزِّنَاد عن أبيه (جـ)، والطريقان معا صحيحان، ولأبي الزناد فيه شيخان، ولفظهما في سياق البخاري مختلف] (د). * "الماء الدائم": هو الراكد، [أي: الساكن، يُقال: دوم الطائر تدويما (¬3) إذا صف جناحه في الهواء فلم يحركهما] (5). وقوله: "الذي لا يجري" تفسير للدائم وإيضاح لمعناه، ويحتمل أنه احترز به عن راكدٍ لا يجري بعضُه كالبِرَك ونحوها، وأما الذي يجرى بعضُه فإنَّ حكمه حكم الجارى على الصحيح، وقد تقدم. ¬

_ (أ) ليست في النسخ، وأثبتناها من مسند الشافعي. (ب) في ب: وكذلك. (جـ) في هـ: عبد الرحمن بن أبي الزناد عن أبي الزناد عن أبيه. (د، هـ) بهامش الأصل، وفي هـ: جناحه، فصوبت: (جناحيه).

وفي إعراب قوله: "ثم يغتسل" مرفوعًا، كما رُوي الحديث على أنه خبر مبتدأ محذوف (أ) أي: ثم أنت تغتسل، وكذلك على رواية "ويغتسل" إلا أنه جملة حالية على الأخير. قال في "البدر" (¬1): وهي الرواية الصحيحة. وروى النووي عن شيخه ابن مالك أنه يجوز أيضًا جزمه عطفا على موضع: "يبولن"، ونصبه بإضمار "أن" وإعطاء "ثم" حكم الواو، إلا أن وجه النصب يقضي بأنَّ المنهي عنه إنما هو الجَمع بينهما دون إفراد أحدهما، ولم يَقُلْ به أحد، بل البول منهيّ عنه سواء أراد الاغتسال منه (ب) فيه ومنه (¬2) والله أعلم. [وفيه: نظر إذ يجوز (جـ) أنْ يُسْتَفَادَ (د) النهي عن الجمع من هذا اللفظ (¬3)، والنهي عن الإفراد من حديث آخر كرواية مسلم أنه نهى عن البَوْل في (هـ) الماء الراكد ونهى عن الاغتسال في الماء الدائم وهو (¬4) جُنُب (هـ)] (و). ¬

_ (أ) في هـ: محذوف تقديره. (ب) ساقطة من هـ، جـ. (جـ) في جـ: (و). (د) في ب: يستفاد من. (هـ) في جـ: ساقطة. (و) بهامش الأصل.

وهذا النهي في الماء الكثير للكراهة، وفي الماء القليل للتحريم، وأما حكم الماء الراكد وتنجيسه بالبَوْل أو منعه من التطهير بالاغتسال فيه (أ) للجنابة ففيه التفصيل، وهو أنه إن (ب) كان كثيرا ولم تتغير أوصافه بالبول وكل على أصله في الكثرة فهو طاهر، وهو مخصص لهذا العموم، وإنْ كان قليلا كذلك فهو باقٍ على حكم النهي ومزال عنه الطهارة والتطهير، وللعلماء تفصيلٌ في البول في الماء وهو: إِنْ كان الماء كثيرًا جاريا لم يحرم البول لمفهوم الحديث، ولكن الأوْلى اجتنابه، وإن كان قليلا جاريا فقد قال جماعةٌ من الشافعية يكره، والأوْلى التحريم إذا كان ينجسه أو يقذره -وهو الأظهر من مذهب الشافعي (¬1) - لأن فيه إفسادا للانتفاع (جـ) به وتغريرًا للغير باستعماله. وإنْ كان كثيرا راكدا فقال جماعةٌ من الشافعية، وبه صَرّح الإِمام المهدي في "الغيث" أنه يكره، إلا أنّ الإِمام قال بالكراهة إذا كان قاصِدا لا إذا عرض، وهو فيها فلا كراهة، ولو قيل بالتحريم لكان أظهر وأوفق لِظَاهر النهي إذ فيه تقْدير للماء وإفساد له على غيره ومضاره للمسلمين، وقد شاع لَعْن من فعل ذلك و (د) ما ذلك (د) إلا لتحريم الفعل. وأما الراكد القليل فقال جماعة من الشافعية بالكراهة للبول فيه والصحيح التحريم للحديث، ولأنه ينجسه ويتلفه على غيره ويقذره. ويلحق بالبول ما في معناه كالتغوط وسائر المستقذرات، إذ المعنى معقول وهو الاستقذار فيحمل على البول ما شاركه فيه جزما (¬2)، وأحمد بن حنبل خص ¬

_ (أ) في جـ، هـ: منه. (ب) في ب: إذا. (جـ) في ب: إفساد الانتفاع. (د) الواو مثبتة من هـ فقط، و (ذلك) في جـ فقط.

الحكم بالبول عملا بظاهر اللفظ فينجس الماء بالبول وإن كان كثيرًا (¬1)، بخلاف ما عداه من النجاسات، والقياس دليلٌ عليه، وداود الظاهريّ (¬2) خص الحكم بالبول بشرط أنْ يكون فيه لا إذا كان في إناء ثم صبه فيه أو بال بِقُرْب الماء حتى وصل إليه، وهو جمودٌ منه على ظاهر العبارة، ووقوفٌ على صريح الدلالة، وهو (أ) مخالف لإجماع العلماء. وأما الاغتسال وهو جنب في الماء الدائم فقال جماعة من العلماء: إنه يكره الاغتسال في الماء الراكد قليلا كان أو كثيرًا، وكذا يُكره الاغتسال في العَيْن الجارية: قال الشافعي -رحمه الله- في البُويطي: "أكره للرجل أن يغتسل في البئر مَعِيْنَة كانت أو دائمة، وفي الماء الراكد الذي لا يجري، قال الشافعي: وسواء قليل الراكد وكثيره (ب) أكره الاغتسال فيه". هذا نصه، وهو محمولٌ على كراهة التنزيه لا التحريم. وأما حكم الماء وإزالته للجنابة فإنْ كل الماء كثيرا (¬3) (ب) فهو باقٍ على التطهير، وهذا الحديث مخصوص (جـ) بالكثير مخرج عنه حكمه، وإن كان قليلا وانغمس (د) فيه فإنه يجزئه الاغتسال لأن البَدَن كالعضو الواحد في الغُسل (¬4)، ¬

_ (أ) في هـ: وهذا. (ب) بالهامش في هـ. (جـ) في جـ: هو مخصص. (د) في ب: فانغمس.

ويدل عليه فِعل النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وعصره لشعره، وغسله بما انفصل عنه اللمعة التي نسي غسلها (¬1)، ولا يجزئ غيره لأنه قد صار مستعمَلًا طاهرًا غير (أ) مطهر، فعلى هذا لو انغمس فيه اثنان دفعة واحدة من دون تخلل زمان بين استعمالَيْهما (ب) أجزأهما جميعا (¬2). وحكم الوضوء في الماء الراكد حكم الغُسل، وقد ورد مصرحا به في رواية: "لا يبولن أحدكم في الماء الدائم ثم يتوضأ فيه" (¬3) (جـ)، والغُسل والوضوء مستويان في العلة -وهو قصد التقرب إلى الله سبحانه- فلا يكون بالمستقذَرَات. واستدَلَّ بعضُ الحنفية (¬4) على تنجيس الماء المستعمل لأن البول ينجس الماء، فكذلك الاغتسال، وقد نُهي عنهما معا، وهو للتحريم فيدل على النجاسة فيهما، ورد بأنها (د) دلالة اقتران (هـ) (¬5)، وعلى تقدير تسليمها فلا يلزم التسوية، فيكون النهي (و) عن البول لئلا ينجسه، وعن الاغتسال فيه لئلا يسلبه الطهورية. ¬

_ (أ) ساقطة من جـ. (ب) في ب، جـ: استعمالهما. (جـ) ساقطة في جـ. (د)، في هـ: بأنهما. (هـ) في هـ: وهي ضعيفة وكذا، ى. (و) في هـ: للنهي.

ويزيد ذلك وضوحا قوله -في رواية مسلم-: "كيف يفعل يا أبا هريرة؟ قال: يتناوله تناولا" (¬1)، فدل على أنَّ المَنْعَ من الانغماس فيه لئلا يصير مستعملا فيمتنع على الغير الانتفاع به والصحابي أعلم بورود الخِطَاب من غيره، وهذا من أقوى الأدلة على أنَّ المستعمَل غير طهور. 6 - وعن رجل صحب النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن تغتسل المرأةُ بفَضل الرجل، أو الرجل بفضل المرأة، وليعترفا جميعا". أخرجه أبو داود والنسائي، وإسناده صحيح (¬2). * الحديث من رواية داود بن عبد الله عن حُمَيد الحِمْيَرِي، قال: لقيتُ رجلا صحب النبي - صلى الله عليه وسلم - أربع سنين، كما صحب أبو هريرة قال: "نهى .. " الحديث، هذا لفظ أبي داود. قال (ب) الحافظ في "الفتح" (¬3): رجاله ثقات، ولم أقف لمن أعله على حجة قوية (جـ) ودعوى البيهقي (¬4) أنه في معنى المرسل مردودة لأن إيهام الصحابي لا يضر، وقد صرح التابعي بأنه لقيه، ودعوى ابن حزم أن داود راويه عن حميد ¬

_ (أ) في هـ، ب: وقال. (ب) سقطت من جـ.

ابن عبد الرحمن هو ابن يزيد الأودي (أ) -وهو ضعيف- مردودة، فإنه ابن عبد الله الأودي (¬1)، وهو ثقة، وقد صرح باسم أبيه أبو داود وغيره، ولعل ما ذكره ابن حزم هو الذي أوهم الإمام المهدي - عليه السلام - حيث قال في "البحر" بعد ذِكْر الحديث: "إذ راويه ضعيف، وأسنده إلى مجهول" (¬2). والحديث له شاهد من حديث الحكم بن عمرو الغفاري -وهو الأقرع- أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى أَنْ يتوضأ الرجلُ بِفَضْلِ طهور (ب) المرأة. أخرجه أبو داود (¬3). قال أبو داود: الذي تفرد به البصريون من هذا الحديث قوله: "نهى أن يغتسلَ الرجلُ بِفَضْل المرأة"، وحديث الحكم أخرجه أصحاب السنن وحَسَّنه الترمذي، وصححه ابن حبان (¬4)، وأغرب النووي فقال: اتفق الحفاظ على تضعيفه (¬5). والحديث يدل على أنه لا يُتطهر بفَضْل طَهُور المرأة، وهو معارَض بما سيأتي، ووجه الجمع يُذْكَر إنْ شاء الله تعالى (¬6). ¬

_ (أ) في ب: الأزدي. (ب) سقطت من جـ، وفي هـ: وطهور.

7 - وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يغتسل بفَضلِ مَيْمُون". أخرجه مسلم (¬1). ولأصحاب السنن: "اغتسل بعضُ أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - في جَفْنَة، فجاء ليغتسل مها فقالت له: إني كنتُ جُنبا، فقال: "إنَّ الماءَ لَا يُجْنِب". وصححه الترمذي وابن خزيمة (¬2). * [عبد الله بن العباس بن عبد المطلب، ابن عم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأمه لُبَابَة -بضم اللام وتخفيف الباء- بنت الحارت أخت ميمونة زوج النبيِّ- صلى الله عليه وسلم -، ولد قبل الهجرة بثلاث سنين، وتوفي النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - وله ثلاث عشرة سنة -وقيل: خمس عشرة، وقيل: عشر- وذلك قبل خروج بنى هاشم من الشِّعْب، وقيل ولد قبل الهجرة بسنتين. كان حَبر هذه الأمة وعالمها، دعا له النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بالحِكْمة والفقه والتأويل (¬3)، ورأى جبريل مرتَيْن، وكُفَّ بَصَرُه في آخر عمره، وغزا إفريقية مع عبد الله بن أبي سَرْح (¬4) في سنة سبع وعشرين. مات في الطائف سنة ثمان وستين في آخر أيام ابن الزبير وهو ابن سبعين سنة -أو إحدى وسبعين-، وصلى عليه محمد بن الحنفية، وكان أبيض، طويلًا، مشربا صُفرة، جسيما، ¬

_ (¬1) صحيح مسلم (بلفظ: أن رسول الله ...) كتاب الحيض، باب القدر المستحب من الماء في غسل الجنابة أحد 1/ 257 ح 48 - 323. (¬2) الترمذي (بمعناه) أبواب الطهارة، كتاب ما جاء في الرخصة في ذلك 1/ 94 ح 65، وقال أبو عيسى: حديث حسن صحيح. وابن خزيمة (بمعناه) كتاب الوضوء، باب إباحة الوضوء بفضل غسل المرأة من الجنابة 1/ 57. وأبو داود (بمعناه) كتاب الطهارة، ياب الماء لايجنب 1/ 55 ح 68. وابن ماجه كتاب الطهارة وسننها، باب الرخصة بفضل وضوء المرأة 1/ 132 ح 370. والدارقطني، كتاب الطهارة، باب استعمال الرجل فضل وضوء المرأة 1/ 52، وقال: (اختلف في هذا الحديث على سِمَاك ولم يقل فيه عن ميمونة غير شريك): (¬3) وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: ضمني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال: "اللهم علمه الكتاب". البخاري مع الفتح 1/ 169 ح 75. (¬4) سير أعلام النبلاء 3/ 331.

وسيما، صبيح الوجه، له وَفْرة، يخضب بالحِنَّاء، قَدِم مصر] (أ) (¬1). * حديث مسلم أعلَّهُ قومٌ لترددٍ وقع من رواية عَمرو بن دينار حيث قال (¬2): " عِلمي والذي يخطر على بَالِي أنَّ أبا الشعثاء أخبرني ... " فذكر الحديث. وقد وَرَدَ من طريق أخرى بلا تردد، لكن راويها غير ضابط، وقد خُولِف، والمحفوظ ما أخرجه الشيخان بلفظ: "أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - وميمونة كانا يغتسلان من إناء واحد" (¬3). وأخرج أصحابُ السنن، والدارقطني (ب، وصححه الترمذي، وابن خزيمة، وغيرهما من حديث ابن عباس عن ميمونة قالت: "أجنبتُ (جـ) ب) فاغتسلتُ من جفنة، ففضلت فيها فَضلة فجاء النبي - صلى الله عليه وسلم - يغتسل منه، فقلت له، فقال: "الماء ليس عليه جنابة"، واغتسل منه". لفظ الدارقطني (¬4). ولفظ أبي داود: "بعض أزواج النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -"، وقال: "إن الماء لا يجنب" (¬5)، وقد أعله قومٌ بسِمَاك بن حَرب (¬6) راويه عن عكرمة، لأنه كان يقبل التلقين، لكن رواه (عنه) (د) شعبة (¬7)، وهو لا يحمل عن مشايخه إلا صحيح حديثهم (¬8). ¬

_ (أ) بهامش الأصل. (ب) بهامش هـ. (جـ) في ب، جـ: اجتنبت. (د) هكذا في هـ، وباقي النسخ "عن".

وأخرج أبو داود من حديث عائشة قالت: "كنتُ أغتسلُ أنا ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - مِنْ إناءٍ واحد ونحن جُنُبان " (¬1). ومن حديث أم صبَيَّة (¬2) الجهنية (أ) قالت: "اختلفت يدي ويد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الوضوء من إناءٍ واحد"، ومن حديث مالك عن نافع عن ابن عمر قال: "كان الرجال والنساء يتوضأون في زمان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬3) - قال مُسَدَّد: من الإِناء الواحد جميعا"، ومن حديث نافع عن عبد الله بن عمر قال: "كنا نتوضأ نحن والنساء ونغتسل من إناء واحد على عهدِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -" (¬4). فحديث ميمونة وحديث بعض الأزواج معارِضَان لحديث (ب) النهي المتقدم (¬5) إذ دلالتهما صحيحة صريحة على جواز التطهر (جـ) بفَضْل المرأة. * وفي قوله: "إن الماء لا يجنب" [هو من أجنب ويقال (د): أجنب الرجل يجنب، ولا يقال: أجنبت] (هـ). ¬

_ (أ) هـ: الجهينية. (ب) في هـ، جـ: متعارضان بحديث. (جـ) في هـ، جـ: التطهير. (د) الواو: ساقطة من ب، وجـ، وهـ. (هـ) بهامش الأصل، وهـ.

فيه إيماءٌ إلى جواز العَكس وهو تطهر المرأة بفضل الرجل، وفي ذلك خلاف، فنقل الطحاوي والقرطبي (¬1) والنووي (¬2) (الاتفاق على جواز اغتسال الرجل والمرأة من الإِناءِ الواحد، وفيه نظر لما حكاه ابن المنذر عن أبي هريرة (أ) - رضي الله عنه - أنه كان ينهى عنه، وكذا حكاه ابن عبد البر (¬3) عن قوم، وهذا الحديث حجة عليهم، ونقل النووي (¬4) أيضًا الاتفاق على جَوَاز وُضُوء المرأة بفَضل الرجل دون العكس، وفيه نظر أيضًا (¬5)، ثبت الخلاف فيه الطحاوي؛ وثبت عن ابن عمر والشَّعْبي والأوزاعي المنع، لكن مقيدا بما إذا كانت حائضا (¬6). وأما عكسه فصحَّ عن عبد الله بن سرجس (ب) الصحابي وسعيد بن المسيب والحَسَن البصري (¬7) أنهم منعوا التطهر بفضل المرأة، وبه قال أحمد وإسحاق (¬8)، لكن قيداه بما دخلت فيه لأن أحاديث الباب ظاهرة في الجواز. ونقل الميموني عن أحمد أن الأحاديث واردة في منع التطهر بفَضْل المرأة وفي جواز ذلك مضطربة، قال: لكن صح عن (جـ) عِدة من الصحابة المنع فيما إذا دخلت فيه، وعُورض بصحة الجواز عن عِدة من الصحابة منهم ابن عباس، والله أعلم. ¬

_ (أ) بهامش هـ. (ب) في النسخ حصن عدا هـ ففيها: حصين، وفي الفتح 1/ 300، والمغني 1/ 214، 215، وشرح مسلم 1/ 617 سرجس. (جـ) في هـ: "عند".

وطريق الجمع بين الأحاديث هو أن تُحمل أحاديث النهي على ما تساقط من الأعضاء لكونه قد صار مستعملا، والجواز على ما بقي من الماء، وبذلك جَمَعَ الخَطَّابي (¬1)، وأحسن منه أن يُحْمَل النهي على التنزيه بقرينة أحاديث الجواز جَمْعًا بين الأدلة (¬2)، والله سبحانه أعلم. * فائدة: في حديث توضئ الرجال والنساء من إناءٍ واحد ظاهره أنهم كانوا يتناولون الماء في حالة واحدة، فقيل: معناه أنَّ الرجال والنساء كانوا يتوضأون جميعا في موضع واحد (أ) هؤلاء على حدة وهؤلاء على حدة. وحديث: "من إناءٍ واحد" يدفعه. وحكي عن سحنون (¬3) -من المالكية- أن معناه كان الرجال (ب) يتوضأون ويذهبون ثم يأتي النساء فيتوضأن، وهو خلاف الظاهر من حديث البخاري (¬4) عن ابن عمر أنه قال: "كان الرجال والنساء يتوضأون في زمان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جميعا"، ومن حديث السنن في زيادة مسدد فإن "جميعا" يقتضي الاجتماع. قال أهل اللغة: الجمع ضد التفرق (¬5)، ووحدة الإناء أيضًا مصرَّحا به (جـ) في صحيح ابن خزيمة عن ابن عمر أنه أبصر النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه يتطهرون والنساء معهم من إناءٍ واحدٍ كلهم يتطهر (د) منه (¬6). ¬

_ (أ) في هـ: واحدة. (ب) في هـ: أن الرجال كانوا. (جـ) في هـ: مصرحة، وجـ: مصرح. (د) في هـ: يتطهرن.

والأوْلى أن يُقَالَ: إن الاجتماع كان قبل نزول الحِجَاب، وأما بعده فيختص بالزوجات والمحارِم (¬1)، والله أعلم. 8 - وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "طَهُور إناء أحدكم إذا وَلَغَ فيه الكلبُ أنْ يغسله سبْعَ مرْات أولاهُنَّ بالتراب". أخرجه مسلم، وفي لفظٍ له: "فَلْيُرِقه". وللترمذي: "أُخراهن، أو أولاهُن بالتراب" (¬2). * الأمر بالإِراقة رواها مسلم من طريق الأعمش. قال النسائي (¬3): لم يَذْكُر "فليرقه" غير علي بن مسهر، وكذا قال ابن منده: [قال الحافظ (¬4) -رحمه الله-: قلتُ: (أ) قد ورد بالإراقة -أيضًا- من طريق عطاء عن أبي هريرة مرفوعًا، أخرجه ابن عَدِي (¬5) لكن في رَفعهِ نَظرَ، والصحيح أنه موقوف] (ب)، والدارقطني [أخرجه من طريق حماد بن زيد عن أيوب عن ابن سيرين عن أبي هريرة موقوفًا، وإسناده صحيح] (جـ) وقال: "رواته كلهم ثقات" (¬6)، ¬

_ (أ) في جـ: ثلاث. (ب) بهامش الأصل. (جـ) بهامش الأصل.

قال ابن عبد البر: لا أعلم أحدًا أفتى بأن غسلة التراب غير الغسلات السبع بالماء غير الحسن البصري، وقد أفتى بذلك أحمد بن حنبل (¬1)، ورُوي عن مالك. * ولفظ "طهور": الأشهر فيه ضم الطاء، ويقال: بفتحها لغتان. وقوله: "وَلَغَ": قال أهل اللغة: يُقال: وَلَغَ الكلبُ في الاناء يَلَغُ -بفتح اللام فيهما- وُلوغا -بضم [الواو] (أ) واللام- وَلْغًا -بفتحها وسكون اللام-، وقد حُكى في المضارع كسر اللام (ب) إذا شرب بأطراف لسانه قال أبو زيد: يُقال ولغ الكلب شرابنا وفي شرابنا ومن شرابنا (¬2). قال أبو مثنى المدني: وأكثر ما يكون الولوغ في السِّباع، وقال القاضي أبو بكر بن العربي (¬3): الولوغ للسباع والكلاب كالشرب لبني آدم. [وقال ثعلب: هو أنَّ يُدخِل لسانه في الماء وغيره من كل مائع فيحركه، زاد ابن درستويه: شرب أو لم يشرب،. وقال مكي: فإن كان غير مائع يقال: لعقه] (جـ). * والحديث فيه دلالة ظاهرة على نجاسة الكلب من حيث الأمر بالغسل والإراقة، فإنه لو كان طاهرا لما أمر بغسل الإناء ولم يؤمر بالإِراقة إذ في ذلك إتلاف مال و (د) إضاعة، وقد ثبت النهي عن ذلك فدَلَّ على النجاسة، وأصْرَح كان ذلك رواية: "طهور إناء أحمدكم" فإن الطهارة تكون مِن حَدَثٍ أو نَجس، وليس هنا حدث فتعيَّن النجس. ¬

_ (أ) بهامش الأصل. (ب) العبارة في هـ، جـ: "وإذا شرب بأطراف لسانه، وقد حكى في المضارع بكسر اللام، قال أبو زيد ... ". (جـ) بهامش الأصل. (د) في هـ: أو.

وأخرجه ابن خزيمة في "صحيحه" (¬1) ولفظه في "الصحيحَيْن" (¬2) من رواية مالك "إذا شرب"، ورُوي عنه: "إذا ولغ"، وهو لفظ أصحاب أبي الزِّنَاد -أو أكثرهم- لأنه وقع في رواية الجَوْزَقِيّ (¬3) من رواية ورقاء بن عمرو عن أبي الزناد بلفظ: "إذا شَرِبَ"، وكذا في عوالي أبي الشَّيْخ. قال البيهقي (¬4): ذِكْر التراب لم يروه ثقة عن أبي هريرة غير ابن سِيرِين، وتعقبه (¬5) الحافظ المصنف بأنَّ الدارقطني أخرجه عن أبي رافع عنه (¬6)، والبيهقي (¬7) أيضًا أخرجه عن قتادة عنه، لكن قال: "إن كان معاذ حفظه فهو حسن" فأشار إلى تعليله. ورواه الدارقطنيّ (¬8) من طريق الحسن عن أبي هريرة، لكنه لم يسمع منه على الأصح. وروى مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه من حديث مطرف بن عبد الله [عن عبد الله بن مُغَفَّل] (أ) قال في آخره: "فاغسلوه سبعا، وعفروه الثامنة بالتراب" لفظ مسلم، ولم يخرجه البخاري (¬9). ¬

_ (أ) بهامش الأصل.

فإِنْ قِيل: المراد الطهارة اللغوية، فالجواب: إِنَّ حمل اللفظ على حقيقته الشرعية مُقَدَّم على اللغوية، ويدل أيضًا على نجاسة ما ولغ فيه سواء كان شرابا أو غيره إذ قد ورد الأمر بالإِراقة في رواية صحيحة على وجه العموم، [وخص مالك في قيل له ذلك بالماء، وأن الطعام إذا ولغ فيه لا يُجتنب ولا يُراق (¬1)] (أ)، وهو ظاهر في نجاسة فيه، ومقيس عليه سائر بدنه، وذلك أنه إذا ثبت نجاسة لعابه، ولعابه جزء من فيه، إذ هو عَرَق فيه ففمه نجس، إذ العرق جزء مُتَحَلِّب من البَدَن فكذلك بقية بدنه، إذ فيه أشرف ما فيه، إلا أنه يرد عليه بأن ذلك يحتمل (ب) أن النجاسة في لعابه وفيه إنما هو (جـ) بسبب استعماله للنجاسة بحسب الأغلب، وعلق الحكم بالنظر إلى أغلب أحواله من أكله للنجاسات ومباشرته لها فلا يدل على نجاسة العَيْن، والقول بنجاسة الكلب مذهب الهادي والمؤيد بالله (د) وأبي طالب وأبي حنيفة (¬2)، والخلاف في ذلك لمالك (¬3) وداود والزهري لما رُوي عن مالك أنَّ جميع الحيوانات طاهرة مأكولة إلا أربعة معروفة، ولم يصرح بجواز أكله، [وعن مالك رواية أنه نجس، لكن الماء لا ينجس إلا بالتغير فلا (هـ) يجب التسبيع للنجاسة بل للتعبد (¬4)] (و). وخَرَّج المؤيد بالله طهارته أيضًا للقاسم، لأنه (ذكر في النيروسي (¬5) طهارة ¬

_ (أ) بهامش الأصل. (ب) في ب: محتمل. (جـ) في هـ: هي. (د) سقطت من هـ. (هـ) في ب: ولا. (و) بهامش الأصل.

سؤره، وهو على أحد قولَي القاسم أ)، وأما أبو طالب فحمل طهارة سؤره على أحدِ قولَي القاسم أنَّ الماءَ لا ينجس ما لم يتغير أحد أوصافه، وفي سؤره عند مالك (¬1) ثلاثة أقوال: طهارته، ونجاسته، وطهارة سؤر (ب) المأذون في اتخاذه دون غيره، والرابع عن عبد الملك ابن الماجشون المالكي أنه يفرق بين الحَضَرِي والبدوي فيقول بطهارة البدوي، وحمل مالك (¬2) هذا الأمر على التعبد، ورجحه بعض أصحابه بذِكْر السبع لأنه لو كان للنجاسة لاكتفى بما دون السبع إذ نجاسته لا تزيد على العذرة. ويجاب عنه بأن أصل الحكم -و (جـ) هو الأمر بالغسل- معقول المعنى ممكن التعليل، والأصل في الأحكام التعليل فيُحمل على الأعمّ الأغلب، والتعبد إنما هو في العدد فقط (¬3). والحديث دليلٌ على وجوبِ السبع الغسلات، وهو قول الشافعي، ومالك، وابن حنبل (¬4)، (د (وقال به ابن عباس، وعروة بن الزبير، ومحمد بن سيرين، وطاووس، وعمرو بن دينار، والأوزاعيّ، وإسحاق، وأبو ثور، وأبو عبيد، وداود، والطبري) د)، والخلاف في ذلك لغيرهم من أئمة (هـ) أهل البيت عليهم السلام، والحنفية (¬5) فقالوا: لا فَرْق بين الكلب وغيره من سائر النجاسات، ¬

_ (أ) ما بين القوسين مثبت بهامش هـ. (ب) في ب: سؤره. (جـ) الواو ساقطة من ب. (د) بهامش الأصل. (هـ) في هـ: من الأئمة، وجـ: وأئمة.

وحملوا حديث السَّبْع على الندب، [ورواية عن مالك (¬1) أيضًا أنَّ السبع (أ) للندب] (ب) واحتجوا على ذلك بما رواه الطحاوي والدارقطني موقوفًا على أبي هريرة أنه يغسل من ولوغه ثلاث مرات (¬2)، وهو الراوي للغسل سبعا (جـ)، وهو مناسب لأصل بعض الحنفية من وجوب العمل بتأويل الراوي وتخصيصه ونسخه، قالوا: لأنك إما أنَّ تُحسن الظن بالراوي أو لا، وعلى الأول يجب الحَمْل على ما حمله، وعلى الثاني يمتنع العمل بروايته. ولا يناسب أصول الأئمة -عليهم السلام-[مع أن الرواية عنه معارضة برواية أنه أفتى بالغسل سبعا وهي أرجح من الأولى، فإنها من رواية حماد بن زيد عن أيوب عن ابن سيرين عنه (¬3)، وهذا أصح الأسانيد (¬4)، والأولى من رواية عبد الملك بن أبي سليمان عن عطاء عنه، وهو دون الأول في القوة بكثير] (د) إلا أنه قد ورد في حديث أبي هريرة مرفوعًا: أنه قال - صلى الله عليه وسلم - في الكلب يلغ في الإناء: "يُغْسَل ثلاثا، أو خمسا أو سبعا " (¬5) فالحديث يدل على عدم تعين ¬

_ (أ) في هـ: التسبيع. (ب) بهامش الأصل. (ب) في هـ: سبع مرات. (د) بهامش الأصل.

السبع إذ لو (أ) كانت متعينة لما خير إلا أنه ضعف الحديث بأنه من رواية عبد الوهاب بن الضحاكَ (¬1) -أحد الضعفاء- عن إسماعيل بن عياش عن (¬2) هشام بن عروة ورواية إسماعيل عن الحجازِيين ضعيفة (¬3). * وفيه دلالة على وجوب التتريب، و (ب) المقصود عند الشافعي وأصحابه حصول التتريب في مرة من المرات، ولا فَرْق بين أنَّ يخلط الماءَ بالتراب حتى يتكدر، أو يطرح الماء على التراب، أو التراب على الماء، أو يأخذ الماء المتكدر من موضع فيغسل به. وأما مسح موضع النجاسة بالتراب فلا يجزئ إلا أن يمسح بالتراب ويتبعه الماء والتراب باق. ولم يوجب مالك (¬4) التراب لأنه لم يثبت في روايته وإنما هو في رواية ابن سيرين. وقد أُورد على الرواية التي فيها ذِكر التراب الاضطراب من كونها أولاهن أو ¬

_ (أ) في النسخة ب: "له" ولعله تصحيف. (ب) الواو ساقطة من هـ.

أُخراهن أو إِحداهن أو السابعة أو الثامنة والاضطراب قادح فيجب الاطراح لها، وأجيب عنه بأن الاضطراب إنما يكون قادحا مع استواء الروايات، وأما إذا رجح بعضها عُمل به واطرح ما سواه، ورواية "أولاهن" أرجح، فإنه رواها عن محمد بن سيرين ثلاثة: هشام بن حسان (¬1)، وحبيب بن الشهيد، وأيوب السَّخْتياني، وأخرجها مسلم في صحيحه من رواية هشام فيترجح بأمرين: كثرة الرواة (أ) وتخرج أحد الشيخَيْن (ب) لها، وهما من وجوه الترجيح عند التعارض (¬2). وأما رواية: "أُخراهن" -بالخاء والراء- فلا توجد منفردة مسنَدَة في شيءٍ من كتب الحديث، إِلا أن ابن عبد البر ذكر في "التمهيد" أنه رواها خِلَاس عن أبي هريرة، إِلا أنها رُويت (جـ) مضمومة مع "أولاهن" (¬3) , وأما رواية "السابعة بالتراب" فهي وإنْ كانت بمعناها فإنه تفرد بها عن محمد بن سيرين قتادةُ، وانفرد بها أبو داود (¬4)، وقد اختُلف فيها على قتادة فقال أبان عنه هكذا، وفي رواية أبي داود (¬5): وقال سعيد بن بشير عند: "الأولى بالتراب" فوافق (د) الجماعة، رواه كذلك الدارقطني في "سننه" (¬6) والبيهقي من طريقه، وهذا يقتضى ¬

_ (أ) في هـ: الرواية. (ب) جاء في هامش جـ، وب ما نصه: أما تخريج أحد الشيخين لهما فقد شاركهما فيه رواية وعفروه الثامنة بالتراب كما تقدم. اهـ. (جـ) في هـ: رواية. (د) في ب، جـ: يوافق.

ترجيح رواية "أولاهن" لموافقة الجماعة , وأما رواية "إحداهن" بالحاء المهملة والدال فليست في شيء من الكتب الستة، وإنما رواها البزار (¬1)، وهي لا تعارض إذ هو يجب حمل المُطْلَق على المقيَّد. وأما رواية: "أولاهُنَّ أو أخراهُن" فقد رواها الشافعي والبيهقي (¬2) من طريقه بإسنادٍ صحيح، وفيه بحث وذلك أن (أ) قوله: "أولاهن أو أخراهن" (ب) لا يخلو من أن يكون مجموعة من كلام النبي - صلى الله عليه وسلم -، أو هو شك من بعض الرواة، فإنْ كانت (جـ) مجموعة من كلام النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وآله -فهو دال على التخيير بينهما، وترجح (د) حينئذ ما نص عليه الشافعي من التقييد بها وذلك لأن مَن جَمَعَ بينهما معه زيادة عِلم على من اقتصر على الأولى أو السابعة لأن كلا منهم حفظ مرة فاقتصر عليها وحفظ هذا الجمع بين الأولى والأخرى، فكان أولى، وإن كان ذلك شَكًّا من بعض الرواة فالتعارض قائم ويرجع إِلى الترجيح، فترجح (هـ) "الأولى"كما تقدم. ومما يدل على أنَّ ذلك شك من بعض الرواة لا من كلام الشارع قول الترمذي في روايتين: "أولاهن، أو قال: أخراهن بالتراب" فهذا يدل على أن بعض الرواة شك فيه، فيترجح حينئذ (و) تعيين "الأولى". ولها شاهد أيضًا من رواية خلاس (¬3) عن أبي هريرة. ¬

_ (أ) في هـ، جـ: لأن. (ب) ساقطة من ب. (جـ) في هـ: كان. (د) في ب: ويرجح. (هـ) في ب: فيرجح. (و) في ب: ح، وفي الأصل هكذا: ح. وهي بمعنى حينئذ.

وقوله في رواية مسلم (¬1): "وعفروه الثامنة بالتراب" وارد على الشافعي، ومن اقتصر على السبع فإنه يدل دلالة صريحة على وجوب الثامنة. قيل: ولم يقل به إلا الحسن البصري (¬2)، وقد تقصى عنه النووي بأن المراد اغسلوه سبعا واحدة منهن بتراب مع الماء فكأن (أ) التراب قائم مقام غسلة فسميت ثامنة (¬3)، وفيه تكلف لا يخفى. [وأُجيب أيضًا بأن أبا هريرة لم يَرْوِ الثامنة وهو أحفظ مَن روح الحديث في دهره فروايته أولى: وفيه بأن حديث عبد الله بن مُغَفَّل صحيح (¬4) قال ابن منده: "مُجْمع على صحته، وهي (ب) زيادة ثقة (جـ) مقبولة"، وقد ألزم الطحاوي الشافعية بذلك (¬5)، وأيضًا فقال (د) الشافعي في حديث التتريب لم أقف على صحته (¬6)، وهذا لا ينفع أصحابه الذين وقفوا على صحته، وأيضًا يجوزُ أنْ يكون محمولا على مَنْ نسي استعمال التراب حتى فعل السبع فإنه يجب عليه الثامنة. ¬

_ (أ) في ب: وكأن، وفي شرح مسلم: كأن 1/ 575. (ب) في ب: وهو. (جـ) في جـ، في: منه. (د) في هـ: قد قال.

ويُؤيّد هذا الجواب بما في رواية أبي هريرة: "فإن لم تعفروه في إحداهن فعفروه الثامنة" وهذا جوابٌ قويٌّ، والله أعلم] (أ). وظاهر الحديث يدل على تَعَيُّن (ب) التراب ولا يقوم مقامه الإشنان والصابون، وفي قول للشافعي أنه يقوم مقامه غيره (¬1) إذ الغرض إنما هو المبالغة في الإزالة، واعترض بأن التنصيص على ذلك معنى يعقل لا يوجد في غيره، وهو الجمع بين مطهرَيْن فلا يقاس عليه غيره. * ولو ولغ كلبان أو أكثر في إناء واحد [أو كلب مرات] (جـ) فللشافعية ثلاثة أوجه (¬2) الأول: أنه (د) يكفي للجميع سبع مرات، وهو الصحيح. الثاني: يجب لكل ولغة سبع. الثالث: يكفي لولغات الكلب الواحد سبع، ويجب لكل كلب سبع. * ولو كانت نجاسة الكلب مرئية ولم تزل إلا بعد ست غسلات مثلًا فهل تجب زيادة سبع بعد ذلك؟ لأصحاب الشافعي ثلاثة أوجه: الأصح أنه يُحسَب ما زالت به العَين واحدة، وإذا أصاب الماء الذي ولغ فيه الكلب شيئًا وجب تسبيع ذلك الذي أصابه وتتريبه (¬3)، وإذا ولغ في إناءٍ فيه طعام جامد أُلقي ما أصابه وما حوله وانتفع ¬

_ (أ) بهامش الأصل. (ب) في هـ: تعيين. (جـ) ساقطة من الأصل. (د) سقطت من ب.

بالباقي كما في الفأرة تموت في السمن الجامد، (أوفي قول للشافعي (¬1) (ب) أن الخنزير كالكلب في ذلك وقول له إنه (جـ) كسائر النجسة، وهو القوي (أ)، [والمشهور عن المالكية (¬2) التفرقة بين الماء والطعام، فيُرَاق الماء ويُغسل الإِناء والطعام يؤكل ثم يغسل الإِناء تعبدا لأن في إراقة الطعام إضاعة مال، وهو محرم إجماعا] (د) فيخص حديث الإراقة (¬3). * فائدة: في حديث عبد الله بن مغفل الذي رواه مسلم قال: أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بقتل الكلاب، ثم قال: "ما بالهم وبال الكلاب"؟ ثم رخص في كلب الصيد وكلب الغنم، وقال: "و (هـ) إذا ولغ الكلب في الإِناء فاغسلوه سبعا، وعفروه الثامنة بالتراب" (¬4) فهذا نهيٌ عن اقتنائها، وقد اتفق على أنه يحرم اقتناء الكلب لغير حاجة مثل أنَّ يقتنى كلبا إعجابا بصورته وللمفاخرة، فهذا حرام بلا خلاف. وأما الحاجة التي يجوز الاقتناء لها فقد ورد في الحديث الترخيص في كلب ¬

_ (أ) قدم ما بينهما في الأصل على قوله: "وإذا أصاب الماء .. " إلخ ونبه إلى ذلك. (ب) في ب: الشافعي. (جـ) في هـ: وفي قوله إنه. (د) بهامش الأصل. (هـ) سقطت الواو من ب.

الصيد، وكلب الغنم (¬1)، وفي الرواية الأخرى: "وكلب الزرع"، وهذا جائز بلا خلاف، واختلف في الاقتناء لحراسة الدور، واقتناء الجرو ليعلم، فمنهم (أ) مَن حرمه لأنَّ الرخصة إنما وردت في الثلاثة المتقدمة، ومنهم مَن أباحه وهو الأصح لأنه في معناها. واختلف أيضًا فيمن اقتنى كلب صيد (ب) وهو لا يصيد. وأما قتل غير العقور غير المستثنى فقال إمام الحرمين أبو المعالي: إن الأمر بقتلها منسوخ. قال: وقد صح أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر بقتل الكلاب (جـ) مرة ثم صح أنه نهى عن قتلها، قال: واستقر الشرع عليه (د) على التفصيل الذي ذكرنا. قال: وأمر بقتل الأسود البهيم وكان هذا في الابتداء، وهو الآن منسوخ (¬2)، هذا كلامه (هـ). 9 - وعن أبي قتادة رضي الله عنه أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال في هرة: "إنها ليستْ بنجِس، إنما هي من الطَّوافِينَ عليكم". أخرجه الأربعة، وصححه الترمذي وابن خزيمة (¬3). ¬

_ (أ) في ب: منهم. (ب) في هـ: كلب الصيد. (جـ) في ب: بقتلها. (د) ساقطة من هـ. (هـ) في هـ كلامهم، وجملة "هذا كلامه" ساقطة من جـ.

*أبو قتادة: هو الحارث بن رِبْعي الأنصاري، وقد اختلف في اسمه، فأكثر ما ذكر، وقيل: النعمان بن عمر بن بَلْذَمَة، وقيل: عمر بن ربعي بن بلذمة، الأنصاري، السلمي. فارس رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، غلبت عليه الكُنية. "ورِبْعِيّ" بكسر الراء وسكون الباء الموحدة وكسر العين المهملة وتشديد الياء. "ويلْذَمة": بفتح الباء الموحدة وسكون اللام وفتح الذال المهملة، ويقال: بضم الباء والذال، ويقال: بضمها (أ)، وبالذال المعجمة. اختلف في شهوده (ب) بدرًا، وشهد أحدا، وما بعدها من المشاهد. روى عنه ابنه عبد الله، وأبو سعيد الخُدْرِيّ، وأبو سلمة بن عبد الرحمن. مات بالدينة سنة أربع وخمسين -وقيل: بل مات في خلافة علي بن أبي طالب بالكوفة، وكان شهد معه مشاهده كلها- وهو ابن سبعين سنة، وصلى عليه عليّ فكبر عليه (جـ) سبعا (¬1). * والحديث أخرجه مالك، والشافعي، وأحمد، وابن حبان، والحاكم، والدارقطني، والبيهقي (¬2). ¬

_ (أ) هكذا في ب، وفي باقي النسخ "بضمهما". (ب) في هـ: مشهوده. (جـ) في هـ: كرم الله وجهه في الجنة وكبر.

قال مالك: عن إسحاق بن أبي طلحة عن حميدة بنت أبي عبيدة عن خالتها كبشة بنت كعب بن مالك -وكانت تحت ابن أبي قتادة-: أنها أخبرتها أنَّ أبا قتادة دخل عليها فسكبت له وَضُوءًا، فجاءَتْ هِرة تشرب منه فأصغى لها الإِناء حتى شربت، قالت كبشة: فرآني أنظر إليه، فقال: أتعجيين يا ابنة أخي؟ قالت: قلتُ: نعم! فقال (أ) إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنها ليست بنجس، إنها من الطوافين عليكم والطوافات" (ب). ورواه الباقون من حديث مالك، ورواه الشافعي عن الثقة عن يحيى بن أبي كثير عن عبد الله بن أبي قتادة عن أبيه. ورواه أبو يعلى من طريق حسين المعلم عن إسحاق بن أبي طلحة عن أم يحيى امرأته عن خالتها -ابنة كعب بن مالك- فذكره. تابعه همام عن إسحاق بن أبي طلحة. أخرجه البيهقي. قال ابن أبي حاتم: "سألتُ أبي وأبا زرعة عنها فقالا: هي حميدة تكنى أم يحيى" (¬1). وصححه البخاري، والترمذي، والعقيلي، والدارقطني (¬2)، وساق له في "الأفراد" طريقا غير طريق إسحاق فروى من طريق الدراوردي عن أسيد (جـ) ¬

_ (أ) في هـ: وقال. (ب) في هـ: أو الطوافات. (جـ) في ب، جـ: أسد.

ابن أبي أسيد عن أبيه (أ) أن أبا قتادة -وساق الحديث. وأعَلَّه ابن منده بأن حميدة (¬1) وخالتها كبشة مجهولتان، ولم يُعْرَف لهما إلا هذا الحديث، وتعقب بأن لحميدة حديثًا آخر في تشميت، العاطس رواه أبو داود (¬2)، ولها ثالث رواه أبو نعيم في "المعرفة". وأما كبشة (¬3) فقيل إنها صحابية، فلا تضر الجهالة، والله أعلم. وقال ابنُ دقيق العيد (¬4): لعل مَن صَحَّحه (ب) اعتمد على تخرج مالك فإنه قد صح عنه أنه لا يخرج إلا عن ثقة، فإن اكتفى بهذا وإلا فالقول (جـ) ما قاله ابن منده، وروى ابن شاهين في "الناسخ والمنسوخ" من حديث جابر قال: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصغى الإِناء للسنور فيلغ فيه ثم يتوضأ من فضله" (د). و (هـ) رواه الدارقطني من طريق أبي يوسف القاضي عن عبد ربه بن سعيد المَقْبُرِيّ من حديث عائشة قالت: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تَمُرُّ به الهرة فيصغي لها الإِناء فتشرب ثم يتوضأ بفضلها" (¬5). وعبد ربه (¬6) هو عبد الله متفق على ضعفه، واختلف عليه فيه، وقد خرج حديث عائشة من ست طرق غير المذكورة، وفي الكل مقال. ¬

_ (أ) في هـ: أخيه. (ب) في هـ: صحبه. (جـ) في جـ: زاد: وقال. (د) في الأصل: بفضلها والتصحيح من الدارقطني. (هـ) الواو ساقطة من هـ.

* والحديث (أ) دليلٌ على طهارة الهِرَّة وطهارة سُؤْرها، وهو مذهب الهادي - عليه السلام - والشافعي (¬1). وقال أبو حنيفة (¬2): بل نجس كالسَّبُع، لكن خَفَّفَ فيه فَكَرِه سؤْره، ولعل مستنده ما تقدم في حديث القلتَيْن من أنه سُئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الماء وما ينوبه من السباع والدواب، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا كان الماء قلتين لم ينجسه شيء" فأفهم الحديث أَنَّ دون القلتين تنجسه السباع، وإن كان أبو حنيفة لا يعتبر التحديد بالقلتين فهو إنما تركه للنظر فيهما وما يرجعان إليه من الجهالة. وقد ورد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنَّ الهرة سَبُع في حديث أحمد والدارقطني والحاكم والبيهقي (¬3). من حديث عيسى بن المسيب (¬4) عن أبي زُرْعَة عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يأتي دارَ قومٍ من الأنصار ودونهم دار لا يأتيها، فشق عليهم ذلك، فقالوا: يا رسول الله تأتي دار فلان ولا تأتي دارنا! فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ في داركم كلبًا". قالوا: فإن في دارهم سنورا. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "السنور سَبُع". ¬

_ (أ) في هـ: فالحديث.

وفيه مقال. فأطلق على الهرة اسم السبع. والجواب عنه أولًا بأنه معارَض بحديث الباب في الهرة، فهي مخرجة من عموم نجاسة السبع على تسليم صحة الاحتجاج به مع أن نجاسة السبع معارض (أ) بما أخرجه الشافعي وعبد الرزاق عن إبراهيم بن أبي يحيى عن داود ابن لحصين عن أبيه عن جابر قال: قيل: يا رسول الله أنتوضأ بما أفضلت الحُمُر؟ فقال: "نعم، وبما أفضلت السباع" (¬1). فهو صريح في طهارتها جميعا الهرة وغيرها، مع أن حديث القلتين المتقدم يحتمل أنَّ تنجيس السباع لما دونها ليس لأجل سؤرهما (ب) وإنما هو لما هو مظنة أَنْ (جـ) يلقيان فيه من الأزبال والأبوال، والكلام إنما هو في طهارة السؤر والفم. والحديث يدل على طهارة سؤرها وإن باشرت نجسا، ولا يعتبر البقاء ليلة أو يوما على الخلاف في ذلك، وهو -أحد قولَي (د) الشافعي (¬2)، ومذهب الهادي- عليه السلام -وأبي حنيفة لا بد من (هـ) جرى الريق في فيها (و)، فيطهر بذلك لجدته وتعذر غيره إذ هو الممكن في حقها (¬3). ¬

_ (أ) في هـ: تتعارض. (ب) في هـ: سؤرها. (جـ) في ب: لما. (د) في هـ: قول. (هـ) ساقط من هـ: لا بد من. (و) في هـ، جـ: فمها.

قال المؤيد بالله (¬1): وتُعلم جِدته بمضي ليلة، لاستدعاء السكون جري الريق، وقال أبو مضر (¬2) تخريجا: ويوم مع الليلة، إذ لا يخلو من الريق حينئذ، [وقال المهدي أحمد بن الحسين ورواية عن القاسم: بمضيّ ساعة حكاه الفقيه عليّ. وقال المنصور: يطهر فمها بزوال عَين النجاسة من دَم] أو غيره، وحكاه أيضًا عن القاسم. قال الإِمام يحيى: التحديد بالمدة إنما هو تقريب، والاعتبار بغَلَبَة الظنّ بجري الريق ثلاثا] (أ): والوجه في اعتبار ذلك هو أَنَّ الفم إذا باشر النجاسة فلا بد من بقاء أجزاء النجاسة في الفم، وقد قام الدليل على أنَّ عين (ب) النجاسة تنجس ما لاقاها فلا بد من مزيل لها من فم الهرة والمزيل إنما هو الريق -إذ غيره لا يحيط بجوانب الفم- فكان اعتباره لازمًا، وهو مقيد لإِطلاق طهارة سؤرها، فقياس النجاسة التي في فمها على سائر النجاسات من باب قياس المساواة، واعتبار الريق في حقها دون سائر النجاسات لأنه الممكن دون ما عداه، وجَرْي الريق في فمها هو المعتبر، وإنما اليوم والليلة مظنة جري الريق فقط. وقال الشافعي (¬3) -في أحد قولَيْه- لا يطهر إلا بأن يراها تشرب من ماءٍ كثير، أو تغيب مدة يغلب في الظن حصول ذلك (¬4)، ورده المؤيد بالله - عليه السلام - بأنَّ الماء لا يبلغ حيث بلغَت (جـ) النجاسة لأنها دارت في غلاصمها (¬5) بخلاف الماء فإنها تأخذه بطرف لسانها، وترمي به إلى حلقها. ¬

_ (أ) بهامش الأصل. (ب) في الأصل: غير. (جـ) في جـ: تبلغ.

واختلف العلماء هل يقاس سائر الأفواه على فِي الهرة (أ) فنفاه نُفَاة القياس، ومثبتوه اختلفوا فقال (ب) الحقيني (¬1): يقاس عليها ما شاركها في الطواف ومشقة غسل الفم كالسخال والأطفال لا الكبار من الآدميين والبهائم والسباع؛ لأن الآدميّ الكبير لا مشقة عليه في الغسل وما عداه من المذكور لعدم الطواف (¬2). ومذهب الهادي (¬3) - عليه السلام - والمؤيد بالله، وادعى في "الكافي" الإِجماع عليه أنه يُلحَق بالهِرة كل حيوان طاهر لأنه - عليه السلام - علّل ذلك بعدم النجاسة، وعلل عدم النجاسة بالطواف، فيلحق به ما شارك (جـ) في ذلك، والقياس على ما خالف القياس إذا عُقِل المعنى صحيح (د) عند أبي طالب والجمهور، والمؤيد بالله وإن كان لا يقول به فإنه يوافق في الحكم هنا؛ لأنه من باب النص لما نص على العلة، وليس من باب القياس عنده، فتطهر الأفواه جميعها (هـ) بالريق والتجديد على الخلاف (¬4). ¬

_ (أ) زادت هـ: أولًا. (ب) في ب: وقال. (جـ) في ب: ما شاركه. (د) في هـ: صحح. (هـ) ساقطة في جـ.

* فائدة: في قوله: "إنها (أ) من الطَّوافين"، ذلك (أ) من باب الاستعارة شبهها بخَدَم البيت ومَنْ يطوف على أهله للخدمة ومعالجة المهنة كقوله تعالى: {طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ} (¬1) يعني الخَدَم والمماليك. * فائدة أخرى: في قوله: "تنوبه" هو بالنون أي ترد عليه نوبة بعد أخرى، وحكى الدارقطني (¬2) أن ابن المبارك صحفه وقال: تثوبه بالثاء المثلثة. 10 - وعن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: "جاء أعرابي فبال في طائفة المسجد فزَجَره الناسُ، فنهاهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلمَّا قضَى بَوله أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بذَنُوبٍ من ماءٍ فأُهْرِيق عليه". متفقٌ عليه (¬3). * أنس بن مالك: هو أبو حمزة -بالحاء المهملة والزاي- ابن النَّضْر -بفتح النون وسكون الضاد المعجمة، الأنصاري، النجاري، الخزرجي، خادم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أمه أم سُلَيم بنت ملحان، قدم النبي - صلى الله عليه وسلم -[المدينة] (ب) وهو ابن عشر سنين -وقيل: ابن تسع، وقيل: ثمان-، وخدم النبي - صلى الله عليه وسلم - عشر سنين -وقيل: خدمه لما خرج إلى خَيبر-، وانتقل إلى "البصرة" في خلافة عمر ليفقّه الناس بها، وهو آخر مَن مات بالبصرة من الصحابة سنة إحدى وتسعين -وقيل: اثنتين، وقيل: ثلاث- وله من العمر مائة وثلاث سنين، أو (جـ) سنة أو (د) سنتان، وقيل: تسع وتسعون سنة. ¬

_ (أ) بهامش هـ. (ب) ساقطة من الأصل، جـ. (جـ، د) الواو ساقطة من هـ.

قال ابن عبد البر (¬1): وهو أصح ما قيل، فقال (أ) إنه وُلدِ له مائة ولد، وقيل: ثمانون منهم ثمانية وسبعون ذَكَرًا وابنتان (ب): حفصة، وأم عمرو، روى عنه الزُّهْرِيّ وابن سِيْرِيْن وقتادة وثابت وحُميد وجماعة من أولاده وأولاد أولاده وخلق كثير من التابعين (¬2). * الحديث متفق عليه من حديث أنس، ورواه البخاري من حديث أبي هريرة، وعند الترمذي من حديث ابن عُيينة، في أوله أنه صلى (جـ) ثم قال: "اللهم ارحمني ومحمدا، ولا ترحم معنا أحدا، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لقد تحجرت واسعا (¬3)، فلم يلبث أن بال في المسجد". وقد روى ابنُ ماجه (¬4) (د وابن حبان الحديث تامًّا من طريق محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة. وكذا رواه ابن ماجه (د) أيضًا مبن حديث وَاثِلة بن الأسقع (¬5)، وأخرجه أبو موسى المَدِينيّ (¬6) في "الصحابة" من طريق محمد بن عمرو بن عطاء عن ¬

_ (أ) في ب: ويقال، وجـ: يقال. (ب) في ب: وبنتان. (جـ) في هـ: - صلى الله عليه وسلم -. ولعلها زيادة من الناسخ. (د) بهامش ب.

سليمان بن يسار قال (أ): "اطلع ذو الخويصرة اليماني -وكان رجلا (ب جافيا." فذكره تاما بمعناه وزيادة، وهو مرسَل، وفي إسناده أيضًا مبهم، واستفيد منه ب) تسمية الأعرابي، و (جـ) قال التاريخي إنه الأقرع، ونُقل عن أبي الحسين بن فارس أنه عُيينة بن حصن، والعلم عند الله سبحانه (¬1). * والأعرابي: واحد الأعراب، وهو مَن سَكَن (د) البادية كانوا عَرَبًا (هـ) أو عَجَما (¬2). وطائفة المسجد: ناحيته، والطائفة: القطعة من الشيء. والذَّنُوب: قال الخليل: الدلو ملأى ماء، وقال ابن فارس: الدلو العظيمة، وقال ابن السكيت: فيها ماء قريب من المليء (¬3)، ولا يُقال لها (و) وهي فارغة ذنوب. وزيادة "من ماء": للبيان؛ لأن الذنوب مشترك بينه وبين الفرس الطويل. وفي رواية "سَجلا" بفتح (ز) المهملة وسكون الجيم (¬4). قال أبو حاتم السجستاني: هو الدلو ملأى، ولا يُقال لها ذلك وهي فارغة، وقال ابن دريد: ¬

_ (أ) في ب: وقال. (ب) بهامش هـ. (جـ) الواو ساقطة من ب، جـ. (د) في ب: يسكن. (هـ) في هـ: أعرابا. (و) ساقطة من هـ، ب. (ز) في ب: مشتركة. (ح) في هـ: بفتح السين المهملة. (ط) زاد في هـ السين.

السجل: دلو واسعة. و (أ) في الصحاح: الدلو (ب) الضخمة (¬1). وقوله: "فأهريق" (جـ)، وفي رواية "فهريق" (جـ) والهاء بدل من الهمزة، ويجوز اجتلاب (د) همزة أخرى بعد الإبدال أو يحكم بزيادة الهاء ويجوز في "أهريق" (هـ) فتح الهاء لكونها عوضا عن همزة مفتوحة، ونقل عن سيبويه أنه قال: أهراق يهريق، مثل اسطاع يسطيع (و) بسكون الهاء. قال الجوهري: ويجوز أن يكون أصله "أأراق" -بهمزتين- فأبدلت الهمزة الثانية هاء للخفة، وجزم ثعلب بأن "أهريق" بفتح الهاء (¬2). * وفي الحديث دلالة على أَنَّ الأرض يجب في تطهيرها الماء كغيرها من المُتنجِّسات، وهو مذهب العترة والشافعي (¬3) ومالك. وقيل: تطهر بالشمس والريح للصلاة والتيمم. وقال أبو حنيفة (¬4): بل هما مطهران، فإنهما يحيلان الشيء عن طِبَاعِهِ، فتأثيرهما في إزالة النجاسة أعظم من تأثير الماء، فإذا كان الماء مطهرا فهما مثله في التطهير. وقال الخراسانيون (¬5) من أصحاب الشافعي: بل الظل مطهر. ¬

_ (أ) الواو ساقطة من جـ. (ب) في جـ: والدلو، بزيادة الواو. (جـ) في جـ: فاهريقوا. (د) في هـ: اختلاف. (هـ) في ب: هريق. (و) في ب: استطاع يستطيع.

والجواب أن الحديث لم يذكر فيه إلا الماء وبالقياس على سائر المتنجسات إلا ما خصه دليل. قالت الحنفية: قوله - صلى الله عليه وسلم -: "ذَكَاة الأرض يبسها" (¬1)، وأجيب بأن هذا لا أصل له في الحديث المرفوع، وقد ذكرة ابن أبي شيبة (¬2) موقوفًا على محمد بن على الباقر - رضي الله عنهما -، ورواه عبد الرزاق عن أبي قلابة من قوله: بلفظ: "جفوف الأرض طَهُورها" (¬3) وصب الماء مطهر للأرض الرخوة إجماعا، وأما الصلبة فعند المؤيد بالله والشافعي هي كذلك (¬4)، ومذهب الهادوية أنه لا بد من غسلها، وظاهر الحديث مع المؤيد بالله والشافعي، إلا أنه يُجَاب عنه (أ) بأن أرض المدينة رخوة فمسجد النبي - صلى الله عليه وسلم - كذلك، ولا يُقاس عليه الصلبة لعدم تخلل الماء لأجزاء الأرض فالحكم فيها كغيرها من المتنجسات. ويستدل به أيضًا بأنه لا يتوقف طهارتها على النضوب، واختار هذا الإمام المهدي في "البحر" (¬5)، قال الإمام: وذكر (ب) أصحابُنا للمذهب أنه لا بد من النضوب، وعن بعضهم أنه لا بد من الجفاف. قال الموفَّق في "المغني" (¬6): الأَولى (جـ) الحكم بالطهارة مطلقا لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يشترط في الصبّ على بول الأعرابي شيئًا. واشترطت الحنفية إلقاء التراب وحفرها، كذا رواه الإمام المهدي في ¬

_ (أ) في ب: عليه. (ب) في الأصل، ب: وذكره. (جـ) في هـ: الأولى في.

"البحر"، والنووى في "شرح مسلم" (¬1)، قال الحافظ المصنف (¬2) -رحمه الله-: والمذكور في كتب الحنفية (¬3) التفصيل بَيْنَ إذا كانت رخوة بحيث يتخللها الماء حتى يغمرها، فهذه لا تحتاج إلى حَفر، وبين إذا كانت صلبة فلا بد من حفرها وإلقاء التراب لأن الماء لم يغمر أعلاها وأسفلها، واحتجوا على ذلك بحديثٍ جاء من ثلاث طرق أحدها موصول عن ابن مسعود أخرجه الطحاوي (¬4)، لكن إسناده ضعيف، قاله أحمد وغيره، والآخران مرسَلَان أخرج أحدهما أبو داود من طريق عبد الله بن معقل بن مقرن التابعي (¬5)، والآخر (¬6) سعيد ابن منصور من طريق طاوس ورواتهما ثقات. وأخرجه الدارقطني أيضًا من حديث عبد الله بن معقل قال: قام أعرابي إلى زاوية من زوايا المسجد فبال فيها، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "خذوا ما بال عليه من التراب فألقوه، وأهريقوا على مكانه ماء" (¬7). قال أبو داود: رُوي (أ) مرفوعًا -يعني موصولا-، ولا يصح. ¬

_ (أ) في هـ: وروي.

قال المصنِّف في "التلخيص" (¬1): وله إسنادان موصولان، أحدهما عن ابن مسعود وثانيهما عن واثلة بن الأسقع (¬2)، وفيهما مقال، فليرجع إليه، وبالجملة فهو لازم لمن قبل المرسل العمل به كالمؤيد، وأما الشافعي فلا يلزمه (أ) لأنه لا يقبل إلا مراسيل كبار التابعين بشرط أن يكون ممن إذا سَمَّى لا يسمى إلا ثقة، وذلك مفقود في المُرْسلين المذكورين. قال النووي (¬3) -رحمه اللهُ تعالى-: وفي الحديث أحكام: فمنها: إثبات نجاسة بول الآدمي -وهو مجمعٌ عليه- كبيرًا كان أو صغيرًا، إلا أن الصغير يكفي فيه النضح على تفصيل. واحترام المسجد وتنزيهه عن الأقذار، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قرر الصحابة على الإنكار، وإنما أمرهم بالرِّفْق. وأن الأرض تطهر بصبّ الماء عليها. وأن غسالة النجاسة طاهرة (ب) وفيها خلاف بين العلماء. والرفق بالجاهل، وعدم التعنيف والإِيذاء. ودَفع أعظم المضرتَين بأخفهما؛ لأنه لو قطع عليه بوله لأضر به، وكان يحصل (جـ) من إقامته مع ما قد [حصل] (د) من تنجيس المسجد تنجيس بدنه وثيابه ومواضع من المسجد. ¬

_ (أ) في ب: فلا يلزم. (ب) في ب، جـ، هـ: طاهر. (ب) في جـ: في. (د) بهامش الأصل.

وقوله - صلى الله عليه وسلم - في تمام الحديث: "إن هذه المساجد لا تصلح، لشيء من هذا البول ولا القذر، إنما هي لذكر الله تعالى وقراءة القرآن" (¬1) أو كما قال. وفيه: صيانة المساجد وتنزيهها عن الأقذار، والقذى، والبصاق، ورفع الأصوات، والخصومات، والبيع، والشراء، وسائر العقود، وما في معنى ذلك. وفي هذا مسائل، وهي (¬2): أجمع المسلمون على جواز الجلوس في المسجد للتحدث، فإن كان جلوسه لعبادة من اعتكاف أو قراءة عِلْم أو سماع موعظة أو انتظار صلاة أو نحو ذلك كان مستحبا، ولو لم يكن شيء من ذلك كان مباحًا، وقال بعض أصحابنا: إنه مكروه، وهو ضعيف (2). ويجوز النوم في المسجد، نَصَّ عليه الشافعي في "الأم"، قال ابن المنذر في (¬3) "الأشراف": رخص في النوم في المسجد: ابنُ المسيب والحسن وعطاء والشافعي. وقال ابن عباس: "لا تتخذوه مرقَدًا"، ورُوي (أ) عنه: "لا بأس في النوم (ب) إذا كان لصلاة" (جـ). وقال الأوزاعي: يُكره، وقال مالك: لا بأس به للغرباء، ولا أرى ذلك للحاضر. ¬

_ (أ) في هـ: روي، بدون الواو. (ب) في ب: في النوم فيه. (جـ) في هـ: إذا كان منتظر الصلاة.

وقال أحمد: إن كان مسافرا أو شبهه فلا بأس، وإن اتخذه مقيلا أو مبيتا فلا، وهذا قول إسحاق (¬1). واحتج مَن جَوَّزه (¬2) بنومِ عليّ - رضي الله عنه -، وابن عمر، وأهل الصُّفَّة، والمرأة صاحبة الوِشَاح، والعُرَنِيين، وثمامة بن أثال، وصفوان بن أمية، وغيرهم وأحاديثهم مشهورة في الصحيح. ويجوز أَنْ يُمَكَّن الكافر مِن دخوله (أ) [المسجد] (ب) بإذن المسلمين لا من غير إذنهم. وقال ابن المنذر: أباح كل مَنْ يُحْفَظ عنه العلم الوضوء في المسجد (¬3) إلا أن يبل المكان ويتأذى منه الناس، فإنه مكروه. ونقل الإِمام أبو الحسن (¬4) ابن بطال هذا عن ابن عمر وابن عباس وعطاء وطاوس والنخعي وابن القاسم المالكي وأكثر أهل العلم، وعن ابن سيرين ومالك وسَحْنون أنهم كرهوه تنزيهًا للمسجد (¬5). وقال جماعة من أصحابنا (¬6): يُكره إدخال البهائم والصبيان والمجانين الذين لا ¬

_ (أ) في ب: دخول. (ب) بهامش الأصل.

يميزون المسجد لغير حاجة مقصودة لأنه لا يؤمَن تنجيسهم المسجد، ولا يحرم لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - طاف على بعير (¬1) وفعل ذلك بيانا للجواز فلا يعارِض الكراهة. ويحرم إدخال النجاسة السجد، ومَن في بدنه (أ) نجاسة وخاف تنجيس المسجد حرم عليه الدخول، فإِنْ فصد في المسجد في غير إناء فحرام، وإن قطر دمه في إناء فمكروه، والبَول كذلك. ويجوز الاستلقاء في المسجد، ومد الرِّجْل، وتشبيك الأصابع للأحاديث الصحيحة الواردة في ذلك من فِعل الرسول - صلى الله عليه وسلم - (¬2). ويستَحَب استحبابا مؤكدا كنس المسجد وتنظيفه للأحاديث الواردة (¬3) فيه (ب). انتهى (¬4). 11 - وعن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أُحِلَّتْ لنا مَيْتَتَان ودَمَان، فأَمَّا المَيْتَتَان فالجَرَاد والحُوت، وأما الدَّمان فالطِّحال والكبد". أخرجه أحمد وابن ماجه، وفيه ضَعْف (¬5). ¬

_ (أ) في ب: يديه. (ب) في ب: فيها.

* ضُعِّف (أ) بعبد الرحمن بن زيد بن أَسلم (¬1) عن أبيه عن ابن عمر، قال أحمد: حديثه هذا مُنكَر، وقال البيهقي (¬2): رفع هذا الحديث أولاد زيد بن أسلم: عبد الله وعبد الرحمن وأسامة، وقد ضعفَّهم ابن مَعِين وابن المديني، وكان أحمد يوثق عبد الله (¬3). قال المصنف -رحمه الله-: وقد رواه الدارقطني وابن عدي من رواية عبد الله بن زيد بن أسلم، قال ابن عدي: الحديث يدور على هؤلاء الثلاثة، وقد تابعهم شخصٌ أضعف منهم، وهو أبو هاشم كثير بن عبد الله الأُبُلّيّ (¬4). أخرجه (ب) ابن مردويه في تفسير سورة الأنعام من طريقه عن زيد بن أسلم بلفظٍ قريب من حديث الكتاب. ورواه المسور بن الصلت (¬5) -أيضًا- عن زيد بن أسلم لكنه خالف في إسناده قال: عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد مرفوعًا أخرجه الخطيب، ذكره الدارقطي في "العلل"، والمسور كذاب. ¬

_ (أ) ساقط من هـ. (ب) بهامش هـ.

وقد رُوي موقوفًا رواه الدارقطني من رواية سليمان بن بلال عن زيد بن أسلم قال: وهو أصح، وكذا صحح الوقفَ أبو زُرعة وأبو حاتم (¬1)، ولكن الوقف في مثل هذا في حكم الرفع؛ لأن قول الصحابي: "أحل لنا كذا"، وحرم علينا كذا"، مثل قوله: "أمرنا" و "نهينا" (¬2)، فقام الاحتجاج بالحديث بإحدى المرفوعتَيْن والموقوفة (¬3). والحديث يدل على حِلِّ ما ذُكِر فيه من الجَرَاد وغيره على أي حالٍ وُجِدَ، فلا يُعتبر في الجراد شيء سواء مات حتف أنفه أو بسبب، وهذا قول الجمهور من أهل البيت -عليهم السلام- والشافعيّ وأبي حنيفة (¬4)، وقال الناصر والإمام أحمد بن الحسين ومالك وأحمد بن حنبل (¬5): لا يحل منها إلا ما كان موته بسبب آدميّ بأن (أ) يقطع بعضه (ب) أو يسلق أو يلقي في النار حيًّا أو يُشوى، فإن مات حتف أنفه أو في وعاءٍ حرم. وروى في "البحر" عن مالك: أنه لا بد من قطف (جـ) (¬6) رؤسِها وإلا حرمت، والحديث حجة عليهم. ¬

_ (أ) في جـ، هـ: فإن. (ب) في ب: بعضها. (جـ) في جـ: قطع.

وأما السمك فيحل منه ما كان موتُه بسبب آدمي، أو جزر الماء، أو قذفه، أو نضوبه لا ما كان طافيًا، وهذا مذهب الهادي والجمهور من أهل البيت (¬1) -عليهم السلام-. وقال (أ) الشافعي: يحل الطافي، وهو مرويّ عن أبي بكر، والحُجة له على ذلك عموم قوله: "والحِلّ مِيتته"، "وميتتان" قُلنا: مخصوص بحديث جابر - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ما ألقاه البحر أو جزر عنه فكُلوا (ب)، وما مات فيه فطَفَا فلا تأكلوه" أخرجه أبو داود (¬2) وأحمد، ورُوي مثل ذلك عن علي - عليه السلام -. قال النووي (¬3): حديث جابر ضعيف باتفاق أئمة الحديث، لا يجوز الاحتجاج به ولو لم يعارضه شيء، كيف وهو معارَض، مع أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قررهم على أكل العنبرة (¬4) وطلب أن يأكل منها، وأكل ولم يعلم بأي سبب ماتت، فدل على جواز أكله إذا (جـ) وُجد ميتا، ولا يُقال: أنهم أكلوه لأجل الاضطرار إذ لا ضرورة في أكل النبي - صلى الله عليه وسلم -. وما مات مِن حَرِّ الماء أو برده أو يقتل بعضه بعضا فإنه يحرم أكله على قول الهادي والقاسم وأحد قولَي المؤيد بالله (¬5)، إذ هو كالطافي لعدم تصيده. ¬

_ (أ) في هـ: قال. (ب) في ب: فكلوه. (جـ) في جـ: وإذا.

وعن الناصر، وأحد قولي المؤيد بالله (¬1)، وأبي حنيفة، والشافعي، وقال به جماهير من الصحابة كأبي بكر الصديق، ومن التابعين كأبي ثور، وعطاء، ومكحول، والنَّخَعِيّ ومالك، وأحمد، وداود أنه يحل لعموم: "الحل ميتته"، "وميتتان"، وأُجيب بأنه مخصص بالقياس على الطافي، وقد عرفت ما فيه. وأما الطِّحَال -بوزن كِتَاب- فإنه حلال إجماعا للحديث، مكروهٌ أكله عند الهادي (¬2) والناصر لما روي عن علي (¬3) - عليه السلام - أنه لقمة الشيطان، وهو توقيف، ومعنى لقمة الشيطان: أنه يُسَرّ بأكله. ذكره في "الغيث"، وقال (¬4) القاسم: لا يُكره للحديث. قال (¬5) في "البحر": لا يُنافي الكراهة. وأما الكَبد فلا خِلاف أنها تَحِل وأنها غير مكروهة. 12 - وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا وقع الذبابُ في شراب أحدكم فلْيَغمِسْهُ ثم ليَنْزَعْهُ فإنَّ في أحدِ جناحيه داء، وفي الآخر شفاء". أخرجه البخاري وأبو داود وزاد: "وإنه يتَّقِي بجناحِه الذي فيه الداء". لفظ البخاري (¬6) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا وقع الذباب في إناء أحدم فليغمسه كله، ثم ليطرحه، فإن في (أ) أحد جناحيه شفاء وفي الآخر داء". ولفظ أبي داود (¬7) عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ¬

_ (أ) ساقطة من هـ.

"إذا وقع الذباب في إناء أحدكم فامقلوه، فإن في أحد جناحيه داء، وفي الآخر دواء، وإنه يتقي بجناحه الذي فيه الداء، فليغمسه كله. و (أ) رواه ابن خزيمة وابن حبان بزيادة في (ب) آخره: "ثم لينزعه". ورواه ابن ماجه والدارمي أيضًا، ورواه ابن السكن بلفظ: "إذا وقع الذباب في إناء أحدكم فليمقله، فإن في أحد جناحيه دواء، وفي الآخر داء"، أو قال "سمًّا". ورواه ابن ماجه وأحمد (¬1) من حديث سعيد بن خالد عن أبي سلمة عن أبي سعيد الخدري بلفظ: "في أحد جناحي الذباب سم، وفي الآخر شفاء، فإذا وقع في الطعام فامقلوه فيه فإنه يقدم السم ويؤخر الشفاء" (جـ). ورواه النسائي والبيهقي وابن حبان أيضًا بنحوه (¬2). وروى عن ثمامة عن أنس، والصحيح عن أبي ثمامة عن أبي هريرة، قالة ابن أبي حاتم (¬3) عن أبيه وأبي زُرعة، وقال الدارقطني: رواه عبد الله بن المثنى عن ثمامة عن أنس، ورواه حماد بن سلمة عن ثمامة عن أبي هريرة، والقولان محتملان. قال المصنف (¬4) -رحمه الله تعالى- وروى عن قتادة عن أنس عن كعب ¬

_ (أ) (الواو) ساقطة من هـ. (ب) ساقطة من ب. (جـ) ففي ب: أشفا.

الأحبار، أخرجه ابن أبي خيثمة في تاريخه الكبير في باب من حدث من الصحابة عن التابعين، وإسناده صحيح. ورواه الدارمي من طريق ثمامة عن أبي هريرة وقال: الصواب طريق عبيد (أ) بن حنين عن أبي هريرة (¬1). قال: وحديث عبد الله بن (¬2) المثنى رواه البزار والطبراني في الأوسط. والحديث يدل على أن ميتة "ما لا دم له طاهرة"، إذ لم يفصل بين أن يموت أو يعيش وقد ورد مصرحا به في حديث الطعام الذي وجد فيه - صلى الله عليه وسلم - خنفسا وذبابا ميتين فأمر بإلقائهما والتسمية عليه (¬3) والأكل منه. ويدل على أنه يغمس الذباب وإن هلك بالغمس، والمعنى المناسب أنه صار عقورا ضارا، فيحل قتله لا سيما لدفع الضرر الذي هو واقع بسببه. وأنه يحرم أكل الحيوان المستخبث عند النفوس، إذ (ب) أمر بطرحه وكذلك يقاس عليه دود (جـ) الفاكهة والطعام المسوس، وإن هلكت باستعمال ذلك. ورواية: "إناء أحدكم" أعم وأشمل من رواية "شراب" و "طعام". وقوله: "امقلوه"، أي اغمسوه. قاله أبو عبيدة. وحديث سلمان أشمل، وهو أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "يا سلمانُ كلُّ طعامٍ ¬

_ (أ) في ب: عبيدة. (ب) في جـ: إذا. (جـ) في هـ: دودة.

وشرابٍ وقعتْ فيه دابَّةٌ ليس لها دم، فماتَتْ فهو حلالٌ، أكلُه وشربُه ووضوءه"، وفيه مقال (¬1). 13 - وعن أبي واقد الليثي قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَا قُطِعَ من البهيمةِ، وهيَ حَيَّةٌ، فهو مَيْتَةٌ". أخرجه أبو داود والترمذي وحسنه واللفظ له (¬2). أبو واقد: اسمه الحارث بن عوف الليثي، وقد اختلف في اسمه ونسبه، فقيل: الحارث بن مالك، وقيل: عوف بن الحارث بن أسيد من بنى عامر بن ليث، قديم الإِسلام. قيل: إنه شهد بدرا، وكان معه لواء بني ليث وضمرة وسعد بني بكر يوم الفتح، وقيل: مِنْ مسلمة الفتح، والأول أصح. عداده من أهل المدينة، وجاور مكة سنة، ومات بها سنة ثمان وستين، وقيل: سنة خمس وستين، وهو ابن خمس وسبعين سنة، وقيل: ابن خمس وثمانين، ودفن بفخ. روي عنه عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، وأبو مرة مولي عقيل بن أبي طالب (¬3). ¬

_ (¬1) الدارقطني 1/ 37، البيهقي 1/ 253، قلت والمقال الذي ذكره موجود في حاشية الأصل وب حيث قال: أخرجه الدارقطني والبيهقي من حديث علي بن زيد بن جدعان عن سعيد بن المسيب عن سلمان وفيه بقية بن الوليد وقد تفرد به وحاله معروف وشيخه سعيد بن سعيد الزبيدي مجهول وقد ضعف أيضًا واتفق الحفاظ على أن رواية بقية عن المجهولين واهية، وعلي بن زيد بن جدعان ضعيف أيضًا وقال الحاكم أبو أحمد: هذا الحديث غير محفوظ. اهـ من التلخيص. أما بقية بن الوليد بن صائب بن كعب الكلاعي الحمصي أبو محمد أحد الأعلام صدوق كثير التدليس عن الضعفاء وإذا حدث عن الثقات فلا بأس. التقريب 46، الميزان 1/ 333، 339، الجرح 434/ 2، 435. وعلي بن زيد بن عبد الله بن زهير بن جدعان التميمي البصري يعرف بعلي بن زيد بن جدعان ينسب أبوه إلى جد جده ضعيف، التقريب 246، ضعفاء العقيلي 3/ 229. (¬2) أبو داود كتاب الصيد في صيد ما قطع منه قطعة 3/ 277 ح 2858 بلفظ (فهي ميتة) والترمذي كتاب الأطعمة ما قطع من الحي فهو ميت 4/ 74 ح 1480، بلفظ (فهي ميتة). قال أبو عيسى: هذا حديث حسن غريب. الدارمي كتاب الصيد باب في الصيد يبين منه عضو 2/ 93، أحمد 5/ 218. الحاكم 4/ 123 - 124. (¬3) الإصابة 12/ 88، الاستيعاب 12/ 180.

واقد: بكسر القاف والدال المهملة. الحديث قال في البدر المنير (¬1): إنه قاعدة عطمة من قواعد الأحكام. وهو مروي من أربع طرق عن أبي سعيد، وعن أبي واقد، وعن ابن عمر، وعن تميم الداري فأخرجه (أ) الحاكم من حديث أبي سعيد الخدري (¬2): أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سئل عن جباب أسنمة الإبل وأليات الغنم، فقال: ما قُطع من حي فهو مَيِّتٌ. وذكر الدارقطني (¬3) علته، وقال: المرسل أصح، ورواه الدارمي وأحمد والترمذي وأبو داود والحاكم من حديث أبي واقد. قال: "قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وآله وسلم المدينة، وبها ناس (ب) يعمدون إلى أليات الغنم وأسنمة الإِبل (فيجبونها) (جـ)، فقال: ما قطع من البهيمة، وهي حية، فهو ميتة. لفظ أحمد (¬4) ولفظ أبي داود، ولم يذكر القصة. ورواه ابن ماجه والبزار والطبراني في "الأوسط" من حديث ابن عمر (¬5) واختلف في هذا الإِسناد على زيد بن أسلم، فقال البزار (¬6) بعد أن أخرجه من طريق المسور بن الصلت عن زيد عن عطاء عن أبي سعيد الخدري: تفرد به ابن الصلت، وخالفه سليمان بن بلال فقال: عن زيد عن عطاء مرسلًا، كذا قال، وكذا قال الدارقطني (¬7)، وقد وصله الحاكم تقدم، ورواه معمر عن زيد بن ¬

_ (أ) في ب: وأخرجه. (ب) في ب: أناس. (جـ) الزيادة من مسند أحمد 5/ 218.

أسلم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسلًا، وتابع المسور وغره عليه: خارجة بن مصعب، أخرجه ابن عدي في الكامل (¬1)، وأبو نعيم في الحلية (¬2)، وقال الدارقطني: المرسل أشبه بالصواب (¬3)، وله طريق أخرى عن ابن عمر أخرجها الطبراني (¬4) في "الأوسط"، وفيه عاصم بن عمر (¬5)، وهو ضعيف ولفظه قيل: يا رسول الله إن ناسا يَجُبُّونَ ألياتِ الغَنَم، وهي أحياءٌ، فقال: مَا أُخِذَ من البهمةِ، وهي حَيَّةٌ، فهو مَيْتَةٌ. وهو يدل على أن ما قطع من الحي فهو نجس، إذ الميتة كذلك، وهو عام مخصوص بما أبين من ما ميتته (أ) طاهرة كالجراد والسمك وما لا دم له، إذ ذلك المبان ملحق بالميت منه و (ب) مشبه به فلا يخالفه في الحكم. قال الإمام يحيى: ومن باين الحي المشيمة، وفي شرح الإرشاد: والمشيمة لها حكم ميتة ما انفصلت عنه، قياسا على الجزء المقطوع فهي طاهرة من الآدمي نجسة من غيره. انتهى. وفي قوله قياسا على الجزء المقطوع دلالة على أنها ليست باين حي، ويفهم منه (جـ) أن الحياة لا تحلها، ويدل على ذلك قوله في متن الإرشاد: ومبان حي ومشيمته، والعطف يدل ظاهرا على المغايرة، واختار هذا في شرح الأثمار (¬6) ¬

_ (أ) في هـ: ما ميته. (ب) الواو ساقطة من ب. (جـ) في جـ: وفهم منه.

لابن بهران وقال في موضع: فرع: والمشيمة والمضغة والعلقة جميعها نجس مطلقا على المختار للمذهب، وحكى في "الزهور" عن "الانتصار": في العلقة والمضغة وجهين: الطهارة كالكبد، قال: وهذا (أ) هو المختار، لخروجهما عن صفة الدم، ولا كدم الحيض، ومخصوص أيضًا بما أبين من الصيد بضربة قاتلة، ولحقه موته، (وما أبين من السمك، وما أبين من المذكى قبل موته) (ب)، فإنه طاهر (اشتمل باب المياه على ثلاثة عشر حديثًا) (جـ). ¬

_ (أ) "هذا" ساقطة من ب. (ب، جـ) بهامش الأصل.

باب الآنية

باب الآنية 14 - عن حذيفة بن اليمان - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تشربوا في آنية الذهب والفضة، ولا تأكلوا في صحافِهما، فإنَّها لهم في الدينا، ولكم في الآخرة" (¬1) متفق عليه. هو أبو عبد الله حذيفة بن اليمان، واسم اليمان حسيل مصغرا، وقيل: حسل بكسر الحاء المهملة وسكون السين ولقب باليمان لأنه أصاب في قومه دما فهرب إلى المدينة فحالف بني عبد الأشهل، فسماه قومه اليمان لأنه حالف اليمانية يعنون الأنصار، وهو عبسى بالعين المهملة والباء الموحدة والسين المهملة. شهد حذيفة وأبوه أحدا وهو صاحب سر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهاجر إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - مع أبيه أيام بدر ولم يشهدها. روى عنه عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وأبو الدرداء وغيرهم من الصحابة رضي الله عنهم والتابعين مات بالمدائن، وبها قبره -سنة خمس وثلاثين، وقيل: سنة ست وثلاثين، بعد قتل عثمان بأربعين ليلة (¬2). قال ابن منده: وهذا الحديث مجمع على صحته، وهو صريح في تحريم الشرب في آنية الذهب والفضة والأكل في صحافهما، والصحاف (أ): جمع صحفة وهي دون القصعة. ¬

_ (أ) ساقطة من هـ.

قال الجوهري: قال الكسائي: أعظم القصاع الجفنة، ثم القصعة تليها، تشبع العشرة، ثم الصحفة، تشبع الخمسة، ثم المئكلة، تشبع الرجلين والثلاثة ثم الصحيفة تشبع الرجل (¬1). (ويلحق بالأكل والشرب سائر الانتفاعات. قال النووي (¬2): قال أصاحبنا: انعقد الإِجماع على تحريم الأكل والشرب وسائر الاستعمالات في إناء ذهب أو فضة إلا رواية عن داود في تحريم الشرب فقط ولعله لم يبلغه حديث تحريم الأكل، وقول قديم للشافعي والعراقيين، فقال بالكراهة دون التحريم وقد رجع عنه وتأوله أيضًا صاحب التقريب ولم يحمله على ظاهره فثبتت صحة دعوى الإِجماع (¬3) على ذلك) (أ)، ويلحق بالذهب والفضة ما شابهها (ب) في نفاسة القدر كالجواهر واليواقيت (¬4)، (واختلف أصحاب الشافعي في ذلك فقال النووي: الأصح عند بعض أصحاب الشافعي عدم جواز استعمالها) (جـ) (¬5)، لا ما ارتفع ¬

_ (أ) بهامش الأصل. (ب) في جـ ما شابههما، وفي ب ما يشابهما. (جـ) بهامش الأصل.

قدره لأجل الصنعة فقط، كما يتخذ من الزجاج والصفر ونحوهما فإنه يجوز استعماله إجماعا (أ)، واختلف العلماء ما (ب) العلة المناسبة في ذلك؟ فقيل: هي الخيلاء، فعلى هذا إذا طلي الفضة برصاص أو نحاس زال سبب التحريم، وحل استعماله، وقيل: العين (¬1)، فلا يحل المذكور لأن العين باقية، وأما المذهبة، والمفضضة، فإن كان الذهب والفضة مستهلكين بأن يكونا مموهين لا يمكن فصلهما فإنه: يجوز استعماله (¬2) وإن كان غير مستهلك حرم، إن عم الإِناء إجماعا لأنه مستعمل للذهب والفضة، وأما إذا لم يعمه فكذلك عند أهل البيت -عليهم السلام-وهو قول الشافعي وأبي يوسف، وقال أبو حنيفة: يجوز الشرب من القدح المغشى بالفضة ونحوها (¬3) إذا كان الشارب لا يضع فاه على الفضة، إذ المقصود هو الإِناء والحلية تابعة. قلنا: لم يفصل الدليل، قال الإِمام يحيى: وأما ضبة الإناء فيجوز إجماعا ما لم تكثر، وسيأتي حديث أنس في قدح النبي - صلى الله عليه وسلم -. ولا فرق في تحريم ذلك في حق الرجال والنساء، وإن حلت الحلية للنساء، ولعل الحلية مخصوصة في حق النساء لحاجتهن إلى ذلك لما تجلب من الرغبة إليهن فلا يقاس الاستعمال عليها، إذ دليل التحريم شامل، والقياس غير صحيح (¬4). ¬

_ (أ) في هـ وب: إجماعا استعماله. (ب) في جـ: "في" بدل "ماء".

والضمير في قوله: لهم في الدنيا للكفار، أي إنما يحصل لهم ذلك في الدنيا، وأما الآخرة فليس لهم فيها نصيب، وأما المسلمون (أ) فلهم في الجنة "ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر" (¬1)، وليس في ذلك حجة لمن يقول: الكفار غير مخاطبين بالشريعة، فإنه ليس المقصود منه إلا ما ذكر. والله سبحانه أعلم. 15 - وعن أم سلمة - رضي الله عنها - قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الذي يشرب في إناء الفضة إنَّما يُجَرْجِرُ فِي بَطْنِه نَارَ جَهنَّم". متفق عليه (¬2). هي أم المؤمنين هند بنت أبي أمية، واسم أبي أمية: سهيل بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، وأمها عاتكة بنت عامر، ويقال: إن اسم أم سلمة رملة، وليس بشيء، كانت قبل النبي - صلى الله عليه وسلم - تحت أبي سلمة بن عبد الأسد، وهي وزوجها أول من هاجر إلى الحبشة، ويقال: إنها أول ظعينة هاجرت إلى المدينة وولدت بأرض الحبشة زينب (¬3)، وولدت له بعد ذلك سلمة وعمر ودرة، ¬

_ (أ) في هـ: زيادة: "منهم".

ومات أبو سلمة سنة أربع، وقيل: سنة ثلاث، فتزوجها النبي - صلى الله عليه وسلم - في ليال بقين من شوال من السنة التي مات فيها أبو سلمة، وماتت سنة تسع وخمسين، وقيل: اثنتين وستين، والأول أصح، ودفنت بالبقيع (أ)، وصلى عليها أبو هريرة، وقيل: سعيد بن زيد، وكان عمرها أربعا وثمانين سنة. روي عنها ابن عباس وعائشة وزينب ابنتها وعمر ابنها وابن المسيب وخلق سواهم من الصحابة والتابعين (¬1). والحديث متفق عليه باللفظ المذكور، ورواه أيضًا مسلم (¬2) بلفظ: إن الذي يأكل ويشرب في آنية الفضة والذهب عن أبي بكر بن أبي شيبة، والوليد بن شجاع عن علي بن مسهر، تفرد بهذه الزيادة علي بن مسهر (¬3)، وفي رواية الطبراني عنه (¬4)، إلا أن يتوب. وفي الباب عن عائشة رواه الدارقطني في (جـ) العلل من طريق شعبة والثوري، وحديث شعبة في الجعديات (¬5) وصحيح أبي عوانة بلفظ: الذي يشرب في آنية الفضة إنما يجرجر في جوفه نارا. وفيه مقال. وقوله: يجرجر (د)، بكسر الجيم الأخيرة أي يحدر فيه فيجعل الشرب والجرع جرجرة، وهي (هـ) صوت وقوع الماء في الجوف. قال (و) الزمخشري (¬6) يروي ¬

_ (أ) في هـ: في البقيع. (ب) زاد في اليمنية: كثير. (جـ) زاد في جـ: كتاب. (د) زاد في هـ: في جوفه. (هـ) في جـ: وهو. (و) في ب: قاله.

برفع النار (أ)، والأكثر النصب وهذا مجاز؛ لأن نار جهنم على الحقيقة لا تجرجر في جوفه، والجرجرة صوت البعير عند الضجر (¬1)، ولكنه جعل صوت جرع الإِنسان للماء في هذه الأواني الخصوصة لوقوع النهى عنها واستحقاق العقاب عليها كجرجرة نار جهنم في بطنه من طريق المجاز. هذا وجه الرفع، وذَكَّرَ الفعل وإن كان مسندًا إلى النار وهي مؤنث لوقوع (ب) الفصل وكونها غير حقيقي التأنيث، وأما وجه النصب فالفاعل ضمير الشارب (جـ) والنار مفعوله. وجرجر فلان الماء إذا جرعه (د جرعا متواترا، له صوت، والمعنى: كأنما يجرع نار جهنم. قال النووي (¬2): والنصب د) هو الصحيح المشهور الذي عليه الشارحون، وأهل الغريب واللغة، وجزم به الأزهري وآخرون من المحققين، ورجحه الخطابي والزجاج، وتؤيده الرواية إنما يجرجر في جوفه نارا (¬3)، ويسمى المشروب نارا لأنه يؤول إليها، وأما جهنم -أعاذنا الله منها ومن كل بلاء- فقال الواحدي: قال يونس وأكثر النحويين: هي عجمية لا تنصرف للتأنيث والعلمية، وسميت بذلك (هـ) لبعد قعرها، يقال (و): بئر جهنام، إذا كانت عميقة القعر وقيل: مشتقة من الجهومة، وهي الغلظ، سميت به لغلظ أمرها في العذاب (¬4). ¬

_ (أ) في جـ: الراء. (ب) في هـ: الوقوع. (جـ) في جـ: الشأن، وفي هـ: ضمير الشارب والنصب. (د) ما بينهما كرره في هـ وأشار إليه المصحح. (هـ) كررها في هـ. (و) في هـ: فقال.

قيل: والحديث إخبار عن الكفار من ملوك العجم وغيرهم الذين عادتهم فعل ذلك، وقيل: المراد النهي عن ذلك، وأن من ارتكب هذا النهي عنه استوجب هذا العقاب. فائدة: قال النووي: قال أصحابنا: فإن ابتلي الإِنسان بطعام في إناء ذهب أو فضة فليخرج الطعام إلى إناء آخر، ويأكل منه فإن لم يجد آخر فليجعله على رغيف إن أمكن، وإذا ابتلي بقارورة فيها دهن فليصب في يده اليسرى ثم يصبه إلى اليمنى ويدهن به (¬1). قالوا: ويحرم تزيين الأماكن بآنية الذهب والفضة، أما إذا اضطر إلى استعمال إناء فلم يجد إلا ذهبا أو فضة فله استعماله بلا خلاف كالميتة للمضطر. وأما اتخاذ الآنية من دون استعمال فللشافعي وأصحابه فيه خلاف، الأصح التحريم (¬2) والشافي الكراهة (¬3). انتهى كلامه. والمختار لمذهب الأئمة -عليهم السلام- جواز التجمل بها. قال في شرح الأثمار: وهو أحد قولي الشافعي. 16 - وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا دُبِغ الإِهابُ فَقَد طَهُر" أخرجه مسلم (¬4). وعند الأربعة: أيما إهاب دبغ (أ). . ¬

_ (أ) زاد بهامش هـ: فقد طهر.

الحديث بهذا اللفظ رواه مسلم عن أبي بكر بن أبي شيبة وعمرو الناقد عن (أ) سفيان، وروى مسلم (¬1) أيضًا حديث ابن عباس بألفاظ أخر غير هذا المصدر، وروى البخاري من حديث سودة قالت: ماتت لنا شاة فدبغنا مسمكها ثم مازلنا ننتبذ فيه حتى صارت شنًا (¬2). ولم يخرج البخاري لسودة سوى هذا الحديث، ولم يخرج لها مسلم شيئًا، ورواه النسائي وأحمد بلفظ مر بشاة لميمونة (¬3)، ورواه البزار (¬4) بلفظ: ماتت شاة لميمونة فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: أَلا اسْتَمْتَعْتُم بإهابها؟ فإن دباغ الأديم طهوره. وسيأتي. وفي الباب عن أم سلمة رواه الطبراني في الأوسط والدارقطني (¬5)، وفي إسناده فرج بن فضالة وهو ضعيف (¬6)، وفي تاريخ نيسابور للحاكم من طريق مغيرة عن الشعبي عن ابن عباس: مر النبي - صلى الله عليه وسلم - وعلى آله وسلم بشاة ميتة لأم سلمة أو لسودة فذكر الحديث. وأما حديث: أيما إهاب دبغ فقد طهر. فرواه الشافعي (¬7) عن ابن عيينة عن ¬

_ (أ) زاد في جـ: أبي.

زيد بن أسلم عن ابن وعلة عن ابن العباس: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول هذا، وكذا (أ) رواه الترمذي في جامعه عن قتيبة عن سفيان و (ب) قال: حسن صحيح (¬1) ورواه ابن حبان بلفظ قتيبة وله شاهد من حديث ابن عمر رواه الدارقطني (¬2) بإسناد على شرط الصحة، وقال: إنه حسن، وآخر من حديث جابر رواه الخطيب (¬3) في تلخيص المتشابه. الحديث يدل على أن الدباغ مطهر لجلد الميتة نص في السبب وهو (جـ) الشاة الكعنية أو نوع (د) الشاة على الخلاف المعروف، وظاهر فيما عداها، وهذا مروي عن عليّ - عليه السلام - وابن مسعود، وهو مذهب الشافعي (¬4) وأبي حنيفة واستثنى الشافعي الكلب والخنزير والمتولد من أحدهما وغيره، وقال (هـ) في (¬5) البحر له (و): في الآدمي وجهان، (وإنما استثنى الخنزير لقوله تعالى: {فَإِنَّهُ رِجْسٌ} (¬6)، والضمير عائد إلى المضاف إليه، إذ هو أقرب ولا مانع منه، وقاس الكلب عليه بجامع النجاسة، ووافق أبو حنيفة (¬7) في الخنزير. قال: لأنه لا جلد له، والآدمِي إذ لا يجوز الانتفاع بجلده) (ز) ويطهر بالدباغ ظاهر الجلد وباطنه، ¬

_ (أ) في هـ: مصححة: وهكذا. (ب) الواو ساقطة في جـ. (جـ) في هـ مصححة: وهي. (د) في جـ: فرع. (هـ) في جـ وب: قال. (و) في جـ: وله. (ز) بهامش الأصل.

ويجوز استعماله في الأشياء المائعة واليابسة ولا فرق بين مأكول اللحم وغيره. المذهب الثاني: أن الدباغ لا يطهر شيئًا من الجلود وهو قول أكثر العترة، ورواية عن أحمد وعن مالك، وهو مروي عن عمر بن الخطاب وابنه عبد الله وعائشة، وحجتهم ما أخرجه الشافعي في سنن حرملة وأحمد، والبخاري في تاريخه والأربعة والدارقطني والبيهقي وابن حبان (¬1) عن عبد الله بن عكيم قال: أتانا كتاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل موته: ألا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب، وفي رواية الشافعي وأحمد وأبي داود قبل موته بشهر (¬2)، وفي رواية لأحمد بشهر أو شهرين، قال الترمذي (¬3) حسن وكان أحمد يذهب إليه ويقول: هذا آخر الأمر، ثم تركه لما اضطربوا في إسناده لما قيل عن ابن عكيم عن أشياخ من جهينة. قال ابن حبان (¬4): بل ابن عكيم شهد كتاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، وسمع مشايخ جهينة يقولون ذلك، وقد ذكر الاضطراب في رواية ابن عدي والطبراني من حديث (¬5) شبيب بن سعيد عن الحكم عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عنه، و (أ) في رواية أبي داود (¬6) عن عبد الرحمن: أنه انطلق هو وأناس معه إلى عبد الله بن عكيم، فدخلوا وقعدت على الباب، فخرجوا إليّ وأخبروني أن عبد الله بن عكيم أخبرهم الحديث (¬7)، ¬

_ (أ) الواو ساقطة من ب.

فاضطرب في سماع عبد الرحمن ولكنه إذا ثبت (أ) رواية السماع حمل على أنه سمع منه بعد ذلك. فهذا الحديث يدل على تحريم الانتفاع من الميتة بالإِهاب والعصب، وهو إذا كان متأخرا فهو ناسخ للحديث الأول، وإن لم يعلم تأخره فقد عارض ووجب الترجيح، وهذا أرجح لما فيه من التاريخ، ولأن فيه حظرا (ب)، والأول مبيح، والحظر مرجح على الإِباحة. وأجيب بأنه لا يقوي على النسخ والمعارضة. أما الأول فلأن حديث الدباغ أصح فإنه مما اتفق عليه الشيخان، وروي من طرق متعددة حتى عد فيه (جـ) خمسة عشر حديثًا: عن ابن عباس حديثان، وعن أم سلمة ثلاث، وعن أنس حديثان وعن سلمة ابن المُحَبِّق وعائشة والمغيرة وأبي أمامة وابن مسعود وسفيان (د) وثابت وجابر وأثران (هـ) عن سودة وابن مسعود، ورواية التاريخ معلة، فقد رواها خالد الحذاء وخالفه شعبة، وهو أحفظ منه، وشيخهما واحد، فلا يقوي على النسخ، (وأيضًا فإن النسخ يتوقف على أن ¬

_ (أ) في هـ: ثبتت. (ب) في ب: حظيرا. (جـ) في ب: فيها. (د) في جـ: وشيبان. (هـ) في جـ: وامرأتان.

يكون الناسخ آخر الأمر، ولم يدل شيء من الرواية أن حديث ابن عكيم كان آخر الأمر والتاريخ بما ذكر لا يقضي بذلك بل قد) (أ) روي عن علي - عليه السلام - أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لَا يُنْتَفَعُ (ب) مِن الميْتة بإِهَابٍ ولَا عَصَبٍ"، فلما كان من الغد خرجت أنا وهو فإذا نحن بسَخْلَةٍ مطروحة على الطريق، فقال: "ما كان على أهل هذه لو انتفعوا بإهابها؟ " فقلت: يا رسول الله أين قولك بالأمس؟ فقال: "يُنْتَفَع منها بالشَّيء". رواه في أصول الأحكام فإنه يقضي أن (جـ) الإِباحة آخر الأمر عكس ما احتج به أهل القول الآخر، فثبت عدم صحة النسخ، وأما المعارضة على فرض جهل التاريخ فهي ممنوعة (د لعدم الاستواء د) لما تقدم، وهذا على القول بأن العام المتأخر ناسخ للخاص المتقدم، وأما على القول بأن الخاص المتقدم مخصص (هـ) للعام، وإن تأخر، فالأمر ظاهر، فإنه يبني العام على الخاص على جميع (و) التقادير، فأحاديث الدباغ خاصة، وحديث ابن عكيم عام، فهو معمول به فيما لم يدبغ، فخرج (ز) عنه ما قد (ز) دبغ. وأيضًا فقد روي عن النضر بن شميل: أن الإِهاب اسم لما لم يدبغ (¬1)، وبعد الدبغ يقال له: شن وقربة، والجوهري جزم به (¬2)، وقال ابن شاهين (¬3): لما ¬

_ (أ) في هامش الأصل. (ب) في جـ: لا ينفع. (جـ) في هـ وجـ: يقتضي أن، وفي ب: يقضي بأن. (د) ما بينهما ساقط من جـ. (هـ) في جـ: مخصوص. (و) في ب: جمع. (ز) ساقطة من جـ.

احتمل الأمرين، وجاء قوله: أيما إهاب دبغ (أفقد طهر أ) فحملناه على ما لم يدبغ جمعنا بين الحديثين. والمذهب الثالث: يطهر بالدباغ (ب) جلد مأكول اللحم ولا يطهر غيره، وهو مذهب الأوزاعي وابن المبارك وأبي ثور وإسحاق بن راهويه، ولعل ذلك بناء على قصر العام الوارد على السبب على سببه، والسبب الشاة، فكان ذلك فيها، وقيس سائر المأكولات عليها، والصحيح خلافه. والمذهب الرابع: يطهر الجميع بالدبغ (جـ) إلا الخنزير، وهو مذهب أبي حنيفة، وقد تقدم دليله (¬1). والمذهب الخامس: يطهر الجميع، إلا أنه يطهر ظاهره دون باطنه فيستعمل في اليابسات دون المائعات ويصلي عليه (د)، ولا يصلي فيه، وهذا هو المشهور عن مالك (¬2) في حكاية أصحابه عنه، (وجمع بين الأحاديث بهذا التأويل، لما تعارضت) (هـ). والمذهب السادس: يطهر الجميع ظاهرا وباطنا وهو مذهب داود وأهل الظاهر وحكي عن أبي يوسف لعموم الحديث. ¬

_ (أ) ما بينهما ساقط من جـ. (ب) في ب: بالدبغ. (جـ) في هـ: بالدباغ. (د) في ب: ولا يصلي عليه. (هـ) بهامش الأصل.

والمذهب السابع: ينتفع بجلود الميتة وإن لم يدبغ ظاهرا وباطنا، وهو مذهب الزهري، وحجته قوله - صلى الله عليه وسلم - لما مر بشاة ميتة فقال: "هلا استمتعتم بإهابها" قالوا: إنها ميتة، قال: "إنما حرم أكلها". أخرجه البخاري (¬1) من رواية الزهري عن ابن عباس وأخرج من حديث سعيد بن جبير عن ابن عباس: مر النبي - صلى الله عليه وسلم - بعنز ميتة فقال: "ما على أهلها لو انتفعوا بإهابها" (¬2)؟ والجواب عنه بأن هذا مطلق وحديث الدباغ مقيد والواجب حمل المطلق على المقيد. والإِهاب ككتاب يجمع على أهب بضم الهمزة والهاء بفتحهما لغتان، ويقال: طهر الشيء وطهر بفتح الهاء وضمها لغتان الفتح أفصح، ذكره النووي (¬3) (أقال أصحابنا: ولا يجوز استعمال جلد الميتة قبل الدبغ في الأشياء الرطبة، ويجوز في اليابسة على كراهة. انتهى أ). 17 - وعن سلمة بن المُحَبِّق - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "دِباغُ جُلودِ الميتةِ طَهُورُها". صححه ابن حبان (¬4). هو أبو سنان سلمة بن المحبق، ويقال: سلمة بن ربيعة بن المحبق بضم الميم وفتح الحاء المهملة وتشديد الباء (ب) المكسورة والقاف، وأصحاب الحديث ¬

_ (أ) ما بينهما ساقط من ب، جـ. (ب) زاد في ب: الموحدة.

يفتحون الباء، واسم المحبق، صخر بن عتبة، ويقال (أ): عتيبة بن الحارث، وعتبة بالعين المهملة المضمومة فالتاء المنقوطة اثنتين من أعلى الساكنة والباء الموحدة وعتيبة مصغرها وسلمة هذلي يعد في البصريين روى عنه ابنه سنان ولسنان صحبة (¬1)، روى عنه الحسن البصري وقبيصة بفتح القاف وكسر الباء الموحدة والصاد المهملة ابن حريث مصغرا وبالحاء المهملة والراء المهملة والياء المنقوطة من أسفل اثنتين والثاء المثلثة (¬2). الحديث روي بألفاظ متعددة فلفظ ابن حبان على ما رواه المصنف -رحمه الله تعالى- في التلخيص من حديث عائشة: دباغ جلود الميتة طهورها (¬3)، وفي الطبراني (¬4) من حديث المغيرة بن شعبة وزيد بن ثابت وأبي أمامة وابن عمر بلفظ: جلود الميتة دباغها طهورها، وحديث ابن عمر أيضًا عند ابن شاهين (¬5)، وحديث زيد بن ثابت في تاريخ (¬6) نيسابور، وفي الكنى للحاكم أبي أحمد في ترجمة أبي سهيل، (ب وفي البيهقي عن هذيل بن شرحبيل عن بعض أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم -، أم سلمة أو غيرها (¬7) وفي الدارقطني (¬8) ب) عن أم سلمة بلفظ: إن ¬

_ (أ) زاد في جـ: ابن. (ب) ما بينهما بهامش هـ.

دباغها يحل كما يحل خل الخمر، وفيه الفرج بن فضالة، وهو ضعيف (¬1)، وعن أنس وجابر وابن مسعود ذكرها أبو القاسم ابن منده في مستخرجه، وفي لفظ أحمد وأبي داود والنسائي والبيهقي وابن حبان عن سلمة ابن المحبق بلفظ: دباغ الأديم ذكاته، وفي لفظ: دباغها ذكاتها (أ) وفي لفظ: دباغها طهورها، وفي لفظ: ذكاتها دباغها، وفي لفظ: ذكاة الأديم دباغه (¬2)، وإسناده صحيح، وإن كان أحمد أعله بعدم معرفة (¬3) الجون (ب) راويه، وقد عرفه علي بن المديني وغيره. وفي الباب أيضًا من حديث ابن عباس في مسلم (¬4) بلفظ دباغه طهوره، وفيه قصة سؤال ابن وعلة لابن عباس، وفي لفظ الدارقطني (¬5) وابن شاهين عن ابن عباس: دباغ كل إهاب طهوره، وفي رواية الدولابي (¬6) بعد سؤال (جـ) ابن عباس عن الفراء تصنع من جلود الميتة فقال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "ذكاة كل مسك دباغه" ورواه البزار والطبراني والبيهقي من حديث عطاء عن ابن عباس في شاة ميمونة، فقال - صلى الله عليه وسلم -: "فإن دباغ الأديم طهوره" (¬7)، وفيه ابن عطاء ¬

_ (أ) في جـ: دباغه ذكاته. (ب) في النسخ: ابن الجون، والصحيح المثبت، انظر ترجمته. (جـ) في جـ: سأل.

عن أبيه (¬1)، وهو ضعيف، عند (أ) يحيى بن معين وأبي زرعة ومن حديث ابن عباس في سياق آخر عند أحمد وابن خزيمة والحاكم والبيهقي (¬2)، من طريق سالم ابن أبي الجعد (ب) عن أخيه عن ابن عباس فقال: دباغه (جـ) يزيل خبثه أو نجسه أو رجسه، وإسناده صحيح، قاله الحاكم والبيهقي. وفي (د) قوله: دباغ الأديم ذكاته ونحوه يريد أن الدباغ في التطهير بمنزلة تذكية الشاة في الإِحلال لأن (هـ) الذبح يطهرها ويحل أكلها، فهو من باب التشبيه البليغ أو (و) الاستعارة على ما اختاره المحقق سعد الدين التفتازاني (¬3). 18 - وعن ميمونة - رضي الله عنها - قالت: "مر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بشاة يجرُّونها، فقال: لَوْ أخذتم إهَابَها، فقالوا: إنّها ميتة، فقال: يُطهِّرها الماء والقرظ*" أخرجه أبو داود والنسائي (¬4). ¬

_ (أ) في هـ: عن. (ب) في جـ وهـ: بإسقاط "أبي". (جـ) في جـ: قال دبغه. (د) في جـ: وفيه. (هـ) في جـ: فأن. (و) في هـ: الواو بدل أو. وفي ب: أو الاستعارة.

هي أم المؤمنين ميمونة بنت الحارث الهلالية العامرية، وأمها هند بنت عوف بن زهير من حمير، وقيل من كنانة، ويقال: إن اسمها كان برة فسماها النبي - صلى الله عليه وسلم -: ميمونة، تزوجها في الجاهلية مسعود بن عمر الثقفي، وفارقها، وتزوجها أيضًا أبو رهم (أ) بن عبد العزى، وتوفي عنها فتزوجها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ذي القعدة سنة سبع في عمرة القضية بسَرِف على عشرة أميال من مكة، وماتت في ذلك المكان الذي تزوجها فيه بسرف سنة إحدى وستين، وقيل: إحدى وخمسين، وقيل: ثلاث وستين، وقيل: ست وستين، وقيل: غير ذلك، وصلى عليها ابن عباس، وهي أخت أم الفضل امرأة العباس وأخت أسماء بنت عميس (¬1)، قيل: لم يتزوج النبي - صلى الله عليه وسلم - بعدها. روى عنها ابن عباس ويزيد بن الأصم وعبد الله بن شداد بن الهاد وكريب وعطاء بن يسار (¬2). الحديث رواه أيضًا مالك من حديث ميمونة، وصححه ابن السكن والحاكم (¬3). وفي الباب عن ابن عباس مرفوعًا أخرجه الدارقطني: أليس في الماء والقرظ ما يطهرها (¬4)؟ وأما رواية أليس في الشب والقرظ والماء ما يطهرها؟ فقال (ب) النووي في الخلاصة (¬5): هو بهذا اللفظ باطل لا أصل له، وقال في شرح المهذب (¬6): ذكر الشب إنما هو من كلام الشافعي. قال (جـ) الأزهري (¬7): هو ¬

_ (أ) في جـ: أبو أرهم. (ب) في ب: قال. (جـ) في هـ: وقال.

بالباء الموحدة من الجواهر التي جعلها الله تعالى في الأبيض تشبه الزاج، وقال غيره بالمثلثة. قال الجوهري (¬1): نبت طيب الرائحة مر الطعم يدبغ به. قال النووي (¬2) في شرح مسلم: يجوز الدباغ بكل شيء ينشف فضلات الجلد ويطيبه، ويمنع من ورود الفساد عليه كالشب والقرظ وقشور الرمان وغير ذلك من الأدوية الطاهرة، ولا يحصل بالشمس عندنا، وقال أصحاب (¬3) أبي حنيفة: يحصل ولو (أ) بالتراب والرماد والملح على الأصح وبالأدوية (ب) النجسة كزرق الحمام، والشب المتنجس فيه وجهان أصحهما حصوله، ويجب غسله بعد الفراغ على أحد احتمالين، وفي الاحتياج إلى الماء وجهان (¬4). قال (جـ) أصحابنا: ولا يفتقر الدباغ إلى فعل فاعل، فلو أطارت الريح جلد ميتة فوقع في مدبغة طهر وإذا (د) دبغ جاز الانتفاع به بلا خلاف، وفي بيعه قولان للشافعي أصحهما يجوز، وفي أكله ثلاثة أوجه أو أقوال أصحها: لا يجوز (هـ والثاني: يجوز هـ) والثالث: يجوز جلد المأكول لحمه دون غيره، ومع القول بأن شعر الميتة نجس فلا يطهر الشعر بالدبغ على الأصح، والأشهر من قولي الشافعي: قال أصحابنا ولا يجوز استعمال جلد الميتة قبل الدبغ في الأشياء الرطبة ويجوز في اليابسة على كراهة. انتهي. ¬

_ (أ) في النسخ -ولا- والمثبت هو الصحيح. (ب) في جـ: ولا بالأدوية. (جـ) في هـ: وقال. (د) في هـ: فإذا. (هـ) ما بينهما بهامش ب.

19 - وعن أبي ثَعْلَبة الخُشَنِيّ - رضي الله عنه - قال: "قلت يا رسول الله إلَّا بأرض قوم أهلِ كتاب أفناكلُ في آنيتهم؟ قال: لا تأكلوا فيها إلا أن لا تجدوا غيرها فاغسلوها وكلوا فيها" متفق عليه (¬1). هو جرهم (¬2) بضم الجيم وضم (أ) الهاء ابن ناشب بالنون وكسر الشين المعجمة والباء الموحدة، الخشني بضم الخاء المعجمة وفتح الشين المعجمة وبالنون، وقيل: جرثوم بضم الجيم وضم الثاء المثلثة، وقيل: ابن ناشم، وقيل ابن لاشر (ب)، وقيل: بل اسمه عمرو بن حرقوم، وقيل غير ذلك، اشتهر بكنيته، بايع النبي - صلى الله عليه وسلم - بيعة الرضوان وضرب له بسهم يوم خيبر، وأرسله إلى قومه فأسلموا، نزل الشام، ومات بها سنة خمس وسبعين وقيل: مات زمن معاوية. قال ابن عبد البر: وهو الأكثر. روى عنه أبو (جـ) إدريس الخولاني وجبير بن نفير ومكحول. الحديث فيه دلالة على نجاسة آنية أهل الكتاب وأن رطوبتهم نجسة، إذ أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - باجتنابها ثم رخص بشرط عدم وجدان الغير وغسلها (د "وهو دليل من قال (هـ) بنجاسة الكافر مطلقا، وهو مذهب الهادي والقاسم والناصر ومالك (¬3) وهو موافق لظاهر (و) قوله تعالى (د) {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} (¬4) ¬

_ (أ) ساقطة من جـ. (ب) في هـ: الأشر. (جـ) في ب: أبوه. (د) ما بينهما بهامش هـ. (هـ) ساقطة من جـ. (و) في جـ: بلفظ لقوله.

ومذهب الباقر (¬1) والمؤيد بالله وأبي حنيفة والشافعي (¬2) والإِمام يحيى وجماعة (أن رطوباتهم طاهرة كغيرهم) (أ)، قالوا: لقوله تعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} (¬3)، ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - توضأ من مزادة المشركة (¬4). وعن جابر - رضي الله عنه - قال: كنا نغزو مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فنصيب في آنية المشركين وأسقيتهم (فنستمتع بها) (ب)، ولا يعيب ذلك علينا. رواه أحمد وأبو داود (¬5). وعن أنس أن يهوديا دعا النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى خبز شعير وإهالة سَنِخَة فأجابه. رواه أحمد (¬6)، الإِهالة (¬7)، الودس (جـ). وعن عمر الوضوء من جرة نصرانية (¬8) (د)، قال في البحر (¬9): والأولى الاستدلال بأنه لو حرمت رطوبتهم لاستفاض نقل توقيهم لقلة المسلمين حينئذ، وأكثر مستعملاتهم لا تخلو منها ملبوسا ومطعوما، والعادة في مثل ذلك تقتضي الاستفاضة. انتهى. ¬

_ (أ) بهامش الأصل. (ب) في النسخ: فننتفع والتصحيح من أحمد وأبي داود. (ب) في جـ بالشين. (د) في جـ: النصرانية.

وحديث أبي ثعلبة ليس على ظاهره وإنما هو محمول على كراهة (أ) الأكل في آنيتهم، للاستقذار إذ لو كان لأجل النجاسة لم يجعله مشروطا بعدم وجدان الغير إذ الإِناء المتنجس بعد إزالة نجاسته هو وما لم يتنجس على سواء، وإنما ذلك للاستقذار فهو كالأكل في المحجمة المغسولة، وأيضًا فإن الحديث في رواية أبي داود وأحمد، واللفظ لأبي داود: أنه سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إنَّا نجاور أهل الكتاب، وهم يطبخون في قدورهم الخنزير، ويشربون في آنيتهم الخمر، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "إن وجدتم غيرها فكلوا فيها واشربوا" (ب)، وإن لم تجدوا غيرها فارحضوها (جـ) بالماء، وكلوا واشربوا (¬1)، فالأمر بالاجتناب والغسل إنما هو لما يقع فيها من النجاسة، ليس لأجل رطوبتهم، والمطلق يحمل على المقيد فبطل الاحتجاج به، وأما قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} فمعناه ذوو (د) نجس لأن معهم الشرك الذي بمنزلة النجس، ولأنهم لا يتطهرون ولا يغتسلون ولا يتجنبون النجاسات، فهي ملابسة لهم، ولذلك كان نتيجته قوله تعالى: {فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ} (¬2) أي لا يحجوا ولا يعتمروا ووجب (هـ) المصير إلى هذا للجمع بين هذه الآية وآية المائدة وهي أصرح في المقصود وأما الاحتجاج على الطهارة بحديث جابر ففيه نظر، إذ ذلك بعد الاستيلاء، وبعد الاستيلاء غير محل النزاع. قال في المنتقى: وقد ذهب بعض أهل العلم إلى المنع من استعمال آنية الكفار ¬

_ (أ) في ب كراهية. (ب) بهامش ب. (جـ) في هـ: فارضخوها. (د) في جـ ذو. (هـ) في جـ: وأوجب.

حتى تغسل إذا كانوا ممن لا تباح ذبيحته، وكذلك من كان من النصارى بموضع متظاهر فيه بأكل لحم الخنزير متمكنا منه، أو يذبح بالسن والظفر ونحو ذلك، وأنه لا بأس بآنية من سواهم جمعا بذلك بين الأحاديث، واستحب بعضهم غسل الكل لحديث الحسن بن علي - رضي الله عنهما - قال: حفظت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "دع ما يريبك إلى ما لا يريبك". رواه أحمد والنسائي والترمذي وصححه (¬1). انتهى. 20 - وعن عمران بن حصين - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأصحابه توضأوا من مَزَادَةِ امْرأةٍ مشركة (¬2). متفق عليه في حديث طويل. هو أبو نجيد بضم النون وكسر الجيم والياء الساكنة والدال المهمنة عمران بن حصين بن عبيد الخزاعي الكعبي، أسلم عام خيبر، وسكن البصرة إلى أن مات بها سنة اثنتين وخمسين، وقيل: سنة ثلاث، وكان من فضلاء الصحابة وفقهائهم، أسلم هو وأبوه روى عنه أبو رجاء العطاردي ومطرف بن عبد الله زرارة بن أبي أوفى" (¬3). تقدم الكلام على فقه الحديث. 21 - وعن أنس بن مالك - رضي الله عنه - أن قدح النبي - صلى الله عليه وسلم - انْكَسرَ، فاتخذ مكان الشِّعبِ سِلْسِلَةً مِن فِضَّةٍ. أخرجه البخاري (¬4). ¬

_ (¬1) أحمد 1/ 200، والحاكم 4/ 99، والبيهقي 5/ 335، والنسائي 8/ 294، والترمذي 4/ 668، ح 2518 وقال: حديث حسن صحيح. ابن حبان -الموارد-137 ح 512. (¬2) البخاري كتاب التيمم باب الصعيد الطيب وضوء كل مسلم 1/ 447 ح 344، مسلم كتاب المساجد ومواضع الصلاة باب قضاء الصلاة الفائتة 1/ 474 ح 312 - 682، أحمد 4/ 34، البيهقي الطهارة باب التطهر في أواني المشركين إذا لم يعلم نجاسة 1/ 32. قال الألباني وليس في الحديث أنه، توضأ من مزادة مشركة ولكن فيه استعماله لمزادة المشركة إرواء الغليل 1/ 74. (¬3) الاستيعاب 9/ 19. سير أعلام النبلاء 2/ 508، الإصابة 7/ 155. (¬4) البخاري كتاب فرض الخمس باب ذكر من ورع النبي - صلى الله عليه وسلم - وعصاه وسيفه 6/ 212 ح 3109.

وحكى البيهقي (¬1) عن موسى بن هارون أو غيره أن الذي جعل السلسلة هو أنس لأن لفظه، فجعلت مكان الشعب سلسلة. وجزم بذلك ابن الصلاح. وقال المصنف (¬2) -رحمه الله تعالى- وفيه نظر لأن في الخبر عند البخاري عن عاصم الأحول قال: رأيت قدح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند أنس بن مالك، فكان قد انصدع فسلسه بفضة. قال (أ): وهو قدح جيد عريض نضار. قال أنس: لقد سقيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في هذا القدح أكثر من كذا وكذا، قال: وقال ابن سيرين: إنه كان فيه حلقة من حديد، فأراد أنس أن يجعل مكانها حلقة من ذهب أو فضة، فقال له أبو طلحة: لا تغيرن شيئًا صنعه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فتركه. هذا لفظ البخاري (¬3)، وهو يحتمل أن يكون الضمير في فسلسله (ب) بفضة عائد إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم (¬4)، ويحتمل أن يكون عائد إلى أنس (¬5) كما ذكر البيهقي، وجزم به ابن الصلاح إلا أن آخر الحديث يدل على تعين الأول فإنه لما قال له أبو طلحة: لا تغيرن شيئًا صنعه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فتركه تصريح بأن القدح لم يتغير عن (جـ) موضوعه الأول الذي كان عليه مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وفي المواهب اللدنية: كان للنبي صلى الله عليه وآله وسلم قدح مُضَبَّبٌ بسلسلة من فضة في ثلاثة مواضع (¬6) وهو يؤيد الأول. ¬

_ (أ) ساقطة من هـ. (ب) في ب: سلسلة. (جـ) في هـ: على.

والحديث يدل على جواز تضبيب الإناء بالفضة، وهو مجمع على جواز ذلك، والشعب: الصدع والشق، والسلسلة مصدر بفتح الفاء: اتصال الشيء بالشئ، (وبالكسر المتخذ لذلك) (¬1) (أ)، والنضار بضم النون خشب للأواني ويكسر (¬2)، ومنه كان منبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم. (اشتمل باب الآنية على ثمانية أحاديث) (ب). ¬

_ (أ، ب) بهامش الأصل.

باب إزالة النجاسة وبيانها

باب إزالة النجاسة وبيانها 22 - عن أنس بن مالك - رضي الله عنه- قال: "سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الخمر تُتَّخذُ خلًّا؟ قال: لا " أخرجه مسلم والترمذي (¬1) وقال: حسن صحيح. الحديث يدل على أنه لا يجوز أن يتخذ الخمر خلا واتخاذها هو علاجها حتى تصير خلا، وهذا مذهب العترة عليهم السلام والشافعي (¬2)، ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى أبا طلحة لما مسألة عن أيتام ورثوا خمرا، فقال له (أ) النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "أرقها"، أو قال (ب): ألا أجعلها لهم خلا؟ قال: لا، أخرجه أبو داود والترمذي (¬3) فإن فعل ذلك لم تطهر، ولم تحل عند الهادي والقاسم والشافعي (¬4) وأصحابه للنهي المذكور وهذا إذا كان العلاج بوضع شيء فيها (جـ)، وأما إذا كان علاجها (د) بنقلها من الظل إلى الشمس أو العكس فلأصحاب الشافعي ¬

_ (أ) ساقطة من جـ. (ب) في ب: فقال. (جـ) في ب: فيهما. (د) في هـ، جـ: العلاج.

وجهان أصحهما أنها تطهر (¬1)، وكذا في شرح الأثمار لابن بهران، وفي شرح الفتح أن ذلك علاج فلا تطهر على المذهب، وعند المؤيد بالله (¬2) أنها تطهر بالعلاج، وإن كان حراما للاستحالة، وقال أبو حنيفة (¬3): بل يحل العلاج وتطهر وهو مذهب الأوزاعي والليث لقوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث أم سلمة في تطهير الدباغ لجلود الميتة إن دباغها تحل كما يحل خل الخمر رواه الدارقطني (¬4). وأجيب أولًا بضعف الحديث فإن فيه الفرج بن (¬5) فضالة، وهو ضعيف، وثانيا بأنه (أ) متأول بما تخللت بنفسها من دون علاج (ب، جمعا بين الأحاديث. قال النووي (¬6) -رحمه الله تعالى- وقد أجمعوا على (جـ) أنها إذا تخللت بنفسها من دون علاج (طهرت، وقد حكى عن سحنون (¬7) المالكى أنها لا تطهر، "فإن صح عنه فهو محجوج بإجماع من قبله. انتهى. وقال الإِمام المهدي في (¬8) البحر: بل كثير من أصحابنا أنها لا تطهر د)، كان تخللت بنفسها من دون علاج، ومنهم الإِمام أحمد بن سليمان، وعن مالك في تخليل الخمر ثلاث روايات أصحها عنه: أن التخليل حرام فلو خللها عصى ¬

_ (أ) في ب: أنه. (ب) ما بينهما بهامش ب. (جـ) ساقطة من ب. (د) ما بينهما بهامش ب.

وطهرت، والثانية: حرام ولا تطهر، والثالثة: حلال وتطهر (¬1). 23 - وعنه - رضي الله عنه قال: لما كان يوم خيبر أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبا طلحة فنادى: إن الله ورسوله يَنْهيَانِكُم عن لحوم الحُمُرِ فإنَّها رِجْسٌ متفق عليه (¬2). وحديث أنس في البخاري: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جاءه جاءٍ فقال: أُكِلت الحمر، ثم جاءه جاءٍ فقال: أُكِلت الحمر، ثم جاءه جاءٍ فقال: أُفنِيت الحمر فأمر مناديا فنادى في الناس: إن الله ورسوله ينهيانكم عن لحوم الحمر الأهلية فإنها رجس فأُكفِئَت القدور وإنها لتفور باللحم (¬3). وعن ابن عمر مثله (¬4) وعن علي قال: نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن المتعة عام خيبر، وعن لحوم الحمر الإِنسية (¬5). وعن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عام خيبر عن لحوم الحمر (أورخص في لحوم الخيل (¬6). وعن ابن أو أوفى والبراء قالا: نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن لحوم الحمر أ) (¬7). ¬

_ (أ) ما بينهما بهامش ب.

وعن أبي ثعلبة قال: حرم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لحوم حمر (أ) الأهلية (¬1)، أخرجها (ب) البخاري، وأخرج الترمذي (¬2) عن أبي هريرة والعرباض بن سارية وأبو داود والنسائي عن خالد بن الوليد وعمرو بن شعيب عن أبيه بن جدة (¬3) وأبو داود والبيهقي من حديث المقدام بن معد يكرب مثله (¬4) ورواه الدارمي من طريق مجاهد عن ابن عباس قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم خيبر عن لحوم الحمر الأهلية (¬5)، وفي رواية لمسلم (¬6) قال:. هريقوها واكسروها، فقال رجل: يا رسول الله لو نهريقها ونغسلها، قال: أو ذاك، وفي رواية (¬7) لمسلم: ينهيانكم عن لحوم الحمر فإنها رجس أو نجس فأكفئت القدور بما فيها. والحديث يدل على تحريمها وقد اختلف العلماء في المسألة، فقال الجماهير من الصحابة والتابعين ومن بعدهم تحريم لحومها لهذه الأحاديث الصحيحة الصريحة، وقال ابن عباس: ليست بحرام. وفي الصحيحين (¬8) من رواية الشعبي عن ابن عباس: لا أدري أنهي عنها من أجل أنها كانت حمولة الناس أو حرمة. ¬

_ (أ) في ب وهـ: الحمر. (ب) في ب: أخرجه.

وفي البخاري عن عمرو بن دينار: قلت لجابر بن زيد: يزعمون أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن لحوم الحمر الأهلية، فقال: قد كان يقول ذلك الحكم بن عمرو الغفاري عندنا بالبصرة. ولكن أبي ذلك البحر (¬1). وعن مالك ثلاث روايات أشهرها أنها مكروهة (أ) كراهة تنزيه شديدة، والثاني حرام، والثالث مباحة (ب)، وحجته عموم قوله تعالى: {قل لا أجد} الآية (¬2) وابن عباس تلاها جوابا عمن مسألة عن تحريمها، أخرجه البخاري (¬3)، وأيضًا فإن أبا داود (¬4) أخرج عن غالب بن الحر قال: أصابتنا سنة فلم يكن في مالي شيء أطعم أهلي إلا شيء من حمر، وقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حرم لحوم الحمر الأهلية، فأتيت النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقلت يا رسول الله أصابتنا السنة، ولم يكن في مالي ما أطعم أهلي إلا سمان حمر، وإنك حرمت لحوم (جـ) الحمر الأهلية، فقال: "أطعم أهلك من سمين حمرك، فإنما حرمتها من أجل جوال القرية"، يعني بالجوال التي تأكل الجلة، وهي العذرة. وأجيب بأن الآية مخصصة بالأحاديث الصحيحة المتقدمة. وهذا الحديث مضطرب مختلف الإِسناد شديد الاختلاف وإن صح حمل على الأكل منها في حال الاضطرار. والله أعلم. وفي قوله: اكسروها، وقال رجل: أو نغسلها: هذا صريح في نجاستها ¬

_ (أ) في جـ: أنه مكروه. (ب) في ب: مباح. (جـ) ساقطة من جـ.

وتحريمها (أوقوله في الرواية الأخرى: فإنها رجس أو نجس صريح أيضًا ويدل على غسل ما أصابته النجاسة أ)، ولا يجب التسبيع إذ أطلق الغسل. وقال أحمد في أشهر الروايتين عنه: إنه يجب التسبيع (¬1)، وفي الأمر بكسرها يحتمل أنه كان بوحي أو باجتهاد ثم نسخ، وتعين الغسل، ولا يجوز الكسر إذ هو إضاعة مال. وفيه دلالة على أنه إذا غسل الإناء فلا بأس باستعماله، والله أعلم. والإنسية بسكون النون مع فتح الهمزة وكسرها والإنْسي: الأنِسُ من كل شيء. وقوله: ينهيانكم، يرد عليه كيف جمع في الضمير مع نهيه - صلى الله عليه وسلم - لثابت بن قيس في قوله: ومن يعصهما (¬2) إلا أن تكون هذه حكاية لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - لا من قول أبي طلحة وذلك غير ممتنع منه إنما يمتنع وقوع ذلك من غيره، وقد ورد أيضًا في البخاري من أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما (¬3) وذكر معنى هذا الزركشي (ب) في شرح البخاري. (وسيأتي تمام الكلام عليه في كتاب البيوع إن شاء الله تعالى) (جـ). 24 - وعن عمرو بن خارجة - رضي الله عنه - قال: "خطَبنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمنًى، وهو على راحِلَتِه، ولُعابُها يسيلُ على كتفي" أخرجه أحمد والترمذي. وصححه (¬4). ¬

_ (أ) ما بينهما بهامش ب. (ب) زاد في هـ: أيضًا. (جـ) بهامش الأصل.

هو عمرو بن خارجة بن المنتفق (¬1) بضم الميم والنون الساكنة والتاء فوقها نقطان المفتوحة وكسر الفاء وبعدها قاف، الأنصاري حليف أبي سفيان، عداده في أهل الشام، روى عنه عبد الرحمن بن غنم بفتح الغين المعجمة وسكون النون، وشَهر بن حَوْشَب بفتح الشين المعجمة وسكون الهاء حوشب بفتح الحاء المهملة وسكون الواو بالشين المعجمة والباء الموحدة. والحديث يدل على أن لعاب ما يؤكل لحمه طاهر والظاهر أنه إجماع (¬2) واللعاب بضم أوله ما سال من الفم. 25 - وعن عائشة - رضي الله عنها - قالت: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويغسل المنيَّ، ثم يخرج إلى الصلاة في ذلك الثوب، وأنا أنظر إلى أثر الغسْلِ فيه". متفق عليه (¬3). ولمسلم: "لقد كُنت أفرُكُه من ثوب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فركًا فيصلي فيه" (¬4) وفي لفظ له: "لقد (أ) كنت أحُكُّه يابِسًا بظُفْرِي من ثوبه" (¬5). ¬

_ (أ) ساقطة من هـ.

أخرجه البخاري من خمس طرق من حديث سليمان بن يسار عن عائشة بألفاظ مختلفة، وفي جميعها أنها كانت تغسل المني من ثوب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفي بعضها (1): وأثر الغسل في ثوبه بقع الماء. وفي أخرى (2) فيخرج إلى الصلاة، كان بقع الماء في ثوبه. وفي أخرى (3): وأثر الغسل فيه بقع الماء. وفي أخرى (4) أنها كانت تغسل المني من ثوب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم أراه فيه بقعة أو بقعا والظاهر عود الضمير إلى المنى، وجعله البخاري في باب إذا غسل الجنابة ولم يذهب أثرها (¬5)، ولم يذكر البخاري الفرك في شيء من المرفوع وإنما جعله ترجمة باب، وقال البزار في حديث البخاري: إن مداره على سليمان بن يسار وهو لم يسمع من عائشة وقد سبقه إلى ذلك الشافعي في الأم (¬6) حكاه عن غيره، وزاد (أ) أن عمرو بن ميمون الراوي عن سليمان بن يسار غلط في رفعه، وإنما (ب) هو من فتوى سليمان انتهى. وقد تبين من تصحيح البخاري وموافقة مسلم له على تصحيحه صحة سماع سليمان منها، وأن رفعه صحيح، وليس بين فتواه وروايته تنافٍ (¬7). وروى البيهقي والدارقطني وابن خزيمة وابن الجوزي (¬8) من حديث محارب بن دثار عن عائشة قالت: "ربما حتته من ثوب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يصلي" لفظ ¬

_ (أ) في جـ: وأراد. (ب) في هـ: فإنما هو.

الدارقطني، ولفظ ابن خزيمة: أنها كانت تحت المني من ثوب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يصلي (¬1)، ورواه ابن حبان أيضًا ولابن حبان من حديث الأسود بن يزيد عن عائشة قالت: لقد رأيتني أفرك المني من ثوب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو يصلي (¬2)، ورجاله رجال الصحيح. الحديث يدل على وقوع الغسل أو الحت أو الفرك للمني، وهل ذلك على سبيل الوجوب أو على جهة الندب؟ لم يصرح في الحديث بشيء من ذلك، واختلف العلماء في مني الآدمي، فمذهب (أ) العترة عليهم السلام وأبي حنيفة وأصحابه ومالك ورواية عن أحمد (¬3) أنه نجس، ودليلهم على ذلك روايات الغسل وحديث عمار: "إنما تغسل ثوبك من الغائط والبول والمني والدم والقيء" (¬4)، وتأخير عمر الصلاة عن أول وقتها حتى وجد الماء وغسل ثوبه من الاحتلام (¬5)، وقياسا على سائر الفضلات المستقذرة من البول والغائط، لانصبابها الجميع إلى مقر، وانحلالها عن الغذاء، ولأن الأحداث الموجبة للطهارة (ب) نجسة، المني منها، ¬

_ (أ) في جـ فذهب. (ب) في ب: للطهار.

ولأنه يجري مجرى البول، فتعين لغسله الماء عند العترة ومالك، كغيره من النجاسات، وقول حديث الفرك بأنه مع مخالطة الماء، وحت عائشة له من ثوب النبي - صلى الله عليه وسلم - لعله لم يشعر به أو لأن منيه طاهر وهو من الخصائص، وعند أبي حنيفة يغسل بالماء الرطب، ويحت اليابس منه عملا بالحديثين كما في ذلك النقل (أ) من النجاسة (¬1)، ومذهب الشافعي (¬2) وأصحاب الحديث، وهو رواية عن علي عليه السلام وسعد بن أبي وقاص وابن عمر وعائشة وداود وأحمد (¬3) في أصح الروايتين عنه أنه طاهر ودليله على ذلك حديث ابن عباس قال: سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن المني يصيب الثوب، قال (ب) "إنما هو بمنزلة المخاط والبزاق والبصاق"، وقال: "إنما يكفيك أن تمسحه بخرقة أو إذخرة" أخرجه الدارقطني والبيهقي (¬4) من طريق إسحاق الأزرق، ورواه الطحاوي (¬5) من حديث خبيب بن أبي عمرو عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أيضًا، ورواه البيهقي من طريق عطاء عن ابن عباس ¬

_ (أ) في جـ: الفعل. (ب) في جـ: فقال.

موقوفًا. قال البيهقي: الموقوف هو الصحيح، فتشبيهه بالخاط والبزاق دليل الطهارة كما أنهما طاهران، وأما الأمر بمسحه بالخرقة أو الإِذخرة فيحتمل أن ذلك لأجل إزالة الدرن المستكره بقاؤه في ثوب الصلاة، وقد يعارض بأن حديث الغسل والفرك أصح وأشهر، ولأنهما من (أ) رواية الصحيحين وهما أرجح: (وفي رواية ابن خزيمة (¬1) عن عائشة كان (ب) يسلت المنى من ثوبه بعرق الإذخر، ثم يصلي فيه) (جـ)، ويجاب عن ذلك بأنه لم يكن فيهما أمر من النبي - صلى الله عليه وسلم - لها بذلك وإنما ذلك حكاية فعل منها أو من النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهذا قول صريح في الطهارة ويرد ذلك بأنه قد ورد الأمر في رواية أنه قال لعائشة في المني: "اغسليه رطبا وافركيه يابسا" (¬2)، ويجاب عنه بأن ابن الجوزي قال في التحقيق: هذا الحديث لا يعرف بهذا السياق (¬3) وإنما نقل إنها هي (د) كانت تفعل ذلك كما تقدم. قال المصنف -رحمه الله تعالى-: أما الحت فقد ورد الأمر به في رواية صحيحة لما أجنب ضيف كان عند عائشة فغسل الثوب من الجنابة، فقالت عائشة - رضي الله عنها -: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأمرنا بحته (¬4). وأما حديث عمار فقد قيل عليه: إنه تفرد به ثابت بن حماد (¬5) عن علي بن زيد بن ¬

_ (أ) في هـ: في. (ب) في جـ: كأنه. (جـ) بهامش الأصل. (د) ساقطة من جـ.

جدعان (¬1)، وثابت ضعفه البزاز في مسنده وابن عدي في الكامل والدارقطني والبيهقي والعقيلي في الضعفاء وأبو نعيم في المعرفة (¬2) إلا أبا يعلى فإنه أورد الحديث ولم يضعفه (¬3) واتهمه الأزدي بالوضع، وقال هبة الله الطبري: أجمعوا على ترك حديثه، وقال البزار (¬4): لا يعلم لثابت إلا هذا الحديث، وقال الطبراني: تفرد به ثابت بن حماد، ولا يروى عن عمار إلا بهذا (أ) الإِسناد، وقال البيهقي (¬5): هذا حديث باطل، إنما رواه ثابت بن حماد، وهو متهم. قال المصنف (¬6) -رحمه الله-: ورواه البزار والطبراني من طريق إبراهيم بن زكريا العجلي عن حماد بن سلمة عن علي بن زيد، لكن إبراهيم ضعيف، وقد غلط فيه إنما يرويه ثابت بن حماد. وأما غسل عمر فليس بحجة، لأن للاجتهاد في مثل هذا الحكم مسرحا، فلا يكون توقيفا. وأما القياس على سائر المستقذرات، فلا قياس مع النص. وأما تأويل الفرك بأنه مع الماء (¬7)، فهو خلاف الظاهر، وكون النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يشعر به حتى دخل في الصلاة فهو بعيد. ¬

_ (أ) في ب: هذا.

وأما كونه من الخصائص، فهو قريب إلا أنه يبعده أنه عن جماع وقد اختلط بمني المرأة، فلم يستقم كونه منه وحده حتى يكون من الخصائص، وقد أجيب عنه بأنه يجوز أن يكون عن احتلام، وهو جائز عليه - صلى الله عليه وسلم -، ولا نسلم أنه إنما يكون من تلعب الشيطان، وقد أجير منه فإنه قد يكون من فيضان الشهوة واستحكامها، أو أنه قد وقع منه (أ) مقدمات جماع، فسقط من المني شيء على الثوب، ويرد على من عدا أبي حنيفة تعارض حديث الفرك وحديث الغسل، ويجاب على (ب) أصل من قال بنجاسته بأن الغسل مع الرطوبة كاف، وأما إذا كان يابسا فالفرك لتزول العين ثم الغسل قياسا على سائر النجاسات ولم يكن في الحديث حصر على الفرك حتى يدفع القياس. وأما على من قال بطهارته فيقول: الغسل للندب لأجل التنظيف وليس للوجوب واستدل بعض الشافعية على (طهارة) (جـ) رطوبة فرج المرأة بالفرك. قال: ومن قال إن المني لا يسلم من المذي فيتنجس به لم يصب، لأن الشهوة إذا اشتدت خرج النبي دون المذي والبول كحالة الاحتلام (¬1)، وحكي عن بعض الشافعية أنه قال بنجاسة مني المرأة دون الرجل، وبعضهم بأن المجتمع من المرأة والرجل نجس، وهو قول شاذ وعلى القول بطهارته في حل أكله وجهان (¬2)، ¬

_ (أ) في جـ: عن. (ب) في هـ: عن. (جـ) بهامش الأصل.

أحدهما لا يحل لأنه مستقذر فهو داخل في جملة الخبائث المحرمة والثاني أنه يحل، وهو ضعيف، وأما مني سائر الحيوانات غير الآدمي فالكلب والخنزير والمتولد من أحدهما نجس بلا خلاف، وما عداها (أ) فعند الشافعي ثلاثة أوجه، أصحها أنها كلها طاهرة من مأكول اللحم وغيره، والثاني نجسة، والثالث (ب) من مأكول اللحم طاهر وغيره نجس (¬1). 26 - وعن أبي السمح - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يُغسلُ من بول الجارية، ويُرش من بول الغلام" أخرجه أبو داود والنسائي وصححه الحاكم (¬2). هو إياد خادم النبي - صلى الله عليه وسلم - بكسر الهمزة وتخفيف الياء تحتها نقطتان، روى عنه محل بضم الميم وكسر الحاء المهملة وتشديد اللام، يقال: إنه ضل ولا يدرى أين مات (¬3). ¬

_ (أ) في ب: وما عداهما. (ب) ساقطة من ب.

الحديث وأخرجه أيضًا البزار وابن ماجه وابن خزيمة من حديث أبي السمح قال: كنت أخدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأتي بحسن أو حسين فبال على صدره فجئت أغسله، فقال: "يغسل .. " الحديث. قال البزار وأبو زرعَة: ليس لأبي السمح غيره، ولا أعرف اسمه. وقال البخاري: حديث حسن، ورواه أحمد وأبو داود وابن خزيمة وابن ماجه والحاكم من حديث لبابة بنت الحارث (¬1) قالت: كان الحسين، وذكرت القصة وقال في آخره: إنما يغسل في بول الأنثى، وينضح من بول الذكر. ورواه الحاكم والطبراني (¬2) من حديثهما (1) مطولا، وروى أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه وابن خزيمة وابن حبان والحاكم من حديث علي ابن أبي طالب (¬3) - رضي الله عنه (ب) - قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بول الرضيع: "ينضح بول الغلام، ويغسل بول الجارية". قال قتادة (¬4) راويه (جـ): هذا ما لم يطعما، فإذا طعما غسلا، لفظ الترمذي وقال (¬5): حسن، رفعه هشام، ووقفه سعيد. قال المصنف -رحمه الله تعالى-: وإسناده صحيح إلا أنه اختلف في رفعه ووقفه و (د) في وصله وإرساله، وقد رجح البخاري صحته وكذا الدارقطني وقال ¬

_ (أ) في جـ: حديثهما. (ب) زاد في هـ وجـ: قال. (جـ) في هـ وب: رواية. (د) الواو ساقطة من ب.

البزار: تفرد برفعه معاذ بن هشام عن أبيه (¬1). وفي الباب غير ذلك من حديث عمرو بن شعيب (¬2) وآثار عن أم سلمة (¬3) وعن أنس (¬4) وعن امرأة من أهل البيت. قال حسين (أ) بن علي أو ابن حسين بن علي عليهما السلام: حدثتنا امرأة من أهلنا رواه أحمد بن منيع في مسنده وعن ابن عمر وابن عباس وفي أحاديث أكثر هؤلاء أن صاحب القصة حسن أو حسين وفي حديث عائشة وفي رواية الدارقطني أن ابن الزبير بال على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .. الحديث (¬5) (¬6) وفي البخاري: أتى بصبي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فبال على ثوبه، فدعا بماء فنضحه، ولم يغسله (¬7). وفي الطبراني من حديث الحسن البصري عن أمه أن الحسن أو الحسين بال على بطن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .. الحديث (¬8)، وفي المصنف وصحيح ابن حبان عن ابن شهاب مضت السنة أن يرش بؤل من لم يأكل الطعام من الصبيان (¬9). وروى الدارقطني من حديث عكرمة عن ابن عباس قال: أصاب ثوب النبي - صلى الله عليه وسلم - ¬

_ (أ) في هـ: الحسين.

أو جلده بول صبي، وهو صغير، فصب عليه من الماء بقدر ما كان البول. وإسناده ضعيف (¬1). الحديث فيه دلالة على التفرقة بين بول الصبي وبول (أ) الصبية، وأنه يجب فيهما استعمال الماء، وإنما التفرقة في كيفية الاستعمال وهو يدل على نجاسته مطلقا، (ب (وقد اختلف العلماء في النجاسة وفي حكم التطهير، أما النجاسة فمذهب العترة والجمهور من العلماء أنه نجس مطلقا) (ب) (جـ)، قال داود الظاهري بطهارة (د) بول الصبي) (هـ)، وقال الطحاوي: قال قوم بطهارة بول الصبي قبل الطعام (¬2) وكذا جزم به (و) ابن عبد البر (¬3) وابن بطال ومن تبعهما عن الشافعية وأحمد وغيرهما ولم تعرف ذلك الشافعية ولا الحنابلة. قال النووي (¬4): هذه حكاية باطلة انتهى. ¬

_ (أ) ساقطة من ب. (ب) ما بينهما في هامش ب. (جـ) زاد في ب وجـ: و. (د) في هـ: فطهارة. (هـ) بهامش الأصل. (و) ساقطة من هـ.

وأما التفرقة في التطهير بينهما فقالت العترة وأبو حنيفة، وهو المشهور عن مالك (¬1) وأهل الكوفة هما على سواء فيغسلان جميعا، قال الإِمام المهدي في البحر بحديث عمار فإنه أطلق (أ) البول وقياس على سائر النجاسات، والرش هو غسل خفيف، قال: وأما حديث النضح فلم (ب) يصح قلت: الرش انتهى إلى النضح فإن الرش هو تنقيط الماء فانتهى إلى النضح فلا تخالف بين الروايتين. ثم قال الإمام: قلت وفيه نظر، إذ ظاهر الخبر الفرق ولكن يقال: لا يبنى العام على الخاص إلا حيث قارن أو تأخر ومع اللبس الترجيح، وخبر عمار أرجح لظهوره، هذا كلامه في البحر (¬2)، (وهذا مبني علي أن العام المتأخر ناسخ للخاص المتقدم كما ذهب إليه جماعة من قدماء أهل البيت والحنفية (¬3)، وأما على ما ذهب إليه المتأخرون من الأئمة والشافعي وغيرهم (جـ) من المحققين (د) أن الخاص المتقدم يخصص العام المتأخر فلا يستقيم فتأمل (¬4)) (هـ) وقالت الشافعية (¬5) في أصح وجوه ثلاثة: إنه يكتفى في بول الصبيّ بالنضح دون الصبية، وهو قول علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - وعطاء والحسن والزهري وأحمد وإسحاق وابن وهب وغيرهم، ورواه الوليد بن مسلم عن مالك، وقال أصحابه: هي رواية شاذة. ¬

_ (أ) في جـ: يطلق. (ب) في ب: فلا. (جـ) في هـ: وغيره. (د) زاد في هـ: من الأئمة وغيرهم والشافعي. (هـ) بهامش الأصل.

27 - وعن أسماء بنت أبي بكر - رضي الله عنهما - "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في دم الحَيض يصيب الثوب: "تحُتُّه ثم تقْرُصُه بالماء، ثم تنْضَجُهُ، ثم تصلي فيه" متفق عليه (¬1). هي أسماء بنت أبي بكر الصديق وتسمى ذات النطاقين، لأنها شقت نطاقها ليلة خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - مهاجرا (¬2)، فجعلت واحدا شدادا لسفرته، والآخر عصابا لقربته، وقيل: جعلت النصف الثاني نطاقا لها، وهي أم عبد الله بن الزبير ابن العوام أسلمت بمكة قديما، قيل: أسلمت بعد سبعة عضر إنسانا، وبايعت النبي - صلى الله عليه وسلم -، وتزوجها الزبير بمكة، ثم طلقها بالمدينة، ويقال إن ابنها عبد الله وقف يوما بالباب فلما جاءه الزبير ليدخل البيت منعه فسأله عن ذلك فقال: ما أدعك تدخل حتى تطلق أمي، فامتنع عليه وأبي إلا طلاقها، فسأله عن السبب فقال: مثلي لا يكون له أم، توطأ، أو كما قال، فطلقها الزبير (¬3)، وبقيت عند ابنها إلى أن قتل، وهي أكبر من عائشة بعشر سنين، وماتت بعد أن قتل ابنها بعشرة أيام، وقيل: بعشرين يوما وقيل: ببضع وعشرين يوما بعد ما أنزل ابنها من الخشبة، ولها مائة سنة، وذلك سنة ثلاث وسبعين بمكة، ولم يقع لها سن ولم ينكر من ¬

_ (¬1) مسلم الطهارة باب نجاسة الدم وكيفية غسله 1/ 240 ح 110 - 291، البخاري بلفظه وقال بالواو وبدل ثم الثانية والثالثة الوضوء باب غسل الدم 1/ 330 ح 227، أبو داود نحوه الطهارة باب المرأة تغسل ثوبها الذي تلبسه في حيضها 1/ 255 ح 361، الترمذي أبواب الطهارة باب ما جاء في غسل دم الحيض من الثوب 1/ 254 - 255 ح 138. النسائي نحوه باب دم الحيض يصيب الئوب 1/ 126 - 127. ابن ماجه الطهارة باب ما جاء في دم الحيض يصيب الثوب 1/ 206 ح 629، أحمد 6/ 353. (¬2) البخاري في حديث الهجرة 7/ 230 - 232. ح 3905. (¬3) لم أقف على هذه الحكاية وهذا أمر شرعه الله ومن رحمته {أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة}. فلا يظن بعبد الله ذلك بل إن هذه من القصص الباطلة التي يراد بها النيل من صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهم أعلم بالله ورسوله فيما شرع فكيف يعقل أن يصح ذلك منهم رضي الله عنهم أجمعين والله أعلم.

عقلها شيء، وكانت قد أضرت، روى عنها ابنها عبد الله وعروة وعبد الله بن عباس وغيرهم (¬1). الحديث في الصحيحين أن أسماء قالت: جاءت امرأة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - الخ .. وظاهر اللفظ أن السائل غيرها، وأخرج الشافعي (¬2) عن أسماء قالت: سألت النبي - صلى الله عليه وسلم -. وقال النووي (¬3): إن هذا الإسناد الذي فيه تعيين أن السائلة أسماء ضعيف وقد تبع ابن الصلاح وجماعة، وليس كذلك بل هو إسناد صحيح (¬4) ولا يبعد أن يبهم الراوي اسم نفسه، وذكر الشيخ تقي الدين في الإمام (¬5) من رواية محمد بن إسحاق بن يسار أن أسماء قالت: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وسألته امرأة عن دم الحيض يصيب ثوبها، فقال: "اغسليه". ورواه ابن ماجه بلفظ "اقرضيه واغسليه وصلي فيه" (¬6) .. ولابن أبي شيبة (¬7) اقْرِصيه بالماء واغْسلِيه وصلِّي فيه". وروى أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه وابن خزيمة وابن حبان من حديث أم قيس بنت محصن أنها سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن دم الحيضة (أ) يصيب الثوب، ¬

_ (أ) في جـ: الحيض.

فقال: "حُكِّيه بصلعٍ، واغسليه بماء وسِدْرٍ" (¬1) وقال ابن القطان: إسناده في غاية الصحة، ولا أعلم له علة (¬2). وقوله: (أبصلع بفتح الصاد المهملة وإسكان اللام ثم عين مهملة وهو الحجر، ووقع أ) في بعض المواضع بكسر الضاد المعجمة وفتح اللام. قال ابن دقيق العيد: ولعله وهم (¬3) (ب) وقوله:. تحته بالفتح وضم المهملة وتشديد المثناة الفوقانية أي تحكه، وكذا رواه ابن خزيمة والمراد بذلك إزالة عينه، وقوله: ثم تقرصه، بالفتح وِإسكان القاف وضم الراء والصاد المهملتين (جـ)، كذا في رواية الشيخين، وحكى القاضي عياض وغيره (¬4) فيه الضم وفتح القاف وتشديد الراء المكسورة أي تدلك موضغ الدم بأطراف أصابعها ليتحلل بذلك ويخرج ما تشربه (د) الثوب منه، وقوله: (هـ) وتنضحه، بفتح الضاد المعجمة أي تغسله. قال الخطابي (¬5). ¬

_ (أ) ما بينهما بهامش هـ. (ب) الواو ساقطة من ب. (جـ) في هـ المهملة. (د) في ب: ما شربه، وهـ: ما يشربه. (هـ) سقطت الواو من هـ.

وقال القرطبي: المراد به الرش لأن غسل الدم استفيد من قوله: تقرصه بالماء وأما النضح فهو لما شكت فيه من الثوب (¬1)، وعلى هذا فالضمير في قوله: تنضحه للثوب، ويلزم تفكيك الضمائر فالأولى الأول. والحديث فيه دلالة على أن النجاسات إنما تزال بالماء دون غيره من المائعات، لأن جميع النجاسات بمثابة الدم ولا فرق بينه وبينها إجماعا، ولا يقال: هو مفهوم لقب لا يعمل به عند اكثر، لأنا نقول لما ذكر في بيان حكم وقوع الدم في الثوب، واقتصر عليه دل على أنه لا غيره، إذ لو كان غيره لوجب البيان، ولكنه ورد في حديث عائشة: ما كان لإِحدانا إلا ثوب واحد تحيض فيه، فإذا أصابه شيء من دم الحيض قالت بريقها، فمضغته بظفرها (¬2)، ولأبي داود: (بلته) (أ) بريقها. فلو كان الريق لا يطهر لزاد النجاسة، ولعله يقال: هذا لا يعارض فإنه موقوف وذلك مرفوع والمرفوع أحق بالاعتبار. 28 - وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قالت خولة: يا رسول الله، فإن لم يذهب الدم؟ قال "يكْفِيكِ الماءُ، ولا يَضُرُّكِ أثرهُ"، أخرجه الترمذي وسنده ضعيف (¬3). وأخرج أحمد وأبو داود في (ب) طريق ابن الأعرابي والبيهقي (¬4) عن خولة بنت ¬

_ (أ) في نسخة الأصل، وهـ، وب: تبينه، والصحيح: بلته كذا في أبي داود 1/ 254 حديث 358. (ب) في جـ: من.

يسار قالت: سألت النبي - صلى الله عليه وسلم - عن دم الحيض، فقال: "اغسليه"، فقلت: اغسله فيبقى أثره، فقال: - صلى الله عليه وسلم -: "الماء يكفيك ولا يضرك أثره" وفيه ابن لَهِيعَة" (¬1). قال إبراهيم الحربي (أ): لم يسمع بخولة (ب) بنت يسار إلا في هذا الحديث، ورواه الطبراني (¬2) في الكبير من حديث خولة بنت حكيم، وإسناده أضعف من الأول، وأخرج الدارمي (¬3) موقوفا على (جـ) عائشة أنها قالت: "إذا غسلت المرأة الدم فلم يذهب، فلتغيره بصفرة أو زعفران، ورواه أبو داود (¬4) بلفظ: قلت لعائشة في دم الحيض يصيب الثوب قالت: تغسله فإن لم يذهب أثره فلتغيره بشيء من صفرة (د). والحديث يدل على (هـ) أنه يكفي في إزالة النجاسة الماء، ولا يجب استعمال شيء آخر من الحواد وهو مذهب المؤيد بالله وأبي طالب (¬5) والناصر والمنصور ¬

_ (أ) في ب: الحراني. (ب) في ب: لخولة. (جـ) في جـ: عن. (د) في جـ: الصفرة. (هـ) ساقطة من هـ.

وأكثر أصحاب أبي حنيفة وأكثر أصحاب الشافعي، وذهب الهادي والشافعي إلى وجوب استعمال الحاد الذي يعتاد فعله في البلد وميلها (أ)، قال في البحر (¬1): لقولة - صلى الله عليه وسلم - "ثم اقْرُصِيه"، وقوله: "أمطْهُ عَنْك باذخِرة"، ولمطابقته المقصود من الطهارة، وهو أن يكون المصلي على أكمل هيئة وأحسن زينة. اهـ، وقد عرفت أن ما ذكر لا يفيد المطلوب فإن القرص إنما هو فركه بالأصابع، والإِماطة بالإِذخرة إنما هو دليل لمن (ب) قال: المني طاهر فإنه اكتفى بإماطته من دون غسل فالقول الأول أظهر، واتفقوا على أنه يعفى عما بقي بعد استعمال الحاد، وأن أثر (جـ) المتنجس لا يجب استعمال الحاد له، وأن التغيير (د) للأثر بالصفرة إنما هو ندب إلا عند داود فيجب لظاهر أمر عائشة. (اشتمل باب إزالة النجاسة على سبعة أحاديث) (هـ). ¬

_ (أ) في هـ: ومثلها. (ب) في جـ: من (جـ) ساقطة من جـ. (د) في هـ: التغير. (هـ) بهامش الأصل.

باب الوضوء

باب الوضوء 29 - عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "لولا أن أشُقَّ على أمتي لأمرتهم بالسِّواك مع كِّل وضوء" أخرجه مالك وأحمد والنسائي وصححه ابن خزيمة وذكره البخاري تعليقا (¬1). الحديث متفق عليه من حديث أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة، رواه البخاري من حديث مالك (¬2)، ومسلم من حديث ابن عيينة (¬3) وهذا لفظه، كلاهما عنه. قال ابن مندة: وإسناده مجمع على صحته، وقال النووي: غلط بعض الكبار فزعم أن البخاري لم يخرجه (¬4)، وهو في الموطأ موقوف على أبي هريرة (¬5)، ورفعه (أ) عن مالك الشافعي. وفي الباب عن زيد بن خالد رواه الترمذي وأبو داود (¬6)، وعن علي (¬7) رواه ¬

_ (أ) في ب: فرفعه.

أحمد، وعن أم حبيبة (¬1) رواه أحمد أيضًا، وعن عبد الله بن عمرو وسهل بن سعد وجابر وأنس رواها (أ) أبو نعيم في كتاب السواك وإسناد (ب) بعضها حسن، وعن ابن الزبير رواه الطبراني (¬2)، وعن ابن عمر (¬3) وجعفر بن أبي طالب رواهما الطبراني أيضًا. ولفظ السواك بكسر السين، قال أهل اللغة: يطلق على الفعل وعلى الآلة وذكر صاحب المحكم (¬4) أنه يذكر ويؤنث، يقال: ساك فمه يسوكه سوكا، فإن قلت: استاك لم تذكر الفم، وجمع السواك: سوك ككتاب وكتب، وقيل إن السواك مأخوذ من ساك إذا دلك، وقيل: من جاءت الإِبل تتساوك أي تتمايل هزالا، وهو في اصطلاح العلماء: استعمال عود أو نحوه في الأسنان ليذهب الصفرة وغيرها، والسواك سنة وليس بواجب إجماعا (¬5)، وقد حكي الخلاف عن داود فقال واجب (¬6)، ولا تفسد (الصلاة) (جـ) بتركه، وعن إسحاق بن راهويه (¬7) فقال: واجب وتفسد الصلاة بتركه عمدا، وقد أنكرت الرواية عنهما (¬8). أو مسبوقان بالإجماع، فلا اعتداد (د). ¬

_ (أ) في جـ: رواه. (ب) في ب: وإسناده. (جـ) بهامش الأصل. (د) زاد في هـ: بقولهما.

والحديث صريح في عدم الوجوب، وقوله: لأمرتهم، أي أمر إيجاب، وهو دليل أيضًا على أن الأمر حقيقة في الوجوب، إذ السواك مسنون إجماعا وما ورد من الأمر به فهو محمول على الندب كحديث (أ) أبي أمامة (¬1) مرفوعًا: تسوكوا فإن السواك مطهرة (ب) للفم. أخرجه ابن ماجه وفيه علي بن يزيد الألهاني (¬2)، وهو ضعيف جدا، وحديث العباس مرفوعًا: "تدخلون عليّ قلحا (¬3)، استاكوا". رواه البزار (¬4) في مسنده، وروى (جـ) أحمد في مسنده من حديث تمام عن العباس بلفظ: "ما لي أراكم تأتوني قلحا؟ استاكوا" (¬5). رواه البيهقي في سننه من حديث ابن عباس: "عليك بالسواك فإنه مطهرة للفم" (¬6). وفيها أبو علي الصيقل وهو مجهول، قاله ابن السكن وغيره. وحديث ابن عباس تفرد به الخليل بن قرة، وهو منكر الحديث، كما قال البخاري. واعلم أن السواك يستحب في جميع الأوقات، ويشتد استحبابه في خمسة ¬

_ (أ) في هـ: لحديث. (ب) في هـ: مطهر. (جـ) في ب وجـ: رواه.

أوقات أحدها: عند الصلاة سواء كان متطهرا بماء أو تراب أو غير متطهر كمن لم يجد ماء ولا ترابا. الثاني: (أعند الوضوء، الثالث أ): عند قراءة القرآن. الرابع عند الاستيقاظ من النوم. الخامس: عند تغير الفم، وتغيره يكون بأشياء منها: ترك الأكل والشرب، ومنها: أهل ما له رائحة كريهة، ومنها: طول السكوت، ومنها: كثرة الكلام. ومذهب الشافعي (¬1) أن السواك يكره للصائم بعد زوال الشمس لئلا تزول رائحة الخلوف المستحبة، ويستحب أن يستاك بعود من أراك، وبأي شيء استاك مما يزيل التغيير (ب) كالخرقة الخشنة والسعد والأشنان، والإِصبع إن كانت لينة لم يحصل بها السواك، وإن كانت خشنة ففيها ثلاثة أوجه للشافعية، المشهور: لا تجزئ، والثاي تجزئ، والثالث تجزئ إن لم يجد غيرها، والمستحب أن يستاك بعود متوسط لا شديد اليبس يجرح ولا رطب لا يزيل، ويستاك عرضا لا طول لئلا يدمي لحم أسنانه، وأن يمر السواك أيضًا على طرف أسنانه وكرسي أضراسه، وسقف حلقه إمرارا لطيفا، وأن يبدأ في سواكه بالجانب الأيمن من فمه، ولا بأس باستعمال سواك غيره بإذنه، وأن يعود الصبي السواك ليعتاده. وفي الحديث دليل على جواز الاجتهاد (¬2) للنبي - صلى الله عليه وسلم - فيما لم يرد فيه نص من ¬

_ (أ) ما بينهما بهامش هـ. (ب) في ب: التغير.

الله تعالى، وهذا مذهب أكثر الفقهاء وأصحاب الأصول، وفيه بيان ما كان النبي (أ) - صلى الله عليه وسلم - عليه من الرفق بأمته (ب)، وفيه دليل على فضيلة السواك عند كل صلاة، وفي رواية مسلم: "عند كل صلاة" (¬1) فإن قيل: من أين أخذ سنيته، وحديث الباب إنما مفهومه رفع وجوبه خشية المشقة ورفع الوجوب أعم من السنة؟ قلت: لما دل الحديث على ما ذكر، وعلم (جـ) مواظبة (د) النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأن ذلك ليس خاصا به كان مع ذلك مشروعا في (حقنا) للتأسي به، وقد ارتفع الوجوب، فتعين الندب والسنة لأنه صار عادة وطريقة منه - صلى الله عليه وسلم - والله سبحانه أعلم (¬2). وأيضًا فلما في تلك الأحاديث من الأمر كان كان فيها ضعف (ز) فبعضها مقو للبعض. وحديث أبي أيوب: أربع من سنن المرسلين، (الحناء) (ح) والسواك والتعطر والنكاح. رواه أحمد والترمذي (¬3)، ورواه ابن أبي خيثمة وغيره من ¬

_ (أ) في هـ: للنبي. (ب) في هـ: لأمته. (جـ) زاد في جـ: من. (د) في ب وهـ.: مواظبته. (هـ) ما بينهما بهامش هـ. (و) في ب: صعيف. (ز) في النسخ: الختان، (والتصحيح من أبي داود والطبراني، وفي البدر والتلخيص: الختان 1: 104 التلخيص 1/ 77.

حديث مليح بن عبد الله عن أبيه عن (¬1) جده نحوه، ورواه الطبراني (¬2) من حديث ابن عباس وحديث عائشة (¬3) عشر من الفطرة فذكر فيها السواك. رواه مسلم، وأبو داود من حديث عمار (¬4)، وحديث أبي هريرة: الطهارات أربع فذكر فيها (أ) السواك. رواه (ب) البزار ورواه الطبراني (¬5) من حديث أبي الدرداء، وحديث أم سلمة (¬6): ما زال جبريل - عليه السلام - يوصينى بالسواك حتى خشيت أن يدردني (¬7). رواه الطبراني والبيهقي، ورواه ابن ماجه من حديث أبي أمامة (¬8)، ورواه الطبراني (¬9) من حديث سهل بن سعد، ورواه أبو نعيم من حديث جبير بن مطعم وأبو الطفيل وأنس والمطلب بن عبد الله ورواه أحمد (¬10) من طريق ابن عباس ورواه ابن السكن من حديث عائشة، وحديث عائشة (¬11): فضل الصلاة التي يستاك لها على التي لا يستاك لها بسبعين ضعفا. رواه أحمد وابن خزيمة والحاكم والدراقطني، وغيرهم، وغر ذلك من الأحاديث فهي قاضية بشرعيته، وإن أفهم بعضها الوجوب فهو مدفوع بحديث الباب فبقى (جـ) السنية. ¬

_ (أ)، (ب) سقطنا من هـ. (جـ) في جـ: فبقيت.

فائدة: ورد في تعيين ما يستاك به حديث وفد عبد القيس: فأمر لنا بأراك وقال: استاكوا بهذا (¬1)، وذكر البخاري في تاريخه (¬2) نحوا من هذا في قصتهم وفي مسند أبي يعلى من حديث ابن مسعود قال: "كنت أجتني لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - سواكا بن أراك" (¬3)، وروى أبو نعيم في معرفة الصحابة من ترجمة أبي زيد الغافقي (أ) رفعه "الأسوكة ثلاثة: أراك، فإن لم يكن (ب) أراك فعنم أو بطم" (¬4)، قال راويه: العنم: الزيتون (¬5)، وروى الطبراني من حديث معاذ رفعه: "نعم السواك الزيتون من شجرة مباركة يطيب الفم ويذهب الحفر، وهو سواكي وسواك الأنبياء قبلي" (¬6)، وسواك عبد الرحمن بن أبي بكر الذي شق للنبي - صلى الله عليه وسلم - في مرضه، وقع في البخاري "أنه كان جريدة رطبة" (¬7)، ووقع في المستدرك "أنه أراك رطب" (¬8)، ونهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن السواك بعود الريحان، وقال: "إنه يحرك عرق الجذام"، ذكره ابن أبي شامة في مسنده، وهو مرسل ضعيف (¬9)، وورد في الاستياك بالإِصبع من حديث أنس: يجزئ من السواك الأصابع. ¬

_ (أ) في جـ: العاملي. (ب) زاد في هـ: يجد.

رواه ابن عدي والدارقطني والبيهقي (¬1)، ومن حديث علي (¬2) -رضي الله عنه- أنه دعا بكوز من ماء، فغسل وجهه وكفيه ثلاثا وتمضمض فأدخل بعض أصابعه في فيه رواه أحمد، وقريب منه من حديث عثمان (¬3). رواه أبو عبيد في كتاب الطهور، وروى (أ) الطبراني في الأوسط (¬4) من حديث عائشة، قلت: يا رسول الله الرجل يذهب فوه، أيستاك؟ قال: نعم. قلت: كيف يصنع؟ قال: يدخل إصبعه في فيه. وفيه الوليد بن مسلم، ضعفه ابن حبان (¬5). قال في البدر المنير (¬6): قد ذكر في السواك زيادة على مائة حديث فواعجبا لسنة يأتي فيها الأحاديث الكثيرة ثم يهملها كثير من الناس بل كثير من الفقهاء، فهذه خيبة عظيمة. قال ابن دقيق العيد: السر في استحباب السواك عند القيام إلى الصلاة أنا مأمورون في كل حالة من أحوال التقرب إلى الله تعالى أن نكون في حال كمال ¬

_ (أ) في ح: ورواه.

ونظافة إظهارًا لشرف العبادة (¬1)، وقد روى البزار (¬2) في مسنده من حديث عليّ ابن أبي طالب - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن العبد إذا تسوك ثم قام يصلي قام الملك خلفه، فيستمع (أ) لقراءته، فيدنو منه، أو كلمة نحوها، حتى يضع فاه على فيه فما يخرج من فيه شيء إلا صار في جوف الملك فطهروا أفواهكم (ب) للقرآن". ورجاله رجال الصحيح، وفيه فضيل بن سليمان النميري وهو كان أخرج (جـ) له البخاري ووثقه ابن حبان فقد ضعفه الجمهور (¬3). 30 - وعن حُمران أن عثمان - رضي الله عنه - دعا بوضوء، فغسل كفيه ثلاث مرات ثم مَضْمَضَ واسْتَنْشَقَ واسْتَنثَرَ، ثم غسل وجهه ثلاث مرات، ثم غسل يده اليمنى إلى المِرْفَق ثلاث مرات، ثم اليُسرى مثل ذلك، ثم مسح برأسه، ثم غسل رجله اليمنى إلى الكعبين ثلاث مرات، ثم اليسرى مثل ذلك ثم قال: "رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - توضأ (د) نحو وضوئي هذا" متفق عليه (¬4). ¬

_ (أ) في جـ: فيسمع. (ب) في هـ: أفواههم. (جـ) في جـ: أخرجه. (د) في ب: يتوضأ.

وتمام الحديث: فقال: "من توضأ نحو وضوئي هذا ثم صلى ركعتين لا يحدث فيهما نفسه غفر له ما تقدم من ذنبه". هو حمران بضم الحاء وسكون الميم والراء المهملة، ابن أبان بفتح الهمزة وفتح الباء الموحدة وهو ابن عم صهيب بن سنان من سبي عين التمر، سباه خالد بن الوليد فوجده غلاما كيسا أحمر فوجهه إلى عثمان (¬1) فأعتقه، صحيح الحديث، حديثه عند أهل المدينة. روى عن عثمان بن عفان وروى عنه عروة بن الزبير ومحمد بن المنكدر وزيد بن أسلم. الوضوء بفتح الواو اسم الماء وبضمها (أ) الفعل على الأكثر وحكى في كل منهما الاطراد وهو مشتق من الوضاءة لأن المصلي يتنظف به فيصير وضيئا، وهو يحتمل أن يكون اسما للماء المعد للوضوء فلا يصلح احتجاج القائل بأن الماء المستعمل طاهر بحديث جابر "فصب عليَّ من وضوئه" (¬2) وأن يكون اسما للماء الذي وقع به الفعل وهو ما انفصل عن الأعضاء فيصلح الاحتجاج بالحديث المذكور. قوله: فغسل كفيه، هذا دليل على أن غسلهما في الوضوء سنة (¬3) وهو كذلك باتفاق العلماء، وقوله ثم مضمض، ثم: مشعرة بالترتيب على حقيقة وضعها والمضمضة مشعرة بالتحريك (¬4)، ومنه مضمض النعاس في عينيه، واستعملت هنا لتحريك الماء في الفم، وقيل: المضمضة أن تجعل الماء في الفم، ¬

_ (أ) في جـ: وبفتحها.

ثم تمجه، فعلى هذا لو ابتلع لم يفعل المضمضة، وعند أصحاب الشافعي (¬1) كمالها أن يجعل الماء في فيه، ثم يديره فيه، ثم يمجه، وأقلها أن يجعل الماء في فيه ولا يشترط إدارته على المشهور عندهم وعند بعضهم يشترط. وأما الاستنشاق فهو إيصال الماء إلى داخل الأنف وجذبه بالنفس إلى أقصاه، ويستحب المبالغة فيهما إلا أن يكون صائما والاستنثار: قال جمهور (أ) أهل اللغة والفقهاء والمحدثين هو إخراج الماء من الأنف بعد الاستنشاق (¬2)، وقال ابن الأعرابي وابن قتيبة (¬3) هو الاستنشاق، والصواب الأول بدليل العطف، وهو مأخوذ من النثرة وهي طرف الأنف، وقال الخطابي (¬4) وغيره هي الأنف واهور الأول. قال الأزهري (¬5) روى سلمة عن الفراء أنه يقال: نثر الرجل وانتثر واستنثر (ب) إذا حرك النثرة في الطهارة، ولا كراهة في اجتذاب الماء من دون إعانة اليد وقد حكي عن مالك الكراهة لكونه يشبه فعل الدابة والمستحب أن يكون باليسرى (¬6) بوب عليه النسائي (¬7) وأخرجه مقيدا بها من حديث علي. وقوله: ثم غسل وجهه، الوجه: مشتق من المواجهة، والفقهاء اعتبروا هذا الاشتقاق وبنوا عليه أحكاما. وقوله: ثلاثا، يفيد استحباب هذا العدد في كل ما ذكر فيه (جـ)، وقوله: إلى ¬

_ (أ) ساقطة من جـ. (ب) بهامش هـ. (جـ) ساقطة من جـ.

المرافق، المرفق فيه ثلاث لغات: بكسر الميم وفتح الفاء، وبفتح الميم وكسر الفاء كمسجد، وبفتح الميم والفاء كمطلع، وإلى موضوعة للانتهاء، وقد تستعمل بمعنى مع ولكن بين (أأن المراد بها في الآية (¬1) الثاني فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث جابر "كان يدير الماء على أ) مرفقيه (¬2) " أخرجه الدارقطني بسند ضعيف، وأخرج بسند حسن من حديث عثمان في صفة الوضوء: "فغسل يديه إلى المرفقين حتى مسح أطراف العضدين" (¬3) وفي البزار (¬4) والطبراني من حديث وائل بن حجر في صفة الوضوء، وغسل ذراعيه حتى جاوز المرفق، وفي الطحاوي والطبراني من حديث ثعلبة بن عباد عن أبيه مرفوعًا، ثم غسل ذراعيه حتى يسيل الماء على مرفقيه (¬5). فهذه الأحاديث يقوي بعضها بعضا، قال إسحاق بن (¬6) راهويه. إلى في الآية يحتمل أن يكون بمعنى الغاية وأن تكون بمعنى مع، فبينت السنة أنها بمعنى مع قال الشافعي في الأم: "لا أعلم مخالفا في إيجاب دخول المرفقين في الوضوء" (¬7)، وقد خالف في ذلك زفر (¬8) وهو محجوج على هذا بالإجماع قبله ¬

_ (أ) ما بينهما بهامش هـ.

وكذا من قال بقوله من أهل الظاهر، ولم يثبت مثل ذلك عن مالك صريحا، وإنما حكى عنه أشهب كلاما محتملا (¬1) وقال الزمخشرى (¬2): لفظ "إلى" يفيد معنى الغاية مطلقا فأما دخولها في الحكم وخروجها فأمر يدور مع الدليل، فقوله تعالى: {ثم أتموا الصيام إلى الليل} (¬3) دليل عدم الدخول (أ) النهي عن الوصال، وقول القائل: حفظت القرآن عن (ب) أوله إلى آخره، دليل الدخول كون كلامه مسوقا لحفظ جميع القرآن وقوله تعالى: {إلى المرافق}، لا دليل فيه على أحد الأمرين، قال: فأخذ العلماء بالاحتياط، ووقف زفر مع المتيقن انتهى (¬4) (¬5). وقوله: ثم مسح برأسه، قال القرطبي: الباء للتعدية يجوز حذفها وإثباتها كقولك (جـ): مسحت رأس اليتيم، ومسحت برأسه، وقيل (د) دخلت الباء لتفيد معنى آخر وهو أن الغسل لغة يقتضي مغسولا به والمسح لغة لا يقتضي ممسوحا به (هـ) فلو قال: وامسحوا رؤوسكم لأجزأ المسح باليد بغير ماء، فكأنَّه قال: وامسحوا برؤوسكم الماء وهو من باب القلب، والأصل: وامسحوا رؤوسكم بالماء، والظاهر أنه يجب مسح الرأس جميعه إذ هو اسم للكل، وقال الشافعي (¬6): احتمل قوله تعالى: {وامسحوا برؤوسكم} جميع الرأس أو بعضه، ¬

_ (أ) في جـ: لدخول. (ب) في هـ: من. (جـ) في جـ: وقد. (د) في جـ: وقد. (هـ) ساقطة من جـ.

ودلت السنة أن بعضه يجزئ والفرق بينه وبين قوله تعالى: فامسحوا بوجوهكم في آية التيمم أن المسح فيه بدل عن الغسل (أ) ومسح الرأس أصل وافترقا، ولا يرد كون مسح الخف بدلا عن غسل الرجل لأن الرخصة فيه ثبتت بالإِجماع، والسنة هو ما رواه الشافعي من حديث عطاء "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - توضأ فحسر العمامة عن رأسه ومسح مقدم رأسه" (¬1)، وهو مرسل، لكنه اعتضد بمجيئه من وجه آخر موصولا، أخرجه أبو داود من حديث أنس (¬2)، وفي سنده أبو معقل، لا يعرف حاله، فقد اعتضد كل من المرسل والموصول بالآخر، وحصلت (ب) القوة من الصورة المجموعة (¬3)، وهذه قاعدة للشافعي في العمل بالمرسل (¬4). وفي الباب أيضًا عن عثمان في صفة الوضوء قال: ومسح مقدم رأسه. أخرجه سعيد بن منصور، وفيه خالد بن يزيد بن أبي مالك (¬5)، مختلف فيه، وصح عن ابن عمر الاكتفاء ببعض الرأس قاله ابن المنذر وغيره (¬6)، ولم ينكر عليه أحد من الصحابة، والحديث يدل على عدم تكرير المسح. وقوله: ثم غسل رجله اليمنى إلى الكعبين، وقوله: إلى الكعبين مثلما تقدم في ¬

_ (أ) في جـ: الأصل. (ب) في ب وجـ: وجعلت.

إلى (أ) المرفقين، والمشهور أن الكعب هو العظم الناشز عند ملتقى (ب) الساق والقدم، وحكى محمد بن الحسن (¬1) عن أبي حنيفة أنه العظم الذي في ظهر القدم عند معقد الشراك، وروي عن ابن القاسم عن مالك مثله، والأول هو الصحيح الذي يعرفه أهل اللغة، وقد أكثر المتقدمون الرد على من زعم ذلك، ومن أوضح الأدلة على ذلك حديث النعمان بن بشير الصحيح في صفة الصف في الصلاة "فرأيت الرجل منا يلزق كعبه بكعب صاحبه" (¬2). وقوله: نحو وضوئي ولم يقل مثل وضوئي، لأن حقيقة مماثلته - صلى الله عليه وسلم - لا يقدر (جـ) عليها غيره. وقوله: لا يحدث فيهما (د) نفسه (هـ)، المراد به لا يحدث بشيء من أمور الدنيا، وما لا يتعلق بالصلاة، ولو عرض له حديث فأعرض عنه بمجرد عروضه عفي عن ذلك، وحصلت له هذه الفضيلة إن شاء الله تعالى، لأن هذا ليس من تكليفه، وقد عفي لهذه الأمة عن الخواطر التي تعرض ولا تستقر، وقد أشار إليه بقوله: يحدث إذ هو في معنى يفعل التحديث ولا يكون ذلك إلا مع قصد واعتمال ذكره النووي (¬3). ¬

_ (أ) ساقطة من جـ. (ب) في جـ: ملقى. (جـ) في جـ: لم يقدر. (د) في جـ: فيها. (هـ) زاد في جـ: و.

قال المصنف (¬1) -رحمه الله- قد ثبت التعبير بمثل (أ) في رواية البخاري (¬2) في الرقاق ولمسلم (¬3) أيضًا في حديث حمران من طريق زيد بن أسلم وعلى هذا فالتعبير بنحو (ب من تصرف الرواة لأنها تستعمل بمعنى ب) مثل مجازا ولأدن مثل وإن كانت تقتضي المساواة ظاهرا لكنها تطلق على الغالب فبهذا تلتئم الروايتان ويكون المتروك بحيث لا يخل بالمقصود انتهى. والله أعلم) (جـ). وفي الحديث دلالة على استحباب الصلاة بعد الوضوء، وأن هذا من أسبابها ولذلك لا يكره في الأوقات المكروهة عند الشافعي (¬4)، وتحصل الفضيلة بصلاة الفريضة ونحوها، كما تحصل تحية المسجد بها. والحديث قد صرح فيه بأكمل حالات الوضوء من الترتيب والتثليث فيما عدا المضمضة والاستنشاق ومسح الرأس وتعميم الأعضاء بإفاضة الماء عليها ورتب على ذلك هذه الفضيلة (د المذكورة في تمام الحديث د) وظاهره أنه إذا لم يكن على الصفة المذكورة لم يستحق الفضيلة المذكورة، وأما أنه لا يحصل الوضوء الذي تجزئ به الصلاة المطلقة إلا بهذه الكيفية فلا، وفي ذلك تفصيل. أما الترتيب ففيه خلف الحنفية (¬5)، وأما التثليث فغير واجب إجماعا وقد ¬

_ (أ) ساقطة من هـ. (ب) ما بينهما بهامش هـ (جـ) ما بين القوسين بهامش الأصل. (د) ما بينهما ساقط من جـ.

صرح بذلك في الأحاديث الصحيحة من وضوئه مرتين ومرة (أ) وبعضها بالتثليث، والبعض بخلاف ذلك (¬1)، وأما المضمضة والاستنشاق فقال بوجوبهما (ب) الهادي والقاسم والمؤيد بالله (¬2) في الوضوء والغسل، قالوا: لأنهما من الوجه وقد ثبت الأمر بهما بإسناد صحيح أخرجه أبو داود في السنن قال في آخر الحديث: وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائما (¬3)، وقال في رواية ابن جريج بهذا الحديث: "إذا توضأت فتمضمض" (¬4) وقال الناصر والشافعي (¬5): إنهما سنة، قالا لقوله: "عصر من سنن المرسلين" (¬6) قلنا: لم يُرِد السنة الاصطلاحية وإنما أراد بها الطريقة والعادة، ولقوله للأعرابي: "توضأ كما أمرك الله" (¬7) فأحاله على الآية، وليس فيها ذكر الاستنشاق، وأجيب بأنه يحتمل أن يراد بالأمر ما هو أعم من آية الوضوء فقد أمر الله باتباع نبيه، ولم يحك أحد ممن وصف وضوءه على الاستقصاء أنه ترك الاستنشاق بل ولا المضمضة، وهذا قاض بالوجوب (ويرد على الجواب أن في رواية لأبي داود (¬8) والدارقطني: "لا تتم صلاة أحدكم حتى يسبغ الوضوء كما أمره الله (جـ) فيغسل وجهه ويديه إلى المرفقين ويمسح برأسه ¬

_ (أ) الواو ساقطة من جـ. (ب) في جـ: بوجوبها. (جـ) لفظ الجلالة غير موجود في جـ.

ورجليه إلى الكعبين وقد ذكره ابن حزم في المحلى) (¬1) (أ) وذكر ابن المنذر أن الشافعي لم يحتج إلا بكونه لم يعلم خلافا في أن تاركهما لا يعيد، وهذا دليل فقهي (¬2)، فإنه لا يحفظ ذلك عن أحد من الصحابة ولا التابعين إلا عن عطاء (¬3)، وثبت عنه أنه رجع عن إيجابه الإِعادة، ذكره ابن المنذر ولم يذكر في هذه الرواية عددا وقد ورد في رواية سفيان عن أبي الزناد ولفظه "وإذا استنثر فليستنثر وترا"، أخرجه الحميدي (¬4) في مسنده عنه، وأصله لمسلم وفي حديث أبي هريرة "فليستنثر ثلاثا، فإن الشيطان يبيت على خيشومه (¬5)، (وأخرج أبو داود من حديث المقدام بن معد يكرب الكندي قال: "أتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بوضوء فتوضأ فغسل كفيه ثلاثا ثم تمضمض واستنشق ثلاثا" (¬6) الحديث. وذكر أبو داود التثليث فيهما في أحاديث متعددة، فليرجع إلى السنن (¬7)) (ب) وأما مسح الرأس فليس في شيء من الصحيحين ذكر عدد للمسح، وبه قال أكثر العلماء (¬8)، وقال الشافعي (¬9) يستحب التثليث في المسح كما في الغسل، واستدل ¬

_ (أ) بهامش الأصل. (ب) بهامش الأصل.

بظاهر روايةٍ لمسلم (¬1) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - توضأ ثلاثا، وأجيب بأنه مجمل تبين في الروايات الصحيحة أن المسح لم يتكرر فيحمل على الغالب أو يختص بالمغسول. قال أبو داود في السنن: أحاديث الصحاح كلها تدل على أن مسح الرأس مرة واحدة (¬2) وبأن المسح مبني على التخفيف فلا يقاس على الغسل، وبأن العدد لو اعتبر في المسح لصار في سورة الغسل وبالغ أبو عبيد وقال (أ): لا نعلم أحدا من السلف استحب تثليث مسح (ب) الرأس إلا إبراهيم التيمي" (¬3)، وفيه نظر، فقد نقل عن أنس وعطاء وغيرهما (¬4)، وقد روى أبو داود (¬5) من وجهين صحيح أحدهما ابن خزيمة وغيره في حديث عثمان بتثليث الرأس، والزيادة مقبولة من الثقة) (جـ) (¬6). فائدة: قوله غفر له ما تقدم من ذنبه، ظاهر الحديث تعم الكبائر لكن العلماء خصوه بالصغائر لوروده مقيدا باستثناء الكبائر في غير هذه الرواية، وهو في حق من له كبائر وصغائر، ومن ليس له إلا صغائر كفرتها، ووقع في رواية البخاري في الرقاق (¬7) في آخر هذا الحديث: قال النبي - صلى الله عليه وسلم - "لا تغتروا" أي فتستكثروا ¬

_ (أ) في جـ: فقال. (ب) في جـ: مسحة. (جـ) ما بينهما بهامش ب.

من الأعمال السيئة بناء على أن الصلاة تكفرها، فإن الصلاة التي تُكَفر بها (أ) الخطايا هي التي يقبل الله، وأنى للعبد بالاطلاع على ذلك! 31 - وعن علي - رضي الله عنه - في. صفة وضوء النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ومسح برأسه واحدة" .. أخرجه أبو داود (¬1). (هو أمير المؤمنين أبو الحسن وأبو تراب علي بن أبي طالب، واسم أبي طالب عبد مناف، عم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأمه فاطمة بنت أسد بن هاشم، أسلمت وهاجرت، وهو أول من أسلم من الذكور في أكثر الأقوال، وقد اختلف في سنه يومئذ، فقيل: كان له خمس عشرة سنة، وقيل: ست عشرة، وقيل: أربع عشرة، وقيل: ثلاث عشرة، وقيل ثمان سنين، وقيل سبع سنين، وقيل عشر سنين؛ شهد مع النبي - صلى الله عليه وسلم - المشاهد كلها إلا تبوك، فاستخلفه على المدينة، وقال له في ذلك: "ألا ترضى (ب) أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى" (¬2) كان آدم شديد الأدمة عظيم العينين أقرب إلى القصر من الطول ذا بطن كثير الشعر عظيم اللحية أصلع أبيض الرأس واللحية لم يصفه أحد بالخضاب إلا نادرا، استخلف يوم قتل عثمان يوم الجمعة لثمان عشرة خلت من ذي الحجة سنة خمس وثلاثين، وضربه عبد الرحمن بن ملجم (جـ) المرادي بالكوفة صبيحة الجمعة لسبع عشرة ليلة خلت من شهر رمضان سنة أربعين، ومات بعد ثلاث من ضربته، وقيل: ¬

_ (أ) في هـ: نكفرها. (ب) بهامش هـ. (جـ) زاد في هـ: لعنه الله تعالى.

ضرب ليلة إحدى وعشرين، ومات ليلة الأحد، وقيل: يوم الأحد وغسله ابناه الحسن والحسين وعبد الله بن جعفر، وصلى عليه الحسن ودفن سحرا، وله من العمر ثلاث وستون (أ) وقيل: خمس وستون سنة (ب) وقيل: سبع، وقيل: ثمان وخمسون وكانت خلافته أربع سنين وتسعة أشهر وأياما (بر) روى عنه بنوه الحسن والحسين ومحمد، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن جعفر، وابن المسيب وأبو عبد الرحمن السلمي، وزيد بن وهب، وخلق كثير من الصحابة والتابعين (¬1)) (د). وأخرجه النسائي والترمذي بإسناد صحيح بل قال الترمذي: "إنه أصح شيء في الباب" (¬2) وأخرجه أبو داود (¬3) من ست طرق وفي بعض طرقه لم يذكر المضمضة والاستنشاق وفي بعضها: ومسح على رأسه حتى الماء يقطر، وقد تقدم الكلام في فقه الحديث. 32 - وعن عبد الله بن زيد بن عاصم - رضي الله عنه - في صفة الوضوء، قال: "ومسح - صلى الله عليه وسلم - برأسه، فَأقْبلَ بيدَيْه وأدبَرَ" متفق عليه. وفي لفظ: "بدأ بمقدم رأسه حتى ذهب بهما إلى قفاه ثم ردهما إلى المكان الذي بدأ منه" (¬4). ¬

_ (أ) زاد في هـ وجـ: سنة. (ب) ساقطة من جـ. (جـ) زاد في هـ: و. (د) بهامش الأصل.

هو أبو محمد عبد الله بن زيد بن عاصم بن عمرو الأنصاري المازني من بني مازن بن النجار، شهد أحدا ولم يشهد بدرا وهو الذي قتل مسيلمة الكذاب وشاركه وحشي، وقتل عبد الله يوم الحرة سنة ثلاث وستين. روى عنه عباد بن تميم وهو ابن أخيه، وابن المسيب، وهذا هو غير عبد الله بن زيد بن عبد ربه الذي سيأتي حديثه في رؤيا الأذان، وقد غلط الحفاظ سفيان بن عيينة لما قال: هو هو (¬1). وقوله في الحديث: ومسح برأسه، فأقبل بيديه وأدبر، هذا مستحب باتفاق العلماء فإنه طريق إلى استيعاب الرأس، ووصول الماء إلى جميع أصول (أ) شعره، وهذا إنما يستحب لمن كان له شعر، أما من لا شعر على رأسه لا يستحب له الرد، إذ لا فائدة فيه ولو رد (ب) في هذه الحالة لم يحسب الرد مسحة ثانية، لأن الماء صار مستعملا بالنسبة إلى ما سوى تلك المسحة. وقوله: بدأ بمقدم رأسه، ظاهر البخاري أنه من الحديث، وليس مدرجا من كلام مالك ففيه حجة على من قال: السنة أن يبدأ بمؤخر رأسه، (جـ أخذا من ظاهر قوله أقبل وأدبر فإن الإِقبال باليد إذا كان مقدما يكون من مؤخر الرأس جـ)، ويرد ¬

_ (أ) ساقطة في جـ. (ب) في ب وجـ: رده. (جـ) ساقطة من جـ.

عليه أن الواو لا تقتضي الترتيب، وقد ذكر البخاري في رواية سليمان بن بلال (أ) "وأدبر بيده وأقبل" (¬1) فلم يكن في ظاهره حجة، لأن الإِقبال والإِدبار من الأمور الإِضافية، ولم يعين (ب) ما أقبل إليه ولا ما أدبر عَنه، ومخرج الطريقين متحد فهما بمعنى واحد وعينت رواية (¬2) مالك البداءة بالمقدم، فيحمل قوله: أقبل على أنه من تسميته الفعل، ببدائة أي بدأ بقبل الرأس، وقيل في توجيهه غير ذلك وأصرح من ذلك ما أخرجه أبو داود من حديث المقدام"، قال: فلما بلغ مسح رأسه وضع كفيه على مقدم رأسه فأمرهما حتى بلغ القفا ثم ردهما إلى المكان الذي بدأ منه" (¬3). 33 - وعن عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما - في صفة الوضوء، قال: "ثم مسحَ برأسه، وأدخلَ إصبَعيه السَّباحَتَيْنِ في أُذنيه، ومسح بإبهاميْه ظاهرَ أذنيه" أخرجه أبو داود والنسائي وصححه ابن خزيمة (¬4). ¬

_ (أ) في هـ: يسار. (ب) في جـ: يغير.

(هو أبو عبد الرحمن، وقيل: أبو محمد عبد الله بن عمرو بن العاص بن وائل السهمي القرشي (أ) يلتقى مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في كعب بن لؤي، أسلم قبل أبيه، وكان أبوه أكبر منه بثلاث عشرة سنة، وقيل: اثنتي عشرة سنة، وكان عابدا عالما حافظا قرأ الكتب واستأذن النبي - صلى الله عليه وسلم - في أن يكتب حديثه (¬1)، فأذن له وقال: يا رسول الله: أكتب كل ما أسمع منك في الرضا والغضب؟ قال: نعم، فإني لا أقول إلا حقا" (¬2)، وقد اختلف في وفاته، فقيل: مات ليالي الحرة في (ب) ذي الحجة سنة ثلاث وستين، وقيل: سنة ثلاث وسبعين وقيل: مات بفلسطين من سنة خمس وستين، وقيل: مات بمكة سنة سبع وستين، وهو ابن اثنتين وسبعين سنة، وقيل: مات بالطائف سنة خمس وخمسين، وقيل: مات بمصر سنة خمس وستين (جـ) روى عنه مسروق وسعيد بن المسيب وأبو سلمة بن عبد الرحمن وعروة بن الزبير وحميد بن عبد الرحمن وخلق كثير سواهم) (¬3) (د). الحديث يدل على مسح الأذنين في الوضوء، وقد ورد ذلك في أحاديث كثيرة ¬

_ (أ) ساقطة من جـ. (ب) في جـ: من. (جـ) زاد في هـ: و. (د) بهامش الأصل.

كحديث عمرو بن أمية: أنه رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - مسح في وضوئه رأسه وأذنيه ظاهرهما وباطنهما، وأدخل أصبعيه في صماخي أذنيه" (¬1) وكحديث المقدام ابن معد يكرب بمثله أخرجه أبو داود والطحاوي، وإسناده حسن. وفي الباب عن الربيع بنت معوذ (¬2)، أخرجه أبو داود، وعن أنس (¬3) عند الدارقطني، والحكام، ومن حديث عبد الله بن زيد في صفة وضوء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه توضأ فمسح أذنيه بماء غير الماء الذي مسح به الرأس (أ)، أخرجه الحاكم بإسناد ظاهره الصحة (¬4)، وأخرجه البيهقي بلفظ فأخذ لأذنيه ماء خلال الماء الذي أخذ لرأسه وقال: هذا إسناد (¬5) صحيح لكن ذكر الشيخ تقي الدين بن ¬

_ (أ) في جـ: رأسه. (¬1) الحديث بهذا اللفظ من رواية المقدام بن معد يكرب ولم أقف عليه من رواية عمرو بن أمية ولعل المؤلف اختلط عليه النقل فإنه في التلخيص: حديث عمرو بن أمية أنه رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - توضأ ومسح على أذنيه، وبعده حديث المقدام بن عمرو بن معد يكرب. ولذا قال بمثله ولا يعرف لعمرو بن أمية حديث كحديث المقدام. وحديث المقدام أخرجه أبو داود 1/ 189 ح 123، والطحاوي 1/ 32، وتبع المؤلف في تحسينه ابن حجر في التلخيص وفيه عبد الرحمن بن ميسرة، وهو مقبول لكن العجلي وأبو داود وثقوه، التقريب 210، الخلاصة 235، وله شواهد أخرى ذكرها الشارح. (¬2) وطرفه كان رسول الله يأتينا. . وفيه مسح برأسه مرتين يبدأ بمؤخر رأسه ثم بمقدمه وبأذنيه كلتيهما ظهورهما وبطونهما. .) أبو داود 1/ 89 ح 126، والترمذي 1/ 48 ح 33 قال أبو عيسى هذا حديث حسن وحديث عبد الله بن زيد أصح من هذا وأجود إسنادا. قال الشيخ شاكر: والحديث صحيح وإنما اقتصر الترمذي على تحسينه ذهابا منه إلى أنه يعارض حديث عبد الله بن زيد ولكنهما عن حادثتين مختلفتين فلا تعارض بينهما حتى يحتاج إلى الترجيح فكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يبدأ بمقدمة رأسه وكان يبدأ بمؤخرة وكلاهما جائز. وقال المباركفوري: حسنه لأن فيه ابن عقيل وهو مختلف فيه وقد حسنه ابن حجر في التلخيص، وقال الذهبي: مستقيم الحديث وابن عقيل مختلف فيه، فهو صدوق في حديثه لين، فحديثه حسن والله أعلم، الترمذي 1/ 48، التلخيص 1/ 101، والتقريب 189، الذهبي على المستدرك 1/ 152. (¬3) الدارقطني باب ما روي من قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الأذنان من الرأس 1/ 106، قال ابن صاعد: هذا بقول الثقفي وغيره يرويه عن أنس عن ابن مسعود من فعله أخرجه الحاكم وفيه: وكان ابن مسعود يأمر بذلك، وقال: زائدة بن قدامة ثقة مأمون قد أسنده عن الثوري وأوقفه غيره 1/ 150. (¬4) الحاكم 1/ 151، وقد صححه من شاهده ووافقه الذهبي. (¬5) أخرجه البيهقي 10/ 65، وقال: إسناده صحيح.

دقيق العيد في الإِمام (1) أنه رأى في رواية ابن المقبري عن ابن (أ) قتيبة عن حرملة الراوي في إسناد الحاكم ولفظه: ومسح رأسه بماء غير فضل يديه (ب) لم يذكر الأذنين. • قال المصنف (2) -رحمه الله-: وهو كذا في صحيح ابن حبان (¬3) عن ابن أسلم عن حرملة، وكذا رواه الترمذي عن علي بن خشرم عن ابن وهب (¬4)، وقال عبد الحق: ورد الأمر بتجديد الماء للأذنين من حديث نمران بن جارية عن أبيه عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وتعقبه ابن القطان (¬5) بأن الذي في رواية ابن (جـ) جارية بلفظ: "خذ (د) للرأس ماء جديدا". رواه الترمذي والطبراني (¬6)، وفي الموطأ عن نافع عن ابن عمر "أنه كان إذا توضأ يأخذ (5) الماء بإصبعيه لأذنيه (¬7)، وأخرجه ابن حبان في صحيحه من حديث ابن عباس: "ثم غرف غرفة فمسح ¬

_ (أ) ساقطة من جـ. (ب) في جـ: يده. (جـ) ساقطة من جـ. (د) ساقطة من جـ. (هـ) في ب: فأخذ.

برأسه وأذنيه، وأدخلهما بالسبابتين وخالفت بإبهاميه إلى ظاهر أذنيه فمسح ظاهرهما وباطنهما" (¬1)، ولفظ النسائي: "ثم مسح برأسه وأذنيه ظاهرهما وباطنهما (بالسباحتين) (أ) وظاهرهما بإبهاميه" (¬2) وكذا في ابن ماجه والبيهقي. وأخرج أبو داود من حديث الربيع "فمسح برأسه ومسح ما أقبل منه وأدبر، وصدغيه وأذنيه مرة واحدة" (¬3) ومن حديثها أيضًا "مسح برأسه (ب) من فضل ما كان في يده" (¬4) ومن حديث ابن عباس (¬5): ومسح برأسه وأذنيه مسحة واحدة، ومن حديث عثمان "فمسح برأسه وأذنيه فغسل بطونهما وظهورهما مرة واحدة" (¬6) ومن حديث علي "فأخذ بهما (جـ) حفنة من ماء، فضرب بها على وجهه، ثم ألقم إبهاميه ما أقبل من أذنيه، وقال: أخذ قبضة من ماء فصبها على ناصيته، فتركها تسير على وجهه، وقال: ثم مسح رأسه وظهور أذنيه" (¬7). الحديث. ومن حديث أبي أمامة ذكر وضوء النبي - صلى الله عليه وسلم -: كان يمسح المأقين، قال (د): وقال: "الأذنان من الرأس" (¬8) قال سليمان بن حرب: ¬

_ (أ) في النسخ السبابتين: انظر تخرج الحديث. (ب) في جـ: رأسه. (جـ) في جـ: بأحديهما. (د) بهامش هـ.

يقولها (أ) أبو أمامة قال قتيبة: قال حماد (ب): لا أدرى هو (جـ) من قول النبي - صلى الله عليه وسلم - أو من أبي أمامة يعني قصة الأذنين (د)، أخرج المذكور أبو داود، وحديث الأذنين من الرأس قد روي من طرق، وفي جميعها مقال وأكثر هذه الروايات بأن مسح الأذنين ببقية ماء الرأس، وهو مذهب الأكثر، وبه قال أبو حنيفة ومالك وأحمد، وقال الشافعي: يؤخذ لهما ماء جديد. قال أصحابه: وكأنه - صلى الله عليه وسلم - كان يعزل من كل يد إصبعين يمسح بهما الأذنين (¬1)، وهذا خلاف الظاهر إلا أن (هـ) يقال: إن ما تقدم من حديث عبد الله بن زيد فيه زيادة (¬2)، فتقبل ويقرب معه التأويل، وسائر الأحاديث غير معارضة له لأنه إنما ذكر فيهما (و) مسح رأسه وأذنيه مجملا غير مبين أنه بماء واحد، وهذا فيه زيادة بيان فالعمل به أولى. والله أعلم. وقوله في الحديث (ز): السباحتين: السباحة والمسبحة هي الإِصبع التي تلي الإِبهام سميت بذلك لأنها يشار بها عند التسبيح، وهي السبابة أيضًا والمأقين، المأق (¬3) طرف العين مما يلي الأنف، وإنما كان يمسحهما، لأن العين قلما تخلو من شيء ترميه من كحل ورمص غيره. ¬

_ (أ) في جـ: بقولها (وفي النسخ: فئولها). (ب) في جـ: بتقديم حماد على قتيبة، وليس بصحيح. (جـ) في جـ: هل. (د) زاد في جـ: و. (هـ) في جـ: أنه. (و) في جـ وهـ: فيها. (ز) في هـ: حديث.

34 - وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا استيقظَ أحدُكم من منامه فلْيَسْتَنْثِرْ ثلاثا، فإن الشيطان يَبيتُ على خيْشُومِه" متفق عليه" (¬1). وله: "إذا استيقظ أحدكم من نومه فلا يغمس يده في الإِناء حتى يغسلها ثلاثا، فإنه لا يدري أين باتت يده". متفق عليه. وهذا لفظ مسلم (¬2). الحديث فيه دلالة على وجوب الاسْتِنْثار، وهو دليل من قال بوجوبه دون المضمضة كأحمد وإسحاق وأبي عبيد وأبي ثور، وقد تقدم الكلام عليهما (أ)، وفي أن الاستنثار هو في معني الاسْتِنْشاق (¬3)، وظاهر هذا وجوبه عند القيام مطلقا، والظاهر أنه لم يقل به أحد ولكنه مقيد في رواية البخاري في بدء الخلق: "إذا استيقظ أحدكم من منامه فتوضأ فليستنثر ثلاثا فإن الشيطان يبيت على خيشومه" (¬4). وعلى هذا فالمراد الأمر به عند إرادة الوضوء، والحكمة فيه (ب) ¬

_ (أ) في هـ وجـ: عليهم. (ب) في جـ: منه.

التنظيف لما (أ) فيه من المعونة على القراءة لأنه (ب) بتنقية مجري النفس تصح مخارج الحروف ويزداد للمستيقظ طرد الشيطان، والخيشوم (¬1) أعلى الأنف وقيل: هو الأنف كله، وقيل: هي عظام رقاق لينة في أقصى الأنف بينه وبين الدماغ، وقيل: غير ذلك. قال القاضي (¬2) عياض (جـ) يحتمل أن يكون على حقيقته فإن الأنف أحد منافذ الجسم التي يتوصل إلى القلب منها بالاشتمام، وليس من منافذ الجسم ما ليس عليه غلق سواه وسوى الأذنين. وفي الحديث "إن الشيطان لا يفتح غلقا" (¬3) وجاء (د) في التثاؤب الأمر بكظمه من أجل دخول الشيطان حينئذ في الفم. قال: ويحتمل أن تكون على الاستعارة فإن ما ينعقد من الغبار ورطوبة الخياشيم قذارة توافق الشيطان (¬4) والله أعلم. وقوله: إذا استيقظ أحدكم. . الحديث: ظاهر هذا وجوب غسل اليد وأنه يحرم غمسها في الإِناء، وقد قال بهذا الظاهر أحمد (¬5) بن حنبل، وخص الحكم بنوم الليل لقوله: "فإنه لا يدري أين باتت يده". وفي رواية عنه: الاستحباب في نوم النهار، لأن حقيقة المبيت تكون في الليل، وفي رواية لأبي داود ساق مسلم إسنادها (¬6): إذا قام أحدكم من الليل، وكذا ¬

_ (أ) زاد في ب: هو. (ب) في جـ: لأن. (جـ) ساقطة من جـ وزاد بعدها و. (د) ساقطة من هـ.

الترمذي (¬1) من وجه آخر صحيح، ولأبي عوانة في رواية (¬2) ساق مسلم إسنادها أيضًا: إذا قام أحدكم للوضوء حين يصبح"، لكن التعليل يقتضي إلحاق نوم النهار بنوم الليل وإنما خص نوم الليل بالذكر للغلبة. قال في شرح المسند (¬3): يمكن أن تكون الكراهة في نوم الليل أشد لأن احتمال ملامسة النجاسة أقرب لطوله عادة وقال الجمهور (¬4): بل الأمر محمول على الندب كما في رواية فليغتسل (أ)، والنهي على الكراهة كما في رواية الكتاب، والقرينة لهم على هذا الحمل التعليل بأمر يقتضي الشك لأن الشك لا يقتضي وجوبا (ب) في هذا الحكم استصحابا لأصل الطهارة (¬5)، واستدل أبو عوانة على عدم الوجوب بوضوئه - صلى الله عليه وسلم - من الشن المعلق بعد قيامه من النوم (جـ) في حديث ابن عباس (¬6)، وتعقب بأن قوله: أحدكم يقتضي اختصاصه بغيره (د) - صلى الله عليه وسلم -، وأجيب بأنه صح عنه - صلى الله عليه وسلم - غسل يديه قبل إدخالهما في الإِناء حال اليقظة، فاستحبابه بعد (هـ) النوم (جـ) أولى، ويكون تركه ¬

_ (أ) في هـ وب: فليغسل. (ب) في جـ: وجوبها. (جـ) ما بينهما بهامش ب. (د) في ب لغيره. (هـ) في جـ: عقيب.

بيانا للجواز، وهذا في حق المستيقظ، وأما من أراد الوضوء من غير نوم فالغسل مستحب لما مر في صفة وضوء النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬1)، ولا يكره الترك لعدم ورود (أ) النهي فيه، وإن كان قد روي عن أبي هريرة "أنه كان يفعله ولا يرى تركه" (¬2) واتفقوا على أنه لو غمس يده لم يضر الماء (¬3). وقال إسحاق وداود والطبري (¬4): بل يتنجس للأمر بإراقته في رواية أخرجها ابن عدي ولكنه حديث ضعيف (¬5)، ولا تزول الكراهة عند الجمهور بأقل من ثلاث غسلات للتصريح بها في رواية مسلم، وإن كانت رواية مالك أخرجها البخاري: "فليغسل يده قبل أن يدخلها". من دون ذكر عدد، وحديث "لا يغمس": أبين في المراد من حديث: "لا يدخل"، فإن مطلق الإِدخال لا يترتب (ب) عليه كراهة كما إذا كان الإِناء واسعا واغترف منه بآلة من دون أن يلامس (جـ) الماء. وقوله: في الإِناء، المراد به إناء الوضوء، وكذا قد ورد التصريح بالوضوء في رواية البخاري، قال (د): في وضوئه (¬6)، أي الإِناء الذي أعد للوضوء ويلتحق (هـ) به إناء الغسل وسائر الآنية استحبابًا من دون كراهة، وخرج بذكر ¬

_ (أ) في جـ: وجوب. (ب) في هـ: لا يترب. (جـ) في هـ: يلمس. (د) زاد في جـ: و. (هـ) في جـ: ويلحق.

الإِناء البرك والحياض التي لا تفسد بغمس اليد فيها على تقدير نجاستها فلا يتناولها النهي. وقوله: "فإنه لا يدري أين باتت يده"، فيه إشارة إلى أن العلة احتمال النجاسة، فيحمل عليه من شك في يده ولو كان مستيقظا بجامع الاحتمال ويقتضي أن من علم أين باتت يده، كمن لف عليها خرقة فاستيقظ وهي على حالها أن لا كراهة وإن كان (أ) غسلها مستحبا كما في المستيقظ، ومن قال بأن الأمر للتعبد (¬1) فلا يفرق بين شاك ومتيقن. وقوله: "أين باتت لِده"، يعني من جسده، قال الشافعي (¬2): كانوا يستجمرون وبلادهم حارة فربما عرق أحدهم إذا نام فيحتمل أن تطوف يده على المحل أو (ب) على بثرة أو دم حيوان أو قذر غير ذلك. وفي الحديث الأخذ بالوثيقة، والعمل بالاحتياط في العبادة. والكناية عما يستحيى منه إذا حصل الإفهام بها، وغسل النجاسة ثلاثا استحبابا لأنه أمر بالتثليث عند توهمها فعند تيقنها أولى، واستدل به على التفرقة بين ورود الماء على النجاسة، وورود النجاسة على الماء وهو ظاهر (¬3)، وعلى أن النجاسة تؤثر في الماء وهو صحيح وإن لم يتغير، وقد استنبط (جـ) قوم منه فوائد منها: أن موضع الاستنجاء مخصوص بالرخصة في جواز الصلاة مع بقاء أثر النجاسة عليه. قاله (د) الخطابي (¬4): ومنها: إيجاب الوضوء من النوم. قاله ابن عبد البر (¬5): ومنها: ¬

_ (أ) ساقطة من جـ. (ب) في هـ. و. (جـ) في هـ: استيقظ. (د) في النسخ: قال، وفي الفتح: قاله، 1/ 265.

تقوية من يقول بالوضوء من مس الذكر، حكاه أبو عوانة في صحيحه عن ابن عيينة. ومنها: أن القليل مستعمل بإدخال اليد فيه لمن أراد الوضوء، قاله الخفاف صاحب الخصال من الشافعية (¬1). 35 - وعن لَقِيط بن صَبِرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَسْبِغ الوضوء، وخلِّل بيْن الأصابع، وبالغْ في الاسْتِنْشاق إلَّا أن تكون صائما" أخرجه الأربعة وصححه ابن خزيمة (¬2). ولأبي داود في رواية: "إذا توضأت فمضمض" (¬3). هو لقيط (أ) بفتح اللام وكسر القاف، ابن صبرة بفتح الصاد الهملة وكسر الباء الموحدة ابن عبد الله بن المنتفق بضم الميم وسكون النون وفتح التاء الفوقية وكسر الفاء وبعدها قاف، كنيته: أبو رزين صحابي مشهور عداده في أهل الطائف، هكذا نسبه غير واحد من الأئمة، ومنهم من يجعل (ب) لقيط بن عامر غير لقيط بن صبرة وليس بشيء، وعامر هذا المنتسب إليه هو (جـ) أبو المنتفق. روي عنه ابنه عاصم وابن عمر وعمرو بن أوس ووكيع بن عديس، ورزين بفتح الراء وكسر الزاي وبالياء بعدها نون (¬4). ¬

_ (أ) زاد في هـ: ابن صبرة. (ب) في ب: جعل. (جـ) في جـ: تقدمت "هو" على المنتسب.

الحديث أخرجوه وأحمد والشافعي وابن الجارود وابن حبان والحاكم والبيهقي من طريق إسماعيل بن كثير المكي عن عاصم بن لقيط بن صبرة عن أبيه مطولا ومختصرا، قال الخلال: عن أبي داود عن أحمد: عاصم لم يسمع منه بكثير رواية. انتهى. ويقال: لم يرو عنه غير إسماعيل وليس بشيء، لأن روى عنه غيره وصححه الترمذي والبغوي وابن القطان، وهذا اللفظ عندهم من رواية وكيع عن الثوري عن إسماعيل بن كثير عن عاصم، وروى الدولابي (¬1) في حديث الثوري من (أ) جمعه، من طريق ابن مهدي عن الثوري ولفظه: "وبالغ في المضمضة والاستنشاق إلا أن تكون صائما". وقوله: أسبغ الوضوء، (الإِسباغ في اللغة الإِتمام) (ب)، والمراد بالإِسباغ: الإِيفاء واستكمال الأعضاء والحرص على أن يتوضأ على وجه يصح عند جميع العلماء، ولا يترخص بالاختلاف، ويغسلها ثلاثا، وهذا أتم الوضوء، وقد أجمع (¬2) العلماء على كراهة الزيادة على الثلاث، فلو شك: هل غسل ثلاثا أو اثنتين جعل ذلك اثنتين، وأتي بثالثة إذ الأصل عدم الغسل، وهذا هو الصواب الذي قاله الجماهير من العلماء،. وقال الشيخ (¬3) أبو محمد الجويني: يجعل ذلك ثلاثا، ولا يزيد عليها مخافة (جـ) من ارتكاب البدعة، (وقد روى ابن المنذر بإسناد صحيح أن "ابن عمر كان يغسل رجليه في الوضوء سبع ¬

_ (أ) زاد في جـ: كتاب. (ب) بهامش الأصل. (جـ) في جـ: وخاف.

مرات" (¬1) (أ) وكأنه بالغ فيهما دون غيرهما لأنهما محل الأوساخ غالبا، لاعتيادهم المشي حفاة. والله أعلم) (ب). وقوله: وخلل بين الأصابع، ظاهره أصابع اليدين والرجلين جميعا وقد ورد مصرحا به في حديث ابن عباس: "إذا توضأت فخلل أصابع يديك ورجليك" (¬2). قال الرافعي (¬3) رواه الترمذي. وقال المصنف (¬4) -رحمه الله تعالى- ورواه أيضًا أحمد وابن ماجه والحاكم (¬5) وفيه صالح مولى التوأمة، وهو ضعيف، ولكن حسنه البخاري لأنه من رواية موسى بن عقبة عن صالح، وسماع (جـ) موسى منه قبل أن يختلط (¬6). وكيفية تخليل أصابع الرجلين أن يخلل بيده اليسرى بالخنصر منها ويبدأ بأسفل الأصابع، وقد روى ذلك أبو داود (¬7) والترمذي من حديث المستورد بن شداد قال: "رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا توضأ يدلك أصابع رجليه بخنصره"، وفي ¬

_ (أ) في ب: الفاء بدل الواو. (ب) بهامش الأصل. (جـ) زاد في جـ: مولى.

رواية لابن ماجه (¬1): يخلل بدل يدلك، وفي إسناده ابن لهيعة (¬2) لكن تابعه الليث بن سعد وعمرو (أ) بن الحارث أخرجه البيهقي وأبو بكر الدولابي والدارقطني في غرائب مالك من طريق ابن وهب عن الثلاثة (¬3)، وأما كونها اليد اليسرى فقال الغزالي (ب) في الوسيط (¬4) (جـ) مستندهم القياس على الاستنجاء. وفي الباب حديث عثمان أنه خلل أصابع قدميه ثلاثا، وقال: "رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فعل كما فعلت" (¬5) رواه الدارقطني. وقوله: "وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائما"، وإنما كره ذلك للصائم خشية أن ينزل إلى حلقه ما يفطره. وفيه دلالة على أن المبالغة ليست بواجبة، إذ لو كانت واجبة لوجب عليه التحرز ولم يجز له ترك المبالغة وقوله: في رواية أبي داود: "إذا توضأت فمضمض" (¬6)، فيه دلالة على وجوب المضمضة، وأما المبالغة فلا، ولذلك قال الماوردي: إن المبالغة فيها غير مشروعة لأنه لم يرد فيه الخبر ولكن رواية الدولابي المذكورة واردة عليه، وأما الوجوب ففيه دلالة على وجوبهما (د) وفي ذلك خلاف والناس على أربعة مذاهب، وقد تقدم ذكر الخلاف في وجوبهما في الغسل والوضوء وعدمه، هذان مذهبان والثالث أنهما ¬

_ (أ) في هـ: عمر. (ب) في ب: قال العرابي. (جـ) في جـ: الأوسط. (د) في ب: وجوبها.

واجبان في الغسل دون الوضوء وهو مذهب أبي حنيفة وأصحابه وسفيان الثوري، والمذهب الرابع وجوب الاستنشاق فيهما دون المضمضة فهي سنة فيهما، وهو مذهب أبي ثور وأبي عبيد وداود الظاهري وأبي بكر بن المنذر ورواية عن أحمد واتفق الفقهاء الثلاثة وجماعة على أنه يكفي في غسل الأعضاء في الوضوء والغسل جريان الماء على الأعضاء ولا يشترط الدلك. وقال أكثر الأئمة من أهل البيت علهم السلام ومالك والمزني بل يشترط الدلك. وقال المؤيد بالله: قوة جرى الماء كالدلك (¬1). 36 - وعن عثمان - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "كان يخلِّل لحيته في الوضوء" أخرجه الترمذي وصححه ابن خزيمة (¬2). (هو أبو عبد الله وأبو عمرو عثمان بن عفان بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي بن كلاب الأموي القرشي، يقال: كان يكنى في الجاهلية أبا عمرو فلما ولدت له رقية بنت النبي - صلى الله عليه وسلم - عبد الله اكتنى به، وأمه أروى بنت كريز بن ربيعة بن حبيب بن عبد شمس، أسلمت، وكان إسلام عثمان في أول الإِسلام على يد أبي بكر قبل دخول النبي - صلى الله عليه وسلم - دار الأرقم وهاجر إلى الحبشة الهجرتين، ولم يشهد بدرا لأنه تخلف يُمرض رقية بنت النبي - صلى الله عليه وسلم -، وضرب له النبي - صلى الله عليه وسلم - فيها بسهم، ولم يشهد بالحديبية (أ) بيعة الرضوان لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعثه إلى مكة في أمر الصلح، فلما كانت البيعة ضرب النبي - صلى الله عليه وسلم - يده على يده ¬

_ (أ) في ب وجـ: الحديبية.

وقال: هذه لعثمان (¬1)، ويسمى ذا النورين لجمعه بين بنتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رقية وأم كلثوم، استخلف أول يوم من المحرم سنة أربع وعشرين، وقتل: يوم الجمعة لثماني عشرة خلت (أ) من ذي الحجة (ب)، سنة خمس وثلاثين، وقيل: لثلاث عشرة خلت منه، وقيل: لثلاث بقين. قتله الأسود التجيبي بضم التاء فوقها نقطتان وكسر الجيم وسكون الياء بعدها باء موحدة من أهل مصر، وقيل: غيره، ودفن ليلة السبت بالبقيع، وقيل: إن قبره خارج البقيع في أقصاه وله اثنتان وثمانون سنة، وقيل: ثمان وثمانون، وقيل: تسعون وصلى عليه حكيم بن حزام، وقيل: الزبير، وقيل: جبير بن مطعم، وكانت خلافته اثنتي عشرة سنة إلا أياما. روى عنه ابن الزبير، وأنس بن مالك وزيد (جـ) بن خالد الجهني وأبان ابنه وحمران مولاه ومروان بن الحكم وأبو عبد الرحمن السلمي وغيرهم) (¬2) (د). وأخرجه الحاكم والدارقطني وابن حبان من رواية عامر بن شقيق عن شقيق (هـ) بن سلمة عن عثمان. وعامر قال البخاري: حديثه حسن، وقال الحاكم: لا نعلم فيه طعنا بوجه من الوجوه. كذا قال. وقد ضعفه يحيى بن معين (¬3) وأورد له الحاكم شواهد عن أنس وعائشة وعلي وعمار. ¬

_ (أ) ساقطة من هـ. (ب) زاد في جـ: وقيل. (جـ) في جـ: ويزيد. (د) بهامش الأصل. (هـ) في ب: سفيان.

قال (أ) المصنف -رحمه الله تعالى-: وفيه أيضًا عن أم سلمة وأبي أيوب وأبي أمامة وابن عمر وجابر وجرير (ب) وابن أبي أوفى وابن عباس وعبد الله بن عكيرة وأبي الدرداء. وقد تكلم على جميعها إلا حديث عائشة واستوفى ما عليها في التلخيص (¬1) فليرجع إليه. وقال عبد الله بن أحمد عن أبيه: ليس في تخليل اللحية شيء صحيح، وقال ابن أبي حاتم عن أبيه: لا يثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في تخليل اللحية شيء، وأخرج ابن ماجه والدارقطني والبيهقي وصححه ابن السكن من حديث الأوزاعي عن عبد الواحد بن قيس عن نافع عن ابن عمر قال: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا توضأ عرك عارضيه بعض العرك ثم يشبك لحيته بأصابعه" (¬2)، وقد علل بالإِرسال والوقف (¬3)، وعبد الواحد مختلف فيه (¬4). ¬

_ (أ) في هـ: وقال. (ب) بهامش هـ.

وهذا الحديث يدل على مشروعية تخليل اللحية، ولا خلاف فيه. وأما الوجوب فقد اختلف فيه، فمذهب العترة وأبي ثور والظاهرية والحسن بن صالح أنه واجب كقبل نباتها. قال في البحر: لقوله - صلى الله عليه وسلم - من حديث أنس: "خلل لحيتك" (¬1)، ولفظه: قال: "أتاني جبريل فقال: إذا توضأت فخلل لحيتك". وروي عن علي - عليه السلام -: "ما بال أقوام يغسلون وجوههم قبل أن تنبت اللحية، فإذا نبتت اللحى ضيعوا الوضوء". حكاهما في أصول الأحكام وأخرج أبو داود حديث أنس (¬2) وفي إسناده الوليد بن زوران (أ) (¬3)، وهو مجهول الحال، ولفظه "كان إذا توضأ أخد كفا من ماء (ب) فأدخله تحت حنكه فخلل به (جـ) لحيته وقال: هكذا أمرني ربي" وله طرق أخرى ضعيفة (¬4). وذهب الفريقان إلى أنه غير واجب، لحديث وضوئه - صلى الله عليه وسلم - في رواية ابن عباس: "ثم أخذ أخرى فجمع بها يديه ثم غسل وجهه" (¬5) والغرفة الواحدة لا تصل باطن الشعر الكثيف. وأجيب بأن حديث أنس فيه زيادة وهي معمول بها. والحق أن ذلك مع صحة الرواية صحيح وقد عرفت ما فيها والله أعلم. 37 - وعن عبد الله بن زيد - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أُتِيَ بثُلُثَي مُدِّ فجعل يدلِّك ذراعيه. أخرجه أحمد وصححه ابن خزيمة (¬6). ¬

_ (أ) في جـ: وردان، وفي ب، هـ: رزوان. (ب) في جـ: الماء. (جـ) في جـ: بين.

وأخرج أبو داود والنسائي بإسناد حسن من حديث أم عمارة الأنصارية (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - "توضأ (أ) بإناء فيه قدر (ب) ثُلَثَي مُدٍّ" (¬1) ورواه البيهقي من حديث عبد الله بن زيد. وروي البيهقي من طريق ابن عدي وضعفه من حديث أبي أمامة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - توضأ (ب) بنصْفِ مُدٍّ (¬2) ورواه البيهقي (¬3) أيضًا بلفظ بقسط من ماء. وهو ضعيف أيضًا، والقسط: نصف مد. في هذا المذكور رد على ابن شعبان (¬4) من المالكية حيث قال: "لا يجزئ أقل من مُدٍّ في الوضوء وصاعٍ في الغُسْل لحديث أنس المتفق عليه" (¬5) وحكي مثل قوله عن محمد بن الحسن من الحنفية قال صاحب التقريب (جـ): وذكر أصحابنا في كتب الفقه حديثًا آخر أنه توضأ بثلث مد وحديثا آخر "أنه توضأ بما لا يلت الثري" (¬6) ولا أصل (¬7) لهما. وقد عرفت من اختلاف هذه ¬

_ (أ) ما بينهما بهامش ب. (ب) ساقطة من ب. (جـ) في جـ: التقرير.

الأحاديث وإمكان الجمع بينها أن ذلك إنما هو تقريب لا تحديد وأن الجميع يقضي بعدم الإِسراف في الوضوء والتخفيف، وذلك يختلف باختلاف الأوقات والأشخاص ونعومة الجسم (أ) وقشافته وعظمه وصغره وقال ابن عبد السلام (¬1) (ب) الاقتصار في ذلك القدر المروي لمن كان حجم جسمه كبدن النبي - صلى الله عليه وسلم - وإلا اعتبرت النسبة زيادة ونقصانا وهو حسن، ووافقه في الإِقليد، وقد روي عن تقي الدين السبكي أنه توضأ بثمانية عشر (¬2) درهما وهو أوقية ونصف، والمستحب الاقتصار على ذلك لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "سيأتي أقوام يستقلون هذا، فمن رغب في سنتي وتمسك بعث معي في حظيرة القدس" (¬3). والحديث غريب، ولكنه (جـ) في بعض الأجزاء من رواية أم سعد كذا حكاه الدميري (د) في شرح (هـ) المنهاج (¬4). وحظيرة القدس (¬5) بالظاء المشالة (¬6) الجنة وسيأتي الكلام في تحقيق المد في حديث أنس (و) قريبا إن شاء الله تعالى (¬7). ¬

_ (أ) في ب: الجسد. (ب) زاد في هـ: و. (جـ) في جـ: ولكن. (د) في جـ: الترمذي. (هـ) ساقطة من الأصل. (و) في هـ: من حديث أنس، وجـ: من أنس.

38 - وعنه - رضي الله عنه - أنه "رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - يأخذ لأذُنَيْه ماء خلاف الماء الذي أخذه لرأسه" أخرجه البيهقي (¬1). وهو عند مسلم من هذا الوجه بلفظ: "ومسح برأسه بماء غير فضل يديه، وهو المحفوظ". الضمير في عنه عائد إلى عبد الله (أ) بن زيد بن عاصم. وقد تقدم الكلام على هذا الحديث في الحديث الخامس وهو حديث عبد الله بن عمرو فليرجع إليه. 39 - وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إِنَّ أُمَّتِي يأتون يوم القيامة غُرًّا مُحَجَّلين من أثرِ الوُضُوء، فمن استطاع منكم أن يطيل غُرَّتَهُ فلْيَفْعل" متفق عليه واللفظ لمسلم (¬2). قوله: إن أمتي، المراد بالأمة هنا أمة الإِجابة وهم المسلمون، وقد يطلق أمة محمد ويراد بها الدعوة، وليست مرادة هنا، ويأتون أي إلى المحشر أو إلى الحوض ويدل عليه الرواية بأنه يذاد (¬3) بعضهم عنه، وفي رواية للبخاري يدعون بضم أوله، أي ينادون أو يسمون. وغُرًّا بضم المعجمة وتشديد الراء جمع (ب) أغر أي ¬

_ (أ) ساقط من جـ. (ب) بهامش هـ.

ذو غرة وأصل الغرة (¬1) لمعة بيضاء تكون في جبهة الفرس ثم استعملت في الجمال والشهرة وطيب الذكر، والمراد بها هنا: النور الكائن في وجوه أمة محمد - صلى الله عليه وسلم -. وغرا منصوب على الحالية، وعلى رواية يدعون يحتمل المفعولية: أي أنهم إذا نودوا على رؤوس الأشهاد نودوا بهذا الوصف وكانوا على هذه الصفة، ومحجلين بالمهملة والجيم من التحجيل (¬2) وهو بياض يكون في ثلاث قوائم من قوائم الفرس وأصله من الحِجل بكسر المهملة وهو الخلخال والمراد به هنا (أ) النور. واستدل الحليمي بهذا الحديث على أن الوضوء من خصائص هذه الأمة وفيه نظر، لأنه ثبت عند البخاري في قصة سارة (¬3) عليها السلام مع الملك الذي أعطاها هاجر، "أن سارة لما هم الملك بالدنو منها قامت تتوضأ وتصلي". وفي قصة جريج (¬4) الراهب أيضًا، "أنه قام فتوضأ وصلى ثم كلم الغلام". فالظاهر أن الذي اختصت به هذه الأمة هو (ب) الغرة والتحجيل لا أصل الوضوء. وقد صرح بذلك في رواية لمسلم عن أبي هريرة مرفوعًا قال: "سِيما ليست لأحد غيركم" (¬5)، وله من حديث حذيفة نحوه (¬6) والسيما بكسر السين المهملة: العلامة، وقد اعترض (جـ) على الحليمي بحديث: "هذا وضوئي ووضوء ¬

_ (أ) ساقطة من جـ. (ب) في جـ: هي. (جـ) في هـ. أعرض.

الأنبياء (أ) قبلي" (¬1) وهو حديث ضعيف لا تقوم به الحجة (ب) ولاحتمال أن يكون الوضوء من خصائص الأنبياء دون أممهم إلا هذه الأمة ومن آثار الوضوء بفتح الواو لأنه الماء ويجوز الضم عند البعض كما تقدم. وقوله: فليفعل، أي فليطل الغرة والتحجيل واقتصر على أحدهما لدلالته على الآخر نحو {سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ} (¬2)، واقتصر على ذكر الغرة وهي مؤنثة دون التحجيل وهو مذكر لأن محل الغرة أشرف الأعضاء وأول ما يقع عليه النظر من الإِنسان. على أن في رواية مسلم من طريق عمارة بن غزية ذكر الأمرين ولفظه: "فليطل غرته وتحجيله" (¬3). وقال ابن بطال (¬4): كنى أبو هريرة بالغرة عن (جـ) التحجيل لأن الوجه لا سبيل إلى الزيادة في غسله، وفيما قال نظر لأن الإِطالة ممكنة في الوجه بأن يغسل إلى صفحة العنق مثلًا، ونقل الرافعي عن بعضهم أن الغرة تطلق على كل من الغرة والتحجيل، ثم أن ظاهره أنه بقية الحديث، (أي قوله: فمن استطاع. . الحديث) (د)، لكن رواه أحمد من طريق فليح عن نعيم (¬5)، وفي آخره قال نعيم: لا أدري قوله: من استطاع إلى آخره من قول النبي - صلى الله عليه وسلم -أو من قول أبي هريرة غير رواية نعيم هذه والله أعلم. ¬

_ (أ) زاد في هـ وجـ: من. (ب) في جـ: حجة. (جـ) في هـ: على. (د) بهامش الأصل وجـ، وساقطة من هـ.

واختلف العلماء في القدر المستحب من التطويل في التحجيل فقيل إلى المنكب والركبة، وقد ثبت عن أبي هريرة رواية ورأيا (¬1) وعن ابن عمر (¬2) من فعله. أخرجه ابن أبي شيبة وأبو عبيد بإسناد حسن. وقيل: المستحب الزيادة إلى نصف العضد والساق، وقيل إلى فوق ذلك و (أ) قال ابن بطال (¬3) وطائفة من المالكية لا تستحب الزيادة على الكعب والمرفق، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "من زاد على هذا فقد أساء وظلم" (¬4)، وكلامهم معترض من وجوه، ورواية مسلم صريحة في الاستحباب فلا تعارض بالاحتمال. وأما دعواهم اتفاق (ب) العلماء على خلاف مذهب أبي هريرة في ذلك فهي مردودة بما نقلناه (ص) عن ابن عمر وقد صرح باستحبابه جماعة من السلف وأكثر الشافعية (¬5) والحنفية، وأما تأويلهم الإِطالة المطلوبة بالمداومة على الوضوء فمعترض بأن الراوي أدرى بمعنى ما روي، "كيف وقد صرح برفعه إلى الشارع - صلى الله عليه وسلم - (د) في الحديث (هـ) يعني ما ترجم له من فضل الوضوء" (¬6). لأن (و) الفضل الحاصل بالغرة والتحجيل من آثار الزيادة على ¬

_ (أ) الواو ساقطة من جـ. (ب) زاد في جـ: مذهب. (جـ) في جـ: كما نقلناه، وفي هـ: بما قلناه. (د) زاد في هـ: و. (هـ) في جـ: حديث. (و) في جـ: فإن.

لواجب فكيف الظن بالواجب وقد وردت فيه أحاديث صحيحة صريحة أخرجها مسلم وغيره. 40 - وعن عائشة - رضي الله عنها - قالت: "كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعجبُه التَّيمن في تَنَعُّلِه وتَرَجُّلِه وَطَهوره وفي شأنِه كلِّه" متفق عليه (¬1). قوله (أ): يعجبه التيمن، قيل: إنه كان يحب الفأل الحسن، إذ أصحاب اليمين أهل الجنة. وزاد البخاري في كتاب الصلاة عن شعبة (¬2): "ما استطاع" فنبه على المحافظة في ذلك ما لم يمنع مانع. وقوله: في تنعله: أي لبس نعله، وترجله: أي ترجيل شعره: وهو تسريحه ودهنه. قال في المشارق (¬3): رجَّل شعره إذا مشطه بماء أو دهن ليلين ويرسل الثائر ويمد المنقبض. زاد أبو داود (¬4) عن مسلم بن إبراهيم عن شعبة: وسواكه. وقوله: وفي شأنه كله: ثبت بالواو في رواية أبي الوقت (ب). قال الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد (¬5): هو عام مخصوص، لأن دخول الخلاء والخروج ¬

_ (أ) في هـ: قولها. (ب) في جـ: أبي داود الوقت.

من المسجد ونحوهما يبدأ فيهما باليسار، وقد يعترض (أ) عليه بأن التأكيد بكل يقتضي بقاء التعميم ودفع التجوز عن البعض، ويمكن أن يقال: حقيقة الشأن ما كان فعلا مقصودا، وما يستحب فيه التياسر (ب) ليس من الأفعال المقصودة بل هي: إما متروك أو إما غير مقصودة، وهذا على تقدير ثبوت الواو، وأما على تقدير حذفها، وهي رواية الأكثر للبخاري، فالجار متعلق بيعجبه، أي يعجبه التيمن (جـ) في شأنه كله، التيمن (د في تنعله د) إلى آخره أي لا يترك ذلك سفرا ولا حضرا ولا فراغا ولا شغلا ونحو ذلك، وقال الطيبي: هو بدل مما قبله، بدل الكل من الكل لأنه لما ذكر الترجل لتعلقه بالرأس، التنعل لتعلقه بالرجل، والطهور لكونه مفتاح أبواب العبادة فكأنه نبه على جميع الأعضاء فصح البدل. انتهى. ووقع في رواية لمسلم (5) بتقديم (في شأنه كله) (¬1)، وفي البخاري في الأطعمة من طريق عبد الله بن المبارك عن شعبة أن أشعث شيخه كان يحدث به تارة مقتصرا على قوله: في شأنه كله، وتارة على قوله: في تنعله إلى آخره (¬2)، وزاد الإِسماعيلي (¬3) من طريق غندر عن شعبة أن عائشة كانت تُجْمِله تارة وتبينه أخرى، فعلى هذا يكون أصل الحديث ما ذكر من التنعل وغيره، ويؤيده رواية مسلم من طريق أبي الأحوص (¬4)، وابن ماجه (¬5) من طريق عمرو بن عبيد كلاهما ¬

_ (أ) في جـ. اعترض. (ب) في جـ: التيسر. (جـ) في حاشية الأصل: الصواب حذف لفظ التيمن. (د) ما بينهما ساقط من هـ، وزاد بعدها في جـ: كله. (هـ) في جـ: مسلم.

عن أشعث بدون قوله في شأنه كله، وكأن الرواية المقتصرة على قوله: في شأنه كله من الرواية بالمعنى، ووقع في رواية لمسلم: في طهوره ونعله، بفتح النون وإسكان العين أي هيئة نعله وفي رواية ابن ماهان في مسلم: ونعله بفتح العين (¬1). وفي الحديث استحباب البداءة بشق الرأس الأيمن في الترجل والغسل والحلق. وقد ثبت البداءة بالأيمن في الحلق أيضًا في البخاري (¬2). وفي البخاري أيضًا إزالة النعل باليسرى (¬3) وفيه "البداءة باليمنى في الوضوء (أ)، وبالشق الأيمن في الغسل" (¬4)، واستدل أيضًا به على استحباب الصلاة عن يمين (ب) الإِمام وفي ميمنة المسجد، وفي الأكل والشرب باليمين، وقد أورده البخاري في هذه المواضع كلها. قال النووي: قاعدة الشرع المستمرة البداءة باليمين في كل ما كان من باب التكريم والتزيين، ما كان يضدها استحب فيه التياسر. قال: وأجمع العلماء على أن تقديم اليمين في الوضوء سنة، من خالفها فاته الفضل وتم وضوءه انتهى (¬5). وفي دعوى الإِجماع نظر، إذ خالف في ذلك العترة والإِمامية (¬6) فقالوا: يجب الترتيب بينهما، وقد نسب المرتضي ذلك إلى الشافعي (¬7) وهو غلط، والحجة على (جـ) وجوب الترتيب بينهما أنه لم ينقل عن أحد ¬

_ (أ) في هـ: بالوضوء. (ب) في ب: على. (جـ) في جـ: في.

ممن روى وضوء النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه رآه توضأ معكوسا أو مقدم اليسرى على اليمني، وفي بعض الروايات أن تلك الصفة وقعت منه بيانا لآية الوضوء فلا يقال: إن ذلك عمل بالأفضل وليس بواجب. وأجيب بأن الآية أجمل فيها اليدان والرجلان ولم يبين، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - للأعرابي: "توضأ كما أمرك الله" (¬1) فهو قرينة على حمل الفعل على الوجه المستحب ولا خلاف في الاستحباب، ولقول علي - رضي الله عنه - "ما أبالي بيميني (أ) بدأت أم بشمالي إذا أكملت الوضوء" (¬2) أخرجه الدارقطني. وكذا في أصول الأحكام. قلت ذلك (ب) معارض بالحديث الآتي: "ابدأوا بميامنكم" (¬3) وهو لم يتكلم عليه بما يقدح، وهو أرجح مما ذكر، فالواجب المصير إليه، وفيه بيان للآية (جـ)، وقد نسب العمراني في البيان القول بوجوب ترتيبها إلى الفقهاء السبعة. قال المصنف (¬4): وهو تصحيف من الشيعة، وفي كلام الرافعي (¬5) (د) لما يوهم أن أحمد قال بوجوبه، ولا نعرف ذلك عنه، بل قال الشيخ الموفق في المغني: لا نعلم في عدم الوجوب خلافا (¬6) والله أعلم. ¬

_ (أ) بهامش هـ. (ب) ساقطة من ب. (جـ) في جـ: الآية. (د) في جـ: الشافعي.

41 - وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "إذا توضأتم فأبدأوأ بميامنِكُم" أخرجه الأربعة وصححه ابن خزيمة (¬1). وأخرجه (أ) أحمد وابن حبان والبيهقي (ب) (جـ)، كلهم من طريق زهير عن الأعمش وعن أبي صالح عنه، زاد ابن حبان والبيهقي والطبراني (جـ): "وإذا لبستم". قال ابن دقيق العيد: هو حقيق بأن يصحح وللنسائي والترمذي من حديث أبي هريرة: "أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا لبس قميصا بدأ بميامنه" وقد تقدم الكلام على فقه الحديث قريبا. 42 - وعن المغيرة بن شعبة أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "توضأ فمسح بناصيته وعلى العمامة والحفين". أخرجه مسلم (¬2). هو أبو عبد (¬3) الله، وقيل: أبو عيسى المغيرة بن شعبة بن أبي عامر الثقفي، أسلم عام الخندق، وقدم مهاجرا، وقيل: أول مشاهده الحديبية، نزل الكوفة ¬

_ (أ) في جـ: وأخرج. (ب) في ب زيادة: والطبراني. (جـ) ما بينهما بهامش ب.

ومات بها سنة خمسين وهو ابن سبعين سنة، وهو أميرها لمعاوية بن أبي سفيان. روى عنه من أولاده: عروة وحمزة ومولاه وراد وأبو بردة بن أبي موسى. والحديث أخرجه مسلم من رواية حمزة بن المغيرة بن شعبة ولم يخرجه البخاري (¬1). قال المصنف (¬2) -رحمه الله تعالى- ووهم (أ) المنذري فعزاه إلى (ب المتفق، وتبع في ذلك ابن الجوزي (¬3) فوهم، وقد تعقبه ابن عبد الهادي، وصرح ب) عبد الحق في الجمع بين الصحيحين بأنه من أفراد مسلم. انتهى. وأقول: لعل من جعله من المتفق هو بالنطر إلى الاتفاق في متن الحديث دون إسناده، فقد أخرج البخاري من حديث عمرو بن أمية عن أبيه: رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يمسح على عمامته وخفيه. من رواية الأوزاعي. قال البخاري: وتابعه معمر وعن يحيى عن أبي سلمة عن عمرو: رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يمسح على عمامته وخفيه (¬4). وفي الحديث دلالة على جواز الاقتصار على مسح (¬5) الناصية، وقد قال به زيد بن علي - عليه السلام - وأبو حنيفة (¬6)، واختلف العلماء (¬7) في معنى المسح على ¬

_ (أ) في ب: وهم. (ب) ما بينهما بهامش هـ.

العمامة فقيل: إنه كمل (أ) عليها بعد مسح الناصية كما في رواية مسلم، وإلى عدم الاقتصار على المسح عليها ذهب الجمهور. وقال الخطابي (¬1): فرض الله مسح الرأس. والحديث في مسح العمامة محتمل التأويل فلا يترك المتيقن للمحتمل، قال: وقياسه على مسح الخف بعيد لأنه يشق نزعه بخلافها، وتعقب بأن الذين أجازوا الاقتصار على مسح العمامة شرطوا فيه المشقة في نزعها كما في الخف، وطريقه أن تكون محكمة (ب) كعمائم العرب، وقالوا: عضو يسقط فرضه في التيمم فجاز المسح على حائله كالقدمين، وقالوا: الآية لا تنفي ذلك ولا سيما عند من يحمل المشترك على (معنييه بحمل (جـ) اللفظ على) (د) حقيقته ومجازه لأن من قال: قبلت رأس فلان يصدق ولو كان على حائل، وإلى هذا ذهب الأوزاعي والثوري في رواية عنه وأحمد وأبو إسحاق وأبو ثور والطبري وابن خزيمة وابن المنذر وغيرهم، وقال: ثبت ذلك عن أبي بكر وعمر وقد صح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن يطع الناس أبا بكر وعمر يرشدوا" (¬2) والله أعلم. انتهى كلامه (¬3). قال المصنف (¬4) -رحمه الله تعالى- وحديث المغيرة ذكر البزار أنه رواه عن ستين رجلا. قال: وقد (هـ) لخصت مقاصد طرقه الصحيحة في هذه القطعة وسيأتي الكلام إن شاء الله تعالى في المسح على الخفين. ¬

_ (أ) في جـ: يكمل. (ب) في هـ: محنكة. (جـ) في ب: ويحمل. (د) بهامش الأصل. (هـ) في جـ: ولقد.

43 - وعن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - في صفة حج النبي - صلى الله عليه وسلم - قال - صلى الله عليه وسلم -: "أبْدأوا بما بدأَ اللهُ به" أخرجه النسائي (¬1). هكذا بلفظ، الأمر، وهو عند مسلم بلفظ الخبر. هو أبو عبد الله جابر بن عبد الله بن عمرو بن حرام بالحاء المهملة والراء المهملة المفتوحتين الأنصاري السلمي، من مشاهير الصحابة، وأحد المكثرين من الرواية (أ) عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، شهد هو وأبوه العقبة الثانية ولم يشهد الأولى وشهد بدرا. وقيل لم يشهدها وشهد بعدها مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ثماني عشرة غزوة. وقدم الشام ومصر، وأبوه أحد النقباء الاثني عشر، وكف بصر جابر في (ب) آخر عمره. روى عنه أبو (جـ) سلمة بن عبد الرحمن ومحمد بن علي الباقر وعطاء بن أبي رباح وأبو الزبير فأكثر ومحمد بن المنكدر وخلق سواهم كثير. مات بالدينة سنة أربع وسبعين، وقيل: سنة سبع وسبعين وقيل: سنة ثمان وسبعين، وصلى عليه أبان بن عثمان (د) وهو أميرها وله أربع وتسعون سنة، وهو آخر من مات بالمدينة من الصحابة في قول (¬2). ¬

_ (أ) في ب: بالرواية. (ب) ساقطة من هـ. (جـ) "أبو" في الأصل فقط. (د) بهامش الأصل وهـ: ابن عفان.

الحديث رواه مسلم (¬1) بطوله في صفة حج النبي - صلى الله عليه وسلم - قال (أ): "ثم خرج من الباب إلى الصفا فلما دنا من الصفا قرأ {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} (¬2) أبدأ بما بدأ الله به" بلفظ الخبر الفعل المضارع فبدأ بالصفا لأن الله تعالى قدمه في التنزيل فقال: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ. . .} الآية. وذكره (ب) المصنف هنا لأن اللفظ عام والعموم لا يقصر على سببه كما هو المعمول به عند الجمهور، فآية الوضوء مندرجة في ذلك العموم فيجب البداءة بما بدأ الله به فيها من تقديم الوجه إلى آخره، وهذا حجة الجمهور (¬3) على القول بوجوب الترتيب في الوضوء، فعلى رواية الأمر، الوجوب ظاهر، وعلى رواية الخبر فلأن الظاهر من فعله - صلى الله عليه وسلم - هو بيان المناسك وقد قال: "خذوا عني مناسككم" (¬4) فالظاهر (جـ) إنما هو بيان الواجب لا بيان الأفضل والله أعلم. وذهب جماعة منهم أبو حنيفة (¬5) وأصحابه وابن مسعود (¬6) -ومالك وغيرهم إلى (د) أن الترتيب ليس بواجب لرواية ابن عباس: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - توضأ فغسل وجهه ويديه ثم رجليه ثم مسح رأسه بفضل وضوئه" (¬7) هكذا في الانتصار، وروت الربيع بنت معوذ "أنه مسح رأسه بفضل ¬

_ (أ) ساقطة من جـ. (ب) في ب: وذكر. (جـ) في هـ: والظاهر. (د) ساقطة من هـ.

وضوئه" (¬1) قلنا: حجتنا أقوى وأصرح، ولعله مسح تبركا بآخر الوضوء أو تسوية لناصيته، قالوا كالغسل. قلنا: الجسد كالعضو الواحد. 44 - وعنه - رضي الله عنه - قال: "كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا توضأ أدارَ الماء على مِرفقيه"، أخرجه الدارقطني بإسناد ضعيف (¬2) وأخرجه البيهقي أيضًا كلاهما من حديث القاسم بن محمد بن عبد الله بن محمد (أ) بن عقيل عن جده عن جابر بلفظ "يدير الماء على المرفق" (¬3) والقاسم (¬4) متروك عند أبي حاتم، وقال أبو زرعة (ب): منكر الحديث، وكذا ضعفه (جـ أحمد وابن معين وانفرد ابن حبان بذكره في الثقات (¬5)، ولم يلتفت إليه في ذلك وقد صرح بضعف جـ) هذا الحديث المنذري وابن الجوزي وابن الصلاح والنووي وغيرهم (¬6). قال المصنف (¬7) رحمه الله -ويغني عنه ما رواه مسلم من حديث أبي هريرة ¬

_ (أ) ساقطة من هـ، وفي رواية للدارقطني كذلك 1/ 83. (ب) زاد في جـ عنه. (جـ) ما بينهما بهامش ب.

أنه توضأ حتى أشرع في العضد ثم قال: "هكذا رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - توضأ" (¬1). وتقدم الكلام على هذا الحكم في حديث عثمان فليرجع إليه. 45 - وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لَا وُضوءَ لمن لَّم يذكر اسم الله عليه". أخرجه أحمد أبو داود وابن ماجه بإسناد ضعيف" (¬2). وللترمذي عن سعيد بن زيد وأبي سعيد نحوه (¬3). قال أحمد: لا يثبت فيه شيء (¬4). حديث أبي هريرة أخرجوه من طريق محمد بن موسى المخزومي عن يعقوب بن سلمة، (أعن أبيه (أ) عن أبي هريرة بلفظ: "لا صلاة لمن لا وضوء له، ولا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه" ورواه الحاكم من هذا الوجه إلا أنه قال: يعقوب بن أبي سلمة وادعى أنه الماجشون فصحح الحديث لذلك (¬5) فوهم. قال المصنف -رحمه الله-: والصواب أنه الليثي بإسقاط أبي، قال ¬

_ (أ) ما بينهما ساقط من جـ.

البخاري: لا يعرف له سماع من أبيه ولا لأبيه من أبي هريرة (¬1)، وأبوه ذكره ابن حبان في الثقات و (أ). قال: ربما أخطأ (¬2). وهذه عبارة عن ضعفه، فإنه قليل الحديث جدا (¬3) ولم يرو عنه سوى ولده (¬4) فإذا كان يخطئ مع قلة ما روى فكيف يوصف بكونه ثقة؟ وله طريق أخرى عند الدارقطني والبيهقي (¬5) من طريق محمود بن محمد الظفري، وهي ضعيفة (ب) أيضًا بمحمود (¬6) وشيخه أيضًا أيوب بن النجار. وقد ورد الأمر بذلك من حديث أبي هريرة، ففي الأوسط للطبراني من طريق علي بن ثابت عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يا أبا هريرة إذا توضأت فقل: بسم الله، والحمد لله فإن حفظتك لا تزال تكتب لك الحسنات حتى تحدث من ذلك الوضوء" (¬7). قال: تفرد به عمرو بن أبي سلمة عن إبراهيم بن محمد (¬8) عنه وسنده واه، وفيه أيضًا من طريق الأعرج عن ¬

_ (أ) سقطت الواو من جـ. (ب) في هـ: ضعيف.

أبي هريرة رفعه (¬1) "إذا استيقظ أحدكم من نومه فلا يدخل يده في الإِناء حتى يغسلها، ويسمي قبل أن يدخلها". تفرد بهذه الزيادة عبد الله بن محمد بن يحيى بن عروة (¬2) وهو متروك عن هشام بن عروة عن أبي الزناد عنه. وأما حديث سعيد بن زيد فرواه الترمذي والبزار وأحمد وابن ماجه والدارقطني، والعقيلي والحاكم (¬3) من طريق عبد الرحمن بن حرملة عن أبي ثفال عن رباح بن عبد الرحمن بن أبي سفيان بن حويطب عن جدته عن أبيها قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: فذكره، لفظ الترمذي قال: وقال محمد: أحسن شيء في هذا الباب حديث رباح (¬4) ولكنه ضعيف (¬5). قال أبو حاتم وأبو زرعة: أبو ثفال ورباح (أ) مجهولان (¬6)، وزاد (ب) القطان أن جدة رباح أيضًا لا يعرف اسمها ولا حالها (¬7) كذا قال: فأما هي فقد عرف اسمها من رواية الحاكم (¬8)، قال: حدثتني جدتي أسماء بنت سعيد بن زيد بن عمرو أنها سمعت ¬

_ (أ) في ب: أبو رباح وثقال، وكذا في نسخة الأصل ولكنها مصوبة. انظر علل الحديث 1/ 52. (ب) في هـ بزيادة: ابن.

رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأسقط منه ذكر أبيها، وكذا البيهقي (¬1)، وأما حالها فقد ذكرت في الصحابة (¬2)، وإن لم يثبت لها صحبة فمثلها لا يسأل عن حالها، وأما أبو (أ) ثفال فروى عنه جماعة (¬3)، وقال البخاري: في حديثه نظر وهذه عادة فيمن يضعفه وذكره ابن حبان في الثقات (¬4) إلا أنه قال: لست بالمعتمد على ما تفرد به، وكأنه لا يوثقه، وأما رباح فمجهول فتبين ضعف الطريق. وأما حديث أبي سعيد فقد أخرجه الترمذي (¬5) وغيره من طريق كثير بن زيد عن ربيح بن عبد الرحمن بن أبي سعيد بلفظ حديث الباب. قال ابن معين: كثير (¬6) بن زيد ليس بالقوي، وقال أبو زرعة: صدوق فيه لين، وقال أبو حاتم: صالح الحديث، ليس بالقوي، يكتب حديثه، وربيح قال أبو حاتم: شيخ، وقال الترمذي (¬7) عن البخاري: منكر الحديث، وقال أحمد: ليس بالمعروف (¬8)، وقال المروزي: لم يصححه أحمد، وقال: ليس فيه شيء يثبت، فهذه الطريق موضع اجتهاد في الترجيح. ¬

_ (أ) ساقطة من ب.

وقد روي أيضًا من حديث عائشة وسهل بن سعد وأبي سبرة وأم سبرة وعلي وأنس (¬1) وفي الجميع مقال، ولكن هذه الروايات يقوي بعضها بعضا فلا تخلو عن قوة، ولذا قال ابن أبي شيبة (¬2): ثبت لنا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قاله. وقال البزار: لكنه مؤول ومعناه: أنه لا فضل لوضوء من لم يذكر اسم الله، لا على أنه لا يجوز وضوء من لم يسم. والحديث يدل على اعتبار التسمية في الوضوء وأنه لا يصح من دونها، وقد اختلف في ذلك بعد الاتفاق على مشروعيتها فمذهب العترة أنها فرض على الذاكر فقط والظاهرية (¬3) وأحد قولي ابن حنبل بل وعلى الناسي فالظاهرية لظاهر هذا حديث (أ) الباب والعترة له في حق العامد وعدم الشرطية في حق الناسي لحديث أبي هريرة قال: سمعته - صلى الله عليه وسلم - يقول (ب): "من ذكر الله في أول وضوئه طهر جسده، وإذا لم يذكر اسم الله لم يطهر منه إلا موضع الوضوء". أخرجه الدارقطني والبيهقي (¬4) (جـ)، وهو ضعيف (بمرادس (¬5) بن محمد) (د) وبمحمد بن أبان (¬6) ورواه الدارقطني والبيهقي (جـ) من حديث ابن مسعود بزيادة: "فإذا فرغ من طهوره فليشهد" (5) أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله، فإذا قال ذلك فتحت له أبواب السماء" (¬7). وفيه يحيى بن هاشم (و) السمسار وهو ¬

_ (أ، ب) بهامش هـ. (جـ) ما بينهما بهامش ب. (د) في النسخ: مراد بن أبي محمد، وفي هاش الأصل "مرداس" وكذا في الميزان 4/ 88. (هـ) في هـ: فليتشهد. (و) في النسخ: هشام، وفي التلخيص والميزان: هاشم، وكذا مثبت بهامش الأصل.

متروك (¬1). قال الإِمام في البحر (¬2): فجمعنا بين الحديثين فحملنا الحديث الأول على العامد، وهذا على الناسي وذهبت الحنفية والشافعية وربيعة ومالك وأحد قولي الهادي - عليه السلام - (¬3) إلى أنها سنة استدلالًا بحديث أبي هريرة الأخير، وقد عرفت ما فيه. وأقوى منه قوله في حديث الأعرابي: "توضأ كما أمرك الله" (¬4)، ولم يذكر التسمية، وقد مر، وتأولوا حديث الباب بالوضوء الكامل، وإذا عرفت ما تأولناه في الخبرين فالأول أرجح لكثرة المتابعات، وتقوية الطرق بعضها بعضًا. والحديث الثاني ليس في قوته وأيضًا فإنه إذا تعارض الموجب وغيره، يرجح الموجب على المختار، والأول موجب لها، والثاني غير موجب، فيترجح العمل بالأول. وأما حديث "توضأ كما أمرك الله" فإن هذا مثبت لزيادة كحديث المضمضة، والنظر إنما هو في صحة القدر الذي يجب معه العمل فيعمل به، ولكنه قد روى الرافعي (¬5) زيادة في حديث الباب: لا وضوء كامل. فمع وجود هذه الزيادة وفرض صحتها فلا حجة فيه إلا أنه قال المصنف -رحمه الله تعالى- لم يره هكذا (¬6) بهذا اللفظ، والله سبحانه أعلم. 46 - وعن طلحة بن مصرف - رضي الله عنه - عن أبيه عن جده قال: "رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يفصل بين المضْمضَة والاسْتِنْشاق" أخرجه أبو داود بإسناد ضعيف (¬7). ¬

_ (¬1) يحيى بن هاشم السمسار أبو زكريا الغساني الكوفي، كذبه ابن معين، وقال النسائي: متروك، وقال ابن عدي: كان بغداد يضع الحديث ويسرقه. الميزان 4/ 412، ضعفاء العقيلي 4/ 432. (¬2) البحر 1/ 58. (¬3) المجموع 1/ 359 - 361، البناية 1/ 133، البحر 1/ 58. (¬4) مر الحديث في ح 30. (¬5) فتح العزيز 1/ 386. (¬6) التلخيص 1/ 87. (¬7) أبو داود بنحوه كتاب الطهارة باب في الفرق بين المضمضة والاستنشاق 1/ 96 ح 139، البيهقي الطهارة باب الفصل بين المضمضة والاستنشاق 1/ 51.

هو أبو محمد -ويقال أبو عبد الله- طلحة بن مصرف بن كعب بن عمرو (¬1) -ويقال: ابن عمرو بن كعب- اليامي الهمداني الكوفي أحد الأعلام الأثبات من التابعين، روى عن عبد الله بن أبي أوفى وأنس بن مالك، روى عنه ابنه محمد وأبو إسحاق السبيعي وشعبة، وهو ممن فات الثوري من أئمة الكوفة. مات سنة اثنتى عشرة ومائة. مصرف بضم الميم وفتح الصاد المهملة وكسر الراء المشددة والفاء، واليامي بالياء تحتها نقطتان، والسبيعي بفتح السين المهملة وكسر الباء الموحدة والعين المهملة. والحديث ضعيف بليث بن أبي سليم، وهو ضعيف، وقال ابن حبان: كان يقلب الأسانيد ويرفع المراسيل، ويأتي عن الثقات بما ليس من حديثهم. تركه يحيى بن القطان وابن مهدي وابن معين وأحمد بن حنبل، وقال النووي في تهذيب الأسماء: اتفق العلماء على ضعفه (¬2). وللحديث علة أخرى ذكرها أبو داود عن أحمد قال: كان ابن عيينة ينكره ويقول: إيش بهذا طلحة بن مصرف عن أبيه عن جده، وكذا حكى عثمان الدارمي عن علي بن المديني، وزاد (أ): سألت عبد الرحمن بن مهدي عن اسم جده فقال: عمرو بن كعب أو كعب بن عمرو (ب)، كانت له صحبة، وقال الدوري عن ابن معين: المحدثون يقولون: إن جد طلحة رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - وأهل بيته يقولون: ليست له صحبة (¬3). وقال الخلال عن أبي داود: سمعت رجلا من ¬

_ (أ) زاد في هـ: و. (ب) زاد في هـ وب: و.

ولد طلحة يقول: إن لجده صحبة، وقال ابن أبي حاتم في العلل: سألت أبي عنه فلم يثبته، وقال: إن طلحة هذا يقال: إنه رجل من الأنصار، ومنهم من يقول: طلحة بن مصرف (أقال: ولو كان طلحة بن مصرف أ) لم يختلف فيه (¬1) وقال ابن القطان: علة الخبر عندي الجهل محال مصرف بن عمرو ووالد طلحة، وصرح بأنه طلحة بن مصرف بن السكن وابن مردويه في كتاب "أولاد المحدثين" ويعقوب بن سفيان في تاريخه وابن أبي خيثمة أيضًا. والحديث يدل على أنه يندب الفصل بين المضمضة والاستنشاق بأن يؤخذ لكل منهما ماء، وقد ذهب إلى ذلك الناصر وأحد. قولي الشافعي (¬2) وروي مثل ذلك من حديث علي وعثمان من طريق أبي وائل شقيق بن سلمة قال: شهدت عليا وعثمان توضئا ثلاثا ثلاثا، وأفردا المضمضة والاستنشاق ثم قالا: "هكذا رأينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - توضأ" رواه أبو علي بن السكن في صحاحه، وذهب الهادي والشافعي (¬3) إلى أن الجمع بينهما أفضل، وذلك لما روي في صفة وضوء النبي - صلى الله عليه وسلم -، ففي مسند أحمد عن علي - رضي الله عنه - أنه دعا بماء فغسل وجهه وكفيه ثلاثا وتمضمض فأدخل بعض أصابعه في فيه واستنشق ثلاثا" (¬4) وفي ابن ماجه أصرح من هذا بلفظ "فمضمض واستنشق ثلاثا من كف واحد" (¬5) وأخرج أبو داود حديث الجمع عن علي رضي الله عنه من ست طرق (¬6)، ¬

_ (أ) بهامش هـ.

وأخرج أبو داود من حديث عثمان: "ثم أدخلها في الإِناء فتمضمض ثلاثا واستنثر ثلاثا" (¬1) وحديث عثمان متفق عليه، وحديث عبد الله بن زيد بن عاصم المتفق عليه وسيأتي، وفي رواية لابن حبان "ثلاث مرات من ثلاث حفنات"، وفي لفظ للبخاري "ثلاث مرات من غرفة واحدة" (¬2). وفي الباب عن ابن عباس "وجمع بين المضمضة والاستنشاق" رواه الدارمي وابن حبان والحاكم (¬3)، والجواب عن رواية طلحة بن مصرف بأن فيها ما سمعت، ومعارضة بما ذكر قال الإِمام المهدي في البحر (¬4) قلت: والحق ما ذكره الإِمام يحيى أنه مخير فكلاهما (أ) سنة ثابتة. والله أعلم. وقد عرفت من بعض ما ذكر في الجمع أن الظاهر أن تثليثهما بغرفة واحدة، فلا وجه لاستبعاد الإِمام المهدي لذلك في الغيث مع وروده (¬5). 47 - (وعن علي - رضي الله عنه - في صفة الوضوء": "ثم تمضمض - صلى الله عليه وسلم - واسْتَنْثَرَ ثلاثًا يمضمض وينثر من الكف الذي يأخذ منه الماء" أخرجه أبو ¬

_ (أ) في هـ. وكلاهما.

داود والنسائي (¬1) تقدم الكلام على فقه (أ) الحديث) (ب). 48 - وعن عبد الله بن زيد بن عاصم (جـ) - رضي الله عنه (د) - في صفة الوضوء: "ثم أدخل - صلى الله عليه وسلم - يده فمضمض واستنشق من كف واحدة يفعل ذلك ثلاثا" متفق عليه (¬2). هو عبد الله بن زيد بن عاصم وقد تقدم الكلام عليه. والحديث يدل على أن الأفضل جمع المضمضة والاستنشاق بماء واحد، وهذا صريح في هذه الرواية، وهي لفظ مسلم، وفي لفظ للبخاري (هـ) "فتمضمض واستنشق ثلاثا بثلاث غرفات" وفي رواية لهما: "من ثلاث غرفات"، والكلام عليه قد تقدم (¬3). 49 - وعن أنس - رضي الله عنه - قال: "رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - رجلا وفي قدمه مثل الظفر، لم يصبه الماء، فقال: ارْجِع فأحْسِنْ وُضُوءَكَ" أخرجه أبو داود والنسائي (¬4). الحديث أخرجه أبو داود من طريق ابن وهب عن جرير بن حازم وقال: ليس ¬

_ (أ) زاد في ب: هذا. (ب) بهامش الأصل وهـ. (جـ) سقطت من ب وجـ وهـ. (د) زاد في ب: قال. (هـ) في ب: البخاري.

هذا الحديث بمعروف عن جرير بن حازم، ولم يروه إلا ابن وهب (¬1)، (أوأخرج من حديث عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - نحوه قال: "ارجع فأحسن وضوءك" (¬2). وهو أ) في صحيح مسلم من حديث جابر عن عمر وأبهم المتوضئ ولفظه: فقال: "ارجع فأحسن وضوءك" قال البزار (¬3): لا نعلم أحدا أسنده عن عمر إلا من هذا الوجه. قال أبو الفضل الهروي: إنما يعرف هذا من حديث ابن لهيعة، ورفعه خطأ، فقد رواه الأعمش عن أبي سفيان عن جابر عن عمر موقوفًا، وكذا روى (ب) هشيم عن عبد الملك عن عطاء عن عبيد بن عمير نحوه في قصة موقوفة. وقال الدارقطني: "تفرد به جرير بن حازم عن قتادة، وهو ثقة" (¬4). وأخرجه أبو داود (¬5) من طريق خالد بن معدان عن بعض أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى رجلا يصلي، وفي ظهر قدمه لمعة قدر الدرهم لم يصبها الماء، فأمره - صلى الله عليه وسلم - أن يعيد الوضوء والصلاة قال الأثرم: قلت لأحمد بن حنبل: هذا إسناد جيد قال: نعم. وأعله الترمذي بأن بقية قال عن يحيى: وبقية مدلس لا يزول ضعفه إلا بالتصريح بالتحديث والسماع، لكن في المستدرك (¬6) تصريح بذلك، فزال الضعف، وأخرج في المستدرك نحوه عن ¬

_ (أ) ما بينهما بهامش ب. (ب) في ب: رواه.

بعض أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأجمل النووي (¬1) القول في هذا فقال في شرح المهذب: هو حديث ضعيف الإِسناد، وفي إطلاقه نظر لما عرفت من الطرق. والحديث دليل على وجوب استيعاب جميع أعضاء الوضوء نصا في الرجل وقياسا فيما عداها، وذهب إلى (أ) ذلك الجمهور، والخلاف لأبي حنيفة فقال: يعفى في الوضوء عن قدر الدرهم وفي التيمم عن قدر ربع العضو، هكذا حكى الخلاف الإمام الهدي في البحر (¬2)، والنووي صرح في شرح مسلم بالاتفاق على أنه لا يعفى عن شيء في الوضوء (¬3). قال: وفي التيمم ثلاث روايات عن أبي حنيفة، إحداها (ب) يعفى عن أقل (جـ النصف، الثانية أقل من جـ) الدرهم، الثالثة: من الربع فما دونه. هكذا حكى الخلاف (¬4) والله أعلم. ودليل الجمهور ما مر ذكره، ولعل مستنده على رواية أقل من الدرهم حديث خالد بن معدان (¬5)، وهو لا يدل على ذلك، إذ ليس فيه تصريح بأن ما دونه يعفى عنه، وقد استدل بالحديث على وجوب الموالاة في الوضوء، حيث قال: أحسن وضوءك، وأصرح منه أمره أن يعيد الوضوء، ولم يقل اغسل ما تركت، ويجاب عنه: أما حديث أحسن وضوءك فإن من الإِحسان الاستكمال ¬

_ (أ) في ب: على. (ب) في ب: أحدهما. (جـ) ما بينهما بهامش ب.

فلا دلالة على ذلك، وأما الأمر بالإِعادة فلأنه يحتمل أنه أراد التشديد عليه في الإِنكار والتنبيه على أن من ترك شيئًا فكأنه تارك للكل، وفيه ما فيه (¬1). . وفي الحديث أيضًا أن الجاهل والناسي حكمهما في الترك حكم العامد، وفيه تعليم الجاهل بالرفق. وفي قوله: مثل الظفر، الظفر فيه لغات أجودها بضم الظاء والفاء، وبه جاء القرآن العزيز (¬2)، ويجوز إسكان الفاء، وبكسر الظاء مع إسكان الفاء وكسرهما، وقريء بهما في الشواذ، ويقال أيضًا أظفور ويجمع الظفر على أظفار جمع الجمع أظافير (¬3). 50 - وعنه - رضي الله عنه - قال: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتوضّأ بالمُدِّ ويغتسل بالصَّاعِ إلى خمسةِ أمْداد" متفق عليه (¬4). المد رطل وثلث بالبغدادي، والصاع أربعة أمداد، وأبو حنيفة (¬5) يخالف في هذا المقدار، ولما جاء أبو يوسف (¬6) إلى المدينة وتناظر مع (أ) مالك في المسألة استدل مالك بصيعان أولاد المهاجرين والأنصار الذين أخذوها من آبائهم، فرجع إليه أبو يوسف. ¬

_ (أ) ساقطة من هـ.

وقيل: المد والصاع في الوضوء غير المذكور في الزكاة وهو أن المد رطلان والصاع ثمانية أرطال، لما روى البخاري عن عائشة "أنها كانت تغتسل هي والنبي - صلى الله عليه وسلم - من إناء واحد يقال له: الفرق" (¬1) بفتح الراء، وهو إناء يسع ستة عشر رطلا، وأما سكون الراء فيسع مائة وعشرين رطلا. كذا نقله ابن الصباغ عن الشافعي (¬2) رحمه الله تعالى. وظاهر حديث أنس أنه لم يطلع على أنه زاد على خمسة أمداد لأنه جعلها النهاية، والظاهر أن ذلك تقريب لا تحديد، ويدل عليه ما في (أ) رواية أبي داود والنسائي بإسناد حسن من حديث أم عمارة الأنصارية: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - توضأ بإناء فيه قدر ثلثي مد" (¬3) ورواه البيهقي (¬4) من حديث عبد الله بن زيد، (ب والأولى الحمل على استحباب ذلك القدر فإن ب) أكثر من قدر وضوءه - صلى الله عليه وسلم - من الصحابة قدرهما بذلك، ففي مسلم عن سفينة مثله (¬5)، ولأحمد وأبي داود بإسناد صحيح عن جابر (¬6) مثله، وفي الباب عن عائشة وأم سلمة مثله (جـ) وابن عباس وابن عمر وغيرهم وأشار إلى ذلك البخاري في أول كتاب الوضوء بقوله: وكره أهل العلم الإِسراف فيه، وأن يجاوزوا فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬7). ¬

_ (أ) في ب: بما. (ب) ما بينهما ساقطة من هـ. (جـ) ساقطة من هـ.

فائدة: الصاع يذكر ويؤنث، ويقال أيضًا صوع وصواع، وأمداد جمع مد وهو مذكر، وقال بعضهم: جمع مداد، ويؤول عليه قوله - صلى الله عليه وسلم -: "سبحان الله مداد كلماته"، والمشهور مثل عددها وهذا مثال يراد به التقريب لأن الكلمات لا تدخل في الكيل والوزن وإنما تدخل في العدد. 51 - وعن عمر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما منكم من أحد يتوضَّأ فَيُسْبِغُ الوضوءَ ثم يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه، إلَّا فُتحت له أبوابُ الجنة" أخرجه مسلم (¬1) والترمذي وزاد: "اللهمَّ اجعلني من التوَّابين واجعلني من المتطَهْرين". عمر بن الخطاب هو أبو حفص عمر بن الخطاب بن نفيل بن عبد العزي بن رباح بن عبد الله بن قرظ بن رزاح بن عدي بن كعب بن لؤي، يجتمع مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في كعب وكذلك مع أبي بكر. أسلم سنة ست من النبوة وقيل: سنة خمس بعد أربعين رجلا وإحدى عشرة امرأة، ويقال به تمت الأربعون وظهر الإِسلام يوم إسلامه وسمي الفاروق لذلك وشهد المشاهد كلها مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، كان أبيض تعلوه حمرة وقيل: آدم طوالا أصلع شديد حمرة العينين في عارضه خفة، أعسر يسر يعني يعمل بيديه جميعا يخضب بالحناء والكتم، طعنه أبو لؤلؤة غلام المغيرة بن شعبة مصدر الحاج بالمدينة يوم الأربعاء لأربع بقين من ذي الحجة سنة ثلاث وعشرين، ودفن يوم الأحد غرة المحرم سنة أربع وعشرين وله من العمر ثلاث وستون سنة (أ)، وقيل: تسع وخمسون، وقيل: ثمان وخمسون وقيل: ست ¬

_ (أ) ساقطة من ب.

وخمسون، وقيل: إحدى وستون، وكانت خلافته عشر سنين ونصفا وصلى عليه صهيب ودفن إلى جانب أبي بكر الصديق رضي الله عنهما. روى عنه أبو بكر وباقي العشرة وابنه عبد الله وأبو هريرة وابن عباس وابن الزبير وأنس بن مالك وعلقمة بن وقاص الليثي ومالك بن أوس بن الحدثان وغيرهم من الصحابة والتابعين (¬1). الحديث أخرجه مسلم وأبو داود وابن حبان لأن حديث عقبة بن عامر (¬2) عن عمر، وأخرجه الترمذي من وجه آخر عن عمر وزاد فيه: "اللهم اجعلني من التوابين" (¬3) الحديث قال: وفي إسناده اضطراب، ولا يصح فيه كثير شيء. قال المصنف -رحمه الله تعالى-: ورواية مسلم سالمة من هذا الاعتراض والزيادة التي عنده رواها البزار والطبراني في الأوسط (¬4) من طريق ثوبان، ولفظه: "من دعا بوضوء فتوضأ فساعة فرغ من وضوئه يقول: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا رسول الله، اللهم اجعلني من التوابين، واجعلني من المتطهرين". ورواه ابن ماجه من حديث أنس (¬5)، وروى النسائي في عمل اليوم والليلة (¬6)، والحاكم في المستدرك من حديث أبي سعيد الخدري بلفظ من توضأ فقال: "سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك، كتب في رق، ثم طبع بطابع فلم يكسر إلى (أ) يوم القيامة". واختلف في ¬

_ (أ) في الأصل: إلا، ومصوبة في الهامش.

وقفه ورفعه، وصحح النسائي الموقوف وضعف الحازمي الرواية المرفوعة لأن الطبراني قال في الأوسط (¬1) لم يرفعه عن شعبة إلا يحيى بن كثير. وفي الحديث دلالة على استحباب هذا الذكر عقيب الوضوء. قال (¬2) النووي: قال أصحابنا: وتستحب هذه الأذكار عقيب الغسل أيضًا. والله أعلم. (عدة أحاديث باب الوضوء أربعة وعشرون حديثًا) (أ). ¬

_ (أ) بهامش الأصل.

باب المسح على الخفين

باب المسح على الخفين 52 - عن المغيرة بن شعبة - رضي الله عنه - قال: كنت مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، فتوضأ، فأهْوَيْتُ لأنزِع خُفَّيْه، فقال: دَعْهُمَا، فإني أدخلتهما طاهرتيْنِ، فمسح عليهما (¬1). متفق عليه. وللأربعة عنه إلا النسائي: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مسح أعلَى الخفِّ وأسفله (¬2). وفِي إسناده ضعف. حديث المغيرة أخرجه الشيخان واللفظ المصدر للبخاري، ورواه أبو داود بلفظ: (دع الخفين) وذكر البزار أنه روى عن المغيرة من نحو (أ) ستين طريقا وذكر ابن منده مبها خمسة وأربعين طريقا ورواه الشافعي (¬3) بلفظ: "قلت: يا رسول الله أمسح (ب) على الخفين؟ قال: نعم، إذا (جـ) أدخلتهما (د) وهما طاهرتان". ¬

_ (أ) زاد في ب: من. (ب) في ب، هـ: أتمسح. (جـ) في النسخ: إني، والتصحيح من مسند الشافعي. (د) في ب: أدخلتها.

وقوله: كنت إلخ .. ذكر أن ذلك كان في سفر وصرح به البخاري، وفي المغازي أنه كان في غزوة تبوك (¬1)، تردد في ذلك من بعض رواته، ولمالك وأحمد وأبي داود من طريق عباد بن زياد عن عروة عن المغيرة أنه كان في غزوة تبوك بلا تردد وأن ذلك كان عند صلاة الفجر (¬2). وقوله: فتوضأ (¬3)، أي بالكيفية المعتبرة لا أنه غسل (أ) رجليه، وقد صرح بذلك البخاري، وذكر أنه كان عليه جبة شامية (¬4)، ولأبي داود من جباب الشام (¬5)، وزاد أحمد: "تمضمض واستنشق ثلاث مرات، فذهب يخرج يديه من كميه فكانا ضيقين فأخرجهما من تحت الجبة" (¬6). ولمسلم من وجه أي "وألقى الجبة على منكبه" (¬7) ولأحمد: "فغسل يده اليمنى ثلاث مرات" (¬8) وللبخاري: "ومسح برأسه" (¬9). وقوله: فأهويت أي: مددت يدي، قال الأصمعي: أهويت بالشيء إذا أومأت به، وقال غيره: أهويت أي: قصدت الهوي من القيام إلى القعود وقيل: الإِهواء الإِمالة. ¬

_ (أ) في هـ: اغتسل.

قال ابن بطال: وفيه خدمة العالم، وأن للخادم أن يقصد إلى ما يعرف من عادة مخدومه قبل أن يأمره. وفيه الفهم عن الإشارة ورد الجواب عن ما يفهم عنها، لقوله: "دعهما" وقوله: أدخلتما، أَي القدمين طاهرتين. كذا للأكثر (أ). وفي رواية: وهما طاهرتان (¬1) ولأبي داود: "فإني أدخلت القدمين الخفين وهما طاهرتان" (¬2). وللحميدي (¬3) في مسنده: قلت: يا رسول الله أيمسح أحدنا على خفيه؟ قال: نعم إذا أدخلتهما وهما طاهرتان (¬4). وهذا الحديث يدل على جواز الاكتفاء بالسح على الخفين في السفر (¬5) إذ القصة فيه، والعلماء مختلفون في ذلك، فقال به خلق كثير من الصحابة ومن بعدهم، فمن الصحابة: علي رضي الله عنه في رواية، وسعد بن أبي وقاص وبلال وعمرو بن أمية الضمري وصفوان بن عسال وحذيفة وبريدة وخزيمة بن ثابت وأبو بكرة وسهل بن سعد وأسامة بن زيد وسلمان وجرير البجلي والمغيرة بن شعبة وعمر في رواية، وابنه وابن عباس وأبو حنيفة والشافعي وغيرهم، فعمر وابنه وعائشة، والليث أطلقوا ذلك من دون تحديد بزمان، وعلي وابن عباس وابن ¬

_ (أ) في هـ: للأكثرين.

مسعود وعطاء والنخعي والثوري وشريح وأبو حنيفة والشافعي (¬1) وقتوا باليوم والليلة في الحضر والثلاث في السفر، وعن مالك يجزيء في السفر لا الحضر، وعنه العكس، وعنه مطلقا، وعنه لا يجزيء مطلقا (¬2)، والقائلون بذلك جوزوا المسح على الخف؛ وهو نعل من أدم يغطي الكعبين، والجرموق: وهو خف كبير يلبس فوق خف صغير، والجورب: وهو فوق الجرموق يغطي الكعبين أيضا دون النعل وهي تكون دون الكعاب. وله شرطان عندهم، أحدهما أن يلبس الخف على طهارة تامة، فلو غسل رجله اليمنى ثم أدخلها الخف قبل أن يغسل الثانية لم يعتد بهذا اللبس لعدم التمام والمستحاضة لا يعتد بلبسها لضعف طهارتها (¬3). الثاني: كون الخف ساترا، قويا، مانعا لنفوذ الماء، غير مخرم، فلا يمسح على ما لم يستر العقبين لما مر، ولا على مخرق يبدو منه محل الفرض، ولا منسوج، إذ لا يمنع الماء، ولا مغصوب، لوجوب نزعه. ثم اختلفوا في كيفية المسح، فذهب ابن أبي وقاص وعمر بن عبد العزيز والزهري وابن المبارك والشافعي وغيرهم إلى أنه (1) يغمس يديه في الماء، ثم يضع باطن كفه اليسرى تحت عقب الخف، وكفه اليمنى على أطراف أصابعه (¬4)، ثم يمر اليمنى إلى ساقه واليسرى إلى أطراف أصابعه. ¬

_ (أ) في ب: أن.

وذهب الثوري والنخعي (¬1) وأبو حنيفة وأحمد إلى أن المستحب مسح أعلى الخف دون أسفله. قال الشافعي (¬2): ويجزيء ما أتى به بيده أو بعضها أو خشبة أو خرقة، وسواء مسح منه قليلا أو كثيرا، وقال أبو (¬3) حنيفة: لا يجزيء إلا (أ) قدر ثلاث أصابع بثلاث. وقال زفر (¬4): لا يجزيء إلا قدر ثلاث أصابع ولو بإصبع. وقال أحمد (¬5): لا يجزئ إلا إذا مسح أكثره وعن الشافعي (¬6): ويمسح على عقب الخف، وقال المزني: ذلك غير مسنون وحجة هؤلاء حديث المغيرة وغيره من أحاديث الباب المذكورة في هذا وكثير غير ذك، قال الإِمام أحمد: فيه أربعون حديثًا عن الصحابة مرفوعة. قال ابن أبي حاتم: فيه عن أحد وأربعين، وقال ابن عبد البر في الاستذكار (¬7): روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - المسح على الخفين نحو أربعين من الصحابة. ونقل ابن المنذر (¬8) عن الحسن البصري قال: حدثني سبعون من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه (ب) كان يمسح على الخفين وذكر أبو القاسم ابن منده أسماء من رواه في "تذكرته" فبلغ ثمانين صحابيا، وسرد الترمذي (¬9) منهم جماعة، ¬

_ (أ) في هـ: إلى. (ب) ساقطة من ب، جـ، مبينة في الأصل وهـ.

والبيهقي في "سننه" (¬1) جماعة، وقال ابن عبد البر (¬2): بعد أن سرد منهم جماعة: لم يرو غيرهم منهم خلافا إلا الشيء الذي لم يثبت. وذهب العترة جميعا والإِمامية والخوارج وأبو بكر بن داود (¬3) إلى أنه لا يجزيء، قالوا: لقوله تعالى {وأرجلكم إلى الكعبين} فعينت الآية مباشرة الرجلين بالماء، وما تقدم في باب الوضوء من حكاية وضوئه وتعليمه وكثير من الأحاديث الصحيحة. قالوا: وإثبات المسح على الخفين منسوخ بآية المائدة، ويدل على النسخ قصة عمار مع سعد واستشهاد عمر لثمانية عشر رجلا من الصحابة يثبتون رؤية (أ) المسح، واستشهاد علي رضي الله عنه لاثنين وعشرين رجلا من الصحابة بأن المسح كان قبل نزول (ب) المائدة (¬4). روى ذلك في "الشفا" قال ابن بهران: ولم أر هذه القصة في شيء من كتب الحديث. وقال ابن عباس: ما مسح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعدها (¬5). ¬

_ (أ) في ب، هـ: رواية. (ب) زاد في ب: آية.

وروي عن علي: سبق الكتاب الخفين (¬1) أي عليهما في الحكم، وأجيب عن ذلك بأنه (أ) لا تنافي بين الآية والمسح، وذلك لأن الآية مطلقة أو عامة بالنظر إلى حالة لبس الخف وعدمها، فهو في قوة اغسلوا أرجلكم مع خف وغيره فيكون عاما أو في قوة و (ب) اغسلوا أرجلكم غير مقيد بوقت أو حال، يعني صالحا للحال المعين وغيره (جـ)، وأحاديث المسح إما مخصصة أو مقيدة للإِطلاق، وهو بالنظر إلى حال لبس الخف مع شرائط وزمان مخصوص. ورواية: إنه قبل المائدة معارض بمثله، وهو حديث جرير بن عبد الله البجلي قال: .. ثم توضأ ومسح على خفيه، حتى قال جرير لمن سأله: أقبل المائدة أو بعدها؟ قال: وهل أسلمت إلا بعد المائدة (¬2)؟. وأيضًا فإن قصة المسح في غزوة تبوك (¬3)، وآية المائدة (د) في غزوة المريسيع وهي متقدمة باتفاق، والذي نزل في يوم (هـ) عرفة من (و) سورة المائدة في حج النبي - صلى الله عليه وسلم - هو قوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} (¬4) الآية وإسلام جرير كان في سنة عشر من شهر رمضان من تلك السنة. ¬

_ (أ) في ب: بأن. (ب) في هـ: الواو ساقطة. (جـ) في جـ: أو غيره. (د) في ب (حج النبي - صلى الله عليه وسلم -) مقحم، وقد أشار إلى ذلك الناسخ. (هـ) ساقطة من هـ. (و) في هـ: في.

واعلم أن مقتضى مذهب من يبني (أ) العام على الخاص مطلقا، (وهو مذهب بعض الشافعية) (ب)، أو من يقول: إن الخاص مخصص للعام سواء تقدم أو تأخر بوقت لا يتسع للعمل وهو المؤيد بالله كما صرح به في شرح التجريد والسيد محمد بن إبراهيم والفقيه سليمان بن ناصر وعبد الله بن زيد، وبه قال الشافعي وأبو الحسين والرازي وبعض الظاهرية هو العمل بحديث المسح سواء كانت آية المائدة متقدمة أو متأخرة، إما تخصيصا كما في حالة تأخر الآية أو نسخا كما إذا كانت الآية متقدمة، وقد مضى الوقت الذي أمكن فيه، ولا يقال إنه نسخ للمعلوم بالمظنون إذ الآية على ما قد عرفت باعتبار عموم الأحوال عامة، ودلالة العموم ظنية، فهو نسخ بعض الأفراد الذي تناوله العام، وهو حال (جـ) لبس الخفين في السفر على الشريطة المتقدمة أو في الحضر كذلك، وأما من يقول بأن (د) العام المتأخر (هـ) ناسخ للخاص المتقدم فيفترق الحال عنده بين أن تكون (و) المائدة متقدمة أو متأخرة، وهو مذهب جمهور الزيدية والحنفية وبعض الشافعية فمع (ز) صحة تقدم المائدة على ما قيل وتأخر رخصة الخفين فالعمل به صحيح، وعلى فرض تقدمه يكون العمل بالآية متيقنا، ومع جهل التاريخ يتوقف في ذلك فيرجع إلى العمل بالآية إذ هو المقطوع به، إلا أنه يلزم على مقتضى ما ذهب إليه أبو طالب والشيخ الحسن الرصاص من أنه مع جهل التاريخ يعمل بالخاص، أن يعمل على احتمال جهل التاريخ بحديث مسح الخفين. قال المنصور بالله: وبقول أبي طالب ¬

_ (أ) في هـ: يبين، وفي ب: بنى. (ب) بهامش الأصل. (جـ) في ب: حالت له. (د) في جـ: أن. (هـ) في ب: المتأخرة. (و) زاد في ب: آية. (ز) في ب، هـ: مع.

قال به (أ) كثير من الفقهاء والمتكلمين وقال البرماوي (ب) هذا القول المتقدم أنه مذهب الشافعي وأصحابه والحنابلة. وبه قال القاضي عبد الجبار وأبو الحسين وبعض الحنفية. وقال ابن حجر في فتح الباري (¬1) نقل ابن المنذر عن ابن المبارك قال: ليس في المسح على الخفين عن الصحابة اختلاف، لأن كل من روي عنه إنكاره فقد روي عنه إثباته. وقال ابن عبد البر: لا أعلم روي عن أحد من السلف إنكاره إلا عن مالك (¬2)، مع أن الرواية الصحيحة عنه مصرحة بإثباته، وقد أشار الشافعي في الأم (¬3) إلى إنكار ذلك على (جـ) المالكية، والمعروف المستقر عندهم الآن قولان: الجواز مطلقا، ثانيهما (د) للمسافر دون المقيم، وهذا الثاني مقتضى ما في المدونة (¬4) وبه جزم ابن الحاجب وصحح الباجي (¬5) الأول، ونقله عن ابن وهب وعن ابن نافع في المبسوطة (هـ) نحوه، وإن مالكا إنما كان يتوقف منه في خاصة نفسه مع إفتائه بالجواز، وهذا مثل ما صح عن أبي أيوب الصحابي (¬6). انتهى. وقال في التلخيص (¬7) نقلا عن ابن عبد البر، لم يرو (و) خلاف إلا الشيء الذي ¬

_ (أ) ساقطة من هـ. (ب) زاد في هـ: في. (جـ) في جـ: عن. (د) في جـ: ثانياهما. (هـ) في جـ: المتوسطة. (و) في جـ: يرد.

لم يثبت عن عائشة وابن عباس وأبي هريرة. قلت (¬1): قال أحمد: لا يصح حديث أبي هريرة في إنكار المسح، وهو باطل، وروى الدارقطني من حديث عائشة إثبات المسح على الخفين (¬2) ويؤيد ذلك حديث شريح بن (¬3) هانئ في سؤاله إياها عن ذلك فقالت له: سل ابن أبي طالب، وفي رواية إنها قالت: لا علم لي بذلك، وأما ما أخرجه ابن أبي شيبة (¬4) عن حاتم بن إسماعيل عن جعفر (¬5) بن محمد عن أبيه قال: قال علي: سبق الكتاب الخفين، فهو منقطع لأن جعفرا (أ) لم يدرك عليا، وأما ما روي محمد ابن (ب) مهاجر عن إسماعيل بن أبي أويس عن إبراهيم بن إسماعيل عن داود بن الحصين عن القاسم عن عائشة قالت: لأن أقطع رجلي أحب إليّ (د) أن أمسح على الخفين، فهو باطل عنها، قال ابن حبان: محمد بن مهاجر (د) كان يضع الحديث (¬6). وأغرب ربيعة فيما حكاه الآجري عن أبي داود قال: جاء زيد بن أسلم فقال: أمسح على الجوربين؟ فقال ربيعة: ما صح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مسح على الجوربين فكيف على خرقتين؟ وقوله: في رواية الأربعة (¬7) عنه (5) أنَّ النبي صلى (و) الله عليه وسلم مسح أعلى ¬

_ (أ) في النسخ: محمد، والمثبت هو الصحيح انظر التلخيص 1/ 167، وابن أبي شيبة 1/ 186. (ب) في هـ: عن. (جـ) زاد في هـ من. (د) في جـ: هاجر. (هـ) ساقطة من جـ. (و) ساقطة من ب.

الخف وأسفله وفي إسناده ضعف، روي الحديث من طريق ثور بن يزيد عن رجاء بن حيوة عن كاتب المغيرة عن المغيرة، وفي رواية ابن ماجة عن كاتب المغيرة: قال الأثرم عن أحمد أنه (أ) كان يضعفه ويقول: ذكرته لعبد الرحمن بن مهدي فقال: عن ابن المبارك عن ثور حدثت عن رجاء عن كاتب المغيرة -ولم يذكر المغيرة (¬1)، فالعلة فيه من وجهين (¬2). قال المصنف (¬3) -رحمه الله تعالى- بعد أن ساق كلام جماعة في تضعيفه: وقع في سنن الدارقظني (¬4) ما يوهم رفع العلة، وهي: حدثنا عبد الله بن محمد بن عبد العزيز حدثنا داود بن رشيد عن الوليد بن مسلم عن ثور بن يزيد حدثنا رجاء بن حيوة فذكره. فهذا ظاهره أن ثورا سمعه من رجاء لم فتزول العلة، ولكن رواه أحمد بن عبيد (ب) الصفار في مسنده عن أحمد بن يحيى الحلواني عن داود بن رشيد فقال: عن رجاء ولم يقل حدثنا رجاء، فهذا اختلاف على داود يمنع من القول بصحة، وصله مع ما تقدم من كلام الأئمة. انتهى. والحديث حجة من يقول: إنه يمسح أعلى الخف وأسفله وقد تقدم ذلك. 53 - وعن علي - رضي الله عنه - قال: لو كان الدِّينُ بالرَّأي لكان أسفل الخف أولى بالمسح من أعلاه، وقد رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يمسح على ظاهر خفيه. أخرجه أبو داود بإسناد حسن (¬5). ¬

_ (أ) في هـ: أن. (ب) في هـ: عبيدة.

قال المصنف -رحمه الله تعالى- في التلخيص: إسناده صحيح (¬1). والحديث يدل على أن شرعية مسح الخف ليست من العمل بالرأي والقياس، وإنما هي توقيفية، لا تظهر لها مناسبة إلا مجرد التخفيف والتيسير فيوقف منه على ما شرع، وقد شرع المسح على ظاهر الخفين، وهذا معارض بما تقدم من رواية حديث المغيرة. وفيه ما تقدم. وقد روي أيضًا عن ابن عمر أنه كان يمسح أعلى الخف وأسفله، كذا رواه الشافعي والبيهقي (¬2). 54 - وعن صَفوان بن عَسّال - رضي الله عنه - قال: "كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يأمرنا إذا كنا سفرا أن لا ننْزِع أخفافَنا ثلاثةَ أيْامٍ ولياليهنّ، إلَّا من جَنَابَةٍ، ولكن من غائط وبول ونوم". أخرجه النسائي والترمذي واللفظ له وابن خزيمة وصححاه (¬3). هو صفوان بن عسال بفتح العين المهملة وتشديد السين المهملة وباللام، ابن الربض -بفتح الراء المهملة وفتح الباء الموحدة وبالضاد المعجمة- ابن زاهر الرادي، سكن الكوفة وحديثه فيهم، يقال: إن عبد الله (¬4) بن مسعود روى ¬

_ (¬1) رجاله ثقات وصححه الحافظ في التلخيص 1/ 169. (¬2) سنن البيهقي 1/ 291. (¬3) الترمذي الطهارة باب المسح على الخفين للمسافر والمقيم 1/ 158 ح 95. والنسائي بمعناه الطهارة باب التوقيت في المسح على الخفين 1/ 71، وابن ماجه كتاب الطهارة باب الوضوء من النوم 1/ 161 ح 478، ابن خزيمة بمعناه باب ذكر الدليل على أن الرخصة في المسح على الخفين إنما هي من الحدث 1/ 98 - 99 ح 196، البيهقي بمعناه كتاب الطهارة باب التوقيت في المسح على الخفين 1/ 276، والدارقطني بمعناه 1/ 197، أحمد 4/ 239، والشافعي 17 ابن حبان -موارد- الطهارة باب التوقيت في المسح 72 ح 179، عبد الرزاق في الطهارة باب كم يمسح على الخفين 1/ 250. ابن أبي شيبة في الطهارة في المسح على الخفين 1/ 177، ابن الجارود نحوه باب الوضوء من الغائط والبول والنوم 12 ح 4. (¬4) معجم الطبراني الكبير 8/ 63 - 64 ح 7347.

عنه وروى عنه زر بن حبيش وعبد الله بن سلمة (¬1). الحديث رواه أيضًا الشافعي وأحمد وابن ماجه وابن حبان والدارقطني والبيهقي. وقال الترمذي (¬2) عن البخاري: حديث حسن. وصححه الترمذي (¬3) والخطابي ومداره عندهم على عاصم بن أبي النجود (¬4) عن زر بن حبيش عنه، وذكره ابن منده (¬5) أبو القاسم أنه رواه عن عاصم أكثر من أربعين نفسا وتابع عاصما عليه عبد الوهاب بن بخت وإسماعيل بن أبي خالد وطلحة بن مصرف والمنهال بن عمرو ومحمد بن سوقه وذكر جماعة معه، ومراده أصل الحديث لأنه طويل مشتمل على التوبة والمرء مع من أحب، وغير ذلك لكن حديث طلحة عند الطبراني (¬6) بإسناد لا بأس به وقد روى الطبراني (¬7) أيضًا حديث المسح من طريق عبد الكريم بن (أ) أمية عن (ب) حبيب بن أبي ثابت عن زر، وعبد الكريم (¬8) ضعيف، ورواه من طريق أبي روق عن أبي الغريف عن صفوان بن عسال ولفظه: "لِيَمْسَحْ أحدُم إذا كان مُسافرا على خفيه إذا أدخلهما طاهرين (جـ) ثلاثة أيام ولياليهن، وليمسح المقيم يوما وليلة" (¬9). ¬

_ (أ) في هـ: أبي، وأشار إلى أنها مصوبة من التلخيص، وهو الصحيح، انظر الترجمة وباقي النسخ: ابن. (ب) في جـ: ابن. (جـ) في هـ: طاهرتين.

ووقع في الطبراني (¬1) زيادة في آخر هذا المتن وهي قوله: "أو ريح". ولكن قال: إن وكيعا تفرد بها عن مسعر بن عاصم. وفي الحديث دلالة على توقيت المسح بالثلاثة الأيام وعلى اشتراط السفر، وقد تقدم حكاية المذاهب. وفيه دلالة على أنه يختص بالوضوء دون الغسل، وهو مجمع على ذلك، وظاهر لفظ الأمر الوجوب ولكن الإِجماع يصرفه عن مقتضاه فيحمل على الإِباحة أو الندب ولذلك اختلف العلماء القائلون به أيهما أفضل المسح على الخفين أو غسل القدمين. قال المصنف -رحمه الله- عن ابن المنذر: والذي اختاره أن المسح أفضل (¬2) وقال الشيخ محيي الدين (¬3): صرح جمع من الأصحاب أن الغسل أفضل بشرط أن لا يترك المسح رغبة عن السنة كما قالوه في تفضيل القصر على الإِتمام. وقد صرح جمع من الحفاظ بأن المسح على الخفين متواتر (¬4). انتهى كلام الحافظ المصنف. 55 - وعن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - قال: جعل النبي - صلى الله عليه وسلم - ثلاثة أيام ولياليهن للمسافر، ويوما وليلة للمقيم، يعني في المسح على الحفين. أخرجه مسلم (¬5). ¬

_ (¬1) ليست في الطبراني هذه الزيادة ولكن لعله في الدارقطني كما هو في التلخيص والبدر التلخيص 1/ 158، البدر 1/ 257، الطبراني 8/ 84. (¬2) فتح الباري 1/ 306. (¬3) المجموع 1/ 462. (¬4) قلت: وقد ذكر البزار أنه روى حديث المغيرة عن ستين رجلا وقال الحسن البصري: حدثني سبعون من الصحابة بالمسح على الخفين، وجمع البعض رواة حديث صفوان فجاوزوا الثمانين منهم العشرة، فتح الباري 1/ 306 - 307 - نصب الراية 1/ 162 البدر 1/ 257، واجتهاد السلف على هذه السنة لكي يردوا على المنكرين لهذه السنة التي تيسر على الناس أمور حياتهم. والله أعلم. (¬5) أخرجه مسلم 1/ 566. النسائي كتاب الطهارة التوقيت في المسح على الخفين للمقيم 1/ 72. ابن ماجة في كتاب الطهارة باب ما جاء في التوقيت في المسح للمقيم والمسافر 1/ 183 ح 552، أبو يعلى 1/ 229 ح 264، أحمد 1/ 113.

وأخرجه أبو داود والترمذي (¬1) وابن حبان من حديث شريح بن هانيء قال: أتيت عائشة أسألها عن المسح على (أ) الخفين، فقالت: عليك بابن أبي طالب فاسأله، فإنه كان يسافر مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فسألناه، فقال: جعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاثة أيام ولياليهن للمسافر، ويوما وليلة للمقيم. وفي الحديث دلالة ظاهرة لمذهب الجمهور كالشافعي وأبي حنيفة وأحمد ومن بعدهم من العلماء وجماهير الصحابة والتابعين في توقيته (ب) بما ذكر، ورد على ما روى عن مالك، وهو قول (جـ) قديم للشافعي من جوازه بلا توقيت، وسيأتي حجة ذلك إن شاء الله تعالى. 56 - وعن ثَوبان - رضي الله عنه - قال: "بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سرية فأمرهم أن يمسحوا على العصائب -يعني العمائم- والتساخين -يعني الخفاف رواه أحمد وأبو داود وصححه الحاكم (¬2). هو أبو عبد الله، ويقال: أبو عبد الرحمن ثوبان بفتح الثاء وبالباء الموحدة ابن ¬

_ (أ) في جـ: عن. (ب) في هـ: تقويته، ولعله تصحيف. (جـ) ساقطة من ب.

بُجْدُد بضم الباء الموحدة وسكون الجيم وضم الدال المهملة الأولى وقيل (أ) ابن جَحْدر بفتح الجيم وسكون الحاء المهملة من السراة، وهي موضع بين مكة واليمن، وقيل: إنه من حمير أصابه سبي"، فاشتراه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأعتقه، ولم يزل معه سفرا وحضرا إلى أن توفي النبي - صلى الله عليه وسلم -، فخرج إلى الشام، فنزل الرملة، ثم انتقل إلى حمص، وتوفي بها سنة أربع وخمسين. روى عنه شداد (ب) وجبير ابن نفير وأبو الأشعث الصنعاني (¬1) (جـ). (د ولفظ أبي داود (¬2) قال: "بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سرية فأصابهم البرد فلما قدموا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمرهم أن يمسحوا على العصائب والتساخين" د). والحديث يدل على شرعية المسح على الخفين والعمائم ولكنه كما ذكر من حكاية أبي داود مشروط بالعذر فإن إصابة البرد المذكورة (هـ) في القصة مناسبة للترخيص فيظهر من تعليق الحكم بها باعتبارها لكنه في الخفين قد تبين الكلام والخلاف، وفي المسح على العمائم تقدم الكلام على ذلك من غير عذر وأما مع العذر وهو خشية الضرر فلا كلام في الجواز. 57 - وعن عمر - رضي الله عنه - موقوفًا، وأنس مرفوعًا: "إذا توضأ أحدُكم ولبس خفَّيْه فلْيمسَحْ عليهما، ولْيُصَلِّ فيهما، ولا يَخلَعْهُما إن شاء إلا من جنابة" أخرجه الدارقطني والحاكم وصححه (¬3). ¬

_ (أ) ساقطة من جـ. (ب) في هـ: "ابن أوس" بالحاشية. (جـ) زاد في هـ: وغيرهم. (د) في الأصل متأخرة وقد أشار إلى تقديمها، وهي ساقطة من ب، هـ. (هـ) في جـ: المذكور.

الحديث مطلق في الترخيص ولم يوقت ولم يشرط السفر ولا غيره، ولكنه مقيد كا تقدم من التوقيت واشتراط الطهارة قبل اللبس فتنبه. 58 - وعن أبي بكرة - رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه رخص للمسافر ثلاثة أيام ولياليهن، وللمقيم يوما وليلة، إذا تطهر فلبس خفيه أن يمسح عليهما. أخرجه الدارقطني وصححه ابن خزيمة (¬1). هو أبو بكرة نُفَيْع بن الحارث بضم النون وفتح الفاء وسكون الياء، وقيل: ابن مَسْرُوح بفتح الميم وسكون السين المهملة وضم الراء وبالحاء المهملة، وقيل: بل كان عبدا للحارث بن كلدة الثقفي، فاستلحقه وغلبت عليه كنيته، وأمه اسمها سمية أمة للحارث بن كلدة وهي أم زياد الذي استلحقه معاوية بأبيه، ويقال: إن أبا بكرة تدلى يوم الطائف ببكرة من بعض نواحي الطائف وأسلم، فكناه النبي - صلى الله عليه وسلم - بأبي بكرة وأعتقه فهو من مواليه، ونزل البصرة ومات بها سنة ¬

_ = 1/ 181، البيهقي كتاب الطهارة باب ما ورد في ترك التوقيت 1/ 279 وحديث أنس له طريقان عند الدارقطني 1/ 203 - 204 ح 2، البيهقي 1/ 279. الحاكم = / 181. أ) عبد الغفار بن داود عن حماد بن سلمة وعبد الغفار بن داود بن مهران أبو صالح الحراني نزيل مصر ثقة فقيه التقريب 216. قال الحاكم: على شرط مسلم ووافقه الذهبي، قال: تفرد به عبد الغفار وهو ثقة، والحديث شاذ، وقول الذهبي تفرد به عبد الغفار ليس بصحيح لمتابعة أسد بن موسى. ب) أسد بن موسى عن حماد بن سلمة، وأسد بن موسى بن إبراهيم بن الوليد ابن عبد الملك الخليفة الأموي الملقب بأسد السنة قال النسائي: ثقة، قال الذهبي ما علمت به بأسا إلا أن ابن حزم ذكره في الصيد وقال: منكر الحديث وضعفه، وهو تضعيف مردود، وقال ابن حجر: صدوق، وقد ذكر ابن الجوزي الحديث ولم يعله: وقال ابن عبد الهادي: إن إسناده قوي والعلماء استنكروا الحديث للأحاديث الصحيحة المعارضة بالتوقيت للمسافر ثلاثة أيام وللمقيم يوم وليلة. والله أعلم. الميزان 1/ 207، التقريب 31، التحقق 161، والتنقيح 161، الكاشف 1/ 115. (¬1) الدارقطني باب الرخصة على المسح على الخفين 1/ 194 ح 1، وابن خزيمة باب ذكر لحد الصفة للألفاظ المجملة التي ذكرتها والدليل على أن الرخصة في المسح على الخفين للابسها على طهارة 1/ 96، وابن ماجة بنحوه كتاب الطهارة باب ما جاء في التوقيت في المسح للمقيم والمسافر 1/ 184 ح 556. البيهقي كتاب الطهارة باب التوقيت في المسح على الخفين 1/ 276. المنتقى لابن الجارود باب المسح على الخفين 39 ح 87، ابن حبان -الموارد- باب التوقيت في المسح 72 ح 184، مسند الشافعي 17.

تسع وأربعين، وقيل سنة (أ) إحدى وخمسين، وقيل: سنة اثنتين وخمسين. روى عنه ابناه عبد الرحمن، ومسلم، وربعي بن خراش، والأحنف بن قيس، وإبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف، والحسن البصري، وقيل: إن الحسن لم يدركه (¬1). وأخرجه أيضًا ابن حبان، وابن الجارود، والشافعي، وابن أبي شيبة، والبيهقي، والترمذي في العلل المفرد، وصححه الخطابي أيضًا، ونقل البيهقي (¬2) أن الشافعي صححه في سنن حرملة. (ب (والحديث حكمه واضح. وقوله: إذا تطهر فلبس خفيه يعني إذا لبسهما وهو طاهر، فلم يخلعهما عند إرادة الوضوء الثاني، كما تقدم اشتراط ذلك) ب). 59 - وعن أبي بن عِمارة - رضي الله عنه - أنه قال: يا رسول الله أمسح على الخفين؟ قال: نعم، قال: يوما؟ قال: نعم. قال (جـ): ويومين؟ قال: نعم. قال: وثلاثة أيام (د)؟ قال نعم .. وما شئت. أخرجه أبو داود وقال: ليس بالقوي (¬3). ¬

_ (أ) ساقطة من جـ. (ب) في الأصل متقدمة وأشار إلى تأخيرها بعد قوله: وأخرجه. (جـ) بالهامش في ب. (د) ساقطة من جـ.

هو أبي بن عِمارة بكسر العين المهملة وهو المشهور، وضمها، الأنصاري، صلى النبي - صلى الله عليه وسلم - في بيت أبيه عِمارة القِبْلَتَيْنِ، أدخله أبو رُزعة في مسند البصريين (أ)، له عنده حديث واحد، وهو مضطرب الإِسناد، ولم يذكره البخاري في التاريخ، وهو غير مشهور. روى عنه أيوب بن قطن وعبادة بن نسي (¬1). وأخرجه ابن ماجه والدارقطني والحاكم في المستدرك، وضعفه البخاري فقال: لا يصح. وقال أبو داود: اختلف في إسناده، وليس بالقوي (¬2)، وقال أبو زُرعة الدمشقي عن أحمد: رجاله لا يعرفون (¬3)، وقاد أبو الفتح الأزدي: حديثه ليس بالقائم، وقال ابن حبان: لست أعتمد على إسناد خبره، وقال الدارقطني: لا يثبت (¬4) وقد اختلف فيه على يحيى (¬5) بن أيوب اختلافا كثيرا، وقال ابن عبد البر: لا يثبت، وليس له إسناد (ب) قائم (¬6)، وبالغ ابن الجوزي (¬7) ¬

_ (أ) في ب، جـ: المصريين، وهي مصححة في الأصل وهـ "البصريين". (ب) زاد في جـ: و.

فذكره في الموضوعات وقد ذهب إلى العمل بهذا الحديث مالك في المشهور وقول قديم للشافعي فيمسح بلا توقيت (¬1) وقد عرفت ما في الحديث من الضعف فلا يقوى على تخصيص عموم الآية، ولا على معارضة مفهوم أحاديت التوقيت والله سبحانه أعلم. (اشتمل هذا الباب على ثمانية أحاديث) (أ). آخر الجزء الأول، ويتلوه إن شاء الله الجزء الثاني وأوله: باب نواقض الوضوء والحمد لله رب العالمين ¬

_ (أ) بهامش الأصل، وهـ.

البدرُ التمام شرح بلوغ المرام للإمام القاضي الحسين بن محمد المغربي (1048 هـ- 1119 هـ) تحقيق علي بن عبد الله الزبن عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية قدم له فضيلة الشيخ صالح بن محمد اللحيدان رئيس مجلس القضاء الأعلى الجزء الثاني

البدر التمام شرح بلوغ المرام

حقوق الطبع محفوظة الطبعة الأولى 1414 - هـ = 1994 م

باب نواقض الوضوء

باب نواقض الوُضُوء 60 - عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: "كان أصحابُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على عهده ينتظرون العِشَاءَ حتى تخفُقَ رؤوسُهم، ثم يُصلُّونَ ولا يتوضؤون". أخرجه أبو داود، وصححه الدارقطني، وأصله في مسلم (¬1). وأخرج الترمذي من (أ) حديث شعبة: "لقد رأيتُ أصحابَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - يوقَظُونَ للصلاة حتى إني لأسمع لأحدهم غطيطًا، ثم يقومون فيصلون ولا يتوضؤون". قال ابنُ المبارك: "هذا عندنا وهم جلوس" (¬2). قال البيهقي (¬3): وعلى هذا حَمَلَهُ عبد الرحمن بن مهدي والشافعي. وقال ابنُ القَطَّان: هذا الحديثُ سياقُهُ في مسلم يحتمل أن يُنَزَّل على نومِ الجالس وعلى ذلك نَزَّلَه أكثُر الناس، لكن فيه زيادة على ذلك رواها يحيى القطان عن شعبة عن قتادة عن أنس، قال: ¬

_ (أ) في جـ: في.

"كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينتظرون الصلاة فيضعون جنوبهم فمنهم من ينامُ ثم يقومُ إلى الصلاة" (¬1). رواها قاسم بن أصبغ عن محمد بن عبد السلام (أ) الخشني عن بندار عن محمد بن بشار -عنه (ب) وقال ابن دقيق العيد: يُحمل (جـ) هذا على النومِ الخفيفِ، لكن يعارضه رواية الترمذي (¬2) (د) التي فيها ذِكر الغطيط. قال: وروى هذا الحديث أحمدُ بن حنبل عن يحيى القَطان بسنده، وليس فيه: "يضعون جُنُوبَهم"، وكذا أخرجه الترمذي (¬3) عن بندار بدونها، وكذا أخرجه البيهقي (¬4) من طريق تمتام (هـ) عن بندار، ورواه البزار والخَلَّال من طريق عبد الأعلى عن سعيد (و) عن قتادة، وفيه: "فيضعون (ز) جنوبهم" (¬5). وقال أحمد بن حنبل: لم ينقل (ح) شعبة قط: "وكانوا يضطجعون". وقال (ط): وقال هشام: "كانوا ينعسون". ¬

_ (أ) ساقطة في جـ، ومثبتة في هامش الأصل، ومصححة في هـ، ومثبتة ومصححة في ب. (ب) الواو ساقطة في جـ. (جـ) في ب: حمل. (د) في جـ: للترمذي. (هـ) في هـ: مصححة: هشام. (و) في هـ: شعبة، وكذلك في التلخيص 1/ 119 ونصب الراية 1/ 47. (ز) في هـ: يضعون. (ح) في هـ: يقل. (ط) ساقطة من هـ.

قال الخلال: قلت لأحمد في حديث سعيد (أ): كانوا يضعون (ب)، فتبسم فقال: هذا ثمرة "يضعون جنوبهم". والحديث يدل على أنَّ مَيَلَان الرأس لأجل النوم لا ينقض (جـ) الوضوء، وهذا هو حد الخَفْقَة، ولكن حديث الترمذي فيه زيادة على ذلك القدر وهو قوله: "لأحدهم غطيطا" فإن الغطيط والإيقاظ إنما يكون من النوم المستغرِق، وقد اختلف العلماءُ (¬1) في ذلك على مذاهب: أحدها: أنَّ النوم لا ينقض الوضوء على أي حال كان، وهذا محكيّ عن أبي موسى الأشعري، وسعيد بن المسيّب، وأبي بِجْلَز، وحُمَيد الأعرج، وظاهر حديث الترمذي ويحيى القطان حُجَّةٌ لهم. والتأويل بنَوْم القاعد خلاف الظاهر. الثاني: أن النوم ينقض الوضوء بكل حال، وهو مذهب الحسن البصري، وأبي عبيد القاسم بن سلام، وإسحاق بن راهَوَيْه، وهو قَولٌ غريبٌ للشافعي (¬2). قال ابن المنذر: وبه أقول، وروى معناه (د) عن ابن عباس وأنس وأبي هريرة -رضي الله عنهم- قالوا: لعموم حديث صفوان (¬3) بن عسال الذي صححه ابن خزيمة وغيره ففيه: "إلا من غائط أو بول أو نوم" فسوى بينها (هـ) في الحكم. المذهب الثالث: أنَّ كثير النوم ينقض بكل حال، وقليله لا يَنْقُص بحال، ¬

_ (أ) في هـ: شعبة، وكذا التلخيص 1/ 119، وفي المحرر 1/ 116. (ب) بهامش هـ. (ب) زاد في هـ: و. (د) في جـ: سفيان. (هـ) في هـ: فحذى بينهما، وفي جـ: فسوى بينهما.

وهذا مذهب الزهْرِيّ وربيعة والأوْزَاعِيّ ومالك (¬1) وأحمد في إحدى الروايَتَيْن عنه، قالوا: لأن النوم ليس بناقِضٍ بنفسِهِ، وإنما هو مظنة الحَدَث، وحُجتهم ما تقدم من حديث أنس فإنه محمولٌ على القليل، وروى في "أصول الأحكام" أيضًا (أ) عن عائشة أنه قال - صلى الله عليه وسلم -: "مَن استجمع نَوْمًا ... "، والاستجماع هو المبالغة في النوم، إذ هو مَأخُوذ مِنْ قولهم: "استجمع الفرس جَرْيًا" إذا بَالَغَ. وفي "التلخيص" (¬2) مَنْسُوبًا إلى البيهقي من رواية أبي هريرة: "مَن اسْتَحَقَّ النومَ وَجَبَ عليه الوُضُوءُ"، وقال البيهقي: لا يصح رفعه، [وفسر الراوي استحق النوم قال: هو أن يضع جنبه، كذا في سنن البيهقي (¬3)] (ب) وما رواه فِي "الشفاء" من حديث علي - رضي الله عنه - ونوم مضطجع يؤيد ذلك، فإن نوم المضطجع في الأغلب لا يكون إلا كثيرًا مبالغًا فيه. المذهب الرابع: أنه إذا نام على هيئةٍ من هيئات المُصلِّين كالراكع (جـ) والساجد والقائم والقاعد لا ينتقض (د) وضوءه سواء كان في الصلاة أو لم يكن، فإن نام مضطجعا أو على قفاه انتقض، وهذا مذهب أبي حنيفة وداود وقول غريب للشافعي (¬4)، هكذا حكى مذهب أبي حنيفة النوويُّ (¬5) في "شرح مسلم" وفي "البحر" (¬6) في تحقيق مذهب أبي حنيفة، قال زيد بن علي وأبو حنيفة: ¬

_ (أ) ساقطة من جـ. (ب) بهامش الأصل. (جـ) في جـ: بالراكع. (د) في جـ، هـ: لا ينقض.

لا ينقض (أ) في الصلاة لقوله: "إذا نام العبدُ في سجوده باهى اللهُ به الملائكةَ يقول: عبدي روحه عندى وجسده ساجد بين يدي" (¬1). رواه البيهقي وغيره، وقد ضُعِّف. المذهب الخامس: أنه لا ينقض إلا نوم الراكع والساجد، وروى هذا عن أحمد (¬2) بن حنبل ولعل وجهة الحديث المذكور وقاس الركوع على السجود. المذهب السادس: أنه لا ينقض النوم في الصلاة بكل حال، وينقض خارج الصلاة، وهو قول ضعيف للشافعي (¬3)، ولعل وجهة الحديث، وقيس باقي أفعال الصلاة على السجود (ب). المذهب السابع: أنه إذا نام جالسا ممكنا مقعدته من الأرض لم ينتقض، وإلا انتقض سواء قل أو كثر سواء كان في الصلاة أو خارجها، وهذا مذهب الشافعي، لأن النوم إنما هو مظنة الحدث، فإذا كان على هذه الكيفية لم يكن مظنة، والأصل بقاء الطهارة، وإذا كان على خلافها فهو مظنة خروج الريح، واستدل على ذلك بما رواه أبو داود وغيره من حديث علي - رضي الله عنه-: "العين (ب) وكاء السه، فمن نام فليتوضأ" (¬4) حسنه المنذري وغيره، وفيه بقية ¬

_ (أ) في جـ: لا ينتقض. (ب) زاد في جـ: و. (جـ) في ب: النوم.

ابن الوليد (¬1) وقد عنعنه، وهو مدلس، فإذا قال: عن "فليس بحجة". قال الشافعي: معناه أن النوم مظنة لخروج شيء من غير شعور به (أ) فالنوم ناقض لا لعينه، بل لكونه مظنة لذلك. والسه (¬2): بالسين المهملة والهاء هي الدبر. والوكاء: بالكسر والمد هو ما يربط به الخريطة وغيرها. وحَمْل الشافعي ما مر من الحديث على نوم المُمَكِّن مقعدته جَمْعًا بينها (ب) وبين حديث "العينان وكاء السه" ونحوه، ومذهب الهادوية (¬3) يعفى الخفقتان ولو توالتا، ولا يعفى عن الخَفَقَات المتواليات، والخَفْقَةُ (¬4): هي ميلان الرأس من النعَاس، وحد الْخَفْقَةِ أن لا يستقر رأسه من الميل حتى يستيقظ، ومن لم يَمِل رأسه عُفِيَ له عَنْ قَدْر خفقة وهي مَيْلُ الرأس فقط حتى يصل (جـ) ذَقْنُهُ صَدْرَه قياسا على نوم الخَفْقَةِ ويحملون الأحاديث المتقدمة على النعاس الذي لا يزول معه التمييزُ. واتفقوا على أن زوال العقل بالجنون والإِغماء والسكر بالخمر أو (د) النبيذ، أو (و) البنج، أو (هـ) الدواء ينقض الوضوءَ سواء قلَّ أو كثر سواء كان مُمَكِّن ¬

_ (أ) في ب: شعوره. (ب) في ب، جـ: بيهما. (جـ) ساقطة في هـ. (د، و، هـ) في هـ: و.

المقعدة أو غير ممكنها. والله أعلم. قيل: وكان من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا ينْتقضُ وضوؤُه بالنوم مضطجعا لحديث ابن عباس: " .. حتى سمعت غَطيطَه، ثم صلَّى ولم يتوضَّأ" (¬1)، والسر في ذلك أنه (أ) لا ينام قلبه - صلى الله عليه وسلم - وإن نامت عينه فهو في حُكْم اليَقْظَان والله أعلم. قال الشافعي (¬2): لا ينتقض الوضوء بالنعاس، وهو السِّنة، وينتقض بالنوم. قالوا: وعلامة النوم أن فيه غلبة على العقل، وسقوط حاسة البصر وغيرها من الحواس، وأما النعاس فلا يغلب على العقل وإنما تفتر عنه الحواس من غير سقوطها. ولو شك هل نام أو نعس فلا وضوء عليه، ويستحب أن يتوضأ إذا شك هل نام ممكنا مقعدته أم لا، وكذلك إذا نام جالسا وزالتا أليتاه أو إحداهما عن الأرض، فإن (ب) زالت قبل الانتباه انتقض وضوؤه لأنه مضى عليه لحظة وهو نائم غير مُمَكِّن المقعدة، وإن زالت بعد الانتباه أو معه أو شك في وقت زوالها لم ينتقض وضؤوه، ولو نام ممكنا مقعدته من الأرض مستندا إلى حائط لم ينتقض وضوؤه، سواء كان بحيث لو وقع (جـ) الحائط لسقط أو لم يكن. لو نام محتبيا ففيه ثلاثة أوجه لأصحاب الشافعي: أحدها: (د) لا ينتقض كالمتربع، الثاني: ينتقض كالمضطجع، الثالث: إن كان نحيف البدن بحيث لا ¬

_ (أ) في هـ: لأنه. (ب) في ب، جـ: فإذا. (جـ) في ب: دفع. (د) زاد في ب: أنه.

تنطبق (أ) أليتاه على الأرض انتقض وإن كان لحيم (ب) البدن تنطبق (جـ) أليتاه لم ينتقض، كذا حققه النووي في شرح مسلم (¬1). 61 - وعن عائشة - رضي الله عنها - قالت: "جاءت فاطمةُ بنت أبي حُبَيْش إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقالت: يا رسول الله إني: امرأة أُستحَاضُ فلا أطهَرُ، أفَأدَعُ الصلاة؟ تال: لا إنما ذلكِ عِرْق، وليس بحيَض، فإذا أقبلت حيضتك فدَعِي الصلاة، وإذا أدبرت فاغسلي عنك الدم ثم صلي". متفق عليه (¬2). وللبخاري: "ثم توضئي لكل صلاة" وأشار مسلم إلى أنه (د) حذفها عَمْدًا. هي فاطمة بنت أبي حُبَيْش (¬3) -بضم الحاء المهملة، وفتح الباء الموحدة وسكون الياء والشين المعجمة- ابن المطلب، القرشية الأسَدِيَّة، وهي التي اسْتُحِيضَتْ. [واسم أبي حبيش قيس، وليست فاطمة بنت قيس المطلقة بائنا] (هـ). رَوَى عنها عُروة بن الزبير -وقيل: عروة عن عائشة عنها وأم سلمة- وهي زوجة عبد الله بن جحش. ¬

_ (أ) في جـ: لا تلصق. (ب) في ب: شحيم. (جـ) في ب: تلصق. (د) في جـ: أن. (هـ) في الأصل وهـ مثبتة من الهامش، وفي جـ بعد قوله: "وهي التي استحيضت".

• قوله: في الحديث "استحاض" الاستحاضة: جرَيَانَ الدم من فَرْج المرأة في (أ) غير أوانه. • وقولها: "أفأدع الصلاة؟ قال: لا"، فيه دَلَالَة على أن المستحاضة تصلي أبدا إلا في الزمن المحكوم بأنه حَيْض، وهذا مُجْمَعٌ عليه. • وقوله: "إنما ذَلِكِ عِرْق"، [ذَلِكِ: بكسر الكاف خطاب للمؤنث] (ب)، والعِرْق: بكسر العيْن المهملة وسكون الراء، ويسمى ذلك العِرْق "العاذِل" بكسر الذال وبالعين المهملة، وفيه إشارة إلى الفَرْق بينه وبين الحَيْض بالنظر إلى المَخْرَج، فإن الحَيض يخرج من قعر رحم المرأة. وأما ما وقع كثيرا في كتب الفقه: "إنما ذلك عرق انقطع أو انفجر" فهي (جـ) زيادة لا تُعْرَفُ في الحديث وإنْ كان لها معنى صحيح. • وقوله: "فإذا أقبلت إلحَيْضَةُ"، قال النووي: يجوز في الحَيضة الفتح والكسر (¬1) وقال المصنف (¬2) -رحمه الله تعالى- الذي في روايتنا الفتح. • وقوله: "وإذا (د) أدبرت فاغسلي عنك الدم ثم صلي"، المراد بالإدبار: انقطاع الحيض، وقوله: ثم صلي: أي بعد الغسل، وقد صرح به البخاري من طريق أبي أسامة عن هشام بن عروة في هذا الحديث قال في آخره: "ثم اغتسلي وصلي" (¬3) ولم يذكر غسل الدم، وهذا الاختلاف واقع بين أصحاب هشام، منهم مَنْ ذَكَرَ غسل الدم ولم يذكر الاغتسال، ومنهم من ذكر الاغتسال ولم يذكر غسل الدم، وكلهم أحاديثهم في الصحيحَيْن، فَيُحْمَلُ على ¬

_ (أ) في الأصل وب، جـ: من، وهي مصححة من الفتح، وكذلك النووي في شرح مسلم 1/ 409، الفتح 1/ 630. (ب) بهامش الأصل وهـ، ولفظه: "ذلك" ساقطة من هـ. (جـ) في ب: فهو. (د) في ب: فإذا.

أن كل فريق اختصر أحد الأمَرْين (أ) لوضوحه عنده. وفيه اختلاف ثالث من رواية أبي معاوية وهو بزيادة: "ثم توضئي لكل صلاة" (¬1)، وليست مُدْرجَةً كما وَهِمَ بعضُهم، إذ لو كانت كذلك لقال: ثم تتوضأ بلفظ الخبر، ولم يأت به بلفظ الأمر فهو قرينة على أنه من تمام الحديث (¬2). وكذلك وَهِمَ مَنْ قال: إنها موقوفة على عروة، بل هي بالإِسناد المذكور في أول الحديث، وحَصلَ الوهم من قول البخاري: "وقال" -أي: هشام ابن عروة-: "وقال أبي" بفتح الهمزة وتخفيف الموحدة، أي عروة بن الزبير، فادعى بعضهم أن هذا تعليق، وليس بصواب بل هو بالإِسناد المذكور عن محمد عن (ب) أبي معاوية عن هشام، وقد بين ذلك الترمذي (¬3) في روايته. ولم ينفرد أبو معاوية بذلك فقد رواه من طريق حماد بن زيد عن هشام، وادعى أن حمادا تفرد بهذه الرواية، وأومأ مسلم أيضًا إلى ذلك، [قال مسلم: "في حديث حماد بن زيد زيادة حرف تركنا ذكره" (¬4). قال القاضي عِيَاض (¬5): "الحرف الذي تركه: قوله: "اغسلي عنك الدم وتوضئي"، ذَكَر هذه الزيادة النسائي وغيره وأسقطها مسلم، لأنها مما انفرد به حماد. قال النسائي (¬6): لا نعلم أحدًا قال: "وتوضئي" في الحديث غير حماد، يعني ¬

_ (أ) في هـ: أمرين. (ب) ساقطة من جـ.

والله أعلم- في حديث هشام، وقد روى أبو داود وغيره ذِكْر الوضوء من رواية عَدِيّ بن ثابت وحبيب بن أبي ثابت وأيوب بن أبي مِسْكِين، قال أبو داود (¬1): وكلها ضعيفة، والله أعلم] (أ)، وليس (ب) كذلك فقد رواها الدارمي من طريق حماد بن سلمة (¬2) والسراج من طريق يحيى بن سليم: كلاهما عن هشام. * وفي الحديث دلالة على أن المستحاضة إذا مَيَّزتْ أيام الحَيْض من أيام الاستحاضة تعمل على ذلك، فإن تعليق الحكم بالإِقبال والإِدبار يقضي بمعرفتهما (جـ)، وهي لا تعرفهما إلا بعلامة مميزة، إما عادة أو صفة الدم، (فإذا انقضى الحيضُ اغتسلت منه وصار دم الاستحاضة في حكم الحَدَث، فصرح بالحديث بالوضوء لكل صلاة، وبهذا قال الجمهور (¬3)، وعند الهادوية والحنفية (¬4) أن الوضوء متعلق بوقت الصلاة، فلها أن تصلي به الفريضة الحاضرة وما شاءت من النوافل وتجمع بين فريضتَيْن على وجهِ الجَوَاز عند مَنْ يُجِيْزُ ذلك أو لعذره، وتأولوا لفظ الحديث بأنه على تقدير (هـ) مضاف وهو (و) لوقتِ كل صلاة). فإن كانت مميزة بالصفة، وإقبالها (ز) بدون الدم الأسود وإدبارها إدبار ¬

_ (أ) بهامش الأصل وفيه بعض السقط استدركته من نسخة هـ. (ب) في هـ: وكيس. (جـ) في جـ: يقتضي بمعرفتهما، وفي ب: يقضي بمعرفتها. (د) بهامش هـ. (هـ) في ب: مقدر. (و) ساقطة من هـ. (ز) في هـ: فإقبالها.

ما (أ) هو بصفة الحَيْض وإن كانت معتادة ردت إلى العادة فإقبالها (ب) وجود الدم في أول أيام العادة وإدبارها انقضاء أيام العادة، وقد ورد في حديث فاطمة هذه ما يقتضي الرد إلى التمييز. وحمل قوله: "فإذا أقبلت الحيضة" على الحَيْضة المألوفة التي هي بصفة الدم المعتاد، وأقوى الروايات في الرد إلى التمييز (جـ) الرواية التي فيها: "دم الحيض أسود يُعْرَفُ" وسيأتي، وأما الرد إلى أيام العادة فقد صرح يها في رواية لحديث فاطمة: "ولكن دعي الصلاة قَدْر الأيام التي كنت تحيضين فيها ثم اغتسلي (د) وصَلِّي" (¬1)، وسيأتي من حديث أم حبيبة. وهذه الرواية استدل بها من يرى الرد إلى أيام العادة سواء كانت مميزة بالصفة للدم أم لا، وهو اختيار الهادوية وأبي حنيفة (¬2) وأحد قولَي الشافعي، قالوا: لأن عدم الاستفصال في قضايا الأحوال ينزل منزلة عموم الأقوال، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يسألها هل الدم يتميز (هـ) أم لا؟ والجواب عنه بأن ذلك إنما يتم لو لم يثبت الرجوع إلى صفة الدم، فبعد (ر) ثبوته يجب الجَمْع بين الروايَتَيْن فيُعمل بهما، وأيضًا فباحتمال أن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما ترك (ز) السؤال لمعرفته بحال السائل (ح)، وهو مِن مَجَاز الحذف، ولا يجوز إلا مع ¬

_ (أ) ساقطة من هـ. (ب) في هـ: بإقبالها. (جـ) زاد في هـ: و. (د) في هـ: اغسلي. (و) في هـ: متميز. (و) في ب: فعند. (ز) في ب: يترك. (ح) زاد في هـ: فإذا انقضي الحيض اغتسلت منه وصار دم الاستحاضة في حكم الحدث فصرح في =

القرينة، ولعله يُسْتَأنس لذلك التقدير بما سيأتي في (أ) حديث حمنة، وهو قوله: "فإنْ قَوِيتِ على أنْ تؤخري الظهْرَ وتعجّلي العصر ثم تغتسلي (ب) حين تطهرين وتصلين الظهر والعصر جميعا، ثم تؤخرين المغرب ... " إلخ (¬1)، فإن فيه ذِكْر الجَمْع، وإن كان المصرح في الحديث إنما هو بالغُسل إلا أن الغُسل لما كان على جهة الاستحباب -وقد أشار فيه إلى أن الصلاتَيْن يكفي لهما هذا الغُسل وهو مشروط بالقوة عليه- فمفهومه: فإذا لم تَقْوَ عليه تركته، وَصَّلت الصلاتيْن، ولم يأمرها بإعادة الوضوء، فدل على أن الوضوء (جـ) للوقت لا للصلاة. وعند المالكية (¬2) يستحب لها الوضوء لكل صلاة، ولا يجب إلا بحَدَثٍ (د) آخر، وقال (¬3) أحمد وإسحاق: إن اغتسلت لكل صلاة فهو أحوط. * واعلم أن المستحاضة يجوز لزوجها وَطْوها في حال جَرَيَان الدم عند جمهور (¬4) العلماء، وحكاه ابن المنذر في "الإشراف" عن ابن عباس، وابن المسيب، والحسن البصري، وعطاء، وسعيد بن جُبَيْر، وقتادة، وحماد بن أبي سليمان، وبكر بن عبد الله المزني، والأوزاعي، والثوري، ومالك، وإسحاق، وأبي ثور. ¬

_ (أ) في ب: من. (ب) ساقطة من جـ وفيها "حتى" بدل "حين". (د) بالهامش في هـ. (د) في ب: لحدث. = الحديث بالوضوء لكل صلاة، وبهذا قال الجمهور، وعند الهادوية والحنفية أن الوضوء متعلق بوقت الصلاة فلها أن تصلي به الفريضة الحاضرة وما ضاءت من النوافل، ويجمع بين فريضتين على وجه الجواز عند من يجيز ذلك أو لعذره، وتأولوا لفظ الحديث بأنه على تقدير مضاف وهو: لوقت كل صلاة.

قال ابن المنذر: وبه أقول، قال: ورَوَيْنَا عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: "لا يأتيها زوجها" (¬1)، وبه قال النَّخَعي والحَكَم، وكرهه ابن سيرين، وقال أحمد: لا يأتيها إلا أن يطول ذلك بها، وفي رواية عنه: أنه لا يجوز وطؤها إلا أن يخاف زوجها العَنَت، والمختار قول الجمهور. وقد روى عكرمة عن حَمنة بنت جحش: "أنها كانت مُسْتَحاضة، وكان زوجها يجامعها" (¬2)، رواه أبو داود والبيهقي وغيرهما بهذا اللفظ بإسنادٍ حَسَن، وقال البخاري في "صحيحه": قال ابن عباس: "المُستحاضة يأتيها زوجها إذا صَلَّتْ، الصلاة أعظم" (¬3). ولأن المستحاضة كالطاهر (أ) في الصلاة والصوم وغيرهما، وكذا في الجِمَاع، ولأن التحريم إنما يثبت بالشرع ولم يرد الشرع بتحريمه، وأما في سائر العبادات فهي كالطاهر إجماعًا. والمستحاضة تؤمر بالاحتياط في طهارة الحَدَث والنَّجَس فتغسل فرجها قبل الوضوء أو قبل التيمم وتحشو فرجها بقطنة أو خرقة دفعا للنجاسة وتقليلًا لها، فإن كان دمها قليلا يندفع بذلك فلا شيء عليها غيره، وإن لم يندفع بذلك شدت مع ذلك على فرجها وتلجمت، وهو أن تشد على وسطها خرقة أو خيطا أو نحوه على صورة التكة، وتأخذ خرقة أخرى مشقوقة الطرفَيْن، فتدخلها بين فخْذَيها ¬

_ (أ) في جـ: كالطاهرة.

وأليتيها (أ) وتشد الطرفَيْن بالخرقة التي في وسطها إحديهما (ب) قدامها عند سرتها والأخرى خلفها، وتُحكم ذلك الشد وتلصق هذه الخرقة المشدودة بين الفخْدَين بالقطنة التي في الفرج إلصاقا جيدا، وهذا الفِعل يُسَمَّى تَلَجُّمًا واسْتِثْفارا وتعصِيبًا (جـ)، وهذا واجب عند الناصر والشافعية (¬1)، إلا إذا تأذت بالشد وأحرقها الدم فلا يلزمها ذلك، وإلا إذا كانت صائمة (عند الشافعية) (د) فتترك الحشو في النهار، وتكتفي بالشَّد وتتوضأ عقيب (هـ) الشد والتلجم، فإن تأخر ذلك وتراخى الوُضُوءُ ففي صحة (و) الوضوء وجهان، الأصح عند الشافعية أنه لا يصح. وإذا خرج الدم بعد ذلك من غير تفريط لم تبطل طهارتها ولا صلاتها، وتصلي بعد الفرض ما شاءت من النوافل، وإن (ز) كان خروجه لتقصير منها بطلت طهارتها. وقال الفقيه يوسف بن عثمان: الأصح بمذهب الهادي أن الشد ونحوه غير واجب عليها، والأول أولى، إذ الواجب تقليل النجاسة والبعد منها ما أمكن، وإذا أمرتم بأمر فأتوا به ما استطعتم. والمستحاضة ليس لها أن تتوضأ قبل دخول وقت الصلاة عند (¬2) الجمهور، ¬

_ (أ) في هـ: وإليتها. (ب) في ب: أحدهما. (جـ) في جـ: وتعصبا. (د) في الأصل: "لكون الحقنة مفسدة للصوم عندهم" من الحاشية. (هـ) في جـ: عقب. (و) زاد في هـ: ذلك. (ز) في جـ: وإذا.

إذ طهارتها ضرورية فلا تجوز قبل وقت الحاجة، وقال أبو حنيفة (¬1): يجوز، قال أصحاب الشافعي: وإذا توضأت بادرت إلى الصلاة عقيب طهارتها، وإن أخرت (أ) بأن توضأت في (ب) أول الوقت وصلت في وسطه، إنْ كان ذلك للاشتغال بأعمال الصلاة كسَتْر العورة والاجتهاد في القِبْلَة ونحو ذلك جاز على الصحيح المشهور، ووجه ضعيف أنه تبطل طهارتها (جـ). وأما إذا أخرت لغير عذر، ففيه ثلاثة أوجه، أصحها: لا يجوز وتبطل طهارتها، والثاني: يجوز ولا تبطل طهارتها (جـ) ولها أن تصلي بها ولو بعد خروج الوقت، والثالث: لها التأخير ما لم يخرج وقت الفريضة، وإن خرج الوقت (د) فليس لها أن تصلي بتلك الطهارة، ولها أن تصلي بعد الفريضة ما شاءت من النوافل على أصح الوجهَيْن عندهم (¬2). 62 - وعن علي - رضي الله عنه - قال: "كنتُ رَجُلًا مَذَّاءً، فأمرتُ المِقْدادَ أن يسأل النبي - صلى الله عليه وسلم -، فسأله، فقال: فيه الوضوء" (¬3). متفق عليه، واللفظ للبخاري. ¬

_ (أ) في هـ: تأخرت. (ب) في جـ: من. (جـ) بهامش ب. (د) زاد في هـ: فلها.

أخرجه بهذا اللفظ من حديث مسدد عن محمد بن الحنفية عن علي - رضي الله عنه -، وأخرجه من حديث أبي الوليد عن أبي عبد الرحمن عن علي بلفظ: "فأمرْتُ رجلا"، وزيادة: "لمكان ابنته". ثم قال: "توضأ، واغْسل ذَكَرَك" (¬1). * والمَذَّاء، صيغة مبالغة من المَذْي، يقال: مَذَى يَمْذِي مِثْل مضى يمضي ثلاثيا، ويقال أيضًا: أمذَى يُمْذِي بوزن أعطى يُعْطِي رباعيا. وفي المَذْي لغات أفصحها: بفتح الميم وسكون الذال المعجمة وتخفيف الياء، ثم بكسر الذال وتشديد الياء، وهو ماء أبيض رقيق لزج يخرج عند الملاعبة، أو تذكر الجماع أو بإرادته، وقد لا يحس بخروجه. والرجل: هو المقداد. وفي قوله: "لمكان ابنته" أدب في ترك مواجهة الأصهار بذكْرِ ما يتعلق بجماع المرأة، ورعاية حُسن الأدب في ترك ما يُسْتَحْيَا منه عرفًا. * واعلم أنه قد (أ) وقع اختلاف في السائل مَنْ هو، فأطبق أصحابُ المسانيد والأطراف على إيراد هذا الحديث في مسند علي، والظاهر أن السؤال وقع من ¬

_ (أ) ساقطة من هـ.

المقداد وعليّ حاضر، وعلى هذا ففي رواية: "توضأ"، الخطاب للمقداد أو (أ) لعلي أو لمبهم إذا كان سؤال المقداد لمبهم، ويدل على حضور عليّ أنه لولا ذلك لذكره أهل المسانيد في مسند المقداد، وأيضًا. فإن في رواية النسائي (ر) عن علي: "فقلتُ لرجل جالس إلى جنبي: سله" (و)، فسأله (¬1)، ووقع في رواية لأبي داود والنسائي (ب). (د) وابن خزيمة بزيادة: " ... فجعلتُ أغتسل منه في الشتاء حتى تشقق ظهري (¬2)، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا تفعل"، ولأبي داود أيضًا أنه سأل بنفسه (¬3). وللنسائي أنه أمر عمارا (¬4)، وجمع ابن حبان (¬5) بين (هـ) هذا الاختلاف: أنه أمر عمارا وأمر أيضًا المقداد ثم سأل بنفسه، ويخدش في الأخير حديث الاستحياء، [وهو قوله: "فاستحييت (و) أن أسأل رسول الله"، وهو متفق عليه، وفي الموطأ (¬6) أيضًا] (ز). وأحسن منه أن نسبة السؤال إليه مجاز لكونه آمرًا. وأما أمرهما فهو ممكن، ويؤيده ما رواه عبد الرزاق (¬7): أنه تذاكر علي والمقداد وعمار (ح) المذي فذكر الحديث، وصحح ¬

_ (أ) في جـ: و. (ب، ب) في ب: سل. (جـ) في هامش هـ. (د) في هـ: والنساء. (هـ) في حـ: أمر. (و) في هـ: فاستحيت. (ز) بهامش الأصل. (ح) زاد في: عن.

ابن بشكوال أن السائل منهما هو المقداد، وعلى هذا فنسبة السؤال أيضًا على (أ) عَمّار مجاز لكونه مأمورًا به. والحديث يدل على أن المذْي لا يوجب الغُسْل، وهو إجماع (¬1)، وعلى أنه يوجب الوضوء كالبول، وَليس في تقديم "توضأ" على قوله: "واغسل ذكرك" دليل (ب) على أنه يجوز تقديم الوضوء ثم غسله مِنْ بعد إذ العطف بالواو وهي لا تقتضي الترتيب، فيرد ذلك إلى غيره من الدلائل، فأما على مَنْ جعل مَسَّ الذكر نَاقِضًا فالأمر ظاهر أنه يتعين التقديم إلا إذا مسه بآلة فَيُحْملَ على الأولوية (جـ). وأما على أصلِ مَنْ قال: إنه يجب تقديم غسل نجاسته (د) توجيه على الوضوء فكذلك، وغسل الذكر يحتمل أنه محل الخروج فلا يجب مجاوزة الخرج إذ المقتضي له إنما هو الخارج، وعلى هذا الجمهور، ويؤيده ما عند الإِسماعيلي في رواية: فقال: "توضأ فاغسله" (5)، فأعاد الضمير على الذي، وذهب (و) بعض الحنابلة وبعض المالكية (¬2) إلى وجوب استيعاب غسله عملا بظاهر الحديث، [ويؤيده ما عند أحمد وأبي داود (¬3): "يغسل ذكره، وأنثيَيْهِ ويتوضأ". وعن عبد الله بن سعد قال: سألتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - عن (ز) الماء يكون بعد الماء؟ فقال: "ذاك الذي، وكل فحل يَمذي فيغسل (ح) من ذلك فرجك ¬

_ (أ) هـ، ي: إلى. (ب) ساقطة من جـ. (جـ) في ب: الأولية. (د) في ب: نجاسة. (هـ) في ب: واغسله. (و) ساقطة في ب. (ز) ساقطة في جـ. (ح) في هـ: فتغسل، وهو أيضًا بالتاء في سنن أبي داود.

وأنثييك، وتوضأ وضوءك للصلاة" (¬1). رواه أبو داود] (أ). واختلفوا هل المعنى معقول أو هو حُكْمٌ تَعَبدِيّ، وعلى الثاني تجب النية فيه عندهم. وقال الطَّحَاوِيّ (¬2): الأمر بغسله كله ليتقلص فيبطل خروجه كما في الضرع إذا غسل بالماء البارد يتفرق اللبن إلى داخل الضرع فينقطع خروجه، واستدل بالحديث على تعين الماء دود الأحجار عند (ب) من يقول بكفايتها. وبنى على هذا النووي في "شرح مسلم" (¬3)، وصحح في باقي كتبه الاكتفاء بالأحجار قياسا له على البول، وحمل الحديث على الاستحباب، أو على أنه خرج مخرج الغالب، وهو المشهور عند الشافعية. واستدل به أيضًا على نجاسة المذي وهو ظاهر. واستدل به أيضًا على وجوب الوضوء على مَنْ به سَلَس البول، (¬4) لأن في الحديث صِيغة المبالغة، ورده ابن دقيق العيد بأن الكثرة التي في الحديث ناشئة عن غَلَبَة الشهوة مع صحة الجسد بخلاف السلس فإنه ينشأ عن عِلة في الجسد، وأجيب عنه بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يستفصل فدل على عموم الحكم، والله سبحانه أعلم. ¬

_ (أ) بهامش الأصل. (ب) في جـ: عن.

63 - وعن عائشة - رضي الله عنها -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قَبل بعضَ نسائه ثم خرج إلى الصلاة ولم يتوضأ. أخرجه أحمد، وضعَّفه البخاري. وأخرجه أبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه (¬1). قال الترمذي (¬2): سمعتُ محمد بن إسماعيل البخاري يضعّف هذا الحديث. وأبو داود (¬3) أخرجه من طريق إبراهيم التيمِيّ (¬4) عن عائشة، قال: "هو مرسل لأنَّ إبراهيم لم يسمع من عائشة شيئًا"، وقال النسائي: "ليس في هذا الباب حديث أحسن منه، ولكنه مرسل" وأخرجاه أيضًا من حديث عروة عن عائشة، وقالا: قال يحيى القطان في هذا الحديث: وحديث المستحاضة "تُصَلِّي وإنْ قَطر الدم على الحصير" أنهما شبه (أ) لا شيء (¬5)، وضعف الترمذي أيضًا (ب) كلا الطريقَيْن. ورواه الشافعي (¬6) من طريق معبد بن نباته عن محمد بن عمرو بن عطاء عن ¬

_ (أ) في ب: يشبه. (ب) ساقطة في جـ.

عائشة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - "أنه كان يُقَبِّل ولا يتوضأ"، قال الشافعي: ولا أعرف حال معبد، فإن كان ثقة فالحجة فيما روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. قال المصنف (¬1) -: رحمه الله تعالى-: رُوي من عشرة أوجه عن عائشة، أوردها البيهقي في "الخلافيات" (¬2)، وضعفها، قال ابن حزم (¬3): لا يصح في الباب شيء، وإن صح فهو محمول على ما كان عليه الأمر قبل نزول الوضوء من اللمس. * والحديث فيه دلالة على أن لمس المرأة وتقبيلها لا ينقض الوضوء، والخلاف في ذلك واقع، فروي عن علي وابن عباس وعطاء وطاووس والعترة جميعا أن لَمْس بَشَرِ منْ لا (أ) يَحْرُم نكاحُه عليه (ب) لا ينقضُ الوضوءَ، وذهب أبو حنيفة وأبو يوسف (¬4) إلى ذلك إلا إذا تباشر الفرجان وانتشر وإن لم يُمْذِ. وذهب ابن مسعود وابن عمر والزهري (¬5) والشافعي وأصحابه وزيد بن أسلم وغيرهم إلى أن ذلك ناقض، قالوا: لقوله تعالى: {أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ} (¬6). واللمس حقيقة في اليد، وأيضًا فيوضح بقاءه على معناه قراءة {أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ} (¬7) فإنها ظاهرة في مجرد لمس الرجل من دون أن يكون من المرأة ¬

_ (أ) في ب: لم. (ب) ساقطة في ب.

فِعْل، وهذا يتحقق (أ) في بقائه على معناه الحقيقي فقراءة "لامستم" كذلك إذ الأصل اتفاق معنى القراءتين. وأجيب عن ذلك بأنه يُصرف عن بقاء اللفظ عن معناه الحقيقي القرينة، فيحمل على المجاز، والمجازي هنا هو حَمْل الملامسة على الجِماع، واللمس كذلك، والقرينة على ذلك حديث عائشة الذكور. وأجيب بأن حديث عائشة لا يقوى على معارضة ظاهر الآية، إذ قد عرفت ما فيه. وأجيب عن القَدْح فيه أن بعض طرقه قدِحَ فيها (ب) بالإِرسال فقط والمرْسَل يعمل به بالشرط المعروف وأيضًا فإِنَّ الضعف منجبر بما ورد فيه من الروايات، وبما أخرجه البخاري في كتاب "الصلاة" من اعتراض عائشة - رضي الله عنها - في قِبْلَته - صلى الله عليه وسلم - وغمزه لقدميها (جـ)، قالت: "فإذا سجد غمزني، فقبضت رجلي، وإذا قام بسطتهما"، قالت: "والبيوت يومئذ ليس فيها مصابيح" (¬1). فإنه يدل على أن اللمس ليس بناقض. قال المصنف -رحمه الله- في "الفتح" (¬2): يحتمل أنه لسها بحائل، أو على أن ذلك خاص به. انتهى. وهو خلاف الظاهر. واحتجوا أيضًا وأبو حنيفة بحديث معاذ، وهو أنه جاء رجل فقال: يا رسول الله إني صادفت امرأة في هذا البستان فقضيت منها ما يقضى الرجل من امرأته ما خلا الجِماع، فقال - صلى الله عليه وسلم -: "تَوضَّأ وضوءًا حَسنًا وارْكعْ ركعتَيْنِ" {إنَّ الحسناتِ ¬

_ (أ) في هـ: متحقق. (ب) في جـ: فيها قدح. (جـ) في جـ: لقدمها.

يذهبن السيئات} (¬1) (¬2). ويجاب عنه بأن ذلك الأمر لأجل المعصية، وقد ورد أن الوضوء والصلاة (أ) يكفران الذنب، أو لأن الغالب مع تلك الحال المذي. وقال مالك: إنْ لمس لشهوة نقض إذ الشهوة العلة في ذلك (¬3)، وقال داود: لا ينتقض إلا إذا تعمدَ لرفع الخطأ (¬4)، قلنا: ذلك من باب تعليق الحُكْم بسببه، فلا فرق بين العَمْد والخطأ. وللشافعي في الملموس قولان: لا يضر لِلَمْس عائشة أخمصه - صلى الله عليه وسلم - في الصلاة ولم يقطعها (¬5)، وينقض كالجِماع (¬6). البغداديون: والشَّعْر ونحوه، وما قد قطع لا ينقض. الخراسانيون: قولان فيهما، وفي المَحْرمِ قولان: فإنْ كانت حلالا من قبل كأم الزوجة نقضت، وقيل: قولان، وفي الميتة والتي لا تشتهى لصغر أو كبر قولان، ولا نقض مع الحائل عنه إلا بشهوة (ب)، ومذهب مالك: إن رقة (¬7) الحائل ولمس الخنثى لا ينقض، فإن لمس رجلا (جـ) وامرأة توضأ ¬

_ (أ) في هـ: والصلوات. (ب) في جـ: لشهوة. (جـ) في هـ: أو امرأة.

لا هُمَا. (¬1). * فائدة: "بعض النساء" المبهم هو مفسر في (أ) حديث عروة، قال عروة: فقلتُ لها: "مَنْ هي إلا أنتِ. فضحكت". أخرجه أبو داود (¬2). 64 - وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا وجد أحدكم في بطنه شيئًا، فأشكل عليه أخرَجَ منه شيءٌ أم لا؟ فلا يخرجن من المسجد حتى يسمع صوتا، أو يجد ريحا" أخرجه مسلم. وللترمذي وأبي داود نحو ذلك (¬3). * وقوله: "حتى يسمع .. " إلخ، معناه: يعلم وجود أحدهما، ولا يشترط السماع والشم بإجماع المسلمين. وهذا الحديث أصل من أصول الاسلام، وقاعدة عظيمة من قواعد الفقه وهي: أنَّ الأشياء يُحكم ببقائها على أصولها حتى يتيقن خلاف ذلك، ولا يضر الشك الطارئ عليها، فإذا شك في الحَدَث لم يضر ذلك سواء كان داخل الصلاة أو خارجها، وهذا مذهب الجماهير (¬4). ¬

_ (أ) في جـ: من.

وحُكي عن مالك روايتان: إحداهما: أنه يلزمه (أ) الوضوء إن كان شكه خارج الصلاة ولا يلزمه إن كان في الصلاة، والثاني: يلزمه بكل حال. وحكى الرواية الأولى عن الحسن البصري وهو وجه شاذ، ويحكى (ب) عن بعض الشافعية. وهذا إذا عرض الشك، وهو احتمال الأمرين من غير ترجيح، فإن رجح طرف العارض صار ظنا، وهو أيضًا كذلك، والخلاف في ذلك للمؤيد بالله (¬1) فإنه يعمل بالظن الغالب في الانتقال عن الأصل تحليلا وتحريما إجراء (جـ) له مجرى العلم، وكذا إذا تيقن الحدث، فإنه لا يعمل بما يطرأ له من شك إزالته أو ظنه إلا عند المؤيد بالله في الأخير، وأما إذا تيقن أنه وُجِد منه حَدَث وطهارة مثلًا بعد طلوع الشمس ولم يعرف السابق فهما، فإن كان لا يعرف حاله قبل طلوع الشمس لزمه الوضوء، وإن عرف حاله قال النووي (¬2) فيه أوجه لأصحابنا أشهرها عندهم: أنه يكون بضد ما كان قبل طلوع الشمس فإن كان قبلها محدِثًا فهو الآن متطهر، وإن كان قبلها متطهرا فهو الآن محدث، والثاني وهو (د) الأصح عند جماعات (هـ) المحققين أنه يلزمه الوضوء بكل حال، والثالث: يبنى على غالب ظنه، والرابع: يكون: كان قبل طلوع الشمس، ولا تأثير للأمرين الواقعين بعد طلوعها، وهذا الوجه غلط صريح وبطلانه أظهر من أن يستدل عليه، وإنما ذكرته لأنبه عليه. انتهى (¬3). ¬

_ (أ) في جـ: يلزم. (ب) في جـ: وحكى أيضًا. (جـ) في هـ: أجرى. (د) في جـ: و. (هـ) في جـ: جماهير.

65 - وعن طَلْق بن عليّ - رضي الله عنه - قال: "قال رجل: مسستُ ذَكَري، أو قال: الرجل يمس ذكره (أفي الصلاة أ) عليه وُضُوء؟ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا، إنما هو بُضعة منك" أخرجه الخمسة، وصححه ابن حبان (¬1)، وقال ابن المديني (¬2): هو أحسن من حديث بُسْرَة. * هو أبو علي طَلْق بن علي بن طلق بن عمرو، ويقال: طلق بن علي بن قيس بن عمرو بن عبد الله الحنفي السحيمي اليمامي، وطَلْق: بفتح الطاء المهملة وسكون اللام، وسُحَيْم: بضم السين المهملة وفتح الحاء المهملة، روى عنه ابنه قيس (¬3). والحديث رواه (ب) أيضًا أحمد (¬4) والدارقطني، وقال الطحاوي: إسناده مستقيم غير مضطرب، وصححه الطبراني وابن حزم (¬5)، وضعفه الشافعي، وأبو ¬

_ (أ) ساقطة من ب وجـ وهـ. (ب) زاد في جـ: عنه.

حاتم، وأبو زرعة، والدارقطني، والبيهقي، وابن الجَوْزِيّ (¬1). وقوله: "بَضْعَة" (أ) بفتح الباء الموحدة وسكون الضاد المعجمة، وفي رواية: "حِذْوَة" بكسر الحاء المهملة وسكون الذال المعجمة، وهي (ب) ما قُطِعَ من اللحم طولا، وقيل الصواب حذيه بالياء المثناة من تحت كما في "النهاية" (¬2). 66 - وعن بُسْرة بنت صفوان - رضي الله عنها - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَنْ مَسَّ ذَكره فلْيتوضَّأ" أخرجه الخمسة، وصححه الترمذي وابن حبان، وقال البخاري في غير "صحيحه" (جـ): هو أصح شيء في هذا الباب (¬3). هي: بنت صفوان بن نوفل بن أسد بن عبد العزى القرشية (د) الأسدية، وهي بنت أخي ورقة بن نَوْفَل، وقيل في نسبها غير ذلك، وبُسرة بضم الباء وسكون السين المهملة، روى عنها عبد الله بن عمر، ومروان بن الحكم، وابن المسيب (¬4). ¬

_ (أ) زاد في هـ: منك. (ب) في هـ: وهو. (جـ) ساقطة من جـ، ومثبته في هـ بعد قوله: "في هذا الباب". (د) في ب: الدمشقية، ولعله تصحيف.

الحديث رواه (أ) أيضًا الشافعي عن مالك، ورواه أحمد وابن خزيمة والحاكم وابن الجارود وصححه الترمذي، وصححه أحمد في رواية أبي داود (¬1)، وقال الدارقطني: صحيح ثابت (¬2) وصححه أيضًا يحيى بن معين فيما حكاه ابن عبد البر، وأبو حامد بن الشرقي (ب) والبيهقي والحازمي ولكن الحديث فيه مقال من جهتَيْن، إحداهما: أن رواية عروة لهذا (جـ) مِن طريق مروان، ومروان مُتَكَلَّمٌ فيه (¬3)، وقد (د) قيل إن مروان حدث به عروة فاستراب في ذلك عروة، فأرسل مروان رجلا من حرسه إلى بُسرة، فعاد إليه بأنها ذكرت ذلك، وهذا أيضًا لا يفيد فإن ذلك الحَرَسِيّ مجهول. وثانيا: إن هشام بن عروة (¬4) راويه عن أبيه لم يسمع هذا الحديث من أبيه إنما أخذه عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، وكذا قال النسائي إن هشاما لم يسمع هذا من أبيه. و (هـ) أجيب عن الجهة الأولى بأن عروة سمعه من مروان قبل خروجه على أخيه، وجَرْحُه إنما هو بذلك، وفيه نظر. ¬

_ (أ) ساقطة من جـ. (ب) في جـ: البرقي. (جـ) في ب: بهذا. (د) ساقطة من جـ. (هـ) في ب: الواو ساقطة.

وبأن عروة سمعه من بسرة كما جزم به ابن خزيمة وغير واحد من الأئمة، وفي صحيح ابن خزيمة وابن حبان: قال عروة: فذهبتُ إلى بسرة فسألتها فصدَّقته (¬1)، واستدل على ذلك برواية جماعة من الأئمة له عن هشام بن عروة عن أبيه عن مروان عن بُسْرَة، قال عروة: ثم (أ) لقيتُ بسرة فصدقته، وبمثل هذا أجاب الدارقطني. وعن الثانية بأن (ب) هشاما سمعه أيضًا من أبيه بغير واسطة. قال الطبراني بعد أن ساق إسناده: قال يحيى: فسألتُ هشاما فقال: "أخبرني أبي" (¬2)، وكذا الحاكم عن هشام: "حدثني أبي"، وكذا في مسند أحمد: "حدثني أبي" (¬3). وطريق الجَمْع أنه سمعه من أبي بكر عن أبيه، ثم سمعه من أبيه فحدَّث به مِن كِلا الطريقَيْن، وهاتان الجهتان غير قادحَتَيْن مع ما سمعتَ (¬4). وقد ذهب إلى العمل بهذا جماعة من الصحابة والتابعين، ومن الفقهاء: الشافعي وأحمد ومالك في المشهور (¬5)، فقالوا: إنَّ مَسَّ الذَّكَر ينقض لهذا الحديث وغيره، وكذا المرأةُ مَسُّ فرجها ينقض لحديث عائشة في ذلك (¬6). ¬

_ (أ) ساقطة من ب. (ب) في هـ: أن.

وذهب إلى خلاف ذلك جماعةٌ من الصحابة والتابعين، وروي عن العترة جميعا والحنفية (¬1)، وهو المروي عن علي -كرم الله وجهه- ودليلهم على ذلك حديث طلق بن علي المتقدم، وغيره. قالوا: وحديث بسرة غير صحيح لما تقدم فيه من المقال، وقد عرفتَ ما فيه. وأجيب عنه بأن حديث بُسْرَة وإنْ لم يخرج في الصحيحَيْن فرجاله قد أخرجا لهم (¬2). وقال الإسماعيلي: كان يلزم البخاري إخراجه لأنه على شرطه، فإنه قد احتج بمثله، وأيضًا فإن له شواهد، ففي الباب أحاديث كثيرة فقد رُوي عن جابر، وأبى هريرة، وعبد الله بن عمر (أ)، وزيد بن خالد، وسعد بن أبي وقاص، وأم حبيبة، وعائشة، وأم سلمة، وابن عباس، وابن عمرو (ب)، وطلق بن علي، والنعمان بن بشير، وأنس، وأبي بن كعب، ومعاوية بن حيدة، وقبيصة، وأروى بنت أنيس وكل هذه الأحاديث مُخَرَّجة والروايات تُقَوِّي بعضها بعضا. ¬

_ (أ) في هـ: بن عمرو. (ب) في هـ: وابن عمر.

قالوا: معارَض بحديث طلق بن علي وما روي عن علي - رضي الله عنه -: "ما أبالي أَنْفِي مَسَسْتُ أم أُذُنِي أم ذَكَرِي"، حكاه في "أصول الأحكام" و "الشفاء". وفي "التلخيص" نحوه عن عائشة رفعته (¬1) فيتوقف عن (أ) العمل به، ويرجع إلى الأصل. والأصل أنه لا نقض. وأجيب بأن ذلك مع عدم المرجّح وعدم النسخ، وقد ادعى أنه منسوخ ابن حبان والطبراني وابن العربي والحازمي وآخرون (¬2)، وبَيَّن ذلك ابن حبان وغيره، وأثبت الحازمي القول بالنسخ بأنَّ وُفُود طلق بن علي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - كان في ابتداء الهجرة وقت عِمارة المسجد، وبُسرة وأبو هريرة وابن عمرو متأخرو الإِسلام، ويؤيد هذا أن طلقًا المذكور روى أيضًا: "من مَسَّ فَرْجَه فليتوضأ" (¬3). قال الطبراني (¬4): يُشبه أن يكون سمع الحديث الأول من النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل هذا ثم سمع هذا بعدُ فوافق حديث بسرة. قال الطبراني (¬5): روى هذا الحديث -يعني حديث طلق في النقض- حمادُ بن محمد عن أيوب بن عتبة وهما عندي صحيحان، وقد تعقب عليه بأن حماد بن محمد هذا ضعيف، ويقال له الفزاري، ذكره الذهبي في "الميزان" ولم يذكر أحدًا وثّقه، وذكر عن صالح بن محمد الحافظ أنه ضعيف، وليس من رجال أحد الكتب الستة (¬6)، ومع هذا فقد خالفه عن أيوب بن عتبة جماعة [وأيوب بن ¬

_ (أ) في د وهـ: على.

عتبة مُخْتَلَفُ فيه، وهو إلى الضعف أقرب] (أ) (¬1) فتبين من هذا أَن طَلْقًا روى الناسخ والمنسوخ، وأيضًا فإنه قد ورد النهي عن مس الذكر باليمين فكيف يشبه سائر الجسد، وهو لا ينهى عن مس شيء فيه باليمين؟ ما (ب) ذلك إلا لحكمة غاب عنا معرفتها فكان طريق الاحتياط ترك المَسّ وإعادة الوُضُوء. وقد رُوِيَ عن مالك القول بندب الوضوء من ذلك (¬2)، وكأنه لَمَّا تعارض عليه الأمران فرجع إلى الاحتياط ندبا والأصل عدم النقض. [واعلم أنَّ في دَعْوَى النسخ وإثباته بما ذكر نظر فإنه يجوز أنَّ طَلْقًا سمعه بعد إسلام أبي هريرة فيحتمل أن يكون الأمر بالعكس وأنه لا يتم إلا إذا علم أن طلقا توفي قبل إسلام أبي هريرة، ومع رواية طلق للأمْريْن فكذلك لا يتم إلا بمعرفة المتقدم وإلا وجب الترجيح] (جـ)، والله أعلم. 67 - عن عائشة - رضي الله عنها - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من أصابه قَيءٌ أو رُعَاف أو قَلَس أو مَذْي، فلْيَنْصرفْ فَلْيتوضَّأ، ثم لِيَبْنِ على صلاِتِهِ، وهو في ذلك لا يتكلم". أخرجه ابن ماجه، وضعفه أحمد وغيره (¬3). ¬

_ (أ) بهامش الأصل. (ب) في جـ: فما. (جـ) بهامش الأصل.

الحديث أعله غير واحد بأنه من رواية إسماعيل بن عياش عن ابن جريج ورواية إسماعيل عن الحجازيين ضعيفة (¬1)، وقد خالفه الحفاظ من أصحاب ابن جريج، [وهم: محمد بن عبد الله الأنصاري وأبو (أ) عاصم النبيل وعبد الرزاق وعبد الوهاب بن عطاء وغيرهم] (ب) فرووه [عن ابن جريج] (جـ) عن أبيه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مُرْسَلًا (¬2)، وصحح هذه الطريق المرسلة: (د) محمد بن يحيى الذهلي والدارقطني. في "الِعلَل" وأبو حاتم (¬3) وقال: رواية إسماعيل خطأ [فوصلة (هـ) بذكر عائشة وابن أبي مليكة] (و)، وقال ابن معين: حديث ضعيف (¬4)، وقال ابن عدي (¬5): رواه إسماعيل مرة، وقال مرة: عن ابن جريج عن أبيه [عبد العزيز] (ز) عن عائشة وكلاهما ضعيف (ح)، وقال أحمد (¬6): الصواب عن ابن جريج عن أبيه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسلًا، ورواه ¬

_ (أ) في جـ: وابن. (ب، جـ) بهامش الأصل. (د) ساقطة من جـ. (هـ) في هـ وب: بوصله. (و) بهامش الأصل. (ز) بهامش الأصل وساقطة من جـ. (ح) في جـ: ضعيفان.

الدارقطني (¬1) من حديث إسماعيل بن عياش أيضًا عن عطاء بن (أ) عجلان (¬2) وعباد بن كثير (¬3) عن ابن (ب) أبي مليكة عائشة، وقال بعده: عطاء وعباد ضعيفان. وقال البيهقي: الصواب إرساله (¬4)، وقد رفعه أيضًا سليمان بن أرقم عن ابن أبي مليكة (¬5)، وهو متروك. * وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "من أصابه قَيْءٌ"، فيه دلاله على أنَّ القَيْءَ ينقض الوضوء وفي ذلك خلاف، فذهب أكثر (جـ) العترة وأبو حنيفة (¬6) وأصحابه إلى أنه ينقض الوضوء لهذا الحديث وغيره، ولكن بشرط (د) أن يكون من المَعِدَة (هـ وأن يكون ملء الفم دفعة، فأما (و) كونه من المَعِدَة فلأن القَيْءَ إنما هو لما خرج من المعدة هـ)، وأما اشتراط أن يكون ملء الفم دفعة واحدة فلأنه قد ورد التقييد بذلك في قوله (ز): "قَيْءٌ ذارع ودسعة (¬7) تملأ الفم"، وهذا مُطْلَقٌ والمُطْلَقُ يُحْمَلُ على المُقَيَّد. ¬

_ (أ) في جـ: عن. (ب) ساقطة من هـ. (جـ) في ب: أكثره. (د) في ب: شرط. (هـ، هـ) بهامش ب. (و) في هـ: وأما. (ز) في هـ: بقوله.

وعمل زيد بن علي بإطلاقه فأوجب الوضوء من قليله لإِطلاق الحديث. والجواب ما (أ) عرفت، واستثنى أبو حنيفة ومحمد البلغم (¬1) قالا: لصقالته وعدم اختلاطه بالنجاسة. والجواب: الحديث مطلق وذلك التعليل غير مقيد. وذهب الناصر والباقر والصادق والشافعي ومالك (ب) أن ذلك (¬2) غير ناقض مطلقا لما رُوِيَ عن ثوبان (قال: قلتُ) (جـ): يا رسولَ الله أَيَجِبُ الوضوء من القيء؟ قال: "لو كان واجبا لوجدته في كتاب الله" حكاه في "الانتصار" (¬3) والجواب أنَّ ذلك مفهومٌ والأول منطوق وهو أقوى، والقيء معتبر (د) فيه ذلك الاشتراط ولو كان دما اعتبارا بالمحل (هـ)، وعن المنصور بالله أنه كالدم اعتبارا بصفته، وعنه أنه كالدم في التنجيس وكالقيء في النقض. ودل على أن الرعاف ناقض للوضوء، ويقاس عليه الدم الخارج من سائر الجسد ولكنه بشرط أن يكون دمًا سائلًا بأن يقطر أو يكون قدر الشعيرة من ¬

_ (أ) في هـ: فالجواب ما قد. (ب) زاد في هـ: إلى. (جـ) ساقط من الأصل. والتصحيح من ابن بهران. انظر هامش رقم 3. (د) في جـ: يعتبر. (هـ) في جـ: بالمخرج.

موضع واحد في وقت واحد إلى ما يمكن تطهيره، لظاهر قوله - صلى الله عليه وسلم -: "أو دم سائل". وعن المؤيد بالله أن السائل هو ما جاوز المحل عند خروجه وإن قَلَّ فإن منع السيلان بقطنة نقض عنده إذا جاوز المحل، وعلى مقتضى قول الهادوية أنه لا ينقض إلا إذا كان بحيث لو لم يمنع لسال، وهذا هو المراد بقولهم: "أو" تقديرا، وهذا ما لم يخرج من السبيلَيْن، فإن خرج منهما كان له حكم المحل، خلاف الإِمام يحيى، وكون الدم ناقضا هو قول القاسمية وأبي حنيفة وصاحبيه وأحمد (¬1) وإسحاق، والخلاف في ذلك لزيد بن عليّ والشافعي ومالك والناصر وجماعة من الصحابة والتابعين (¬2) فقالوا: إن خروج الدم غير ناقض، لحديث أنس الآتي (¬3)، وفيه مقال، وقد أُيد بآثار عن ابن عمر وابن عباس وابن أبي أوفى، وأبي هريرة، وجابر، وبقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا وضوء إلا من صَوْت أو ريح" (¬4). أخرجه أحمد والترمذي وصححه، وأحمد والطبراني (¬5) من حديث السائب بن خباب بلفظ: "لا وضوء إلَّا من ريحٍ أوَ سَماعٍ". والجواب (أعن ذلك بأن حديث الباب قول وحديث أنس حكاية فِعل، والقول أقوى، وأما حديث "لا وضوء" فهو عَامٌّ مخصوص، والله سبحانه أعلم. ¬

_ (أ- أ) ساقطة من ب.

* "أو قَلَس": هو بفتح القاف واللام، ويُروَى سكونها (أ)، قال الخليل بن (ب) أحمد: هو ما خرج من الحَلق ملء الفم أو دونه، وليس بقيء، وإن عاد فهو القيء. وقال ابن بهران في شرحه على "الأثمار": القَلَس هو المراد بالدسعة في الخبر، وهو قوله (¬1) - صلى الله عليه وسلم -: "دسعة تملأ الفم"، وفي "نهاية ابن الأثير" (¬2) مَنْ قاء أو قلس فليتوضأ، [القلس ما خرج من الجوف ملء الفم أو دونه وليس بقيء، فإن عاد فهو القيء] (جـ). * والمذي قد تقدم الكلام فيه (¬3). * قوله: "ثم ليِبْنِ على صلاته. . ." إلخ، فيه دلالة على أنَّ الصلاة لا تفسد إذا سبقه الحدث ولم يتعمد خروجه، فإنْ تعَمّد خروجه فإجماع على أنه ناقض، وهذا القول ذهب إليه أبو حنيفة وصاحباه، ومالك. ورُوِيَ (¬4) عن زيد بن علي وقديم قولي الشافعي ذكره في "المهذَّب"، ولكن بشرط ألا يفعل شيئًا يُفسد الصلاة، والحلاف في ذلك للهادي والناصر والشافعي في أخير (د) قوليه، فقالوا: إنَّ الحدث (هـ) يوجب استئنافها لحديث علي بن طلق وسيأتي (¬5) (و) قال: رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "إذا فَسَا أحدكم في الصلاة فلينصرف وليتوضأ وليُعِد الصلاة" هذه رواية أبي داود، وروي عن علي - رضي ¬

_ (أ) في جـ وب: بسكونها. (ب) ساقطة من جـ. (جـ) بهامش الأصل. (د) هـ: آخر. (هـ) في هـ: الحديث. (و) ساقطة من جـ.

الله عنه - أنه (أ) قال: "من رعف -وهو في صلاته- فلينصرف وليتوضأ، وليستأنف الصلاة"، وعن عائشة - رضي الله عنها - عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إذا قاء أحدكم في صلاته أو رعف فلينصرف وليتوضأ". حكىَ هذَيْن الحديثَيْن في "أصول الأحكام" (¬1)، وهذه الأحاديث متعارضة من الجانبين، ومع ذلك يرجع إلى الترجيع، وحديث استئناف الصلاة أرجح لأنه مثبِت حكم استئناف الصلاة، والآخر ناف، ولأن فيه زيادة تشديد وهي (ب) أرجح. 68 - وعن جابر بن سمرة - رضي الله عنه - "أن رجلا سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - أأتوضأ من لُحُوم الغَنَم؟ قال: إنْ شئتَ. قال: أتوضأ من لحوم الإبل؟ قال نعم" أخرجه مسلم (¬2). * هو أبو عبد الله -ويقال أبو خالد- جابر بن سَمُرَة بن جنادة العامري السُّوَائيّ -بضم السين المهملة وتخفيف الواو- نسبة إلى سُوَاء -بضم السين المهملة والواو المفتوحة المخففة وبعدها ألف وبعد الألف همزة مفتوحة- من أجداده، وجابر ابن أخت سعد بن أبي وقاص، وأمه خالدة (جـ)، نزل الكوفة ومات بها سنة أربع وسبعين، وقيل: سنة (د) ست وستين (¬3). روى عنه سِمَاك بن حرب، وعامر الشعبي، وحصين (هـ) بن عبد الرحمن. ¬

_ (أ) ساقطة من هـ. (ب) في هـ: وهو. (ب) زاد في ب هامش هـ: بنت أبي وقاص. (د) ساقطة من هـ. (هـ) في جـ: وحضير.

* والحديث رَوَى نحوه أبو داود والترمذي وابن ماجه (¬1) وغيُرهم من حديث البَرَاء بن عازب. قال (أ) - صلى الله عليه وسلم -: "توضؤوا من لحوم الإِبل، ولا توضؤوا من لحوم الغنم" قال ابن خزيمة في "صحيحه": لم أر خلِافًا بين علماء الحديث أنَّ هذا الخبر صحيح (ب) من جهة النقل لعدالة نَاقِلِيْهِ (¬2). * والحديثان فيهما دلالة على أنَّ أكل لحوم الإِبل يوجب استئناف الوضوء، وقد ذهب إلى هذا أحمد بن حنبل، وإسحاق ابن رَاهَوَيْه ويحيى بن يحيى وأبو بكر بن المنذر وابن خزيمة، وهو قول قديم للشافعي (¬3)، واختاره الحافظ البيهقي، وحُكي عن أصحاب الحديث مطلقا، وحكي عن الشافعي أنه قال: إن صح الحديث في لحوم الإِبل قلتُ به، قال البيهقي: قد صح فيه حديثان: حديث جابر وحديث البَرَاء. وذهب الجماهير من العلماء إلى أنه لا ينقض، ومنهم الخلفاء الأربعة وابن مسعود وأُبَيّ بن كعب وابن عباس وأبو الدَّرْدَاء وأبو طلحة وعامر بن ربيعة وأبو أُمامه وجماهير التابعين ومالك وأبو حنيفة والشافعي وأصحابهم، وهو المروي عن العترة عليهم السلام (¬4). قالوا: والحديثان منسوخان بحديث تَرْك الوضوء مما ¬

_ (أ) في هـ وجـ: قال قال. (ب) في هـ: لخبر.

مست النار (¬1). قال النووي (¬2): ودعوى النسخ باطل لأن هذا الحديث الأخير عام وذلك خاص، والخاص مُقَدَّم على العام. ويجاب عنه بأن ذلك وارد على قول من يقول: إن العام المتأخر مخصص بالخاص المتقدم كما هو مذهب الشافعي، وأما على قول من يقول إنه ناسخ فهو مستقيم دعوى النسخ (¬3). وأقرب ما يستروح له من تقوية النسخ موافقة الخلفاء الأربعة وأكابر الصحابة والتابعين، وأظهر من ذلك ما رواه في "الشفاء" عن علي - رضي الله عنه - قال: اعتكف رسول الله صلى الله عليه وسلم العَشْر الأواخر من شهر رمضان المُعَظَّم، فلما نادى بلال بالمغرب أُتِيَ رسول الله صلى الله عليه وسلم بكَتِف جَزُور مشوية، فأمر بلالا فكَفَّ هنيهة، فأكل - عليه السلام - وأكلنا، ثم دعا بلبن إبل قد مذق له (أ)، فشرب وشربنا، ثم دعا بالغسل فغسل يده من غمر اللحم ومضمض فاه ثم تقدم فصلى بنا ولم يحدث طهورا. والجزور اسم لما يجزر (ب) من الإبل والبقر ولعله في الإبل أظهر. وقد أوّل ¬

_ (أ) ساقطة من ب. (ب) في جـ: لما جزر.

حديث الوضوء (أ) من لحم الإبل بأنه يحتمل (ب) أن يراد الوضوء اللغوي، وهو غسل اليد بقرينة الأكل لشدة الزهومة في لحوم (جـ) الإبل وليس حدثا في نفسه (¬1)، والله أعلم، وقد عده الدميري مستحبا فذكره في "شرح المنهاج" من جملة الأنواع التي يستحب الوضوء بعدها. 69 - وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ غَسَل ميتا فلْيَغتَسِل، ومَنْ حَمَلَهُ فلْيَتوضَّأ". أخرجه أحمد، والنسائي، والترمذي و (5) حَسَّنه، وقال أحمد: لا يصحّ في هذا الباب شيء. (¬2) أخرجه أحمد والبيهقي من رواية ابن أبي ذئب عن صالح مولى التوأمة عن أبي هريرة وصالح ضعيف (¬3)، وأخرجه الترمذي وابن ماجه من حديث عبد العزيز ¬

_ (أ) في هـ: للوضوء. (ب) في هـ: يحمل. (جـ) في ب: لحم. (هـ) في جـ: الواو ساقطة.

ابن المختار وابن حبان. من رواية حماد بن سلمة كلاهما عن سُهَيل بن أبي صالح (¬1) عن أبيه عن أبي هريرة، وهذا الحديث حَسَّنَهُ الترمذي وصححه ابن حبان (¬2)، وقد خرج هذا الحديث من طرق كثيرة يمكن تصحيح بعضها وأقل مراتبها الحَسَن حتى ذكر الماوردي أَنَّ بعضَ أصحاب الحديث خرج لهذا مائة وعشرين طريقا (¬3)، وإنما أجاب أحمد عن هذا بأنه منسوخ وكذا أبو داود، ودليل النسخ ما رواه البيهقي (¬4) عن ابن عباس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ليس عليكم في غَسْلِ مَيِّتكم غُسْل إذا غَسّلْتُموهُ، إنَّ ميتكم لمؤمن طاهر (أ) وليس بنجس، فحسبكم أن تغسلوا أيديكم"، وضعفه البيهقي بأبي شيبة (¬5)، وأبو شيبة المذكور في إسناد هذا الحديث -هو إبراهيم بن أبي بكر بن أبي شيبة- احتج به النسائي، ووثقه الناس، ومن فوقه من رجال إسناد الحديث، احتج بهم البخاري، وقد يجعل هذا الحديث قرينة على حَمْل الأمر بالغسل والوضوء على النَّدْب، أو الراد بالغسل للأيدي كما صرح به في هذا، ويدل على (ب) الندب ما أخرجه عبد الله بن أحمد عن ابن عمر (¬6): "كنا نغسل الميت فمنا من يغتسل، ومنا من لا يغتسل". قال المصنف (¬7) -رحمه الله-: وهذا إسناد صحيح، وهو أحسن ما جمع به بين مختلف هذه الأحاديث وسيأتي زيادة (جـ) تحقيق في باب الغسل. ¬

_ (أ) في النسخ يموت طاهرًا والتصحيح من البيهقي. انظر هامش 4. (ب) زاد في ب: هذا. (جـ) ساقطة من جـ.

70 - وعن عبد الله بن أبي بكر (¬1) - رضي الله عنهما -: "إن في الكتاب الذي كتبه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعمرو بن حزم: أن لا يمسَّ القرآنَ إلا طاهرٌ". رواه مالك مرسلًا، ووصله النسائي وابن حبان، وهو مَعْلُول (¬2). هو عبد الله بن أبي بكر الصديق القرشيّ التَّيْمِيّ شهد الطائف مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرُمِي بسهم، رماه أبو محجن الثقفي فبرئ ثم انتقض عليه فمات منه في أول خلافة أبيه في شوال سنة إحدى عشرة وكان أسلم قديما ولم يسمع له بمشهد إلا شهوده الفتح وحُنَينا والطائف (¬3). الحديث رواه أبو داود في "المراسيل" (¬4) عن ابن شهاب، فال: قرأتُ في كتاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعمرو بن حزم حين بعثه إلى نجران. . .، وهو الكتاب الطويل المشتمل على ذِكْر الديات، ووصله النسائي وابن حبان والحاكم والبيهقي (¬5) وفي الإِسناد سليمان بن داود قال: حدثني الزهري عن أبي بكر بن محمد بن عَمرو بن حَزم عن أبيه عن جده، وسليمان بن داود هذا متفقٌ على تركه، كذا قال ابن حزم (¬6)، ونقل عن أحمد أنه قال: أرجو أن يكون صحيحا (¬7)، قال: ¬

_ (¬1) عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عَمرو بن حَزْم الأنصاري المدني القاضي: ثقة، روى له الجماعة وهو غير عبد الله بن أبي بكر الصديق الذي ترجم له المؤلف لأن مالكًا في الموطأ يقول: (حدثني يحيى بن مالك عن عبد الله بن أبي بكر بن حزم: إن في الكتاب). (¬2) الموطأ كتاب القرآن باب الأمر بالوضوء لمن مَسَّ القرآن 141، النسائي ذكر حديث عمرو بن حزم في العقول واختلاف الناقلين لها 8/ 52، ابن حبان -موارد- كتاب الزكاة باب فرض الزكاة وما تجب فيه 202 ح 793، الحاكم كتاب الزكاة 1/ 395، البيهقي كتاب الطهارة باب نهي المُحْدِث عن مس القرآن 1/ 87، والدارمي كتاب الطلاق باب لا طلاق قبل نكاح 2/ 161، والدارقطني في الطهارة باب في نهي المُحْدِث عن مس القرآن 1/ 121، وقال: مرسل ورواته ثقات، ابن الجارود في المنتقى 265. مسند إسحاق ابن راهويه (المطالب العالية) 1/ 28 - 29. (¬3) الاستيعاب 6/ 119 الإصابة 6/ 26. (¬4) المراسيل ص 13. (¬5) النسائي كتاب الديات 8/ 52، ابن حبان -موارد 202 ح 793، الحاكم كتاب الزكاة 1/ 395 - 397، البيهقي 1/ 87. (¬6) المحلى 6/ 13. (¬7) الميزان 2/ 200.

وهو من رواية سليمان بن داود (¬1) الخولاني، وهو ثقة، والذي قال إنه سليمان بن داود (¬2) اليمامي الذي هو ضعيف فقد وهم، وكلا الرجلَيْن يروي عن الزهري، قال: وقد أثنى على سليمان بن داود الخولاني هذا أبو زرعة وأبو حاتم وعثمان بن سعيد وجماعة من الحفاظ (¬3)، وقد صحح الحديث بالكتاب المذكور جماعةٌ من الأئمة لا من حيث الإِسناد بل من حيث الشهرة، فقال الشافعي في "رسالته" (¬4): لم يقبلوا هذا الحديث حتى ثبت عندهم أنه كتاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، (أوقال ابن عبد البر أ) أشبه المتواتر (ب) لتلقي الناس له بالقَبُول والمعرفة، وقال يعقوب بن (جـ) سفيان (¬5): لا أعلم كتابًا أصح من هذا الكتاب، فإن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والتابعين يرجعون إليه، وَيَدعون رأيهم، وقال الحاكم (¬6): قد شهد عمر بن عبد العزيز وإمام عصره الزهري بالصحة لهذا الكتاب ثم ساق ذلك بسنده إليهما. وفي الباب من حديث حكيم بن حِزام: "لا يمس المصحف إلا طاهر" (¬7)، ¬

_ (أ، أ) بهامش ب. (ب) ساقطة من ب. (جـ) في النسخ يعقوب بن أبي سفيان، والصحيح المثبت.

وفي إسناده سويد أبو (أ) حاتم (¬1)، وهو ضعيف، ومن حديث ابن عمر (¬2) رواه الدارقطني والطبراني، وإسناده لا بأس به، وذكر الأثرم أن أحمد احتج به وغير ذلك، وفي الكل مقال: إلا أنه يقوي بعض الأحاديث بعضا. والنهي يدل (ب) على أنه لا يجوز لَمْس المصحف لمن ليس بطاهر بأن يكون مُحْدِثًا، فإن كان بالحَدَثِ الأكبر فإجماع إلا ما يُرْوَى عن داود، وإن كان بالحَدَث الأصغر فمذهب العترة إلا الإمام يحيى وبعض الفقهاء أن ذلك جائز (جـ) وأكثر الفقهاء والإمام يحيى لا يجوز، قالوا لقوله تعالى: {لَا يَمَسُّهُ إلا الْمُطَهَّرُونَ (79)} (¬3) ولما تقدم من الحديث (¬4)، وأجيب عن الآية بأن الضمير عائد إلى المكنون من (د) اللوح المحفوظ، وهو كذلك لا يمسه إلا الملائكة المطهرون، والحديث متأول بالطهارة من الحَدَث الأكبر، والقرينة على ذلك قياس اللمس على التلاوة ودخول المسجد ومتنجس البدن، والله أعلم. 71 - وعن عائشة - رضي الله عنها - قالت: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يذكر الله على كل أَحْيانِه" رواه مسلم وَعلَّقه البخاري (¬5). ¬

_ (أ) في النسخ: سويد بن أبي حاتم، والصحيح المثبت. (ب) ساقطة من هـ. (جـ) في هـ: فجائز. (د) في هـ: في.

هذا الحديث أصل في جواز ذكر الله تعالى بالتسبيح والتهليل والتكبير والتحميد وشبهها من الأذكار في حال الجنابة والحدث، وهذا جائز بإجماع المسلمين، واختلف العلماء في جواز القراءة للقرآن (أ) للجُنُب والحائض، والجمهور على تحريم ذلك، ولا فَرْق بين آية وبعض آية، ويجوز أَنْ يُجْرِيَا القرآن على قلوبهما، وأن ينظرا في المصحف، ويستحب لهما التسمية في الغُسل، وكذا على الطعام ونحوه. (ب ووقولها: "على كل أحيانه". (جـ مخصوص بما (د) سِوَى المواضع التي يكره الذكر فيها كحال البول ب) والغائط والجِمَاع، ويكون الراد بكل جـ) أحيانه أي المُعْظَم كحال الطهارة والحدث والقيام والقعود ونحو ذلك. 72 - وعن أنس - رضي الله عنه - "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - احْتَجَمَ وصلَّى ولم يتوضّأ". أخرجه الدارقطني (¬1) ولينه؛ لأن في إسناده صالح بن مقاتل (¬2)، وقال: إنه ليس بالقوي. ¬

_ (أ) زاد في هـ: و. (ب، ب) بهامش هـ. (جـ، جـ) بهامش ب. (د) في هـ: ما.

وذكره (أ) النووي في فصل الضعيف. وفي الباب: أن الدم لا ينقض عن ابن عمر، وعن ابن عباس، وعن ابن أبي أوفى، وعن أبي هريرة موقوفًا، وعن جابر (¬1) وهي كلها مخرجة موصولة إلا حديث جابر فعلقه البخاري ووصله غيره، والكلام تقدم على هذا قريبا. 73 - وعن معاوية قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "العَيْنُ وِكَاءُ السَّهِ، فإذا نامت العَيْنانِ اسْتَطْلَقَ الوكاءُ"، رواه أحمد والطبراني (¬2) وزاد: "وَمَنْ نام فلْيَتَوَضَّأ" (¬3) وهذه الزيادة في هذا الحديث عند أبي داود من حديث علي دون قوله: استطلق الوكاء وفي كلا الإِسنادين ضعف. ولأبي داود عن ابن عباس - رضي الله عنهما - مرفوعًا: "إنما الوضوء على مَنْ نام مضطجعا" (¬4) وفي إسناده ضعف أيضًا. هو أبو عبد الرحمن معاوية بن أبي سفيان، واسم أبي سفيان صخر بن حرب بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف القرشي الأموي، وأمه هند بنت عتبة بن ربيعة ابن عبد شمس، كان هو وَأبوهْ من مُسْلِمَةِ الفتح، ثم من المؤلفة قلوبهم، قيل: ¬

_ (أ) في هـ: وذكر.

إنه ممن كَتَبَ لرسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - الوحي، وقال الذهبي (¬1): إنما كَتَبَ كُتُبًا للنبي - صلى الله عليه وسلم - فيما بينه وبين العرب، تولى الشام بعد أخيه يزيد في زمن عمر ولم يزل بها متوليا حاكمًا إلى أن مات، وذلك أربعون سنة، ومات سنة ستين في رجب بدمشق وله ثمان وسبعون سنة، وقيل: ست وثمانون سنة (¬2). ضعف (أإسناد الأول ببقية (¬3) عن أبي بكر بن أبي مريم (¬4)، وهو ضعيف أ)، وإسناد الثاني (¬5) ببقية عن الوَضِين بن عطاء (¬6)، قال الجُوْزَجَانِيّ (¬7): واهي، وقال ابن أبي حاتم (¬8): سألتُ أبي عن هذين الحديثَيْن فقال: ليسا بقَوِيَّيْن، وقال أحمد: حديث علي أثبت من حديث معاوية في هذا الباب، وحَسَّنَ المنذري وابن الصلاح والنووي حديث علي (¬9)، وقال الحاكم في "علوم الحديث" (¬10): لم يَقُلْ فيه: "ومن نام فليتوضأ" غير إبراهيم بن موسى الرازي، وهو ثقة، كذا قال وقد تابعه غيره (¬11). ¬

_ (أ، أ) بهامش ب.

والسَّهِ بفتح السين المهملة وكسر الهاء في هذا الحديث، وهي الدُّبُر، وفي الديوان: السَّهِ (أ) الاست، وأصلها سته فحُذِفَت العين اعتباطا، وتُرَدّ في التصغير، جعل اليقظة كالوكاء للقِرْبة، وهو الخيط الذي يشد به فوها، والكلام (ب) تقدم على فقه الحديث في أول الباب فارجع إليه. 74 - وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: قال: "يأتي أحدكم الشيطان في صلاته (جـ)، فينفخ في مقعدته، فيخيل إليه أنه أحْدَث، ولم يُحْدِثْ، فإذا وجد ذلك فلا ينصرف حتى يسمع صوتا، أو يجد ريحا" أخرجه البزار (¬1)، وأصله في الصحيحَيْن من حديث عبد الله بن زيد (¬2). ولمسلم عن أبي هريرة - رضي الله عنه - نحوه (¬3). وللحاكم عن أبي سعيد مرفوعًا: "إذا جاء أحدكم الشيطان فقال: إنك (د) أحدثت، فليقل كذبتَ" (¬4) وأخرجه ابن حبان بلفظ: ". . فليقل في نفسه. ." (¬5). حديث ابن عباس أخرجه البزار، وفي إسناده أبو أُوَيْس (¬6)، ولكن تابعه الدراوردي عند البيهقي، وحديث عبد الله بن زيد في الصحيحَيْن، وهو عبد الله بن زيد بن عاصم، وحديث أبي هريرة تقدم في هذا الباب، وحديث أبي سعيد ¬

_ (أ) في جـ: أنه. (ب) زاد في ب: قد. (جـ) ساقطة من جـ. (د) في جـ وقال أحدثت.

أخرجه الحاكم من طريق عياض بن عبد الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا جاء. ." الحديث، بزيادة بعد قوله "كذبتَ": إلا ما وجد ريحا بأنفه أو سَمِعَ صوتا بأذنه". وهو عند أحمد بلفظ: "إن الشيطان ليأتي أحدكم في صلاته فيأخذ شعرة من دبره فيمدها فيرى أنه أحدث، فلا ينصرف حتى يسمع صوتا" (¬1) وفي إسناده علي بن زيد بن جدعان (¬2)، والكلام على فقه (أ) الحديث تقدم في هذا الباب فارجع إليه. [اشتمل الباب على خمسة عشر حديثًا] (ب). ¬

_ (أ) زاد في ب: هذا. (ب) بهامش الأصل وهـ.

باب قضاء الحاجة

باب قضاء الحاجة [الحاجة كناية عن خروج البَول أو الغائط، وهو مأخوذ من قوله - صلى الله عليه وسلم - "إذا قعد أحدكم لحاجته. ."، وعبارة الفقهاء لهذا الباب: الاستطابة، والمحدثين التخلي والتبرز] (أ). 75 - عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا دخل، الخلاءَ وَضعَ خاتمه" أخرجه الأربعة وهو معلول (¬1). أعل بأنه من رواية همام عن ابن جُرَيج عن الزهري عن أنس، ورواته ثقات لكن لم يخرج الشيخان من رواية همام عن ابن جريج، وابن جريج قيل: لم يسمعه من الزهري، وإنما رواه عن زياد بن سعد (ب) عن الزهري بلفظ آخر [وهو أن النبي - صلى الله عليه وسلم - اتخذ خاتما من ورق (جـ ثم ألقاه جـ) والوهم فيه من همام، كذا قال أبو داود (¬2)، وهمام (¬3) هو ابن يحيى بن دينار الأزدي العوذي مولاهم، البصري، وإن كان قد (د) تكلم فيه فقد اتفق الشيخان على الاحتجاح بحديثه، وقال ابن معين: ثقة صالح، وقال أحمد: ثبت في كل المشايخ] (هـ). وقد رواه مع همام مع ¬

_ (أ) مثبت في هامش الأصل وب، وساقطة من جـ. (ب) في جـ: سعيد. (جـ، جـ) ما بينهما ساقط من جـ. (د) في جـ: فقد. (هـ) بهامش الأصل وهـ.

ذلك مرفوعًا يحيى بن الضرير البجلي ويحيى بن المتوكل أخرجهما الحاكم والدارقطني (¬1)، وقد رواه عمر (أ) بن عاصم وهو من الثقات عن همام موقوفًا على أنس (ب)، وأخرج له البيهقي شاهدا وأشار إلى ضعفه، ورجاله ثقات، ورواه الحاكم أيضًا، ولفظه: أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لبس خاتما نقشه محمد رسول الله، وكان إذا دخل الخلاء وضعه (¬2). وقوله: "إذا دخل الخلاء" أي (جـ) أراد دخوله، والخلاء بالمد هو المكان الخالي، كانوا يقصدونه لقضاء الحاجة ثم كثر حتى تجوز به في غير ذلك. والحديث يدل على أنه (د) يُبْعَدُ عنه عند قضاء الحاجة ما فيه ذكر الله، أو ذكر نبي أو شيء من القرآن. وعن بعضهم: أنه يحرم إدخال المصحف الخلاء لغير ضرورة. قيل: فلو غفل عن تنحية ما فيه شيء من ذلك حتى اشتغل بقضاء الحاجة غيبه وضم (هـ) كفه عليه، أو جعله في فيه أو عمامة، قيل فلو تختم في يساره بما فيه شيء مما تقدم وجب نزعه عند الاستنجاء خشية تنجيسه، وهذا إذا كان اللفظ مقصودا به الذكر، فأما لو كان اللفظ مما يصح إطلاقه على غير الله سبحانه مثل لفظ كريم وعزيز وأراد به غير الله لم يكره استصحابه نظرا إلى المقصود والله أعلم، وهذا هو المشهور عند العلماء، وعن المنصور بالله أنه لا يندب نزع الخاتم الذي فيه ذكر الله ونحوه لتأديته إلى ضياعه، وقد نهي عن إضاعة المال، وهذا الحديث يرد عليه. ¬

_ (أ) في هـ: عمرو. (ب) في هـ: عن. (جـ) زاد في هـ: إذا. (د) في ب: أن. (هـ) في هـ وب وجـ: بضم.

76 - وعنه - رضي الله عنه - قال: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا دخل الخلاء قال: "اللَّهمَّ إني أعوذ بك من الخُبُثِ والخَبَائث" أخرجه السبعة (¬1). قوله: "إذا دخل" (أ): أي إذا أراد الدخول، وقد صرح بهذا البخاري في "الأدب المفرد" (¬2) من حديث أنس قال: "كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا أراد أن يدخل الخلاء قال": فذكر مثل حديث الباب، وهذا في الأمكنة المعدة لذلك بقرينة الدخول، ولهذا قال ابن بطال: رواية "إذا أتى" أعمُّ لشمولها، وهل يختص هذا الذكر بالأمكنة المعدة لذلك لكونها حضرة الشياطين كما ورد في حديث زيد بن أرقم (¬3) في السنن أو يشمل؟ الأصح أنه يشمل ما لم يشرع في قضاء الحاجة، ووقت هذا الذِّكْر إن كان في الأمكنة المعدة لذلك قبل الدخول، وفي غيرها في أول الشروع كتشمير (ب) ثيابه، وهذا مذهب الجمهور (¬4) وأما من يستعيذ بقلبه أو بلسانه على مذهب مالك من أنه لا يكره الذكر عند قضاء الحاجة، فلا فَرْق. ¬

_ (أ) زاد في هـ: الخلاء. (ب) في هـ: لتشمير.

والخُبُث بضم المعجمة والموحدة كذا في الرواية، وقال الخطابي (¬1): إنه لا يجوز غيره، وتُعُقب بأنه يجوز إسكان الموحدة كما في نظائره من التخفيف. قال النووي (¬2): وقد صرح جماعة من أهل المعرفة بأن الباء هنا ساكنة منهم: أبو عُبَيد (أ) القاسم بن سلام (¬3) والخبث: جمع خبيث، والخبائث: جمع خبيثة يريد ذُكْران (ب) الشياطين وإناثهم، ويحتمل على سكون الباء كما قال ابن الأعرابي أنه بمعني المكروه، فإن كان من الكلام (جـ) فهو الشتم وإن كان من المِلَل فهو الكفر، وإن كان من الطعام فهو الحرام، وإن كان من الشراب فهو الضار (¬4)، وعلى هذا فالمراد بالخبائث المعاصي أو مطلق الأفعال المذمومة ليحصل التناسب (¬5)، ولهذا وقع في رواية الترمذي (¬6) وغيره: "أعوذ بالله من الخُبْث والخبائث"، أو "الخُبُث والخُبائث" هكذ على الشك، الأول بإسكان الباء، والثاني بضمها. وكان - صلى الله عليه وسلم - يستعيذ إظهارا للعبودية، ويجهر بها للتعليم، وقد روى المعمري (¬7) هذا الحديث من طريق عبد العزيز بن المختار عن عبد العزيز بن صهيب بلفظ الأمر قال: "إذا دخلتم الخلاء فقولوا: بسم الله، أعوذُ بالله مِن الخُبُثِ والخَبَائِثِ". وإسناده على شرط مسلم وفيه زيادة تسمية، قال المصنف -رحمه الله تعالى- في "الفتح" (¬8): ولم أرها في غير هذه الرواية. ¬

_ (أ) في جـ: أبو عبيدة. (ب) في هـ: أن ذكران، وفي جـ: ذكور. (جـ) في هـ: كلام.

77 - وعن أنس - رضي الله عنه - قال: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدخل الخلاء، فأكل أنا وغلام نحوي إدَاوَة من مَاءٍ وعَنَزَة، فيستنجي بالماء" متفق عليه (¬1). المراد بالخلاء هنا الفضاء لقرينة العَنَزة (¬2)، ولأن خدمته في البيوت كانت تختص بأهله. [والغلام هو (أ) المترعرع، وقيل إلى حد السبع السنين، وقيل إلى حد الالتحاء، وبعد ذلك مَجَاز] (ب). والإِداوة -بكسر الهمزة-:- إناء صغير من جلد يُتخذ للماء كالسطيحة ونحوها، وجمعها إداوى. والعَنَزَة بفتح العين والزاي، وهي عصا طويلة في أسفلها زُجّ، ويقال: رمح قصير (¬3) وإنما كان يستصحبها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنه كان إذا توضأ صلى فيحتاج إلى نصبها بين يديه سُترة. ويُفهم من تبويب البخاري (¬4) أنها كانت تُحمل ليستتر بها عند قضاء الحاجة، وذلك أنه يمكن أن يضع عليها الثوب فيستتر، أو يكون إشارة إلى مَنْ يروم المرور بقربه، ويحتمل أنه (جـ) إنما استصحبها لنبش الأرض الصلبة، أو لمنع ما يعرض من هوام الأرض لكونه - صلى الله عليه وسلم - كان يبعد عند قضاء الحاجة. ¬

_ (أ) في جـ: هذا. (ب) بهامش الأصل. (جـ) ساقطة من هـ.

وفي الحديث جواز استخدام الرجل الفاضل بعض أصحابه، واستحباب الاستنجاء بالماء ورجحانه على الحَجَر، والذي عليه الجماهير (¬1) من السلف والخلف أن الأفضل أن يجمع بين الماء والحَجَر فيستعمل الحَجَر أولًا لتخف النجاسة، فإن اقتصر على أحدهما فالماء أفضل، حيث لم يُردِ الصلاة، فإن أرادها فخلاف في وجوب الماء، وروي عن سعيد بن المسيب كراهة الاستنجاء بالماء (¬2) فقيل لأنه مطعوم، وروى عنه أنه قال: "إنما الماء للنساء"، ويؤول بأنه لعله فَهِمَ من السائل الغُلُوّ في ذلك. واستدل بعضهم بهذا على أن التوضؤ من الأواني دون المشارع والمسالك أفضل، إذ لم يتوضأ النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا منها، ورُدَّ بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يعدل إلى الأواني عند وجودها، إذ لم ينقل ذلك (أ)، فلا دلالة. [والغلام المُبْهَم في هذا الحديث في البخاري ما يُشْعِرُ بأنه ابن مسعود فإنه أورد هذا بعد ذِكْر (ب) حديث أبي الدَّرْدَاء في شأن ابن مسعود (¬3)، وقد يطلق الغلام على غير الصغير مَجَازًا ويؤيده أنه قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لابن مسعود: "إنك (جـ) لغلُامٌ مُعَلَّم" (¬4)، وفي رواية الإسماعيلي: "غلامٌ من الأنصار" (¬5) فلعلها (د) مِنْ تَصَرُّف الراوي للرواية الأخري: "غلامًا منا" (¬6) وهي محتَمِلَة ¬

_ (أ) في هـ: إذا لم يقل ذلك عنه. (ب) ساقطة من ب. (جـ) مكررة في ب. (د) في ب: فلعله.

للتأويل، أي من الصحابة أو (أ) من خدم النبي - صلى الله عليه وسلم -، ويحتمل أن يكون ذلك الغلام هو أبو هريرة (¬1) فإنه كان يحمل ذلك مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، وجابر بن عبد الله فَعَلَ ذلك (¬2)، فيحتمل ذلك وهو أنصاري أيضًا. والله أعلم] (ب). 78 - وعن المغيرة بن شعبة - رضي الله عنه - قال: قال لي النبي - صلى الله عليه وسلم -: "خذ الإِداوة فانطلق حتى توارى عني فقضى حاجته" متفق عليه (¬3). (جـ في الحديث دلالة على استحباب التباعد لقضاء الحاجة عن الناس والاستتار عن أعين الناظرين جـ). 79 - وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "اتقوا اللَّاعِنَيْين (د)، الذي يتخلى في طريق الناس، أو في ظلهم" رواه مسلم (¬4). وزاد أبو داود عن معاذ: "والموارد" [ولفظه: اتقوا الملاعن الثلاثة: البراز في الموارد، وقارعة الطريق، والظِّلَّ] (هـ) (¬5). ¬

_ (أ) ساقطة من جـ. (ب) بهامش الأصل وب وهـ. (جـ، جـ) ما بينهما بهامش ب. (د) اللاعنين كذا في جميع النسخ، وقال النووي اللعانان كذا وقع في مسلم. (هـ) في هامش الأصل وهـ.

ولأحمد عن ابن عباس: "أو نقع ماء". وفيهما ضعف (¬1). وأخرج الطبراني (¬2) النهي عن تحت الأشجار المثمرة وضفة النهر الجاري من حديث ابن عمر بسند ضعيف. في رواية مسلم: "اتقوا اللَّعَّانيْن، قالوا: وما اللَّعَّانان يا رسول الله؟ قال: الذي. . ." (أ) الحديث، ومعني اللعان: أي صاحب اللعن فهو للنسبة أي الذي ينسب إلى اللعن. والمراد أن الناس يلعنونهما في العادة، ووقع في رواية أبي داود "اللاعنَيْن" كما في الأصل بصيغة التثنية (ب). قال الخطابي (¬3): المراد باللعانين: الآمرين الجالبين للعن الحاملين الناس (جـ)، عليه، والداعيين إليه، وذلك أن مَنْ فعلهما لعن وشتم، يعني عادة الناس لعنه، فهو سبب (د)، فإسناد اللعن إليهما من المجاز العقلي، قال: وقد يكون اللاعن بمعنى الملعون أي الملعون فاعلهما (¬4)، فهو كذلك من المجاز العقلي. وقوله: "الذي يتخَلَّى في طريق الناس"، أي يَتَغوَّط في موضع يمر به الناس، [وفي الحديث حذف مُضَاف، والتقدير: تخلى الذي يتخلى] (هـ)، ¬

_ (أ) في جـ زيادة: الذي يتخلى في طريق الناس. (ب) في ب: التنبيه. (جـ) في هـ: للناس. (د) زاد في ب: لعنه. (هـ) بهامش الأصل.

ووجه النهي: لما فيه من إيذاء المسلمين بتنجيس مَن يمر به ونتنه واستقذاره. والمراد بالظل هنا: مستظل الناس الذي اتخذود مقيلا ومناخا ينزلونه ويقعدون فيه، وليس كل ظل يحرم القعود تحته، فقد قعد النبي - صلى الله عليه وسلم - تحت حايش النخل لحاجته (¬1)، وله ظل بلا شك. وحديث معاذ بزيادة: "الموارد" وهي جمع مورد، وهو الموضع الذي يأتيه الناس، من رأس عين أو نهر لشرب الماء أو التوضؤ وفيه ذكر قارعة الطريق، والمراد: الطريق الواسع الذي يقرعه الناس بأرجلهم، أي يدقونه ويمرون عليه (¬2). وقد صححه ابن السكن والحاكم (¬3)، واعترض عليهما في ذلك بأن أبا سعيد الحميري (¬4) راويه (أعن معاذ أ) لم يسمع منه، ولا يعرف بغير هذا الإِسناد، قاله (ب) ابن القطان. وحديث أحمد عن ابن عباس ضعفه لأجل ابن لَهيعة (¬5)، والراوي عن ابن عباس متهم أيضًا. [ونقع الماء المراد به: الماء المجتمع، كذا في النهاية] (¬6) (جـ). ¬

_ (أ، أ) ما بينهما بهامش ب. (ب) في هـ: وقاله. (جـ) بهامش الأصل.

وحديث الطبراني (¬1) ضعفه بفُرَات (أ) بن السائب (¬2) -راويه عن ميمون بن مِهْرَان- وهو متروك قاله البخاري وغيره (¬3). [وقوله فيه: وضفة (ب النهر: ضَفَّة ب) بفتح الضاد المعجمة وكسرها جانب النهر كذا ذكره في القاموس] (¬4) (جـ). والحديث يدل على تحريم ذلك الفِعل في المواضع المذكورة، وفي ذلك تفصيل معروف في كتب الفروع (¬5). 80 - وعن جابر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "إذا تَغوَّط الرجلان فلْيتَوارى كُلُّ واحدٍ منهما عن صاحبه، ولا يتحدَّثا، فإن الله يمقُتُ على ذلك". رواه وصححه ابن السكن وابن القطان (¬6)، وهو معلول (¬7). ¬

_ (أ) في ب: بعراب، ولعله تصحيف. (ب- ب) ما بينهما ساقط من هـ. ولفظة "ضفة" ساقطة من جـ. (جـ) بهامش الأصل.

وأخرج أبو داود وابن ماجه (¬1) من حديث أبي سعيد قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يخرج الرجلان يضْربان الغائِطَ كاشِفَيْن عن عَوْرتهما يتحدَّثان فإن الله يَمْقُتُ على ذلك". ¬

_ = قلت: ذكر الإمام الصنعاني أن علة الحديث هو عكرمة بن عمار وهي علة حديث أبي سعيد. فهل هي نفس علة حديث جابر أم لا. لم أقف على شيء من ذلك، ووقفت في "الوهم والإيهام" لابن القطان على حديث أبي سعيد في مواضع وقال ما نصه: الأحاديث التي ضعفها بقومٍ وترك غيرهم ممن لا يعرف له حال إما ممن روى عن أحدهم جماعة وإما ممن لا يروى عن أحدهم إلا واحد. فمن ذلك حديث أبي سعيد: سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "لا يخرج الرجلان يضربان الغائط"، الحديث من طريق أبي داود وأتبعه بأن قال: لم يسنده غير عكرمة بن عمار، وقد اضطرب فيه. لم يزد على هذا. وبقى عليه أن يذكر علته العظمى وهي من رواه عنه يحيى بن أبي كثير، وهو محل الاضطراب الذي أشار إليه وذلك إنه حديث يرويه عكرمة بن عمار عن يحيى بن أبي كثير في رواية عنه عن عياض ابن أبي زهير وهو مع ذلك كله مجهول لا يعرف، ولا يعرف بغير هذا فأما لو كان هذا الرجل معروفًا ما كان عكرمة بن عمار له بعلة فإنه صدوق حافظ إلا أنه يهم كثيرًا في حديث يحيى بن أبي كثير أما في غيره فلا بأس به. . وقد وقع لأبي محمد فيه شبه اضطراب سنذكره في موضعه. الوهم ل 173 أ. وفي باب ذكر أحاديث أعلها بما ليس بعلة وترك ذكر عللها، قال: فمن ذلك أنه ذكر من طريق أبي داود حديث أبي سعيد: لا يخرج الرجلان يضربان الغائط كاشفين عن عورتهما يتحدان فإن الله يمقت ذلك. وأعله بأن قال: لم يسنده غير عكرمة بن عمار وقد اضطرب فيه ولم يزد على هذا. وقد ترك ما هو علة في الحقيقة وهو الجهل براوية عن أبي سعيد وهو عياض بن هلال أو هلال بن عياض، وقد بسطنا القول في هذا الحديث في باب الأحاديث التي أوردها ولها طرق صحيحة أو حسنة ل 203. ولم أره ذكر هذا في هذا الباب بل ذكر هذا في باب ذكر أحاديث ضعفها من الطرق التي أوردها وهي ضعيفة صحيحة أو حسنه من طريق آخر. قال: وذكر من طريق أبي داود عن أبي سعيد قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "لا يخرج الرجلان يضربان الغائط كاشفين عن عورتهما يتحدثان فإن الله يمقت ذلك" ثم قال لم يسند هذا الحديث غير عكرمة بن عمار وقد اضطرب فيه وقد نبهنا على أمر هذا الحديث ببعض القول في باب الأحاديث التي أعلها بما ليس بعلة وذلك بذكر عللها على الحقيقة وأخرنا بيانه وبسط القول فيه في هذا الموضع وذلك أنه ذكر أهـ هذا الموجود في النسخة المصورة بجامعة الإمام عن نسخة الشيخ حماد الأنصاري وفي نسخة مكتبة مركز البحث العلمي بجامعة أم القرى طمس على قوله: وأخرنا. . إلخ. (¬1) أبو داود 1/ 22 ح 15، ابن ماجه 1/ 123 ح 342، ابن خزيمة 1/ 39 ح 71، أحمد 3/ 36، البيهقي 1/ 100، الحاكم 1/ 157، شرح السنة 1/ 381. وحديث أبي سعيد فيه عكرمة بن عمار العجلي أبو عمار اليمامي. قال البخاري: وفي روايته عن يحيى بن أبي كثير اضطراب، وقال أحمد: أحاديثه عن يحيى ضعاف وليست بصحاح، قال الحافظ: صدوق يغلط، وقال الذهبي: ثقة إلا في يحيى بن أبي كثير بمضطرب. الجرح 7/ 10، الكاشف 2/ 276، الميزان 3/ 90، التهذيب 7/ 263، التقريب 242.

والحديث يدل علي وُجُوب سَتْر العورة، وقوله (أ) "ولا يتحدثا": نهي عن التحديث (ب) وتعليله بالمقت إظهارًا لعلة النهي. المقت: أشد البُغض (¬1)، ومعناه إعلام العباد بأن الفعل قبيح من فاعله يستحق عليه الذم والعقاب، ولكنه حمل هنا (جـ) على ترك الأحسن استعارة لأن فاعل القبيح تارك للأحسن، والقرينة على هذا الحمل (د) الإِجماع على أن الكلام غير محرم في هذا الحال (هـ)، كذا ذكره الإِمام المهدي في "الغيث"، قيل فإن عطس حمد بقلبه، قيل: وقراءة (و) القرآن حال قضاء الحاجة مكروهة كسائر أنواع الكلام، وقيل: يحرم حال خروج الخارج، فأما قبله أو بعده فيحتمل (ز)، واللائق بالتعظيم المنع. 81 - وعن أبي قتادة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لَا يمَسَّنَّ أحدُكُم ذَكرهُ بيمِينه وهو يبول، ولا يتمسَّح من الخلاءِ بيمِينه، ولا يتنفَّس في الإِناء". متفق عليه، واللفظ لمسلم (¬2). ¬

_ (أ) ساقطة من جـ. (ب) في جـ: التحدث. (جـ) في ب: هذا. (د) في جـ: الفعل. (هـ) في ب: الحالة. (و) بهامش. (ز) في هـ: فمحتمل.

الحديث يدل على النهي عن مس الذكر باليمين (أ)، وهو نهي تنزيه لا تحريم. وقوله: "ولا يتمسح من الخلاء بيمينه"، الخلاء بالمد هو الغائط، وليس في ذلك الذكر دلالة على أن البول يخالف ذلك بل هما سواء، وقد أجمع العلماء على أنه منهيّ عن الاستنجاء باليمين، والجمهور على أنه نَهْى تنزيه، وذهب أهلُ الظاهر إلى أنه حرام (¬1)، وأشار إليه جماعة من الشافعية (¬2)، ويستحب أن لا يستعين باليمين في شيء من أمور الاستنجاء إلا لعذر، وإذا استنجى بماءٍ صَبَّه باليمنى (ب) ومسح باليسرى وإن كان بحَجَر فإن كان في الدُّبُر مسح بيساره (جـ) وإن كان في القُبُل وأمكنه وضع الحجر على الأبيض، أو بين قدميه (د) بحيث يتأتى مسحه أمسك الذكر بيساره ومسحه على الحجر، وإن لم يمكنه ذلك، واضطر إلى حمل الحجر حمله بيمينه، وأمسك الذكر بيساره ومسح بها، ولا يحرك اليمنى، هذا هو الصواب، وقال بعض الشافعية: يأخذ الحجر بيساره، والذكر بيمينه ويمسح ويحرك اليسرى وهذا ليس بصحيح لأنه يمس الذكر بيمينه من غير ضرورة. وفي هذا تنبيه على إكرام اليمين وتشريفها وصيانتها عن الأقذار (¬3). وقوله: ولا يتنفس في الإِناء (¬4)، المراد: لا يتنفس إلى داخل الإِناء، وأما ¬

_ (أ) في ب: باليمنى. (ب) في ب: باليمين. (جـ) في هـ: بيسراه. (د) في جـ: يديه.

التنفس ثلاثا خارج الإِناء فسُنَّة معروفة (¬1). قال العلماء: والنهي عن التنفس في الإناء هو على طريق (أ) الأدب مخافة من تقذيره ونتنه وسقوط شيء من الفم والأنف فيه ونحو ذلك فيفسده على غيره، والله أعلم. 82 - وعن سلمان - رضي الله عنه - قال: "لقد نهانا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نستقبل القبلة بغائط أو بول، أو أنْ نَسْتَنْجِيَ باليميِن، أو أنْ نستنجيَ بأقلَّ من ثلاثة أحجار، أو أن نَسْتنجَي بِرَجيْعٍ أو عَظْم". رواه مسلم (¬2). وللسبعة من حديث أبي أيوب (¬3): "لا تستقبلوا القبلة بغائط أو بول، ولكن شَرِّقُوا أو غربوا". هو أبو عبد الله سَلْمَان الفارسس، ويقال له: سلمان الخير، مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أصله من فارس من رَامَهُرْمُز -وقيل من أصبهان-، من بلدٍ يقال لها: جَيّ، سافر لطلب الدين فتنصّر، وقرأ الكتب، ووقع في يد قوم من العرب، فباعوه من (ب) يهود، وكوتب فأعانه (جـ) النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقيل اشتراه بشرط العتق، أسلم لما قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - المدينة، وأول مشاهده الخندق (د) منعه الرق (هـ عما تقدم هـ)، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لما اختصم فيه المهاجرون والأنصار في عمل الخندق ¬

_ (أ) في جـ: طرق. (ب) في جـ: إلى. (جـ) في هـ: فكوتب وأعانه. (د) زاد في هـ: و. (هـ، هـ) ساقط من جـ.

كل يقول هو منه، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "سلمان منا أهل البيت" (¬1). وَلَّاهُ عمر المدائن وكان من المعمرين، قيل: عاش مائتين وخمسين سنة، وقيل ثلاثمائة وخمسين سنة، وكان يأكل من عمل يده، ويتصدق بعطائه، مات بالمدينة سنة خمس وثلاثين، وقيل سنة اثنتين وثلاثين (¬2)، وقيل: مات في زمن عمر، والأول أكثر. روى عنه أبو هريرة وأنس بن مالك وغيرهما. قوله في الحديث "بغائط" بالباء، ووقع أيضًا في نسخ مسلم باللام، قال النووي (¬3): كذا ضبطناه، وأصل الغائط: المطمئن من الأرض، ثم صار عبارة عن الخارج المعروف من دُبُر الآدمي (¬4). والحديث يدل على النهي عن استقبال القبلة بما ذكر، وقد اختلف العلماء في ذلك على أقوال خمسة (أ). الأول: أن النهي للتنزيه فيكون مكروها، وهو قول (¬5) القاسم، وأشار إليه في الأحكام وحصله القاضي زيد لمذهب الهادي - عليه السلام -، قال: ولا فرق بين الصحاري والعمران (ب) والاستقبال والاستدبار، قالوا: وَرَدَتْ أحاديث النهي كحديث (جـ) أبي هريرة: "فلا تستقبلوا القبلة ولا تستدبروهما" (¬6) رواه مسلم ¬

_ (أ) في هـ، ب، جـ: خمسة أقوال. (ب) في جـ، هـ: في. (جـ) في هـ: لحديث.

ونحوه، من رواية أبي داود والنسائي وله شواهد أيضًا، وورد ما يدل علي الإِباحة كحديث جابر: "ثم رأيته قبل موته بعام مستقبل (أ) القبلة" (¬1) رواه أحمد والبزار وأبو داود والترمذي وابن ماجه، وغيرهم، واللفظ لابن حبان، وكحديث ابن عمر: "رقيت السطح مرة فرأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - جالسا على لبنتين مستقبلا بيت المقدس مستدبر القِبْلَة" (¬2) متفق عليه، و (ب) له طرق كحديث عائشة: "حولوا بمقعدتي إلى القبلة" رواه ابن ماجه وإسناده حسن (¬3)، ورواه أحمد في مسنده فجمع بين الأحاديث بالحمل على الكراهة بل وفي متون (جـ) هذه ما يدل على أنها ناسخة للتحريم كحديث جابر وحديث عائشة. القول الثاني: لأبي طالب والمنتخب، وهو قول الناصر (¬4)، ورواية عن أبي ¬

_ (أ) في جـ: يستقبل. (ب) الواو ساقطة من جـ، وسقط في هـ: (له طرق). (جـ) في هـ: المتون.

حنيفة أنه محرم فيهما، ودليلهم أحاديث النهي، وحملوا أحاديث الإِباحة أنها لعذر. القول الثالث: لربيعة شيخ مالك وداود الظاهري، وتبعهما الأمير الحسين أنه مباح فيهما قالوا: وَرَدَت أحاديث النهي ثم نسخت فبقيت (أ) الإِباحة وهو قول قوي (¬1)، مع ما عرفت من الإِشعار بالنسخ. القول الرابع: أنه يحرم (ب) في الصحاري دون العمران (¬2)، وهو مذهب مالك والشافعي وهو مروي عن ابن عباس وعبد الله (جـ) بن عمر والشعبي وإسحاق بن راهويه وأحمد بن حنبل في إحدى روايتين عنه، ورواه أبو الفوارس تحصيلا لأبي العباس، قالوا: وردت أحاديث الإِباحة في العمران فحملت عليها، وبقي الصحراء على التحريم، وفي حديث ابن عمر عن مروان الأصفر قال: رأيت ابن عمر أناخ راحلته مستقبل القبلة، ثم جلس يبول إليها، فقلت: يا أبا عبد الرحمن: أليس قد نهي عن هذا؟ فقال: بلى إنما نهي (د) عن ذلك في الفضاء، فإذا كان بينك وبين القبلة شيء يسترك فلا بأس. رواه أبو داود وغيره (¬3) والجمع بين الأحاديث ما أمكن هو الواجب، وفرقوا أيضًا بين الصحراء والعمران من حيث المعنى بأنه يلحق المشقة في البنيان في تكليفه ترك القبلة بخلاف الصحراء، واعترض بأن علة النهي إنما هي الحرمة، وهي حاصلة فيهما ولو كان العمران حائلا كافيا في ذلك لجاز في الصحراء (هـ) إذ لا تخلو من جبال وموانع، والفرق المذكور يكفي في الجواب. ¬

_ (أ) في جـ: وبقيت. (ب) في هـ: محرم. (جـ) ساقطة من جـ. (د) في هـ: ينهى. (هـ) زاد في هـ: ثم.

القول الخامس: إنه يحرم الاستقبال فيهما، ويجوز الاستدبار فيهما، وهو إحدى (أ) روايتين عن أبي حنيفة وأحمد (¬1)، ولعل حجتهم حديث سلمان (¬2) من الاقتصار على الاستقبال فيهما، وهو مردود لورود النهي فيهما والإباحة فيهما بهذه (ب) الأقوال الخمسة (جـ) وأما تأويل حديث ابن عمر بأنه (د) مخصوص بالنبي - صلى الله عليه وسلم - فلا وجه له، لحديث عائشة، وعموم آية التأسي إلا فيما (هـ) صرح بالخصوصية، وفي مذهب الشافعي في جواز ذلك في العمران مشروط بأن (و) يكون قريبًا من جدار أو (ز) نحوه، بأن لا يكون بينهما زائد على ثلاثة أذرع وأن يكون الحائل مرتفعًا بحيث يستر أسافل الإِنسان، وقَدَّرُوه بآخِرة الرَّحْل وهو نحو ثلثي ذراع إلا إذا كان في بيت بني لذلك فلا شرط، فإذا كان في الصحراء وتستر بشيء على الشرط المذكور زال التحريم، وهذا هو المشهور عند الشافعية (¬3) (ح)، ولا فرق في الحائل بأن (ط) يكون حيوانًا أو جمادًا أو وهدة، ولو أرخى ذيله قبالة القبلة أجزأ عندهم على المشهور، وهذه الأقوال في الكعبة وأما بيت المقدس ¬

_ (أ) في هـ وب: أحد. (ب) في هـ: فهذه. (جـ) الواو ساقطة من: ب. (د) في جـ: فإنه. (هـ) في جـ: ما. (و) في جـ: بأنه. (ز) في هـ: و. (جـ) في هـ: الشافعي. (ط) في جـ: بين أن.

فالظاهر من مذهب العِترة (¬1) وصَرَّح به المنصور بالله والإِمام يحيى والغزالي أنه كالكعبة، وقالوا لنهيه - صلى الله عليه وسلم - عن استقبال القبلتَيْن بغائط أو بول. [أخرجه أبو داود (¬2) وغيره، وهو حديث ضعيف لأن فيه راويا مجهول الحال] (أ) ونَسْخ الاستقبال للصلاة لا يُبطل الحرمة، وقال الناصر: إنه غير منهي عنه، ومثله في "الشامل"، وبيان العمراني، وقال (ب) أصحاب الشافعي: النهي عن استقبال بيت (جـ) المقدس حين كان قبلة لكن جمعهما الراوي، أو ذلك في حق أهل المدينة لأنه يؤدي إلى استدبار الكعبة (¬3)، وصرح النووي في شرح مسلم بالكراهة (¬4). فَرْعٌ: يجوز الجماع مستقبل القبلة في الصحراء والبنيان (د)، وهو المختار عند الشافعية (¬5) ومذهب أبي حنيفة وأحمد وداود، واختلف (هـ) فيه أصحاب مالك، فجوزه (و) ابن القاسم وكرهه ابن حبيب، وظاهر مذهب العترة أنه يكره، وكذا الاستنجاء وإخراج الريح والفصد والحجامة والصواب الجواز، إذ التحريم والكراهة إنما يثبتان بدليل شرعي ولم يرد نهي عن ذلك (¬6). ¬

_ (أ) بهامش الأصل. (ب) زاد في جـ: بعض. (جـ) في هـ: الاستقبال لبيت. (د) في ب: أو البنيان. (هـ) في ب: فاختلف. (و) في ب: جوزه.

وقوله: "أو (أ) أن تستنجي باليمين" (ب)، تقدم الكلام فيه. وقوله: "أو (جـ) أن يستنجي بأقل من ثلاثة أحجار" (د) يدل على أنه يجب الاستنجاء بثلاثة أحجار، وهذه المسألة فيها خلاف عند العلماء، فمذهب (5) الهادي وغيره من الأئمة أن الاستجمار لا يجب إلا على المتيمم، أو من خشي تعدي الرطوبة ولم تَزُلْ النجاسةُ بالماء، وفي غير هذه الحال (و) الاستجمار (ز مندوب لا واجب، والاستنجاء بالماء لإِزالة النجاسة لأجل الصلاة واجب، ويدل على عدم وجوب الاستجمار ز) ما تقدم من حديث أنس وحديث المغيرة (¬1)، وما سيأتي من حديث أهل قباء (¬2) على بعض رواياته من ذكر الماء من دون الحجارة (ح) وعلى القول بندبيته فالعدد (ط) وكونه وترا مندوب أيضًا، وذهب (ى) الشافعي إلى أنه مخير (ك) بين الماء والحجارة وأيهما فعل في الاستنجاء أجزأه (¬3) فإذا استنجى بالحجر فلا بد من إزالة عَيْن النجاسة، وثلاث مَسْحَات، ¬

_ (أ) في ب، وجـ: و. (ب) في ب: باليمنى. (جـ) في ب وجـ: و. (د) زاد جـ: و. (هـ) في ب: فذهب. (و) لفظة جـ: الماء، وفي غيره: هذه الحالة. (ز، ز) بهامش جـ. (جـ) في هـ: الحجار. (ط) في هـ: بالعدد. (ى) في هـ: ومذهب. (ك) في ب: يخير.

ولو زالت النجاسة بدونها، وبه قال أحمد وإسحاق ابن رَاهَوَيْه وأبو ثَوْر، وقال مالك (¬1) وداود: إذا حصل الإنقاء بدون الثلاث أجزأ، ولو كانت الحجر لها ثلاثة أركان ومسح بكل ركن أجزأ، ويجب التثليث في القُبُل والدبر، فتكون ستة أحجار أو حجر له ستة أَحْرُف، وإذا لم يحصل الإنقاء بالثلاثة وجب (أ) الزيادة على ذلك حتى ينقى، ويستحب الإيتار، ويقوم غير الحجر مما يشابهه في الإِنقاء مقامه، خلافًا لبعض الظاهرية (¬2) (ب) تمسكًا بظاهر الدليل، وأجيب بأن ذكرها إنما هو لكونها (جـ) الغالب المتيسر ويدل على ذلك (د) نهيه عن العَظْم والبَعْر والرجيع، ولو كان الحجر متعينا لنهى عما سواه، فيجوز الاستنجاء بكل جماد طاهر مُنْقٍ لا حرمة له. وقوله: "أو أن يستنجي برجيع أو عظم"، نبه - صلى الله عليه وسلم - بذكر الرجيع على أنه لا يجزئ بالنجس، فإن الرجيع هو الروث، وأما العَظْم فلكونه طعاما للجن، وقد نبه به (هـ) على جنس المطعومات، وكذا الحمم لحديث أبي داود: "انْه أمتك أن يستنجوا بعظم أو روثة أو حممة، فإن الله جعل لنا فيها رزقًا" (¬3)، فنهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وورد (و) في كيفيته ما رواه الدارقطني وحَسَّنه من حديث أبي بن (ز) عباس بن ¬

_ (أ) في هـ: وجبت. (ب) في ب: الظاهر. (جـ) في جـ: لكونه. (د) ساقطة من جـ، وبهامش هـ. (هـ) ساقطة من هـ. (و) في ب: وأورد. (ز) ساقطة من هـ.

سهل بن سعد عن أبيه عن جده (أقال: سُئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الاستطابة فقال أ): "أولًا يجد أحدكم ثلاثة أحجار، حجرين (ب) للصفحتين، وحجرا " للمَسْرُبة " (¬1) (جـ)، ضعفه غير الدارقطني. المسرُبَة (¬2): بسين مهملة وراء مضمومة أو مفتوحة: مجرى الحَدَث من الدبر. وفي قوله: "ولكن شَرِّقوا أو غربوا"، المراد في حق مَنْ لم تكن قبلته إلى جهة المشرق أو المغرب كأهل المدينة، وأما من كان قبلته إلى هذا السَّمْت فإنه ينحرف إلى الجنوب أو الشمال. فائدة: نقل ابنُ التين عن مالك أنه أنكر أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - استنجى بالماء (¬3)، وادعى الأصيلي متعقبًا على البخاري أن قوله في حديث أنس: "يستنجي بالماء" أنه من قول أبي الوليد أحد الرواة عن شعبة، وقد رواه سليمان بن حرب عن شعبة فلم يذكرها، قال: فيحتمل أن يكون إعداد الماء لوضوئه، وقيل: إن قوله " يستنجي بالماء" مدرج من (د) قول عطاء الراوي عن أنس فيكون مرسلًا فلا حجة فيه. ¬

_ (أ، أ) بهامش هـ. (ب) في هـ وب وب: حجرا. (جـ) زاد في ب: و. (د) في جـ: في.

وأجيب عن ذلك بأن البخاري أخرج من طريق روح بن القاسم عن عطاء ابن أبي ميمونة: "إذا تبرز أتيته بماء فيغسل به" (¬1) ومسلما من طريق خالد الحذاء عن عطاء عن أنس: ". . . فخرج علينا، وقد استنجى بالماء" (¬2). وأخرج البخاري من طريق محمد بن جعفر عن شعبة فقال: ". . . يستنجي بالماء" (¬3) والإِسماعيلي من طريق عمرو بن مرزوق عن شعبة: "فانطلقتُ أنا وغلام من الأنصار معنا إداوة فيها ماء يستنجى منها (1) النبي - صلى الله عليه وسلم -" (¬4) فإن هذه الروايات تدل على أنه من قول أنس، وأنها تُثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وقع منه الاستنجاء بالماء. 83 - وعن عائشة - رضي الله عنها - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من أتى الغائط فلْيَسْتَتِر" رواه أبو داود (¬5). وعنها: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا خرج من الغائط قال: غُفْرانَك" أخرجه الخمسة وصححه الحاكم وأبو حاتم (¬6). ¬

_ (أ) في جـ: به.

[الحديث الأول نسبه في السنن إلى أبي هريرة، وكذا في التلخيص، وقال: مداره على أبي سعيد الحبراني الحمصي (¬1)، وفيه اختلاف، وقيل: إنه صحابي، ولا يصح، والراوي عنه حصين الحبراني (¬2)، وهو مجهول، وقال أبو زُرْعَة (¬3): شيخ، وذكره ابن حبان في الثقات (¬4)، وذكر الدارقطني الاختلاف فيه في العلل] (أ). قوله: "فليستتر"، أمر بالاستتار (ب) ما أمكن حتى لا يكون قعوده حيث تقع عليه أبصار الناظرين أو تَهُبُّ عليه الريح فيصيبه البلل فتتلوث ثيابه وبدنه، وتمام الحديث: "فإن لم يجد إلا أن يجمع كثيبا من رمل فليستدبره، فإن الشيطان يلعب بمقاعد بني آدم، ومن فَعَلَ فقد أحسن، ومن لا فلا حرج" ومعنى قوله: "فإن الشيطان" إلخ: إن الشيطان يحضر الرجل إذا قضى حاجته؛ لأن الرجل في هذا الوقت لا يذكر الله تعالى، فإذا خلا الرجل من ذكر الله تعالى يحضره الشيطان، ويأمره بالسوء، فكذلك عند قضاء الحاجة يأمره بكشف العورة، وبالبول في الموضع الصلب ومستقبل الرج ليصيبه رشاش البول، وكل ذلك لعب الشيطان ببني آدم، فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أمته بستر العورة مخالفة للشيطان لأنه إذا لم يستر (جـ) يمكن الشيطان من وسوسته إلى الغير للنظر إلى مقعده (د). ¬

_ (أ) بهامش الأصل وفيه طمس واستدركته من نسخة هـ. (ب) زاد في هـ وب: و. (جـ) في ب: يستتر. (د) في هـ: مقعدته.

وقوله: "غُفْرانك": الغُفران مصدر كالمغفرة منصوب بتقدير أسأل غفرانك (أأو أطلب (ب) مفعولًا به، ويحتمل أنه مفعول مطلق، أي اغفر غُفْرَانَكَ أ). قيل: إنه أستغفر من تَرْك ذِكْر الله تعالى وقت الخلاء، فإنه كان يذكر الله على كل أحواله إلا حال قضاء الحاجة، فجعل هجران الذكر في تلك الحال تقصيرا، وعده على نفسه ذنبًا فتدارك بالاستغفار. وقيل: معناه التوبة من تقصيره في شكر نعمته التي أنعم الله بها عليه، فأطعمه، ثم هضمه، ثم سهل خروج الأذى منه، فرأى شكره قاصرًا عن بلوغ حق (جـ) هذه النعم ففزع إلى الاستغفار منه، وهذا أنسب ليوافق حديث أنس قال: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا خرج من الخلاء قال: الحمد الله الذي أذهب عني الأذى وعافاني" (¬1) (د) رواه ابن ماجه فإن فيه الحمد على هذه النعمة العظمى، وما ورد في وصف نوح عليه الصلاة والسلام بقوله تعالى: {إنه كان عبدًا شكورًا} (¬2) وكان من جملة شكره أن يقول بعد الغائط: "الحمد لله الذي أذهب عني الأذى ولو شاء لحبسه فِيَّ". 84 - وعن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: "أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - الغائط فأمرني أن آتيه بثلاثة أحجار، فوجدت حجَريْن، ولم أجد ثالثًا، فأتيته برَوْثَةٍ ¬

_ (أ، أ) بهامش ب. (ب) زاد في ب: غفرانك. (جـ) ساقطة من جـ. (د) زاد في جـ: و.

فأخذهما، وألقى الرَّوثة، وقال: إنها رِكْسٌ" أخرجه البخاري (¬1). زاد أحمد والدارقطني: "ائتني بغيرها" (¬2). الحديث أخرجه البخاري وبين أن إسناده صحيح متصل، وفيه رد على من زعم أن فيه تدليسا خفيًّا، فليرجع إلى الصحيح وشرحه "الفتح" (¬3). والحديث استدل به الطحاوي (¬4) على عدم اشتراط الثلاثة، قال: لأنه لو كان مشترطًا (أ) لطلب ثالثا، وغفل -رحمه الله- عن هذه الزيادة من طريق أحمد في "مسنده" (¬5) أخرجها من طريق معمر عن أبي إسحاق عن علقمة عن ¬

_ (أ) في جـ: شرطا.

ابن مسعود وتابع معمرا أيضًا عليها أبو شيبة الواسطي (¬1)، وهو ضعيف أخرجه الدارقطني (¬2) وتابعهما أيضًا عمار بن زريق أحد الثقات عن أبي إسحاق (¬3)، وقد قيل إن أبا إسحاق لم يسمع من علقمة، لكن أثبت سماعه لهذا الحديث منه الكرابيسي، وعلى تقدير أن يكون أرسله، فالمرسل حجة عند قوم، وعند الشافعي (أ) إذا اعتضد، وفي استدلاله أيضًا نظر لاحتمال أن يكون اكتفى بالأمر الأول في طلب الثلاثة، أو اكتفى بطرف أحدهما عن الثالث (¬4) وقال أبو الحسين ابن القصار المالكي: روي أنه أتاه بثالث لكن (ب) لا يصح ولو صح فقد اكتفى بالثلاثة في الموضعَيْن، ففي كل موضع أقل من ثلاثة، وفيه نظر لجواز أنه لم يكن الخارج إلا من سبيل واحد، أو اكتفى في القبل بمسحه في الأرض، أو مسح من (جـ) كل منهما بطرفين [وزاد ابن خزيمة (¬5) في رواية له لهذا الحديث: "إنها كانت روثة حمار" ونقل التيمي: أن الروث مختص بما يكون بن الخيل والبغال والحمير] (¬6) (د). ¬

_ (أ) في هـ: الشافعية. (ب) ساقطة من هـ. (جـ) ساقطة من جـ. (د) بهامش الأصل.

وقوله: إنها رِكْس، بكسر الراء وإسكان الكاف، قيل: لغة في (أ) رجس. وفي بعض نسخ البخاري: "رجس"، وكذا في رواية ابن ماجه، وابن خزيمة، وقيل: "الركس": الرجيع لأنه رد من حالة الطهارة إلى حالة النجاسة (¬1)، أو من حالة الطعام إلى حالة الروث (¬2)، وفي رواية الترمذي: "ركس: يعني نجسا"، وهو يؤيد الأول (ب) وقال النسائي، وقد أغرب: "الركس: طعام الجن" وهو بعيد من الإِشكال (¬3). 85 - وعن أبي هريرة - رضي الله عنه -: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى أن يستنجى بعظم أو رَوْثٍ، وقال: إنهما لا يُطَهِّرانِ" رواه الدارقطني وصححه (¬4). ورواه أيضًا ابن خزيمة بهذا اللفظ، ورواه البخاري في باب الطهارة بلفظ: "ولا تأتني بعظم ولا روث" (¬5)، وزاد في باب البعث (جـ) في هذا الحديث أن أبا هريرة قال له لما أن فرغ: ما بال العظم والروث؟ قال: "هي من طعام الجن" (¬6) ¬

_ (أ) في هـ: من. (ب) الواو ساقطة من جـ. (جـ) في جـ: المبعث، وفي الفتح كذلك 10/ 256، وفي التلخيص قال في باب ذكر الجن 1/ 109: وهو الصحيح.

وأخرجه البيهقي (¬1) مطولا، وهو عند مسلم من حديث ابن مسعود (¬2)، وكذلك عند أبي داود، والدارقطني (أ) والنسائي والحاكم من طريق عنه، وهو مشهور بجميع طُرُقِهِ. وفي الباب عن الزبير بن العوام رواه الطبراني بسند ضعيف (¬3). وعن سليمان (ب)، رواه مسلم (¬4)، وعن جابر كذلك بلفظ أن يتمسح بعظم أو بَعْر (¬5). وعن رويفع رواه أبو داود والنسائي (¬6). وعن سهل بن حنيف رواه أحمد وإسناده واهٍ (¬7) وعن رجل من الصحابة رواه الدارقطني، وزاد فيه: "أو جلد". وقال: لا يصح ذكر الجلد فيه (¬8). والحديث فيه تصريح بأنه لا يجزئ الاستجمار بالعظم والروث لقوله: "إنهما (جـ) لا يُطَهَّران"، قيل: والعلة في ذلك أَنَّ العَظْمَ لَزِجٌ لا يكاد يتماسك فيقلع النجاسة، وينشف البلة، وقيل: لأنه (د) لا يكاد يعرى من بقية دسم قد ¬

_ (أ) في جـ: وللدارقطني. (ب) في هـ وجـ: سلمان؟ (جـ) في جـ وهـ وب: وإنهما. (د) في ب: أنه.

علق به، ونوع العظم قد يتأتى فيه الأكل لبني آدم لأن الرخو الرقيق منه قد يتمشمش في حال الرفاهة، والغليظ الصلب منه يدق ويستف عند المجاعة والشدة وقد حرم الاستنجاء بالمطعوم، وثالثهما: كونه طعام الجن، وأما الروث فلأنه نجس لا يزيل النجاسة، بل يزيدها، وإما لأنه طعام دواب الجن. قال الحافظ أبو نعيم في "دلائل النبوة" (¬1): إن الجن سألوا هدية منه - صلى الله عليه وسلم - فأعطاهم العظم والروث، فالعظم لهم والروث لدوابهم فإذًا لا يستنجى بهما، وإما لأنه طعام للجن أنفسهم: روى أبو عبد الله الحاكم في "الدلائل": أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لابن مسعود ليلة الجن: "أولئك جن نصِيبَيْن جاؤوني (أفسألوني الزاد" (أفمتعتهم بالعظم والروث فقال: وما يغني عنهم ذلك يا رسول الله؟ قال: "إنهم لا يجدون عظما إلا وجدوا عليه لحمه الذي كان عليه يوم أخذ، ولا وجدوا روثا إلا وجدوا فيه حبه (ب) الذي كان يوم أكل، فلا يستنجي أحدٌ لا بعظم ولا روث" (¬2). وفي الحديث رد على من زعم أن الاستنجاء بهما يجزئ مع الكراهة، وعلى كون العلة هي أنهما (جـ) من طعام الجن يلتحق بهما (د) جميع المطعومات التي للآدميين قياسا من باب الأولى، وكذا مطعوم سائر الحيوانات وكذا المُحْتَرَمَات ككتب "الهداية" وأوراقها، ومن قال: علة النهي عن الروث النجاسة ألحق به كل نجس ومتنجس وعن العظم لكونه لا ينقي ألحق به ما في معناه كالزجاج الأملس. ¬

_ (أ، أ) بهامش ب. (ب) في جـ: عليه. (جـ) في ب: أنها. (د) في ب: يلحق بها.

86 - وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "اسْتَنْزِهُوا من البول، فإنَّ عامة عذاب القبرِ منه" رواه الدارقطني (¬1). وللحاكم: "أكثر عذاب القبر من البول" وهو صحيح الإِسناد (¬2). والحديث صححه أيضًا (أ) ابن خزيمة. والاسْتِنزاه: الابتعاد مأخوذ من التنزه وهو البُعْدُ. وقوله: "فإنَّ عَامَّة عذاب" (ب)، عامة الشيء: معظمه، أي أكثر أسباب عذاب القبر هو ذلك، وهو يدل على أن للبول بالنسبة إلى عذاب القبر خصوصية، واستدل ابن بطال بهذا الحديث وبحديث الصحيحَيْن: "مر بقبرين، فقال: إنهما يعذبان، وما يعذبان في كبير ... " الحديث (¬3). على أن التعذيب لا يختص بالكبائر، بل قد يقع على الصغائر، قال: لأن ¬

_ (أ) في هـ: أيضًا صححه. (ب) زاد في هـ: القبر.

الاحتراز من البول لم يرد فيه وعيد يعنى قبل هذه القصة، وتعقب بأنه (أ) ورد في تمام قصة القبرين في الصحيحين أيضًا، بلى (ب) كان أحدهما لا يستنزه من بوله أي بلى إنه كبير، وقد صرح بهذا التفسير البخاري (¬1) في الأدب من الحديث، ولم يخرجها مسلم فهو (جـ) كبير، فالتعذيب مختص بالكبائر، وقد اختلف في قوله: "وما يعذبان في كبير" ثم قيل: بلى إنه لكبير، فقيل: إنه قال ذلك معتقدا أنه [ليس بكبير] (د) ثم أوحي إليه بأنه كبير، فاستدرك ذلك. ورُدَّ بأنه يستلزم النسخ في الخبر، وهو لا يجوز، وأجيب بأن النسخ إنما هو الإِخبار بذلك لا لمضمونه (هـ)، وفيه نظر، إذ ذلك للمضمون. وقيل: إنه ليس بكبير في الصورة وهو كبير في الذنب، وقيل: ليس بكبير في اعتقادهما أو في اعتقاد الخاطبين، وهو عند الله كبير، كقوله تعالى: {وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ} (¬2). وقيل: ليس بكبير في مشقة الاحتراز (¬3) (و، وهذا جَزَمَ به البغويّ (¬4) ورجَّحه ابن دقيق العيد وجماعة. وقيل: ليس بكبير لمجرده (ز)، وإنما و) صار كبيرا بالمواظبة عليه، ويدل على ذلك: "كان" والمضارع، وقيل غير ذلك. ¬

_ (أ) في هـ: أنه. (ب) في ب وجـ: بل. (جـ) في جـ: وهو. (د) بهامش الأصل وساقطة من هـ، وجاء فها "إثم" بدل "ثم". (هـ) في ب: بمضمونه. (و، و) بهامش هـ. (ز) في ب وجـ: بمجرده.

والحديث يدل على وجوب التحرز (أ) من مُمَاسَّة البَوْل، وإلَّا لما عُذِّبَ على ذلك، ويدل على أَنَّ مَنْ ترك البول في مخرجه ولم يستنج إنه كذلك، وقد روى البخاري: "لا يستبرئ" أي لا يسْتفرِغ البول جهده بعد فراغه منه فيخرج منه بعد وضوئه، واختلفوا في إزالة النجاسة فقال مالك (¬1): إزالتها ليس بفرض، وقال أبو حنيفة (¬2): إزالتها فرض، ما زاد على مقدار الدرهم. واحتج من أوجب الإِزالة مطلقا بأنه - صلى الله عليه وسلم - أخبر بأن عذاب القبر بسبب البول وذلك وعيد، واعتذر لمالك عنه بأنه يحتمل أنه عذب (ب) فيه لأنه كان يدع البول يسيل عليه، فيصلي بغير طهور، لأن الوضوء لا يصح مع وجوده، ويحتمل أنه يفعله على عَمْد لغير عُذْر ومَنْ تَرَكَ سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - لغير عذر فهو آثم. وفي الحديث دلالة على إثبات عذاب القبر (¬3)، والتحذير من ملابسة البول، ويلتحق (جـ) به غيره من النجاسات في البدن والثوب ولو لغير الصلاة. فائدة: القبران كانا بالمدينة، ووقع شك من جرير فقال: "أو بمكة"، والأول هو الأصح، ولم يعرف اسم المقبورَيْن ولا أحدهما، والقاهر أن ترك التسمية على عَمْد (د) مِن الزواة لقصد الستر عليهما وهو مستحسن، وينبغي أن لا يبالَغ في الفَحْص عن تسمية من وقع في حقه ما يُذَمُّ به، وقد جزم أبو موسى المديني أنهما كافران، واحتج بما رواه من حديث جابر بسندٍ فيه ابن لَهِيعَة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ¬

_ (أ) في جـ: التجرد. (ب) في ب: عذاء. (جـ) في هـ: ويلحق. (د) في جـ: عمل.

مر على قبرَيْن من بني النجار، هلكا في الجاهلية، فسمعهما يعذبان في البول والنميمة. قال أبو موسى: هذا وإن كان ليس بقويّ لكن معناه صحيح، لأنهما لو كانا مسلمَيْن لما كان لشفاعته إلى أَنْ تيبس الجريدتان معنى، ولأطلق الشفاعة، ولكنه لما رآهما يعذبان أدركته الرحمة واللطف، وما تعود من المواهب العامة أَنْ يشفع لهما إلى المدة المذكورة، وجزم ابن الغطار (¬1) في شرح العمدة بأنهما كانا مسلمَيْن. (أقال المصنف رحمه الله (¬2): أما هذا حديث الباب فالظاهر أنهما كانا مسلمين أ) ففي رواية ابن ماجه: "مر بقبرين جديدَين" (¬3)، وفي حديث أبي أمامة عند أحمد: أنه - صلى الله عليه وسلم - مر بالبقيع فقال: "مَنْ دفنتم اليوم ها هنا"؟ (¬4) فهذا يدل على أنهما كانا مسلمَيْن، وفي رواية أبي بكرة عند أحمد: "بلى، وما يعذبان إلا في الغيبة والبول" (¬5)، وما حكاه القرطبي في "التذكرة" (¬6) وضعّفه عن بعضهم أن أحدهما سعد بن معاذ، وهو قولٌ باطل، لا ينبغي ذِكره إلا مقرونا ببيانه، ويدل على بُطلان ذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حضر دفن سعد بن معاذ (¬7)، وإنما ذكرتُ هذه الفائدة ذَبًّا عن هذا السيد الذي سماه النبي - صلى الله عليه وسلم -: سيدا، فقال: "قوموا إلى سيدكم" (¬8)، وقال ["إنَّ عَرْشَ الرحمن اهْتزَّ لموته" إلى غير ذلك] (¬9) ولعل ¬

_ (أ- أ) بهامش هـ.

الواهم هذا وهم لما وَرَدَ في ضَمَّة القبر، وأنه لو سَلِمَ منها أَحَدٌ لسلم منها سعد بن معاذ وذكر شدتها، وأنها سُئلت امرأته فقالت: "كان لا يَسْتَنْزِه من البَوْل" فتوهم من ذلك، والله سبحانه أعلم. 87 - وعن سُرَاقة بن مالك - رضي الله عنه - قال: "عَلَّمَنَا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الخلاء أنْ نقعد على اليسرى وننصب اليمنى" رواه البيهقي بسندٍ ضعيف (¬1). هو أبو سفيان سُرَاقة بن مالك بن جُعْشُم (¬2) -بضم الجيم وسكون العين المهملة وضم الشين المعجمة- المدلجِيّ، الكناني يُعَدُّ في أهل المدينة، وهو الذي ألبسه عمر سِوَارَي كسرى بوعد النبي - صلى الله عليه وسلم - له، روى عنه ابنه (أ) محمد وجابر بن عبد الله وابن عباس وابن المُسَيَّب وطاوس وعطاء، مات سنة أربع وعشرين، وقيل: إنه مات بعد عثمان. والحديث أخرجه الطبراني والبيهقي من طريق رجل من بني مدلج عن أبيه قال: "مر بنا سراقة بن مالك .. " فذكره. قال الحَازِمِيّ: لا يُعْلَمُ في الباب غيره، وفي إسناده مَنْ لا يُعْرَفُ، وادَّعَى ابنُ الرفعة في "المطلب" أن في الباب عن أنس، والله أعلم. قيل: والحكمة في ذلك أنه أعون على خروج الخارج إذ المَعِدَة في الجانب الأيسر، وقيل: ليكون معتَمِدًا على اليُسْرَى، ويقل مع ذلك استعمال اليمين لتشريفها. ¬

_ (أ) في ب: عبد الله بن.

88 - وعن عيسى بن يزداد - (أعن أبيه أ) قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا بال أحدكم فْلَيْنثُرْ ذَكَرَهُ ثلاثَ مرات" رواه ابن ماجه بسندٍ ضعيف (¬1). هو عيسى بن يزداد (ب)، قيل: إنه بباء موحدة وراء مهملة ودالين مهملتين (جـ بينهما ألف، وقد وجد في ضبطه بالقلم بياء باثنتين من أسفل وزاي معجمة ودالين مهملتين جـ) ورواه أحمد في " مُسْنَدِهِ"، والبيهقي، وابن قانع، وأبو نعيم في "المعرفة"، وأبو داود في "المراسيل"، والعقيلي في "الضعفاء" (¬2) كلهم من رواية عيسى بن يزداد (د)، ويقال ابن أزداد بن فساءة (هـ) اليماني عن أبيه. وفي رواية: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا بال نثر ذكره ثلاثا". ويزداد: قال أبو حاتم: حديثه مرسل، وقال في "العلل" (¬3): لا صحبة ¬

_ (أ- أ) ساقطة من أ، وهـ. (ب) زاد في ب: و. (جـ -جـ) بهامش هـ. (د) في جـ: داود. (هـ) في هـ: فسان.

له وبعض الناس يُدْخِلُهُ في المسند، وقال ابن حبان في الثقات (¬1): يزداد يُقَال: إن له صحبة، ذكره البخاري (¬2) وقال: لا يصح، وابن عدي في التابعين (¬3)، وقال ابن معين: لا يُعْرَفُ عيسى ولا أبوه، وقال العقيلي (¬4): لا نتابعه عليه، ولا يُعْرَفُ إلا به، وقال النووي في "شرح المهذب" (¬5): اتفقوا على أنه ضعيف. والحكمة في ذلك المذكور في الحديث ليحصل الظن بأنه لم يبق في الخرج ما يخاف من خروجه، ومعني هذا في الصحيحَيْن في حديث القبرَيْن من رواية ابن عساكر "كان لا يستبرئ من بوله" (¬6) بموحدة ساكنة، أي لا يستفرغ البول جهده بعد فراغه منه، فيخرج منه بعد وضوئه وقد أوجب بعضهم الاستبراء بحديث القبرَيْن وهذا (أ) المذكور أيضًا في الباب شاهد. قال في: "النهاية" (¬7) الاستبراء الذي يذكر مع الاستنجاء في الطهور هو أن يستفرغ بقية البول، وينقي موضعه ومجراه حتى يبرأ منه أي يُبِينه عنهما، كما يبرئ من الدين والمرض. وعده الإِمام شرف الدين في الأثمار من المندوبات. 89 - وعن ابن عباس - رضي الله عنهما -: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سأل أهل قُبَاء، فقالوا: إنّا نُتبع الحِجَارة الماءَ" رواه البزار (¬8) بسندٍ ضعيف وأصله في ¬

_ (أ) زاد في هـ: هو.

أبي داود والترمذي، وصححه ابن خزيمة من حديث أبي هريرة بدون ذِكْر الحجارة (¬1). قال البزار (¬2): لا نعلم أحدا رواه عن الزهري إلا محمد بن عبد العزيز، ولا عنه إلا ابنه. انتهى. ومحمد بن عبد العزيز (¬3) ضعفه أبو حاتم فقال: ليس له ولأخويه عِمْرَان وعبد الله حديث مستقيم، وعبد الله بن شبيب (¬4) راويه عنه ضعيف أيضًا. وقد روى الحاكم أصل هذا الحديث عن ابن عباس (¬5)، وليس فيه إلا ذِكْر الاستنجاء بالماء حسب، قال النووي: المعروف أنهم يستنجون بالماء فقط (¬6)، وبهذا قال ابن الرفعة (¬7) والمحب الطبري، وقد رُوي نحو هذا من طرق متعددة، وفي الكل مقال مستوفى في "التلخيص" (¬8). وفي الحديث دَلِالة على جواز الاكتفاء بالحجارة، فإنَّ ذلك الفعل (¬9) كان ¬

_ (¬1) عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - نزلت هذه الآية في أهل قباء {فيه رجال يحبون أن يتطهروا} قال كانوا يستنجون بالماء فنزلت فيهم هذه الآية. قلت: فليس فيه ذكر اتباع الأحجار الماء أبو داود 1/ 38 ح 44، والترمذي في تفسير القرآن 5/ 280 ح 3100، ابن ماجه 1/ 128 ح 357، وفي سنده يونس بن الحارث الثقفي الطائفي نزل الكوفة، ضعيف. الميزان 4/ 479، التقريب 390. وإبراهيم بن أبي ميمونة حجازي مجهول، التقريب 24 - الميزان 69. قلت: فالحديث ضعيف بهذا السند وقد اختلف فيه كلام ابن حجر فقال في التلخيص: سنده ضعيف، وقال في الفتح 7/ 195: سنده صحيح ولعل ذلك باعتبار الطرق فإن له طرقا ترفع ضعفه والله أعلم. (¬2) كشف الأستار 1/ 131. (¬3) محمد بن عبد العزيز بن عمر بن عبد الرحمن بن عوف الزهري القاضي قال النسائي والدارقطني: ضعيف، وقال البخاري: منكر الحديث، وبمشورته جلد الإِمام مالك. الميزان 3/ 628، الضعفاء 4/ 104، المجروحين 2/ 263 - 264. (¬4) عبد الله بن شبيب الربعي الإخباري واه، قال الحاكم أبو أحمد: ذاهب الحديث، المغني في الضعفاء 1/ 342. (¬5) الحاكم 1/ 188. (¬6) المجموع 2/ 103. (¬7) و (¬8) التلخيص 1/ 122. (¬9) الذي هو الاستنجاء بالماء ولكن الرسول - صلى الله عليه وسلم - ثبت أنه كان يستنجى بالماء فهل فعل الرسول ذلك بعد أن أثنى الله على أهل قباء أو أن الفعل خاص بأهل قباء أنهم يجمعون بين الماء والحجارة. والله أعلم.=

خاصا بأهل قُبَاء ولذلك. أُثنِي عليهم، فلو كان واجبًا لشاركهم الغير فيه. والله سبحانه (أ) أعلم. [وُقَباء -بضم القاف ممدود (ب) -: مُذَكَّر مصروف هذا هو الصحيح، وفيه لغة مؤنث غير مصروف وأخرى مقصور. اشتمل هذا (جـ) الباب على خمسة عشر حديثًا] (د). ¬

_ (أ) ساقطة من هـ. (ب) في جـ: ممدودة. (جـ) ساقطة من ب. (د) بهامش الأصل.

باب الغسل وحكم الجنب

باب الغُسْل وحكم الجُنُب 90 - عن أبي سعيد الُخْدرِيّ - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الماء مِن الماء" رواه مسلم وأصله في البخاري (¬1). الغُسل بضم الغين اسم للاغتسال (أ)، وقيل: إذا أريد به الماء فهو مضموم، وأما المصدر فيجوز فيه الضم (ب) والفتح، حكاه ابن سِيدَه وغيره، وقيل: المصدر بالفتح والاغتسال بالضم، وقيل: الغُسِل بالفتح فعل المغتسل، وبالضم الماء الذي يغتسل به، وبالكسر ما يجعل مع الماء كالأشنان (¬2). وحقيقة الغسل: جريان الماء على الأعضاء، واختلف في وجوب الدلك فأوجبه الهادي والمؤيد وأبو طالب وغيرهم من الأئمة، ونُقل عن مالك (¬3) والمُزَنيّ، واحتج ابن بطال بالإِجماع على إمرار اليد على أعضاء الوضوء عند غسلها، فيجب ذلك في الغسل قياسا لعدم الفرق بينهما، وأجيب بأَنَّ مَنْ لم يوجِب الدلك أجازوا غمس اليد في الماء للمتوضئ (جـ) من غير إمرار، فَبَطَلَ ¬

_ (أ) في جـ: الاغتسال. (ب) في جـ: الفتح والضم وقد أشار الناسخ إلى التقديم والتأخير. (جـ) في جـ: الوضوء.

الإِجماع، وانتفت الملازمة، وذهب أبو حنيفة (¬1) والشافعي -وهو قول الأكثر- إلى عدم وجوبه، وقال الناصر ومحمد بن الحسن ورواه في "الزوائد" عن زيد بن علي: أن جري الماء على الأعضاء في الغسل غير واجب، وإنما الواجب الإِمساس بالماء، وفَرَّقُوا بين الغسل والمسح، أَنَّ المسح لا يجب فيه الاستيعاب، والغسل يجب فيه استيعاب البدن. وحديث "الماءُ مِن الماءِ" رواه مسلم في قصة عتبان بن مالك (¬2)، والبخاري ذكر القصة وفيها "إذا أعجلت أو قُحِطْتَ فعليك الوضوء" (¬3) ولم يذكر الماء من الماء، ورواه أبو داود وابن خُزَيمة (¬4) وابن حبان بلفظ الباب، ورواه أحمد والنسائي وابن ماجه والطبراني من حديث أبي أيوب (¬5)، ورواه أحمد (¬6) من حديث رافع بن خُدَيْج، ومن حديث عِتبان بن مالك (¬7)، والطحاوي (¬8) من حديث أبي هريرة، وابن شاهين في "ناسخه" من حديث أنس، وقد جمع طرقه الحازمي (¬9)، وقَبْلَهُ ابنُ شاهين. والحديث يدل بمفهوم الحَصْر أنه لا يجب الغُسْل إلا مِن الإِنْزَالِ فَقَط، والإِجماع منعقد في هذه الأعصار على تَرْكِ العمل بذلك المفهوم، وأنه يجب الغسل من التقاء الختانَيْن وإن لم يُنْزِلْ، بعد وقوع الخلاف من جماعة من ¬

_ (¬1) حاشية رد المحتار 1/ 152، المجموع 2/ 188 - 189. (¬2) صحيح مسلم 1/ 269 ح 80 - 343. (¬3) البخاري 1/ 284 ح 180. (¬4) 1/ 117 ح 233. (¬5) حديث أبي أيوب رواه أحمد 5/ 416، ابن ماجه 1/ 99 ح 607، النسائي 1/ 96، الطبراني 4/ 316 ح 4374. (¬6) و (¬7) أحمد 4/ 43، 4/ 342. (¬8) شرح معاني الآثار 1/ 54. (¬9) الناسخ والمنسوخ للحازمي 27 - 34.

الصحابة، فَرُوِيَ عن عثمان أنه (أ) يتوضأ كما يتوضأ للصلاة، ويغسل ذكره، وقال: سمعته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬1). وقال زيد بن خالد الجهني: فسألتُ (ب) عن ذلك علي بن أبي طالب والزبير بن العوام وطلحة بن عبيد الله وأُبى بن كعب -رضي الله عنهم- فأمروه بذلك. ورُوِيَ عن أبي أيوب (¬2) أنه سمع من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذلك، ورُوِيَ مثلُ ذلك من حديث أُبَي بن كعب. أخرج ذلك كله في "صحيح البخاري"، وذهب الجمهور من العلماء إلى أن ما دل عليه حديث الباب منسوخ بحديث أبي هريرة الآتي، وحديث عائشة: "فَعَلْتُهُ أنا ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاغتسلنا" (¬3)، ويدل على النَّسْخَ ما رواه أحمد وغيره من طريق الزهري عن سهل بن سعد: حدثني أُبَيّ بن كعب: أن الفتيا التي كانوا يقولون: الماء من الماء رخصة كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رخص بها في أول الإِسلام، ثم أمر بالاغتسال بعد (¬4). صححه ابن خُزَيمة وابن حِبَّان، وقال الإِسماعيلي: هو صحيح على شرط البخاري، وله علة من حيث الاختلاف في كون الزُّهْرِيّ سمعه من سهل بن سعد (¬5)، وقد أخرجه أبو داود وابن خزيمة أيضًا من طريق أبي حازم عن ¬

_ (أ) زاد في جـ: كان. (ب) في جـ: فسأل.

سهل (¬1)، ولهذا الإِسناد أيضًا عِلَّة أخرى ذكرها ابنُ أبي حاتم (¬2) (أ)، وفي الجملة هو صالح لأن يُحْتَجَّ به، وهو صريح في النسخ على أن حديث الغُسل وإن لم ينزل أرجح لأنه منطوق، وروى ابن أبي شيبة وغيره عن ابن عباس (¬3) أنه حَمَلَ حديث "الماء من الماء" على ما يقع في حال المنام من رؤية الجِمَاع، [وقال البخاري: الغُسل أحوط (¬4)، واستشكله ابن العربي (¬5) وقال: إيجاب الغسل أطبقَ عليه الصحابة ومَن بعدهم، وما خالف فيه (ب) إلا داود ولا عِبرة بخلافه، وقال: يحتمل أنه أراد "أحوط" أي: في الدين، وتعقب ابن العربي بدعوى إجماع الصحابة بأنه قال به جماعةٌ من الصحابة، ومن التابعين الأعمش، وتَبِعَه عِياض، وقد ثبت الخلاف بعد الصحابة عن أبي سَلَمَة بن عبد الرحمن، وفي سنن أبي داود (¬6) عن عطاء أنه قال: لا تطيبُ نفسي إذا لم أُنْزِلْ حتى اغتسل من أجل اختلاف الناس (¬7). وقال الشافعي: فخالفنا (جـ) بعضُ أهل ناحيتنا -يعني: مِن الحجاز- فقالوا: لا يجب الغُسل حتى يُنْزِلَ (¬8) فتقرر أَنَّ الخلاف كان بين ¬

_ (أ) زاد في ب: وهو. (ب) ساقطة من ب. (جـ) في ب: خالفنا.

الصحابة والتابعين ومن بعدهم (¬1) والله أعلم] (أ). وفي قوله: "الماء من الماء" فيه من البديع الجِنَاس التام، والمراد بالماء الأول الغُسل، والثاني المَنِيّ. 91 - وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا جلس بين شُعَبِهَا الأربع، ثم جَهَدَها، فقد وَجَبَ الغُسل" متفقٌ عليه (¬2). زاد مسلم: "وإن لم يُنْزِلْ". الضمير في "جلس" عائد إلى الرجل، وفي "شُعَبِهَا" (ب) "وجَهَدَها" البارز إلى المرأة، والمستكن إلى الرجل، وجاز الضمير وإن لم يسبق المرجع للعلم به، وقد وقع مصرحا به في رواية لابن المنذر من وجه آخر عن أبي هريرة قال: "إذا غشى الرجلُ امرأته فقعد بين شُعَبِهَا الأربع ... " الحديث. والشُّعَب: جمع شُعبة، وهي القطعة من الشيء، قيل: المراد بها هنا: يداها ورجلاها، وقيل: رجلاها وفَخِذَاها، وقيل: ساقاها وفَخِذَاها، وقيل: فَخِذاها وإسكتاها وقيل: فَخِذَاها وشفراها، وقيل: نواحي فرجها الأربع. قال الأزهري (¬3): الإسكتان: ناحيتا الفرج والشفران طرفا الناحيتين، ¬

_ (أ) بهامش الأصل. (ب) في ب: أو.

ورجح القاضي عياض (¬1) الأخير، واختار ابنُ دقيق العيد (¬2)، قال (أ): لأنه الأقرب إلى الحقيقة، أو هو حقيقة في الجلوس وهو كناية عن الجماع فاكتفى به عن التصريح. وجَهَد: بفتح الجيم والهاء (¬3)، يُقَال: جَهَدَ وأجهد أي بلغ المشقة، قيل: معناه كَدَّهَا بحركته وبلغ جهده في العمل بها. ولمسلم رواية "ثم اجتهد" (¬4). ورواه أبو داود عن قتادة بلفظ: "وألزق الختان بالختان" (¬5) وهذا يدل على أن الجهد هنا كناية عن معالجة الجِمَاع. قال النووي (¬6): معنى الحديث أَنَّ إيجاب الغُسل لا يتوقف على الإِنزال، وتُعُقِّبَ بأنه يُحتمل أَنَّ يُرَادَ بالجهد غايته وهو الإِنزال، ولكن رواية مسلم "وإنْ لم يُنْزِلْ" تدفع التعقب، والزيادة رواها أيضًا ابن أبي خيثمة في "تاريخه" عن عفان: ثنا (ب) همام و (جـ) أبان قال: ثنا قتادة- به، وزاد في آخره: "أَنْزَلَ أو لم يُنْزِلْ"، وكذا رواه الدارقطني وصححه (¬7)، وذكره أبو داود الطيالسي عن حماد بن سلمة عن قتادة (¬8). ¬

_ (أ) ساقطة من هـ. (ب) في جـ: بن. (جـ) في ب: أو.

92 - وعن أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المرأة ترى في منامها ما يرى الرجل قال: "تغتسل". متفق عليه. زاد مسلم: فقالت أم سلمة: وهل يكون هذا؟ قال: "نعم، فمِنْ أين يكون الشَّبَه؟ " (¬1). الحديث اتفق الشيخان على إخراجه مِن طرق: عن أم سلمة، وعن عائشة، وعن أنس، ووقع أن أم سلمة التي راجعت أم سليم السائلة، وفي رواية عائشة قال النووي: يحتمل أن تكون عائشة وأم سلمة جميعا أنكرتا على أم سليم (¬2)، وهو جَمْعٌ حَسَن، وقال في "شرح المهذب": يجمع بين الروايات (أ): بأنَّ أَنَسًا وعائشة وأم سلمة حضروا القصة (¬3) والذي (ب) يظهر أن أنسا لم يحضر القصة، وإنما تلقاها (جـ) من أمه أم سليم، وروى أحمد من حديث ابن عمر (¬4) نحو هذه القصة وإنما تلقى ذلك ابن عمر مِن (د) أم سليم أو غيرها، وقد سَأَلتْ عن هذه المسألة أيضًا خولةُ بنت حكيم عند أحمد والنسائي وابن ماجه (¬5) وسهلة بنت ¬

_ (أ) في جـ: الروايتين أن. (ب) في ب وهـ: فالذي. (جـ) في جـ: تلقاه. (د) زاد في ب: أمه.

سهيل عند الطبراني (¬1) وبُسْرَة بنت صَفْوَان عند ابن أبي شيبة (¬2). والمراد في الحديث: ترى ما يَرَى الرجل، المراد: إنزال الماء عند رؤيا الجِمَاع وقد صرح بهذا في رواية البخاري قال: "نَعَم إذا رأت الماءَ" -أي المني- بعد الاستيقاظ (¬3). وفي الحديث رد على من زعم أن ماء المرأة لا يبرز، في رواية: "هنَّ شَقائِقُ الرجال" (¬4) ما يدل دَلَالة صريحة على أنَّ ذلك غالب من حال النساء كالرجال وإنما يمنعهن من إظهاره (أ) الحياء. وقوله: فمِنْ أين يكون الشَّبه؟ بمعناه: أن الولد متولد من (ب) ماء الرجل وماء المرأة فأيهما غلب كان الشبه له، ويقال: شِبه وشَبَه لغتان مشهورتان، إحديهما بكسر المعجمة وسكون الموحدة وثانيتهما بفتحهما. 93 - وعن عائشة - رضي الله عنها - قالت: "كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يغتسل من أربع: من الجَنَابَة، ويوم الجُمُعَة، ومن الحِجَامَة، ومن غسل المَيِّت" رواه أبو داود وصححه ابن خزيمة (¬5). ¬

_ (أ) في هـ: اظهار ذلك، و "ذلك" مثبتة بالهامش. (ب) في جـ: بين.

ورواه أحمد والبيهقي، وفي إسناده مصعب بن شيبة، وفيه مقال، وضعفه أبو زُرعة وأحمد والبخاري. والحديث يدل على شرعية الغسل في الأربعة الأحوال. الجنابة: الأمر ظاهر فيه، وأما الجمعة فقد (أ) وقع الخلاف في وقته وحكمه، أما وقته (ب) فهو من طلوع الفجر إلى عصر ذلك اليوم، لأنه مشروع لليوم، ولم يشرع بعد العصر للإِجماع على أنه لا يشرع بعد خروج وقف صلاة (جـ) الجمعة، ذكره في "زوائد (د) الإِبانة"، وعند الشافعي (¬1) أنه مشروع للصلاة فلا يشرع بعدها، وفي ظواهر الأحاديث ما يُشعر بالأول، وأما حكمه فقال أئمة أهل البيت والفريقان: إنه مسنون، وعن داود وبعض أصحاب الحديث ورواية (¬2) عن مالك أنه واجب لقوله: غسل (هـ) الجمعة واجب، وسيأتي (¬3)، قلنا: معارض بقوله "ومَنْ توضأ فبها ونعمت، ومَنْ اغْتسَلَ فالغُسْلُ أفْضَل" (¬4)، فَيُحْمَلُ قوله واجب بأنه متأكد الشرعية، حتى أشبه الواجب. وأما من الحجامة فكذلك هو سُنَّة، وقد رُوِيَ عن علي - رضي الله عنه -: الغسل من الحجامة سنة وإن تطهرتَ أجزأك (¬5). ¬

_ (أ) زاد في هـ: وقد. (ب) ساقطة من هـ. (جـ) ساقطة من جـ. (د) في هـ، جـ: رواية. (هـ) زاد في ب يوم.

وأما مِن غَسْل الميت فهذا يدل على الشرعيَّة، وقوله (أ) - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ غسل ميتا فليغتسل" (1) أخرجه أحمد والبيقهي من حديث أبي هريرة، وأخرجه أيضًا الترمذي وابن ماجه من طريقٍ أخرى عن أبي هريرة، وابن حبان من طريق أخرى عنه، وأبو داود وأحمد من أخرى عنه، وقد خرج من طرق (ب) كثيرة بعضها موقوف حتى قيل: إن له مائة وعشرين طريقا، وفي الكل مقال [يدل على وجوبه] (جـ)، ولكنه قيل: بأن (د) الأمر به منسوخ وأجاب به أحمد وجزم به أبو دواد، ويدل على ذلك حديث ابن عباس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ليس عليكم في غَسل ميتكم غُسل إذا غَسَّلتموه، إن ميتكم يموت طاهرًا وليس بنجس، فحسبكم (هـ) أن تغسلوا أيديكم" (2) أخرجه البيهقي وضعفه، والأولى أن الإِسناد حسن، ويجمع بينه وبين حديث أبي هريرة بأن يحمل الأمر على الندب، أو المراد غسل الأيدي، ويدل عليه حديث ابن عمر: "كنا نغسل الميت فمنا من يغتسل، ومنا من لا يغتسل (3) أخرجه الخطيب من طريق عبد الله بن أحمد بن حنبل، واختلف الفقهاء في ذلك، فمذهب الهادي (¬4) وأحد قولي الناصر، وأحد قولي الشافعي، إنه سُنَّة لِمَا مَرَّ، وذهب أبو حنيفة (¬5) وأصحابه وهو قول المؤيد بالله وأحد قولي الشافعي لا يستحب ذلك لحديث ابن عباس المَارّ، والجواب بأنه (و) معارَض بحديث أبي هريرة و (ز) الجمع بالتأويل أولى، ¬

_ (أ) في هـ: فقوله. (ب) في هـ: طريق. (جـ) بهامش الأصل. (د) في جـ: أن. (هـ) في جـ: حسبكم. (و) في جـ: أنه. (ز) الواو ساقطة من جـ.

وعن علي وأبي هريرة وهو أحد قولي الناصر: أنه واجب لحديث أبي هريرة، قلنا: محمول على الندب للجمع بينه وبين حديث ابن عباس، ويؤيد ذلك ما أخرجه في "الموطأ" أن أسماء بنت عُمَيْس، امرأة أبي بكر غسلته حين توفي ثم خرجت (أ) فسألت مَنْ حضرها من المهاجرين فقالت: إني صائمة، وإن هذا اليوم شديد البرد، فهل [عليَّ] (ب) من غُسل؟ قالوا: لا (¬1) مع أنه وارد في حديث أبي هريرة "ومن حمله فليتوضأ" فكان يلزم من العمل به أن يوجبوا الوضوء على من حمله، وهم لا يقولون به بل يحملونه على الوضوء اللغوي، وهو غسل اليد والله أعلم. 94 - وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - في قصة ثُمَامَة بن أُثال عندما أسلم وأمره النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يغتسل. رواه عبد الرزاق، وأصله مُتَّفَقٌ عليه (¬2). والحديث يدل على شرعية الغُسل بعد الإِسلام، وسواء كان قد أصابته جنابة في حال الكفر (جـ أولًا، واختلف العلماء في ذلك، فمذهب (د) الهادي وجماعة من الأئمة أنه إذا كان قد أجنب في حال كفره جـ) وجب عليه الغسل -وإن كان قد اغتسل- لعدم صحة الغسل منه، وعند أبي (¬3) حنيفة أنه إذا كان قد غتسل حال ¬

_ (أ) في جـ: فخرجت. (ب) بهامش الأصل. (جـ، جـ) بهامش ب. (د) في ب: فذهب.

كفره لم يجب عليه إعادة الغسل، وعن المنصور والشافعي (¬1): أنه لا يجب الغسل على الكافر بعد إسلامه من جنابة أصابته قبل إسلامه، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "الإِسلام يَجُبُّ ما قبله" (¬2)، وأما إذا لم يكن قد أجنب فمذهب الهادي أول يُسْتَحَبُّ الغُسْلُ (أ) له (ب). وقال الشافعي (¬3): أحب أن يغتسل، فإن لم يكن جنبًا أجزأه أن يتوضأ. وفي قوله: أجزأه (جـ) يحتمل مع (د) استحباب الاغتسال، ومع الإِجناب يكون الاستحباب آكد، وذهب أحمد (¬4) إلى وجوب الغسل عليه مطلقًا، وظاهر الحديث معه وكذلك ما أخرجه أبو داود من حديث قيس بن عاصم قال: أتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أريد الإِسلام فأمرني أن أغتسل بماءٍ وسِدْرٍ (¬5). وأخرجه الترمذي والنسائي بنحوه، وظاهر الأمر الإِيجاب، ولذلك قال مالك: لم يبلغنا أنه - صلى الله عليه وسلم - أحدًا إذا أسلم بالغسل، فلو بلغه لقال به. ¬

_ (أ) ساقطة من ب. (ب) زاد في جـ: هذا في حق من لم يترطب في حال كفره كالمرتد الذي أسلم قبل أن يترطب، فأما الكافر الأصلي فعليه الغسل لترطبه من ولادته عده، وغسله واجب لنجاسته، وبعد الغسل للنجاسة يستحب له الغسل للإِسلام. (جـ) زاد في جـ: أن يتوضأ. (د) ساقطة من هـ.

[وفي الصحيحَيْن لم يذكر أنه - صلى الله عليه وسلم - أمره. بالاغتسال، وإنما فيهما أنه اغتسل] (أ). فائدة: ثُمَامَة بضم الثاء وتخفيف المِيمَيْن، وأُثَال بضم الهمزة وتخفيف الثاء المثلثة وباللام، وهو ثُمَامة بن أُثَال بن النعمان الحنفي سيد أهل اليمامة (¬1)، وكان أسر فأطلقه النبي - صلى الله عليه وسلم - فمضى وغسل ثيابه واغتسل ثم أتى (ب) النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأسلم وحَسُنَ إسلامُهُ. رَوَى عنه أبو هريرة وابن عباس. 95 - وعن أبي أبي سعيد (جـ) - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: غسل الجمعة واجب على كل محتلم". أخرجه السبعة (¬2). تقدم الكلام في حُكمه، وحينئذ فَمَنْ أوجب الغُسْل قال بظاهره، ومن لم يوجبه قال: "واجب" مَجَازٌ عن تأكد شرعيته. وفي قوله: "محتلم" أي بالغ، وذكر الاحتلام لغلبته. 96 - وعن سَمُرَةَ - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من توضأ يوم الجمعة فَبِهَا ونعمت، ومن اغتسل فالغُسْل أفضل" رواه الخمسة وحسنه الترمذي (¬3). ¬

_ (أ) بهامش الأصل. (ب) زاد بهامش هـ: إلى. (جـ) زاد جـ: الخدري.

هو أبو سعيد -ويقال: أبو عبد الله، ويقال: أبو سليمان، ويقال: أبو محمد، ويقال: أبو عبد الرحمن- سمرة بن جندب الفزاري حليف الأنصار، نزل الكوفة، وولي البصرة، وعداده في البصريين، وكان يستخلفه (أ) زياد على الكوفة ستة أشهر وعلى البصرة ستة أشهر، فلما مات زياد، وكان في البصرة، فأقره معاوية عليها عامًا ثم عزله، وكان شديدًا على الحرورية، وهو من الحفاظ المكثرين. روى عنه ابنه سليمان وعمران بن الحصين والحسن البصري والشّعْبي وعلي بن ربيعة. مات بالبصرة آخر سنة تسع وخمسين، وقيل: ثمان وقيل: ستين. والحديث حسن عند الترمذي، وقال في "الإِمام": من يحمل رواية الحسن (¬1) عن سمرة على الاتصال يصحح هذا الحديث. ¬

_ (أ) في ب: استحلفه.

قال المصنف -رحمه الله (¬1) -: وهو مذهب علي بن المديني كما نقله عنه البخاري والترمذي والحاكم وغيرهم، وقيل: لم يسمع منه إلا حديث العقيقة، وهو قول البزار، وقيل: لم يسمع منه شيئًا، وإنما حدث من (أ) كتابه، وقد روى عن أبي هريرة وعن أنس وعن جابر وعن ابن عباس وعن أبي سعيد، وفي الكل ضعف، بينها في "التلخيص". وقوله: "فبها ونعمت"، معناه فبالسنة أخذ، ونعمت السنة (¬2) قاله الأصمعي، وحكاه الخطابي (¬3) أيضًا قال: إنما أنث لإِضمار السنة، وقال غيره: ونعمت الخصلة، وقيل: ونعمت الرخصة لأن السنة الغسل، وقال بعضهم: فبالفريضة أخذ، ونعمت الفريضة. والحديث فيه تصريح بعدم وجوب غسل الجمعة، وإنما هو متأكد (ب)، ويقويه حديث مسلم "من توضأ فأحسن الوضوء، ثم أتى الجمعة، فاستمع وأنصت (جـ)، غفر له ما بين الجمعة إلى الجمعة وزيادة ثلاثة أيام" (¬4) والله أعلم. 97 - وعن علي - رضي الله عنه - قال: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُقْرئنا القرآنَ ما لمْ يكنْ جُنُبًا"، رواه أحمد والأربعة وهذا لفظ الترمذي وحسنه، وصححه ابن حبان (¬5). ¬

_ (أ) في هـ: في. (ب) في جـ: يتأكد. (جـ) في جـ: وانصرف، وهو تصحيف.

وحكم الترمذي بصحته وابن السكن وعبد الحق والبغوي في شرح السنة (¬1)، وروى عن ابن خزيمة بإسناده عن شعبة قال: هذا الحديث ثلث رأس مالي (¬2)، وقال الدارقطني: قال شعبة: ما أحدث بحديث أحسن منه (¬3)، وقال الشافعي في سنن حرملة (¬4): إن كان هذا الحديث ثابتًا ففيه دلالة على تحريم القرآن على الجنب، وقال في جماع كتاب الطهور: أهل الحديث لا يثبتونه. قال البيهقي: إنما قال ذلك لأن عبد الله بن سلمة (¬5) راويه كان قد تغير وإنما روى هذا الحديث بعد ما كبر، قاله شعبة، وقال الخطابي (¬6): كان أحمد يوهن هذا الحديث وقال النووي في الخلاصة (¬7): خالف الترمذي الأكثرون فضعفوا هذا الحديث، وروى الدارقطني عن علي موقوفًا: "اقرأوا القرآن ما لم يصبْ أَحدُكُمْ جنابةً، فإذا أصابتْه فلا، ولا حَرْفًا" (¬8). ¬

_ = بمعناه الطهارة باب حجب الجنب من قراءة القرآن 1/ 118، ابن ماجه الطهارة باب ما جاء في قراءة القرآن على غير طهارة 1/ 195 ح 594، أحمد 1/ 134، الحاكم 4/ 107، ابن خزيمة الوضوء باب الرخصة في قراءة القرآن وهو أفضل الذكر على غير وضوء 1/ 104 ح 208، ابن الجارود باب في الجنابة والتطهر لها 42 ح 94، ابن حبان -موارد- باب الذكر والقراءة على غير وضوء 74 ح 192، الدارقطني باب في النهي للجنب والحائض عن قراءة القرآن 1/ 119، البيهقي الطهارة باب نهي الجنب عن قراءة القرآن 1/ 88. (¬1) شرح السنة 2/ 41 - 42. (¬2) ابن خريمة 1/ 104. (¬3) سنن الدارقطني 1/ 119. (¬4) التلخيص 1/ 139. (¬5) عبد الله بن سلمة الهمداني المرادي، صدوق تغير حفظه، قال شعبة عن عمرو بن مرة: سمعت عبد الله بن سلمة يحدثنا وإنا لنعرف وننكر وكان قد كبر. الميزان 2/ 430 التقريب 176، ولكن للحديث طريق آخر عن أبي الغريف قال: أتي علي رضي الله عنه بوضوء. المسند 1/ 110، فإن هذا الحديث يحسن حديث عبد الله بن سلمة والله أعلم. (¬6) معالم السنن 1/ 156. (¬7) الخلاصة ل 17 باب ذكر المحدث والجنب والحائض وقرائتهم ومسهم المصحف ودخولهم المسجد. (¬8) سنن الدارقطني 1/ 118.

وهذا يعضِّد الحديث، لكن قال ابن خزيمة (¬1): لا حجة في الحديث لن منع الجنب من القراءة لأنه ليس فيه نهي، وإنما هي (أ) حكاية فعل، ولم يبين النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه إنما امتنع من ذلك لأجل الجنابة، وذكر البخاري عن ابن عباس أنه لم ير بالقراءة للجنب بأسا (¬2). والحديث يدل على مَنْع قراءة القرآن للجنب فإنه يفهم منه أنه كان دأبه - صلى الله عليه وسلم - تعليم القرآن والإِرشاد للعباد، ويمتنع منه حال الجنابة فما ذاك إلا لتحريم القراءة عليه، وإلا لما ترك الواجب عليه من التعليم، وفي بعض روايات الحديث عن علي (¬3): "لم يكن يحجب [النبي - صلى الله عليه وسلم - عن القرآن شيء سوى الجنابة] " (ب) وفي رواية (جـ) "تحجزوهما" أصرح في الدلالة على المقصود، وهو مخصوص بما روي من حديث ابن عباس (¬4): "لو أن أحدكم إذا أتى أهله قال (د): بسم الله، اللهم جنبنا الشيطان، وجنب الشيطان ما رزقتنا، فقضى بينهما ولد، لم يضره (هـ) "فإن التسمية هي من القرآن، وإن كان يحتمل التأويل بأنه إذا (و) أراد، ولكن يدفعه ما رواه ابن أبي شيبة (¬5): وكان إذا غشي أهله فأنزل قال: اللهم لا تجعل للشيطان فيما رزقتني نصيبًا، فإنه يدل أن الذكر في أثناء الجماع، وإن وقع الاختلاف في كيفيته، والخلاف في هذا تقدم حكايته. ¬

_ (أ) في جـ: هو. (ب) بهامش الأصل. (جـ) في ب: أو رواية، وجـ: ورواية. (د) في جـ: يقول. (هـ) في جـ: يضر. (و) مكررة في هـ.

98 - عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا أتى أحدم أهله ثم أراد أن يعود فلْيتوضَّأ بينهما (أ) وضوءا". رواه مسلم (¬1). زاد الحاكم: "فإنه أنشط للعود" (¬2). وللأربعة عن عائشة - رضي الله عنها - كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينام، وهو جنب، من غير أنْ يمسَّ ماء" (¬3). وهو معلول. والحديث يدل على شرعية الوضوء للجنب إذا أراد العَوْد إلى الجماع. والحديث الثاني يدل على جواز النوم بعد الجنابة من غير أن يمس ماء، وفي الصحيحين أحاديث تخالفه (¬4)، وحاصل الأحاديث الواردة فيهما (ب) أنه يتوضأ ويغسل فرجه لقصد النوم والأكل والشرب والجماع إذا لم يغتسل، واختلف العلماء هل ذلك واجب أو غير واجب؟ فذهب الجمهور من العلماء (¬5) إلى أن ¬

_ (أ) ساقطة من جـ. (ب) في جـ: فيها.

ذلك غير واجب (أ)، قالوا: يدل على عدم الوجوب حديث عائشة المذكور (ب) وحديث طوافه على نسائه بغسل واحد (¬1)، فإن ذلك يدل على الجواز، ولكن الغسل مستحب. ونقل الطحاوي (¬2) عن أبي يوسف عدم الاستحباب قال: لحديث "من غير أن يمس ماء"، وتعقب بأن الحفاظ قالوا: إن أبا إسحاق غلط فيه، أو أنه (جـ) لبيان الجواز كما تقدم، ويتأكد الاستحباب إذا عاود امرأة غير من كان جامعها وذهب ابن حبيب من أصحاب مالك وداود الظاهري (¬3)، وقواه ابن العربي (¬4)، إلى وجوبه، وبوب عليه أبو عوانة في صحيحه (¬5) إيجاب الوضوء على الجنب إذا أراد النوم، ولكن أبا عوانة وابن خزيمة استدلا على عدم وجوب الوضوء بعد ذلك بحديث ابن عباس مرفوعًا "إنما أمرت بالوضوء إذا قمت إلى الصلاة" (¬6) وحجة الظاهري ما ورد في الصحيحين وغيرهما من الأمر بالوضوء، وفي بعضها بصيغة الشرط فاقتضى الوجوب، والجواب أنه ورد ما يدل على عدم الوجوب. والواجب الجمع بين الأدلة ما أمكن، فحمل على الاستحباب لذلك واختلفوا أيضًا هل يتوضأ الوضوء الشرعي الكامل؟ أو مطلق التنظيف، فالجمهور على الأول، وقد ورد مصرحًا به في رواية مسلم: "توضأ وضوءه للصلاة" (¬7) وذهب الطحاوي (¬8) إلى الثاني، واحتج بأن ابن عمر راوي ¬

_ (أ) زاد في هـ: و. (ب) ساقطة من جـ. (جـ) في جـ: وأنه.

الحديث، وهو صاحب القصة، كان يتوضأ، وهو جنب، ولا يغسل رجليه (¬1)، وهو معارض بأنه قد ثبت من روايته تقييد الوضوء "بأنه كان كوضوء الصلاة" (أ) (¬2)، ولعلة (ب) ترك غسل رجليه لعذر. والحكمة في الوضوء أن فيه تخفيف الحدث برفع الجنابة عن الأعضاء، وقد ورد ذلك فيما رواه ابن أبي شيبة (¬3) بسند رجاله ثقات عن شداد بن أوس الصحابي قال: إذا أجنب أحدكم من الليل، ثم أراد أن ينام، فليتوضأ، فإنه نصف غسل الجنابة، (جـ وقيل ليبيت على إحدى (د) الطهارتين، فعلى هذا يقوم التيمم مقامه جـ) وقد روى البيهقي بإسناد حسن عن عائشة "أنه - صلى الله عليه وسلم - كان إذا أجنب، فأراد أن ينام، توضأ أو تيمم" (¬4)، ويحتمل أن يكون التيمم عند تعسر وجود الماء، وقيل: الحكمة فيه أنه ينشط إلى العود، وقد صرح به في رواية الحاكم (¬5)، وقيل (هـ) أنشط إلى الغسل، ونص الشافعي على أن الحائض ليس عليها ذلك إلا (و) إذا انقطع دمها. وفي الحديث دلالة على أن غسل الجنابة ليس على الفور، وإنما يتضيق عند القيام ¬

_ (أ) في جـ: كوضوئه للصلاة. (ب) في ب: ولعل. (جـ- جـ) ما بينهما بهامش هـ. (د) في هـ أحد. (و) في جـ: وفيه. (و) ساقطة من هـ وب وجـ.

إلى الصلاة، واستحباب التنظيف عند النوم، قال ابن الجوزي: والحكمة فيه أن الملائكة تبعد عن الوسخ والريح الكريهة، بخلاف الشياطين فإنها تقرب من ذلك. والله أعلم (¬1). وقوله في (أ) حديث عائشة (¬2): وهو معلول [أخرجوه (ب) من حديت الأسود عن (جـ) عائشة (د). قال أحمد: إنه ليس بصحيح، وقال أبو داود (¬3): وهم، وقال يزيد بن هارون: هو خطأ، وأخرج مسلم الحديث دون قوله: ولا يمس ماء، وكأنه حذفها عمدًا لأنه عللها في كتاب التمييز (¬4)، وقد بين المصنف في التلخيص (¬5) وجه العلة بأنه من رواية أبي إسحق] (هـ عن الأسود عن عائشة وقد قال ابن مغور: أجمع المحدثون أنه خطأ من أبي إسحق] هـ)، كذا قال مع أن البيهقي قد صححه (¬6)، وقال: إن أبا إسحق قد بين سماعه من الأسود في رواية زهير عنه، وجمع بينهما ابن سريج، وقال الدارقطني في العلل: يشبه أن يكون الخبران صحيحين (وقاله (ز) بعض أهل العلم، وقال الترمذي: يرون أن هذا غلط من أبي إسحق وعلى تقدير صحته و) فيحتمل (حـ) أن المراد لا يمس ماء للغسل، ويؤيده ¬

_ (أ) في جـ: من. (ب) في هـ: أخرجه. (جـ) في جـ: من حديث. (د) بهامش الأصل. (هـ- هـ) ساقط من جـ. (و- و) ما بينهما ساقط من جـ. (ز) في هـ: قال. (حـ) في هـ: فيحمل.

رواية عبد الرحمن بن الأسود عن أبيه عند أحمد بلفظ: "كان يجنب من الليل، ثم يتوضأ وضوءه (أ) للصلاة، حتى يصبح، ولا يمس ماء" (¬1) أو كان يفعل الأمرين لبيان الجواز، وبهذا جمع ابن قتيبة في اختلاف الحديث (¬2) ويؤيده (ب) ما رواه هشيم بن عبد الملك عن عطاء عن عائشة مثل رواية أبي إسحق عن الأسود وما رواه ابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما (¬3) عن ابن عمر: أنه سأل النبي - صلى الله عليه وسلم -: أينام أحدنا وهو جنب؟ قال: "نعم، ويتوضأ إن شاء" وأصله في الصحيحين (¬4) دون قوله: "إن شاء". 99 - وعن عائشة - رضي الله عنها - قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا اغتسل من الجنابة يبدأ فيغسل يديه، ثم يُفرغ بيمينه على شماله، فيغسل فرجه، ثم يتوضأ ثم يأخذ الماء، فيدخل أصابعه في أصول الشعر، ثم حَفَن على رأسه ثلاث حفنات، ثم أفاض على سائر جسده، ثم غسل رجليه متفق عليه (¬5)، واللفظ لمسلم ولهما (¬6) من حديث ميمونة: "ثم أفرغ على فرجه وغسله بشماله، ثم ضرب بها الأرض"، وفي رواية "فمسحها بالتراب" وفي آخره: "ثم أتيته بالمنديل فرده" وفيه: "وجعل ينفض الماء بيده". ¬

_ (أ) في هـ: وضوء. (ب) في هـ وجـ: ويؤيد.

[قوله: إذا اغتسل، أي شرع في الفعل (أ)، ومن في: الجنابة سببية] (ب) وقوله: يبدأ فيغسل يديه، أي يغسلهما قبل إدخالهما في الإِناء، وقد ورد مصرحًا به في رواية (¬1). وغسل الفرج ظاهره مطلق الغسل فيكفي مرة وهذا المعنى يفهم من حديث ميمونة أظهر (¬2)، إذ ضرب الأرض بيده لأجل إزالة الرائحة من اليد، ولم يذكر أنه أعاد غسل الفرج بعد ذلك مع أنه إذا كانت الرائحة في اليد فهي باقية أيضًا في الفرج (¬3)، وهذا ما يفهم من الحديث، ويدل أيضًا على (جـ) أن الماء الذي تطهر به محل النجاسة طاهر مطهر. وعلى صحة تشريك النية للغسلة التي تزيل النجاسة برفعها الحدث، وهي مسألة (د) خلاف، صحح النووي (¬4) جواز ذلك. وقد استدل بهذا على نجاسة المني، إذ دلّك اليد بالأرض لإزالته ويحتمل أن يكون ذلك للتنظيف، [ويستدل به على أن بقاء رائحة النجاسة بعد غسل المحل ¬

_ (أ) في ب وجـ: الغسل. (ب) بهامش الأصل. (جـ) ساقطة من جـ. (د) في هـ: وفي المسألة خلاف.

لا يضر، (أ)، واستدل البخاري (¬1) بهذا على أن الواجب في غسل الجنابة مرة واحدة. وقوله: ثم يتوضأ، أي يغسل أعضاء الوضوء وقد ورد به مصرحا (ب) في رواية البخاري كما يتوضأ في الصلاة (¬2)، وهذا يحتمل أن يكون الابتداء بالوضوء قبل الغسل بنية مستقلة بحيث يجب غسل أعضاء الوضوء مع بقية الجسد، ويحتمل أن يكتفي بغسلها في الوضوء عن إعادته، وعلى هذا فيحتاج إلى نية غسل الجنابة في أول جزء، وإنما قدم غسل أعضاء الوضوء تشريفا لها، ولتحصل له صورة الطهارتين الصغرى والكبرى، وقد اختلف العلماء في دخول الطهارة الصغرى تحت الكبرى، وفي إجزاء الوضوء قبل إزالة الحدث الأكبر، فذهب أكثر العترة وأحد أقوال (جـ) الشافعي وأبو ثور (¬3) وداود إلى أنه لا يدخل الوضوء في الغسل بل يجبان، وذهب زيد بن علي وقول للشافعي (¬4) ورواية عن أبي حنيفة إلى أنهما يتداخلان، فيجزئ الغسل مرة وإن لم يرتب، ونقل ابن بطال الإِجماع (¬5) (د) على ذلك، وقول للشافعي: إذا توضأ مرتبا، ثم غسل ما بقي أجزأ لهما، وقول له: إن سبقت الجنابة تداخلا لطروء الأصغر لا العكس حجة القول الأول واجبان: تغاير سببهما وصفتهما فلم يتداخلا، وروي عن علي - رضي الله عنه - أنه قال: ¬

_ (أ) بهامش الأصل. (ب) في هـ: مصرحا به. (جـ) في جـ وب: قولي. (د) في هـ: إجماع.

من اغتسل من جنابة ثم حضرت الصلاة فليتوضأ (¬1). وكان (أ) رضي الله عنه يفعله، وروى الهادي (ب في الإِحكام ب) عن أبيه عن جده أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أعاد وضوءا بعد اغتساله من الجنابة (¬2) رواه في الشفاء، وأجيب بالعارضة بحديث (جـ) عائشة وميمونة، فإنهما لم تذكرا إعادة وضوء، وأُورِد عليه بأن ذلك يدل على أنه يكفي (د) في رفع الجنابة ما وصفتاه من فعله لا أنه يغني عن الوضوء لعدم ذكر الصلاة بعده ودفع (هـ) بما في سنن أبي داود من حديث عائشة: كان يغتسل ويصلي الركعتين وصلاة الغداة، ولا يمس ماء (¬3) وحديث الأحكام لا يعارض ذلك لجواز حصول (و) ناقض بعد الغسل، وهذه المعارضة هي حجة المذهب الثاني، ومسألة إجزاء الوضوء قبل إزالة الحدث الأكبر، الخلاف فيها (ز) ذهب الهادي (¬4) والقاسم إلى أنه لا يجزئ إذ لا يقع إلا على ظاهر البدن من الحدث، وذهب الناصر وأبو ثور إلى أنه يجب تقديم الوضوء على الغسل لقوله تعالى: {إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا} (حـ) (¬5) فأوجب الوضوء عند إرادة القيام إلى الصلاة ولم يفصل، والفاء تقتضي التعقيب من دون تراخ، ولا تنافي بينهما، وذهب المؤيد ¬

_ (أ) زاد في ب: على. (ب - ب) ساقط من جـ. (جـ) في ب: الحديث. (د) في جـ: يكتفى. (هـ) في جـ: ورفع بما، وفي ب: ودفع ما. (و) زاد في هـ: ذلك. (ز) في جـ: فيهما. (حـ) زاد في جـ وهـ: وجوهكم.

بالله والإِمام يحيى إلى أنه مخير، قالوا: عارض مفهوم الآية قول علي - رضي الله عنه - المتقدم، فرجع إلى التخيير. وقوله: ثم يدخل أصابعه في أصول الشعر، أي شعر رأسه، ويدل عليه رواية البيهقي (¬1) "يخلل بها شق رأسه الأيمن، فيتتبع (أ) بها أصول الشعر ثم يفعل بشق رأسه الأيسر كذلك" وقال القاضي عياض: احتج به بعضهم على تخليل شعر اللحية في الغسل، إما لعموم الشعر، وإما بالقياس على شعر الرأس، وفائدة التخليل ليصل الماء إلى الشعر والبشر وهذا التخليل غير واجب اتفاقا إلا إذا كان الشعر متلبدا بحيث لا يصل الماء إلى أصوله (ب). وقوله: ثم حفن (¬2) على رأسه، وفي رواية للبخاري (¬3) ثلاث غرفات، وفيه دلالة على استحباب التثليث في الغسل، قال النووي (¬4): ولا نعلم فيه خلافا إلا ما تفرد به الماوردي فإنه قال: لا يستحب التكرار في الغسل: [والحفنة، ملء الكفين جميعا، وفي رواية الطبري ثلاث حفنات (جـ) ملء كفيه (¬5)، وإن كان رواية الأكثرين لصحيح مسلم ملء كفه (¬6) فالإِفراد للجنس لا ينافي الكثرة، وهذه الرواية مفسرة للمراد] (د). ¬

_ (أ) في جـ وب: فيتبع. (ب) في هـ: أصله. (جـ) في جـ: حثيات. (د) في هامش الأصل وفيه بعض المسح واستدركته من نسخة هـ.

وقوله: ثم أفاض، الإِفاضة: الإِسالة (¬1)، وقد استدل به على عدم وجوب الدلك وقال الماوردي (أ) لا حجة في ذلك، فإن أفاض بمعنى غسل (ب)، والخلاف قائم في حقيقة الغسل، وقال القاضي عياض (¬2): لم يأت في شيء من الروايات في وصف (جـ) الغسل ذكر التكرار. قال المصنف -رحمه الله تعالى (¬3) -: بل ورد ذلك من طريق صحيحة أخرجها النسائي والبيهقي من رواية أبي سلمة عن عائشة (¬4): أنها وصفت غسل النبي - صلى الله عليه وسلم - من الجنابة .. الحديث وفيه: "تمضمض ثلاثا، ويستنشق ثلاثا، ويغسل وجهه ثلاثا، ويديه ثلاثا، ثم يفيض على رأسه ثلاثا" وقوله: "على سائر جسده"، يدل على أنه لم يعد غسل أعضاء الوضوء، وقوله: "ثم غسل رجليه" (¬5)، يدل على تأخير غسل الرجلين (د وأن الوضوء الأول بدون غسل الرجلين د)، وهذه رواية مسلم لحديث عائشة من رواية أبي معاوية عن هشام، وقد تفرد بها أبو معاوية دون أصحاب هشام، قال البيهقي (¬6): غريبة صحيحة (هـ). قال المصنف -رحمه الله تعالى (¬7) -: في رواية أبي معاوية (¬8) عن هشام ¬

_ (أ) في النسخ: الماوردي، وفي الفتح: المازري. (ب) في جـ: الغسل. (جـ) في هـ: وضوء. (د- د) ساقطة من جـ. (هـ) في هـ: صححه.

مقال: نعم له شاهد من رواية أبي سلمة عن عائشة: أخرجه أبو داود الطيالسي (¬1)، وفيه: "فإذا فرغ غسل رجليه" وسائر الرواة لحديث عائشة لم يذكروا غسل الرجلين بعد ذلك (¬2) ولكن (أ) هذا محتمل (ب) أن يكون أعاد غسل الرجلين بعد أن كان غسلهما في الوضوء فيوافق رواية البخاري لحديث عائشة فإن فيه: يتوضأ كما يتوضأ للصلاة، ثم قال: ثم يفيض الماء على جلده كله (جـ) والشافعي اختار (¬3) إكمال الوضوء قبل الغسل، وأبو حنيفة (¬4) اختار تأخير غسل الرجلين وفي كتب مالك (¬5) له أو لبعض أصحابه فرق بين أن يكون الموضع وسخا فيؤخر غسلهما لئلا يحصل إسراف في الماء [بإعادة غسلهما] (د) وبين أن يكون طاهرا فيقدم غسلهما (¬6)، وقد أخذ من هذا جواز التفريق بين أعضاء الطهارة (¬7). ¬

_ (أ) ساقطة من هـ. (ب) في ب: يحتمل. (جـ) ساقطة من جـ. (د) بهامش الأصل.

وقوله في حديث ميمونة: ثم أتيته بالمِنديل فرده، هو بكسر الميم وهو معروف، قال ابن فارس (¬1): لعله مأخوذ من الندل وهو النقل، وقال غيره: هو مأخوذ من الندل وهو الوسخ لأنه يندل به، ويقال: تندلت بالمنديل، وقال الجوهري (¬2): ويقال أيضًا: تمندلت به، وأنكره الكسائي. وفي رده دلالة على استحباب ترك تنشيف الأعضاء وفي ذلك خمسة أوجه، أشهرها: أن المستحب تركه ولا يقال فعله مكروه، والثاني: أنه مكروه، والثالث: أنه مباح يستوي فعله وتركه، وهذا اختاره النووي (¬3)، قال (أ): لأن المنع والاستحباب يحتاج إلى دليل واضح، والرابع: أنه يستحب لا فيه من الاحتراز عن الأوساخ، والخامس: يكره في الصيف دون الشتاء، وهذه الوجوه لأصحاب الشافعي (¬4)، وللصحابة (ب) والتابعين ثلاثة أقوال، الأول: أنه لا بأس به في الوضوء والغسل، وهو قول أنس بن مالك ومالك (¬5) والثوري، والثاني (جـ): أنه مكروه فيهما، وهو قول ابن عمر وابن أبي ليلى، والثالث: يكره في الوضوء دون الغسل، وهو قول ابن عباس. والوارد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في ترك التنشيف هذا، وحديث في الصحيح: أنه - صلى الله عليه وسلم - "اغتسل، وخرج ورأسه يقطر ماء" (¬6) وأما فعل التنشيف فقد رواه جماعة من الصحابة، لكن قال الترمذي: لا يصح في هذا الباب شيء عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. ¬

_ (أ) بهامش هـ. (ب) ساقطة من هـ. (جـ) بهامش هـ.

وقوله: "وجعل ينفض الماء بيده"، فيه دلالة على أن النفض لا بأس به، وفيه وجوه أحدها: أن المستحب تركه ولا يقال إنه مكروه (أ، والثاني أنه مكروه أ)، والثالث أنه مباح يستوي فعله وتركه، وقد ورد في إباحته هذا الحديث، وفي النهي عنه قوله: "لا تنفضوا أيديكم، فإنها مراوح الشيطان" (¬1)، وهو ضعيف لا يقاوم هذا الصحيح. 100 - وعن أم سلمة - رضي الله عنها - قالت: قلت يا رسول الله: إني امرأة أشدُّ شعر رأسي، أفأَنْقُضُهُ لغُسْل الجنابة؟ وفي رواية: والحيضة؟ فقال: "لا إنما يكفيك أنْ تَحْثِي على رأسِك ثلاثَ حَثَياتٍ". رواه مسلم (¬2). الحديث. قوله: أشد شعر -لفظ مسلم أشد ضفر رأسي، وكأن المصنف رواه بالمعني (¬3)، وضَفْر بفتح الضاد وإسكان الفاء، وهذا هو المشهور عند المحدثين والفقهاء وغيرهم ومعناه أحكم فتل شعري. وقال الإِمام ابن بري (¬4)، [وهو ابن مالك] (ب) في الجزء الذي صنفه في لحن الفقهاء: من ذلك قولهم في حديث أم ¬

_ (أ- أ) بالهامش في هـ. (ب) بهامش الأصل وفيه آثار مسح واستدركته من نسخة هـ.

سلمة: أشد ضفر رأسي، يقولونه بفتح الضاد وإسكان الفاء، وصوابه ضم (أ) الضاد والفاء جمع ضفيرة كسفينة وسفن، قال النووي -رحمه الله-: وهذا الذي أنكره ليس بصحيح، بل الصواب جواز الأمرين ولكل منهما وجه صحيح، ولكن يترجح الأول لأنه المسموع في الروايات الثابتة المتصلة. وقوله: "أَفَأَنْقُضُهُ .. " إلى آخره، فيه دليل على أنه لا يجب عليها نقض الشعر، وظاهر الحديث وإن لم يصل الماء إلى باطنه، وسواء كان اجتماعه باختيارها أو بغير اختيارها والحكمة في ذلك التيسير عليها، لما في ذلك من الحرج، وفي المسألة أقوال: ذهبت (ب) الهادوية وهو مذهب الحسن البصري (¬1) وطاوس إلى أنه لا يجب النقض في الجنابة دون الحيض والنفاس، فيجب فيهما لقوله - صلى الله عليه وسلم - لعائشة "انقضي شعرك، واغتسلي" (¬2) وأجيب بأن ذلك معارض بحديث (جـ) أم سلمة (¬3)، وهذا ممكن، حمل الأمر على الندب فيجب الصير إلى التأويل جمعا بين الحديثَيْن، وحديث أم سلمة لا يحتمل مثل هذا، وذهب الجمهور من ¬

_ (أ) في جـ: بضم. (ب) في جـ وب: ذهب. (جـ) في ب: لحديث.

الشافعية (¬1) وغيرهم والإِمام يحيى إلى أنه لا يجب نقض الشعر مطلقا بشرط أن يصل الماء إلى باطن الشعر، فيبله وإلا وجب النقض، لقوله - صلى الله عليه وسلم - "بلوا الشعر" (¬2) ولم يفرق، قالوا: وحديث أم سلمة محمول على أنه عرف (أ) خفة شعرها وكان (ب) الماء يصل إلى جميعه، ويمكن الجواب بأن حديث أم سلمة خاص ببعض أحوال الشعر وهو ما كان مشدودا، وحديث "بلوا"، عام للشعر سواء كان مشدودا أو منشورا، والواجب العمل بالخاص فيما تناوله، وبالعام فيما بقي، [مع أنه فيه مقالا] (¬3) (جـ) وحكى عن النخعي (¬4) وجوب النقض بكل حال، لقوله: بلوا وقد عرفت الجواب عنه، وذهب أبو يوسف إلى أنه يجب في الجنابة دون الحيض، قال: إذ هي من الكتاب، لا الحيض إذ هو من السنة، ولتأكيد الجنابة بقوله: بلوا، والجواب عنه حديث أم سلمة. وقوله: "تحثي على رأسك ثلاث حثيات"، هي (د) بمعنى الحفنات، والحفنة (هـ) ملء الكفين من أي شيء كان، ويقال: حثيت وحثوت (و) بالواو والياء لغتان مشهورتان. 101 - وعن عائشة - رضي الله عنها - قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ¬

_ (أ) في هـ: عرفه. (ب) في هـ وب: فكان. (جـ) بهامش الأصل. (د) في جـ: وهي. (هـ) في جـ: ملء الحفنة. (و) في جـ: حثوث وحثيث.

"إنِّي لا أحِلُّ المسجدَ لحائض، ولا جُنب". رواه أبو داود وصححه ابن خزيمة (¬1). أخرجه أبو داود من حديث جسرة (¬2) عن عائشة، وفيه قصة، وابن ماجه (¬3) والطبراني من حديث (أ) جسرة عن أم سلمة، وحديث الطبراني (¬4) أتم، وقال أبو زرعة الصحيح حديث جسرة عن عائشة، وضعف هذا الحديث بأنه من رواية أفلت ابن خليفة (¬5)، وهو مجهول الحال، وقد ذكر ابن الرفعة أنه متروك، ورد عليه بأن أحمد قال: لا أرى به بأسا، وقد صححه ابن خزيمة وحسنه ابن القطان. والحديث فيه دلالة على أنه لا يجوز للحائض والجنب دخول المسجد بكل حال وهو مذهب الأكثر، وقال داود والمزني: أنه يجوز لهما ذلك قياسا على العبور، وأجيب بأن الأصل ممنوع، وإن سلم فالعبور خصصته الآية (¬6)، وبقي ما عداه داخلا تحت مفهوم الحديث، وذهب أحمد (¬7) وإسحاق إلى أنه يجوز للجنب إن غسل ¬

_ (أ) ساقطة من جـ.

ما يباشر به المسجد لا الحائض، فتمنع للتنجيس، الجواب: الحديث لم يفصل (¬1). وذهب العترة أيضًا وأبو حنيفة (¬2) وأصحابه ومالك إلى أنه لا يجوز أن يعبر للحديث، وكالحائض، وذهب ابن مسعود وابن عباس والشافعي وأصحابه إلى جواز ذلك (¬3)، قالوا: لقوله تعالى إلا عابري سبيل (¬4) وأراد مواضع الصلاة (¬5) بدليل الاستثناء، وأجيب (¬6) بأن الآية محمولة على من أجنب في المسجد، فإنه يخرج منه للغسل، أو على أن معنى عابري سبيل مسافرين وفقدتم الماء، فتيمموا لفقدان الماء (¬7)، وذكر السفر لأنه غالب فقد الماء فيه، وإن كان ذلك الحكم يجري في الحضر عند عدم الماء، أو يحمل (أ) على أن الطريق إلى الماء إنما هي في المسجد أو كان الماء في المسجد، ذكره الزمخشري وهو يجوز من دون (ب) تيمم عند الحنيفة في الأخيرين والله أعلم. 102 - وعنها - رضي الله عنها - قالت: كنت أغتسل أنا ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - في إناء واحد، تختلف أيدينا فيه من الجنابة. متفق عليه (¬8). زاد ابن حبان: وتلتقى. ¬

_ (أ) في هـ: ويحمل. (ب) ساقطة من جـ.

الحديث يدل (أ) على جواز اجتماع المرأة والرجل في الاغتسال من إناء واحد، وقد تقدم ما في هذه المادة من الكلام، ومحل هذا الحديث اللائق به في باب المياه. والله أعلم. 103 - وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن تحت كل شعرة جنابة فاغسلوا الشعر وأنقوا البشر". رواه أبو داود والترمذي وضعفاه (¬1). ولأحمد (¬2) عن عائشة نحوه، وفيه راوٍ مجهول. الحديث ضعفاه لأنه من رواية الحارث بن وجيه (¬3)، قال أبو داود: حديثه منكر، وهو ضعيف، وقال الترمذي: غريب لا نعرفه إلا من حديث الحارث، وهو شيخ ليس بذاك وقال الدارقطني: إنما يروى هذا عن مالك بن دينار عن الحسن مرسلًا، ورواه سعيد بن منصور عن هشيم، عن يونس، عن الحسن قال: نبئت أن رسول الله الله - صلى الله عليه وسلم - فذكره، ورواه أبان العطار (ب) عن قتادة (¬4) عن الحسن عن أبي هريرة من قوله، وقال الشافعي: هذا الحديث ليس بثابت، وقال البيهقي (¬5): أنكره أهل العلم بالحديث، البخاري (¬6) وأبو داود وغيرهما، ¬

_ (أ) في جـ: دل. (ب) في جـ: العصار.

وفي الباب عن أبي (أ) أيوب رواه ابن ماجه من حديث فيه: من أداء الأمانة غسل الجنابة فإن تحت كل شعرة جنابة (¬1)، وإسناده ضعيف (¬2)، وعن علي مرفوعًا: "من ترك موضع شعرة من جنابة لم يغسلها فعل به كذا (ب) وكذا (¬3) الحديث، وإسناده صحيح، فإنه من رواية عطاء بن السائب، وقد سمع منه حماد بن سلمة (¬4) قبل الاختلاط، أخرجه أبو داود وابن ماجه من حديث حماد، لكن قيل: إن الصواب وقفه على علي رضي الله عنه. وفي الحديث دلالة على أنه يجب غسل جميع البدن في الجنابة ولا يعفي عن شيء منه والظاهر أنه إجماع إلا المضمضة والاستنشاق ففيهما خلاف الناصر والشافعي (¬5) وأصحابه ومالك، قالوا: لقوله في حديث أم سلمة: إنما يكفيك أن تحثي .. الحديث، ولم يذكرهما، قلنا: أنقوا البشر، والبشر عام، ومن جزئياته بشرة الفم والأنف، وقد قال ثعلب: البشرة هي الجلدة التي تقي اللحم من الأذى فبين عموم البشر، وأجيب بأن الحديث ضعيف، فلا يقاوم حديث مسلم المتقدم، ويجاب بأن له شاهدا وهو ما تقدم من حديث يتوضأ وضوءه للصلاة، والأحاديث منتشرة بأن وضوءه للصلاة كان بالمضمضة والاستنشاق ويؤيد أيضًا بحديث (جـ) علي - رضي الله عنه - فإنه صريح في التعميم، ¬

_ (أ) ساقطة من جـ. (ب) في هـ: كذلك. (جـ) في ب: لحديث.

وبحديث (أ) عائشة - رضي الله عنها - "كان إذا اغتسل من الجنابة تمضمض واستنشق" أخرجه النسائي (¬1)، وعن (ب) ابن عباس عن خالته ميمونة قالت: "وضعت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - غسلا فتمضمض" أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود (¬2)، فعرفتَ بمجموع ذلك أنه يجب غسل الفم والأنف. والله سبحانه أعلم. قال سفيان بن عيينة: المراد بقوله: وأنقوا البشر، غسل الفرج وتنظيفه، كني عنه بالبشرة. قال ابن وهب: ما رأيت أعلم بتفسير الأحاديث من ابن عيينة. ذكره في شرح الترمذي. [اشتمل الباب على خمسة عشر حديثًا] (جـ). ¬

_ (أ) في ب: لحديث. (ب) ساقطة من ب. (جـ) بهامش الأصل.

باب التيمم

باب التيمم [التيمم في اللغة: القَصْد، قال امرؤ القيس: تيممتها من أذرعات .. البيت (¬1)، أي قَصَدْتُها. وفي الشرع: القصد إلى الصعيد لمسح (أ) الوجه واليدين بنية استباحة الصلاة ونحوها (¬2)، وقال ابن السكيت: {فَتَيَمَّمُوا}: أي اقصدوا، ثم كَثُر استعماله حتى صار التيممُ: مسحُ الوجه واليدَيْن بالتراب. انتهى. فعلى هذا: هو مَجَازٌ لغويٌّ، وعلى الأول حقيقة شرعية. واختلف في التيمم هل هو عزيمة أو رخصة؟ وفَصَّل بعضهم بأنه لعدم الماء عزيمة وللعذر رخصة] (ب). 104 - عن جابر - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "أعطيت خمسا لم يُعطَهنَّ أحدٌ قبلي، نُصرت بالرُّعب مسيرةَ شهر، وجُعلَتْ لِيَ الأرضُ مسجدًا وطهورًا، فأيُّما رجلٍ (جـ) أدركته الصلاةُ فَليُصلِّ ... " (¬3). وذكر الحديث. ¬

_ (أ) في هـ وب وجـ: بمسح. (ب) بهامش الأصل وهـ. (جـ) زاد في ب: من أمتي.

وفي حديث حذيفة - رضي الله عنه - عند مسلم: "وجعلت تربتها لنا طهورا، إذا لم نجد الماء" (¬1). وعن علي - رضي الله عنه - عند أحمد: "وجعل التراب لي طهورا" (¬2). * الحديث متفق عليه، وتمامه: "وأُحلت لي الغنائم، ولم تحل لأحد قبلي، وأُعْطيتُ الشفاعة، وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة". قاله - صلى الله عليه وسلم - في غزوة تبوك كما بينه البخاري من رواية عمرو بن شعيب (¬3). * وقوله: "أعطيت خمسا": من لا يثبت مفهوم العدد لا إشكال عليه بأنه قد ورد غير ذلك، ومن أثبته ترد عليه، وطريق الجمع أن يُقَالَ: لعله اطلع أولًا على بعض ما اختص به فذكره، ثم اطلع على غيره من بعد، أو المفهوم غير مقصود هنا بقرينة ذكر غيره (أ) وقد ورد غير هذه الخمس كما في حديث أبي هريرة عند مسلم: "فضلت على الأنبياء بست" (¬4) ولم يذكر الشفاعة، وزاد خصلتين وهما: "وأعطيت جوامع الكلم، وختم بي (ب) النبيون". ولمسلم من حديث (¬5) حذيفة: "فُضِّلْتُ على الناس بثلاث: جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة"، وذكر خصلة الأرض، قال: "وذكر خصلة أخرى أبهمها"، وقد بينها ابن خزيمة والنسائي (¬6) وهي: "وأعطيت هذه الآيات من آخر سورة البقرة ¬

_ (أ) ساقطة من ب. (ب) في هـ: به.

مِنْ كَنْزٍ تحت العرش"، يشير إلى ما حطه الله تعالى عن أمته من الإِصر، وتَحَمُّل ما لا طاقة لهم به، ورفع الخطأ والنسيان. ولأحمد من حديث علي - رضي الله عنه -: "أعطيت أربعا لم يعطهن أحد من أنبياء الله: أعطيت مفاتيح الأرض، وسميت أحمد، وجعلت أمتي خير الأمم" (¬1) وذكر خصلة التراب فصارت الخصال اثنتي عشرة. وقد نظم بعضهم الخمس المذكورة في حديث جابر فقال: جاء بالخمس ثم خص بخمس ... بعد سبع عددن (أ) للتلاء (ب) فله الأرض مسجد وطهور ... لمصل وعاجز عن ماء وأحلت له الغنائم يمضي ... حكمه في التنفيل والاصطفاء وعموم النعت الذي خصه منه ... بما (جـ) شاء ألطف اللطفاء (¬2) وله في غد بكبرى الشفاعات ... مقام يشفي من الأصداء (نُصْرَة الله في (د) مسيرة شهر ... يقذف الرعب منه (هـ) في قلوب العداء (و) وقلت في نظم السبع المذكورة: هذه الخمس واحفظ السبع تحظى ... بسنى الجلال للكملاء (¬3) فهو للرسل أجمعين ختام ... وَلِكَلْم جوامع الأنباء ومقام الصلاة خص بصفٍ ... كصفوفِ الملائك الأمناء ¬

_ (أ) في هـ: عدد. (ب) في ب: للنبلاء. (جـ) في ب: لما. (د) في هـ: من. (هـ) في هـ: منه، وب: في. (و) بهامش الأصل.

وبآي كُنِزّن من ذُخُر العرش ... خواتيم (أ) السورة الزهراء ثم سماه أحمد في ... معنييه لأحمد الأسماء وبإعطائه المفاتيح للأرض ... سما قدره عن (ب) الأدباء وبتفضيلنا على أمم الرسل ... رحمة منه أرحم الرحماء [هذه السبع ثم ضم إليها ... بعدها ما روي تفز بولاء فبإعطائه اللواء لواء الحمد ... كذا كوثر لسقي الماء ثم شيطانه بإسلامه (جـ) خص ... وغفران (د) ذنبه بالوفاء ثم بعض يقول ستون قد خص (د) ... بها الله سيد الأمناء ولبعض نيف مع (هـ) مائتين ... وبها فضله على الأنبياء] (¬1) (و) وقد ورد غير ذلك، ففي (ز) حديث البزار عن أبي هريرة رفعه (¬2): "فضلت على الأنبياء بست: غفر لي ما تقدم من ذنبي وما تأخر، وجعلت أمتي خير الأم، وأعطيت الكوثر، وإن صاحبكم لصاحب لواء الحمد يوم القيامة تحته آدم فمن دونه"، وذكر ثنتين مما تقدم، وله من حديث ابن عباس (¬3) رفعه: "فضلت على الأنبياء بخصلتين: كان شيطاني كافرا فأعانني الله عليه فأسلم"، قال: ¬

_ (أ) في جـ: خواتم. (ب) في هـ: على. (جـ) في جـ: بإسلام. (د - د) سقط هذان الشطران من جـ. (هـ) في جـ: عن. (و) بهامش الأصل. (ز) في هـ: وفي.

ونسيت الأخرى. وقد ذكر أبو سعيد النيسابوري في كتاب "شرف المصطفى": إن الخصائص ستون. قال السيوطي (¬1): ثم لما صنفت كتاب "المعجزات (أ) والخصائص" تتبعتها فزادت على المائتين، وظاهر الحديث يدل على أن كل خَصْلة من هذه لم تكن لأحد قبله. * فقوله (ب): "مسيرة (جـ) شهر"، نصب على أنه مفعول فيه بتقدير في، وفي حديث أحمد عن أبي أمامة "يقذف في قلوب أعدائي" (¬2)، وفي الطبراني عن ابن عباس (د) بالرعب على عدوه (هـ) مسيرة شهرين (¬3)، وأخرج عن السائب بن يزيد مرفوعًا: "نصرت بالرعب شهرا أمامي، وشهرا (و) خلفي" (¬4)، وهو جامع بين حديث شهر وشهرين، وإنما جعل الغاية الشهر لأنه لم يكن بينه وبين (ز) أحد من أعدائه أكثر منه وهذه الخصوصية (حـ) حاصلة له، وإن لم يكن معه عسكر، وهل هي حاصلة لأمته؟ فيه احتمال (¬5). ¬

_ (أ) في جـ: المعرات. (ب) في هـ: بقوله، وجـ وب: وقوله. وزاد في هـ وب: نصرت بالرعب. (جـ) في ب: مسير. (د) زاد في هـ: نصر. (هـ) في جـ: عدو. (و) في جـ: في شهر. (ز) ساقطة من جـ. (حـ) في جـ: الخصيصة.

* وقوله: "وجعلت لي الأرض مسجدا": أي موضع سجود، لا يختص السجود منها بموضع دون غيره، ويحتمل أن يراد بالمسجد المسجد المبني للصلاة فيكون الكلام تشبيها بليغا، وهذه لم تكن لغيره كما صرح به في رواية عمرو بن شعيب بلفظ: "وكان من قبلي إنما كانوا يصلون في كنائسهم"، وفي حديث البزار من حديث ابن عباس نحو حديث الباب، وفيه: "ولم يكن أحد من الأنبياء يصلي حتى يبلغ محرابه"، وبهذا (أ) الوارد يندفع ما قيل: إن الخصوصية مجموع الأمرين: مسجدا وطهورا، قال: لأن عيسى كان يسبح ويصلي حيث أدركته وما قيل: إن من قبله أبيح لهم الصلاة في أماكن يتيقنون طهارتها، بخلاف هذه الأمة فإن لهم أن يصلوا (ب) فيما لا يتيقنون نجاسته. وقوله: "وطهورا"، يحتمل أن يكون معنى (جـ) الطهور (د) الطاهر في نفسه، ولكنه لا يبقى (هـ) فيه معنى الخصوصية، إذ (و) هي طاهرة (ز) له ولغيره، ويحتمل أن يكون (دـ) معناه أنه مطهر (حـ) لغيره، وهذا هو المراد، ويؤيده حديث ابن المنذر وابن الجارود بإسناد صحيح عن أنس مرفوعًا: "جعلت لي الأرض طيبة، مسجدا وطهورا" (¬1)، ومعنى "طَيّبة": طاهرة فلو كان طهورا بذلك المعنى لكان تكريرا. * ويفهم من الحديث أن التيمم يرفع الحدث كالماء لاشتراكهما في هذا ¬

_ (أ) في هـ: وهذا. (ب) في ب: يصلون. (جـ) ساقطة من جـ. (د - د) بهامش جـ. (هـ) في جـ: الواو ساقطة، وفي هـ: ولكنه لا شيء يبقى. (و) في جـ: أي. (ز) في ب: طاهر. (حـ) في هـ: يطهر.

الوصف، وعلى أن التيمم جائز بجميع (أ) أجزاء الأرض، وفي رواية أبي أمامة بقوله: "وجعلت لي الأرض كلها ولأمتي مسجدا وطهورا" (¬1)، وقد يُدفع ذلك برواية مسلم: "وجعلت تربتها طهورا" (¬2). ويجاب عنه بأن ذكر حكم بعض ما تناوله العام لا يخصص كما هو المختار، والمفهوم مفهوم (ب) لقب لا يعمل به. وقد يجاب بأن الحديث عند مسلم من حديث حذيفة: "وجعلت لنا (جـ) الأرض كلها مسجدا، وجعلت تربتها لنا طهورا إذا لم نجد الماء" (¬3) فوقع التعميم والتأكيد بكلها في جعلها مسجدا دون المعطوف، فدل على عدم التعميم في المعطوف، وإلا لكان العطف على نسق واحد، ويجاب عنه بما تقدم، [إلا أنه يدفع بقوله تعالى: {فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه} (¬4) قال الزمخشري (¬5): فإنْ قلتَ: لا يفهم أحد من العرب من قول القائل مسحت برأسي من الدهن أو غيره إلا معنى التبعيض، قلتُ: هو كما تقول، والإِذعان للحق خير من الراء. انتهى] (د). * وقوله: "فأيما رجل": "أي" شرطية، وهي في محل رفع على أنها مبتدأ، ولفظ "ما" زائدة للتأكيد، وهي للعموم. ¬

_ (أ) في ب: لجميع. (ب) بهامش هـ. (جـ) في جـ: لي. (د) بهامش الأصل.

* وقوله: "فليصل"، هذا هو الجزاء، والمعنى: على كل حال، وإن لم يكن متوضئا ولم يجد المسجد، والمراد: فليصل بالتيمم. وحديث جابر مختصر (أ)، ويدل على ذلك رواية أبي أمامة عند البيهقي: "فأيما رجل من أمتي أتى (ب) الصلاة فلم يجد ماء؛ وجد الأرض طهورا ومسجدا" (¬1) وعند أحمد: "فعنده طهوره ومسجده" (جـ) (¬2). * وقوله: "وأحلت لي الغنائم"، وفي رواية الكشميهني: "المغانم"، وهي رواية مسلم (¬3)، قال الخطابي (¬4): كان من تقدم على ضربين: منهم من لم يؤدن له في الجهاد، فلم يكن لهم مغانم، ومنهم من أذن له (د) فيه، لكن إذا غنموا شيئًا لم يحل لهم أن يأكلوه، وجاءت نار فأحرقته، وقيل: المعنى أحل لي التصرف فيها بالتنفيل والاصطفاء والصرف في الغانمين، كما قال تعالى {قُلِ الأنفَالُ للهِ والرَّسُولِ} (¬5). * قوله: "وأعطيت الشفاعة": الشفاعة (هـ) الأخروية الثابتة له (و) - صلى الله عليه وسلم - ستة ¬

_ (أ) في جـ: مختص. (ب) في هـ: أقام إلي. (جـ) في جـ: تقديم وتأخير. (د) في هـ: لهم. (هـ) ساقطة من هـ وجـ. (و) في هـ: لقوله.

أنواع، بعضها مختلف فيه، وبعضها متفق عليه، وبعضها مختص به، وبعضها غير مختص. فالأولى (أ): الشفاعة العظمى في إراحة الناس من طول القيام في المحشر وهذه مختصة به كما ورد التصريح بذلك (¬1)، ولا خلاف فيها. والثانية: الشفاعة في إدخال قوم الجنة من دون حساب، وهذه أيضًا قد وردت (ب) لنبينا - صلى الله عليه وسلم - ولا أعلم الاختصاص فيها أو (جـ) عدمه (¬2). والثالثة: الشفاعة لقوم (د) قد استوجبوا النار فيشفع في عدم دخولهم، وفيها الخلاف، والظاهر أنها غير مختصة عند من أثبتها. والرابعة: الشفاعة لقوم دخلوا النار فيشفع في خروجهم (هـ)، وهي مختلف فيها والقائلون بها يقولون هي غير مختصة لورودها في حق الملائكة والأنبياء والمؤمنين والأطفال. والخامسة: الشفاعة في زيادة الدرجات لمن في الجنة، وهذه متفق عليها، ولعلها غير مختصة. والسادسة: ذكرها القرطبي وهي: الشفاعة لعمه أبي طالب في التخفيف عنه (و) كما في حديث مسلم "لعله تنفعه شافعتي، فيجعل في ضحضاح من نار ¬

_ (أ) في جـ وب: فالأول. (ب) في جـ: ورد. (جـ) في هـ: و. (د) في هـ: لقوله. (هـ) في هـ: فشفع فيهم في خروجهم منها. (و) في هـ: عليه.

يبلغ كعبه يغلي منه دماغه" (¬1)، وفي حديث العباس "لولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار" (¬2) والضحضاح الماء القليل استعير للنار وشبهت به في القلة، وهذه مختصة به - صلى الله عليه وسلم -. والسابعة: الشفاعة لمن مات بالمدينة (أ) أخرجه الترمذي (¬3) وصححه. والثامنة: في التجاوز (ب) عن جماعة من صلحاء المؤمنين في تقصيرهم في العبادة ذكرها القزويني في العروة الوثقى. والتاسعة: شفاعته لمن صبر على لأواء المدينة (¬4). والعاشرة: شفاعته لفتح باب الجنة، رواه مسلم (¬5). والحادية عشرة: شفاعته لمن زاره (¬6)، رواه ابن خزيمة في صحيحه عن ابن عمر (¬7). ¬

_ (أ) في هـ: في المدينة ... (ب) جـ: في البخاري.

والثانية عشرة: شفاعته لمن أجاب المؤذن، وصلى عليه، لما في الصحيحين من قوله - صلى الله عليه وسلم -: "حلت له شفاعتي" (¬1) (أ) قال ابن دقيق العيد: والظاهر أن (ب) المعنى في الحديث هي الشفاعة الأولى، إذ هي مختصة، ولعله قد كان سبق من النبي - صلى الله عليه وسلم - الإِخبار بها، فقصد المعهود فيكون العهد خارجيا، وأقول: لعله يحمل على الاستغراق، ومجموع ذلك مختص به - صلى الله عليه وسلم -، ولا حاجة إلى التكلف المذكور. وقوله: و (جـ) كان النبي يبعث ... " إلح، فيه تصريح باختصاصه بذلك دون سائر الأنبياء، وقد يرِدُ أن نوحا كان بعد الطوفان مبعوثا إلى أهل الأرض، لأنه لم يبق إلا مَنْ كان مؤمنا به، وقد كان مرسلًا إليهم، ويدفع بأن ذلك لم يكن في بعثته، وإنما اتفق بالحادث، وقول أهل الموقف: أنت أول رسول إلى أهل الأرض (¬2) ليس المراد عموم البعثة بل أولية الرسالة إلى أهل الأرض، وهو صادق بالنسبة إلى البعض، وقال ابن دقيق العيد (¬3): يجوز أن تكون شريعته عامة بالنسبة إلى التوحيد، وإن كانت خاصة بالنسبة إلى فروع الدين، ولذلك عم الهلاك، ويحتمل أن عدم عمومها عدم بقائها بعده لنسخها بالشرائع بعدها، وأما عموم بعثة نبينا - صلى الله عليه وسلم - فهي ببقائها إلى يوم القيامة. قال الداودي: المختص بالنبي - صلى الله عليه وسلم - مجموع (د) الخمس لا كل واحدة منها، فلا يرد ذلك، وقد غفل، فإن في هذه الخصوصية الأخيرة تصريح بالاختصاص فالوجه أحد ما قيل. ¬

_ (أ) بهامش الأصل. وفيه بعض المسح واستدركه من نسخة هـ. (ب) زاد في ب: الظاهر. (جـ) الواو ساقطة من ب. (د) في جـ: مجمع.

وفي هذا الحديث من الفوائد: مشروعية تعديد نِعَم الله، وإلقاء العلم قبل السؤال، وأن الأصل في الأرض الطهارة، وأن الصلاة لا تختص بالمسجد المبنى (أ) لذلك، وحديث "لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد" ضعيف أخرجه الدارقطني من حديث جابر (¬1)، وقال صاحب المبسوط (ب) من الحنفية: فيه إظهار كرامة الآدمي، قال: لأن آدم خلق من ماء وتراب وهما طهوران. 105 - وعن عمار بن ياسر - رضي الله عنهما - قال: "بعثني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حاجة، فأَجْنَبْتُ، فلم أجِد الماء (جـ)، فتمرَّغْتُ في الصَّعِيدِ كما تتَمرَّغُ الدابة، ثم أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم -، فذكَرت ذلك له، فقال: إنما كان يكفيك أن تقول بيديك هكذا، ثم ضرب بيديه الأرض ضربة واحدة، ثم مسح الشمال على اليمين وظاهر كفيه ووجهه" متفق عليه. واللفظ لمسلم (¬2). وفي (د) رواية للبخاري: "وضرب بكفيه الأرض، ونفخ فيهما، ثم مسح بهما وجهه وكفيه" (¬3). هو أبو اليقْظَان عمارُ بن ياسر (¬4) بن مالك العنسي مولى بني مخزوم وحليفهم، حالف ياسر بعد قدومه من اليمن وسكونه في مكة (هـ) أبا حذيفة بن المغيرة بن مخزوم، فزوجه أَمة له يقال لها: سُمية، فوَلدت (و) عمارا، فأعتقه ¬

_ (أ) في جـ: المسمى. (ب) في هـ: المبسوط، وكتب فوقها: الوسط. (جـ) في جـ: ماء. (د) في هـ: وفيه. (هـ) ساقطة من جـ. (و) زاد في هـ: له.

أبو حذيفة، فهو مولى لأبي حذيفة، أسلم عمار قديما وعذب في مكة، وأحرق بالنار، وكان يمر النبي - صلى الله عليه وسلم - به، فيمر يده عليه ويقول: "يا نار كوني بردًا وسلامًا على عمار كما كنت على إبراهيم" (¬1)، وهاجر إلى الحبشة وإلى المدينة وصلى إلى القبلتين، وهو من (أ) الأولين وشهد بدرا والمشاهد كلها، وأبلى فيها بلاء حسنا وسماه النبي - صلى الله عليه وسلم - الطيب والطيب، قتل بصفين مع علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - سنة سبع وثلاثين، وهو ابن ثلاث وتسعين سنة روى عنه علي بن أبي طالب وابن عباس، ومن أولاده محمد وأبو عبيدة. قوله: فأجنبتُ، أي صرت جنبا، يقال: أجنب، أي صار (ب)، ولا يقال: اجْتُنِبَ (جـ) بصيغة المجهول، وإن وقع في كتب الفقهاء (د) كذا بينه شراح الحديث. وقوله: فتمرغت، و (هـ) في رواية للبخاري (¬2) فتمعكت، المعنى واحد، [أي تقلبت، وكأن عمارا استعمل القياس، وهو أنه لما كان نائبا عن الغسل فحقه أن يعم] (و). وقوله: "إنما يكفيك"، فيه دلالة على أن هذه هي الصفة المشروعة، وأنه الواجب المجزئ، ودل على أنه يكفي ضربة واحدة، وأنه يكفي من (ز) اليد (حـ) ¬

_ (أ) زاد بهامش هـ: المهاجرين. (ب) زاد في هـ: جنبا. (جـ) في جـ: أجنب. (د) في جـ: الفقه. (هـ) الواو ساقطة من هـ. (و) بهامش الأصل. (ز) في جـ: في. (حـ) زاد في هـ: مسح.

الكفان والراحتان، حيث قال: مسح الشمال على اليمين وظاهر الكفين، وأفهم أن الترتيب بين اليدين والوجه غير واجب، وإن كان هذا اللفظ محتملا، وقد عطفه في رواية للبخاري (أ) ثم، فقال: "ثم مسح وجهه" (¬1) بعد أن ذكر حكم الكفين، وفي رواية أيضًا لأبي داود ولفظه (ب): "ضرب بشماله على يمينه" (¬2)، وبيمينه على شماله على الكفين ثم مسح وجهه. وفي رواية للإِسماعيلي ما هو أصرح من (جـ) ذلك ولفظه: "إنما يكفيك أن تضرب بيدك على الأرض، ثم تنفضها، ثم تمسح بيمينك على شمالك وبشمالك على يمينك، ثم تمسح على وجهك" (¬3). ودل الحديث أيضًا على أن التيمم مشروع في حق من أجنب، وفي هذه الأطراف الأربعة خلاف، فالطرف الأول، وهو أنه يكفي ضربة واحدة ذهب إليه: عطاء ومكحول والأوزاعي وأحمد وإسحق وابن المنذر، ونقله عن جمهور العلماء (¬4)، وقال به عامة أهل الحديث (¬5)، وأشار إلى القول به البخاري (¬6)، ورواه في البحر عن الصادق والإمامية (¬7)، وحجتهم هذا الحديث، وذهب إلى أنه لا يكفي الضربة الواحدة، وأَنه لا بد من ضربتين: علي بن أبي طالب وعبد الله بن عمر والحسن البصري والشعبي وسالم بن عبد الله وسفيان الثوري وجمهور العترة ومالك وأبو حنيفة وأصحاب الرأي والشافعي وغيرهم (¬8)، قالوا: لحديث ¬

_ (أ) في هـ: البخاري. (ب) في هـ: ولفظ. (جـ) في هـ: في.

ضربتان (¬1) وسيأتي من (أ) حديث ابن عمر وغيره، وحديث عمار أنكر عليه عمر روايته وابن مسعود لم يعمل به، وأجيب بأن حديث عمار أصح ما ورد في صفة (ب) التيمم، ومثله حديث أبي جهم (جـ) (¬2) ولم يذكر فيه زيادة على أنه أتى الجدار فمسح بوجهه (د) ويديه والظاهر (هـ) أنه فعل واحد وما عداهما فضعيف أو مختلف في رفعه (و) ووقفه، والراجح وقفه، وإنكار عمر لا يقدح فلعله نسي القصة (¬3)، وأما ابن مسعود فقد روي عنده الرجوع إلى الحديث (¬4)، وغاية الأمر أن ما زاد على الضربة الواحدة فغير واجب. وفي قوله: "يكفيك" إيماء إلى أنه الواجب الذي لا يجزئ دونه، وروي عن ابن سيرين أنه لا يجزيء أقل من ثلاث ضربات، ضربة للوجه، وضربة لكفيه، وضربة لذراعيه (¬5) والله أعلم. الطرف الثاني: أنه يكفي (ز) من اليد الكفان والراحتان، وفي المسألة أقوال ¬

_ (أ) في ب: في. (ب) ساقطة من ب. (جـ) في النسخ: جهيم، والتصحيح من مسلم. (د) في هـ: ومسح بوجهه، وفي جـ: فمسح وجهه. (هـ) في هـ: فالظاهر. (و) في هـ: تقديم وتأخير. (ز) في ب: بلغ.

فالأول ما في الحديث وقد ذهب إليه أحمد بن حنبل وإسحق وابن جرير وابن المنذر وابن خزيمة، ونقله ابن الجهم عن مالك (¬1)، ونقله الخطابي عن أصحاب الحديث (¬2)، وقال النووي: رواه أبو ثور وغيره عن الشافعي في القديم (¬3)، ورواه في البحر عن علي والصادق والناصر وغيرهم (¬4)، وأشار البخاري إلى قوة (أ) القول (¬5) به، قالوا: لحديث عمار في الصحيحين، وقد ورد من حديث عمار في السنن بذكر المرفقين (¬6)، وفي رواية "إلى نصف الدراع"، وفي رواية ["إلى المناكب، ومن بطون أيديهم] (ب)، إلى الآباط"، إلا أن في رواية المرفقين، وكذا نصف الذراع مقالا (جـ)، وأما رواية الآباط فقال الشافعي وغيره: إن كان ذلك وقع بأمر النبي صلى الله عليه وسلم فكل تيمم صح للنبي صلى الله عليه وسلم بعده فهو ناسخ له، وإن كان بغير أمره فالحجة فيما أمر به، ولكن رواية الصحيحين تتقوى بأن عمَّارًا كان يفتي بذلك بعد النبي صلى الله عليه وسلم، وراوي الحديث أعرف بالمراد منه من غيره، ولا سيما الصحابي المجتهد. القول الثاني: أنه يجب مسح (د) اليدين مع المرفقين، وهو قول القاسم ¬

_ (أ) ساقطة من هـ. (ب) بهامش الأصل. (جـ) في هـ: يقال. (د) في جـ: مسحة.

والهادي والمؤيد بالله وأبي طالب، والفريقين (¬1) قالوا: لحديث ابن عمر الآتي، وفيه: "لليدين إلى المرفقين"، وقياسا على الوضوء، وقد يجاب عنه بأن حديث ابن عمر الأصح فيه الوقف، وللاجتهاد فيه مسرح، فلا حجة، وأما القياس على الوضوء فهو قياس خالفه النص، فلا يصح، وهو (أ) أيضًا معارض بالقياس على القطع في السرقة (¬2). القول الثالث: للزهري، أنه يجب المسح إلى المنكبين لأن ذلك اسم لليد (¬3) إذا أطلقت ولحديث عمار: إلى الآباط، والجواب أن حديث عمار أقوى في بيان الواجب من اليد، ورواية الآباط قد عرفت ما فيها، وقد روي عن ابن سيرين أنه يجب مسح الذراعين، وقد حكى عن بعض أن الواجب أربع أصابع فقط، والله سبحانه أعلم. (الطرف الثالث: وهو أن الترتيب بين الوجه واليدين غير معتبر وإن تيمم اليدين قبل الوجه، والقائل به (ب) من قال: إن التيمم ضربة واحدة كما هو صريح حديث عمار كما تقدم والعطف في الآية الكريمة بالواو فلا يعارض الحديث، والخلاف في ذلك لمن أوجب ضربتين كما تقدم) (جـ). (الطرف الرابع: هو (د) أن التيمم كاف في حق الجنب، ويقاس عليه ¬

_ (أ) في هـ: وهذا. (ب) ساقطة من ب. (جـ) بهامش الأصل. (د) ساقطة من: هـ وب.

الحائض والنفساء، ولم يخالف فيه أحد من (أ) السلف والخلف إلا ما جاء عن عمر وعبد الله بن مسعود وحكي مثله (ب) عن إبراهيم النخعي، وقيل: إن عمر وابن مسعود رجعا عنه، وأما (جـ) كونه يرفع الجنابة فالعتزة وأكثر الفقهاء لا يرفعها، لقوله في حديث (د) عمرو بن العاص: "صليت وأنت جنب" (¬1)، وقال داود وبعض المالكية وبعض الشافعية: بل يرفع (و) لقوله: وطهورا، وقد تقدم (¬2) (ز). ¬

_ (أ) ساقطة من: هـ. (ب) في جـ: منه. (جـ) في جـ: فأما. (د) زاد في هـ: أن. (هـ) في هـ، جـ: وأنا. (و) في ب: يرتفع. (ز) في نسخة الأصل وب أورد هذا القول بعد قوله: وفي قوله ثم ضرب بعده .. إلى آخر الحديث، قد أشار إلى ذلك. وكذلك في هـ وقال: هذه الغلطة للمردود لم يكن غلط لأنها مصدرة في أصل الكتاب.

وفي قوله: ثم ضرب بيديه (أ) فيه دلالة على أن المشروع هو الضرب وأما وضع التراب فذهب الهادي والناصر إلى أنه لا يجزئ (ب) (¬1)، وقال الشافعي: بل وضع التراب وكذا الذرور يجزئ، لحديث ابن عمر (¬2): وضع يده على الحائط. في رواية. [وفي رواية (جـ): ضرب بيده على الحائط، أخرجه أبو داود (¬3)] (د). وحديث عمار فيه دلالة على الإِجزاء، إذ عمار تمعك في التراب، ولم يأمره النبي صلى الله عليه وسلم بالإِعادة (هـ)، وإنما قال له: "يكفيك"، فهو يدل على أن هذا الواجب لا أن (و) غيره لا يجزئ، وقال الإِمام يحيى: لو معك وجهه ويديه أجزأ لحصول المقصود، ولحديث عمار. وقوله: "ونفخ فيهما"، وفي رواية "أدناهما من فيه"، وفي رواية "تفل فيهما"، والتفل دون البزاق، والنفث دونه، وهو يدل على تخفيف التراب، وقال الهادي والشافعي: النفخ مندوب لهذا، وقال الناصر: لا يندب، إذ في حديث عمار لم ينفضوا من التراب شيئًا، ويجاب بأنه لا ينفي الندب الوارد، وقال الإِمام يحيى: إن كثر التراب نفخ، وإلا فلا جمعا بين الروايتين. وقد يستدل به (ز) على جواز التيمم بالصخر، وما ليس عليه تراب، وفيه ¬

_ (أ) في جـ: بيده. (ب) في هـ: يجزئ لهذا الحديث. (جـ) زاد في ب: أنه. (د) بهامش الأصل وفيه بعض المسح واستدركته من نسخة هـ. (هـ) في جـ: بإعادة. (و) في ب: لأن. (ز) في جـ: ويستدل.

ما تقدم (أ). 106 - وعن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "التَّيممُ ضربتان، ضربةٌ للوجه، وضربة لليديْنِ إلى المرفقين" (ب) رواه الدارقطني (جـ) وصحح الأئمة وقفه (¬1). أخرجه الدارقطني والحاكم والبيهقي من حديث علي بن ظبيان عن (د) عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر، قال الدارقطني: وقفه (هـ) يحيى القطان وهشيم وغيرهما، وهو الصواب، ثم رواه من طريق مالك عن نافع عن ابن عمر مرفوعًا (و)، قال المصنف -رحمه الله تعالى-: وعلي بن ظبيان ضعيف ضعفه القطان وابن معين وغير واحد. وأخرجه أبو داود بسند ضعيف مداره على محمد بن ثابت، وقد ضعفه ابن ¬

_ (أ) في نسخة الأصل قدم جملة: وفي قوله: "ثم ضرب بيديه إلى آخر شرح الحديث على الطرف الرابع، وأشار إلى ذلك، وفي ب كذلك، لكنه كرر كتابه، جملة الطرف الرابع. (ب) زاد في ب: و. (جـ) في جـ: الطحاوي. (د) في هـ: عند. (هـ) في جـ: وفيه. (و) في جـ: موقوفًا.

معين وأبو حاتم والبخاري وأحمد. قال أحمد والبخاري: ينكر عليه حديث التيمم هذا، قال البخاري: خالفه أيوب وعبيد الله والناس وقفوه على ابن عمر. وقال الخطابي (أ): محمد بن ثابت ضعيف (¬1)، ورواه الدارقطني من طريق سالم عن ابن عمر مرفوعًا، لكن فيه سليمان بن أرقم (¬2)، وهو متروك، قال (ب) البيهقي: رواه معمر وغيره عن الزهري مرفوعًا (¬3)، هو الصحيح، ومن طريق سليمان بن أبي داود الحراني (¬4)، وهو متروك أيضًا عن سالم ونافع جميعا عن ابن عمر مرفوعًا بلفظ: "في التيمم ضربتان، ضربة للوجه وضربة لليدين إلى المرافق" (¬5)، (جـ) قال أبو زُرعة: حديث باطل، وقد ورد تثنية الضرب من حديث جابر (¬6)، وإسناده لا بأس به، وصوب (د) الدارقطني وقفه، وحديث أسلع بن شريك أخرجه الطبراني والدارقطني وفيه الربيع بن بدر (¬7)، وهو ضعيف، وعن أبي أمامة رواه الطبراني وإسناده ضعيف أيضًا (¬8)، ورواه البزار ¬

_ (أ) في هـ: الخطاب. (ب) زاد في هـ: وقال. (جـ) زاد في جـ: و. (د) في هـ: وضرب، وهو تصحيف.

وابن عدي (¬1) من حديث عائشة مرفوعًا، تفرد به الحريش عن ابن أبي مليكة عنها، قال أبو حاتم: حديث منكر، والحريش شيخ لا يحتج بحديثه، [وفي الكاشف: الحريش بن الخريت (أ): واه، روى عن ابن أبي مليكة] (ب). وعن عمار قال: كنت في القوم حين نزلت الرخصة فأمرنا فضربنا واحدة للوجه ثم ضربة أخرى لليدين إلى المرفقين. رواه البزار (¬2). 107 - وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "والصَّعيدُ وَضُوءُ المسلم، وإن لم يجد الماءَ عشرَ سنينَ، فإذا (جـ) وجد الماء فلْيتق الله (د)، وليمسه بشرته" رواه البزار وصححه ابن القطان، لكن صوب الدارقطني إرساله (¬3). وللترمذي (¬4) عن أبي ذر نحوه، وصححه الحاكم أيضًا، وأخرج حديث أبي ذر أبو داود وأصحاب السنن من رواية خالد الحذاء، إلا أن لفظ الترمذي: ¬

_ (أ) في جـ: (الحارث). (ب) بهامش الأصل. (جـ) في جـ: وإذا. (د) بهامش هـ.

"طهور المسلم"، ولكن في روايته اختلاف على (أ) أبي قلابة (ب) ورواه ابن حبان والحاكم من طريق خالد الحذاء، وصححه أيضًا أبو حاتم ومدار (جـ) طريق خالد على عمرو بن بجدان (¬1)، وقد وثقه العجلي، وغفل ابن القطان فقال: إنه مجهول. قوله: والصعيد، الصعيد عند الأكثرين هو التراب، وقال الزجاج: الصعيد هو وجه الأرض ترابا كان أو غيره (¬2)، وإن كان صخرا لا تراب عليه، لو ضرب التيمم يده عليه ومسح لكان ذلك طهوره، وهو مذهب أبي حنيفة (¬3)، ولكن قوله تعالى: {منه} (¬4)، والظاهر من لفظ من (د) هو التبعيض، وهو لا يتأتى في الصخر (هـ)، يقتضي أن المراد به التراب، وجوابهم بأن من لابتداء الغاية متعسف لا يتبادر إليه كما لا يتبادر في قولك (و) مسحت من الدهن ومن الماء. وقوله: وضوء المسلم، فيه إرشاد إلى أنه يرفع الحدث كالوضوء، وقد مر الكلام فيه. ¬

_ (أ) زاد في هـ: ابن. (ب) الواو ساقطة من هـ. (جـ) ساقطة من جـ. (د) في جـ: منه. (هـ) في هـ: الصحراء. (و) في جـ: قوله.

وقوله: "وإن لمن يجد الماء .. " إلخ ذكر العشر للمبالغة لأنه بحسب الأغلب لا يكاد يعدم الماء (أ) ذلك القدر. وقوله: "فإذا وجد الماء" إلخ .. فيه إرشاد إلى أنه يجب عليه الإِعادة، فأما في الوقت فهو قول الأكثر، وعن أبي حنيفة والشافعي أنه لا يلزمه الإِعادة رأسا، وأما بعد الوقت فذلك لا يجب إجماعا (¬1) في غير المتيمم (ب) في الحضر، وأما هو فإذا وجد الماء بعد الوقت، وكان لعذر العدم ففيه خلاف الشافعي (جـ) والمؤيد بالله لكونه من الأعذار النادرة، وهذا إذا لم يكن ثم نجاسة على المتيمم، وأما إذا كان نجاسة فقال النووي في شرح مسلم (¬2): إذا جامع الرجل زوجته، وكانا عادمين للماء، فيغسلان فرجيهما ويتيممان ويصليان، ويجزئهما التيمم، ولا إعادة عليهما، فإن لم يغسل الرجل فرجه، وما أصابه من المرأة، وصلى بالتيمم على حاله، فإن قلنا: رطوبة فرج المرأة نجسة لزمه إعادة الصلاة، وإلا فلا يلزمه الإِعادة، وأما إذا كان على بعض أعضاء المحدث نجاسة فأراد التيمم بدلا عنها فمذهبنا ومذهب جمهور العلماء أنه لا يجوز، وقال أحمد (¬3): يجوز (د) أن يتيمم ¬

_ (أ) ساقطة من هـ. (ب) في جـ: التيمم. (جـ) في جـ: للشافعي. (د) زاد في جـ: و.

إذا كان على ثوبه، واختلف أصحابه في وجوب إعادة هذه الصلاة، وقال ابن المنذر: كان الثوري (أ) والأوزاعي وأبو ثور يقولون: يمسح موضع النجاسة بتراب ويصلي، والله أعلم (¬1) انتهى. وقوله: ولمسه بشرته، أي ليتوضأ به (ب). 108 - وعن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: خرج رجلان في سفر، فحضرت الصلاةُ، وليس معهما ماءٌ، فَتيمَّمَا صَعِيدًا طيبًا، فَصَلَّيَا، ثم وجدَا الماء في الوقت فأعاد أحدهما الصلاة والوضوء، ولم يعد الآخر، ثم أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكرا ذلك له، فقال للذي لم يُعِد: "أصَبْتَ السُّنَّةَ، وأَجْزأَتْكَ صلاتُك"، وقال للآخر: "لك الأجر (جـ) مرتيْنِ" رواه أبو داود والنسائي (¬2). الحديث فيه مقال من حيث الإِرسال والوصل، فرواه النسائي مسندًا ومرسلا. ورواه الدارقطني موصولا، ثم قال (¬3): تفرد به عبد الله بن نافع عن الليث عن بكر (د) بن سوادة عن عطاء عنه موصولا، وخالفه ابن المبارك فأرسله، ¬

_ (أ) في جـ: النووي، وهو تصحيف. (ب) ساقطة من هـ. (جـ) بهامش هـ. (د) في جـ: بكري.

وكذا قال الطبراني في الأوسط ثم (أ) لم يروه متصلا إلا عبد الله بن نافع، تفرد به المسيّبي (ب) [بتشديد الياء نسبة إلى جده المسيب المخزومي شيخ مسلم] (جـ) عنه، وقال موسى بن هارون فيما حكاه محمد بن عبد الملك بن أيمن عنه: رَفْعُه وهم من ابن نافع، وقال أبو داود: رواه غيره عن الليث عن عميرة بن أبي ناجية عن بكر (د) عن عطاء مرسلًا، وهذه (هـ) الطريق رواها ابن السكن في صحيحه من طريق أبي الوليد الطيالسي عن الليث عن عمرو بن الحارث وعميرة بن أبي ناجية جميعا عن بكر (و) موصولا، وله شاهد من حديث ابن عباس أخرجه إسحق في مسنده (¬1): "أن النبي صلى الله عليه وسلم بال ثم تيمم فقيل له: إن الماء قريب منك قال (ز) فلعلي لا أبلغه"، والله أعلم. والحديث يدل على أنه لا تجب الإِعادة في الوقت بعد الفراغ من الصلاة، وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي والإِمام (¬2) يحيى، وذهب الأكثر، وهو قول الهادي (¬3) والمؤيد بالله وأبي طالب إلى وجوب الإِعادة في الوقت، لإِطلاق قوله: "فإذا وجد الماء .... " الحديث، ولقوله: {إذَا قُمْتُمْ إلَى الصَّلَاةِ ¬

_ (أ) ساقطة من جـ. (ب) زاد في ب: عنه. (جـ) بهامش الأصل. (د) في جـ: بكري. (هـ) في جـ: وبهذه. (و) في جـ: بكري. (ز) في جـ: فقال.

فَاغْسِلُوا} (¬1) .. والخطاب متوجه مع بقاء الوقت وقد أمكن التأدية في وقتها، وأجيب بأن حديث: "فإذا وجد الماء .. " إلخ مطلق فيمن وجد بعد الوقت، ومن وجد (أ) قبل خروجه وحال الصلاة وبعدها. وهذا مقيد صريح فيمن (ب) وجد في الوقت فيحمل المطلق على المقيد كما هو الواجب، وأيضًا فإنه لم يتعرض فيه لإِعادة الصلاة وإنما ذكر فيه إمساس البشرة. واحتج الإِمام يحيى على عدم وجوب الإِعادة بقوله: "لا ظهران في يوم" (¬2)، ولتأديتها صحيحة، ويجاب عنه بأنه ظهر واحد، فإن الأول انكشف فساده، وبأن الصحة بطلت بالوجود لتجدد الخطاب، وأجاب الإِمام المهدي في "البحر" (¬3) عن جانب الأكثر بأن الحديث محمول على أنهما وجدا بعد الوقت، وهذا التأويل باطل، إذ الحديث مصرح بأنهما وجدا في الوقت. [وقوله: "أصبت السنة": أي الشريعة الواجبة، والسنة تطلق على السيرة محمودة كانت أو مذمومة. وقوله: "وأجزأتك صلاتك": أي كفتك عبادتك عن القضاء، والإِجزاء (جـ) عبارة عن كون الفعل مسقطا لوجوب إعادة العبادة. وقوله: "لك الأجر مرتين": أي حظان من الأجر] (د). 109 - وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - في قوله عزَّ وجلَّ: {وإن ¬

_ (أ) ساقطة من هـ. (ب) في جـ: ممن. (جـ) في جـ: والأخرى. (د) بهامش الأصل.

كُنتُم مرضَى أوْ عَلَى سَفَرٍ}. قال: إذا كانت بالرجل الجراحة في سبيل الله تعالى، والقروح، فيجنب، فيخاف أن يموت إذا اغتسل تيمم (¬1). رواه الدارقطني موقوفًا، ورفعه البزار، وصححه ابن خزيمة والحاكم. الحديث رواه الدارقطني من طريق عطاء بن السائب عن سعيد عن ابن عباس موقوفًا، ورفعه البزار وابن خزيمة والحاكم والبيهقي من طريقه مرفوعًا، وقال البزار: لا نعلم رفعه كذا عن عطاء من الثقات إلا جريرا، وذكر ابن عدي عن ابن معين (¬2) أن جريرا سمع من عطاء بعد الاختلاط. الحديث فيه دلالة على شرعية التيمم في حق الجنب وقد تقدم ذكر الخلاف فيه، وذكر فيه سببا وهو خوف التلف، وأما لخشية الضرر، فالعترة ومالك وأبو حنيفة وأحد قولي الشافعي كذلك (¬3)، {وإن كُنتُم مرْضَى} (¬4) ولم يفصل، وأحد قولي الشافعي وأحمد (¬5): إن لم يخشَ التلف فكالصحيح. قلنا: الجرح ألحقه بخائف التلف، وأما المرض الذي (أ) يأمن معه الضرر فلا يبيح التيمم لخفة الجرح، وقد ذهب إلى هذا العترة والحنفية والشافعية (¬6) وأحمد، وقال داود ومالك والمنصور: يبيح (¬7)، لظاهر قوله تعالى: {وَإن كُنتُم ¬

_ (أ) في هـ: بالذي.

مَرْضَى} (¬1) .. وهو معارض بـ {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ} (¬2) .. ولا حرج في ذلك، "وإذا أمرتم (أ) بأمر فأتوا منه ما استطعتم" (¬3)، وهو مستطاع، وأما شين الخلقة فالفاحش منه كالضرر (ب لا اليسير ب) كأثر الجدري والجرب] (جـ) وأما لعذر العدم فكذلك. والله أعلم. 110 - وعن علي رضي الله عنه قال: انكَسرت إحدَى زندي، فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمرني أن أمسح على الجبائر رواه ابن ماجه بسند واهٍ جدًّا (¬4). الحديث رواه ابن ماجه والدارقطني من حديث عمرو بن خالد (¬5)، [وفيه مقال] (د) ورواه الدارقطني والبيهقي من طريقين آخرين أوْهَى منه. وقال الشافعي في الأم والمختصر: لو (هـ) عرفت إسناده بالصحة لقلت به، وهذا مما أستخير الله فيه. وتكلم فيه أحمد وأغلظ، وأنكره (و) يحيى بن معين وقال: إن كان معمر ¬

_ (أ) في ب: أمر. (ب- ب) بهامش ب. (جـ) بهامش الأصل وفيه بعض المسح واستدركته من نسخة هـ. (د) بهامش الأصل. (هـ) في هـ: لم. (و) في جـ: وأنكر.

حدث بهذا من حديث عبد الرزاق فهو حلال الدم (¬1). وفي الباب عن ابن عمر رواه الدارقطني (¬2)، وقال: لا يصح إسناده، وفي إسناده أبو عمارة محمد بن أحمد وهو ضعيف جدا. وقال البيهقي (¬3): لا يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الباب شيء، وأصح ما فيه حديث عطاء يعني الآتي عن جابر (¬4). وقال النووي (¬5): اتفق الحفاظ على ضعف حديث علي. والحديث يدل على وجوب المسح على الجبيرة (¬6) ولا يحلها، وقد ذهب إلى هذا المؤيد بالله، وأحد قولي الهادي وعن أبي حنيفة، وذهب إليه الفقهاء السبعة فمن بعدهم، وقال به الشافعي، لكن بشرط أن توضع على طهر كما في الخفين، وأن لا يكون تحتها من الصحيح إلا مما لا بد منه، وإلا وجب نزعها إن أمكن، فإن لم يمكن مسح عليها (أ) للضرورة، ووجب القضاء (¬7). والمسح المذكور إنما هو بالماء لا بالتراب لأنه ضعيف. (ب قالوا لهذا الحديث: وهو وإن كان واهي الإِسناد فهو معتضد ب) بما يأتي ¬

_ (أ) في هـ: عليهما. (ب- ب) بهامش هـ.

من حديث جابر (¬1)، وبحديث (أ) ابن عمر، "وهو أنه توضأ، وكفه معصوبة، فمسح عليها وعلى العصابة وغسل ما سوى ذلك" (¬2)، ولأنه عضو تعذر مسه فمسح ما فوقه كشعر الرأس، والمسح جزء من الغسل، فلا (ب) يسقط بتعذر الدلك كالصب، وذهب أبو العباس وأبو طالب وهو أحد قولي الهادي (¬3)، وعن أبي حنيفة (¬4) إلى أنه لا يمسح ولا يحل بل يسقط كعبادة تعذرت (جـ) ولأن الجبيرة كعضو آخر، وآية الوضوء لم تناول المسح، والجواب أن النص يبطل ذلك، وأما إذا خشى من حل الجبيرة سيلان الدم فقط فقال الحقيني: إنه لا يمسح ولا يحل بل يترك ذلك، إذ خَلَلُ البعض أخف من خلل الكل، وقال المؤيد بالله (¬5) والإِمام يحيى: العضو قطعي ونقض الدم للوضوء ظني فيجب الحل. 111 - عن جابر - رضي الله عنه - في الرجل الذي شُجَّ فاغْتَسَلَ فماتَ: "إنما كان يكفيه أنْ يتيمم، ويَعصِب على جُرْحه خِرْقَةً ثم يمسح عليها ويغسل سائر جسده". رواه أبو داود بسند فيه ضعف، وفيه اختلاف على (د) رواته (¬6). ¬

_ (أ) في ب: ولحديث. (ب) في ب: ولا. (ب) في ب: تعذر. (د) في جـ: وهو اختلاف على راويه.

الحديث أخرجه أبو داود من حديث الزبير (¬1) بن خُرَيْق (أ) عن عطاء عن جابر. قال ابن أبي داود تفرد به الزبير (ب). وكذا قال الدارقطني (¬2): قال: و (جـ) ليس بالقوي، وخالفه الأوزاعي فرواه عن عطاء عن ابن عباس. قال المصنف رحمه الله (¬3) -: وهو الصواب. ورواه أبو داود من حديث الأوزاعي قال: بلغني عن عطاء عن ابن عباس (¬4)، ورواه الحاكم (¬5) من حديث الأوزاعي: حدثني عطاء، وقال الدارقطني: اختلف فيه عن الأوزاعي. والصواب: أن الأوزاعي أرسل آخره عن عطاء (¬6)، وهي (د) رواية ابن ماجه (¬7). وقال أبو زُرعة وأبو حاتم: سمعه الأوزاعي من إسماعيل بن مسلم عن عطاء، ونقل ابن السكن عن أبي داود أن حديث الزبير بن خريق (هـ) أصح من حديث الأوزاعي، إلا أنه لم يقع في رواية عطاء هذة عن ابن عباس ذكر للتيمم فيه، فثبت أن الزبير بن خريق (و) تفرد بسياقه. نبه على ذلك ابن القطان (¬8)، ولم يقع في رواية عطاء أيضًا ذكر المسح ¬

_ (أ) في جـ: حرب، والصواب ما أثبتناه. (ب) زاد في هـ: ابن خريق. (جـ) ساقطة من هـ. (د) في ب: وهو. (هـ) في جـ: جرير. (و) ساقطة من ب.

على الجبيرة، فهو أيضًا من أفراد الزبير بن خريق. والحديث بهذه الرواية يدل على أنه يجمع بين التيمم والمسح والغسل، ولعله يحمل على (أ) أن أعضاء التيمم جريحة والشج كما ذكر في غيرها، فالمسح عليها بالماء لذلك وسائر الأعضاء صحيحة فيغسلها، (ويدل على شرعية التيمم في حق واجد الماء، فإنه صرح بالجمع). وذهب طاوس إلى أنه لا يشرع (ب)، لقوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ (جـ) تَجِدُوا مَاءً} (¬1) فشرط العدم مع المرض. والجواب [أن] (د) هذا الحديث، وحديث عمرو، ومفهوم الشرط إنما يعمل به مع عدم المعارض، وقد وجد] (5) والله سبحانه أعلم. 112 - وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: من السُّنَّة أن لَّا يصلِّيَ الرجل بالتيمُم إلَّا صلاةً واحدةً، تم يتيممُ للصلاةِ الأخرى. رواه الدارقطني بإسناد ضعيف جدا (¬2). الحديث أخرجه الدارقطني والبيهقي من طريق الحسن بن عمارة (¬3) عن الحكم عن مجاهد عنه والحسن ضعيف جدا. وفي الباب موقوفًا (و) عن علي وابن عمر وعمرو بن العاص. ¬

_ (أ) في جـ: لا يشترط. (ب) في جـ: ولم. (جـ) زيادة من ب ويقتضيها السياق. (د) بهامش الأصل وب. وفيه بعض المسح واستدركته من نسخة هـ. (هـ) في جـ: مرفوعًا. (و) زاد في جـ: يفتي.

أما علي فرواه الدارقطني (¬1)، وفيه حجاج بن أرطأة (¬2)، والحارث الأعور (¬3). وأما ابن عمر فرواه البيهقي (¬4) عن الحاكم من طريق عامر الأحول عن نافع عن ابن عمر. قال: يتيمم لكل صلاة وإن لم يحدث، قال البيهقي: هو أصح ما في الباب. قال: ولا نعلم له مخالفا من الصحابة. وأما عمرو بن العاص فرواه الدارقطني (¬5) من طريق عبد الرزاق عن معمر عن قتادة أن عمرو بن العاص كان يتيمم لكل صلاة، وبه (أ) كان يفتي قتادة، وهذا فيه إرسال شديد بين قتادة وعمرو. والحديث يدل على أن التيمم لا يكفي لصلاتين دلالة صريحة، إذ قوله: من السنة متبادر منه سنة النبي صلى الله عليه وسلم كما هو المختار، وهو وإن كان إسناده ضعيفا، فقد تأيد بما روي في الباب كما تقدم، ولقوله تعالى: {إذا قُمْتُمْ ...} فظاهرها الوجوب لكل صلاة، وخص الوضوء بالإِجماع وفعل النبي ¬

_ (أ) زاد في جـ: يفتي.

صلى الله عليه وسلم في سفر الفتح فبقي التيمم، وقد ذهب إلى هذا الهادي والقاسم والمؤيد وأبو طالب وزيد بن علي وأحد قولي الناصر والشافعي وغيرهم من الصحابة والتابعين (¬1)، وذهب الإمام يحيى وأحد قولي الناصر وأبو حنيفة وأصحابه والحسن بن صالح (¬2) إلى أَنه يصلي بالتيمم الواحد ما شاء كالوضوء، وكالنوافل، ولعموم الأخبار والآية. والجواب: أن الوضوء يرفع الحدث، والنوافل مخفف حكمها، فتصلى على الرحلة ونحو ذلك، والعموم مخصص بما ذكرنا (أ) وقال أبو ثور: تصح به الفريضتان المجتمعتان لأن الجمع يصيرهما كالواحدة (¬3). والجواب: أن (ب) ذلك غير معتبر إذ العبرة بتغايرهما ذاتا لا وقتا. [اشتمل هذا الباب على عشرة أحاديث] (جـ). ¬

_ (أ) في هـ: بما ذكرناه. (ب) زاد في هـ: غير. (جـ) بهامش الأصل وفيه نص المسح واستدركته من هامش نسخة هـ.

باب الحيض

باب الحيض الحيض معناه لغة: السيلان، وهو اسم لخروج الدم من الفرج في الحيوانات على أي صفة كان من آدمية أو غيرها (¬1)، حتى قالوا: حاضت الأرنب إذا خرج من فرجها الدم، وقد يسمون ما يخرج من الشجر من الصمغ الأحمر حيضا. فيقولون حاضت السمرة: إذا خرج منها ذلك. وفي الشرع (¬2): الدم وما في حكمه الخارج من رحم المرأة في وقت مخصوص. [قال أهل اللغة: يقال: حاضت المرأة تحيض حيضا ومحيضا ومحاضا فهي حائض بلا هاء، وحكى الجوهري عن الفراء: حائضة بالهاء، ويقال: حاضت وتحيضت ودرست وطمثت وعركت وضحكت ونفست كله بمعنى واحد، وزِيد: أكبرت وأعصرت بمعنى حاضت (¬3). 113 - وعن عائشة] (أ) - رضي الله عنها - "أن فاطمة بنت أبي حبيش كانت تستحاض، فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: إن دم الحيض دمٌ أسودُ يعرف، فإذا كان ذلك فأمسكي عن الملاة، فإذا كان الآخر فتوضئي وصلي". رواه أبو داود والنسائي وصححه ابن حبان والحاكم (¬4) واستنكره ¬

_ (أ) بهامش الأصل وفيه بعض المسح واستدركته من نسخة هـ.

أبو حاتم (¬1). وفي (أ) حديث أسماء بنت عميس عند أبي داود (¬2): "ولتجلسن في مركن. فإذا رأت صفرة فوق الماء فلتغتسل للظهر والعصر غسلا واحدا، وتغتسل (ب) للمغرب والعشاء غسلا واحدا، وللفجر غسلا، وتتوضأ فيما بين ذلك". هي فاطمة بنت أبي حُبَيْش بضم الحاء المهملة وفتح الباء الموحدة وسكون الياء وبالشين المعجمة ابن المطلب بن أسد بن عبد العزى القرشية الأسدية. روى عنها عروة بن الزبير، وقيل: عروة عن عائشة عنها، وأم سلمة، وهي زوجة عبد الله بن جحش (¬3). وأسماء بنت عميس (¬4) خثعمية، وفي نسبها اختلاف كثير. هاجرت إلى أرض الحبشة مع زوجها جعفر بن أبي طالب، فولدت هناك محمدا وعبد الله وعونًا، ثم هاجرت إلى المدينة، فلما قتل جعفر تزوجها أبو بكر فولدت له محمدا، فلما مات أبو بكر الصديق (جـ) تزوجها علي بن أبي طالب فولدت له يحيى. روى عنها ابنها (د) عبد الله بن جعفر وعمر بن الخطاب وعبد الله بن عباس وأبو موسى الأشعري وعبد الله بن شداد. ¬

_ (أ) ساقطة من جـ. (ب) في جـ: ولتغتسل. (جـ) بهامش ب. (د) ساقطة من هـ.

وعُمَيْس بضم العين المهملة وفتح الميم وسكون الياء وبالسين المهملة: قوله: تستحاض، الاستحاضة: جريان الدم من فرج المرأة في غير أوانه وهو يخرج من عِرْق يسمى العاذِل بالعين المهملة وكسر الذال المعجمة، "العرق الذي يسيل منه في أدنى الرحم دون قعره. قالوا: ودم الحيض يخرج من قعر الرحم. الحديث الأول فيه دلالة على أنه يعتبر (أالتمييز بصفة الدم، بقوله: "دم أسود يعرف" أي تعرفه النساء، وقد ذهب أ) إلى هذا الناصر والشافعي (¬1) في حق المبتدأة. وقوله في حديث أسماء: "لتجلس في مِركن": هو بكسر الميم الإِجانة التي تغسل فيها الثياب، والميم زائدة وهي التي تخص الآلات. وقوله صفرة أي صفرة الشمس، وفي نسخة صفارة، أي إذا زالت الشمس، وقربت من العصر حتى ترى فوق الماء من شعاع (ب) الشمس شبه صفارة لأن شعاعها يتغير ويقل فيضرب إلى صفرة. [وأسماء بنت عميس سألت النبي صلى الله عليه وسلم، وقالت: إن فاطمة بنت أبي حبيش استحيضت منذ كذا وكذا فلم تصل. فقال صلى الله عليه وسلم: "سبحان الله إن هذا من الشيطان، لتجلسن ... " الحديث. وقد جاء في حديث عائشة (¬2) في شأن أم حبيبة بنت جحش كانت (ب) تغتسل في مركن في (د) حجرة أختها زينب بنت جحش حتى تعلو حمرة الدم الماء، والمراد به أنها (هـ) تجلس في ¬

_ (أ- أ) بهامش هـ. (ب) في جـ: الشعاع. (ب) في هـ: وكانت، وفي ب: فكانت. (د) في هـ: من. (هـ) في جـ: أنها ساقطة، وفي ب: بها.

مركن وتصب عليها الماء فيختلط الماء المتساقط عنها بالدم، (أفيحمر الماء أ) ثم أنه لا بد أنها تتنظف بعد ذلك عن تلك الغسالة المتغيرة. وهذا (ب) لا ينافي تفسير صفرة فوق الماء بصفرة الشمس، لأنها بالنظر إلى جمع الصلاتين في (جـ) آخر الوقت، وهذا معنى آخر مذكور في هذه الرواية] (د) وفي هذه الرواية (هـ) الأمر بالاغتسال للصلاة. وفي حديث حمنة (¬1) الآتي وهو مروي عن ابن عمر وابن الزبير وعطاء بن أبي رباح، فقالوا: يجب عليها الاغتسال لكل صلاة، وروي هذا أيضًا عن علي (و) وابن عباس، وروي عن عائشة أنها قالت: تغتسل كل يوم غسلا واحدا وعن ابن المسيب والحسن قالا: تغتسل من صلاة الظهر إلى صلاة الظهر (ز) دائما. [وقد بوب أبو داود (¬2) لهذه الأقوال في السنن، وذكر الأحاديث الواردة في ذلك] (حـ) وذهب الجمهور (¬3) إلى أنه لا يجب عليها، وإنما يجب عليها عند إقبال الطهر، قالوا: لأن الأصل عدم الوجوب فلا يجب إلا ما ورد الشرع بإيجابه، ولم يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمرها بالغسل إلا مرة واحدة عند انقطاع حيضها، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة وإذا أدبرت فاغتسلي" (¬4). ¬

_ (أ- أ) ساقطة من جـ. (ب) في ب: وهذه. (جـ) في جـ: من. (د) بهامش الأصل. (هـ) ساقط من هـ. (و) في هـ: روي أيضًا هذا عن علي. وفي جـ: "أيضًا" ساقطة. (ز) في جـ: العصر. (جـ) بهامش الأصل.

وفي حديث أم حبيبة الآتي (¬1) وإنما ذكر فيه أنها كانت تغتسل لكل صلاة، ولم يأمرها بذلك، وهذا لا يقتضي إلا ما ذكر. وأما الأحاديث الواردة في سنن أبي داود والبيهقي وغيرهما (أ) أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرها بالغسل فليس فيها شيء ثابت. وقد بين البيهقي ضعفها (¬2)، والصحيح ما في الصحيحين من حديث أم حبيبة المذكور قال الشافعي رحمه الله تعالى (¬3): إنما أمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تغتسل وتصلي وليس فيه أنه أمرها أن تغتسل لكل صلاة. قال: ولا أشك إن شاء الله أن غسلها كان تطوعا غير ما أمرت به وذلك واسع لها. هذا كلام الشافعي بلفظه، وكذلك قاله (ب) شيخه سفيان بن عيينة والليث بن سعد وغيرهما، وعباراتهم (جـ) متقاربة. والله أعلم. انتهى. [وقال الطحاوي (¬4): حديث أم حبيبة منسوخ بحديث فاطمة بنت أبي حبيش، أي لأن فيه الأمر بالوضوء لكل صلاة لا الغسل. والجمع بين الحديثين (د بحمل الأمر د) في حديث فاطمة على الندب أولى. والله أعلم] (هـ). 114 - وعن حَمنة بنت جحش قالت: كنت أستحاض حيضة كبيرة شديدة، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم أستفتيه. فقال: "إنما هي ركْضَةٌ من ¬

_ (أ) في ب: وغيرها. (ب) في ب: قال. (جـ) في ب: وعبارتهم. (د- د) بهامش ب. (هـ) بهامش الأصل.

الشيطان فَتَحِيضي ستةَ أيام أو سبعة ثم اغتسلي (أفإذا اسْتَنْقَأتِ فصلّي أربعة وعشرين أو ثلاثة وعشرين، وصومي وصلي أ) فإن ذلك يُجْزِئك، فكذلك فافعلي كما تحيض النساء، فإن قَوِيتِ على أن تؤخري الظهر وتعجلي العصر، ثم تغتسلي حين تطهرين، وتُصلِّين الظهر (ب) والعصر جميعا، ثم تؤخِّرينَ المغربَ والعشاءَ، ثم تغتسلين وتجمعين بين الصلاتيْنِ فافْعِلي، (جـ وتغتسلين مع الصبح. قال: وهو (د) أعجب [الأمرين] (5) (هـ) إليَّ" (¬1). رواه الخمسة جـ) إلا النسائي وصححه الترمذي (¬2)، وحسنه البخاري. حَمْنَة بنت جَحْش بفتح الحاء المهملة وسكون الميم وبالنون (و)، أخت زينب زوج النبي صلى الله عليه وسلم الأسدية من أسد خزيمة، والصحيح أن هذا اسمها. وقيل إن اسمها حبيبة أو أم حبيبة، وكانت تحت مصعب بن عمير فقتل (ز) عنها يوم أحد، فتزوجها طلحة ابن عبيد الله. وروى عنها ابنها عمران بن طلحة. وكانت تستحاض هي وأختها أم (ح) حبيبة (¬3). ¬

_ (أ- أ) بهامش هـ. (ب) في ب: للظهر. (جـ - جـ) بهامش هـ. (د) في جـ: وهذا. (هـ) بهامش الأصل وجـ وكذلك إلي بهامش هـ. (و) في جـ: والنون. (ز) في جـ: قتل. (ح) ساقطة من جـ.

الحديث أخرجه أيضًا أحمد وابن ماجه والدارقطني والحاكم من طريق عبد الله بن محمد بن عقيل (¬1) عن إبراهيم بن محمد بن طلحة عن عمه عمران بن طلحة عن أمه حمنة بنت جحش. قال البيهقي: تفرد به ابن عقيل، وهو مختلف في الاحتجاج به (¬2) و (أ) قال ابن منده: لا يصح بوجه من الوجوه، لأنهم أجمعوا على ترك حديث ابن عقيل (¬3) كذا قال. وتعقبه ابن دقيق العيد (¬4)، واستنكر منه هذا الإِطلاق. قال المصنف -رحمه الله- (¬5): لكن ظهر لي أن مراد ابن منده بذلك من خرج الصحيح، وهو كذلك. وقال ابن أبي حاتم (¬6): سألت أبي عنه فوهنه، ولم يقو إسناده (¬7). قوله: إنما هي ركضة، الركض: الضرب بالرجل، والمعنى إن الشيطان قد وجد طريقا إلى التلبيس (ب) عليها في أمر دينها وطهرها وصلاتها، حتى أنساها ¬

_ (أ) الواو ساقطة من هـ. (ب) في هـ: التلبس.

ذلك عادتها، وصار (أ) في التقدير كأنها ركضة. قاله كذا في النهاية (¬1)، وإطلاق الركضة على التلبيس مجاز لأن التلبيس (ب) فعل غير حسي من أفعاله، وقد حصل أثر التلبيس فشبه بالركض الذي هو فعل حسي له أثر قوي مبالغة في تحقيق الأثر، وخص الركض من بين الأفعال للدلالة على الاستحكام، وأنه لا مدافعة من المفعول. وقوله: "ستة أيام أو سبعة" ليس للتخيير ولا للشك من الراوي، وإنما هو لما كان العددان هما (جـ) الغالب ردها إلى الأوفق منهما، بعادات (د) النساء المماثلات لها في السن المشاركات لها في المزاج بسبب القرابة والمسكن. وقوله: قال (هـ) وهو أعجب (و) إلي (ز) من كلام النبي صلى الله عليه وسلم وقال أبو داود (¬2) وفي رواية عمرو (ح) بن ثابت (¬3) قال: قالت حمنة: فقلت هذا أعجب الأمرين إلي، ولكن هذا عمرو رافضي، رجل سوء. واعلم أن الحديث المذكور يدل بظاهره (ط) على أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرها بعادة النساء في الحيض والطهر، وأن الأمر بالاغتسال إنما ناطه بقوتها، فكان (ي) قرينة على أنه رخصة، وليس بعزيمة في حقها، ويدل على ذلك ما في ¬

_ (أ) في هـ وب: وصارت. (ب) ساقطة من جـ، وفي هـ: التلبس. (جـ) في ب: هو. (د) في جـ: فعادات. (هـ) ساقطة من ب. (و) زاد بهامش جـ وهـ: الأمرين. (ز) زاد في هـ: هو. (ح) في جـ: عمر. (ط) في هـ: ظاهره. (ي) في ب: فكانت، وجـ: وكان.

صدر هذا الحديث "آمرك بأمرين أيهما صنعت أجزى عنك من الآخر". 115 - وعن عائشة - رضي الله عنها - أن أم حبيبة بنت جحش شكت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الدم، فقال: "امكثي قدر ما كانت تحْبِسُك حَيْضَتُك، ثم اغتسلي. فكانت تغتسل لكل صلاة" (¬1). رواه مسلم وفي رواية للبخاري: "وتوضئي لكل صلاة" (¬2). وهي لأبي داود وغيره (أ) من وجه آخر. هي أم حبيبة بنت جحش الأسدية (¬3). قال الدارقطني: قال إبراهيم الحربي: الصحيح أنها أم حبيب بلا هاء واسمها حبيبة. قال الدارقطني: قول (ب) الحربي صحيح، وكان من أعلم الناس بهذا الشأن. قال غيره: وقد روي عن عمرة عن عائشة أن أم حبيب. وقال أبو علي الغساني: الصحيح أن اسمها حبيبة. قال: وكذلك (جـ) قال الحميدي عن سفيان ¬

_ (أ) بهامش هـ. (ب) زاد في ب وجـ: إبراهيم. (جـ) مكررة في هـ.

و (أ) قال ابن الأثير (¬1): يقال لها أم حبيبة، وقيل أم حييب، والأول (ب) أكثر، وكانت مستحاضة، قال: وأهل السير يقولون: المستحاضة أختها حمنة، قال ابن عبد البر (¬2): الصحيح أنهما كانتا تستحاضان (جـ) و (د) كانت تحت عبد الرحمن بن عوف، ووقع في الموطأ (¬3) أن زينب بنت جحش هي زوج عبد الرحمن، فقيل: وهم (¬4)، وقيل: بل صواب، وأن اسمها زينب (هـ) وكنيتها أم حبيبة، ولا ينافيه أن اسم أختها أم المؤمنين ذلك لأنه لم يكن اسمها الأصلي، وإنما اسمها برة، فغيره (و) النبي صلى الله عليه وسلم، وفي أسباب النزول ذلك (¬5)، وأن تغييره بعد زواجه بها، فسماها النبي صلى الله عليه وسلم باسم أختها لكون أختها غلب عليها أم حبيبة فأمن اللبس، ولم ينفرد الموطأ بتسمية أم حبيبة زينب، فقد روى أبو داود الطيالسي في مسنده (¬6) عن (ابن) (ز) أبي ذئب الحديث فقال: إن زينب بنت جحش. والحديث يدل على أن المستحاضة إذا كانت (ح) لها عادة رجعت إليها، ثم ¬

_ (أ) الواو ساقطة من ب. (ب) في ب: فالأول. (جـ) في جـ: مستحاضتان. (د) الواو ساقطة من هـ. (هـ) زاد في هـ: منذ، ولا معنى لها. (و) في هـ: فغير. (ز) بهامش الأصل وجـ. (ح) في جـ: كان.

تغتسل بعد مضيها وقوله: فكانت تغتسل لكل صلاة تقدم الكلام عليه. وقوله: وفي رواية للبخاري (¬1) إلخ (أ) وقوله: وهي لأبي داود إلخ رواه أبو داود (ب) عن عبد الصمد عن سليمان بن كثير قال: "توضئي (جـ) لكل صلاة" (د) قال أبو داود: وهذا وهم من عبد الصمد والقول فيه قول أبي الوليد (¬2). واعلم أن المستحاضة لها أحكام مفصلة في كتب الفقه مستوفاة، والأحاديث الواردة فيها مختلفة مضطربة، ففي حديث فاطمة بنت قيس ما يدل على أنه يعتبر التمييز بصفة الدم مطلقا، كما في حديث الباب من غير استفصال لما هي عليه من كونها مبتدأة أو معتادة ذاكرة لعادتها (هـ أو ناسية هـ)، وفي حديثها عند مسلم والبخاري: "فإذا أقبلت حيضتك فدعى الصلاة، وإذا أدبرت فاغسلي عنك الدم، ثم صلي" (¬3)، وهذا على دلالة على أن المعتادة ترجع إلى عادتها، ولا يعتبر بصفة الدم (و). [إلا أنه يمكن الجمع بين الحديثين بأن المراد بقوله: فإذا أقبلت حيضتك التي (ز) تميزت لك بصفة الدم فيكون التمييز بصفة الدم] (ح). وحديث حمنة فيه دلالة على أنها ترجع إلى الحالة الأغلبية للنساء مطلقا، ولعله يقرب تأويله بأنها مبتدأة لم تثبت لها عادة، إذ رجوعها إلى ما تعودته أغلب موافقة للظن من رجوعها إلى عادة غيرها، وفي صدر حديثها ما يدل على أنه يجب ¬

_ (أ) ساقطة من جـ. (ب) ساقطة من جـ. (ب) في جـ: توضأ. (د) زاد في ب: و. (هـ - هـ) بهامش هـ. (و) زاد في ب: فيكون التمييز بصفة الدم. (ز) في جـ: الذي. (ح) بهامش الأصل.

عليها دفع الدم بما أمكن، حيث قال لها: "أنعت لك الكرسف فإنه يذهب الدم، قالت: هو أكثر من ذلك، قال: فتلجمي، قالت: هو أكثر من ذلك، قال: فاتخذي ثوبا، قالت: هو أكثر من ذلك إنما أثج ثجا". الحديث. والتلجم هو: شد الفرج بثوب (¬1)، وهو مثل الاستثفار (أوقد تقدم في نواقض (¬2) الوضوء أ). قال النووي في "شرح مسلم" (¬3): "تؤمر بالاحتياط في طهارة الحَدَث وطهارة النَّجَس فتغسل فرجها قبل الوضوء وقبل التيمم وتحشو فرجها بقطنة أو خرقة دَفْعًا للنجاسة وتقليلًا لها، وإنْ لم يندفع بذلك شدت مع ذلك على فرجها أو تَلَجَّمَتْ وهو أن تَشُدَّ على وسطها خرقة أو خيطًا ونحوه على صورة التكة وتأخذ وسطها إحداهما قدامها عند سرتها والأخرى خلفها وتُحْكِمُ ذلك الشد وتلصق هذه الخرقة المشدودة بين الفخذَيْن بالقطة التي في الفرج إلصاقا جيدًا، وهذا الفعل يسمى "تَلَجُّمًا" و "استثفارًا" و "تعصيبًا". قال أصحابنا: "وهذا الشدُّ والتلجم واجبان إلا أن تتأذى من الدم أو تكون صائمة فتترك الحشو في النهار خلفًا. قالوا: ويجب تقديم الشد والتلجم على الوضوء، وتتوضأ عقيب الشد من غير إهمال (¬4). فإن شدت وتلجمت وأخرت الوضوء وتطاول الزمان ففي صحة وضوئها وجهان الأصح أنه لا يصح. وإذا زالت العصابة عن موضعها أو ظهر الدم على جوانب العصابة وجب التجديد وإلا ففيها وجهان لأصحابنا. أصحهما وجوب التجديد كما يجب تجديد الوضوء" انتهى كلامه. ومثل هذا ذكره الإمام يحيى. ثم اعلم أن المستحاضة لا تصلي بطهارة واحدة أكثر من فريضة واحدة وما شاءت من النوافل عند الشافعي. ¬

_ (أ- أ) ساقط من جـ، هـ.

وحُكي عن عروة بن الزبير، وسفيان الثوري، وأحمد، وأبي ثور بما تقدم في رواية البخاري: "وتوضئي لكل صلاة"، وفي حديث أسماء: "وتتوضئين فيما بين ذلك". ولأنها طهارة ضرورية لاستمرار الحدث فتقتصر، وذهب العترة وأبو حنيفة إلى أن طهارتها مقدرة بالوقت فلها أن تجمع بين فريضتين تأدية وما شاءت من القضاء والنفل، واحتج الإِمام المهدي في "البحر" على ذلك بقوله صلى الله عليه وآله وسلم في حديث فاطمة: "توضئي لوقت لكل صلاة"، وقد عرفت أن الرواية "وتوضئي لكل صلاة بدون ذكر الوقت" قال المصنف -رحمه الله تعالى- في "الفتح": وعلى قولهم المراد بقوله "لكل صلاة" لوقت كل صلاة فيكون من مجاز الحذف ويحتاج إلى دليل. وعند المالكية يستحب لها الوضوء لكل صلاة ولا يجب إلا بحدثٍ آخر. ثم اعلم أن المستحاضة لها أحكام الطاهر في معظم الأحوال فيجوز لزوجها وطؤها عند الجمهور، وحكاه ابن المنذر في "الإِشراف" عن ابن عباس وابن المسيب والحسن البصري وعطاء وسعيد بن جبير وقتادة وحماد بن أبي سليمان وبكر بن عبد الله المزني والأوزاعي والثوري ومالك وإسحاق وأبي ثور. قال ابن المنذر: وبه أقول. قال: ورويناه عن عائشة -رضي الله عنها- أنها قالت: "لا يأتيها زوجها"، وبه قال النخعي والحكم. وكرهه ابن سيرين، وقال أحمد: لا يأتيها إلا أن يطول ذلك بها، وفي رواية عنه أنه لا يجوز وطؤها إلا أن يخاف زوجها العنت. والمختار ما قدمناه عن الجمهور، والدليل عليه ما روى عكرمة عن حمنة بنت جحش أنها كانت مستحاضة وكان زوجها يجامعها، رواه أبو داود بإسنادٍ حسن. وقال البخاري في "صحيحه": قال ابن عباس: "المستحاضة يأتيها زوجها إذا صلت، الصلاة أعظم".

ولأن المستحاضة كالطاهر في الصلاة والصوم وغيرهما فكذا في الجماع، ولأن التحريم إنما يثبت بالشرع ولم يثبت شرع بتحريمه. فائدة: النسوة المستحاضات في زمنه صلى الله عليه وسلم عشر: بنات جحش الثلاث، زينب أم المؤمنين، وحمنة، وأم حبيبة زوج عبد الرحمن ابن عوف، وسودة بنت زمعة ذكرها العلاء بن المسيب عن الحكم عن أَبي جعفر محمد بن علي بن الحسين، وذكره أَبو داود تعليقا (¬1)، وذكر البيهقي (¬2) أن (أ) ابن خزيمة أخرجه موصولا، وهو مرسل، لأن أبا جعفر تابعس ولم يذكر مَنْ حدثه به، وأم سلمة. قال المصنف -رحمه الله تعالى (¬3) -: قرأت في السنن لسعيد بن منصور: ثنا إسماعيل بن إبراهيم. ثنا خالد هو الحذاء عن عكرمة: أن امرأة من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم كانت معتكفة وهي مستحاضة، قال وحدثنا به خالد (ب) مرة أخرى عن عكرمة أن أم سلمة كانت عاكفة وهي مستحاضة، وربما جعلت الطست تحتها، وأسماء بنت عميس، حكاه الدارقطني (¬4) من رواية سهيل (جـ) بن أبي صالح عن الزهري عن عروة عنها. قال المصنف -رحمه الله-: وهو عند أبي داود على التردد (¬5)، هل هو عن (د) أسماء أو فاطمة بنت أبي ¬

_ (أ) ساقطة من جـ، وذكر بدلا منا "ابن". (ب) في هـ: قالت وحدثنا خالد. (جـ) في بقية النسخ: سهل. (د) في هـ: من.

حبيش، وسهلة (أ) بنت سهيل ذكرها أبو داود أيضًا (¬1)، وأسماء بنت مرشد ذكرها البيهقي وغيره (¬2)، وبادية بنت غيلان ذكرها ابن منده، وفاطمة بنت أبي حبيش وحديثها في الصحيحين، وهي بنت قيس لأن اسم أَبى حبيش قيس، فهؤلاء عشر. وقد روى البيهقي (جـ) أن زينب بنت أم سلمة استحيضت، ولكنها كانت صغيرة في زمنه صلى الله عليه وسلم لأنه دخل على أمها في السنة الثالثة وزينب ترضع. وقيل إن رملة بنت أَبي سفيان زوج النبي صلى الله عليه وسلم (د) استحيضت وأنها المبهمة في البخاري (¬3). والله أعلم. 116 - وعن أم عطية - رضي الله عنها - قالت: "كنا لا نعد الكُدرة والصُّفرة بعد الطهر شيئًا". رواه البخاري وأبو داود واللفظ له (¬4). ¬

_ (أ) في ب: سهل. (ب) في ب: وغيرها. (ب) ساقطة من جـ. (د) زاد في جـ: كانت.

أم عطية (¬1) هي نسيبة بضم النون وفتح السين المهملة وسكون (أ) الياء وفتح الباء الموحدة بنت كعب، وقيل بنت الحارث، الأنصارية بايعت النبي صلى الله عليه وسلم روى عنها إسماعيل بن عبد الرحمن بن عطية ومحمد بن سيرين وأخته حفصة، وعبد الملك (ب) بن عمير وعلي بن الأرقم، وكانت من كبار الصحابيات، وكانت تغزو كثيرًا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فتمرض المرضى، وتداوي الجرحى (جـ) قدمت البصرة، وحصل حديثها عندهم. والحديث يدل على أن [الكدرة، وهي كلون الماء الكدر الوسخ] (د)، والصفرة، وهو الماء الذي تراه المرأة كالصديد يعلوه اصفرار، إذا رئي بعد الطهر لا يعد حيضا لأن قولها كنا: أي في زمن النبي صلى الله عليه وسلم مع علمه بذك، وهو يعطي حكم المرفوع، وبهذا قال البخاري، وجزم الحام وغيره بذك خلافا للخطب (¬2). والمراد بالطهر تمام الحيض، واختلفوا بما يعرف به تمامه، فقيل: يعرف بالجفوف وهو أن يخرج ما تحتشى به جافا، وقيل: بالقصة البيضاء، وإليه ميل البخاري (¬3). وروي عن عائشة - رضي الله عنها - أنها قالت للنساء: لا تعجلن حتى ترين القَصَّة البيضاء (¬4) تريد بذك الطهر، وهي القصة (¬5) بفتح القاف وتشديد الصاد المهملة شبهت الرطوبة النقية الصافية بالحيض، [وقيل: القصة شيء كالخيط الأبيض يخرج بعد انقطاع الدم ¬

_ (أ) في جـ: وكسر. (ب) في ح: وعبد الله. (جـ) زاد في ب: و. (د) بهامش الأصل.

كله] (أ). وإذا انقطع عنها الدم وقت عادتها عاملت نفسها معاملة الطاهر وإن لم تَرَ ذلك. واختلف العلماء في حكم الصفرة والكدرة والحمرة ونحوها (ب) مما ليس بدم أسود غليظ محتذم، فذهب زيد بن علي والهادي والمؤيد بالله وأبو طالب (¬1) وأبو حنيفة (¬2) ومحمد ومالك (¬3) وجماعة ورواية عن القاسم، وعن الناصر وعن الشافعي (¬4) أنها حيض وقت إمكانه مطلقا، سواء توسطها الأسود أم لا، وبعده أو قبله في وقت العادة أو في غيرها. قالوا: لأنه أذى، ولقوله تعالى: {حَتَّى يَطْهُرْنَ} (¬5). ولقوله لحمنة: "واستنقيت فصلي" (¬6) وعن القاسم ليس بحيض إذا توسطه الأسود (جـ)، لقوله في حديث فاطمة: "إذا رأيت الدم الأسود فأمسكي عن الصلاة حتى إذا كان الصفرة فتوضئي وصلي فإنه دم عرق" (¬7) وحديث أم عطية المذكور، وعن الشافعي (¬8) وهو مذهب أَبى يوسف أنها حيض بعد الدم إذ هما من آثاره لا قبله وعن الشافعي (¬9) إن رأتهما قبل العادة فحيض وإِلَّا فَلا. 117 - وعن أنس - رضي الله عنه -: "أن اليهود كانوا إذا حاضت ¬

_ (أ) بهامش الأصل. (ب) في هـ: ونحوه. (جـ) زاد في جـ: و.

المرأة لم يؤاكلوها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اصنعوا كل شيء إلا النكاح". رواه مسلم (¬1). الحديث فيه دلالة على أنه يجوز مؤاكلة الحائض وملامستها ومضاجعتها ومباشرتها إلا النكاح، والمراد به الوطء مجازا من إطلاق السبب على المسبب. واتفق العلماء على تحريم الوطء فمن فعله عالما عصى، ومن استحله كفر لأنه محرم بنص القرآن (¬2)، ولا يرتفع التحريم إلا بقطع الدم والاغتسال عند الأكثر. وقوله: "اصنعوا كل شيء": يعني من المضاجعة والمؤاكلة ونحوها، وهو تفسير للآية (أ) إذ (ب) الحديث المذكور مختصر. والحديث تمامه في مسلم قال: "إن اليهود كانوا إذا حاضت المرأة فيهم لم يؤاكلوها، ولم يجامعوهن في البيوت. فسأل أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - النبي فأنزل الله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى} الآية (¬3). فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "اصنعوا كل شيء إلا النكاح" فبلغ ذلك اليهود فقالوا: ما يريد هذا الرجل (جـ أن يدع جـ) من أمرنا شيئًا إلا خالفنا فيه. فجاء أسيد بن حضير وعباد بن بشر فقالا (د): يا رسول الله إن اليهود تقول كذا وكذا فلا نجامعهن، فتغير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ظننا أن قد وجد عليهما مخرجا فاستقبلتهما هدية من لبن إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأرسل في آثارهما، فسقاهما فعرفا أنه لم يجد عليهما. انتهى. ¬

_ (أ) في جـ: الآية. (ب) في جـ وهـ: إذا. (جـ - جـ) بهامش هـ. (د) في هـ: وقالا.

وقوله: ولم يجامعوهن في البيوت: أي لم يخالطوهن ولم يساكنوهن في بيت واحد. وقوله: فسأل (أأصحاب النبي أ) صلى الله عليه وسلم: هل تجانبوهن في الأكل والشرب ونحوهما كما فعلت اليهود؟ فأنزل الله الآية. وقوله {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ} (¬1) أي عن حكم زمان الحيض (ب) {قُلْ هُوَ أَذًى} أي قذر نجس يتأذى أزواجهن بمجامعتهن في ذلك الوقت فاعتزلوا أي ابعدوا منهن في المحيض (جـ) أي في مكان الحيض وهو الفرج يعني الحيض أذى يتأذى الزوج من مجامعتها فقط، وليس أذى في سائر الأعضاء حتى يخرجها الزوج من فراشه ومجلسه، ويترك مؤاكلتها كفعل اليهود. 118 - وعن عائشة - رضي الله عنها - قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرني فَأتَّزِرُ فَيُباشِرُنِي وأنا حائض". متفق عليه (¬2). الحديث فيه دلالة على جواز مباشرة الحائض، وقد تقدم في الحديث الأول، إلا أنه زاد هنا الاتزار فأفهم أن مباشرته فيما دون الإِزار، ولكنه لا يدل على الوجوب بل على الاستحباب، لا سيما مع عموم الحديث الأول، وأمر بها بالإِتزار اتقاء عن موضع الأذى، والمباشرة أريد بها المفهوم من ظاهر اللفظ، وهو الإِفضاء بالبشرتين دون الكناية عن الجماع، والمعنى أنه كان يدخل معي في اللحاف فتمس بشرته بشرتي. ¬

_ (أ- أ) ساقط من جـ. (ب) في جـ وهـ: المحيض. (جـ) في جـ: الحيض.

واعلم أن مباشرة الحائض على ضربين: ضرب مجمع على جوازه إلا ما يحكى عن عَبِيْدَة السلماني (¬1) من أنه لا يباشر شيئًا منها بشيء منه، لكنه شاذ منكر غير معروف ولا مقبول مسبوق بالإجماع محجوج بالأحاديث الصحيحة. والضرب الثاني فيما داخل الإزار وهو ما بين السرة والركبة في غير الفرجين، فذهب الهادي ومالك (¬2) ومحمد أَن ذلك جائز غير مكروه، وقال القاسم (¬3) إن ذلك مكروه، وقال أَبو حنيفة وأحد قولي الشافعي (¬4) أن ذلك محظور. والقول الأول أقوى، لقوله: "اصنعوا كل شيء إلا النكاح" وقد عرفت توجيه اقتصار النبي صلى الله عليه وسلم، وممن ذهب إليه من السلف عكرمة ومجاهد والشعبي والنخعي والحكم والثوري والأوزاعي وأحمد بن حنبل وأصبغ وإسحق بن راهويه وأبو ثور وابن المنذر وداود (¬5)، وممن ذهب إلى التحريم من السلف سعيد بن المسيب وشريح وطاوس وعطاء وسليمان بن يسار وقتادة، وقول لأصحاب الشافعي إن كان المباشر يضبط نفسه عن الفرج ويثق من نفسه باجتنابه إما لضعف شهوته، وإما لشدة ورعه جاز وإلا فلا. وهذا وجه حسن. وهذا هو الذي أشارت إليه عائشة - رضي الله عنها - حيث قالت: "وأيكم (أ) يملك إربه" (¬6). 119 - وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - عن النبي صلى الله عليه وسلم في الذي يأتي امرأته وهي حائض، قال: "يتصدق بدينار أو نصف دينار" رواه الخمسة وصححه الحاكم وابن القطان ورجح غيرهما وقفه (¬7). ¬

_ (أ) في جـ وهـ: فأيكم.

الحديث فيه أربع روايات: فرواية "يتصدق بدينار. إن جامع (أفي إقبال الدم، وبنصفه إن جامع في أ) إدباره". ورواية "إذا وطئها في إقبال الدم فدينار، وإن وطئها في إدبار الدم بعد انقطاعه وقبل الغسل فعليه نصف دينار". وفي رواية "إذا وقع بأهله وهي حائض، إن كان دما أحمر فليتصدق بدينار وإن كان أصفر فليتصدق بنصف دينار". ورواية "من أتى حائضا فليتصدق بدينار أو نصف دينار". وهذه الروايات الأربع مدارها على عبد الكريم بن أمية (¬1)، وهو مجمع على تركه، إلا أنه توبع في بعضها، وأعلت الطرق كلها بالاضطراب إلا الرابعة، فكل رواتها مخرج لهم في الصحيح وقد استوفى الكلام على تفصيل ما فيها في "التلخيص" فليرجع إليه (ب). ¬

_ (أ- أ) بهامش هـ. (ب) جاء في هامش جـ تعليقا على الكلام وبيانا له قوله: قال في التلخيص: أما الرواية الأولى فرواها البيهقي من حديث ابن جريج عن ابن أَبى أمية عن مقسم عن ابن عباس مرفوعًا: "إذا أتى أحدًا امرأته في الدم فليتصدق بنصف دينار"، ورواها من حديث ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس موقوفًا، وأما الثانية فرواها البيهقي من طريق سعيد بن أبي عروبة عن عبد الكريم بن أمية مرفوعًا، وجعل التفسير من قول مقسم فقال: فسر ذلك مقسم فقال: إن مسها في الدم فدينار وإن مسها بعد انقطاع الدم قبل أن تغتسل فنصف دينار، وأما الثالثة فرواها اليزيدي والبيهقي أيضًا من =

والحديث يدل على وجوب الكفارة، برقد قال بذلك الحسن البصري (1) وسعيد، وهي عتق رقبة [لأنه وطء يحرم (أ) فأشبه المجامع في رمضان] (ب)، وروي أيضًا عن ابن عباس، وقيل: دينار ونصف دينار على اختلاف بينهم في الحال (2) الذي يجب فيه الدينار أو نصف الدينار، وذهب مالك والجديد من قولي الشافعي وأبو حنيفة وأحمد في إحدى الروايتين عنه وجماهير السلف أنه لا كفارة عليه (¬3). قال الشافعي في أحكام القرآن: لو كان هذا الحديث ثابتا لأخذنا به. انتهى. قال المصنف -رحمه الله تعالى-: الاضطراب في إسناد هذا الحديث ومتنه ¬

_ = هذا الوجه بلفظ: "إذا كان دما أحمر فدينار وإذا كان دما أصفر فنصف دينار"، ورواها الطبراني من طريق سفيان الثوري عن حصيف وعلي بن بذيمة وعبد الكريم عن مقسم بلفظ: "من أتى امرأته وهي حائض فعليه دينار، ومن أتاها في الصفرة فنصف دينار"، ورواه الدارقطني من هذا الوجه فقال في الأول في الدم، ورواه أبو يعلى والدارمي من طريق أبي جعفر الرازي عن عبد الكريم بسنده في رجل جامع امرأته وهي حائض فقال: "إن كان دما عبيطا فليتصدق بدينار" الحديث، وأما الرابعة فرواها ابن الجارود في المنتقى من طريق عبد الحميد عن مقسم عن ابن عباس "فليتصدق بدينار أو نصف دينار". ورواه أيضًا أحمد وأصحاب السنن والدارقطني وله طرق في السنن غير هذه، لكن شذ شعبة في رفعه عن الحكم عن عبد الحميد. تنبيه: قول الرافعي: جاء في رواية فليتصدق بدينار ونصف دينار فيه تحريف، وهو حذف الألف والصواب: أو نصف دينار كما تقدم. أما الروايات المتقدمة كلها فمدارها على عبد الكريم بن أمية وهو مجمع على تركه إلا أنه توبع في بعضها من جهة خصيف وهو من جهة علي بن بذيمة، وفيها مقال، وأعلت الطرق كلها بالاضطراب، وأما الأخيرة وهي رواية عبد الحميد فكل رواتها مخرج لهم في الصحيح إلا مقسما، فانفرد به البخاري لكنه ما أخرج له إلا حديثًا واحدا في تفسير النساء قد توبع عليه، وقد صححه الحاكم وابن القطان وابن دقيق العيد وقال الخلال عن أبي داود عن أحمد: ما أحسن حديث عبد الحميد، فقيل له: تذهب إليه؟ قال: نعم، وقال أبو داود: هي الرواية الصحيحة وربما يرفعه بسعيد، وقال قاسم بن أصبغ: رفعه غندر ثم إن هذا من جملة الأحاديث التي تثبت فيها سماع الحكم من مقسم، وأما تضعيف ابن حزم لمقسم فقد نوزع عليه وقال فيه أبو حاتم: صالح الحدبث، وقال ابن أَبى حاتم: سألت أبي عنه فقال: اختلف الرواة فيه فمنهم من يوقفه ومنهم من يسنده وأما من حدث شعبة فإن يحيى بن سعيد أسنده وحكى عن شعبة أنه قال: أسنده لي الحكم مرة ووقفه مرة. انتهى. والله أعلم (التلخيص 1/ 179). (أ) في هـ. وب وجـ: محرم. (ب) بهامش الأصل.

كثير جدًّا، و (أ) قال الخطابي (¬1): قال أكثر أهل العلم: لا شيء عليه، وزعموا أن هذا الحديث مرسل أو موقوف على ابن عباس، قال: والأصح أنه متصل مرفوع، لكن الذمم بريئة إلا أن تقوم الحجة بشغلها، وقال ابن عبد البر (¬2): حُجةُ من لم يوجب اضطرابُ هذا الحديث، وإن الذمة على البراءة، ولا يجب أن يثبت فيها شيء لمسكين ولا غيره إلا بدليل لا مدفع فيه ولا مطعن عليه، وذلك معدوم في هذه المسألة. وقد أمعن ابن القطان (ب) القول في تصحيح هذا الحديث، والجواب عن (جـ) طرق الطعن فيه بما يراجع منه، وأقر ابن دقيق العيد (¬3) تصحيح ابن القطان وقواه (د) في الإمام وهو (هـ) الصواب، فكم من حديث قد احتجوا به فيه من الاختلاف أكثر من هذا وفي هذا رد على النووي في دعواه في شرح المهذب والتنقيح والخلاصة (¬4) أن الأئمة كلهم خالفوا الحاكم في تصحيحه وأن الحق أنه ضعيف باتفاقهم، وتبع النووي في ذلك ابن الصلاح والله أعلم. 120 - وعن أَبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أليس إذا حاضت المرأة لم تصل، ولم تصم؟ " متفق عليه (¬5) في حديث تمامه: "فذلك من نقصان دينها". ورواه (و) مسلم من ¬

_ (أ) الواو ساقطة من ب وهـ. (ب) بهامش ب. (جـ) في جـ: من. (د) في هـ: وقوا. (هـ) في هـ: فهو. (و) في جـ: وروى.

حديث ابن عمر بلفظ: "تمكث الليالي ما تصلى، وتفطر في شهر رمضان، فهذا نقصان دينها" (¬1)، ومن (أ) حديث أبي هريرة كذلك (¬2)، وفي المستدرك (¬3) من حديث ابن مسعود نحوه، ولفظه: "فإن إحداكن تفعل ما شاء الله من يوم وليلة فلا تسجد لله سجدة". وفي الحديث دلالة على (ب) أن الحائض لا تجب عليها الصلاة والصوم إذ خروج اللفظ مخرج الإخبار عن الحالة التي بنيت عليها الحائض، واستقر أمرها عليه، وهذا أمر مجمع عليه في أنهما لا يجبان (جـ) عليها في حال الحيض، وأنه لا يجب عليها قضاء الصلاة إلا عند الخوارج (¬4)، وفي أن الصوم يجب قضاؤه عليها، قال العلماء: والفرق بينهما أن الصلاة كثيرة متكررة فيشق قضاؤها، بخلاف الصوم فإنه يجب (د) في السنة مرة، واختلف العلماء في أن القضاء هل هو بأمر محدد أو بأمر الأداء؟ والصحيح أنه بأمر محدد وهو حديث عائشة "كنا نحيض مع النبي صلى الله عليه وسلم ولا يأمرنا به" (¬5). أخرجه البخاري. [وفي إحدى روايات مسلم (¬6): "كنا نؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء ¬

_ (أ) في هـ: وفي. (ب) ساقطة من هـ. (جـ) في جـ: لا يجب. (د) ساقطة من هـ.

الصلاة" (أوفي رواية للترمذي والدارمي: "فيأمرنا بقضاء الصوم ولا يأمرنا بقضاء الصلاة"أ) (¬1) وقال: حسن] (ب). 121 - وعن عائشة - رضي الله عنها - قالت: لما جئنا سَرِف حضت، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "افعلي ما يفعل الحاجُّ، غيرَ أن لا تَطُوفي بالبيت حتى تطهري" متفق عليه (¬2) في حديث. سَرِف (¬3): بفتح السين المهملة وكسر الراء، وهو ما بين مكة والمدينة بِقُرْب مكة على أميال منها، قيل: ستة، وقيل: سبعة، وقيل: تسعة (جـ)، وقيل: عشرة، وقيل: اثنا عشر ميلا. وفي الحديث دلالة على أن الحائض والنفساء والجنب والمحدث يصح منهم جميع أفعال الحج وأقواله وهيئاته إلا الطواف وركعتيه، وهذا مجمع عليه واختلف في علة عدم صحة الطواف، فمن اشترط في الطواف الطهارة قال: العلة عدم الطهارة، ومن لم يشترط كأبي حنيفة وداود قالوا: العلة كونها ممنوعة من اللبث في المسجد (¬4) والله أعلم. ¬

_ (أ، أ) بهامش ب. (ب) بهامش الأصل. (جـ) ساقط من جـ.

والحديث لفظه في البخاري: قالت: "خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم لا نذكر إلا الحج، فلما جئنا سَرِف طَمِثْتُ، فدخل النبي صلى الله عليه وسلم وأنا أبكي فقال: ما يبكيك؟ قلت: لوددت والله أني لم أحج العام، قال: لعلك نُفِسْت، قلت: نعم، قال فإن ذلك شيء كتبه الله (أ) علي بنات آدم، فافعلي ما يفعل الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت حتى تطهري". 122 - وعن معاذ - رضي الله عنه - أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم: ما يحل للرجل من امرأته وهي حائض؟ قال: "ما فوق الإِزار"، رواه أَبو داود وضعفه (¬1). هو أَبو عبد الرحمن معاذ بن جبل الأنصاري الخزرجي الجشمي، أحد السبعين الذين شهدوا العقبة من الأنصار، وآخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بينه وبين عبد الله بن مسعود، وقيل: جعفر بن أَبي طالب، شهد بدرا وما بعدها من المشاهد، وبعثه (ب) إلى اليمن قاضيا ومعلما، وجعل إليه قبض الصدقات من ¬

_ (أ) لفظ الجلالة ليس في جـ. (ب) زاد في جـ: رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي ب: النبي صلى الله عليه وسلم.

العمال باليمن. روى عنه: عمر، وابن عمر وابن عباس وابن عمرو وأنس وغيرهم، وكان إسلامه وهو ابن ثمان عشرة سنة في قول، استعمله عمر على الشام بعد أبي عبيدة فمات من عامه ذلك في (أ) طاعون عمواس سنة ثماني عشرة، وقيل سبع عشرة وله ثمان وثلاثون سنة وقيل: ثلاث أو أربع وثلاثون، وقيل غير ذلك (¬1). الحديث ضعفه أَبو داود، وقال: ليس بالقوي ببقية عن سعيد بن عبد الله الأغطش، (ب ورواه الطبراني (¬2) من رواية إسماعيل بن عياش عن سعيد بن عبد الله الخزاعي، فإن كان هو الأغطش ب) فقد توبع (¬3). والحديث فيه دلالة على أنه يحرم مباشرة محل الإِزار، وهو ما بين السرة وتحت الركبة (جـ)، إذ الإِزار مجاز عن ذلك، وهو معارض بحديث: "اصنعوا كل شيء إلا النكاح" (¬4)، وقد عرفت ما فيه، وتقدم الكلام على فقه الحديث والخلاف في ذلك. 123 - وعن أم سلمة - رضي الله عنها - "كانت النفساء تقعد في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد نفاسها أربعين". رواه الخمسة إلا النسائي، واللفظ لأبي داود وفي لفظ له: "ولم يأمرها النبي صلى الله عليه وسلم بقضاء ¬

_ (أ) في جـ: من. (ب- ب) بهامش جـ. (جـ) ساقطة من جـ.

صلاة النفاس "وصححه الحاكم (¬1)، أخرجوه من حديث أبي سهل كثير بين زياد عن مُسَّة الأزدية، وله ألفاظ وفيه من الزيادة: "وكنا نطلي وجوهنا بالورس والزعفران من الكلف". وأبو سهل (¬2) وثقه البخاري وابن معين، وضعفه ابن حبان، ومُسَّة مجهولة الحال (¬3). قال الدارقطني: لا تقوم بها حجة، وقال ابن القطان: لا يعرف حالها وأغرب ابن حبان فضعفه (1) بكثير بن زياد فلم يصب (¬4)، وقال النووي (¬5): قول جماعة من مصنفي الفقهاء إن هذا الحديث ضعيف مردود عليهم، وله شاهد، أخرجه ابن ماجه من طريق سلام عن أنس: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقَّتَ للنفساء أربعين يوما إلا أَنْ ترى الطهر قبل ذلك" (¬6) قال: لم يروه عن حميد غير سلام، وهو ضعيف، ورواه ¬

_ (أ) في ب: وضعفه.

عبد الرزّاق (¬1) من وجه آخر عن أنس موقوفًا، وروى الحاكم (أ) من حديث الحسن عن (ب) عثمان بن أبي العاص قال: "وَقَّت رسول الله صلى الله عليه وسلم للنساء في نفاسهن أربعين يوما" (¬2) قال: صحيح إن سلم (من) (جـ) أبي بلال الأشعري (¬3). (د قال المصنف -رحمه الله-: وقد ضعفه الدارقطني، والحسن (¬4) عن عثمان د) بن أبي العاص (¬5) منقطع والمشهور عن عثمان موقوف عليه (¬6). النفاس: هو الدم الخارج عقيب الولادة، واشتقاقه من تنفس الرحم بالدم، أو خروج النفس وهو الولد، يقال: نُفست المرأة ونَفست بضم النون، وفتحها إذا ولدت فهي نفساء (هـ بضم النون وفتح الفاء والمد، وهي صاحبة النفاس، ويقال في الحيض نفست بفتح النون هـ) لا غير (¬7) والفاء مكسورة في الكل، ¬

_ (أ) زاد في جـ: من حديث أنس موقوفًا وروى الحاكم. (ب) في جـ: بن. (جـ) في النسخ: عن والصواب المثبت. (د- د) بهامش هـ. (هـ- هـ) بهامش ب.

وكله مأخوذ من النفس بسكون الفاء، وهو الدم، ويسمى الولد نفسا، لأن قوام الحيوانات كلها بالدم. وحكمه حكم الحيض غالبا. والحديث يدل على أن النفاس أربعون يوما فما زاد عليها فليس بنفاس، وأما دون الأربعين إذا انقطع الدم فبدلالة حديث أنس: "إلا أن تري الطهر" فأفهم أن التوقيت بذلك إنما هو مع استمرار الدم، فإذا انقطع الدم، أو لم تر الدم رأسا فلا يلزمها ذلك الحكم، والقول بذلك للأكثر وعن إسماعيل وموسى ابني جعفر وعن الشافعي: بل أكثره سبعون يوما، إذ هو أكثر ما وجد (¬1) والعنبري وأحد أقوال (أ) الشافعي وعن (¬2) مالك: بل ستون يوما لمثل (ب) ذلك التعليل وقيل: بل خمسون لذلك، وقالت الإِمامية (¬3): بل نيف وعشرون، وهم محجوجون بالنص. وإذا تخلل الأربعين وقت طهر كامل لا ترى فيه الدم فما بعده حيض عند الهادوية والمؤيد وأبي طالب والإِمام يحيى وأحد أقوال الشافعي (¬4)، وعند أبي حنيفة والشافعي (¬5): بل هو والطهر نفاس كالنقاء المتوسط للحيض، قلنا: النقاء ليس بطهر تام، ولقوله صلى الله عليه وسلم: "إلا أن تري الطهر" فاقتضى ارتفاع النفاس به. وعند زيد بن علي: إذا لم تر الدم، أو رأته عقيب الولادة، وانقطع تنتظر ثلاثة قروء، فذات الست ثمانية عشر يوما، وقِس عليه إذ (د) جعل ¬

_ (أ) في جـ: قولي. (ب) في جـ: بمثل. (جـ) ساقطة من جـ. (د) في جـ: إذا.

في العدة كثلاثة قروء. قلنا: يدفعه قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا طهرت المرأة حين تضع صلت" (¬1)، وعند أَبي حنيفة وأبي يوسف: بل أحد عشر يوما إذ هو أقل الموجود، وعند بعضهم بل ثلاثة أيام لذلك (أ). (عدة (ب) أحاديث الباب اثنا عشر حديث) (جـ). ¬

_ (أ) في جـ وهـ: كذلك. (ب) في جـ: عدد. (جـ) به هامش الأصل.

كتاب الصلاة

كتاب الصلاة باب المواقيت اختلف العلماء في أصل تسمية هذه العبادة بالصلاة، فقيل: [إنها منقولة من] (أ) الدعاء لاشتمالها عليه، وهذا قول جماهير أهل العربية والفقهاء وغيرهم، وقيل: لأنها ثانية (ب) لشهادة التوحيد كالمصلي من السابق في (جـ) خيل الحلبة، وقيل: من الصلوين، وهما عرقان من الردف، وقيل: هما عظمان ينحنيان في الركوع والسجود، قالوا: ولهذا كتبت الصلاة بالواو في المصحف، وقيل غير ذلك (¬1). والمواقيت جمع ميقات وهو مفعال من الوقت وهو القَدْر المحدود للفعل من الزمان والمكان (¬2). 124 - عن عبد الله بن (عمرو) (د) - رضي الله عنهما - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "وقت الظهر: إذا زالت الشمس، وكان ظلُّ الرجُلِ كَطُوله، ما لم يحضر العصر، ووقت العصر: ما لم تصفرّ الشمس، ووقت صلاة المغرب: ما لم يغبِ الشَّفق، ووقت صلاة العشاء إلى نصف الليل الأوسط، ¬

_ (أ) بهامش الأصل. (ب) في ب: تالية لشهادة التوحيد، وفي هـ: ثانية الشهادة بالتوحيد. (جـ) في ب: من، وساقطة من هـ. (د) الأصل وجـ عمر.

ووقت صلاة الصبح، من طلوع الفجر ما لم تطلع الشمس" رواه مسلم (¬1) وله من حديث بريدة في العصر: "والشمس بيضاء نقية" (¬2) ومن حديث أبي موسى: "والشمس مرتفعة" (¬3) زوال الشمس ميلها إلى جهة المغرب. وقوله: "وكان ظلُّ الرجلِ كطوله" عطف على زالت (¬4). والحديث يدل على أن ابتداء وقت الظهر الزوال وأنها لا تجزئ قبله إذ (أ) لم ينقل أنه صلى قبله، وهذا هو الذي استقر عليه الإِجماع، وكان فيه خلاف قديم عن بعض الصحابة أنه جَوَّز صلاة الظهر قبيل الزوال، وعن أحمد وإسحق في الجمعة: وآخره مصير ظل الشيء كمثله، ولكن هل أول ذلك انتهاء الظهر أو وقت متسع للظهر، اللفظ محتمل، فقال الهادي وأحد قولي القاسم ومالك وطائفة (¬5) من العلماء: إذا صار ظل الشيء مثله دخل وقت العصر ولم يخرج وقت الظهر بل يبقى قدر أربع ركعات صالحا للظهر والعصر أداء، ويدل على ذلك حديث صلاة جبريل في اليوم الأول "صلى به العصر حين صار ظل الشيء مثله، وفي اليوم الثاني صلى به الظهر حين كان ظله مثله، وصلى به العصر حين كان ظله مثليه" (¬6) فالحديث يدل على أن ذلك المقدار مشترك بين الفريضتين، ¬

_ (أ) في هـ: إذا.

وذهب الشافعي (¬1) إلى أن ذلك الوقت مختص بالعصر، والحديث محمول على أن قوله وكان ظل الرجل كطوله: بيان أن أول ذلك حد لآخر وقت الظهر فيكون تحققه ابتداء للعصر، وقوله: "ما لم يحضر وقت (أ) العصر" بيان وزيادة تقرير أنه ليس بين الظهر والعصر وقت مشترك، وحديث جبريل مؤول بأن (ب) قوله: "وصلى بي الظهر في اليوم الثاني حين كان ظله مثله" يعني فرغ من صلاة الظهر ذلك الوقت، وصلاة العصر فيه في اليوم الأول أي شرع في الصلاة، ولا يخفى بعده (إلا أنه يقوي هذا التأويل أنه على إثبات الوقت المشترك، يكون انتهاء الظهر مجهولا، إذ مقدار أربع ركعات غير محدودة إذ القراءة فيها واستيفاء الأركان غير متعين، فلا يحصل بيان حدود الأوقات. وعلى قول الشافعي يتم بيانها (¬2) والله أعلم) (جـ). وقوله: "ووقت العصر ما لم تصفر الشمس": فيه بيان وقت العصر، وأنه ممتد إلى تلك الغاية، وهذا يضعف مذهب أَبي حنيفة أن أول العصر المثلان (¬3)، وقول الإِصطخري (¬4) أنه إذا صار ظل الشيء مثليه كان العصر قضاء (¬5) (¬6)، ¬

_ (أ) ساقطة من هـ. (ب) في هـ: بأنه. (جـ) بهامش الأصل.

ويدل على أنها بعد الاصفرار قضاء، كما ذهب إليه أبو حنيفة (¬1)، وقال الجمهور: إن العصر وقته ممتد إلى بقية تَسَعُ ركعة لحديث (أ): "من أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر" (¬2). وقوله: ووقت (ب) صلاة المغرب ما لم يغب الشفق (¬3)، فيه دلالة على أن وقت المغرب ممتد إلى أن يغيب الشفق الأحمر، وهو قول الهادي والقاسم وجماعة (¬4)، وذهب الشافعي إلى (¬5) أنه ليس لها إلا وقت واحد، وهو عقيب غروب الشمس بقدر ما يتطهر ويستر عورته ويؤذن ويقيم، فإن أخر الدخول في الصلاة عن هذا الوقت أثم، وصارت قضاءً، واحتج على ذلك بحديث جبريل فإنه صلى في اليومين المغرب في وقت واحد، وأجيب عنه (جـ) بثلاثة أوجه، أحدها: أنه اقتصر على بيان وقت الاختيار والأفضل، ولم يستوعب وقت الجواز، وهذا جار في كل الصلوات سوى الظهر والعصر (د)، والثاني: أنه متقدم في أول الأمر بمكة، والأحاديث بامتداد وقت المغرب إلى غروب الشفق متأخرة في أواخر الأمر بالمدينة، فوجب اعتمادها، والثالث: أن هذه الأحاديث أصح إسنادا من حديث بيان جبريل فوجب تقديمها (هـ) (¬6). ¬

_ (أ) بهامش هـ. (ب) في هـ وجـ: وقت. (جـ) في هـ: عليه. (د) مر في ب بين تعليق: وعبارة النووي: سوى الظهر فقط ولم يذكر العصر. (هـ) في هـ: تقدمها.

وقوله: ووقت صلاة العشاء إلى نصف الليل يدل على أن (أ) امتداد العشاء إلى تلك الغاية، وأن ما بعدها ليس بوقت، وقد ذهب إلى هذا الإِصطخري، وقال: إن بعد النصف يكون قضاء (¬1)، وخالفه الجمهور وقالوا: إن الوقت ممتد إلى إدراك ركعة قبل طلوع الفجر، قالوا: لحديث أبي قتادة أخرجه مسلم "ليس في النوم تفريط (إنما التفريط) (ب) على من لم يصل الصلاة حتى يجيء وقت الصلاة الأخرى" (¬2) (والحديث محمول على الوقت (جـ) الاختياري، وذهب إلى هذا الشافعي (¬3) في أحد قوليه وذهب الهادي والقاسم (¬4) وغيرهم إلى أن (د) اختيار العشاء إلى ثلث الليل، قالوا لحديث جبريل، وأجيب بأن هذا أصح، فيتعين العمل به. والله أعلم) (هـ). وقوله: "ووقت صلاة الصبح من طلوع .. " إلخ فيه دلالة على امتداد الصلاة في ذلك الوقت إلى طلوع الشمس، وقد ذهب إلى هذا الجمهور، وخالف الإِصطخري (¬5)، فقال: امتداده إلى الإِسفار، وبعده قضاء قال لحديث جبريل فإنه (و) صلاها (ز) في اليوم الثاني حين أسفر، وقال: الوقت ما بين هذين ¬

_ (أ) ساقطة من ب. (ب) بهامش الأصل وهـ. (جـ) في ب: وقت. (د) ساقطة من جـ. (هـ) بهامش الأصل وهـ. (و) في جـ: وأنه. (ز) في ب: صل هنا.

الوقتين، والجواب عنه الوجوه الثلاثة التي مرت. وقوله: "والشمس بيضاء نقية" أي: خالصة عن الصفرة، وقوله: "مرتفعة" أي لم تضيف للغروب. واعلم أن للعصر خمسة أوقات: وقت فضيلة، واختيار، وجواز بلا كراهية، وجواز مع كراهية، ووقت عذر. فأما وقت الفضيلة فأول وقتها، و (أ) وقت الاختيار يمتد إلى أن يصير ظل كل شيء مثليه، ووقت الجواز إلى الاصفرار، ووقت الجواز مع الكراهة حال الاصفرار إلى الغروب، ووقت العذر هو وقت الظهر في حق من يجمع بين العصر والظهر لسفر أو نحوه. ويكون العصر في هذه الأوقات الخمسة أداء فإذا فاتت كلها بغروب الشمس صارت قضاء، والعشاء مثل ذلك والله أعلم (ب). 125 - وعن أبي برزة الأسلمي - رضي الله عنه - قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي العصر ثم يرجع أحدنا إلى رحله في أقصى المدينة، والشمس حية، وكان يستحب أن يؤخر من العشاء، وكان يكره النوم قبلها، والحديث بعدها، وكان ينفتل من صلاة الغداة حين يعرف الرجك جليسه، ويقرأ بالستين إلى المائة. متفق عليه (¬1). وعندهما من حديث جابر (¬2): ¬

_ (أ) الواو ساقطة من هـ. (ب) جاء في هامش هـ وأصل جـ: ما نصه: (فعلى هذا وقت الفضيلة أول وقتها، وفي خلاف الشافعي، ووقت الاختيار يمتد إلى ثلث الليل أو نصفه على الخلاف، وينظر في تحديد وقت الجواز من غير كراهة، هل يقال: إنه من ثلث الليل أو نصفه إلى قدر ما يسع العشاء أو مقدر إلى قبل ذلك بوقت أكبر، وكذلك وقت الجواز مع الكراهة، هل يقال: ما يسعها فقط إلى الفجر، أو من قبل ما يسعها إلى الفجر لأداء، ووقت العذر هو وقت المغرب في حق من يجمع بين المغرب والعشاء لسفر أو نحوه. في شرح السنن لرسلان: وأما وقت الجواز فيمتد إلى طلوع الفجر الثاني لحديث أبي قتادة وغيرها. انتهى).

"والعشاء أحيانا وأحيانا، إذا رآهم اجتمعوا عجل، وإذا رآهم ابطأوا أخر، والصبح كان النبي صلى الله عليه وسلم يصليها بغلس". ولمسلم من حديث أبي موسى: "فأقام الفجر حين انشق الفجر والثاني لا يكاد يعرف بعضهم بعضا" (¬1). أَبو برزة (¬2): نضلة بن عبيد بن الحارث، وقيل: نضلة بن عبد الله، وقيل: عبد الله بن نضلة بن سلامان بن أسلم الأسلمي، و (أ) في نسبه خلاف، أسلم قديما، وشهد فتح مكة، وهو الذي قتل عبد الله بن خطل، ولم يزل يغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قبض، فتحول ونزل البصرة، ثم غزا خراسان، ومات بمرو وهو الأشَهر، وقيل: مات بالبصرة (ب)، وقيل: مات بالمفازة (جـ) بين سجستان وهراة سنة (د ستين، وقيل د): سنة أربع وستين، وروى عنه المغيرة والحسن البصري وسعيد بن جمهان والأزرق بن قيس، وبرزة بفتح الباء الموحدة وسكون الراء وفتح الزاي، ونضلة بفتح النون وسكون الضاد المعجمة، وجُمْهان: بضم الجيم وسكون الميم وبالنون. قوله في الحديث: "إلى رحله" بفتح الراء وسكون المهملة، وفي أقصى المدينة صفة للرحل، وقوله: "والشمس حية" أي: بيضاء. قال: قال الزين ابن المنير: المراد بحياتها: قوة أثرها حرارة ولونا وشعاعا وإنارة وذلك (هـ) لا يكون بعد مصير الظل مِثْلَيْه (¬3). وفي سنن أبي داود عن خيثمة أحد التابعين قال: ¬

_ (أ) الواو ساقطة من جـ. (ب) في جـ: في البصرة. (جـ) في جـ: في المفازة. (د- د) بهامش هـ. (هـ) في ب: أن.

حياتهما: أن يجد حرها (¬1)، وهذا يقضي بالاهتمام والمبادرة بصلاة العصر في أول وقتها، إذ لا يمكن أن يذهب الذاهب ميلَيْن أو ثلاثة، والشمس لم تتغير (أ) بصفرة أو نحوها إلا إذا صلى العصر حين صار ظل كل شيء مثله، ولا يكاد يحصل هذا إلا في الأيام الطويلة، وقوله: "وكان يستحب أن يؤخر من العشاء": أي من وقت العشاء، قال ابن دقيق العيد (¬2): فيه دليل على استحباب التأخير قليلا لأن التبعيض يدل عليه، وتعقب بأنه بعض (ب) مطلق لا دلالة فيه على قلة ولا كثرة. وقوله: "و (جـ) كان يكره النوم قبلها، والحديث بعدها": أما كراهة النوم فلخشية أن يستغرق النوم فيفوت جمع الوقت أو اختياره (¬3) وأما الحديث بعدها فرعاية أن ينام مكفر (د) الخطيئة بصلاة العشاء (¬4)، وهذا مخصوص بالحديث الذي فيه مصلحة من مصالح الدين كما روي عن عمر قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسمر عند أبي بكر الليلة كذلك (هـ) في الأمر من أمر المسلمين، وأنا معه" (¬5) رواه أحمد والترمذي، وكحديث ابن عباس في بيت ميمونة: "فتحدث النبي صلى الله عليه وسلم ¬

_ (أ) في جـ: تغير. (ب) ساقطة من جـ، هـ. (جـ) الواو ساقطة من ب. (د) في جـ: أن يكفر. (هـ) ساقطة من ب.

مع (أ) أهله، ثم رقد". رواه (¬1) مسلم. "وكان ينفتل أي يلتفت إلى المأمومين أو ينصرف من الصلاة"، وصلاة الغداة: الصبح، وفيه: أنه لا كراهة في تسمية الصبح بذلك وفي (ح) قوله "حين يعرف الرجل جليسَه": دلالة على التعجيل بصلاة الصبح لأن ابتداء معرفة الانسان وجه جليسه يكون في أواخر الغلس (¬2)، ومن المعلوم من عادته صلى الله عليه وسلم ترتيل القراءة (جـ)، وتعديل الأركان، فمقتضى ذلك أنه كان يدخل فيها مغلسا، ولا يعارض حديث عائشة "في وصف النساء المنصرفات من صلاة الصبح لا يعرفن من الغلس" (¬3) إذ المراد لا يعرفن وهن متلفعات مع بُعْدٍ، وهذا في معرفة الجليس. وقوله بالستين إلى المائة: أي من الآي وقدرها في رواية للطبراني (د): "بسورة الحاقة ونحوها" (¬4) وفي رواية (هـ) ما بين الستين إلى المائة. وقوله: "والعشاء أحيانا" الأحيان: جمع حين وهو اسم مبهم يقع على القليل والكثير من الزمان على المشهور (¬5)، والحديث يدل على أن العادة مختلفة باختلاف أحوال المجتمعين للجماعة كما صرح (و) به، وأن الصلاة تأخيرها لأجل إدراك الجماعة أولى. قال ابن دقيق العيد: إذا تعارض في شخص أمران، أحدهما: أن يقدم الصلاة في أول الوقت منفردا، أو يؤخرها في الجماعة، أيهما أفضل؟ الأقرب عندي أن التأخير أفضل. وهذا الحديث يدل عليه (¬6). ¬

_ (أ) في ب: معا. (ب) ساقطة من جـ. (جـ) في هـ: القرآن. (د) في ب وجـ الطبراني. (هـ) ساقطة من جـ. (و) في جـ: صرحه.

قال المصنف -رحمه الله- في "الفتح" (¬1): بل وفي رواية: "إذا كثر الناس (أ) عجل، وإذا قلوا أخر" أن التأخير أفضل لانتظار من تكثر بهم الجماعة (ب)، ولا يخفى (جـ) أن محل ذلك إذا لم يفحش التأخير، ولم يشق على الحاضرين. وقوله: "والصبح بغلس": تقدم الكلام في ذلك. وقوله: ولمسلم إلى آخره: تقدم الكلام (د) فيه أيضًا. 126 - وعن رافع بن خَدِيج - رضي الله عنه - قال: "كنا نصلي المغرب مع النبي صلى الله عليه وسلم، فينصرف أحدنا وإنه ليبصر مواقع نَبْلهِ" متفق عليه (¬2). هو أَبو عبد الله رافع بن خَدِيج، ويقال أَبو خديج بن رافع الخزرجي (هـ) الحارثي الأنصاري الأوسي (¬3)، من أهل المدينة، لم يشهد بدرا لِصغره، وشهد أحدا، والخندق وأكثر المشاهد، وأصابه سهم يوم أحد فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ¬

_ (أ) ساقطة من جـ. (ب) في ب: للجماعة (جـ) ساقطة من جـ. (د) ساقطة من جـ. (هـ) في حاشية الأصل: لعل ذكر الخزرجي من سبق القلم فإن في جامع الأصول عن رافع إلى أن قال ابن خزرج.

"أنا أشهد لك يوم القيامة" (¬1) وانتقضت جراحته (أ) زمن عبد الملك بن مروان فمات سنة ثلاث وسبعين، وقيل: أربع وسبعين بالمدينة، وله ست وثمانون سنة، وقيل زمن معاوية. روى عنه ابنه عبد الرحمن وابن عمر ومحمود بن لبيد والسائب بن يزيد وحنظلة بن قيس وعطاء بن صُهَيْب مولاه والشعبي ومجاهد. خديج بالخاء المعجمة المفتوحة وكسر الدال المهملة وبالجيم. وقوله: "مواقع نبله": بفتح النون وسكون الباء الموحدة (ب): أي المواضع التي تصل إليها سهامه إذا رمى بها، والنبل هي السهام العربية وهي مؤنثة لا واحد لها من لفظها، قاله ابن سيده: وقيل واحدها نبلة مثل تمر وتمرة. والحديث يدل على شرعية المبادرة بالمغرب في أول وقتها، بحيث إن الفراغ منها يقع والضوء باق. 127 - عن عائشة رضي الله عنها - قالت: "أعتم رسول الله صلى الله عليه وسلم (جـ) ذات ليلة بالعشاء حتى ذهب عامة الليل، ثم خرج فصلى، وقال: إنه لوقتها لَوْلَا أن أشقَّ على أُمَّتي" رواه مسلم (¬2). ¬

_ (أ) في جـ: جراحه. (ب) ساقطة من جـ. (جـ) ساقطة من جـ.

"عامة الليل": كثيرٌ منه، وليس المراد أكثره، ولا بد من هذا التأويل لقوله: "وإنه لوقتها"، فلا يجوز أن يراد به ما زاد على النصف لأنه لم يقل أحد من العلماء: إن تأخيرها إلى بعد نصف الليل (أ) أفضل، وقوله: "إنه لوقتها" أي وقتها المختار والأفضل، ففيه دلالة على أن تأخيرها إلى ذلك أفضل، وإن كان الغالب منه تقديمها، وإنما كان الغالب التقديم مخافة المشقة على الأمة، ومعناه -والله أعلم- أنه خشي أن يواظبوا عليها فتفرض عليهم، أو يتوهموا إيجابه فلهذا تركه، كما ترك صلاة التراويح وعلل تركها لخشية (ب) افتراضها والعجز عنها. وللعلماء مذهبان مشهوران في أن الأفضل التقديم أو التأخير، فمن فضل التأخير احتج بهذا، ومن فضل التقديم احتج بأنه الغالب المعتاد. قال الخطابي: وإنما استحب تأخيرها لتطول (جـ) مدة الانتظار للصلاة ومنتظر الصلاة في صلاة (¬1). 128 - وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا اشتدَّ الحرُّ فأَبْردُوا بالصلاة، فإنّ شدة الحر من فَيْح جهنم" متفق عليه (¬2). قوله: "إذا اشتد" أصله اشتدد أدغمت الدال الأولى في الثانية، ومفهومه ¬

_ (أ) بهامش ب. (ب) في جـ: بخشية. (جـ) في جـ: لطول.

أنه إذا لم يشتد لم يبرد بالصلاة (¬1)، وكذا في أيام البرد بالأَوْلى، وقوله: "فأبردوا" بالهمزة المفتوحة المقطوعة، وكسر الراء أي أخروا إلى أن يبرد الوقت، يقال: أبرد، إذا دخل في وقت البرد كأظهر: إذا دخل في الظهيرة، ومثله في المكان أنجد وأتهم: إذا دخل في نجد وتهامة. والحديث يدل على شرعية تأخير الظهر في اليوم الحار حتى يبرد النهار، والأمر محمول على الاستحباب، وقيل للإِرشاد، وقيل للوجوب، حكاه القاضي عياض وغيره، وقال جمهور العلماء: إنه يستحب الإِبراد وتأخير الظهر في شدة الحر إلى أَنْ يبرد الوقت وينكسر الوهج، وخصه بعضهم بالجماعة، فأما المنفرد فالتعجيل في حقه أفضل، وهو قول أكثر المالكية (¬2)، والشافعي لكن خصه أيضًا بالبلد الحار (¬3)، وقيد الجماعة بما إذا كانوا ينتابون مسجدا مِنْ بُعْد، فلو كانوا مجتمعين أو كانوا يمشون في كِنٍّ (¬4) فالأفضل في حقهم التعجيل، والمشهور عن أحمد (¬5) التسوية من غير تخصيص ولا قيد، وهو قول إسحق والكوفيين (أ) (¬6) وابن المنذر، وذهب بعضهم إلى أن تعجيل الظهر أفضل مطلقا، وقال معنى "أبردوا": صلوا في أول الوقت أخذًا من برد النهار وهو أوله، وهو تأويل بعيد، ويرده قوله: "فإن شدة الحر من فَيْح جهنم" وذهب الهادي والقاسم ¬

_ (أ) في هـ: والكوفيون- خطأ.

وغيرهما إلى أن أفضل الوقت أوله مطلقا (أ) في الظهر وغيره، قالوا للأحاديث الدالة على أفضلية أول الوقت (¬1)، وبأن الصلاة أيضًا أكثر مشقة (¬2)، فتكون أفضل، ولحديث خباب: "شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حر الرّمْضاء في جباهنا وأكفنا فلم يُشْكِنا: أي لم يزل شكوانا" وهو حديث صحيح. رواه مسلم (¬3). وأجيب عنه بأنه محمول على أنهم طلبوا تأخيرا زائدا على (ب) وقت الإبراد وهو زوال حر الرمضاء، وذلك قد يستلزم خروج الوقت، فلذلك لم يجبهم، أو أنه منسوخ بأحاديث الإِبراد فإنها متأخرة عنه (¬4)، واستدل الطحاوي (¬5) للنسخ بحديث المغيرة ابن شعبة قال: "كنا نصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر بالهاجرة، ثم قال لنا: أبردوا بالصلاة" الحديث، وهو حديث رجاله ثقات، رواه أحمد وابن ماجه وصححه ابن حبان (¬6)، ونقل الخلال" عن أحمد أنه قال: هذا آخر الأمَريْن من رسول الله صلى الله عليه وسلم. وجمع بعضهم بأن الإبراد رخصة والتعجيل أفضل (¬7)، وهو قول من قال: إنه أمر إرشاد، وعكس بعضهم فقال: الإِبراد أفضل و (تأول) (جـ) حديث خباب بقوله: فلم يشكنا أي لم يحوجنا إلى شكوى، بل أذن لنا في الإبراد، كما حكى عن ثعلب ¬

_ (أ) ساقطة من هـ. (ب) ساقطة من جـ. (جـ) في النسخ: تأويل والتصحيح من جـ.

بعيد ويرده زيادة في الخبر رواها ابن المنذر، وقال: "إذا زالت الشمس فصلوا" (¬1) وأجيب عن أحاديث أفضلية أول (أ) الوقت أنها عامة أو مطلقة والأمر بالإِيراد خاص، وأما التعليل بالشقة فمدفوع (ب) بأن الأخف قد يكون أفضل كالقَصْر في السفر (جـ وقوله: "فإن شدة الحر من فيح جهنم" تعليل لشرعية الإِبراد والحكمة في ذلك قبل دفع المشقة جـ) لكونها (د) قد تسلب (هـ) الخشوع، وهذا (و) أظهر، وقيل لأنها الحالة التي يُنْشَر فيها العذاب. قال الزين (¬2) ابن المنير: لأن وقت ظهور أثر الغضب لا ينجع فيه الطلب إلا ممن أذن له فيه، ولذلك قال: "أقصر عن الصلاة عند استواء الشمس، فإنها ساعة تسجر فيها جهنم" رواه مسلم (¬3)، ويمكن أن يقال تسجر جهنم: سبب فيحها وفيحها سبب وجود شدة الحر وهو مظنة الشقة التي هي مظنة سلب الخشوع فناسب أن لا يقبل فيها لكن يرد عليه أن (ز) تسجرها مستمر في جميع السنة والإِبراد مختص بشدة الحر (ح منهما متغايران، فحكمة الإبراد دفع المشقة وحكمة الترك وقت تسجرها (ط) ح) لكونه وقت ظهور أثر الغضب، وفيح جهنم (¬4) أي من سعة ¬

_ (أ) ساقطة من جـ. (ب) في جـ: فمرفوع. (جـ - جـ) ساقط من جـ. (د) في جـ: لكونه. (هـ) في جـ: سلب. (و) في جـ: وهو. (ز) ساقطة من هـ. (ح - ح) بهامش هـ. (ط) في ب: سجرها.

انتشارها وتنفسها، ومنه مكان أفيح: أي متسع، وهذا (أ) كناية عن شدة إسعارها، وظاهره أن مثار (ب) وهج الحر في الأرض من فيح جهنم حقيقة. وقيل: هو تشبيه أي كأنه نار جهنم في الحر (والأول) (جـ) أولى، يؤيده حديث: "اشتكت النار إلى ربها فأذن لها بنفسين" (¬1). 129 - عن رافع بن خديج - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أَصْبِحوا بالصُّبْح، فإنّه أعظمُ لأجوركم" رواه الخمسة وصححه الترمذي وابن حبان، وهذا لفظ أبي داود، وروي "أسْفِروا بالصبح .. " الحديث (¬2). احتجت به الحنفية على استحباب تأخير الفجر إلى الإِسفار (¬3)، وأجيب عنه بأن المعنى به تحقيق طلوع الفجر. قال الترمذي: قال الشافعي وأحمد وإسحق: معناه: أن يضح الفجر فلا يشك فيه. قال: ولم يرو أن المعنى تأخير الصلاة (¬4). يقال: وضح الفجر يضح (¬5): إذا أضاء، ويرده رواية ابن أبي شيبة وإسحق وغيرهما بلفظ: "ثَوِّب بصلاة الصبح يا بلال، حتى ينظر القوم (د) ¬

_ (أ) زاد في ب: شعار. (ب) في هـ: مثال. (جـ) في الأصل وهـ: والأولى. (د) مكررة في ب.

مواقع نبلهم من الإِسفار" (¬1) لكن روى الحاكم من حديث عائشة قالت: "ما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلاة (أ) لوقتها الآخر حتى قبضه الله تعالى" (¬2). 130 - عن أَبى هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من أدرك من الصبح ركعة قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الصبح، ومن أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر" متفق عليه (¬3). ولمسلم عن عائشة (¬4) نحوه وقال: "سجدة" بدل "ركعة"، ثم قال: والسجدة إنما هي الركعة. ¬

_ (أ) في جـ: الصبح.

الإدراك: الوصول إلى الشيء. وظاهره أنه يكتفي بذلك، (أوليس ذلك مرادا بالإجماع (¬1)، فلا بد من الحمل على أنه إذا (ب) أتى بما بقي، وهذا قول الجمهور، وقد صرح بذلك أ) في رواية الدراوردي عن زيد بن أسلم أخرجه البيهقي من وجهَيْن ولفظه: "من أدرك من الصبح ركعة قبل أن تطلع الشمس (جـ وركعة بعد أن تطلع الشمس جـ) فقد أدرك الصلاة" (¬2)، وأصرح منه رواية أَبي (د) غسان محمد بن مطرف عن زيد بن أسلم عن عطاء هو ابن يسار عن أبي هريرة بلفظ: "من صلى ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس ثم صلى (هـ) ما بقي بعد غروب الشمس لم يفته العصر، وقال مثل ذلك في الصبح" (¬3)، والنسائي من وجه آخر: "من أدرك (وركعة من و) الصلاة فقد أدرك الصلاة كلها إلا أنه يقضي (ز) ما فاته" (¬4). وللبيهقي من وجه آخر: "من أدرك ركعة من الصبح قبل أن تطلع الشمس فليصل إليها أخرى" (¬5). والخلاف في ذلك لأبي حنيفة فقال: لا يصح الفجر بإدراك ركعة (¬6)؛ لأنها ¬

_ (أ، أ) بهامش ب. (ب) ساقطة من جـ. (جـ، جـ) ساقطة من جـ. (د) في هـ: ابن. (هـ) في جـ: يصلي. (و، و) بهامش هـ. (ز) ساقطة من جـ.

تصادف الوقت المنهى عنه، والصلاة عنده لا تصح في ذلك الوقت لا نفلا ولا فرضا، واحتج على ذلك بالأحاديث الواردة في النهي عن الصلاة عند طلوع الشمس، وادعى بعضهم أن أحاديث النهي ناسخة لهذا الحديث، وهي دعوى تحتاجُ إلى دليل (¬1)، وأنه لا يصار إلى النسخ بالاحتمال، والجمع بين الحديثين ممكن بأن تُحمل أحاديث (أ) النهي على ما لا سبب له من النوافل، ولا شك أن التخصيص أولى من النسخ (¬2). ومفهوم الحديث أَنَّ من أدرك أقل من ركعة لا يكون مدركا للوقت، قال بعضهم: ويكون ما أدركه من الوقت أداء وبعده قضاء، وقيل كذلك إلا أنه يلتحق بالأداء حكما، والمختار أن الكل أداء، وذلك من فضل الله تعالى. ونقل بعضهم الاتفاق على أنه لا يجوز لمن ليس له عذر تأخير الصلاة حتى لا يبقى منها إلا هذا القدر (¬3). وهذا الحديث في العصر والفجر، وأما العشاء فلعله يتفق على صحة ما أدرك منها ركعة لعدم مصادفة الوقت المنهى عنه، ولعموم حديث النسائي المار وترجم البخاري فقال: من أدرك من الصلاة ركعة، وساق الحديث بلفظ: من أدرك ركعة ¬

_ (أ) ساقطة من جـ.

من الصلاة فقد أدرك الصلاة" (¬1) وقد رواه مسلم من رواية عبيد الله العمري (¬2) عن الزهري وأحال به على حديث مالك، وأخرجه البيهقي (¬3) وغيره من الوجه الذي أخرجه مسلم. وقوله (أ): "وقال سجدة" بدل ركعة رواية مسلم (¬4) لهذه من حديث عائشة انفرد بها عن البخاري، ورواه البخاري بلفظ: "سجدة" من حديث أَبي سلمة عن أبي هريرة: "إذا أدرك أحدكم سجدة من صلاة العصر قبل أن تغرب الشمس فليتم صلاته" (¬5)، وقد رواه الإسماعيلي من طريق حسين بن محمد عن شيبان (ب) بلفظ: "من أدرك منكم ركعة" (¬6)، فدل على أن الاختلاف في اللفظ وقع من الرواة (جـ)، والرواية من طريق مالك بلفظ ركعة لم يختلف على راويها في ذلك فكان عليها الاعتماد. قال الخطابي (¬7): المراد بالسجدة الركعة بركوعها وسجودها، والركعة إنما يكون (د) تمامها سجودها فسميت على هذا المعنى سجدة انتهى. وقد روى البيهقي (¬8) هذا الحديث (هـ) من طريق محمد بن الحسين بن أبي ¬

_ (أ) ساقطة من هـ. (ب) في ب: سفيان. (جـ) في جـ: عن رواتها. (د) ساقط من ب. (هـ) ساقطة من ب.

الحسين عن الفضيل بن دُكَيْن وهو أَبو نُعيم (¬1) شيخ البخاري بلفظ: "إذا أدرك أحدكم أول سجدة من صلاة العصر" فسرت (أ) المراد. وقوله: "والسجدة إنما هي الركعة"، ظاهره أنه من تمام الحديث و (ب) قال المحب الطبري في "الإحكام": يحتمل إدراج هذه اللفظة الأخيرة. 131 - وعن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا صلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس، ولا صلاة بعد العصر حتى تغيب الشمس" متفق عليه (¬2)، ولفظ مسلم: "لا صلاة بعد صلاة الفجر". وله عن عقبة بن عامر (¬3): "ثلاث ساعات كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهانا أن نصلي فيهن، وأن نقبر فيهن موتانا: حين تطلع الشمس بازغة حتى ترتفع، وحين يقوم قائم الظهيرة حتى تزول الشمس، وحين تَضَيّف الشمس للغروب". والحكم الثاني عند الشافعي من حديث أبي ¬

_ (أ) في ب وهـ: ففسرت. (ب) الواو ساقطة من هـ.

هريرة بسندٍ ضعيفٍ وزاد: "إلا يوم الجمعة" (¬1). وكذا لأبي داود عن أبي قتادة (¬2) نحوه. قوله: "لا صلاة بعد الصبح" المنفي حينئذ هي الصلاة الشرعية لا الفعل الحسي والنفي في معنى النهي، والمعنى لا تصلوا و (أ) قوله: "بعد الصبح": أي بعد صلاة الصبح وقد صرح في مسلم بلفظ صلاة و (ب) كذا بعد العصر أي: بعد صلاة العصر. والحديث يدل على كراهة الصلاة (¬3) في الوقتين المذكورين، وفيه خلاف، فذهب الشافعي والمؤيد بالله (¬4) إلى أنه يكره من الصلاة ما لا سبب له، ولا يكره ما له سبب، (جـ قالوا: لصلاته صلى الله عليه وسلم راتبة الظهر بعد العصر كما سيأتي، وهي لها سبب فدل على أن ما له سبب جـ) لا كراهة فيه جمعا ¬

_ (أ) الواو ساقطة من جـ. (ب) الواو ساقطة من هـ. (جـ - جـ) بهامش ب.

بين الحديثَيْن، وذهب أَبو حنيفة إلى كراهة ذلك مطلقا (¬1)، لعموم الحديث وذهب الهادي والقاسم إلى أن الصلاة في الوقتين لا تكره مطلقا، لصلاة النبي صلى الله عليه وسلم نافلة الظهر بعد العصر (¬2)، "وتقريره لقيس وقد (أ) رآه يصلي بعد صلاة الفجر نافلة الفجر" (¬3) واستقرب في "البحر" قول المؤيد بالله والشافعي جمعا بين الأدلة (¬4). وحكى أبو الفتح اليَعمري (¬5) عن جماعة من السلف أنهم قالوا: إن النهي عن الصلاة بعد الصبح وبعد العصر إنما هو إعلام بأنهما لا يتطوع بعدهما، ولم يقصد الوقت بالنهي كما قصد به وقت الطلوع ووقت الغروب، ويؤيد ذلك ما رواه أبو داود والنسائي بإسنادٍ حَسَن عن علي (¬6) -رضي الله عنه- عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تصلوا بعد الصبح ولا بعد العصر إلا أن تكون الشمس نقية" -وفي رواية: "مرتفعة"، فدل على أن المراد بالبُعدية ليس على عمومه وإنما المراد وقت الطلوع ووقت الغروب وما قاربهما، ويدل عليه حديث ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (ب): "لا يتحرى أحدكم فيصلي عند طلوع الشمس ولا عند غروبها" (¬7) أخرجه البخاري، وحديث عائشة: "ما ترك السجدتَيْن بعد العصر عندي ¬

_ (أ) في هـ: فقد. (ب) ساقطة من هـ.

قط" (¬1) وفي الرواية الأخرى: "لم يكن يدعهما سرًّا ولا علانية" (¬2) وفي الرواية الأخيرة: "ما كان يأتيني في يومي بعد العصر إلا صلى ركعتين" (¬3)، وقولها: "والذي ذهب به ما تركهما حتى لقي الله" (¬4). وأجاب من أطلق الكراهة بأن فعله هذا يدل على جواز استدراك ما فات من الرواتب من غير كراهة، ومواظبته صلى الله عليه وسلم على ذلك من خصائصه، ويدل عليه رواية ذكوان مولى عائشة "أنها حدثته أنه (أ) صلى الله عليه وسلم كان يصلي بعد العصر وينهى عنها، ويواصل وينهى عن الوصال" (¬5). رواه أبو داود، وفي رواية أبي سلمة عن عائشة في نحو (ب هذه القصة وفي آخرها: "وكان إذا صلى صلاة أثبتها" رواه مسلم (¬6). قال البيهقي (¬7): الذي اختص به ب) المداومة على ذلك، لا أصل القضاء، وأما ما روي عن ذكوان عن أم سلمة في هذه القصة أنها قالت: فقلت يا رسول الله: أنقضيها إذا فاتتنا؟ فقال صلى الله عليه وسلم "لا" (¬8) فهي رواية ضعيفة لا تقوم بها حجة. ¬

_ (أ) في هـ: بأنه. (ب- ب) بهامش هـ.

قال المصنف -رحمه الله-: أخرجها الظحاوي (¬1) واحتج (أ) بها على أن ذلك كان من خصائصه (¬2)، وفيه ما فيه، ورواية الترمذي: "أنه صلى الله عليه وسلم صلاهما بعد العصر لما فاتتا ولم يَعُدْ" (¬3) معارضة بما مضى عن عائشة رضي الله عنها، وكذا ما روي عن أم سلمة: "صلاهما في بيته مرة واحدة" (¬4) وفي رواية عنها: "لم أره يصليهما قبل ولا بعد"، وكذا "إنكار ابن عباس لصلاته لهما" (¬5) فحديث عائشة مثبت ولأنه لما كان يصليهما في بيته فلم يطلع على ذلك، ولذلك قالت عائشة: "وكان (ب) لا يصليهما في المسجد مخافة أن يثقل على أمته" (¬6)، وضَرْب عمر الناس على الصلاة بعد العصر (¬7) إنما هو خشية مصادفة آخر الوقت كما روى عبد الرزاق عن زيد بن خالد (جـ) أن عمر رآه وهو خليفة ركع بعد العصر فضربه فذكر الحديث، وفيه: فقال (د) عمر: يا زيد لولا أني أخشى أن يتخذهما (هـ) الناس سلما إلى الصلاة حتى الليل لم أضرب ¬

_ (أ) في هـ وب: فاحتج. وفي جـ: واحتج لها. (ب) في هـ: فكان. (جـ) في جـ: خالد بن زيد. (د) في ب: فذكر. (هـ) في ب: يتخذوهما.

فيهما (¬1) وفي رواية عن عمر: ولكني أخاف (أ) أن يأتي بعدم قوم يصلون ما بين العصر إلى الغروب حتى يمروا بالساعة التي نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصلى فيها (¬2). وقوله: في حديث عقبة: "أن (ب) نقبر" بضم الباء وكسرها، وقوله: "بازغة" (¬3) أي ظاهرة، وقوله: "حتى ترتفع" (جـ) قد ورد مفسرًا في رواية بارتفاعها قدر رمح (¬4) وقوله: "وحين يقوم قائم الظهيرة": أي قيام الشمس وقت الزوال من قولهم (د): قامت به دابته (¬5) وقفت، والشمس إذا بلغت وسط السماء أبطأت حركة الظل إلى أن تزول، فيتخيل الناظر المتأمل أنها وقفت وهي سائرة، وقوله: "و (هـ) حين تَضَيّف (و) " بفتح التاء الفوقية وفتح الضاد المعجمة وتشديد الياء أي تميل للغروب. والحديث يدل على ظاهر النهي على تحريم الصلاة في الثلاثة الأوقات فَرْضًا، ونفلا، إذ النهي للتحريم حقيقة، وكذا قَبْر الموتى، واختلف العلماء في ذلك بعد ¬

_ (أ) انتهى الكلام من ب. (ب) ساقطة من جـ. (جـ) زاد في جـ. (د) في هـ: قوله. (هـ) الواو ساقطة من هـ. (و) في جـ: تتيضف.

إجماعهم على الكراهة (¬1) فقال الإِمام المهدي: ظاهر كلام أهل المذهب أن الكراهة للتنزيه لا للتحريم، وقال أبو جعفر: بل للتحريم، (ثم قال الإِمام المهدي: وكلام أهل المذهب ليس على ظاهره (أ) بل مرادهم ما قاله أبو جعفر، وصرح الفقيه عليٌّ بأنها للحضر وجعله لمذهب الهادوية (ب)، ثم اختلفوا هل ذلك يختص (بالنفل) (جـ) أو يشمل الفرض والنفل؟ والفرض هل التأدية أو القضاء؟ فذهب الهادي والقاسم والشافعي ومالك (¬2): أن الفرض لا يكره فالقضاء لقوله صلى الله عليه وسلم "من نام عن صلاته" (¬3). الحديث. والأداء لقوله: "من أدرك ركعة من العصر ومن أدرك ركعة من الفجر" (¬4) فبقي النفل داخلا تحت حكم الكراهة، وصلاة الجنازة على مقتضى قول الهادوية لأنها مشبهة للنفل إذ لا وقت لها مضروب، حكمها حكم النافلة، (وابن المنير (د) وتبعه النووي (¬5) وادعى أَنَّ الجنازة لا تكره (هـ) بالإجماع، ولبعض الحنفية تفرقة بين أن يكون سببها وهو حضور الجنازة في وقت الكراهة (وفلا تكره، وبين أن يكون حضورها قبل ذلك الوقت وتؤخر فتكره) (ز) وذهب و) ¬

_ (أ) زاد في هـ: و. (ب) بهامش الأصل. (جـ) في الأصل وهـ: النفل. (د) في هـ: وابن عبد البر. (هـ) في جـ: تكره. (و- و) بهامش هـ. (ز) بهامش الأصل، وفي هـ بعضه بالهامش.

زيد بن علي والمؤيد (¬1) والداعي والإمام يحيى إلى شمول النهي للقضاء في تلك الأوقات، قالوا: لأن دليل المنع لم يفصل (أ) "ولما نام النبي صلى الله عليه وسلم عن الفجر انتظر استقلال الشمس ثم صلي" (¬2) قال المؤيد والامام يحيى (¬3): وفي قضاء الرواتب في الوقت المكروه الخلاف كما (ب) في الفرض، قال أبو طالب (¬4): بل الهادي يكرهها فيه، وذهبت الحنفية إلى أنه لا يجوز القضاء في الوقت المكروه، قالوا: لأنه فات كاملًا فلا يؤدى ناقصا، وأما التأدية فقال أبو حنيفة: من أدرك ركعة قبل طلوع الشمس مِن الفجر تبطل صلاته لئلا يؤديها في الوقت المكروه (¬5)، وقال أبو يوسف (¬6) يبقى كما هو حتى يرتفع الوقت المكروه لحظر الفعل والترك بخلاف العصر إذا صلى ركعة قبل غروب الشمس ثم غربت فإن صلاته تصح لأن سبب الوجوب هو الجزء القائم من الوقت وذلك الجزء القائم من الوقت ناقص لأنه أخَّر وقت العصر فقد أداها كما وجبت والباقي يصليها في وقت المغرب، وليس بوقت كراهة. ولو شرع في التطوع في الأوقات الثلاثة، قال في النهاية (¬7): للحنفية: يجب قطعها وقضاؤها في وقت مباح في ظاهر الرواية، وقيل الأفضل قطعها (جـ ولو مضى فيها خرج عما وجب عليه بالشروع ولا يجب سواه فإن قطعها جـ) وأداها (د) في وقت مكروه كما إذا دخل في التطوع عند قيام ¬

_ (أ) في هـ: يفضل. (ب) ساقطة من جـ. (جـ - جـ) بهامش جـ. (د) في جـ: وأداؤها.

الظهيرة ثم أفسده وقضاه عند الغروب أجزأه عندنا خلافا لزفر (¬1) لنا إنه لو أتمها في الوقت المكروه جاز لأنه أداها كما التزم، فكذا إذا قضاها في الوقت المكروه لأن القضاء مثل الأداء. انتهى. وقوله: والحكم الثاني إلخ .. المراد بالحكم الثاني النهي عن الصلاة في الثلاثة الأوقات (¬2)، رواه الشافعي من حديث أبي هريرة عن إبراهيم بن محمد بن أبي يحيى عن إسحاق بن عبد الله بن أبي فروة عن سعيد عن أبي هريرة (¬3)، وإسحاق وإبراهيم ضعيفان، ورواه البيهقي من طريقَيْن فيهما متروك وله شواهد. وحديث أبي قتادة (¬4): "كره النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة نصف النهار إلا يوم الجمعة". وقال: "إن جهنم تسجر إلا يوم الجمعة". رواه أبو داود (¬5) وقال: إنه مرسل (¬6) وفيه ليث بن أبي سليم (¬7) وهو ضعيف، وقال ¬

_ (¬1) فقه زفر بن الهذيل 405. (¬2) وقال الصنعاني: النهي عن الصلاة وقت الزوال والحكم الأول النهي عنها عند طلوع الشمس، وتعقب الصنعاني الشارح فقال: فسر الشارح الحكم الثاني بالنهي عن الصلاة في الأوقات الثلاثة كما أفاده حديث أبي سعيد، وعقبه، لكن فيه أنه الحكم الأول لأن الثاني هو النهي عن قبر الأموات فإنه الثاني في حديث عقبة وفيه أن يلزم أن زيادة استثناء يوم الجمعة يعم الثلاثة الأوقات في عدم الكراهة وليس كذلك اتفاقا إنما الخلاف في ساعة الزوال يوم الجمعة. سبل السلام 1/ 217. (¬3) حديث أبي هريرة: "نهى عن الصلاة نصف النهار حتى تزول الشمس إلا يوم الجمعة" الشافعي 1/ 63، البيهقي في المعرفة ل 6/ 2 خ. والحديث فيه إسحاق بن عبد الله بن أبي فروة الأموي مولاهم المدني متروك. المجروحين 1/ 131، الميزان 1/ 193. إبراهيم بن محمد بن أبي يحيى الأسلمي أبو إسحاق المديني متروك مر في ح 26. (¬4) و (¬5) أخرجه أبو داود الصلاة باب الصلاة يوم الجمعة قبل الزوال 1/ 653 ح 1083. (¬6) وفيه أبو الخليل: صالح بن أبي مريم الضبعي مولاهم أبو الخليل البصري ثقة روايته عن أبي قتادة مرسلة. تهذيب الكمال 2/ 600، التقريب 15. (¬7) ليث بن أبي سليم بن زنيم أبو بكر الكوفي، صدوق اختلط أخيرا فترك حديثه. مر في حديث 46.

الأثرم: قدَّم أحمدُ جابرَ الجعفي عليه في صحة الحديث (¬1)، قال صاحب الإِمام (أ): وقوى الشافعي ذلك لما رواه عن ثعلبة بن (أبي) (ب) مالك عن عامة أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنهم كانوا يصلون نصف النهار يوم الجمعة (¬2)، (ولأنه صلى الله عليه وسلم استحب التبكير إليها، ثم رغب في الصلاة إلى خروج الإمام (جـ) من غير تخصيص ولا استثناء) (د) (واستثنى الشافعي والمنصور بالله حرم مكة كما سيأتي قريبا إن شاء الله) (هـ) وكذا ما له سبب، (وذلك لأن الأدلة الطالبة) (و) لها عامة في الأوقات خاصة بتلك الصلاة وأحاديث النهي بالعكس، وترجحت (ز) الأولى بأنه لم يدخلها التخصيص، وأحاديث النهي دخلها التخصيص بالفائتة لقوله: "من نام عن صلاة .. " الحديث، وقال مالك: لا تكره النافلة وقت الاستواء (¬3) قال: ما (جـ) أدركت أهل الفضل إلا وهم يجتهدون ويصلون نصف النهار (¬4) وقد روى أيضًا حديث الصنابحي في الموطأ ولفظه: "ثم إذا استوت قارنها ثم إذا زالت فارقها " وفي ¬

_ (أ) في جـ: الإحكام. (ب) في النسخ ساقطة والتصحيح من الأم وغيرها انظر التخريج. (جـ) ساقطة من جـ. (د) بهامش الأصل. (هـ) في الأصل ضرب عليه، وأثبت واستثنى المنصور بالله كما سيأتي قربيا إن شاء الله تعالى. وفي هـ وجـ: كذلك. (و) غير واضحة بالأصل. (ز) في جـ: ورجحت. (ح) في هـ: مالك.

آخره (أ): ونهى عن الصلاة في تلك الساعات (¬1)، وهو حديث مرسل مع قوة رجاله، قال ابن عبد البر: فإما أنه لم يصح عنده، وإما أنه (ب) رده بالعمل الذي ذكره (¬2). انتهى. قال المصنف في "فتح الباري" (¬3): فائدة: فَرَّقَ بعضُهم بين حكمة النهي عن الصلاة بعد العصر والصبح، وعن الصلاة عند طلوع الشمس وعند غروبها، فقال: يكره في الحالتين الأوليين (جـ) ويحرم في الحالتين الآخرتَيْن (د)، ومِمَّن قال بذلك: محمد بن سِيرين (¬4) ومحمد بن جَرير الطبريّ واحتج بما ثبت "أنه صلى الله عليه وسلم صلى بعد العصر" (¬5) فدل على أنه لا يحرم وكأنه يحمل فعله على بيان الجواز، وروي عن ابن عمر تحريم الصلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس، وإباحتها بعد العصر حتى تصفرّ، وبه قال ابن حزم (¬6)، واحتج بحديث علي رضي الله عنه "أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن الصلاة بعد العصر إلا والشمس مرتفعة" (¬7). رواه أبو داود بإسناد صحيح قوي، والمشهور إطلاق الكراهة في الجميع فقيل: تحريم وقيل: تنزيه، والله أعلم. انتهى. ¬

_ (أ) في هـ: أخرى. (ب) في جـ: وقال إنه. (جـ) في هـ: الأولين. (د) في هـ: الحالين الآخرين.

فائدة: قال في "النهاية": الأوقاتُ التي تُكره فيها الصلاةُ اثنا عشر: فثلاثة منها تكره الصلاة فيها لمعنى في (أ) الوقت وهي وقت الطلوع ووقت الغروب والاستواء، وتسعة أوقات لمعنى في غير الوقت، وتأثيرها في النوافل وما في معنى النوافل ولا تأثير لها في الفرائض، وهي بعد طلوع الفجر، وبعد صلاة الفجر قبل طلوع الشمس، وبعد صلاة العصر قبل التغير، وبعد الغروب قبل صلاة المغرب، وعند الخطبة يوم الجمعة، وعند الإقامة يوم الجمعة، وعند خطبة العيدَيْن، وعند خطبة الكسوف، وعند خطبة الاستسقاء. انتهى. وهذا بناء على أنَّ الكسوف فيه خطبة، وليس ذلك بمشهور (ب والله أعلم ب). 132 - وعن جُبير بن مُطْعِم - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا بني عبد مناف، لا تمنعوا أحدًا طاف بهذا البيت، وصلى أية ساعة شاء من ليل أو نهار" رواه الخمسة وصححه الترمذي (جـ وابن حبان. جـ) (¬1). جُبَيْر بضم الجيم وفتح الباء الموحدة وسكون الياء ابن مُطْعِم بضم الميم وسكون الطاء وكسر العين المهملة هو أبو محمد جبير بن مطعم بن عدي بن نوفل بن ¬

_ (أ) ساقطة من جـ. (ب -ب) ساقطة من هـ. (جـ-جـ) ساقطة من جـ.

عبد مناف القرشي النوفلي، ويقال كنيته: أبو أمية، وقيل (أ) أبو عدي، أسلم قبل الفتح ونزل المدينة ومات بها سنة أربع وخمسين، وقيل سبع وخمسين، وقيل تسع وخمسين (ب) (روى) (جـ) عنه ابناه نافع ومحمد وسليمان بن صرد وغيرهم، وكان من أنسب قريش لقريش وقيل: إنما أخذ ذلك من أبي بكر (¬1). الحديث أخرجه أيضًا الشافعي وأحمد وابن خزيمة والدارقطني والحاكم من حديث أبي الزبير عن عبد الله بن باباه عن جبير، ورواه الدارقطني من وجهَيْن آخرَيْن عن نافع بن جبير عن أبيه (¬2)، وهو معلول فإن (د) (المحفوظ) (5) أنه عن (و) عبد الله المذكور لا عن نافع، وأخرجه الدارقطني (¬3) أيضًا من حديث ابن عباس من رواية مجاهد عنه ورواه الطبراني (¬4) من رواية عطاء عن ابن عباس، ورواه أبو نعيم في تاريخ أصبهان، والخطيب في (¬5) التلخيص من طريق عامر بن عبيد عن أبي الزبير عن علي بن عبد الله بن العباس، وهو معلول، وروى ابن عدي من طريق سعيد بن أبي راشد عن عطاء عن أبي هريرة (¬6). ¬

_ (أ) ساقطة من هـ. (ب) ساقطة من هـ. (جـ) في الأصل وهـ: رواه. (د) في جـ: بأن. (هـ) غير واضحة بالأصل. (و) ساقطة من هـ.

والحديث فيه دلالة على أن الطواف مشروع في جميع الأوقات والصلاة أيضًا في مكة لا تكره في أية ساعة كانت ومن جملة تلك (أ) الأوقات التي تقدم النهي عن الصلاة فيها، وهذا الحديث معارض بما مَرَّ لما في هذا، وما عارضه من العموم والخصوص من وجه، والجمهور قالوا بإطلاق الكراهة ترجيحًا لجانب الكراهة ولثبوت الأحاديث الواردة في الأوقات المذكورة في الصحيحين وغيرهما، والشافعي والمنصور بالله رجحا (ب) العمل بهذا ووجه الترجيح ما مر في المسألة الأولى فارجع إليه. قال المحاملي في "المقنع": الأولى أن لا تفعل خروجا من الخلاف وتأول بعض المانعين (جـ) الصلاة المذكورة في هذا الحديث بركعتي الطواف (د) وهو بعيد لرواية ابن حبان في صحيحه: "يا بني عبد المطلب إن كان (لكم) (هـ) من الأمر شيء فلا أعرفن أحدا منكم أن يمنع من يصلي عند البيت أية ساعة شاء من ليل أو نهار" (¬1)، ولأصحاب الشافعي احتمال الإِباحة في نفس البلد دون باقي الحرم أو الإباحة في المسجد فقط. 133 - وعن ابن عمر -رضي الله عنهما - عن (و) النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الشفق الحُمْرَة " رواه الدارقطني (¬2) وصحح ابن خزيمة (¬3) وغيره ¬

_ (أ) ساقطة من جـ. (ب) بهامش جـ: أي رجحا عدم الكراهة في ظهيرة يوم الجمعة وفي الظهيرة في غيرها من الأوقات المكروهة بمكة. (جـ) في هـ: التابعين. (د) في هـ: بركعتين للطواف. (هـ) في النسخ: إليكم، والتصحيح من ابن حبان. (و) في جـ: أن.

وقفه. تمام الحديث "فإذا غاب الشفق وجبت الصلاة". وأخرجه ابن عساكر من حديث أبي حُذَافة عن مالك وقد ذكر الحاكم (¬1) في المدخل حديث أبي حذافة وجعله مثالا لما رفعه المخرجون من الموقوفات، وأخرج ابن خزيمة في صحيحه من حديث عبد الله بن عمر مرفوعًا (¬2): "ووقت (أ) صلاة المغرب إلى أن تذهب حُمرة (ب) الشفق". الحديث قال (¬3): وتفرد محمد بن يزيد بلفظة (جـ) "حمرة"، وإنما قال أصحاب شعبة فيه: نور الشفق مكان حمرة الشفق. قال المصنف -رحمه الله-: محمد بن يزيد: صدوق (¬4)، وقال البيهقي: روي هذا الحديث عن عمر وعلي وابن عباس وعُبادة بن الصامت وشداد بن أوس وأبي هريرة ولا يصح فيه شيء (¬5). والحديث فيه دلالة على غاية وقت المغرب وهو غيبوبة الحمرة، وهو قول الأكثر (¬6) وفي الجديد (د) للشافعي (¬7): ينقضى بمضى قدر وضوء أي وكذا تيمم أو غسل أو طهارة جنب وستر عورة، وكذا تعمم وتقمص وارتداء وأذان وإقامة وخمس ركعات، والمراد بالخمس المغرب وسنتها واستثنى مقدار الذكورات ¬

_ (أ) في جـ: وقت. (ب) ساقطة من جـ. (جـ) في جـ: بلفظ. (د) في هـ: الحديث.

للضرورة، واعتبر القفال (¬1) في كل إنسان فعل نفسه المعتاد (¬2)، وقيل: وركعتان قبلها أيضًا، واستحب أبو بكر البيضاوي أربعا بعدها، فيعتبر على هذا سبع (أ)، وقيل: يكتفي بقدر ثلاث فقط ويعتبر أيضًا قدر لقمة يكسر بها الجوع. كذا في الروضة وشرح المهذب والوسيط، وكذا زمن الاجتهاد في القبلة وحجة الشافعي على ذلك أن جبريل صلى المغرب في اليومين في وقت واحد (¬3)، ورد بأن جبريل إنما بين الوقت المختار ولم يستوعب وهذا جار في كل الصلوات سوى الظهر أو (ب) أنه متقدم في أول الأمر بمكة، وهذه الأحاديث بامتداد المغرب إلى غروب الشفق متأخرة في أواخر الأمر بالمدينة، فوجب اعتمادها، أو أن هذه الأحاديث أصبح إسنادا من حديث بيان جبريل فوجب تقديمها، والعمل باللفظ أولى عند التعارض، وقد تقدم التصريح بوقت المغرب في حديث عبد الله بن عمر. وقوله: "فإذا غاب الشفق وجبت الصلاة ": أريد (جـ) بالصلاة العشاء، وقد ورد مصرحا به في حديث أبي هريرة، وأن أول وقت العشاء حين يغيب الشفق، ويحتمل أن يريد بالصلاة المغرب والوجوب بمعنى السقوط أي سقطت الصلاة، ويكون ذلك متمسكا بمن يقول: إن آخر وقت المغرب ذلك، وما بعده قضاء. والله أعلم. ¬

_ (أ) في جـ: تسع. (ب) في هـ: إلا. (جـ) في جـ: أراد.

134 - عن ابن عباس -رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الفجر فجران: فجر يحرم الطعام وتحل فيه الصلاة، وفجر تحرم فيه الصلاة، أي صلاة الصبح، ويحل فيه الطعام". رواه ابن خزيمة والحاكم وصححاه (¬1). وللحاكم في حديث جابر نحوه، وزاد في الذي يحرم الطعام: "إنه يذهب مستطيلا في الأفق، وفي الآخَر: إنه كذنب السرحان" (¬2). حديث ابن عباس: قال الدارقطني: لم يرفعه غير أبي أحمد (أ) الزبيري عن الثوري عن ابن جريج، ووقفه الفريابي (ب) وغيره عن الثوري، ووقفه أصحاب ابن جريج (جـ) عنه أيضًا (¬3). وحديث جابر رواه الحاكم من حديث محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان عن جابر بلفظ "الفجر فجران فأما الذي يكون كذنب السرحان فلا يحل الصلاة ولا يحرم الطعام وأما الذي يذهب مستطيلا في الأفق فإنه يحل الصلاة ويحرم الطعام" (¬4) و (د) رواه الأزهري في كتاب معرفة وقت الصبح من حديث ابن عباس موقوفًا ¬

_ (أ) في هـ: أبي الزبير. (ب) في هـ: القرماني. (جـ) في النسخ ابن جرير، وفي هامش الأصل مصححه: ابن جريج من التلخيص والدارقطني. (د) الواو ساقطة من هـ.

بلفظ: "ليس الفجر الذي يستطيل في السماء، ولكن الفجر الذي ينتبز (أ) على وجوه الرجال" (¬1) قال البيهقي (¬2): روي (ب) موصولا ومرسلا، والمرسل أصح، والمرسل الذي أشار إليه أخرجه أبو داود في المراسيل والدارقطني (¬3) من حديث محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان أنه بلغه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال، وغلط (¬4) من زعم أنه من رواية ثوبان مولى النبي صلى الله عليه وسلم، وروي نحو هذا من حديث سمرة أخرجه الترمذي (¬5)، ومن حديث أنس مختصرًا أخرجه الطحاوي (¬6)، ومن حديث ابن (جـ) مسعود أخرجه في الصحيحَيْن (¬7)، ومن حديث (د) قيس بن طلق (¬8) أخرجه أبو داود والترمذي والدارقطني، من حديث عبد الرحمن بن (عايش) (هـ) أخرجه الدارقطني (¬9). وقوله: "مستطيلا" أي ممتدا، فسره في رواية البخاري بزيادة: "مد يده عن يمينه ويساره" (¬10)، وقوله كذنب السرحان: وهو الذئب (¬11). ¬

_ (أ) في هـ: يبين. (ب) في هـ: وروى. (جـ) في هـ: أبي. (د) ساقطة في هـ. (هـ) في النسخ: عباس، والتصحيح من الدارقطني.

135 - وعن ابن مسعود -رضي الله عنه - قال: قال لي سول الله صلى الله عليه وسلم: "أفضل الأعمال الصلاة في أول وقتها " رواه الترمذي والحاكم (¬1) وصححاه (أ) وأصله في الصحيحين أخرجه البخاري بلفظ: قال: "سألت النبي صلى الله عليه وسلم: أي العمل أحب إلى الله؟ قال: الصلاة على وقتها، قال: ثم أي؟ قال: بر الوالدين، قال: ثم أي؟ قال: الجهاد في سبيل الله. قال: حدثني بهنَّ، ولو استزدته لزادني" (¬2). والحديث يدل على أنَّ الصلاة أفضل الأعمال، وقد عورض ذلك بحديث أبي هريرة: "أفضل الأعمال إيمان بالله" (¬3) وفي حديث آخر: "أحسن الأعمال الحج " (¬4) وغير ذلك من الأحاديث الواردة في أفضل (ب) الأعمال، والتوفيق بين (جـ) هذه الأحاديث أن يكون التفضيل باعتبار ما ذكر في الجواب، فالصلاة في هذا الجواب أفضل من الأمرين المذكورَيْن لا أنها أفضل الأعمال على ¬

_ (أ) في جـ: وصححه. (ب) في جـ: فضل. (جـ) ساقطة من هـ.

الإِطلاق، وكذا فيما كان على هذه الكيفيَّة، أو أنه أجاب كل سائل بما هو الغرض من سؤاله والأليق بحاله، فعرف النبي صلى الله عليه وسلم أن غرض ابن مسعود معرفة فضل الصلاة، أو أجاب كل سائل بما يحتاج إليه، أو اختلف باختلافت الأوقات بأن يكون العمل في ذلك الوقت أفضل منه في غيره، فقد كان الجهاد في أول الإِسلام أفضل الأعمال لأنه الوسيلة إلى القيام بها، والتمكن من أدائها. وقد تضافرت النصوص على أن الصلاة أفضل من الصدقة، ومع ذلك ففي وقت مواساة المضطر تكون الصدقة أفضل، أو أن أفضل ليس للزيادة، بل المراد به الفَضْل المطلق، أو المراد من أفضل، فحذفت "من" وهي مرادة. وأجيب عن خصوص معارضته لحديث أفضلية الإِيمان بأن المراد بالأعمال هنا أعمال الجوارح، والإِيمان من أعمال القلوب، وأجيب عن تفضيله على الجهاد هنا بأن المراد بالجهاد هنا ما ليس بفرض عين لأنه (أ) يتوقف على إذن الوالدين فيكون برهما مقدما عليه، [وقال ابن بزيزة: الذي يقتضيه النظر تقديم (ب) الجهاد على جميع أعمال البدن لأن فيه بذل النفس، إلا أن الصبر على المحافظة على الصلاة وأدائها في أوقاتها والمحافظة على بر الوالدين لازم دائم فلا (جـ) يصبر على مراقبة (د) أمر الله فيه (هـ) إلا الصديقون] (و). وقوله: "الصلاة في أول وقتها". من رواية علي بن حفص (¬1) تفرد بهما من ¬

_ (أ) في هـ: الآية. (ب) في هـ: بتقديم. (جـ) في جـ: لا. (د) في جـ: موافقه. (هـ) ساقطة من هـ. (و) بهامش الأصل.

بين أصحاب شعبة وكلهم قالوا: على وقتها، وهو شيخ صدوق من رجال مسلم، قال الدارقطني: ما أحسبه حَفِظَهُ لأنه كبر وتغير حفظه. قال المصنف (¬1) -رحمه الله- ورواه (أ) الحسين بن علي المعمري في اليوم والليلة عن أبي موسى محمد بن المثنى عن غندر عن شعبة كذلك، قال الدارقطني: تفرد به المعمري (ب) كذلك فقد رواه أصحابُ أبي موسى عنه بلفظ: على وقتها، ثم أخرجه الدارقطني عن المحاملي عن أبي موسى كرواية الجماعة، وكذا (جـ) رواه أصحاب غندر عنه، والظاهر أن المعمري وهم فيه؛ لأنه كان يحدث من حفظه وقد أطلق النووي في شرح (¬2) المهذب أن رواية: "في أول وقتها" ضعيفة. انتهى. لكن لها طرق أخرى أخرجها (د) ابن خزيمة في صحيحه والحاكم (¬3) وغيرهما من طريق عثمان بن عمر عن مالك بن مغول عن الوليد، وتفرد عثمان بذلك، والمعروف عن مالك بن مغول كرواية الجماعة كذا. أخرجه البخاري (¬4) وغيره، وكأن (هـ) من رواها كذلك ظن أن المعنى واحد، ويمكن أن يكون أخذه من لفظة "على" لأنها تقتضي الاستعلاء على جميع الوقت فتعين أوله، قال القرطبي (¬5) وغيره في رواية: لوقتها اللام للاستقبال مثل: (فطلقوهن لعدتهن) (¬6) وقيل للابتداء كقوله: (أقم الصلاة لدلوك الشمس ((¬7) وقيل ¬

_ (أ) ساقطة من جـ. (ب) زاد في جـ: و. (جـ) في هـ: وكذلك. (د) في هـ: عن. (هـ) في النسخ: وكان.

بمعنى (أ): في أي في (ب) وقتها. وقوله " على وقتها": قيل على بمعنى اللام ففيه ما تقدم، وقيل (أتى بعلى) (جـ) لإِرادة الاستعلاء على الوقت، وفائدته تحقيق دخول الوقت ليقع الأداء فيه. والله أعلم. 136 - عن أبي محذورة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أول الوقت: رضوان الله، وأوسطه: رحمة الله، وآخره: عفو الله" أخرجه الدارقطني بسند ضعيف جدًّا (¬1). وللترمذي من حديث ابن عمر نحوه دون الأوسط وهو ضعيف أيضًا (¬2). هو أبو مَحْذُورة (¬3) بفتح الميم وسكون الحاء المهملة وضم الذال المعجمة سمرة بن مِعْيَر بكسر الميم وسكون العين المهملة وفتح الياء تحتها نقطتان من أسفل وبالراء، وقيل اسمه أوس بن معير (د) وقيل: سلمان بن سمرة، ويقال: سلمة بن معير (هـ)، والأول أصح، وهو مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة، قال ابن عبد البر (¬4): اتفق الزبير وعمه مصعب ومحمد بن إسحاق على أنَّ اسم أبي محذورة أوس. وهؤلاء أعلم بطريق أنساب قريش، مات بمكة سنة تسع (و) ¬

_ (أ) في جـ: المعنى. (ب) ساقطة من جـ وهـ. (جـ) بهامش الأصل. (د) في هـ: معيرة. (هـ) في هـ: مغيرة وفي جـ: سمرة بن معير. (و) في هـ: سبع.

وخمسين، وقيل: تسع وسبعين ولم يهاجر، ولم يزل مقيما بمكة حتى مات. روى عنه: ابنه عبد الملك وعبد الله بن (محيريز) (أ) وابن أبي مليكة (¬1). الحديث أخرجه الدارقطني وفي إسناده إبراهيم بن زكريا العجلي (¬2)، وهو متهم (ب)، وقال البيهقي (جـ) في الترغيب والترهيب: ذِكْر أوسط الوقت لا أعرفه إلا من هذه الرواية (¬3). قال: ويروى عن أبي بكر الصديق أنه لما سمع هذا الحديث قال: "رضوان الله (د) أحب إلينا (هـ) من عفوه". وحديث ابن عمر أخرجه الترمذي والدارقطني من حديث يعقوب بن الوليد ¬

_ (أ) في النسخ: محيرز، وفي التقريب: محيريز، وهو المشهور 188. (ب) في الأصل وج: فيهم. (جـ) في التلخيص التيمي 1/ 191. (د) زاد في هـ: علينا. (هـ) في هـ: علينا.

المديني عن عبد الله بن عُمر عن نافع عن ابن عمر به، ويعقوب (¬1) قال أحمد بن حنبل: كان من الكذابين (أ)، وكذبه ابن معين، قال النسائي: متروك (¬2)، وقال ابن حبان: كان يضع الحديث وما روى هذا الحديث غيره (¬3)، وقال: الحمل فيه عليه، وقال البيهقي (¬4): يعقوب كذبه سائر الحفاظ ونسبوه إلى الوضع، وقال ابن عدي: كان ابن حماد يقول في هذا الحديث عبيد الله مصغرا قال: وهو باطل إن قيل فيه عبد الله أو عبيد الله، وتعقب ابن القطان على عبد الحق تضعيفه (ب): هذا الحديث لعبد الله العمري وترك تعليله بيعقوب (¬5)، وفي الباب عن جابر (جـ) وعلي بن أبي طالب وابن عباس وأنس، وكلها ضعيفة (¬6) إلا الرواية عن علي فإنها من رواية موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين عن أبيه عن جده عن علي، قال البيهقي (¬7): إسناده فيما (د) أظن أصح ما روي في هذا الباب مع أنه معلول، فإن المحفوظ روايته عن جعفر بن محمد عن أبيه موقوفًا، وقال الحاكم: ¬

_ (أ) زادت هـ: الكبار. (ب) في هـ: تضعيف. (جـ) في النسخ: جابر، والتلخيص جرير 1/ 191. (د) في جـ: فيها.

لم أحفظه عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجهٍ يصح ولا (أ) أحد من الصحابة، وإنما الرواية فيه عن أبي جعفر محمد بن علي الباقر (¬1)، قال (ب) الميموني: قال أحمد: لا أعرف فيه شيئًا يثبت. 137 - وعن ابن عمر - رضي الله عنهما - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا صلاة بعد الفجر إلا سجدتيْن" أخرجه الخمسة إلا النسائي (¬2). وفي رواية عبد الرزاق: "لا صلاة بعد طلوع الفجر إلا ركعتي الفجر" (¬3). ومثله للدارقطني عن ابن عمرو بن العاص (¬4). وأخرج حديث ابن عمر أحمد والدارقطني من حديث ابن (جـ) علقمة بن يسار مولى ابن عمر، وفيه قصة، قال الترمذي: غريب لا يعرف إلا من حديث قدامة بن موسى (¬5). قال المصنف -رحمه الله (¬6) -: وقد اختلف في اسم شيخه، فقيل: أيوب بن ¬

_ (أ) زاد في جـ: من. (ب) هـ: وقال - زيادة واو. (جـ) في جـ: أبي.

حصين وقيل محمد (أ) بن حصين (¬1)، وهو مجهول (ب)، وأخرج أبو يعلى (¬2) والطبراني من وجهين آخرين (جـ) نحوه عن ابن عمر، ورواه ابن عدي (¬3) في ترجمة محمد بن الحارث من روايته عن محمد بن عبد الرحمن البيلماني (د) عن أبيه عن ابن عمر. وحديث ابن عمرو في رواية الدارقطني في سنده الإِفريقي (¬4)، ورواه الطبراني من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، وفي سنده: رواد (هـ) (¬5) بن الجراح، ورواه البيهقي (¬6) من حديث سعيد بن المسيب مرسلًا وقال: روي موصولا عن ¬

_ (أ) في جـ: محمود. (ب) في جـ: وهذا. (ب) زاد في هـ: و. (د) في هـ وج: السلماني. (هـ) في هـ: داود.

أبي هريرة ولا يصح، ورواه موصولا الطبراني (¬1) وابن عدي، وسنده ضعيف، والمرسل أصح. والحديث يدل على كراهية النافلة بعد الفجر قبل صلاة الفجر ما عدا ركعتي الفجر، إذ المنفي هو الصلاة المعتبرة شرعا، والنافلة المندوبة ما كانت معتبرة بصفتها فلزم الكراهة (أ)، وإن كان لا صلاة في معنى النهي أي لا تصلوا كان دلالته (ب) على الكراهة أظهر، قال الترمذي: أجمع أهل العلم على كراهة أن يصلي الرجل بعد الفجر إلا ركعتي الفجر (¬2). قال المصنف (¬3) رحمه الله: دعوى الترمذي الإجماع عجيب، فإن الخلاف فيه مشهور حكاه ابن المنذر وغيره، وقال الحسن البصري: لا بأس به (¬4)، وكان مالك يرى أن يفعله من فاتته صلاة (جـ) بالليل (¬5) وقد أطنب في ذلك محمد بن نصر في "قيام الليل" (¬6) ولعل الحكمة في الكراهة لما يلزم من تأخير الفريضة، وقد ثبت أن أفضل العمل الصلاة في أول وقتها. 138 - وعن أم سلمة -رضي الله عنها- قالت: "صلى رسول الله صلى ¬

_ (أ) في جـ: فيلزم الكراهة، وهي ساقطة من هـ. (ب) في جـ: دلالة. (جـ) في هـ: الصلاة.

الله عليه وسلم العصر ثم دخل بيتي فصلى ركعتين فسألته فقال: شغلت عن ركعتين بعد الظهر، وصليتهما الآن، قلت: أفنقضيهما إذا فاتتا؟ قال: لا" أخرجه أحمد (¬1). ولأبي داود عن عائشة - رضي الله عنها - بمعناه (¬2) تقدم الكلام فيه (¬3). عدة (أ) أحاديث (ب) الصلاة سبعة وعشرون حديثًا. ¬

_ (أ) في جـ: عدد. (ب) زادت هـ: كتاب.

باب الأذان

باب الأذان الأذان لغة: الإِعلام. قال الله تعالى: (وأذان من الله ورسوله) (¬1) أي إعلام واشتقاقه من الأَذَن بفتحتين وهو (أ) الاستماع (¬2)، وشرعا (¬3): الإِعلام بوقت الصلاة بألفاظ مخصوصة، قال القرطبي وغيره (¬4): الأذان على قلة ألفاظه مشتمل على مسائل العقيدة، لأنه بدأ بالأكبرية وهو يتضمن وجود الله وكماله، ثم ثنى بالتوحيد ونفي الشركاء، ثم بإثبات الرسالة لمحمد صلى الله عليه وسلم، ثم دعاء إلى الطاعة المخصوصة عقيب الشهادة بالرسالة، لأنها لا تعرف إلا من جهة الرسول، ثم دعا إلى الفلاح، وهو البقاء الدائم، وفيه الإِشارة (ب) إلى المعاد ثم أعاد ما أعاد توكيدًا، ويحصل من الأذان الإِعلام بدخول الوقت، والدعاء إلى الجماعة، وإظهار شرائع الإِسلام، والحكمة في اختيار القول له دون الفعل سهولة القول وتيسره لكل أحد في كل زمان ومكان، واختلف أي أفضل الأذان أو الإِمامة (¬5)؟ ثالثها: أنَّ من علم من نفسه الوفاء بحقوق الإِمامة فهي أفضل ¬

_ (أ) هـ: الإسماع وهو الصواب فليصوب. (ب) في جـ وهـ: إشارة.

وإلا فالأذان، وفي كلام الشافعي (¬1) ما يومئ إليه، واختلف أيضًا في الجمع بينهما، فقيل: يكره، وفي البيهقي مرفوعًا من حديث جابر النهي (¬2) عن ذلك لكن سنده ضعيف وصح عن عمر: لو أطيق الأذان مع الخليفي لأذنت (¬3). رواه سعيد بن منصور وغيره، وقيل: هو خِلاف الأولى، وقيل: يستحب، وصححه النووي (¬4). 139 - عن عبد الله بن زيد بن عبد ربه قال: طاف بي وأنا نائم رجل فقال: تقول الله أكبر الله أكبر فذكر الأذان بتربيع التكبير بغير ترجيع، والإِقامة فرادى إلا قد قامت الصلاة، قال: فلما أصبحتُ أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "إنها لرؤيا حق". الحديث أخرجه أحمد وأبو داود وصححه الترمذي وابن خزيمة (¬5). ¬

_ = الإسلام: الأذان والإقامة أفضل من الإمامة وهو أصح الروايتين عن الإمام أحمد واختيار أكثر أصحابه وأما إمامته صلى الله عليه وسلم وإمامة الخلفاء الراشدين فكانت متعينة عليهم فإنها وظيفة الإمام الأعظم ويمكن الجمع بينها وبين الأذان فصارت الإِمامة في حقهم أفضل من الأذان لخصوص أحوالهم. وإن كان لأكثر الناس الأذان أفضل. الاختيارات 36. (¬1) قال الشافعي: وأكره الإمامة للضمان وما على الإِمام فيها وإذا أمَّ رجل ابتغي له أن يتقي الله عزَّ وجلَّ ويؤدي ما عليه في الأمانة رجوت أن يكون خير حال من غيره. الأم 1/ 141. (¬2) "نهى أن يكون الإمام مؤذنا" المجروحين 3/ 17، وفيه معلى بن هلال الطحان كذاب، الميزان 4/ 152، والكامل 1/ 316، اللسان 1/ 425، وإسماعيل بن عمر بن نجيح البجلي الكوفي ثم الأصبهاني. قال أبو حاتم والدارقطي: ضعيف. الميزان 1/ 239. (¬3) المصنف 1/ 486 ح 1869، البيهقي 1/ 433، وعزاه في التلخيص إلى أبي الشيخ 1/ 223، قال في النهاية: الخليفي بالكسر والتشديد والقصر الخلافة، وهو وأمثاله من الأبنية، كالرميا والدليلا مصدر يدل على معنى الكثرة يريد به كثرة اجتهاده في ضبط أمور الخلافة وتصريف أعنتها. النهاية 2/ 69. (¬4) المجموع 2/ 78. (¬5) أحمد 4/ 43، أبو داود نحوه الصلاة باب كيف الأذان 1/ 337 ح 499، الترمذي نحوه الصلاة باب ما جاء في بدء الأذان 1/ 358 ح 189، ابن ماجه نحوه كتاب الأذان باب بدء الأذان 1/ 232 ح 706، ابن خزيمة أبواب الأذان والإقامة 1/ 191 ح 370، البيهقي كتاب الصلاة باب استقبال القبلة بالأذان والإقامة 1/ 390، ابن حبان الموارد باب فيما جاء في الأذان 94 ح 287، الدارقطني الصلاة باب ذكر الإقامة واختلاف الروايات فيها 1/ 241، المصنف باب بدء الأذان 1/ 455 ح 1774 المنتقى 62، الطحاوي القصة وقال له الرسول: "نعم ما رأيت علمها بلالا" 11/ 33، والمحلى 2/ 158.

وزاد أحمد في آخره قصة قول بلال في أذان الفجر: "الصلاة خير من النوم" (¬1) ولابن خزيمة عن أنس قال: من السنة إذا قال المؤذن في الفجر حي على الفلاح قال: الصلاة خير من النوم (¬2). هو أبو محمد عبد الله بن زيد (¬3) بن ثعلبة بن عبد ربه الأنصاري الخزرجي، وقيل: ليس في نسبه ثعلبة، وإنما ثعلبة أخو زيد وهما ابنا عبد ربه، شهد عبد الله العقبة، وبدرًا والمشاهد (أ) بعدها، وهو الذي أُرِيَ الأذان في النوم سنة إحدى من الهجرة بعد بناء المسجد، وكانت معه راية بني الحارث بن الخزرج يوم الفتح عداده في أهل المدينة، ومات بها سنة اثنتين وثلاثين وهو ابن أربع وستين سنة، وصلى عليه عثمان، وله ولأبويه صُحبة. روى عنه ابنه محمد وسعيد بن المسيب وابن أبي ليلى الحديث، وأخرجه (ب) أيضًا ابن حبان والبيهقي كلهم (¬4) من حديث يعقوب بن إبراهيم بن سعيد عن أبيه عن ابن إسحاق، حدثني محمد بن إبراهيم التيمي عن محمد بن عبد الله بن زيد حدثني أبي قال: لما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بعمل الناقوس ليضرب به للناس لجمع الصلاة طاف بي الحديث، وفيه أن عمر جاء فقال: قد رأيتُ مثلَ ما رأى، ورواه أحمد (¬5) والحاكم (¬6) من وجهٍ آخر عن سعيد بن المسيب عن عبد الله بن ¬

_ (أ) زاد في هـ: كلها. (ب) في هـ: والحديث أخرجه.

زيد (أوقال الحاكم: هذا أمثل الروايات في قصة عبد الله بن زَيْد لأن سعيد بن المسيب قد سمع من عبد الله بن زيد أ) ورواه يونس ومعمر وشُعيب وابن إسحاق عن الزهري. قال: وأما أخبار (¬1) الكوفيين في (ب) هذه القصة فمدارها على حديث عبد الرحمن بن أبي ليلى واختلف عليه فمنهم من قال: عن معاذ بن جبل، ومنهم من قال: عن عبد الله بن زيد، ومنهم من قال غيرَ ذلك، وأما طريق ولد (¬2) عبد الله بن زيد فغير مستقيمة الإِسناد، وكذا (جـ) قال الحاكم، وقد صحح الطريق الأولى من رواية محمد بن عبد الله بن زيد عن أبيه البخاري فيما حكاه الترمذي في "العلل" عنه، وقال محمد بن يحيى الذهلي ليس في أخبار عبد الله بن زيد أصح من حديث محمد بن إسحاق عن محمد بن إبراهيم التيمي يعني (د) هذا، لأن محمدًا قد سمع من أبيه عبد الله، وابن أبي ليلى لم يسمع من عبد الله (¬3)، وقال ابن خزيمة (¬4) في "صحيحه": هذا حديث صحيح ثابت من جهة النقل لأن (¬5) محمدا سمع من أبيه، وابن إسحاق سمع من التيمي، وليس هذا ¬

_ (أ-أ) ساقط من جـ. (ب) زاد في هـ: عن. (جـ) هـ. كذا .. بغير واو. (د) في جـ: بغير.

مما دلسه، وأخرج (أ) أبو داود وأحمد الحديث من حديث محمد بن إبراهيم عن محمد بن عبد الله بن زيد بن عبد ربه. والحديث يدل على مشروعية تربيع (¬1) التكبير، وقد قال به (ب) الناصر والمؤيد والإمام يحيى وأبو حنيفة والشافعي ومحمد (¬2)، وحُجَّتهم هذا الحديث، وقد اختلفت فيه الرواية بالتثنية والتربيع والمشهور فيه التربيع (¬3)، وكذلك الحديث الآتي عن أبي محذورة اختلف فيه، فوقع في صحيح مسلم (جـ) بالتثنية وفي غيره من سائر الأصول بالتربيع قال القاضي عياض ووقع في بعض طرق الفارسي في صحيح مسلم (جـ) أربع مرات (¬4)، وذهب الهادي والقاسم (د) ومالك وأبو يوسف وجمهور العلماء (¬5) إلى تثنية التبكير لحديث أبي محذورة هذا وقد عرفت ما فيه، ¬

_ (أ) في جـ: في إخراج. (ب) ساقطة من جـ. (جـ-جـ) ساقطة من جـ. (د) ساقط من جـ.

وبأنه عمل أهل المدينة فإنهم أعرف بالسنن، ولما روى عبد الرزاق والدارقطني والطحاوي من حديث الأسود بن يزيد "أن بلالا كان يثني الأذان ويثني الإقامة" (¬1) وروى الحاكم والبيهقي في "االخلافيات" والطحاوي (¬2) من رواية سويد بن غفلة (¬3) أن بلالا كان يثني الأذان والإقامة، وادعى الحاكم فيه الانقطاع، ولكن في (أ) رواية الطحاوي (¬4): سمعتُ بلالا، ويؤيد ذلك ما رواه ابن أبي شيبة عن جبر (ب) بن علي عن شيخ يقال له الحفص عن أبيه عن جده وهو سعد القرظ (¬5) قال: "أذن بلال حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم" ثم أذن لأبي بكر في حياته، ولم يؤذن لعمر (¬6) وفي مسند الشاميين من طريق جنادة بن أبي أمية عن بلال أنه كان يجعل الأذان والإقامة مثنى مثنى وإسناده ضعيف (¬7) وأجيب بأن في رواية الربيع (جـ) زيادة، والزيادة من الثقة مقبولة، وبالتربيع عمل أهل مكة وهم مجمع المسلمين في المواسم وغيرها، ولم ينكر ذلك أحد من الصحابة وغيرهم والله أعلم. ¬

_ (أ) في هـ: فيه، وج: منه. (ب) في جـ: حسين. (جـ) في جـ: الربيع، ولعله تصحيف.

وقوله: "بغير ترجيع"، الترجيع: هو ذكر الشهادتَيْن سرًّا قبل الجهر (¬1)، كذا قال الرافعي وكلامه يقتضي أنه اسم للمجموع من السر والجهر، وتبعه في الروضة (¬2) لكن صرح في شرح المهذب وفي التحقيق، والدقائق، والتحرير، أنه اسم للأول، وفي شرح مسلم أنه اسم للثاني، قال: هو العَوْد إلى الشهادتين مرتين برفع الصوت بعد قولهما مرتين بخفض الصوت (¬3) وفي هذا دلالة على أن الترجيع غير مشروع، وقد ذهب إلى هذا الهادي والناصر وأبو حنيفة وأصحابه (¬4)، وذهب مالك والشافعي وأحمد (¬5) وجمهور العلماء إلى أنه مشروعٌ لحديث أبي محذورة الآتي، وفيه زيادة على حديث عبد الله بن زيد، وزيادة الثقة مقبولة، وهو أيضًا متأخر فإنه في سنة ثمان وحديث عبد الله في أول الأمر وانضم أيضًا إليه (أ) عمل أهل مكة والمدينة وسائر الأمصار (ب)، واختلف القائلون به هل هو ركن (¬6) لا يصح الأذان إلا به، أم هو سنة يصح مِنْ دونه مع فوات الفضيلة، فيه وجهان: والأصح عندهم الثاني، وذهب جماعة من المحدّثين وغيرهم إلى التخيير في فعله وتركه (¬7)، وقوله: "والإِقامة فرادى إلا قد قامت ¬

_ (أ) في جـ: وانضم إليه أيضًا. (ب) في جـ: الأقطار.

الصلاة": فيه دلالة على إفراد الإِقامة، والظاهر من لفظ الحديث (أ) أنَّ ألفاظ الإِقامة جميعها مُفْردة إلا المستثنى، وهذا قول شاذ للشافعي، وتفرد قد قامت الصلاة أيضًا (¬1)، والقول المشهور الذي تظاهرت غليه نصوص الشافعي وبه قال أحمد وجمهور (¬2) العلماء بتثنية (ب) التكبير في أول الإقامة وآخرها، وتثنية الإقامة، وإفراد ما عداهما، قالوا: والتكبير (جـ) وإن كان بالتثنية فصورته صورة المفرد بالنسبة إلى الأذان، ولذلك إنه استحب (د) للمؤذن أن يقول كل تكبيرتين بنفس واحد (هـ) فيقول في الأذان: الله أكبر. الله أكبر. بنفس واحد، ثم يقول: الله أكبر. الله أكبر. بنفس واحد. فهو في الإِقامة مفرد بالنسبة إلى ذلك (¬3)، وثمة معنى مناسب لإفراد الإِقامة، وهو إنها لإعلام الحاضرين فلا حاجة إلى التكرير بخلاف الأذان فإنه لإِعلام الغائبين فاحتيج إلى التكرير، وقالوا: ولهذا يكون رفع الصوت (و) في الأذان، وخفضه في الإقامة، وكرر لفظ "قد قامت الصلاة" لأنه مقصود الإقامة، وذهب الهادوية وأبو حنيفة (¬4) إلى تثنية الإقامة كالأذان لما روي عن بلال (¬5)، وقد تقدم، والتثنية ¬

_ (أ) في هـ: حديث النبي صلى الله عليه وسلم. (ب) في هـ: تثنية. (جـ) في جـ: فالتكبير. (د) في هـ: يستحب. (هـ) زادت هـ: فيقول في الأذان: "الله أكبر الله أكبر" بنَفَسٍ واحد، ثم يقول: "الله أكبر الله أكبر" بنفس واحد. (و) في جـ: رفع في الصوت.

زيادة، وزيادة العدل مقبولة وذهب مالك إلى إفراد "قد قامت الصلاة"، وهذا الحديث يرد عليه. وقوله في أذان الفجر "الصلاة خير من النوم" إلخ فيه دلالة على مشروعية ذلك في أذان الفجر، وهو المسمى بالتثويب (¬1) من ثَابَ إذا رجع، لأن في ذلك رجوعا إلى الدعاء إلى الصلاة، أي: اليقظة للصلاة خير من النوم أي الراحة التي تعتاضونها في الآجل خير من النوم، وقد ذهب إلى هذا الشافعي في الفجر خاصة (¬2)، وعن الحسن بن صالح (¬3): بل (أ) والعشاء، وعن أبي يوسف: لكل (¬4) صلاة وحجة الشافعي على ذلك ما ذكر، وروى ابن ماجه من حديث ابن المسيب: أنه قال بلال: الصلاة خير من النوم مرتين فأقره في تأذين الفجر فثبت الأمر على ذلك (¬5)، وفيه انقطاع (¬6) مع ثقة رجاله، وذكره ابن السكن من طريق أخرى عن بلال وهي في الطبراني من طريق الزهري عن حفص بن عمر عن بلال، وهو منقطع (¬7) أيضًا، ورواه البيهقي في المعرفة من هذا الوجه، وروى ابن ماجه (¬8) في حديث عبد الله بن زَيْد، قال في آخره: "وزاد (ب) بلال في نداء صلاة الصبح: "الصلاة خير من النوم" فأقرّها رسول الله ¬

_ (أ) في جـ: الواو ساقطة. (ب) في جـ: وروى.

صلى الله عليه وسلم"، وفي إسناده ضَعْف جدًّا (¬1)، وللتثويب طريق أخرى عن ابن عمر رواها السراج والطبراني والبيهقي من حديث ابن عجلان عن نافع عن ابن عمر قال: "كان الأذان الأول بعد حَيّ على الفلاح: الصلاة خير من النوم مرتين" (¬2) وسنده حسن، ورواه أبو داود من حديث أبي محذورة (¬3) من طريقَيْن في أحدهما مقال، ورواه (أ) النسائي من وجه آخر عن أبي جعفر عن أبي سليمان عن أبي محذورة وصححه ابن خزيمة من هذه الطريق ومن طريق ابن جُرَيْج، وذهب الهادي إلى أنه بدعة ابتدع في خلافة عمر، قال في "البحر" (¬4): ويدل على ذلك إنكار (¬5) على وابن عمر (¬6) له، سلمنا فأمره به ¬

_ (أ) في جـ: وروى.

إشعار في حال لا شرعا جمعا بين الآثار. انتهى. يعني أن ذلك مشعر بالصلاة لمن كان نائما كما يشعر بالصلاة بقولنا (أ): الصلاة جامعة. والله أعلم. * فائدة: وَرَدَتْ أحاديث تدل على أن الأذان شرع بمكة قبل الهجرة، منها للطبراني من طريق سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه قال: "لما أسري بالنبي صلى الله عليه وسلم أوحى الله إليه الأذان، فنزل به فعلمه بلالا" (¬1) وفي إسناده طلحة بن زيد وهو (¬2) متروك، وللدارقطني في الأفراد (ب) من حديث أنس: "أن جبريل أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالأذان حين فرضت الصلاة" (¬3)، وإسناده ضعيف أيضًا ولابن مردويه من حديث عائشة مرفوعًا: "لما أسري بي أذن جبريل فظنت الملائكة أنه يصلي بهم، فقدمني فصليت" وفيه من لا يعرف (¬4)، وللبزار وغيره من حديث علي قال: "لما أراد الله أن يعلم رسوله الأذان أتاه جبريل بدابة يقال لها "البراق" فركبها ... " فذكر الحديث، وفيه إذ خرج ملك من الحجاب فقال: "الله أكبر الله أكبر، وفي آخره ثم أخذ الملك بيده فأم بأهل السماء" (¬5)، وفي ¬

_ (أ) في جـ: بقوله. (ب) في النسخ: الأفراد، وفي الفتح الأطراف.

إسناده زياد بن المنذر أبو الجارود (¬1)، وهو متروك أيضًا، ويمكن على تقدير الصحة أن يُحمل على تعدد الإسراء فيكون ذلك وقع بالمدينة، وأما قول القرطبي (¬2) من كونه سمعه ليلة الإسراء أن يكون مشروعا في حقه، ففيه نظر لقوله في أوله: "لما أراد الله أنْ يُعلم رسوله الأذان" وكذا قول المحب الطبري بحمل الأذان ليلة الإسراء على المعنى اللغوي وهو الإعلام، ففيه نظر أيضًا لتصريحه بكيفيته المشروعة فيه. والحق أنه لا يصح شيء من هذه الأحاديث، وقد جزم ابن المنذر بأنه صلى الله عليه وسلم كان يصلي بغير أذان منذ فرضت الصلاة بمكة إلى أنْ هاجر وإلى أن وقع التشاور في ذلك على ما في حديث عبد الله بن عمر وعبد الله بن زيد (¬3)، وقد حاول السهيلي (¬4) الجمع فقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم سمعه فوق سبع سماوات وهو أقوى من الوحي، فلما أريد الإعلام بالوقت رأى الصحابي المنام، فقصها فوافقت ما كان النبي صلى الله عليه وسلم سمعه، فقال: "إنها لرؤيا حق" (¬5) وعلم حينئذ أن مراد الله تعالى بما رآه في السماء أن يكون منه في الأرض، وقوي ذلك بموافقة عمر لأن السكينة تنطق على لسانه، والحكمة في إعلام غير النبي صلى الله عليه وسلم به (أ) لما فيه من رفع ذكر النبي والتنويه بفضله، حيث كان على لسان غيره ليكون (ب) أقوى لأمره وأفخر لشأنه (¬6). انتهى. ويؤخذ وجه الحكمة في تقوية ذلك برؤيا عمر ويكون خبرهما ¬

_ (أ) ساقطة من هـ. (ب) في جـ: لكونه.

على صورة الشهادة، ويؤخذ من روايةٍ لفظها: "سبقك بها بلال": أن بلالا رأى كذلك، إلا أنه يمكن حملها بأنه سبق بالمباشرة بالأذان، ومن أغرب ما وقع في بدء الأذان ما رواه أبو الشيخ بسند مجهول عن عبد الله بن الزبير قال: "أخذ الأذان من أذان إبراهيم (وأذِّنْ فِي النَّاس بِالْحَجِّ) (¬1) قال: فأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم" (¬2)، وما رواه أبو نعيم في الحلية بسند فيه مجاهيل: "أن جبريل نادى بالأذان لآدم حين أهبط من الجنة" (¬3). 940 - وعن أبي محذورة - رضي الله عنه - أن النبي صلى الله عليه وسلم علمه الأذان فذكر فيه الترجيع. أخرجه مسلم (¬4) ولكن ذكر التكبير في أوله مرتين فقط. ورواه الخمسة فذكروه مربَّعًا. تقدم الكلام فيما يتعلق بالحديث. 141 - وعن أنس - رضي الله عنه قال: "أمِرَ بلال أنْ يَشْفعَ الأذانَ، ويُوتِرَ الإقامةَ، إلا الإقامة، يعني: قوله "قد قامت الصلاة" متفق عليه، ولم ¬

_ (¬1) الآية 27 من سورة الحج. (¬2) الفتح 2/ 79. (¬3) نقل المصنف هذه الفائدة من فتح الباري 2/ 78 - 79. (¬4) مسلم كتاب الأذان باب صفة الأذان 1/ 287 ح 6 - 379، أبو داود كتاب الصلاة باب كيف الأذان 1/ 343 ح 502 - 503، الترمذي الصلاة باب ما جاء في الترجيع في الأذان 1/ 366 ح 191 - 192، النسائي كتاب الأذان كيف الأذان 2/ 5، ابن ماجه كتاب الأذان باب الترجيع في الأذان 1/ 234 ح 709، أحمد 6/ 401، والطيالسي مختصرًا 1/ 193 ح 1354، الدارمي كتاب الصلاة باب الترجيع في الأذان 1/ 271، والمنتقى ما جاء في الأذان 64 ح 162، الدارقطني باب في ذكر أذان أبي محذورة واختلاف الروايات فيه 1/ 233 وما بعدها ابن حبان كتاب المواقيت باب فيما جاء في الأذان 90 ح 288 (موارد)، مسند أبي عوانة بيان أذان أبي محذورة. 33، الأم 1/ 73، سنن البيهقي كتاب الصلاة باب الترجيع في الأذان 1/ 392. فائدة: ذكر الإمام النووي أن القاضي عياض قال في بعض طرق رواية الفارسي التكبير أربعا ذكر ابن تيمية في المنتقى أن التربيع من رواية أبي محذورة في مسلم، وقال الصنعاني: فالمصنف اعتبر أكثر الروايات وابن تيمية اعتمد بعض الطرق فلا يتوهم المنافاة بين كلام المصنف (ابن حجر) وابن تيمية. أهـ، شرح مسلم 2/ 8، وسبل السلام 1/ 233.

يذكر مسلم الاستثناء (¬1). وللنسائي: "أمر النبي صلى الله عليه وسلم بلالا" (¬2). الحديث فيه دلالة على وجوب الأذان والإقامة، إذ الظاهر أن الآمر له هو (أ) النبي صلى الله عليه وسلم كما هو المتبادر من العبارة، وقد وقع في رواية عطاء "أمر بلالًا" ورواية النسائي أصرح بالمراد. قال الحاكم (¬3): صرح برفعه إمامُ الحديث بلا مدافعة ولم يتفرد به فقد أخرجه أبو عوانةَ (¬4) من طريق عبدان المروزي يرفعه، ويحيى بن معين كلاهما عن عبد الوهاب، وطريق يحيى عند الدارقطني (¬5) أيضًا ولم يتفرد به (ب) عبد الوهاب، وقد رواه البلاذري (¬6) من طريق أبي شهاب الخياط عن أبي قلابة، ووقوع الأذان عقيب المشاورة في أمر النداء قرينة على أن الآمر بذلك هو النبي صلى الله عليه وسلم وحديث مالك بن ¬

_ (أ) ساقطة من جـ. (ب) ساقطة من هـ.

الحويرث (¬1) الآتي: "فليؤذن أحدكم" بصيغة الأمر، ظاهر في الوجوب وقد ذهب إلى ذلك أكثر العترة وطاوس ومالك وأحمد والإصطخري والأوزاعي وداود وابن المنذر، وحكي عن محمد بن الحسن (¬2) وقيل واجب في الجمعة فقط (¬3)، وقيل: فرض كفاية (¬4)، وذهب الفريقان [وزيد بن علي والناصر إلى أنهما سنة وأبو طالب] (¬5) (أ) إلى أن الإقامة سنة (ب) لحديث المسيء صلاته الآتي، فإنه لم يذكر له الأذان والإِقامة (¬6)، قال الزين ابن المُنَيّر: منشأ الاختلاف أن مبدأ الأذان لما كان عن مشورة أوقعها النبي صلى الله عليه وسلم بين أصحابه حتى استقر برؤيا بعضهم فأقره كان ذلك بالمندوبات أشبه ثم لما واظب على تقريره، ولم ينقل أنه تركه ولا رخص في تركه كان ذلك بالواجبات أشبه، قال ولما لم تفصح الآثار الواردة فيه بالوجوب أعرض البخاري عن التصريح بحكم الأذان (¬7)، وأثبت مشروعيته وسلم من الاعتراض وتقدم الكلام على بقية أحكام الحديث. 142 - وعن أبي جُحَيفة - رضي الله عنه - قال: "رأيت بلالا يؤذن، وأتتبع فاه هاهنا وهاهنا، وإصبعاه في أذنيه" رواه أحمد والترمذي وصححه (¬8). ¬

_ (أ) بهامش الأصل. (ب) ساقطة من جـ.

ولابن ماجه: "وجعل إصبعيه في أذنيه" (¬1). ولأبي داود (¬2): "لوى عنقه لما بلغ حي على الصلاة يمينا وشمالا ولم يستدر". وأصله في الصحيحين (¬3). هو أبو جُحَيْفَة وهب بن عبد الله وقيل: ابن وهب بن مسلم بن جنادة السوائي العامري نزل الكوفة، وكان من صغار الصحابة (أ)، ذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم توفي، ولم يبلغ الحُلُم، ولكنه سمع منه وروى عنه، وكان جعله علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- على بيت المال بالكوفة، وشهد معه مشاهده كلها، ومات بالكوفة سنة أربع وسبعين -روى عنه ابنُهُ عَوْن وأبو إسحاق السبيعي وعلي بن الأقمر والحكم بن عتيبة وعبد الله بن شريك. جُحَيْفَة بضم الجيم وفتح الحاء المهملة وبالفاء، والسُّوار بضم السين (ب) المهملة وتخفيف الواو وبهمزة بعد (جـ) الألف (¬4). حديث الترمذي نحوه في البخاري من حديث عون بن أبي جحيفة عن أبيه أنه رأى بلالا يؤذن فجعلت أتتبع فاه هاهنا وهاهنا بالأذان (¬5) انتهى. والحديث رواه الحاكم بألفاظ زائدة، وقال: قد أخرجاه إلا أنهما لم يذكرا فيه إدخال الإِصبعين في الأذنين (¬6) والاستدارة وهو صحيح على شرطهما، ورواه ابن ¬

_ (أ) زاد في جـ: و. (ب) ساقطة من هـ. (جـ) في جـ: بعد بعد.

خزيمة (¬1) بلفظ: "رأيت بلالا يؤذن يتتبع بفيه (أ) يميل رأسه يمينا وشمالا" ورواه من طريق أخرى فيه: ووضع الإصبعين في الأذنين، وكذا رواه أبو عوانة في صحيحه (¬2) وأبو نعيم في مستخرجه وعنده: "رأى بلالا يؤذن ويدور، وإصبعاه في أذنيه"، وكذا رواه البزار، وقال البيهقي (¬3): الاستدارة لم ترد من طريق صحيحة لأن مدارها على سفيان الثوري، وهو لم يسمعه من عون إنما رواه عن رجل عنه والرجل يتوهم أنه الحجاج، والحجاج غير صحيح (ب). قال ووهم عبد الرزاق (جـ) في إدراجه ثم بين ذلك، وقد وردت (د) الاستدارة من وجه آخر أخرجه أبو الشيخ في كتاب الأذان (5) من طريق حماد وهشيم جميعا عن عون، والطبراني (¬4) من طريق إدريس الأودي عنه وفي الأفراد للدارقطني عن بلال "أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أذنا وأقمنا أن لا نزيل أقدامنا عن مواضعها" إسناده ضعيف. ¬

_ (أ) في هـ: يتبع بفيه، ومن جـ: سقطت: بفيه. (ب) ساقطة من جـ. (جـ) بحاشية الأصل: في التلخيص غير محتج به. (د) في جـ: بين. (هـ) في جـ: الآداب.

قوله: وأتتبع فاه أي: أنظر إلى فيه متتبعا له من التتبع. وفاه: مفعول به وهاهنا وهاهنا ظرفا مكان والمراد بهما جهتا اليمين والشمال، والمراد الالتفات إلى جهة اليمين والشمال عند الحيعلتين، ويدل على تعيين ذلك رواية مسلم وهي أتم، حيث قال: "فجعلت أتتبع فاه هاهنا وهاهنا يمينا وشمالا يقول حي على الصلاة حي على الفلاح" (¬1) (أوبوب عليه ابن خزيمة (¬2) انحراف المؤذن عند قوله حي على الصلاة حي على الفلاح أ) بفمه لا ببدنه كله، قال: وإنما يمكن الانحراف بالفم بانحراف الوجه، وقوله: وإصبعاه في أذنيه يدل على مشروعية ذلك، وقد أخرج (ب) ابن ماجه. والحاكم من طريق سعد القرظ (جـ) "أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بلالا أن يجعل إصبعيه في أذنيه" (¬3)، وفي إسناده ضعف. قال العلماء: وفي ذلك فائدتان إحديهما (د) أنه أرفع لصوته وثانيهما أنه علامة للمؤذن ليعرف من يراه على (هـ) بعد أو من كان به صمم أنه يؤذن، قال الترمذي: واستحسنه الأوزاعي في الإقامة (¬4)، والإصبع مجاز عن الإنملة، ولم يرد تعيين الإصبع التي يستحب وضعها وجزم النووي بأنها المسبّحة، وقوله (و): ولم يستدر فيه دلالة على أن التفات المؤذن إنما هو بالوجه، والقدمان ثابتان، وقد عرفت الكلام فيهما، ويمكن الجمع بين الأدلة على إثباتها وعلى نفيها: بأن من أثبتها عنى استدارة الوجه ¬

_ (أ-أ) ساقطة من جـ. (ب) في جـ: أخرجه. (جـ) في جـ: القرظي. (د) في جـ: احدهما. (هـ) في جـ: من. (و) ساقطة من جـ.

والرأس، ومن نفاها عنى استدارة الجسد (أ) كله، وقال ابن بطال (¬1) ومن تبعه: يستدير بجميع البدن كما في رواية: ويدور. قال ابن دقيق العيد: فيه دليل (ب) على استدارة المؤذن للإسماع عند التلفظ بالحيعلتين، واختلف هل يستدير ببدنه كله أو بوجهه فقط، وقدماه قارّتان، مستقبل القبلة واختلف أيضًا هل يستدير في الحيعلتين الأولتين مرة وفي (جـ) الثانيتين مرة، أو يقول: حي على الصلاة عن يمينه، ثم حي على الصلاة عن شماله، وكذا في الأخرى، قال: و (د) رجح الثاني لأنه يكون لكل جهة نصيب منهما. قال: والأول أقرب إلى لفظ الحديث، وفي المغني عن أحمد (¬2): لا يدور إلا إن كان على منارة بقصد إسماع أهل الجهتين (¬3) (¬4) والله أعلم. 143 - وعن أبي محذورة -رضي الله عنه - "أن النبي صلى الله عليه وسلم أعجبه صوته فعلمه الأذان" رواه ابن خزيمة (¬5) وصححه من طريق ابن جريج، ورواه النسائي (¬6) عن أبي جعفر عن أبي سليمان عن أبي محذورة، وصححه أيضًا ¬

_ (أ) في جـ: الاستدارة بالجسد. (ب) في جـ وهـ: دلالة. (جـ) ساقطة من هـ. (د) في جـ: ثم.

ابن خزيمة (¬1) رواه أبو داود (¬2) وابن حبان مطولا من حديثه بزيادة: "الصلاة خير من النوم" مرتين بعد حي على الفلاح، وفيه محمد بن عبد الملك بن أبي محذورة (¬3) وهو غير معروف الحال، والحارث (¬4) بن عبيد، وفيه مقال: "وتأذينه بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم الفجر يوم حنين وهو غلام". وفي الحديث دلالة على استحسان (أ) صوت المؤذن. 144 - وعن جابر بن سمرة - رضي الله عنه - قال: "صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم العيدين غير مرة، ولا مرتين، بغير أذان ولا إقامة" رواه مسلم (¬5). ونحوه في المتفق عن ابن عباس وغيره (¬6). ¬

_ (أ) في جـ: استحباب.

هو أبو عبد الله ويقال: أبو خالد جابر بن سمرة بن جُنادة بضم الجيم وتخفيف النون وبالدال المهملة العامري السُّوائي بضم السين منسوب إلى (سواء) (أ) بضم السين المهملة وتخفيف الواو وسكون الألف وبعدها همزة مفتوحة. اسم جده ابن أخت سعد بن أبي وقاص وأمه خالدة بنت أبي وقاص نزل الكوفة ومات بها سنة أربع وسبعين وقيل: سنة ست وستين. روى عنه: سماك بن حرب وعامر الشعبي وحصين بن عبد الرحمن (¬1). وأخرج البخاري نحوه من حديث ابن عباس وجابر بن عبد الله (¬2). وفي الحديث دلالة على أنه لا يشرع التأذين والإقامة فيهما (ب) وهو قريب من الإجماع وإن روى خلاف ذلك (عن ابن الزبير (¬3) وعمر بن عبد العزيز ومعاوية (¬4) قياسا على الجمعة. قلنا هذا الخلاف) (جـ) مسبوق بالإجماع إذ لم يعهد من النبي صلى الله عليه وسلم ولا من الخلفاء الراشدين بعده، وتبعه أيضًا الإجماع على ذلك فهو إجماع آلاف، قيل: وإنما خصت الصلوات الخمس بهما تمييزًا لها عن غيرها من سائر الصلوات وإظهارًا لشرفها، ولو دعا النبي صلى الله عليه وسلم إليها بقوله: "حي على الصلاة"، ومعناه الأمر، لوجب (د) الإجابة إليها بناء على ظاهر الأمر، وخرجت عن كونها سنة وهو مستقيم في العيدين على القول بعدم وجوبهما، ويستحب أن يقال في الدعاء إلى صلاة العيدين وغيرهما مما لا يشرع فيه الأذان غير الجنازة، الصلاةَ جامعةَ، بنصبهما. ¬

_ (أ) في نسخة الأصل: سواءه. (ب) لفظ هـ: "التأذين فيهما الإقامة". (جـ) بهامش الأصل ولفظة ابن الزبير غير واضحة واستدركته من نسخة هـ. (د) في هـ: لوجوب.

145 - وعن أبي قتادة - رضي الله عنه - في الحديث الطويل في نومهم عن الصلاة: "ثم أذن بلال، فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كما كان يصنع كل يوم" رواه مسلم (¬1). وله عن جابر: "أن النبي صلى الله عليه وسلم (أ) أتى المزدلفة فصلى بها المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامتين" (¬2). وله عن ابن عمر: "جمع بين المغرب والعشاء بإقامة واحدة" (¬3) زاد أبو داود "لكل صلاة". وفي رواية له: "ولم يناد في واحدة منهما" (¬4). حديث أبي قتادة متفق عليه في قصة نومهم (¬5) عن الصلاة، وفي حديث (ب) ¬

_ (أ) زاد في هـ: إلى. (ب) زاد في جـ: مسلم عن.

أبي هريرة عند مسلم ما يدل على أن القصة كانت بخيبر (¬1) وبذلك صرح ابن إسحاق (¬2) وغيره من أهل المغازي، وقالوا: إن ذلك كان حين قفوله من خيبر، وقال ابن عبد البر: هو الصحيح (¬3)، وقيل: مرجعه من حنين، وفي حديث ابن مسعود أن ذلك كان عام الحديبية (¬4)، وفي حديث عطاء بن يسار مرسلًا أن ذلك في غزوة تبوك (¬5)، قال ابن عبد البر (¬6): أحسبه وهما، وقال الأصيلي (¬7): لم يعرض ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم إلا مرة، وقال ابن الحصار (¬8): (أ) هي ثلاث نوازل مختلفة. قال النووي في شرح (¬9) مسلم: ظاهر الأحاديث أن العارض له مرتان. وقوله (ب): ثم أذن بلال فيه دلالة علي شرعية الأذان في القضاء وعلى القول بوجوبه في الأداء، فكذلك القضاء، إذ هذه الصفة المذكورة هي كصفة الأداء، والإجماع على أنه لا يجب الأذان في القضاء، واختلف في شرعيته فيه، فذهب الهادي والقاسم وأبو حنيفة وأحمد وأبو ثور والقديم من قولي الشافعي (¬10). إلى أنه: يشرع (جـ) في القضاء الأذان والإقامة لأمره صلى الله عليه وسلم لبلال ¬

_ (أ) زاد في هـ: و. (ب) ساقطة من هـ. (جـ) في هـ: مشروع.

بذلك (أ) في قضاء الفجر في رواية أبي قتادة المذكورة، والأخير من قولي الشافعي (¬1) أنه يقيم للفائتة من غير أذان كرواية أبي هريرة بحديث النوم عند مسلم قال: "وأمر بلالا بالإقامة فأقام الصلاة ولم يذكر الأذان" (¬2) وكذا في قضائه يوم الخندق للأربع من حديث أبي سعيد (¬3)، فذكر الإقامة فيها ولم يذكر الأذان (ب)، ويجاب عنه بأن في رواية أبي قتادة إثبات للأذان، وفيما عداها نفي والمثبت زاد علما على النافي، وعدم الذكر في الرواية لا يدل أيضًا على عدم الفعل في نفس الأمر فكانت أرجح، (وإن كانت فوائت لم يؤذن لغير الأولى قطعا، وفيه وجه حكاه ابن كج) (جـ). وقوله: "فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم" إلخ لفظ الحديث في مسلم: "فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتين ثم صلى الغداة فصنع (د) ما كان (يصنع) (هـ) كل يوم. فيه دلالة على استحباب قضاء السنة الراتبة لأن الظاهر أن هاتين (و) الركعتين اللتين قبل الغداة هما سنة الصبح، وقوله: "كما كان يصنع فيه" إشارة إلى أن صفة الفائتة كالمؤداة أنه يفعل فيها ما يفعل في المؤداة فيقنت (ز) في الصبح وهو ¬

_ (أ) في جـ: كذلك. (ب) زاد في هـ وجـ: "أخرجه الشافعي ولم يذكر صلاة العشاء" قلت: وفي الأم للشافعي ذكر صلاة العشاء 1/ 75. (جـ) بهامش الأصل. (د) في هـ: وصنع. (هـ) في الأصل: وصنع، ولعله سبق قلم. (و) في جـ: هذين. (ز) في جـ: فبقيت.

لا خلاف فيه عند من يثبته (أ)، ويجهر فيها ولو قضيت بالنهار، وأصح وجهي أصحاب الشافعي: أنه يسر فيها (¬1). وقوله في حديث جابر: "فصلى بها المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامتين" يدل على شرعية الأذان في جمع (ب) التأخير، إذ هو كذلك في مزدلفة وهو قول الأكثر وأحد قولي الشافعي (¬2) لا أذان (جـ) في التأخير لأيهما، وقال أبو حنيفة (¬3): ولا إقامة للعشاء في مزدلفة. وقوله في حديث ابن عمر: "جمع بين المغرب والعشاء بإقامة واحدة": ظاهره حجة للثوري فإنه قال: "فصلى (د) المغرب والعشاء في مزدلفة بإقامة واحدة". وفي زيادة أبي داود: "لكل صلاة". دلالة على أنه لا يكفي إقامة واحدة بل لا بد من إقامتين. وقوله: في رواية له، أي لأبي داود: "ولم يناد في واحدة منهما": دليل لما ذهب إليه الشافعي وأحمد في قول أنه يصلي كل واحدة منهما بإقامة بلا أذان (¬4)، وهو محكي عن القاسم بن محمد وسالم بن عبد الله بن عمر. وطريق الجمع بين هذه الروايات: ترجيح رواية جابر بالأذان الواحد والإقامتين إذ هو مثبت ومن عداه نافٍ والمثبت مقدَّم على النافي (¬5) والله أعلم. ¬

_ (أ) في جـ: ثبته. (ب) في جـ: جميع. (جـ) في جـ: لأن الأذان. (د) في جـ، هـ: يصلي.

146 - وعن ابن عمر وعائشة -رضي الله عنهما- قالا (أ): قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن بلالا يؤذن بليل، فكلوا واشربوا حتى ينادي (ب ابن أم مكتوم، وكان رجلا أعمى لا ينادي ب) حتى يقال له: (جـ) أصبحت أصبحت" متفق عليه وفي آخره إدراج (¬1). قوله: "إن بلالا يؤذن بليل": ظاهر هذا الحديث الإِطلاق في وقت الليل ولم يعين كونه قريبا من الفجر، وقد ورد عند البخاري (¬2) في رواية القاسم: "لم يكن بين أذانهما إلا أن يرقى ذا وينزل ذا" وفي هذا تقييد لما أطلق من سائر الروايات، والقاسم وإن كان تابعيا لم يدرك القصة فقد ثبت عند النسائي من (¬3) رواية (د) حفص بن غياث. وعن الطحاوي من رواية يحيى القطان (¬4) كلاهما عن عبد الله بن عمر عن القاسم عن عائشة فذكر الحديث، قالت: "ولم يكن بينهما إلا أن ينزل هذا ويصعد هذا". ¬

_ (أ) في جـ: قال. (ب-ب) في جـ: يؤذن. (جـ) زاد في جـ: قد. (د) في جـ: رواياته.

(وكان يؤذن في بيت مرتفع، كما أخرجه أبو داود من حديث عروة عن امرأة من بني النجار قالت: "كان بيتي مِنْ أطول بيتٍ حول المسجد، كان بلال يؤذن عليه، فيأتي السحر فيجلس على ظهر البيت ينظر إلى الفجر (أوإذا رآه أ) تمطأ، ثم قال: اللهم إني أحمدك وأستيعنك (ب) على قريش (جـ) أن يقيموا دينك، قالت: ثم يؤذن، قالت: والله ما علمته كان تركها ليلة واحدة هذه الكلمات (¬1) (د). وفي الحديث دليل (هـ) على شرعية الأذان في الليل، وقال به الجمهور (¬2) واختلفوا في أي وقت يشرع، فالمشهور من النصف الأخير (وونصر هذا القول النووي، وتأول ما خالفه ذكر ذلك في شرح مسلم (¬3) وقال الجويني: للسبع الأخير و) في الشتاء، وفي الصيف لنصف السبع. وقال المسعودي: بوقت (ز) السحر وهو أحد الأوجه لمذهب الشافعي. واختاره السبكي (¬4) في شرح المنهاج، وحكى تصحيحه (ح) عن القاضي (4) ¬

_ (أ-أ) ساقطة من جـ. (ب) هـ: وأستعين بك على ... (جـ) في جـ: ترك. (د) ما بينهما مثبت بهامش الأصل. وهو غير واضح واستدركته من نسخة هـ. (هـ) في جـ: دلالة. (و-و) ساقط من جـ. (ز) في جـ وهـ: وقت. (ح) في جـ: بصحته.

حسين والمتولي، قال: وقطع به البغوي، واستغربه ابن دقيق العيد في شرح العمدة قال: لأنه لا يكون فائدة لإخبار النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: "يؤذن بليل" إلا إذا كان الوقت مشتبها محتملا لدخول الفجر، قال: وهذا يدل على تقارب وقت أذان بلال ووقت الفجر (¬1)، وذهب صاحب العدة (¬2) (أ) إلى أن وقته الليل جميعه، وكان مستنده إطلاق لفظ بليل، وقيل: بعد آخر اختيار العشاء. ثم اختلفوا هل يكفي ذلك الأذان أولًا؟ فذهب مالك والشافعي وأحمد وأصحابهم إلى أنه يكفي، وخالف ابن خزيمة وابن المنذر وطائفة من أهل الحديث (¬3)، وقال به الغزالي (¬4) في "الإحياء" وأيده بعضهم، بأنه لم يرد في شيء من الحديث ما يدل على الاكتفاء، وتعقب بأنه قد ورد عن البخاري من حديث ابن مسعود (¬5) (ب) ذكر حديث بلال وحده من دون أن يذكر معه أذان آخر. وأجيب بأن هذا حديث ابن عمر وعائشة (¬6) يشعر بعدم الاكتفاء، ويتأيد الاكتفاء بحديث زياد بن الحارث عند أبي داود فإن فيه "أنه أذن قبل الفجر بأمر النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه استأذنه في الإقامة فمنعه إلى أن طلع الفجر، فأمره (جـ) فأقام". لكن في إسناده ضعف (¬7). ¬

_ (أ) في هـ: العمدة. (ب) زاد في هـ: و. (جـ) ساقطة من جـ.

وخالف في شرعية الأذان في الليل جماعة منهم الهادي، والقاسم، والناصر، وزيد بن علي، وأبو حنيفة، ومحمد، والثوري (¬1) قالوا: لقوله صلى الله عليه وسلم لبلال: "لا تؤذن حتى يتبين لك الفجر كذا ومد يديه عرضا" أخرجه أبو داود (¬2). وأخرج أيضًا من حديث ابن عمر: أن بلالا أذن قبل طلوع الفجر فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يرجع فينادي "ألا إن العبد نام" (¬3) ورواه أيضًا في الجامع الكافي. قالوا: فهذه الرواية معارضة لحجة الجمهور، وهي أيضًا محتملة للتأويل (¬4) وهو أن النداء قبل الفجر لم يكن بألفاظ الأذان وإنما هو كما يفعل الآن أو أنهما كانا يقصدان الأذان لطلوع الفجر، فيخطئه بلال ويصيبه ابن أم مكتوم. وأجيب عن الأول بأن الأذان إذا أطلق فهو حقيقة في النداء المعروف وحمله على خلافه لغير دليل غير مقبول، مع الاتفاق بأن ما يفعل الآن محدث وعن الثاني أنه (أ) لو كان كذلك ما أقره النبي صلى الله عليه وسلم مؤذنا واعتمد عليه أو كان يقع ذلك نادرا وظاهر الرواية الاعتياد، والمعارضة غير مسلّمة إذ روايتنا أقوى، وبأن حديث: "ألا إن العبد نام" (¬5)، قال ابن المديني، وأحمد بن حنبل، والبخاري، والذهلي، وأبو حاتم، وأبو داود، والترمذي، والأثرم، ¬

_ (أ) هـ: بأنه.

والدارقطني أن حمادا أخطأ في رفعه (¬1) وأن لم الصواب وقفه على عمر بن الخطاب، وأنه هو الذي وقع له ذلك مع مؤذنه وأن حمادا انفرد برفعه لكنه قد (أ) وجد له متابع. أخرجه البيهقي (¬2) من طريق سعيد بن زربيّ (¬3) وهو بفتح الزاي وسكون الراء بعدها باء موحدة ثم ياء كياء النسب فرواه عن أيوب موصولا لكن سعيد ضعيف ورواه عبد الرزاق (¬4) عن معمر عن أيوب أيضًا لكن أعضله فلم يذكر نافعا ولا ابن عمر، وله طريق أخرى عن نافع عن الدارقطني (¬5) وغيره اختلف في رفعها، ووقفها أيضًا من طريق أخرى مرسلة (ب من طريق يونس بن عبيد وغيره عن حميد بن هلال وأخرى من طريق سعيد عن قتادة مرسلة ب) ووصلها أبو يوسف (¬6) عن سعيد بذكر أنس، وهذه طرق (جـ) يقوي بعضها بعضا. وقوله: "فكلوا واشربوا حتى ينادي ابن أم مكتوم" هذا تمام الحديث. وقوله: "وكان رجلا أعمى" .. إلخ: مدرج في لفظ البخاري .. بزيادة قال: ¬

_ (أ) ساقطة من جـ. (ب-جـ) كل منهم ساقط من جـ.

"وكان رجلا" (¬1) فاعل قال: هو ابن عمر، وقد قيل من كلام ابن شهاب كذا عن القعنبي عند الدارقطني، وأبي الشيخ وأبي نعيم والبيهقي (¬2) كلهم عن القعنبي فيكون في (أ) رواية البخاري إدراج. وقوله "أصبحت، أصبحت": أي دخلت في الصباح. الحديث يدل على أن أذان ابن أم مكتوم غاية الأكل والشرب، وهو يدل ظاهرًا أنه كان يؤذن بعد تحقق (ب) دخول الفجر بعد قول الناس له أصبحت، فيقتضي جواز الأكل بعد دخول الفجر، وقد قال به شذوذ كالأعمش (¬3)، وقد ورد في رواية الربيع (¬4)، "ولم يكن يؤذن حتى يقول له الناس حين ينظرون إلى بزوغ الفجر أذن". وفي لفظ للبخاري (جـ) في الصيام من كلام النبي صلى الله عليه وسلم: "حتى يؤذِّن ابن أم مكتوم فإنه لا يؤذن حتى يطلع الفجر" (¬5) ويمكن أن يقال: أن قولهم "أصبحت" ليس في معنى دخلت في الصباح بل بمعنى قاربت الصباح، وأنهم يقولون ذلك عند آخر جزء من أجزاء (د) الليل، وأذانه يقع في أول جزء (هـ) من طلوع الفجر، أو أنه كان له حارسا للفجر فينبهه بذلك عند أول جزء من أجزاء الفجر، وقد روى أبو قرة (و) من حديث ابن عمر فيه: "وكان ابن أم ¬

_ (أ) في جـ: من. (ب) في هـ: تحفيق. (جـ) في جـ: البخاري. (د) ساقط من جـ. (هـ) زاد في هـ: أجزاء. (و) في جـ: أبو أقرة.

مكتوم يتوخى الفجر (أ) فلا يخطئه" (¬1)، وفي الحديث دلالة على جواز اتخاذ مؤذنين في مسجد واحد ويؤذن واحد بعد واحد، وأما أذان اثنين معا فمنع منه قوم وقالوا: أول من أحدثه (ب) بنو أمية (¬2)، وقال الشافعي: لا يكره إلا أن حصل من ذلك تشويش (جـ) (¬3) وأما أكثر فليس في الحديث تعرض له (¬4)، ونص الشافعي: ولا يضر، وإن أذن أكثر من اثنين، وعلى جواز تقليد المؤذن الأعمى والبصير وعلى جواز تقليد الواحد وعلى أن ما بعد الفجر من حكم النهار، وعلى جواز الأكل مع الشك في طلوع الفجر، لأن الأصل بقاء الليل وعلى جواز الاعتماد على الصوت في الرواية إذا عرفه وإن لم يشاهد الراوي وعلى جواز ذكر الرجل بما فيه من العاهة إذا كان القصد التعريف ونحوه وجواز نسبته إلى أمه إذا اشهر بذلك واحتيج إليه. فائدة: قد روي من طرق بعكس هذه الرواية: "إذا أذن عمرو يعني ابن أم مكتوم فلا يغرنكم، وإذا أذن بلال فلا يطعمن أحد (د): أخرجه في صحيح ابن حبان (¬5) من طريقين وأحمد بن حنبل (¬6) واستيفاء الكلام عليه في فتح الباري فارجع إليه (¬7). ¬

_ (أ) في جـ: الفجر. (ب) في جـ: اتخذه. (جـ) في هـ: تشوش. (د) في هـ: أحدكم.

147 - وعن ابن عمر - رضي الله عنهما - أن بلالا أذن قبل الفجر فأمره النبي صلي الله علية وسلم أن يرجع فينادى: "ألا إن العبد نام" رواه أبو داود وضعفه (¬1). قوله: "نام" أي سها وغفل، أو أن غلبة النوم على عينه منعته من تبين الفجر، تقدم الكلام على الحديث مستوفى. 148 - وعن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إذا سمعتم النداء فقولوا مثل ما يقول المؤذن". متفق عليه (¬2). وللبخاري عن معاوية (¬3). ولمسلم عن عمر في فضل القول كما يقول المؤذن كلمة كلمة سوى الحيعلتين فيقول: لا حول ولا قوة إلا بالله (¬4). ¬

_ (¬1) أبو داود الصلاة باب في الأذان قبل دخول الوقت 1/ 363 ح 532. وقال أبو داود: هذا الحديث لم يروه عن أيوب إلا حماد بن سلمة 1/ 364، وقال أبو عيسى: هذا حديث غير محفوظ. السنن 1/ 394، الدارقطني باب أذكر الإقامة واختلاف الروايات فيها 1/ 244، البيهقي الصلاة باب رواية من روى النبي عن الأذان قبل الوقت 1/ 383، عبد الرزاق معضلا باب الأذان في طلوع الفجر 1/ 491 ح 1888، قلت: وقد تكلم المصنف على طرقها وقال: إنه حسن لغيره بكثرة طرقه في الحديث السابق 564 ح 146. (¬2) البخاري الأذان باب ما يقول إذا سمع المنادي 2/ 90 ح 611، مسلم الصلاة باب استحباب القول مثل قول المؤذن 1/ 288 ح 10 - 383، أبو داود الصلاة باب ما يقول إذا سمع المؤذن 1/ 359 ح 522، الترمذي الصلاة باب ما يقول إذا أذن المؤذن 1/ 407 ح 208، النسائي الأذان القول مثل ما يقول المؤذن 2/ 20 ابن ماجه بلفظ (كما) بدل (مثل) كناب الأذان والسنة فيا باب ما يقال إذا أذن المؤذن 1/ 238 ح 720، أحمد 3/ 53، الموطأ كتاب الصلاة باب ما جاء في النداء للصلاة 65. البيهقي الصلاة باب القول مثل ما يقول المؤذن 1/ 408, الدارمي باب ما يقال في الأذان 1/ 272، ابن خزيمة باب الأمر بأن يقال ما يقوله المؤذن إذا سمعه ينادي بالصلاة 1/ 215 ح 411، مسند أبي عوانة بيان إيجاب إجابة المؤذن مثل ما يؤذن 1/ 337. (¬3) ح معاوية، البخاري 2/ 90 ح 612، النسائي 2/ 20، ابن خزيمة 1/ 216 ح 414 البيهقي نحوه 1/ 409، الدارمي 1/ 272 - 273، أبو عوانة 1/ 337 - 338. (¬4) ح عمر، مسلم 1/ 289 ح 12/ 385، أبو داود 2/ 361 ح 527، البيهقي 1/ 408 - 409، ابن خزيمة 1/ 218 ح 417، مسند أبي عوانة 1/ 339.

حديث أبي سعيد اختلف على الزهري في إسناده وعلى مالك أيضًا، لكنه اختلاف لا يقدح في صحته، فرواه عبد الرحمن (¬1) بن إسحق عن الزهري عن سعيد عن أبي هريرة أخرجه النسائي وابن ماجه (¬2) وقال أحمد بن صالح وأبو حاتم وأبو داود والترمذي: حديث مالك ومن تابعه أصح (¬3)، ورواه يحيى (أ) القطان عن مالك عن الزهري عن السائب بن يزيد، أخرجه مسدد في مسنده عنه، وقال (ب) الدارقطني: إنه خطأ والصواب الرواية الأولى. وقوله: "إذا سمعتم": ظاهره تقييد القول بالسماع فلو رأى المؤذن على المنارة ولم يسمع لبُعد أو صمم لا تشرع له الإِجابة (¬4). وقوله: "المؤذن" من تمام الحديث، وليس بمدرج توهمه بعضهم (¬5)، وتبعه صاحب العمدة (¬6) فأسقطها، لاتفاق الروايات في الصحيحين والموطأ على إثباتها (¬7). ¬

_ (أ) زاد في هـ: ابن. (ب) في جـ: قال.

قوله: "مثل ما يقول" فيه إشعار بالمتابعة بعد كل كلمة مثل كلمتها، ويؤيد هذا بما رواه النسائي من حديث أم حبيبة "أنه صلى الله عليه وسلم كان يقول كما يقول المؤذن حتى يسكت"، فلو لم يجاوبه حتى فرغ استحب له التدارك، إن لم يطل الفصل، وظاهره ولو أذن بعده مؤذن آخر أجابه لتعدد السبب، كذا قال ابن عبد السلام، قال: وإجابة الأول ثم فضل إلا في الصبح والجمعة فهما سواء لأنهما مشروعان (¬1) فظاهر: مثل ما يقول أنه مثل الكلمة لا في الهيئة من رفع الصوت، ولأن المؤذن يراد (أ) منه الإعلام فاحتاج إلى الرفع بخلاف المجيب، وظاهره لا يكفي إمراره على الخاطر إذ ليس بقول، (وظاهره الإجابة من كل أحد على كل حال من تطهر وحدث وجنابة وحيض) (ب)، ويستثنى منه حال الجماع وحال الخلاء لكراهة الذكر فيهما وأما حال الصلاة: فمن منع من الأذكار الخارجة عن أذكارها منع من ذلك، ويحكم بالتخصيص لهذا العموم والتعارض حاصل، ويتعسر الترجيح ومن يجيز ذلك، فبعضهم قال: يجيبه عملا بإطلاق الحديث، وقيل يؤخر الإجابة حتى يفرغ من الصلاة، لأن في الصلاة شغلا، وقيل: يجيب إلا في الحيعَلَتَيْن لأنهما كالخطاب للآدميين والباقي من ذكر الله، وعلى هذا فيجيب (جـ) بالحولقة لأنها ذكر، وقال ابن عبد ابسلام: لا يجيب، وهو يقرأ الفاتحة، بناء على وجوب موالاتها وإلا أجاب، وعلى قوله: إذا فعل استأنف قراءة الفاتحة، (وقيل يجيب (د) في النافلة لا في الفريضة) (هـ). ¬

_ (أ) في هـ: مراد. (ب) في هامش الأصل. (جـ) في جـ: فيجب. (د) في هامش الأصل. (هـ) زاد في هـ: الفاتحة.

والمشهور في مذهب الشافعية كراهة الإِجابة في الصلاة (¬1) وهو يحتاج إلى دليل، ولا دليل على ذلك، وإن أجاب بالحيعلة بطلت على المشهور عندهم ونص الشافعي في الأم (¬2) على عدم الفساد. وظاهر الحديث وجوب القول، للأمر، وبه قالت الحنفية وأهل الظاهر وابن وهب وقوم من السلف (¬3)، وذهب الجمهور (¬4)، إلى عدم الوجوب واستدلوا بحديث أخرجه مسلم وغيره: "أنه صلى الله عليه وسلم حمع مؤذنا فلما كبر قال: على الفطرة، فلما تشهد (أ) قال: خرج من النار" (¬5) فدل (ب) قوله صلى الله عليه وسلم غير ما قال المؤذن على أن الأمر للاستحباب. وتعقب بأنه لم يصرح في الرواية بأنه لم يقل مثل قوله، فيجوز أن يكون قد قال مثل قوله، ولم ينقله الراوي اكتفاء بالعادة (جـ) ونقل الزائد. وقوله: وللبخاري عن معاوية: أخرج البخاري حديث معاوية من طريقين: إحداهما عن عيسى بن طلحة (¬6) أنه سمع معاوية المؤذن يوما فقال بمثله إلى قوله: وأشهد أن محمدًا رسول الله، والطريق الأخرى (¬7) من حديث يحيى قال: حدثني بعض إخواننا أنه قال -أي معاوية: لما قال المؤذن حي على الصلاة قال: لا حول ¬

_ (أ) في هـ: شهد. (ب) زاد في جـ: على. (جـ) زاد في هـ: فيجوز أن يكون قد قال. (د) زاد في جـ، هـ: حدثني يحيي قال.

ولا قوة إلا بالله، وقال: "هكذا سمعنا نبيكم صلى الله عليه وسلم يقول". وفي البخاري إشارة إلى أن الحديث في الطريق الأولى مختصر فإنه قال في الطريق الثانية: حدثنا هشام عن يحيى نحوه، فأشار بنحوه إلى أن الحديثين متقاربان. قال المصنف [- رحمه الله تعالى: وقد وقع لنا هذا الحديث من الطريق الأولى تاما منها للإِسماعيلي] (¬1)، وساق الإِسناد الذي في البخاري حتى قال: حدثنا عيسى بن طلحة قال: "دخلنا يوما على معاوية فنادى مناد بالصلاة فقال: الله أكبر الله أكبر، فقال معاوية: الله أكبر الله أكبر، فقال: أشهد أن لا إله إلا الله، فقال معاوية: وأنا أشهد أن لا إله إلا الله، فقال: أشهد أن محمدا رسول الله فقال معاوية: وأنا أشهد أن محمدا رسول الله". قال يحيى (أ): فحدثني (ب) صاحب لنا أنه لما قال "حي على الصلاة" قال: "لا حول ولا قوة إلا بالله"، ثم قال: "هكذا سمعنا نبيكم صلى الله عليه وسلم". والصاحب المبهم: قال المصنف يغلب على ظني أنه علقمة بن وقاص إن كان يحيى بن أبي كثير (جـ) أدركه وإلا فأحد ابنيه (د) عبد الله بن علقمة أو عمر (¬2) بن علقمة لأنه وقع ذكر علقمة في هذا الحديث بغير هذا الإِسناد، في (هـ) رواية الطبراني (¬3) وذكر عبد الله بن علقمة بن وقاص عن أبيه في رواية للنسائي (و) وابن ¬

_ (أ) في هـ: فقال. (ب) في جـ: حدثني. (جـ) في جـ، هـ: يحيى بن كثير. (د) في جـ، هـ: بنيه. (هـ) في جـ: وفي. (و) في جـ: النسائي.

خزيمة (¬1)، وأخرج البخاري (¬2) من حديث أبي أمامة أسعد بن سهل قال: "سمعت معاوية وهو جالس على المنبر حتى أذن المؤذن فساق المتابعة فلما قال المؤذن: أشهد أن لا إله إلا الله قال معاوية: "وأنا"، قال: "أشهد أن محمدا رسول الله" قال معاوية: "وأنا"، فلما انقضى التأذين قال: "يا أيها الناس إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر حين أذن المؤذن يقول مثل ما سمعتم من مقالتي". وفي حديث أبي داود عن عائشة: "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان (أ) إذا سمع المؤذن يتشهد (ب) قال: وأنا وأنا" (¬3). وقوله: ولمسلم عن عمر في فضل القول قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إذا قال المؤذن: الله أكبر الله أكبر فقال أحدكم .. ثم ساق الألفاظ كلمة كلمة ثم قال: "خالصا من قلبه دخل الجنة" (¬4) و (جـ) أخرجه أبو داود. وهذا الحديث فيه دلالة على أنه يجيب بالحولقة (¬5) لا مثل لفظ المؤذن، وإطلاق حديث أبي سعيد الإِجابة بمثل قوله فبينهما تعارض وطريق الجمع العمل بهما جميعا فيقول مثل قوله، ما عدا حي على الصلاة حي على الفلاح فيقول بدلهما ¬

_ (أ) زاد في هـ: و. (ب) في جـ: يشهد. (جـ) الواو ساقطة من جـ.

لا حول ولا قوة إلا بالله وهذا جمع بين العام والخاص، وهكذا استدل به ابن (¬1) خزيمة وهو المشهور عند الجمهور، وقال ابن المنذر (¬2): بل يحتمل أن يكون ذلك من الاختلاف المخير بين القولين، ووجه عند الحنابلة (¬3) الجمع بينهما، (ولا وجه له) (أ) إذ الروايتان جميعا على خلاف ذلك، وأيضًا من حيث المعنى، إن معنى حي: طلب الإقبال فلا يناسب من السامع (ب) أن يطلب الإقبال أيضًا، بل لما قال لهم تعالوا إلى ما فيه الفلاح والفوز والنجاة وإصابة الخير، أو كما قال الطيبي (¬4): معنى الحيعلتين: هلم بوجهك وسريرتك إلى الهدى عاجلا والفوز بالنعيم آجلا، فناسب أن يقول هذا أمر عظيم لا أستطع مع ضعفي القيام به إلا إذا وفقني الله تعالى بحوله وقوته، ويمكن أن يقال (جـ): المناسبة تحصل بالجمع لأن المجيب قد امتثل الأمر بإعادة اللفظ ويمكن أن يزداد استيقاظا وإسراعا إلى القيام إلى الصلاة إذا تكرر على سمعه الدعاء إليها من المؤذن ومن نفسه، ويقرب من ذلك الخلاف في قول المأموم: سمع الله لمن حمده، وقد ورد في اعتبار المناسبة ما نقل عبد الرزاق عن ابن جريج (¬5) قال: "حدثت أن الناس كانوا ينصتون للمؤذن إنصاتهم للقرآن، فلا يقول شيئًا إلا قالوا مثله حتى إذا قال: حي على ¬

_ (أ) مثبت في هامش الأصل. (ب) زاد في هـ: مع. (جـ) زاد في هـ: و.

الصلاة، قالوا: لا حول ولا قوة إلا بالله، وإذا قال: حي على الفلاح، قالوا: ما شاء الله" انتهى. وإلى هذا صار بعض الحنفية (¬1)، وروى ابن أبي شيبة (¬2) مثله عن عثمان، وروي عن سعيد بن جبير قال: يقول في جواب الحيعلة: "سمعنا وأطعنا". وقد روى في الإِجابة غير ذلك، قيل: لا يجيبه إلا في التشهدين فقط، وقيل هما والتكبير، وقيل: يضيف إلى ذلك الحولقة، دون ما في آخره، وقيل: مهما أتى بما بدل على التوحيد والإخلاص كفاه، وهو اختيار الطحاوي (¬3). واختلف في الاجابة في الترجيع، وإذا ثوب المؤذن في الأذان (أ) قال (ب) في جوابه: "صدقت وبررت"، وهي اسم فعل في معنى الأمر مبنى على الفتح يعدى بعلى بمعنى أقبل، وفي إعراب (جـ) لا حول ولا قوة إلا بالله خمسة أوجه مشهورة (¬4) قال الهروي: قال. أبو الهيثم (¬5): الحول: الحركة أي لا حركة ولا استطاعة إلا بمشيئة الله، وكذا قال ثعلب وآخرون، وقيل لا حول في دفع شر ولا قوة في تحصيل أجر إلا بالله، وقيل إلا حول عن معصية الله إلا بعصمته ولا قوة على طاعته إلا بمعونته، وحكي هذا عن ابن مسعود، وحكى الجوهري (¬6) لغة عربية ضعيفة أنه يقال: لا حيل ولا قوة إلا بالله، بالياء، ¬

_ (أ) ساقطة من هـ. (ب) في هـ: قالوا. (جـ) ساقطة من جـ.

والحول والحيل بمعنى، ويقال في التعبير عن قولهم: لا حول ولا قوة إلا بالله: الحوقلة هكذا، قاله الأزهري (¬1) والأكثرون وقال الجوهري: الحولقة، فعلى الأول: الحاء هي من حول والقاف من القوة واللام من اسم الله، وعلى الثاني: الحاء واللام من الحول والقاف من القوة، ومثلها الحيعلة والبسملة والحمدلة والهيللة والسبحلة (¬2). 149 - وعن عثمان بن أبي العاص رضي الله عنه أنه قال: يا رسول الله اجْعلْني إمام قومي، فقال: "أنت إمامهم، واقتد بأضعفهم واتخذ مؤذنا لا يأخذ علي أذانه أجرا". أخرجه الخمسة وحسنه الترمذي وصححه الحاكم (¬3). هو أبو عبد الله عثمان بن أبي العاص بن بشر الثقفي، استعمله النبي صلى الله عليه وسلم على الطائف فلم يزل عليها حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخلافة أبي بكر وسنتين من خلافة عمر ثم عزله عمر وولاه عمان والبحرين، وكان وفد على رسول الله صلى الله عليه وسلم في وفد ثقيف وهو أحدثهم سنا، وله سبع وعشرون سنة، وذلك سنة عشر، وسكن البصرة ومات بها سنة إحدى وخمسين، ولما مات النبي صلى الله عليه وسلم عزمت ثقيف على الردة، فقال لهم: يا معشر ثقيف كنتم آخر الناس إسلاما فلا تكونوا أولهم ردة فامتنعوا من الردة. روى عنه الحسن البصري، وسعيد بن المسيب وموسى بن طلحة ونافع بن جبير (¬4). ¬

_ (¬1) الذي في تهذيب اللغة حولق إذا قال لا حول ولا قوة إلا بالله، 3/ 373. (¬2) الصحاح نقلها عن ابن السكيت 4/ 1464. (¬3) أبو داود والصلاة باب أخذ الأجر على التأذين 1/ 363 ح 531، النسائي الأذان اتخاذ المؤذن الذي لا يأخذ على أذانه أجرًا 2/ 20، أحمد 4/ 21. الترمذي بلفظ (اتخذ) .. ولم يذكر أول الحديث .. إلح الصلاة باب ما جاء في أن يأخذ المؤذن على الأذان أجرا 1/ 409 ح 209، ابن ماجه كلفظ الترمذي الأذان باب السنة في الأذان 1/ 236 ح 714، الحاكم 1/ 119، وقال: صحيح على شرط مسلم، البيهقي الصلاة باب التطوع بالأذان 1/ 429، شرح السنة 2/ 280 ح 417، ابن خزيمة باب الزجر عن أخذ الأجر على الأذان 1/ 221 ح 423، قلت: والحديث صحيح الإسناد. (¬4) طبقات ابن سعد 5/ 508، سير أعلام النبلاء 2/ 374، الإصابة 6/ 388.

قوله: (أ) "أنت إمامهم" فيه دلالة على جواز طلب الإِمامة في الخير إذ المقصود إمامة الصلاة كما قال الله تعالى: {واجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} (¬1) وليس من طلب الرئاسة المكروهة فإن تلك هي الرئاسة المتعلقة بأعمال الدنيا التي لا يعان من طلبها، وكان من حقها ألا يعطاها من طلب، قوله: "واقتد بأضعفهم" فيه دلالة على شرعية التخفيف في الصلاة يقال: أضعف الرجل فهو مضعف إذا ضعفت دابته، ومنه قول عمر: "المُضْعِف أمير على أصحابه يعني في السفر، وكذلك في الصلاة، فالإمام شرع (ب) له مراعاة حال الضعيف في الصلاة كما في حديث معاذ وغيره، وقوله "لا يأخذ على أذانه أجرا": فيه دلالة على المنع من أخذ الأجرة على التأذين، وفيه خلاف، فالشافعي (¬2) قال بالكراهة مع الجواز؛ لأن منفعته للغير كبناء المساجد والقناطر، وقال الهادي والقاسم والناصر وأبو حنيفة (¬3): تحرم الأجرة على الأذان والإقامة إذا شرطها (جـ) وإن تعذر إلا بها لهذا الحديث، وقال الإمام المهدي: والأقرب جوازها على تأذين في مكان مخصوص إذ ليست على الأذان حينئذ بل على ملازمة المكان كأجرة الرصد (¬4)، وقال الرافعي (¬5) الاستئجار على الأذان فيه أوجه: أصحها يجوز مطلقا يعني من كل أحد، والثاني لا يجوز مطلقا، والثالث يجوز للإمام ومن أذن له، ولا يجوز للآحاد (د). انتهى. وليس في الحديث ما يدل على التحريم فتأمل. والله أعلم. ¬

_ (أ) زاد في هـ: له. (ب) في جـ: يشرع. (جـ) في جـ: شرطهما. (د) ساقطة من جـ.

150 - وعن مالك بن الحويرث - رضي الله عنه - قال: قال لنا النبي صلى الله عليه وسلم: "فإذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم". أخرجه السبعة (¬1). هو أبو سليمان مالك بن الحُوَيْرِث (¬2) بضم الحاء المهملة وفتح الواو وسكون الياء وكسر الراء وبالثاء المثلثة بن أَشْيَم بفتح الهمزة وسكون الشين المعجمة وفتح الياء تحتها نقطان، اللّيثي، وفي نسبه إلى ليث خلاف، ويقال: مالك بن الحارث وقيل: ابن حويرثة، وفد على النبي صلى الله عليه وسلم، وأقام عنده عشرين ليلة وسكن البصرة، روى عنه ابنه عبد الله وأبو قلابة وأبو عطة وسلمة الجرمي، مات سنة أربع وتسعين بالبصرة (¬3). الحديث أخرجه البخاري من حديث أبي قلابة عن مالك بن الحويرث قال: "أتيت النبي صلى الله عليه وسلم في نفر من قومي فأقمنا عنده عشرين ليلة، وكان رحيما رفيقا فلما رأى شوقنا إلى أهلنا (أ) قال: ارجعوا فكونوا فيهم وعلموهم وصلوا فإذا حضرت الصلاة فلْيؤَذن لكم أحدم وليؤمكم أكبركم" (¬4) زاد في رواية إسماعيل بن علية عن أيوب: "وصلوا كما رأيتموني" (¬5)، وظاهر قوله: فإذا حضرت الصلاة أن ذلك بعد وصولهم إلى أهلهم، وفي قوله: "فليؤذن لكم ¬

_ (أ) في هـ: أهلينا.

أحدكم": فيه دلالة على الحث على الأذان ويستدل به على الوجوب لاقتضاء صيغة الأمر له، وفي تمام الحديث "وليؤمكم أكبركم". فيه دلالة على تقديم الأكبر في الإمامة، وهذا مع الاستواء في سائر الخصال، لأنهم هاجروا جميعا وأسلموا جميعا وصحبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ولازموه عشرين ليلة واستووا في الأخذ عنه فلم يبق ما يقدم به إلا السن، وقد يستدل به على أفضلية الإمامة على التأذين لأنه قال (أ) يؤذن (ب) أحدكم وخص الإمامة بالأكبر، ومن قال بتفضيل الأذان قال: إنما خص الإمامة بالأكبر لأن الأذان لا يحتاج إلى كثير علم، وإنما المعظم فيه الإعلام بالوقت والإسماع بخلاف الإمامة. 151 - وعن جابر - رضي الله عنه - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لبلال: "إذا أذنت فَتَرسَّل، وإذا أَقمتَ فَاحْدُر، واجْعَل بين أذانك وإقامتك مقدار ما يَفْرُغُ الآكلُ من أكله" الحديث رواه الترمذي وضعفه (¬1). وله عن أبي هريرة (¬2) - رضي الله عنه - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يؤذن إلا متوضيء". وضعفه أيضًا. وله عن زياد بن الحارث (¬3) قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أذن فهو يقيم" وضعفه أيضًا. ¬

_ (أ) في جـ: يقال. (ب) زاد في هـ: لكم.

ولأبي داود في (أ) حديث عبد الله بن زيد أنه قال: أنا رأيته، وأنا كنت أريده، قال: "فأقم أنت" (¬1). وفيه ضعف. حديث جابر تمامه: "والشارب من شربه، والمعتصر إذا دخل لقضاء الحاجة، ولا تقوموا حتى تروني" قال الترمذي: لا نعرفه إلا من حديث عبد المنعم، وإسناده مجهول، وأخرجه الحاكم أيضًا، وله شاهد من حديث أبي هريرة ومن حديث سلمان أخرجهما أبو الشيخ (¬2) ومن حديث أُبَيّ بن كعب (¬3) أخرجه عبد الله بن أحمد بن حنبل في زيادات المسند، وكلها واهية، وقال الحاكم: ليس في إسناده مطعون غير عمر بن فايد (¬4). قال المصنف (¬5) -رحمه الله- بل في إسناده عبد المنعم (¬6) صاحب السقا (ب) وهو كاف في تضعيف الحديث. وقوله: "لا يؤذن إلا متوضئ"، وضعفه الترمذي بالانقطاع (¬7) إذ هو ¬

_ (أ) في جـ: من. (ب) في هـ: الشفا.

عن الزهري عن أبي هريرة، والراوي (¬1) له عن الزهري ضعيف، ورواه الترمذي من رواية يونس عن الزهري عنه مرفوعًا، وهذا أصح، ورواه أبو الشيخ في كتاب الأذان له من حديث ابن عباس بلفظ: "إن الأذان متصل بالصلاة، فلا يؤذن أحدكم إلا وهو طاهر". وقوله: "من أذن فهو يقيم" (أ)، وضعفه أيضًا، ضعفه الترمذي بأنه إنما يعرف من حديث الإفريقي (¬2)، وقد ضعفه القطان (¬3) وغيره، وقال: رأيت محمد بن إسماعيل يقوى أمره، ويقول: هو مقارب الحديث، قال: والعمل علي هذا عند أكثر أهل العلم (¬4). وحديث عبد الله بن زيد ضعف بمحمد بن عمر، فإن أبا داود الطيالسي بينه بأنه الواقفي وهو ضعيف (¬5)، واختلف عليه فيه فقيل: عن محمد بن عبد الله، وقيل: عبد الله بن محمد، قال ابن عبد البر: إسناده حسن (ب) من حديث الإِفريقي (جـ). ¬

_ (أ) في هـ: مقيم. (ب) كذا في النسخ، وفي التلخيص أحسن. التلخيص 1/ 221. (جـ) بهامش الأصل وهـ الكلام غير واضح واستدركته من نسخة هـ.

قوله "فترسل": ترسل فلان في كلامه ومشيته: إذا لم يعجل وهو الترتيل بمعنى واحد، وفي قوله: إذا أذنت فترسل: دلالة على أن ذلك هو المشروع فيه لأن المقصود به (أ) الإِعلام البليغ وهو يزداد بذلك، بخلاف الإِقامة، فإن الإِعلام بها خاص لمن في المسجد مريد للصلاة فكان الحدر بها أنسب، والحدر: الإِسراع، ليفرغ منها إلى المقصود الذي هو الصلاة، (وقوله) (ب): "واجعل بين أذانك وإقامتك" إلح: فيه دلالة على مشروعية الفصل بينهما وقد أشار إلى ذلك البخاري فترجم باب كم بين الأذان والإِقامة (¬1)، ولكن التقدير لم يثبت فلذلك لم يذكر الحديث، وقال ابن بطال: لاحد لذلك غير تمكن دخول الوقت واجتماع المصلين (¬2)، ولم يختلف العلماء في التطوع بين الأذان والإِقامة إلا في المغرب وقد أخرج البخاري في ذلك (¬3). وقوله في حديث أبي هريرة: "لا يؤذن إلا متوضئ" فيه دلالة على اشتراط الوضوء في الأذان والطهارة من الحدث الأكبر مندرجة تحت ذلك (جـ) وفيه خلاف، فمذهب الهادي والقاسم والناصر وأبو حنيفة وغيرهم أنه لا يصح أذان الجنب لحديث أبي هريرة، وقال الشافعي: إن أذانه يصح (¬4)، وأما الطهارة من الحدث الأصغر (¬5) فلا تشترط فيصح من المحدث، وعند الأكثر قالوا: قياسا على ¬

_ (أ) زاد في جـ: هو. (ب) بهامش الأصل وساقطة من جـ. (جـ) في جـ: قوله.

قراءة القرآن وعند أحمد وإسحق والإِمام أحمد بن الحسين، لا يعتد (¬1) بأذانه، قالوا لحديث أبي هريرة. ويجاب عنه بأن الحديث ضعيف لما فيه من الانقطاع، وصحح الترمذي من طريق أخرى وقفه على الزهري، وأما الإِقامة فالأكثر على اشتراط الوضوء في صحتها، قالوا إذ (أ) لم يؤثر خلاف ذلك على عهده صلى الله عليه وسلم، وعند أبي العباس والشافعي يكره فقط، وعند أبي حنيفة لا كراهة ورواية عنه كالشافعي (¬2). وقوله: "من أذن فهو يقيم" فيه دلالة على أن الإِقامة حق له فلا تصح (ب) من غيره أن يتولاها وهو قول الأكثر للحديث وذهب أصحاب أبي حنيفة (¬3) إلى أنه يجوز من الغير كالخطبتين والصلاة والحديث ضعفه أبو حاتم وابن حبان، و (جـ) قال الترمذي، إنما يعرف من حديث الإِفريقي (¬4) وقد ضعفه القطان وغيره وقال البخاري: هو مقارب الحديث. وقوله في (د) حديث عبد الله بن زيد: "أنا رأيته وأنا كنت أريده" إلخ. فيه دلالة على ما ذهب إليه أصحاب أبي حنيفة من أنه يصح أن يتولى الإِقامة غير المؤذن (¬5)، فإن المؤذن هو بلال، فإن في الرواية: فقال: ألقه على بلال، قال: ¬

_ (أ) في جـ: إذا. (ب) في جـ: ولا يصح. (جـ) الواو ساقطة من جـ. (د) في جـ: من.

فألقاه على بلال، قال: فأذن بلال (قوله) (أ): فألقاه على بلال: ليس المقصود به التأذين وإنما هو تعليم ألفاظه وقد أمره النبي صلى الله عليه وسلم بأن يقيم هو. 152 - وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "المُؤذن أمْلَكُ بالأذان، والإِمام أمْلَكُ بالإِقامة" رواه ابن عدي وضعفه (¬1). وللبيهقي نحوه عن علي - رضي الله عنه - من قوله. الحديث أخرجه ابن عدي في ترجمة شريك القاضي من روايته عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة، تفرد به شريك، وقال البيهقي: ليس بمحفوظ، ورواه أبو الشيخ (¬2) من طريق أبي (ب) الجوزاء عن ابن عمه وفيه معارك (¬3) وهو ضعيف. قوله: "المؤذن أملك بالأذان" يعني أن ابتداء وقت الأذان موكول إلى المؤذن لأنه أمين على الوقت، والإِمام أملك بالإِقامة: فيه دلالة على أنه لا يقيم إلا بعد إشارة الإِمام بذلك، وفي قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا أقيمت الصلاة فلا تقوموا حتى تروني" (¬4) أي خرجت: أخرجه البخاري (جـ) دلالة على أن للمقيم أن يقيم ¬

_ (أ) ساقطة من ب. (ب) في جـ وهـ: ابن. (جـ) زاد في هـ وجـ: فيه.

وإن لم يحضر الإمام فإقامته غير متوقفة على إذنه (¬1)، وأما تعيين وقت قيام المؤتمين فقال مالك في الموطأ (¬2): لم أسمع في قيام الناس حين تقام (أ) الصلاة بحد محدود إلا أني أرى ذلك على طاقة الناس فإن فيهم الثقيل والخفيف، وذهب الأكثرون إلى أن الإِمام إن كان معهم في المسجد لم يقوموا حتى تفرغ الاقامة، وعن أنس أنه كان يقوم إذا قال المؤذن: قد قامت الصلاة، رواه ابن المنذر وغيره، وكذا رواه سعيد بن منصور من طريق أبي إسحق عن أصحاب عبد الله وعن سعيد بن المسيب، قال: إذا قال المؤذن: الله أكبر، وجب القيام، وإذا قال: حي على الصلاة عدلت الصفوف، وإذا قال: لا إله إلا الله كبر الإِمام، وعن أبي حنيفة: يقومون إذا قال حي على الفلاح، فإذا قال: قد قامت الصلاة كبر الإِمام، وأما إذا لم يكن الإمام معهم في المسجد فذهب الجمهور إلى أنهم لا يقومون حتى يروه، وخالف من ذكرنا على التفصيل الأول، والحديث حجة عليهم. وهذا الحديث معارض بحديث جابر بن (¬3) سمرة أن بلالا كان لا يقيم حتى يخرج النبي صلى الله عليه وسلم، ويجمع بينهما أن بلالا كان يراقب خروج النبي صلى الله عليه وسلم فلأول ما يراه شرع في الإقامة قبل أن يراه غالب الناس ثم إذا رأوه قاموا، فلا يقوم في مقامه حتى تعتدل صفوفهم، وشهد (ب) له ما رواه عبد الرزاق عن ابن جرير عن ابن شهاب: "أن الناس كانوا ساعة يقول المؤذن: الله أكبر يقومون إلى الصلاة"، فلا يأتي النبي صلى الله عليه وسلم مقامه حتى تعتدل ¬

_ (أ) في جـ: تعلم. (ب) في جـ وهـ: ويشهد.

الصفوف" (¬1) وقد ورد من حديث أبي هريرة أنهم كانوا يعدلون الصفوف قبل خروجه صلى الله عليه وسلم، ذكره في مستخرج أبي نعيم، وفي صحيح (¬2) مسلم، وفي سنن أبي داود ولعله يقال وقوع مثل ذلك، فيه دلالة على الجواز أو أن (أ) فعلهم ذلك كان سببا للنهي المذكور وقد صرح بهذا في حديث أبي قتادة (¬3) أنهم كانوا يقومون ساعة تقام الصلاة ولو لم يخرج النبي صلى الله عليه وسلم فنهاهم عن ذلك لاحتمال أن يقع له شغل يبطئ فيه عن الخروج فيشق عليهم انتظاره (¬4). 153 - وعن أنس رضي الله عنه - "لا يُرَدُّ الدعاءُ بين الأذان والإِقامة" رواه النسائي وصححه ابن خزيمة (¬5). وظاهر الحديث أن الدعاء الطلق لا يرد وقد ورد في تعيين ما يدعى به ما في حديث مسلم من رواية عبد الله بن عمر وبلفظ: "قولوا مثل ما يقول ثم صلوا عليَّ ثم سلوا الله ليَ الوسيلة" (¬6)، وما أخرج أبو داود والبخاري من حديث جابر ¬

_ (أ) في جـ: وأن.

قال: قال رسول الله صلى اللَة عليه وسلم من قال حين يسمع النداء: "اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آت محمدا الوسيلة والفضيلة، وابعثه مقاما محمودا الذي وعدته، إلا حلت له شفاعتي يوم القيامة" (¬1). زاد البيهقي من طريق محمد بن (عوف) (أ) عن علي بن عبد الله بن عباس: "اللهم إني أسألك بحق هذه الدعوة التامة" (¬2)، والمراد بالدعوة التامة دعوة التوحيد لأن الشركة نقص، أو لأنها (ب) لا يدخلها تغيير ولا تبديل، أو لأنها هي التامة حقيقة وما سواها معرض للفساد أو لأنها متضمنة أتم القول، وهو لا إله إلا الله، وقيل: هي من أول الأذان إلى قوله محمدا رسول (¬3) الله، والحيعلة الصلاة القائمة، أو المراد بالصلاة القائمة المدعو إليها وهو أظهر، والوسيلة هي ما يتقرب به إلى الكبير، والمراد بها المنزلة العلية (جـ) وقد ورد ذلك في حديث ابن عمر عن مسلم بلفظ: "فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله" (¬4) ونحوه للبزار، والفضيلة: المرتبة الزائدة على سائر الخلق، أو (د) المراد بها منزلة أخرى غير الوسيلة، ومقاما محمودا نصب على المفعولية أي ابعثه فأقمه مقاما محمودا بتقدير أقمه، أو على تضمين ابعث معنى أقم، أو نصب على المصدر (¬5) بتقدير بعثه مقاما محمودا، قال النووي (د): ثبتت الرواية بالتنكير، ¬

_ (أ) في النسخ: عون والتصحيح من سنن البيهقي. (ب) في جـ: لأنه. (جـ) في هـ: في الجنة، ومصححه في الحاشية كالمثبت. (د) في هـ: و. (هـ) زاد في هـ: و.

والتنكير للتعظيم أي مقاما أي مقام (أ) محمود لكل إنسان، وقد روى النسائي وابن خزيمة وابن حبان والطحاوي والطبراني في الدعاء والبيهقي، بالتعريف (¬1)، وهو الشفاعة على قول الأكثر، أو (ب) إجلاسه على العرش أو الكرسي، وفي قوله حلت له شفاعتي مناسبة لأن يراد به الشفاعة أو المراد به ما يحصل له في ذلك المقام من إلباسه الحلة الخضراء وتقديمه للثناء على الله تعالى بين يدي الساعة والشفاعة (جـ) ووقع ما يدل على ذلك في صحيح ابن حبان من (د) حديث كعب بن مالك (¬2)، وقوله "الذي وعدته": إشارة إلى ما في قوله تعالى: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} (¬3) والوصول على رواية التنكير بدل أو خبر مبتدأ محذوف أو نصب بتقدير أعني، وعلى رواية التعريف نعت للمقام المحمود، وقوله: "حلت له شفاعتي" أي استحقت ووجبت أو نزلت عليه، يقال: حل يحل أي نزل، واللام بمعنى على، وورد عند أذان المغرب خصوصا ما أخرجه أبو داود (¬4) من حديث أم سلمة قالت: "علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ¬

_ (أ) ساقطة من هـ. (ب) في جـ: و. (جـ) ساقطة من جـ. (د) ساقطة من جـ.

أقول عند أذان المغرب: اللهم هذا إقبال ليلك وإدبار نهارك وأصوات دعاتك. فاغفر لي"، ويستحب أن يقول السامع بعد قوله وأنا أشهد أن محمدا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، رضيت بالله ربا وبمحمد رسولا وبالإِسلام دينا (¬1)، (ويقول بعد التثويب، صدقت وبررت (¬2)، وادعى ابن الرفعة وروده في الحديث، وهو غريب) (أ)، ويندب أيضًا لمن سمع المقيم أن يقول مثل قوله كما في الأذان ويقول عند قوله: قد قامت الصلاة: أقامها الله وأدامها، لما أخرجه (ب) أبو داود عن أبي أمامة أو بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم "أن بلالا أخذ في الإِقامة فلما أن قال: قد قامت الصلاة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أقامها الله وأدامها" (¬3) وقال في سائر الإِقامة كنحو حديث عمر في الأذان، ويندب أن يكون المؤذن غير الإِمام لأن ذلك المأثور على عهد النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة وأن يصلي بين الأذان والإِقامة ركعتان لقوله، صلى الله عليه وسلم: "بيْنَ كُلِّ أذانيْنِ صلاة" (¬4) وأن يقول عقيب ركعتي الفجر: "اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل ومحمد النبي صلى الله عليه وسلم أعوذ بك من عذاب النار" ثلاث مرات لورود ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما حكاه النووي في الأذكار عن كتاب ابن السني (¬5). ¬

_ (أ) بهامش الأصل. (ب) في جـ: ما خرجه.

فائدة: قال القاضي عياض -رحمه الله- واعلم أن الأذان كلمة جامعة لعقيدة الإِيمان مشتملة على نوعية من العقليات والسمعيات فأوله إثبات الذات وما يستحقه من الكمال والتنزيه عن أضدادهما، وذلك لقوله: الله أكبر، وهذه اللفظة مع اختصار لفظها دالة على ما ذكرناه، ثم صرح بإثبات الوحدانية ونفى ضدها من الشركة المستحيلة في حقه سبحانه وتعالى، وهذه عمدة الإِيمان والتوحيد المقدمة على كل وظائف الدين، ثم صرح بإثبات النبوة والشهادة بالرسالة لنبينا، صلى الله عليه وسلم، وهي قاعدة عظيمة بعد الشهادة بالوحدانية، وموضعها بعد التوحيد لأنها من باب الأفعال الجائزة الوقوع، وتلك المقدمات من باب الواجبات وبعد هذه القواعد كملت القواعد العقليات فيما يجب ويستحيل ويجوز في حقه سبحانه وتعالى ثم دعا إلى ما دعا إليه من العبادات، فدعاهم إلى الصلاة وعقبها بعد إثبات النبوة، لأن معرفة وجوبها من جهة النبي صلى الله عليه وسلم، لا من جهة العقل، ثم دعا إلى الفلاح وهو الفوز والبقاء في النعيم المقيم، وفيه إشعار بأمور الآخرة من البعث والجزاء وهو آخر تراجم عقائد الإِسلام، ثم كرر ذلك بإقامة الصلاة الإِعلام بالشروع فيها وهو متضمن لتأكيد الإِيمان، وليدخل المصلي فيها على بينة من أمره، وبصيرة من إيمانه ويستشعر عظيم (أ) ما دخل فيه، وعظمة حق من يعبده، وجزيل ثوابه (¬1)، هذا كلامه. فائدة أخرى: لم يذكر المصنف شيئًا مما ورد في: حي على خير العمل، وأذكر في ذلك ما اطلعت عليه، وفي إثباتها خلاف فالعترة وأحد قولي الشافعي أنها من الأذان (¬2) وذهبت الفقهاء إلى أنها ليست من الأذان، حجة القول الأول ما أخرجه المؤيد بالله في شرح التجريد من رواية الطحاوي عن عبد الملك بن أبي ¬

_ (أ) في هـ: عظم.

محذورة عن أبي محذورة قال: "علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم الأذان كما تؤذنون الآن وذكر منها: حي على (أ) العمل (¬1)، وذكر نحو هذا المحب الطبري في كتاب الأحكام الكبير عن أبي أمامة بن سهل البدري وذكره عنه سعيد بن منصور في سننه، وما أخرجه البيهقي (¬2) في سننه الكبرى عن نافع قال: "كان ابن عمر يكبر في النداء ثلاثا ويشهد ثلاثا وكان أحيانا إذا قال: حي على الفلاح، قال على أثرها: حي على خير العمل" قال البيهقي (¬3): ورواه عبيد الله بن عمر عن نافع، وقال كان ابن عمر ربما زاد في أذانه: حي على خير العمل ورواه الليث بن سعد عن نافع قال: "كان ابن عمر (لا) (ب) يؤذن في سفره، وكان يقيم: حي على الصلاة، حي على الفلاح، وأحيانا حي على خير العمل (¬4) ورواه محمد بن سيرين عن ابن عمر، وكذا رواه نسير بن زعلوق عن ابن عمر، وروي ذلك عن أبي أمامة (جـ) وأخرج أيضًا (¬5) عن علي بن الحسين أنه كان يقول في أذانه قال: حي على الفلاح، قال: حي على خير العمل، ويقول هو الأذان الأول انتهى. وأخرج ابن أبي شيبة (¬6) أن علي بن الحسين كان يؤذن فإذا بلغ حي على ¬

_ (أ) ساقطة من هـ. (ب) في النسخ بدون لا، وفي البيهقي: لا يؤذن. (جـ) الواو ساقطة من هـ.

الفلاح قال: حي على خير العمل ويقول: هو الأذان الأول وأنه أذان (أ) رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال الهادي (¬1) في الأحكام: وقد صح لنا أن حي على خير العمل كانت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤذن بها، ولم تطرح إلا في زمن (ب) عمر، فإنه أمر بطرحها، وقال أخاف أن يتكل الناس على ذلك، وفي كتاب السنام أن الأذان شرع بحي على خير العمل لأنه اتفق على الأذان به يوم الخندق ولأنه دعا إلى الصلاة، وقد قال صلى الله عليه وسلم: "خير أعمالكم الصلاة" (¬2) انتهى. ولكن الهادي قال في الأحكام (¬3) بعد هذا: إنها خير الأعمال بعد الجهاد، وهذا التأويل لا يناسب مذهبه في إثباتها، وحكي في شرح الموطأ أن عمر والحسن والحسين وبلالا وجماعة أذنوا بها، وفي جامع آل محمد ما لفظه: قال الحسن بن يحيى أجمع آل رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقولوا في الأذان والإِقامة: حي على خير العمل ولم يزل النبي صلى الله عليه وسلم يؤذن بحي على خير العمل حتى قبضه الله إليه وكان يؤذن بها في زمن (جـ) أبي بكر، فلما ولي عمر قال: دعوا حي على خير العمل لا يشتغل الناس عن الجهاد فكان أول من تركها، ولم يذكر القاسم ومحمد حي على خير العمل، في الأذان ولا في الإِقامة بل روى محمد بأسانيده عن علي بن الحسين ومحمد بن علي ويحيى بن زيد أنهم كانوا يقولون في الأذان: حي على خير العمل. انتهى. حجة الفقهاء الأحاديث المروية في ابتداء شرعية الأذان وغيرها من الصحيحين وغيرهما من الأصول الستة وغيرها، ولم يذكر فيها حي على خير العمل، وفيما ¬

_ (أ) في هـ وجـ: أذن. (ب) في جـ: زمان. (جـ) في جـ: زمان.

تقدم من الروايات بذكر الأذان الأول إشارة إلى أنه كان في أول الأمر ثم نسخ وأمر عمر بتركه، ولم ينكر وإجماع (أ) العترة غير مسلم لما سبق من خلاف القاسم، وأجيب عن حمل الأول أنه الأول في صدر الإِسلام، ثم نسخ لصحة أن يراد بالأول الأول (ب) قبل ترك عمر له، وأمر عمر بتركه اجتهاد وليس بحجة. والله أعلم. عدة أحاديث الباب ستة وعشرون حديثًا. ¬

_ (أ) في جـ: ولم ينكروا إجماع. وفي هـ: ولم ينكروا وإجماع. (ب) ساقطة من جـ.

باب شروط الصلاة

باب شروط الصلاة الشروط جمع شرط والشرط لغة العلامة ومنه أشراط الساعة أي علاماتها. وفي اصطلاح الفقهاء ما يلزم من عدمه عدم حكم أو سبب. 154 - عن علي بن طلق قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا فَسَا أحدُكم في الصلاة، فلينصرف، وليتوضأ، وليعد الصلاة" رواه الخمسة وصححه ابن حبان (¬1). (هو علي بن طلق الحنفي اليمامي، روى عنه سلم بن سلام، وهو من أهل اليمامة وحديثه فيهم، قال ابن عبد البر: أظنه والد طلق بن علي الحنفي، ومال أحمد والبخاري (¬2): إلى أن طلق بن علي، وعلي بن طلق اسم لذات واحدة (¬3)) (أ) الحديث. وأخرجه أحمد أيضًا وابن حبان، وقال ابن حبان: لم يقل فيه: "وليعد صلاته" إلا جرير بن عبد الحميد، وأعله ابن القطان بمسلم بن سلام ¬

_ (أ) بهامش الأصل. واللام غير واضح واستدركته من نسخة هـ.

الحنفي (¬1)، وهو لا يعرف وقال الترمذي قال البخاري (أ): ولا أعلم لعلي بن طلق غير هذا الحديث الواحد (¬2). وفي الحديث دلالة على كون الفساء ناقضا للوضوء، وهو مجمع عليه والمراد به (ب) الريح الخارج من الدبر من غير صوت، ولذلك عطف عليه ما فيه صوت في حديث أبي هريرة لما قيل له: "ما الحدث؟ فقال: فساء أو ضراط" (¬3) ويدل على كونه مبطلا للصلاة يوجب استئنافها وقد قال بهذا الهادي، والناصر، والشافعي (¬4) في أحد قوليه كما تقدم في نواقض الوضوء، والخلاف في ذلك لأبي حنيفة وغيره كما تقدم لما مر من حديث عائشة (¬5) ولكنه لم يذكر في حديث عائشة (جـ) الريح ولكنه ذكر ما هو أغلظ منه كالمذي ولم يبطل الصلاة فهذا بالأولى، فالحديثان متعارضان والجواب ترجيح (د) هذا لأنه مثبت لاستئناف الصلاة وذلك ناف (¬6) والله أعلم. ¬

_ (أ) زاد في هـ: و. (ب) ساقطة من جـ. (جـ) ساقطة في هـ وجـ. (د) في هـ: بترجيح.

155 - وعن عائشة - رضي الله عنها - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار" رواه الخمسة إلا النسائي وصححه ابن خزيمة (¬1). الحديث أخرجه أحمد والحاكم، وأعله الدارقطني (أ) وقال: إن وقفه أشبه وأعله الحاكم بالإِرسال، ورواه الطبراني في الصغير والأوسط من حديث أبي قتادة بلفظ: "لا يقبل الله من امرأة صلاة حتى تواري زينتها ولا من جارية بلغت الحيض حتى تختمر" (¬2). قوله: "لا يقبل" المراد بالقبول هنا ما يرادف الصحة وهو الإِجزاء وحقيقة القبول ثمرة وقوع الطاعة مجزية رافعة لما في الذمة، ولما كان الإِتيان بشروطها مظنة الإِجزاء الذي القبول ثمرته عبر عنه بالقبول مجازا وقد يطلق القبول ويراد كون العبادة بحيث يترتب عليها الثواب وهو بهذا المعنى لا يلزم من نفيه نفي الصحة كما في قوله: "من أتى عرافا لم تقبل له صلاة" (¬3) ونحوه، وقوله "صلاة حائض": المراد بالحائض من بلغت سن الحيض والقصود هنا البلوغ الشرعي سواء (¬4) كان بالحيض أو بغيره، ولعله اعتبر الأغلب إذ به يكون البلوغ في الأغلب، وقوله: "إلا بخمار": فيه دلالة على أنه يجب على المرأة ستر الرأس والعنق ¬

_ (أ) عليها كشط بالأصل وفي هـ وحـ بالوقف وفي التلخيص بإثباتها.

ونحوه، مما يقع عليه الخمار، وكذلك سائر بدنها لقوله تعالى: {إلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} (¬1)، وفسر بموضع الكحل والخاتم وهو الوجه والكفين (¬2)، وما عداه فهو عورة، فدل على وجوب الستر مطلقا في الصلاة وغيرها وقد ذهب إلى هذا الهادي ورواية عن القاسم وأحد قولي الشافعي وعن أبي حنيفة ومالك (¬3)، وعن القاسم وعن (أ) أبي حنيفة (¬4)، وهو قول الثوري، أن القدمين وموضع الخلخال ليس بعورة، وذهب أحمد وتخرج السيدين (¬5) و (ب) داود الظاهري إلى أن جميعها عورة إلا الوجه (¬6) قالوا للإِجماع على كشفه للإِحرام والشهادة، وذهب بعض أصحاب الشافعي أن جميعها عورة من غير استثناء (¬7)، قالوا لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "النساء عي وعورات" (¬8) ولم يفصل، ورد عليهم بتفسير ابن عباس لقوله {إلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} بما مر (جـ) ولقوله، - صلى الله عليه وسلم -، فيما أخرجه أبو داود عن أم سلمة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - أنها سألت النبي، - صلى الله عليه وسلم - "أتصلى المرأة في درع وخمار عليها إزار؟ قال: إذا كان الدرع سابغا يغطى ظهور قدميها" (¬9) قال أبو داود: ورواه جماعة موقوفًا على أم سلمة منهم مالك، وقد أعله عبد الحق لذلك، ورجح وقفه. ¬

_ (أ) ساقطة من جـ. (ب) الواو ساقطة من جـ. (جـ) الواو ساقطة من جـ.

قال المصنف (¬1): وهو الصواب. وحكم الخنثى (¬2) حكم المرأة تغليبا لجانب الحظر، وأما الأمة فهي كالرجل وهي مخصوصة من عموم هذه الأحاديث بما روي عن أبي موسى أنه تكلم على المنبر وقال: "لا أعرف أحدا أراد أن يشتري أمة فينظر ما بين السرة والركبة، لا يفعل ذلك أحد إلا عاقبته" (¬3) ولم ينكر عليه، فدل على أن ما عدا ذلك يجوز النظر إليه فهو ليس بعورة وقال بعض أصحاب الشافعي (¬4): بل يجب ستر ما عدا موضع (أ) التقليب للبيع وهي الذراعان والساقان والرأس للحاجة، وقال بعض أصحاب الشافعي: بل هي كالحرة (¬5) إلا الرأس لإِنكار عمر ستره (¬6)، ولم ينكر. والجواب بما (ب) روي عن أبي موسى: ومن لم ينفذ عتقها حكمها حكم الأمة لبقاء الرقبة وعن ابن سيرين: أم الولد كالحرة (¬7) لحصول سب العتق، قلنا لم ينفذ فهي كالدبرة. والله أعلم. ¬

_ (أ) في هـ: مواضع. (ب) في جـ: ما.

156 - وعن جابر - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له: "إن كان الثوب واسعا فالتحف به -يعني في الصلاة". ولمسلم: "فخالف بين أطرافه وإن كان ضيقا فاتزر به" متفق عليه (¬1). ولهما في حديث أبي هريرة: "لا يصلي أحدم في الثوب الواحد ليس على عاتقه منه شيء" (¬2). قوله: إن كان (الثوب) (أ) واسعا فالتحف به: الالتحاف في معنى الارتداء وهو أن يتزر بأحد طرفي الثوب ويرتدي بالطرف الآخر، وقوله: يعني في الصلاة أخذ التقييد من كون الحديث واردا (ب) في قصة صلاته مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فإن في القصة: "فوجدته يصلي، وعلي ثوب واحد، فاشتملت به وصليت إلى جانبه فلما انصرف قال: ما السُّرى يا جابر فأخبرته بحاجتي، فلما فرغت، قال: ما هذا الاشتمال الذي رأيت؟ قلت: كان ثوب، قال: فإن كان واسعا فالتحف به وإن كان ضيقا فاتزر به" (¬3) وقوله "فخالف بين أطرافه": المخالفة بين الأطراف مراد بها الخالفة بين الطرفين وهي لا تتيسر إلا بجعل شيء منه على العاتق، وقد صرح بذكر الطرفين في رواية أحمد من طريق معمر عن يحيى: "فليخالف بين طرفيه على عاتقيه" (¬4). ¬

_ (أ) في الأصل الثواب. (ب) في هـ: واراد.

وقوله: لا يصلي أحدكم: قال ابن الأثير هو كذا في الصحيحين بإثبات الياء على أن لا للنفي وهو في معنى النهي، ويحتمل أن لا للنهي وهو مجزوم بحذف الياء تقديرا، وقد رواه الدارقطني في غرائب مالك من طريق الشافعي عن مالك بلفظ: "لا يصل" مجزوما ومن طريق عبد الوهاب بن عطاء بلفظ: "لا يصلين" بزيادة نون التوكيد، ورواه الإِسماعيلي من طريق الثوري عن أبي الزناد بلفظ نهي، وقوله "و (أ) ليس على عاتقه منه شيء" (¬1) زاد مسلم من طريق ابن عيينة عن أبي الزناد لفظ: "منه"، وهي محذوفة في البخاري، والمراد: لا يتزر في وسطه ويشد طرفي الثوب في حقويه، بل يتوشح بهما على عاتقيه فيحصل الستر، لجزء من أعالي البدن. والحديث فيه دلالة على الأمر بالالتحاف إذا كان الثوب واسعا، وحمل الجمهور الأمر على الندب، والنهي في الرواية الأخرى على التنزيه، (ب) قال الكرماني: (¬2) الإِجماع منعقد على جواز تركه وهو منقوض بما روي عن أحمد (¬3): أنها لا تصح (جـ) صلاة (د) من قدر على ذلك فتركه فقد جعله من الشرائط، وفي رواية عنه: تصح الصلاة ويأثم فجعله واجبا مستقلا وكلام الترمذي (¬4) يدل على ثبوت الخلاف، ونقل الشيخ تقي الدين (¬5) السبكي وجوب ذلك عن نص الشافعي واختاره، لكن المعروف في كتب الشافعية خلافه، واستدل الخطابي على عدم ¬

_ (أ) الواو ساقطة من جـ. (ب) زاد في جـ: و. (جـ) في جـ: لا تصلح. (د) في هـ: الصلاة.

الوجوب بأنه - صلى الله عليه وسلم - صلي في ثوب واحد كان أحد طرفيه على نسائه (¬1) وهي نائمة، قال: ومعلوم أن الطرف الذي هو لابسه من الثوب غير متسع لأن يتزر به (أ) ويفضل منه ما كان لعاتقه، وفيه نظر، وجنح البخاري إلى أنه يجب إذا كان الثوب واسعا، وإذا كان ضيقا لم يجب شيء منه على العاتق وهو اختيار ابن المنذر (¬2). فائدة: السفر الذي ورد في حديث (¬3) جابر هو في غزوة بُوَاط (¬4) بضم الموحدة وتخفيف الواو وهي من (ب) أول مغازيه - صلى الله عليه وسلم -. فائدة أخرى: كان الخلاف في منع جواز الصلاة في الثوب الواحد قديما، روى ابن أبي شيبة (¬5) عن ابن مسعود قال: لا يصلين في ثوب واحد وان كان، أوسع ما بين السماء إلى الأرض، ونسب ابن بطال (¬6) ذلك لابن عمر ثم قال لم يتابع عليه، ثم استقر الأمر على الجواز. ¬

_ (أ) في هـ: فيه. (ب) ساقطة من هـ.

157 - عن أم سلمة - رضي الله عنها - أنها سألت النبي - صلى الله عليه وسلم -: أتصلي المرأة في درع وخمار بغير إزار؟ ذال: "إذا كان الدرع سابغا يغطي ظهور قدميها" أخرجه أبو داود، وصحح الأئمة وقفه (¬1). الحديث رواه ممالك وغيره (موقوفًا) (أ). قال المصنف -رحمه الله-: وهو الصواب. تقدم الكلام فيه في الكلام على حديث عائشة قريبا. 158 - وعن عامر بن ربيعة قال: كنا النبي - صلى الله عليه وسلم - في ليلة ظلمة، فأشكلت علينا القبلة، فصلينا فلما طلعت الشمس (ب) إذا نحن صلينا إلى غير القبلة، فنزلت {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} أخرجه الترمذي وضعفه (¬2). هو أبو عبد الله عامر بن ربيعة بن مالك العنزي (¬3)، وفي نسبه خِلَاف، وهو ¬

_ (أ) في النسخ: مرفوعًا، ولعله سبق قلم فقد ساق الشارح هذا الحديث في حديث عائشة السابق وساق قول الحافظ أعله عبد الحق ورجح وقفه وقال هو الصواب. التلخيص 1/ 291. (ب) زاد في جـ: و.

حليف بني عدي بن كعب ولذلك يقال له العدوي، هاجر الهجرتين، وشهد المشاهد كلها وأسلم قديما. روى عنه ابنه عبد الله وابن عمر وابن الزبير، مات سنة اثنتين وثلاثين، وقيل سنة ثلاث، وقيل سنة خمس. والعَنْزِيّ: بفتح العين المهملة وسكون النون وبالزاي نسبة إلى (أعنز (ب) بن وائل أخي بكر بن أ) وائل وتغلب، وعدد العنزيين في الأرض قليل، وقال علي بن المديني: عامر بن ربيعة بن عَنَز بفتح النون، والأول عندهم أصح، ومنهم من نسبه إلى مَذْحج من اليمن، ولم يختلفوا أنه حليف للخطاب بن نفيل لأنه تبناه. والحديث مضعف بأشعث بن سعيد السمان (¬1) وهو يضعف (جـ) في الحديث، وقد ذهب أكثر أهل العلم إليه، وابن حزم (¬2) ذكره من حديث عبد الله بن عامر بن ربيعة، والحديث إنما هو عن عامر، وكذا رواه أحمد (¬3)، والطبراني ثم (د) أعله بعاصم بن عبيد الله، وما نقله (5) الترمذي أولى، فإِنَّ عاصم بن عبيد الله (¬4) هذا، قد قال العجلي (¬5): ثقة لا بأس به، ولا أعلم من وثق الأول، وقال ابن معين (¬6): بلغني عن مالك أنه قال: عجبا من شعبة هذا الذي ينتقي الرجال ¬

_ (أ- أ) ساقط من جـ. (ب) في هـ: عنزة. (جـ) في جـ: مضعف. (د) ساقطة في جـ. (هـ) في جـ: وما فعله، وفي هـ: ومما فعله.

وهو يحدث عن عاصم ولكنه يقال لمالك: لا تتعجب من شعبة فإنك قد رويت عنه في "الموطأ" (¬1). والحديث فيه دلالة على أن من صلى مع لَبْس القبلة أجزأته الصلاة، وسواء كان صلاته مع التحري والنظر في الأَمَارات أو بدون ذلك، وسواء انكشف له الخطأ في الوقت أو بعده، ومثل هذا ما رواه الطبراني من حديث معاذ بن جبل قال: "صلينا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في يوم غيم في سفر إلى غير القبلة فلما قضى الصلاة تجلت الشمس فقلنا: يا رسول الله صلينا إلى غير القبلة، فقال: قد رفعت صلاتكم بحقها إلى الله عزَّ وجلَّ" (¬2)، وفي إسناده هذا أبو عبلة (أ) والد إبراهيم، ذكره ابن حبان في "الثقات" (¬3)، واسمه شمر بن يقظان. وقد ذهب إلى ظاهر هذا الحديث وعمومه أبو حنيفة (¬4)، ورواه ابنُ أبي شبية عن ابن المسيَّب وعطاء والشعبي وغيرهم، وهو قول الكوفية فيما عدا مَنْ صلى بغير تحرى وتيقن الخطأ فإنه حكى في "البحر" الإجماع (¬5) على وجوب الإعادة عليه فيكون عموم الحديث مخصصا بالإجماع، وذهب الهادي (¬6) والقاسم ومالك والزهري إلى أنه لا يجب الإعادة على مَنْ صلى بتحري وانكشف له الخطأ وقد خرج الوقت، وأما إذا تيقن الخطأ والوقت باقٍ وجب عليه الإعادة، قالوا: ¬

_ (أ) في جـ: أبو أعبلة.

لتوجه الخطاب مع بقاء الوقت فإن لم يتيقن فلا، إذ لا يأمن الخطأ في الآخر (أ) فإِنْ خرج الوقت فلا إعادة للحديث، واشترط التحري إذ الواجب عليه تيقن الاستقبال، فَإِنْ تعذر اليقين فعل ما يمكنه من التحري، فإِنْ قصر فهو غير معذور إلا إذا تيقن الإِصابة. وذهب الشافعي (¬1) إلى وجوب الإِعادة عليه في الوقت وبعده، ولعل الوجه في ذلك أن الاستقبال واجب قطعي، وحديث السرية (¬2) قد عرفت ما فيه، ولكنه يدفع بتقويه بحديث معاذ بل هو كاف في الاحتجاج به والإِطلاق في الحديثَيْن وارد عليهم والتقييد بما ذكر من الإِجماع. والله أعلم. 159 - عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما بين المشرق والمغرب قبلة" رواه الترمذي، وقوّاه البخاري (¬3). الحديث رواه الترمذي وقال: "حسن صحيح"، ورواه الحاكم من طريق شعيب بن أيوب عن عبد الله بن نمير عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر، وذكره الدارقطني (¬4) في "العلل" فقال: الصواب عن نافع عن عبد الله بن عمر ¬

_ (أ) في جـ: الأخرى.

عن عمر، وزاد رُزَيْن: "إذا استقبلتَ البيت ولم تره"، وقال الترمذي (¬1): وقد روي هذا الحديث عن غير واحد من الصحابة منهم: عمر وعلي وابن عباس، وقال ابن عمر: "إذا جعلتَ المغرب عن يمينك والمشرق عن شمالك فما بينهما قبلة إذا استقبلتَ القبلة" (¬2). انتهى. وفي "الموطأ" (¬3) نحوه. وهذا الحديث - (أأي قول ابن عمر أ) - في حق مَنْ كان في جهات المدينة كما لا يخفى، وكذلك حديث الأصل إنما يكون في حق بعض أهل الجهات كأهل اليمن والمدينة. وفي الحديث دلالة على أَنَّ المقصود الجهة لا العَيْن في حق مَنْ تَعَّذَر عليه الرؤية ونحوها، وقد ذهب إلى هذا أبو العباس وأبو طالب والكرخي وأحد قولَي أصحاب الشافعي ورواية لأبي حنيفة لهذا الحديث (¬4). ولأنه لو كان المقصود العَيْن لَلَزِمَ بُطْلَان صلاة بعض مَنْ كان في صَفٍّ طويل وهو مَنْ زاد على مقدار عُرْض الكعبة، وذهب زيد بن على والناصر وأحد قولي الشافعي (¬5) ورواية عن أبي حنيفة أن المقصود هو عين الكعبة لقوله تعالى: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} (¬6)، وقياسا على من كان يمكنه اليقين للعين، وما ذكر من الإِلزام مدفوع إذ الحرم الصغير مع البُعْد منه يمتد وكلما ازداد بُعْده (ب) زاد امتداده وهذا مُدْرَكٌ والله أعلم (¬7). ¬

_ (أ، أ) ساقط من جـ. (ب) في الأصل: "بعد" بدل "بعده"، وفي جـ: "كلما ازداد بعدا ازداد امتداد".

160 - وعن عامرو بن ربيعة رضي الله عنه قال: "رأيتُ رسوَل الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي على راحلته حيثُ تَوَجَّهَتْ به"، متفق عليه. زاد البخاري "يومئ برأسه، ولم يكن يصنعه في المكتوبة" (¬1). ولأبي داود من حديث أنس: "كان إذا سافر فأراد أَنْ يتطوع استقبل بناقته القبلة فكبر ثم صلى حيث كان وجه ركابه" وإسناده حسن (¬2). الحديث أخرجه البخاري من حديث عامر بن ربيعة بلفظ: "كان يسبح على الراحلة"، وأخرجه من حديث ابن عمر: "كان يسبح على ظهر راحلته حيث كان وجهه، ويومئ برأسه قِبل أي وجه توجه ويوتر عليها، غير أنه لا يصلي عليها المكتوبة" (¬3)، وللبخاري من وجهٍ آخر: "كان يسبح على ظهر راحلته حيث كان وجهه ويومئ برأسه" (¬4)، وللبخاري من حديث آخر نحوه وفيه: "فإذا أراد الفريضة نزل فاستقبل القبلة" (¬5). وأخرج الشافعي نحوه من حديث جابر بلفظ: "رأيتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي وهو على راحلته النوافل" (¬6)، ورواه ابنُ خزيمة من حديث محمد بن بكر عن بن جُرَيْج مثل سياقه وزاد: "ولكنه يخفض السجدتَيْن من الركعة يومئ إيماءة (¬7)، ولابن حبان نحوه. ¬

_ (¬1) البخاري كتاب تقصير الصلاة باب صلاة المتطوع على الدواب وحينما توجهت به 2/ 573 ح 1093، مسلم صلاة المسافرين باب جواز صلاة النافلة على الدابة في السفر حيث توجهت 1/ 488 ح 40 - 701، زاد البخاري بلفظ: "يصنع ذلك" 2/ 574 - 575 ح 1097. (¬2) أبو داود الصلاة باب التطوع على الراحلة والوتر 2/ 21 ح 1225، وإسناده حسن لأن فيه ربعي بن عبد الله بن الجارود وهر صدوق، التقريب 100. وللحديث شواهد أخرى منها حديث عامر بن ربيعة وغيره، والله أعلم. (¬3) البخاري 2/ 575 ح 1098. (¬4) البخاري 2/ 578 ح 1105. (¬5) البخاري 2/ 575 ح 1099. (¬6) مسند الشافعي 24 وبقيته: "في كل جهة". (¬7) ابن خزيمة 2/ 253 ح 1270.

وحديث أنس أخرجه أبو داود من حديث الجارود بن أبي سبرة حدثني أنس، وصححه ابن السكن. وفي الحديث تصريح بصحة صلاة المتنفل على الراحلة وإن فاته الاستقبال، وفي حديث أنس زيادة: "وهو الاستقبال عند التكبيرة " وفي رواية البخاري أيضًا زيادة: "وهو أَنْ يومئ برأسه إيماء" (¬1)، وظاهره (أ) سواء كان على راحلته رحل أو لا، وأنه لا يسجد على ظهرها ولو كان الرحل حائلًا، ويكون إيماؤه لسجوده أخفض من إيمائه لركوعه فصلًا بينهما ما أمكن، وظاهره سواء كان السفر قصيرا أم طويلا، إلا أن في رواية رزين لحديث جابر زيادة: "في سَفَرِ القَصْرِ". وقدْ ذهب إلى هذا مالك (¬2)، وهو محكيٌّ عن الشافعي، وذهب إليه الإِمام يحيى قال: وفي الحاضر وجهان المختار أنه لا يجوز، و (ب) قال أبو سعيد الإصطخري (¬3) من أضحاب الشافعي أنه يجوز في البلد، وهو مرويّ عن أنس بن مالك -من فِعْلِهِ- وأبى يوسف (¬4). [وحَدَّ بعضُ الشافعية السفر القصير بالميل، وبعضه بأَنْ يخرج إلى مكان لا يلزمه فيه الجمعة لعدم سماع النداء] (جـ). ¬

_ (أ) في جـ: وظاهر هذا. (ب) الواو ساقطة من جـ. (جـ) بهامش الأصل.

فظاهر الحديث اشتراط الركوب، فلا يعفى عن الماشي الاستقبال (¬1)، وذهب الشافعي إلى جواز مثل صلاة الراكب للماشي، واختاره الإِمام المهدي والإِمام شرف الدين، ووجهه القياس على الراكب بجامع التيسير (أ) للمتطوع وفي قوله "حيث توجهت به"، وقوله "حيث كان وجه ركابه": دلالة على أنه لا يعفى له عدم الاستقبال إلا إذا لم يعدل عن مقصده كأنه جعل مقصده بدلا عن توجه القبلة، فلو توجه إلى غير المقصد فقال أصحاب الشافعي: إن كان ذلك إلى القبلة جاز، وإلا فلا. ومن جَوَّز مثل ذلك للماشي فقيل إن حكمه حكم الراكب وقيل: بل (ب) يلزمه الاستقبال في ركوعه وسجوده وإتمامهما، ولا يمشي إلا في قيامه وتشهده، وفي جواز المشي عند الاعتدال من الركوع وجهان لا في الجلوس بين السجدتَيْن إذ لا يمكن المشي إلا بالقيام وهو غير جائز بينهما، وظاهره أنه يتم الصلاة ولو دخل إلى بلده، لأن دخوله صحيح، ولعله يعفى له من الأفعال ما يحتاج إليه في حال سيره وسوق دابته، والله أعلم. [ولا يختص ذلك بالراحلة لأنه قد صح عنه كما في رواية مسلم أنه صلى على حماره] (جـ) (¬2)، وفيما ذكره (د) من الأحاديث تقييد الصلاة بالنافلة، وقد ورد في ¬

_ (أ) في النسخ التيسر والمثبت من هو. (ب) ساقطة من جـ. (جـ) بهامش الأصل. (د) في جـ: ذكره.

رواية الترمذي والنسائي أنه عليه الصلاة والسلام انتهى إلى مضيق هو وأصحابه وهو على راحلته والسماء من فوقهم والبلة من أسفل منهم، فحضرت الصلاةُ فأمر المؤذن فأذّن وأقام ثم تقدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على راحلته فصلى بهم يومئ إيماء فجعل السجود أخفض من الركوع (¬1). قال الترمذي: حديث غريب تفرد به عمر بن الرماح (أ)، وثبت ذلك عن أنس مِن فِعْله، وصححه عبد الحق، وحسنه النووي، وضعفه البيهقي (¬2). وقد ذهب بعضُهم إلى أن الفريضة تصح على الراحلة إذا كان مستقبل القبلة (ب) في هودج (¬3). (جـ) ولو كانت سائرة كالسفينة (د) فإنها تصح الصلاة فيها بالإِجماع (¬4). وأما إذا كان مستقبل القبلة وهو في هودج (جـ) والراحلة واقفة فالصحيح في مذهب الشافعي (¬5) صحة الصلاة، ولعل الحديث يحمل علي لحوق الضرر من استقرارهم للإجماع على أن الفريضة لا تصح من دون استقلال واستكمال، ويعارض هذا ما ثبت أنه - صلى الله عليه وسلم - "أَوْتَرَ على الراحلة" (¬6) والوتر واجب عليه. ¬

_ (أ) في الأصل وهـ: الرباح، وفي جـ: الذباح، وفي حاشية الأصل: لم نقف في التقريب على عمر بن الرباح فبحثنا عليه في الترمذي فإذا هو عمر بن الرماح وهو في التقريب كذلك، فما ضبطه الشارح سبق قلم. (ب) زاد في جـ: وهو. (جـ، جـ) بهامش جـ. (د) ساقط من جـ.

والجواب: بأن الذي لا يصح إنما هو الواجب على جميع المكلفين فيه ما فيه والله أعلم. وعند الشافعية (¬1) صحة صلاة الفريضة أيضًا على الأرجوحة المشدودة بالحبال، وما كان محمولا على الرحال من السرير إذا كانوا واقفين، فإن ساروا بالسرير فوجهان. وقوله: "يسبح" في الحديث المراد به: يصلي النافلة، والسُّبْحة بضم السين وإسكان الباء النافلة [أطلق عليها مجازا من إطلاق اللازم على الملزوم، لأن التسبيح حقيقة قول الرجل: سبحان الله، ومعناه التنزيه لله، والصلاة المخلصة لازمها التنزيه أو (أ) العلاقة الجزئية والكلية فإن "سبحان الله" جزء من (ب) الصلاة، لأن الصلاة الشرعية ذات أذكار وأركان و "سبحان الله" من أذكارها] (جـ). 161 - عن أبي سعيد - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحَمَّام" رواه الترمذي، وله علة (¬2). الحديث فيه اختلاف في وصله وإرساله فرواه حماد موصولا عن عمرو بن يحيى ¬

_ (أ) في جـ: و. (ب) في هـ: في. (جـ) بهامش الأصل. وفي بعض المحو، واستدركته من نسخة هـ.

عن أبيه عن أبي سعيد، ورواه الثوري مرسلًا عن عمرو بن يحيى عن أبيه عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ورواية الثوري أصح وأثبت، وقال الدارقطني: المرسل المحفوظ، وقال الشافعي: وجدته عن ابن عيينة موصولا ومرسلا، ورجّح البيهقي المرسل (¬1)، وقال النووي في "الخلاصة": هو ضعيف، وقال صاحب "الإِمام": حاصل ما عُلل به الإِرسال، ولم يصب ابن دحية (¬2) حيث قال: هذا لا يصح من طريق من الطرق، وأخرجه أيضًا أحمد وأبو داود وابن ماجه وابن خزيمة وابن حبان والحاكم. والحديث فيه دلالة على أن الأرض كلها تصح فيها الصلاة ما عدا المقبرة والحمام، فأما المقبرة -[وهي مثلثة الباء وكمكنسة على مفعلة بكسر اليم] (1)، وهو المحل الذي يدفن فيه الموتى- فهو لا يصح فيه الصلاة (¬3)، وظاهره سواء كان على القبر أو بين ¬

_ (أ) بهامش الأصل.

القبر (أ) والقبر (ب)، سواء كان قبر مؤمن أو كافر، فالمؤمن تكرمة له والكافر بعدا من خبثه، وقد ذهب إلى هذا المنصور بالله وداود وصاحب "اللمع" وغيرهم للحديث، وذهب أبو طالب وأبو العباس والشافعي إلى أنها تصح إن لم يعلم انتباشها، فإن علم انتباشها لم تصح الصلاةُ فيها لاختلاطها بما تفتت من عظام الموتى ولحومهم، قالوا: لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "أينما أدركتك الصلاة فَصَلِّ" (¬1)، والجواب: الحديث عام مخصوص. وأما الحَمَّام فذهب أحمد بن حنبل إلى العمل بظاهر الحديث فلا تصح عنده الصلاة فيه وعلى سطحه أيضًا (¬2)، وذهب الجمهور إلى صحتها مع طهارته ولكن مع كراهة، قالوا: لقوله: "أينما أدركتك الصلاة فَصَلِّ"، وحديث النهي محمول على أنه نجس والنجاسة هي علة النهي، وقيل: بل علة النهي أنها مجتمع الشياطين فتكره الصلاة فيه (جـ) والظاهر مع أحمد، والله أعلم. 162 - عن ابن عمر - رضي الله عنهما - "نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يصلى في سبع مواطن: المزبلة، والمجزرة، والمقبرة، وقارعة الطريق، والحمام، ومعاطن الإِبل، وفوق ظهر بيت الله تعالى" رواه لم الترمذي وضعفه (¬3). ¬

_ (أ) في جـ: القبور. (ب) زاد في هـ: و. (جـ) في جـ: فيها.

ضعفه الترمذي براوٍ (¬1) في سنده، وأخرجه ابن ماجه، وفي طريقه عبد الله بن عمر (¬2) العمري وهو ضعيف أيضًا، وصححه ابن السكن وإمام الحرمين، وقد روي في هذ الحديث: "بطن الوادي" بدل "المقبرة" وهي زيادة باطلة لا تعرف (¬3). والحديث فيه دلالة على عدم صحة الصلاة في هذه السبع المذكورة فالمزبلة والمجزرة لما فيهما من النجاسة، إذ المزبلة هي موضع إلقاء الزبل وهي لا تخلو من النجاسة، والمجزرة هي المحل الذي ينحر (أ) فيها الجزور وتذبح فيها البقر والغنم وهي كذلك فالنهي تعلق بهما بناء على الأغلب، والمزبلة من زَبَل بفتح الباء أي أصلح الأرض بالزبل (¬4)، والمجزرة من جَزَر وهما مكانان على مَفْعَلة بفتح العين شاذَّان من حيث لحاق (ب) التاء بهما. والمقبرة والحمام تقدم الكلام عليهما. وقارعة الطريق وهي حافة الطريق (¬5) ووسطه، واختلف في العلة المانعة من الصلاة فيهما، فقيل: للنجاسة فتصح إن لم تكن فيها (ب) نجاسة، وقيل: لحق الغير (¬6) فلا تصح الصلاة فيها سواء كانت واسعة أو ضيقة لعموم النهي، وقد ¬

_ (أ) في جـ: يذبح. (ب) في هـ: إلحاق. (جـ) ساقطة من جـ.

ذهب إلى هذا أبو طالب، وقيل: إن ذلك مقيَّد بما إذا كانت تضر الغير، لا في الواسعة التي لا تضر وقد ذهب إلى هذا المؤيد بالله والمنصور بالله. ومعاطن الإِبل: هي مباركها حول الماء، وقد صرح بالعِلَّة في رواية البراء بقوله: "فإنها من الشياطين" أخرجه أبو داود (¬1). [وقد ورد في رواية: "مبارك الإِبل"، وفي رواية "أعطان الإِبل" (¬2)، وفي رواية "مناخ الإِبل" (¬3)، وفي رواية "مرابد الإِبل" (¬4) وهي أعمّ من "معاطن" لشمولها، ووقع في مسند أحمد من حديث عبد الله بن عمر (¬5) "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي في مرابد الغنم ولا يصلي في مرابد الإِبل والبقر" وسنده ضعيف (¬6)، ولو ثبت لأفاد أن (أ) حكم البقر حكم الإِبل] (ب)، ولعل الحِكْمَة في ذلك لتعريض الصلاة للفساد لما يحصل عند تفرقها، والله أعلم. وظَهْر بيت الله الحرام مُتأول بما إذا [كان على] (جـ) طرف بأن يخرج حرمته عن هوائها، فإن لم يطرف صحت عند المؤيد (د) بالله (¬7) وأبي طالب سواء كان ¬

_ (أ) ساقط من جـ. (ب) بهامش الأصل. (جـ) بهامش الأصل وساقط من جـ. (د) ساقط من هـ.

مستقبلا جزءًا منتصبا أم لا، وذهب الشافعي (¬1) إلى أنها تصح بشرط أن يستقبل من بنائها قدر ثلثي ذراع ليكون مستقبلا شطر المسجد الحرام، وعند أبي حنيفة (¬2) لا يشترط ذلك كقول المؤيد. واعلم أن التقييد في هذه المذكورات بما ذكر دل عليه الجمع بين هذا وحديث: "أينما أدركتك الصلاة فَصَلِّ"، [وبعض الأئمة جعله قرينة لحمل الكراهة على التنزيه] (أ) وهو محل نظر لا سيما على القول بالعمل بالخاص مطلقا فتنبه، والله أعلم. 163 - عن أبي مَرْثَد الغَنَوِيّ - رضي الله عنه - قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا تصلوا إلى القبور، ولا تجلسوا عليها" رواه مسلم (¬3). هو مَرْثَد -بفتح الميم وسكون الراء وفتح الثاء المثلثة- ابن أبي مرثد الغَنَوِيّ -بفتح الغين المعجمة وفتح النون-، واسم أبي مرثد: كَنّاز -بفتح الكاف وتشديد النون والزاي- ابن حصن، وقيل: ابن حصين، شهد بدرا هو وأبوه، وكانا حليفَيْن لحمزة بن عبد المطلب، وشهدا أحدا، وآخى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بينه وبين أوس بن الصامت، وقتل يوم غزوة الرجيع شهيدا في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، (¬4). ¬

_ (أ) بهامش الأصل. وفيه بعض المسح واستدركته من نسخة هـ.

الحديث فيه دلالة على منع استقبال القبر بالصلاة وقد تقدم الكلام في الصلاة في المقبرة ومنع الجلوس عليها، وفي ذلك أحاديت منها حديث جابر في منع وطء القبر (¬1)، وحديث أبي هريرة: "لأن يجلس أحدكم على جمرة فتحرق ثيابه فتخلص إلى جلده خير له من أن يجلس على قبر" أخرجه مسلم (¬2)، عن مالك (¬3) أنه لا يكره القعود عليها، ونحوه: قال: وإنما النهي عن القعود لقضاء الحاجة، وفي الموطأ عن علي "إنه كان يتوسد القبور ويضطجع عليها" (¬4)، وفي البخاري أن ابن عمر كان يجلس على القبور (¬5)، وفيه عن يزيد بن ثابت أخي زيد بن ثابت نحوه (¬6). قال: وإنما كره ذلك لمن أحدث عليها. 164 - عن أبي سعيد - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا جاء أحدكم المسجد فلينظر فإِنْ رأى في نعليه أذى (أأو قذرا أ) فليمسحه وليصل فيهما" (¬7) أخرجه أَبو داود، وصححه ابن خزيمة. وأخرج الحديث أحمد والحاكم وابن حبان، ولفظ الحديث قال: "بينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي بأصحابه في نعليه إذ خلعهما فوضعهما عن يساره فلما رأى ذلك ¬

_ (أ، أ) بهامش هـ.

أصحابه ألقوا نعالهم فلما قضى صلاته قال: ما حملكم على خلع نعالكم؟ قالوا: رأيناك خلعت (أ) فخلعنا، فقال: إن جبريل أتاني فأخبرني أن فيهما قذرا (ب فإذا جاء أحدكم" الحديث ب). واختلف في وصله وإرساله، ورجح أَبو حاتم في "العلل" الموصول (¬1)، ورواه الحاكم أيضًا من حديث أنس (¬2) وابن مسعود (¬3)، ورواه الدارقطني من حديث ابن عباس (¬4) وعبد الله بن الشخير (¬5) وإسنادهما ضعيفان، ورواه البزار من حديث أبي هريرة (¬6)، وإسناده ضعيف معلول أيضًا. (جـ) في الحديث دلالة على أنَّ مَسْحَ النعال من النجاسة مطهر له إذ القذر والأذى الظاهر منهما هو النجاسة سواء كانت النجاسة رطبة أو جافة. وعلى أن المصلي إذا دخل في الصلاة وهو متلبس بنجاسة ناسيا ثم ذكر في أثناء الصلاة وجب عليه الإِزالة والبناء على صلاته، وقد قال بالطرف الأول أبو حنيفة وأبو يوسف (¬7) وهو قول قديم للشافعي، ولحديث أبي هريرة الآتي، وروى ¬

_ (أ) في جـ وهـ: خلعها. (ب- ب) بهامش هـ وساقطة من جـ. (جـ) زاد في جـ: و.

ذلك الأميرُ الحسين في "الشفا" عن القاسم (1) والباقر، وذهب الأكثر من العلماء إلى أنَّ ذلك لا يكفي في النجاسة الرطبة وإن زالت العين به قياسا على الثوب المتنجس، وذهب محمد وأكثر العترة (2) والأخير من قولي الشافعي (¬3) إلى أن ذلك لا يكفي في الجافة والرطبة قياسا على سائر المتننجسات والحديث متأول [بأن المراد] (أ) بالقذر ما لا نجاسة فيه كالمخاط والبصاق ولكن رواية "أذى أو قذرا" كما في الحديث هنا وفي رواية: "خبثا" وهي أصرح بدفع ذلك التأويل. ويجابُ عن القياس بالتخصيص بالحديث، والحديث (ح) وإن لم يُتَّفق على تصحيحه فهو لا يقصر عن صحة العمل به ولا سيما مع ما يعضده من الشواهد، والله أعلم. وأما الطرف الثاني (¬4) فقد قال به أبو العباس لكن بشرط أن لا يفعل ركنا من أركان الصلاة وهو متلبس بالنجاسة وكذا في كشف العورة عنده قياسا على النجاسة، وقال به أيضًا أَبو حنيفة والمنصور بالله. وفي الحديث فوائد منها: أنَّ الاتساء بالنبي - صلى الله عليه وسلم - في أفعاله واجب كما في أقواله. ¬

_ (أ) بهامش الأصل. (ب) بهامش هـ.

وفيه من الأدب أن المصلي إذا صلى وحده فخلع (أ) نعليه (ب) وضعهما عن يساره فإذا كان معه غيره في الصف وكان عن يمينه وعن يساره ناس فإنه يضعهما بين رجليه. وفيه أن الفعل اليسير لا يقطع الصلاة. 165 - عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا وطيء أحدكم الأذى بخُفَّيْه فطهورهما التراب" أخرجه أبو داود، وصححه ابن حبان. وأخرجه ابن السكن والحاكم والبيهقي من حديث أبي هريرة (¬1)، وهو معلول اختلف فيه على (جـ) الأوزاعي [فقال في رواية العباس بن الوليد عنه: أنبئت أن سعيد بن أبي سعيد المقبري حدث عن أبيه عن أبي هريرة، وفي محمد بن كثير عنه قال: عن ابن عجلان عن سعيد المقبري عن أبيه عن أبي هريرة، كذا في "سنن البيهقي" ولفظه "بنعليه" عوض عن (د) "خفيه"، ولفظه "خفيه" (هـ) في "سنن أبي داود"، (و)، وسنده ضعيف. ¬

_ (أ) في جـ: خلع. (ب) زاد في جـ: و. (جـ) ساقطة من جـ وهـ. (د) ساقطة من جـ. (هـ) في جـ: خفيفة. (و) بهامش الأصل وهـ.

ورُوى عنه - صلى الله عليه وسلم - من طريق عائشة أيضًا أخرجه أَبو داود (¬1)، وساقه ابن عدي في "الكامل" في ترجمة عبد الله بن سمعان (¬2)، وفي ابن ماجه من وجهٍ آخر عن أبي هريرة مرفوعًا: "الطُّرُق يطهر بعضها بعضا" (¬3) وإسناده ضعيف (¬4). وفي الباب حديث أم سلمة: "يطهره ما بعده" رواه الأربعة (¬5)، وفي الباب أيضًا عن أنس رواه البيهقي في "الخلافيات" وسنده ضعيف (¬6). وأخرج البيهقي عن امرأة من بني عبد الأشهل قالتُ: قلتُ: يا رسول الله: إنَّ بيني وبين المسجد طريقا منتنة فكيف نفعل إذا مطرنا؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أليس بعدها طريق هي أطيب منها؟ قلت: بلى. فقال: هذه بهذه. وأخرج عن ابن العلاء عن أبيه عن جده قال: أقبلتُ مع علي ابن أبي طالب - رضي الله عنه - إلى الجمعة وهو ماش فحال بينه وبين المسجد حوض ماء وطين فخلع نعله وسراويله، قال: قلتُ: هات يا أمير المؤمنين أحمله عنك. قال: لا يحاص. فلما جاوز لبس نعله وسراويله ثم صلى بالناس ولم يغسل رجليه. الكلام في فِقْهِ الحديث تقدَّم في الذي قبله. ¬

_ (¬1) أَبو داود 1/ 268 ح 387. (¬2) الكامل 4/ 1445 - 1446 في ترجمة عبد الله بن زياد بن سليمان بن سمعان، وقال ابن عدي: والضعف على حديثه ورواياته بَيِّن. (¬3) ابن ماجه 1/ 177 ح 532 بلفظ: "الأرض .. ". (¬4) لأن في إسناده إبراهيم بن إسماعيل اليشكري مجهول الحال. التقريب 19، الميزان 1/ 20. (¬5) أبو داود 1/ 266 ح 383، الترمذي 1/ 266 ح 143، ابن ماجه 1/ 177 ح 531. قلتُ: وهذا الحديث ضعيف لجهالة أم ولد عبد الرحمن بن عَوف وهي الرواية عن أم سلمة رضي الله عنها. (¬6) مختصر الخلافيات 1/ 11 - 12، وفيه الحارث بن نبهان الجرمي أبو محمد البصري متروك. التقريب 61، الخلاصة 69.

166 - عن معاوية بن الحكم - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنَّ هذه الصلاة لا يصلح فيها شيءٌ من كلام الناس، إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن" رواه مسلم (¬1). هو معاوية بن الحكم السلمي (¬2) كان ينزل المدينة وسكن في بني سليم، وعداده في أهل الحجاز. روى عنه ابنه كثير وعطاء بن يسار وأبو سلمة ابن عبد الرحمن، وقد روى عنه مالك في "موطئه" هذا الحديث (¬3) وسماه عمر بن الحكم وهو وهَمْ (¬4)، وليس في الصحابة مَن يقال له عمر بن الحكم، وإنما عمر بن الحكم من التابعين، مات سنة سبع عشرة ومائة. وأخرج الحديث أبو داود (أوالنسائي وابن حبان والبيهقي. في الحديث دلالة على أن الذي يصلح في الصلاة أ) إنما هو التسبيح إلى آخره، وكذلك نحوه مِثل سائر أذكار الصلاة المشتهر كونها من الأركان (ب)، ومعناه لا يصلح فيها شيءٌ من كلام الناس ومخاطباتهم بقرينة ما نهى عنه في القِصَّة، وهو تشميته للعاطس، فيتضمن الحديث أن الكلام أي التكليم للغير عمدًا مفسد للصلاة سواء كان لحاجة ¬

_ (أ، أ) ساقط من هـ. (ب) في هـ: الأذكار.

أو غيرها، وسواء كان لمصلحة الصلاة أو غيرها، فإذا احتاج إلى تنبيه الغير كداخلٍ (أ) أو نحوه فسيأتي في حديث أبي هريرة (¬1) بيان (ب) ما يفعل، وقد ذهب إلى هذا جمهور العلماء (جـ) من الخلف والسلف، وقول مالك وأبي حنيفة وأحمد والشافعي، والظاهر أنه إجماع (¬2). ويدل الحديث على أن كلام الجاهل لتحريمه لا يفسد صلاته إذ لم يأمره النبي - صلى الله عليه وسلم - بالإِعادة، ومثله الناسي إذا تكلم بكلامٍ قليلٍ (¬3) عند مالك وأحمد والشافعي والجمهور، فإِنْ كَثُرَ كلام الناسي فوجهان لأصحاب الشافعي أصحهما تبطل صلاتُه، قالوا: للحديث في حق الجاهل، ولقوله: "رُفع عن أمتي" (د) ... الحديث (¬4)، ولخبر ذي اليدَيْن الآتي. وقال أبو حنيفة والكوفيون والهادوية (¬5): بل يُفسد كلام الناسي، قالوا: لهذا الحديث وغيره، وعدم حكاية الأمر بإعادة الصلاة لا يستلزم القول بصحتها، غاية الأمر أنه لم ينقل فيرجع إلى غيره من الأدلة كأمره المسئ بالإِعادة لاختلال أركانها، وحديث ذي اليَدَيْن منسوخ فإنه قد قيل إنه وقع قبل النهي. ¬

_ (أ) في جـ: لداخل. (ب) في جـ: بيانه. (جـ) زاد في هـ: و. (د) زاد في جـ: الخطأ والنسيان.

ويُجاب عنه بأن تحريم الكلام متقدم (أ) على القصة مع أن راويه (ب) أبو هريرة وهو متأخر الإِسلام. والله أعلم. (جـ وفي الحديث دلالة على أنَّ تكبيرة الإِحرام من الصلاة (د) ركن من أركانها.)، وهو مذهب الهادي والشافعي والجمهور (¬1) خلافا للمؤيد بالله وأبي حنيفة فهي عندهما ليست منها بل هي شرط خارج عنها متقدم. 167 - وعن زيد بن أرقم - رضي الله عنه - قال: "إنْ كُنَّا لنتكلم في الصلاة على عهد رسول الله، - صلى الله عليه وسلم -، يكلم أحدنا صاحبه بحاجته حتى نزلت: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ}. فأُمِرْنا بالسكوت ونُهينا عن الكلام". متفق عليه، واللفظ لمسلم (¬2). في الحديث دلالة أنه كان التكليم في الصلاة مباحا في صدر الإِسلام ثم نُسِخَ، ونزول الآية دليل على أن معنى قوله تعالى: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} (¬3) أي ذاكرين الله سبحانه، أو ساكتين عن الخطاب، ولفظ القنوت محتمِل، وله معان إحدى عشرة جمعها زين الدين العراقي في قوله (¬4): ¬

_ (أ) في جـ: يتقدم. (ب) في هـ: مع رواية. وفي جـ: مع أن رواية. (جـ - جـ) بهامش هـ. (د) زاد في هـ: و.

ولفظ القنوت أعدد معانيه تجد ... مزيدا على عشر معاني مرضية وعاء خشوع والعبادة طاعة ... إقامتها إقرارنا بالعبودية سكوت صلاة والقيام وطوله ... كذاك دوام الطاعة الرائح أهنيه (¬1) وهو مُجْمَعٌ على تحريم ذلك في الصلاة وأنه مفسد إذا كان عامدا عالما لغير حاجة الصلاة، وقد عرفتَ تفصيل القيود فيما حكى. 168 - عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "التسبيح للرجال والتصفيق للنساء" متفقٌ عليه، زاد مسلم: "في الصلاة" (¬2). اتفقا عليه مختصرًا من حديث أبي هريرة بلفظ: "إنما التسبيح ... " (¬3) الحديث، وأخرجا من حديث سهل بن سعد نحوه في (أ) حديثٍ طويل (¬4)، وفي رواية: "إذا نابكم أمرٌ فلتسبح الرجال ولتصفح النساء" (¬5) والتصفيح هو التصفيق. وفي الحديث دلالة على أنه مشروع لمن نابه في الصلاة أمر كتنبيه الإِمام أو مار أو من يريد منه أمرًا وهو لا يدري أنه يصلي فينبه على أنه يصلي إِنْ كان رجلا أو يقول: "سبحان الله"، وقد ورد في لفظٍ للبخاري هذا اللفظ (¬6) وأُطلق في ¬

_ (أ) في هـ: من.

سائر الألفاظ، وإن كان (أ) امرأة فالتصفيق (¬1)، قال أبو داود: قال عيسى بن أيوب: "التصفيح للنساء أن تضرب بإصبعين من يمينها على كفها اليُسْرَى" (¬2)، وقد ذهب إلى هذا الشافعي وأبو يوسف (¬3) مطلقا [وأحمد وإسحاق والأوزاعي وأبو ثور، وجمهور العلماء من السلف والخلف] (ب) والمؤيد بالله والإِمام يحيى ورواية عن أبي حنيفة في حق المؤتم (¬4)، وذهب أبو حنيفة (¬5) ومحمد أن ذلك مفسد (جـ) سواء كان فَتْحًا أو جوابا لا إذا قصد به الإِعلام بأنه في الصلاة، فلا تبطل يدل على ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -: "يا عليّ لا تفتح على الإِمام في الصلاة" أخرجه أبو داود (¬6). وقال أبو داود: وأبو إسحاق لم يسمع من الحارث إلا أربعة أحاديث ليس هذا منها (¬7)، وحديث أبي هريرة (¬8) ونحوه لعله قبل نسخ الكلام ومع جهل التاريخ فدليل تحريم الكلام أرجح للحظر، والجواب بأَنَّ هذا لا يستقيم على القول بناء العام على الخاص (د) مطلقا ولا على قول مَنْ يحكم بتخصيص العام سواء تقدم الخاص أو تأخر، وحَمَلَ أبو حنيفة ومحمد (¬9) حديث أَبي هريرة بما إذا كان ¬

_ (أ) في هـ: كانت. (ب) بهامش الأصل. (جـ) في هـ: يفسد. (د) في الأصل تقديم، وقد أشار إلى التصحيح.

القصد به الإِعلام بأنه في الصلاة وهما محتاجان لدليل على ذلك، وحَمَلَا حديث سهل في قوله: "مَنْ نابه شيءٌ في صلاته" على نائب مخصوص وهو إرادة الإعلام بأنه في الصلاة، والأصل عدم هذا التخصيص لأنه عام لكونه يكره في سياق الشرط، فيتناول النائم الذي يحتاج معه إلى الجواب، والذي يحتاج إلى الإِعلام فحمله على أحدهما من غير دليل لا يمكن المصير إليه، كيف والواقعة التي هي سبب الحديث لم يكن القصد فيها الاعلام بأنه في الصلاة، وإنما كان القصد تنبيه الصِّديق رضي الله عنه بحضور النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد اتفقوا على أن السبب لا يجوز إخراجه، وعن أحمد (¬1) رواية مثل قول أبي حنيفة. وكون المشروع للرجال التسبيح وللنساء التصفيق هل هو على سبيل الإِيجاب أو (أ) الاستحباب أو الإِباحة؟ قال شارح "التقريب" (¬2): الذي ذكره أصحابنا ومنهم الرافعي والنووي أنه سنة، وحكاه عن الأصحاب ثم قال بعد كلام: والحق انقسام التنبيه في الصلاة إلى ما هو واجب ومندوب ومباح بحسب ما يقتضيه الحال. 169 - عن مُطَرِّف بن عبد الله بن الشِّخِّيْر عن أبيه - رضي الله عنهما - قال: "رأيتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي، وفي صدره أزيز كأزيز المِرْجَل من البكاء". أخرجه الخمسة إلا ابن ماجه، وصححه ابن حبان (¬3). ¬

_ (أ) في جـ: و.

هو أبو عبد الله مُطَرِّف -بضم الميم وفتح الطاء المهملة وتشديد الراء المكسورة وبالفاء- ابن عبد الله بن الشِّخِّيْر -بكسر الشين المعجمة وكسر الخاء المعجمة المشددة- العامري البصريّ. روى عن أبي ذر وعثمان بن أبي العاص، روى عنه أخوه يزيد وعلي بن زيد وقتادة مات بعد سنة سبع وثمانين (¬1). الحديث صححه أيضًا ابن خُزيمة والحاكم، ووهم مَنْ زعم أن مسلما أخرجه (¬2)، ومثله الرواية عن عمر: "أنه قرأ في صلاة الصبح سورة يوسف حتى بلغ إلى قوله: {إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ} فسمع نشيجه". أخرجه البخاري (¬3) مقطوعا، ووصله سعيد بن منصور عن ابن عُيينة عن إسماعيل بن محمد بن سعد سمع عبد الله بن شداد هذا، وأخرجه ابن المنذر من طريق عُبيد بن عُمير عن عمر (¬4). والأزيز: بفتح الألف بعدها زاي ثم تحتانية ساكنة ثم زاي أيضًا هو صوت القِدْر. و (أ) المرجل: بكسر الميم وسكون المهملة (ب) وفتح الجيم القِدْر إذا غَلَت، وفي لفظٍ: "كأزيز الرحى" (¬5). والنشيج: بفتح النون وكسر المعجمة وآخره جيم قال ابن فارس (¬6): نشج ¬

_ (أ) الواو ساقطة من جـ. (ب) في هـ: الراء المهملة، وفي جـ: الراء.

الباكي ينشج نشيجا إذا غصَّ بالبكاء فِي حَلْقِهِ من غير انتحاب، وقال الهروي (¬1): النشيج صوت (أ) معه ترجيع كما يردد الصبي بكاءه في صدره، وفي "المُحكم" (ب): هو أشد البكاء. وفي الحديث دلالة على أن صدور مثل ذلك لا يضر الصلاة، وقاس الناصر والشافعي (¬2) الأنين عليه، قالا لأنه من جنس الأزيز، واستضعفه (جـ) الإِمام المهدي (¬3). 170 - وعن علي - رضي الله عنه - قال: "كان لي من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مدخلان، فكنتُ إذا أتيته وهو يصلي يتنحنح لي" (د) رواه النسائي وابن ماجه (¬4)؛ أخرجه النسائي من حديث أَبى بكرة عن عياش عن مغيرة، وبهذا اللفظ يتنحنح، وكذا ابن ماجه، وصححه ابن السكن، وأخرج النسائي من حديث جرير عن مغيرة عن الحارث العُكْلي عن عبد الله بن نجيّ عن علي بلفظ: "فسبح" (هـ) مكان "تنحنح" (¬5)، وقال البيهقي (¬6): هذا مختلفٌ في إسناده ومتنه، وقال: "ومداره على عبد الله بن نُجَيّ" (¬7). ¬

_ (أ) في جـ: ضرب. (ب) زاد في هـ: شواهد. (جـ) في جـ: واستصعبه. (د) في جـ وهـ: تنحنح. (هـ) في جـ: فتتح.

قال المصنف -رحمه الله-: واختلف عليه فقيل: عنه عن علي، وقال يحيى بن معين: لم يسمعه عبد الله بن عليّ بينه وبين علي أبوه (¬1). والحديث فيه دلالة على أَنَّ التنحنح لا يفسد الصلاة على رواية الأصل، وقد ذهب إلى هذا الناصر والشافعي (¬2) للحديث المذكور وظاهره سواء كان لإصلاح الصلاة أم لا، ورواية عن الناصر أنَّ ذلك لا يفسد إذا كان لحاجة الصلاة (¬3)، وذهب إلى هذا المنصور بالله، وذهب الهادوية وغيرهم إلى أنه يفسد الصلاة إذا كان بحرفَيْن فصاعدا إلحاقًا له بالكلام المفسد. والحديث مضطرب كما عرفتَ، واللهُ أعلم. 171: وعن ابن عمر - رضي الله عنهما -: "قلتُ لبلال: كيف رأيتَ النبي - صلى الله عليه وسلم - يرد عليهم حين يسلمون عليه وهو يصلي؟ قال: يقول هكذا: وبَسَطَ كَفَّه". أخرجه أبو داود والترمذي وصححه (¬4). وأخرجه أيضًا أحمد والنسائي وابن ماجه وابن حبان. ¬

_ (¬1) هذا الحديث ضعف للانقطاع بين علي وعبد الله بن نجَيّ ولكن هذا الانقطاع وصله الإمام أحمد فإنه قال: عبد الله بن نجي عن أبيه قال: "قال لي علي"، ولكن وإن انجبر هذا الانقطاع إلا أن نجي والد عبد الله مختلف فيه فوثقه العجلي ولينه الذهبي وقال ابن حجر: مقبول وقال ابن حبان: لا يعجبني الاحتجاج بخبره إذا انفرد. الكاشف 3/ 199، التقريب 356، تاريخ الثقات 448. ثم الاضطراب في متنه فروى "تنحنح"، وروى "سبح" كما قال ذلك البيهقي 2/ 247. (¬2) حكى الرافعي أن هذا نص الشافعي وذكر النووي أن الصحيح أنه إِنْ بَانَ حرفان بطلت صلاته وإلا فلا. المجموع 4/ 20. (¬3) البحر 1/ 292. (¬4) أبو داود الصلاة باب رد السلام في الصلاة 1/ 569 ح 927، الترمذي نحوه الصلاة باب ما جاء في الإشارة في الصلاة 2/ 204 ح 368، وقال: حديث حسن صحيح. النسائي بنحوه السهو باب رد السلام بالإِشارة في الصلاة 3/ 6، ابن ماجه (بلفظ: فسألت صهيبا وكان معه). إقامة الصلاة والسنة فيها 1/ 325 ح 1017)، أحمد 4/ 332 عن صهيب، الدارمي باب كيف يرد السلام 1/ 326 (بلفظ: فسألت صهيبا)، ابن حبان -الموارد - (بلفظ: فسألت صهيبا) باب الإشارة بالسلام في الصلاة 141 ح 532، البيهقي بالشك بين بلال أو صهيب الصلاة باب الإشارة برد السلام 2/ 259.

وأصلُ الحديث: "خرج رسولُ اللهِ، - صلى الله عليه وسلم -، إلى قُبَاء يصلي فيه، فجاءت الأنصار وسلموا عليه، فقلتُ لبلال: كيف رأيتَ رسول الله، - صلى الله عليه وسلم -، يردّ عليهم حين كانوا، يسلمون عليه وهو يصلي؟ قال: يقول هكذا وبسط كفه". ورواه أحمد وابن حبان والحاكم أيضًا من حديث ابن عمر أنه سأل صُهَيْبًا عن ذلك بدل بلال، وذكر الترمذي أن الحديثَيْن جميعا صحيحان (¬1). في الحديث دلالة على أن المصلي لا يردّ السلام نُطْقًا (أ)، وإنما يشير إلى ذلك، وفي حديث جابر أخرجه مسلم قال: "إِنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - بعثني لحاجته ثم أدركته وهو يصلي، فسلمتُ عليه فأشار إليَّ فلما -فرغ دعاني وقال: إنك سلمتَ" (¬2) ففي هذا الحديث زيادة اعتذار المصلي إلى المُسْلِّم بعد الرد بالإشارة، وحديث ابن مسعود لم يذكر فيه إشارة وإنما قال: "إنَّ في الصلاة شُغْلًا" (¬3)، وقد اختلف العلماء في رَدِّ السلام مِن المصلي، فذهب (ب) الشافعي والأكثرون (¬4) -قال القاضي عياض (¬5): وبه قال جماعة من العلماء- أنه يردّ السلام في الصلاة نطقا، منهم أبو هريرة وجابر والحسن وسعيد بن المسيب وقتادة وإسحق، وقيل: يرد في نفسه، وقال عطاء والنخعي والثوري: يرد بعد السلام من الصلاة، وقال أبو حنيفة (¬6): لا يرد بلفظٍ ولا إشارة، قال عمر بن عبد العزيز ومالك (¬7) وأصحابه: يرد إشارة ولا يرد نطقا. ¬

_ (أ) في جـ: مطلقا. (ب) في هـ: وذهب.

وفي هذا الحديث دلالة على أنه يرد إشارة ولا يرد نطقا، ولعل ذلك استحباب، ويدل عليه حديث ابن مسعود وقوله: "إنَّ في الصلاة شغلا"، وبهذا يَحْصُلُ الجمعُ بين الروايات. وأما ابتداء السلام على المصلي فمذهب الشافعي (¬1) (أ) أنه لا يسلّم عليه فإِنْ سلّم [لم] (ب) يستحق جوابا، وعن مالك روايتان (¬2) إحداهما كراهة السلام والثانية (جـ) جوازه. ويدل الحديث على أن الأفعال اليسيرة لا تُكره في الصلاة إذا احتيج إليها. 172 - وعن أَبي قتادة - رضي الله عنه - قال: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي وهو حامل أمامة بنت زَيْنَب فإذا سجد وضعها وإذا قام حملها" متفق عليه (¬3)، ولمسلم: "وهو يؤمُّ الناسَ في المسجد". في الحديث دلالة على أنَّ حَمْلَ المصلي حيوانًا آدميا أو غيره في الصلاة لا يضرها، وسواء كان ذلك لضرورة أو غيرها (د)، وسواء كان في صلاة فريضة أو غيرها، وسواء كان منفردا أو إمامًا إذ قد صرح في رواية مسلم بكونه (5) إمامًا، وإذا جاز ذلك في حال الإِمامة جاز في غيرها بالطريق الأولى إذ هي أرفع حالا. ¬

_ (أ) في جـ: فذهب للشافعي. (ب) غير موجودة في النسخ، ومثبتة من شرح صحيح مسلم وهي ولازم رأي الشافعي عليه رحمة الله. (جـ) في جـ: والثاني. (د) في جـ: أو غيره. (هـ) في جـ: كونه.

وقد ذهب إلى هذا الشافعي وغيره من الأئمة (¬1)، والخلاف في ذلك للمالكية (¬2) فقالوا: لا يجوز ذلك في الفريضة، وتأولوا الحديث بأن ذلك في النافلة، ورواية مسلم (¬3) تدفع ذلك التأويل إذ الظاهر في الائتمام به إنما هو في الفريضة، وبعض المالكية رد ذلك بأنه منسوخ (¬4)، وبعضهم أنه خاصّ بالنبي، - صلى الله عليه وسلم -، وبعضهم أن ذلك لضرورة (¬5)، والخطابي (¬6) بأن ذلك بغير فعله، وإنما كانت أُمَامَة تعلق به بغير تعمد منه لحملها، قال: لأن في حمله لها ووضعه شغلا عن الصلاة مع أنه قد خلع الخميصة التي لها أعلام لَمَّا شغلته أعلامها وتركها فكيف يفعل في الصلاة هذا الفعل؟ وهذا باطل بصريح الرواية بقوله: "فإذا سجد وضعها وإذا قام حملها"، وحَمْل الإِسناد على المجاز بعيد، وفي رواية غير مسلم "فخرج علينا حاملا أمامة وصلى" وذكر الحديث (¬7). وأما ترك الخميصة فهي (أ) إشغال للقلب بلا فائدة، وحَمْل أمامة لا يُسَلَّم أنه شغل للقلب وإن سُلِّم [فلعل في تركها شغلا أعظم لما يحصل من بكائها. وأيضًا فإن] (ب) فيه فوائد وتمهيد قواعد شرعية منها التواضع مع الصبيان والضعفة ورحمتهم وملاطفتهم والعناية بما فيه مسرتهم. ¬

_ (أ) في هـ: فهو. (ب) بهامش الأصل.

ومنها أن مثل ذلك الفِعل لا يضر الصلاة. ومنها أن (أ) الظاهر في ثياب مَنْ لا يحترز من النجاسة هي الطهارة كالأطفال والمجانين وكذا أبدانهم، والدلائل الشرعية متضافرة بذلك وهو محتمل الحكم بطهارتها بعد زوال عين النجاسة والجفاف كما أن ذلك مجمع عليه في المولود من الآدميين أنه لا يجب غسله بعد الولادة وقياسا على ذلك سائر حالات الصبيان الذين لا يعقلون التنزه من النجاسة، والمجانين لما في ذلك من الحرج والمشقة عليهم وعلينا، وقد ذهب إلى ذلك المنصور بالله أو (ب) أن ذلك محكوم بنجاسته لكنه معفوّ عنه للحرج والمشقة. وأُمَامة -بضم الهمزة- بنت زينب بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأبوها أبو العاص بن الربيع بن عبد العزى بن عبد الشمس (¬1)، وقد قيل: إنه من ربيعة والأصح الأول، تزوجها عليّ بن أبي طالب بعد خالتها فاطمة رضي الله عنهم، أمرته بذلك فاطمة، زوجها منه الزبير بن العوام، أوصاه أبوها بها. 173 - عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "اقتلوا الأسودَيْن في الصلاة الحية والعقرب" أخرجه الأربعة، وصححه ابن حبان (¬2). وأخرجه أحمد والحاكم أيضًا من حديث ضمضم بن حوس عن أبي هريرة. ¬

_ (أ) زاد في الأصل: ثياب، ولا معنى لها. (ب) في هـ: و.

وعن ابن عباس مرفوعًا نحوه (أ) رواه الحاكم (¬1) وإسناده ضعيف. وفي صحيح مسلم (¬2). له شاهد من حديث زيد بن جبير عن ابن عمر عن إحدى نسوة النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أنه كان يأمر بقتل الكلب العَقُور والفأرة والعقرب والحُدَياء والغراب والحية، وقال: في الصلاة". وعند أبي داود بإسنادٍ منقطع عن رجل من بنى عدي بن كعب أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لهم: "إذا وجد أحدكم عقربًا وهو يصلي فليقتلها بنعله اليسرى" (¬3). في الحديث دلالة على شرعية قتل الأسودَيْن إذ الأمر إِنْ لم يكن للوجوب فالأقرب فيه الندب، وحمله على الإِباحة بعيد لما في المذكورين من الضرر للمصلي أو لغيره وإذا فعل ذلك في الصلاة، فظاهر الحديث أن ذلك لا يضر الصلاة سواء حصل ذلك بفعل يسير أو كثير، وإن كان في قوله: "فلْيقتلها بنعله اليسرى" في حديث أبي داود ما يشير إلى أن يفعل ذلك بفعلٍ يسيرٍ ولعله وإن أمكن في العقرب فهو لا يمكن في الحية، وقد ذهب إلى ظاهر الحديث أبو حنيفة (¬4) وأصحابه، وقالت الهادوية (¬5): تفسد الصلاة بقتل الحية لكثرة ذلك، وتأولوا الحديث بالخروج من الصلاة قياسا على سائر الأفعال الكثيرة التي تدعو إليها الحاجة وتعرض وهو يصلي كإنقاذ غريقٍ ونحوه، فإنه يخرج لفِعلِ ذلك، وقال الناصر (¬6) ¬

_ (أ) زاد في هـ: و.

والإِمام يحيى: إِنْ كان الفعل كثيرًا أفسد وإلا فلا تفسد وذلك كالضربة (أ) والضربتَيْن وهو قول المنصور بالله والشافعي (¬1) وفي الرواية عن الناصر إِنْ كان في أول الوقت فكما ذكر، وإن كان في آخر الوقت لم يفسد ولو احتاج إلى فعلٍ كثير أو احتاج إلى استدبار القبلة، والحديث حجة لأبي حنيفة، وكذلك غير الأسودَيْن كما ذكر في حديث ابن عمر وقياسا على الأسودَيْن والله أعلم، وإطلاق الأسودين على الحية والعقرب من باب التغليب. عدة (ب) أحاديث الباب ستة وعشرون حديثًا. ¬

_ (أ) في جـ: بالضربة. (ب) في جـ: عدد.

باب سترة المصلي

باب سترة المصلي 174 - عن أبي جُهَيْم بن الحارث قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لو يعلم المارُّ بين يَدَي المصلي ماذا عليه من الإثم لكان أن يقف أربعين خيرا له من أنْ يمرَّ بين يديه". متفق عليه، واللفظ للبخاري (¬1)، ووقع في البزار (¬2) من وجه آخر "أربعين خريفا". هو أبو جُهَيْم (¬3) -بضم الجيم وفتح الهاء، وسكون الياء- عبد الله بن جهيم فيما ذكره وكيع، وقيل هو عبد الله بن الحارث بن الصمّة الأنصاري، له حديثان أحدهما هذا والآخر في السلام على مَنْ يبول (¬4)، أخرجه البخاري ومسلم ونسبه أبو داود فقال: أبو جهيم بن الحارث بن الصمة ولم يذكر اسمه (¬5)، وابن عبد البر (¬6) قال: راوي حديث السترة هو عبد الله بن جُهَيْم، وراوي حديث السلام هو عبد الله بن الحارث ويقال له أبو جهيم وابن جهيم، وابن منده قال: اسمه عبد الله بن جُهيم ويقال: عبد الله بن الحارث فجعلهما واحدًا وروى الحديث عنه، وقال مسلم في "كتاب الكنى" (¬7): قال أبو الجهيم بن الحارث بن الصمة الأنصاري، قال: وقال وكيع: اسمه عبد الله بن جهيم، والله أعلم. ¬

_ (¬1) البخاري الصلاة باب إثم المار بين يدي المصلي 1/ 584 ح 510، ولفظ (من الإثم) عند الكشميهني فقط، ومسلم الصلاة باب منع المار بين يدي المصلي 1/ 363 ح 261 - 507، أبو داود الصلاة باب ما ينهى عنه في المرور بين يدي المصلي 1/ 449 ح 701، الترمذي الصلاة باب ما جاء في كراهية المرور بين يدي المصلي 2/ 158 ح 336، النسائي القبلة التشديد في المرور بين يدي المصلي 3/ 52، وابن ماجه إقامة الصلاة والسنن فيها باب المرور بين يدي المصلي 1/ 304 ح 945. (¬2) مجمع الزوائد باب فيمن يمر بين يدي المصلي 2/ 61. وعزاه للبزار. (¬3) الاستيعاب 11/ 181، الإصابة 11/ 68. (¬4) البخاري 1/ 441 ح 337، مسلم معلقا 1/ 281 ح 114 - 369. (¬5) أبو داود 1/ 233 ح 329. (¬6) في الاستيعاب فرق بين أبي جهم عبد الله بن جهم الأنصاري، فروى حديث المرور، وأبي الجهيم مصغرا ويقال أبو الجهم بن الحارث بن الصمة الأنصاري روى حديث التيمم والسلام على من يبول الاستيعاب 11/ 179 - وما بعدها. (¬7) الكنى 1/ 195.

الحديث فيه دلالة على تحريم المرور بين يدي المصلي فإن المعنى أَنَّ المارَّ لو علم مقدار الإثم الذي يلحقه من مروره بين يدي المصلي لاختار أَنْ يَقِفَ المدة المذكورة حتى لا يلحقه ذلك الإثم. قال المصنف -رحمه الله-: ومقتضى ذلك أن يُعَدَّ في الكبائر، وهو صريح في تحريم المرور، ويُقَاسُ عليه القعود والاضطجاع ونحو ذلك بجامع شغله المصلي (¬1) بذلك (أ)، وظاهره عموم كل مُصَلٍّ سواء كان فرضا أو نفلا، إمامًا أو مأموما أو منفردا، وخصه بعض المالكية (¬2) بالإِمام والمنفرد لا المؤتم، إذ سترة إمامه سترة له والتعليل غير مناسب إذ السترة إنما تفيد رفع الحرج عن المصلي لا عن المار (ب). وقوله (¬3): "بين يدي المصلي" أي أمامه بالقرب وعَبَّر باليدَيْن لكون أكثر الشغل يقع بهما، واختلف في مقدار ذلك فقيل إذا مر بينه وبين مقدار سجوده، وقيل: بينه وبين قَدْر ثلاثة أذرع، وقيل: بينه وبين قدر رمية بحجر. وقوله: "ماذا عليه من الإثم" لم تقع هذه اللفظة إلا في رواية الكشميهني "من الإثم"، وليست هذه من رواية غيره، والحديث في "الموطأ" بدونها. ¬

_ (أ) في هـ: بالفاء. (ب) في جـ: الإمام.

قال المصنف (¬1): قال ابن عبد البر: لم يختلف على مالك في شيء منه، وكذا رواه باقي الستة وأصحاب المسانيد والمستخرجات بدونها، ولم أرها في شيءٍ من الروايات مطلقا، لكن في "مصنف ابن أبي شيبة" (¬2): "يعني من الإِثم"، فيحتمل أن تكون ذكرت في أصل البخاري حاشية فظنها الكشميهني أصلًا لأنه لم يكن من أهل العلم ولا من الحفاظ، وقد عزاها المحب الطبري في "الأحكام" (¬3) للبخاري وأطلق فعِيب عليه ذلك وعلى صاحب "العمدة" (¬4) في إيهامه أنها (أ) من الصحيحَيْن، وقال ابن الصلاح (¬5): ليس "من (ب) الإِثم" في الحديث صريحا، وقال النووي في "شرح المهذب" (¬6): وفي رواية رويناها في "الأربعين" لعبد القادر الرهاوي: "ماذا عليه من الإِثم". وقوله: "لكان أن يقف" جواب لو، وليس بمحذوف كما زعمه الكرماني (¬7)، وقال: تقديره: لوقف أربعين لكان خيرا له، "وخير" منصوب خبر كان في رواية المصنف للبخاري، وفي رواية الترمذي بالرفع على أنها اسم كان، وفيه كون الخبر معرفة والاسم نكرة، وهو قليل، ويحتمل أن يكون في كان ضمير الشأن. ¬

_ (أ) في جـ: في. (ب) في جـ: نفي.

وفي زيادة البزار (¬1) تعيين (أ) المبهم في الحديث، وفي سياق البخاري دلالة على أن الإِبهام لشك الراوي قال: قال أبو النضر: "لا أدري أربعين يوما أو شهرا أو سنة" (¬2)، وفي ابن ماجه (¬3) وابن حبان من حديث أبي هريرة: "لكان (أأن يقف مائة عام خيرًا له من الخطوة التي خطاها"، وفي هذه الرواية إشعار بِأنَّ ذِكْر أ) الأربعين لمجرد المبالغة لا لتحقيق خصوص عدد، وجنح الطحاويّ (¬4) إلى أنَّ التقييد بالمائة متأخر عن التقييد بالأربعين زيادة في تعظيم الإِثم على المار. فائدة: وقع في رواية أبي العباس السرَّاج من طريق الضحاك بن عثمان عن أبي النضر: "لو يعلم المار بين يدي المصلي والمصلَّى" فحمله بعضُهم على ما إذا قصر المصلي في دفع المار، أو بأن صلى في شارع، ويحتمل أن يكون قوله "والمصلَّى" بفتح اللام أي بين يدي المصلي من داخل سترته وهذا أظهر، والله أعلم. ¬

_ (أ، أ) بهامش هـ.

175 - وعن عائشة - رضي الله عنها - قالت: "سُئل رسول الله، - صلى الله عليه وسلم -، في غزوة تبوك عن سُترة المصلي فقال: مثل مُؤْخِرَة الرَّحْل" أخرجه مسلم (¬1). المُؤْخِرَة: بضم الميم وهمزة ساكنة وكسر الخاء ويقال: بفتح الخاء مع فتح الهمزة وتشديد الخاء (أ) ومع إسكان الهمزة وتخفيف الخاء، ويقال "آخِرَة الرحل" بهمزة ممدودة وكسر الخاء فهذه أربع لغاتْ، وهي العود الذي في آخر الرحل (¬2). وهذا الحديث تضمن بيان أنَّ أقَّل السُّتْرَة مثل مؤخرة الرحل، وهي قدر عظم الذراع وهي ثُلُثَا ذراع، ويحصل بأي شيءٍ أقامه بين يديه سواء غَلُظَ أو رَقَّ كما سيأتي في قوله: (ب) "ولو بسهم". وشرط مالك أن يكون مثل غلظ الرمح (¬3) ويكون بين المصلِّي وبين السترة قدر ممر الشاة، وقيل أكثر من ذلك، ثلاثة أذرع لحديث بلال: "أن النبي، - صلى الله عليه وسلم -، صلَّى في الكعبة وبينه وبين الجدار ثلاثة أذرع" (¬4) وجمع الداودي بأن أقله ممر الشاة وأكثره ثلاثة أذرع، وجمع بعضهم بأنَّ الأول في حال القيام والقعود والثاني في حال الركوع والسجود، وقال ابن الصلاح: قدروا ممر الشاة بثلاثة أذرع (¬5). ¬

_ (أ) ساقطة من هـ. (ب) في جـ: قولهم.

قال المصنف (¬1) -رحمه الله تعالى-: ولا يخفى ما فيه. وقال البغوي (¬2): استحب أهل العلم الدنو من السترة بحيث يكون بينه وبينها قَدْر إمكان السجود وكذلك بين الصفوف، وقد ورد الأمر بالدنوّ منها. وفيه بيان الحكمة في ذلك وهو ما رواه أبو داود وغيره من حديث سهل بن أبي حثمة مرفوعًا: "إذا صلَّى أحدُكم إلى سترة فلْيَدْنُ منها، لا يقطع الشيطانُ عليه (أ) صلاتَه" (¬3). 176 - وعن سَبْرة بن معبد الجهني - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لِيَسْتَتِرْ أحدُكم في الصلاة لَوْ بسهَم" أخرجه الحاكم (¬4). هو أبو ثُرَيَّة (¬5) -بضم الثاء المثلثة وفتح الراء وتشديد الياء تحتها نقطتان، ويقال بفتح الثاء وكسر الراء، والأول أكثر -سبرة بن معبد- ويقال (ب): ابن عوسجة- الجهني، سكن المدينة وهو والد الربيع بن سبرة، روى عنه الربيع، وعداد في المصريين، و (جـ) سَبْرة: بفتح السين وسكون الباء الموحدة. ¬

_ (أ) في جـ: عليه الشيطان. (ب) في هـ زيادة: سبرة. (جـ) الواو ساقطة من جـ.

الحديث دل على الأمر بالسترة في الصلاة، وهو محمول على الندب بقرينة ما ذكر في سائر الأحاديث أنه لا يقطع الصلاة شيْءٌ مع السترة، وقطعها مع عدم السترة. وقوله: "ولو بسهم" فيه دلالة على أنه تُجزئُ السترة سواء غلظت أو رقت (¬1). قال العلماء الحكمة في السترة كَفّ البصر عما وراءه ومنع من يجتاز بقربه (¬2)، والمستحب أن يجعل السترة عن يمينه أو (أ) شماله ولا يصمد إليها، والله أعلم. 177 - عن أبي ذَرٍّ - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله، - صلى الله عليه وسلم -: "يقطعُ صلاةَ المرءِ المسلم إذا لم يكن بين يديه مثل مُؤْخِرة الرحل: المرأة والحمار والكلب الأسود ... " الحديث، وفيه: "الكلب الأسود شيطان" أخرجه مسلم (¬3). وله عن أبي هريرة نحوه دون الكلب (¬4). ¬

_ (أ) في هـ: أو عن.

ولأبي داود والنسائي عن ابن عباس (¬1) نحوه دون آخره، وقيد المرأة بالحائض. هو جُنْدُب -بضم الجيم وسكون النون وضم الدال المهملة وفتحها أيضًا- (أابن جُنَادة -بضم الجيم وتخفيف النون أ)، ويقال: جندب بن السكن- بن كعب بن سفيان بن عبيد بن حرام، ويقال: عبيد بن الوقيعة بن حرام بن غفار الغفاري (¬2)، وفي نسبه واسمه اختلاف كثير، وهو من أعلام الصحابة وزهادهم والمهاجرين، وهو أول من حَيَّا النبي - صلى الله عليه وسلم - بتحية الإِسلام" (¬3)، وأسلم قديما بمكة يُقال: كان خامسا في الإِسلام، ثم انصرف إلى قومه فأقام فيهم إلى أن قدم المدينة على النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد الخندق، ثم سكن الربذة إلى أن مات بها سنة اثنتين وثلاثين في خلافة عثمان، وصلى عليه ابن مسعود، ويقال: إن ابن مسعود مات بعده بعشرة أيام وكان أبو ذر يتعبد قبل مبعث النبي، - صلى الله عليه وسلم -، روى عنه ابن عباس وأنس بن مالك وعُبادة بن الصامت وزيد بن وهب وأبو إدريس الخولاني وقيس بن أبي حازم وخلق سواهم. الحديت فيه دلالة على أنَّ الصلاة يقطعها هذه المذكورات إذا لم يكن ثَمَّ سُترة، والقطع ظاهر في إبطال الصلاة، وقد ذهب إلى أن هذه المذكورات تقطعها جماعةٌ، وقال عطاء (¬4): تقطعها المرأةُ والكلب الأسود دون الحمار (ب)، وقال أحمد (¬5): يقطعها الكلب الأسود، وفي قلبي من الحمار شيءٌ. وذهب الجمهور (¬6) إلى أنه لا يقطعها شيء، وتأولوا هذا الحديث بأن المراد ¬

_ (أ، أ) بهامش هـ. (ب) الواو ساقطة من جـ.

بالقطع نقص الصلاة لشغل القلب بهذه الأشياء، وليس المراد إبطالها، وبعضهم (¬1) ذهب إلى أن هذا منسوخ بحديث أبي سعيد: "لا يقطع الصلاة شيءٌ" وسيأتي، وهذا غير مرضيّ لأن النسخ لا يُصار إليه إلا حيث تعذر الجمع بين الحديثَيْن وعلم التاريخ، وهما مفقودان، إذ الجمع بالتأويل المذكور ممكن ولا تاريخ هنا، وأيضًا لا يستقيم على القول ببناء العام على الخاص إذ (أ) على القول به هذا الحديث المذكور في الكتاب خاص بأن هذه المذكورات تقطع، وحديث أبي سعيد عام والعمل بالخاص فيما يتأوله مع أنه سيأتي بيان ضعف ذلك (¬2). ووجه قول أحمد أنه ورد حديث اعتراض عائشة (¬3) في قبلة النبي، - صلى الله عليه وسلم -، وهو يصلي وإذا سجد غمزها فقبضت رجليها، وإذا قام بسطتهما، وفي الحمار حديث ابن عباس بمروره راكبا على الحمار بين يدي الصف، والنبي، - صلى الله عليه وسلم -، يصلي بهم في منى (¬4)، ولم يأمر النبي، - صلى الله عليه وسلم -، بإعادة الصلاة ولا سأل أحد من الصحابة النبي، - صلى الله عليه وسلم -، في ذلك، وإنما لم يجزم بالقول بعدم القَطْع في حق الحمار لاحتمال أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يشعر بذلك وإن سترة الإمام سترة للمأموم، وبقي الحديث في الكلب الأسود غير معارض فوجب العمل به. ولعل وجه قول عطاء بأن المرأة والكلب يقطعانها دون الحمار حديث ابن عباس في حق الحمار ولعله قول في اعتراض عائشة أن ذلك في نفل وهو يغتفر فيه من النقص ما لا يغتفر في الفرض، أو أن ذلك حكاية فعل الغمز ولم يحك أنه (ب) اجتزأ بما اعترضت فيه، ولعله أعاد ذلك. والله أعلم. ¬

_ (أ) في جـ: أو. (ب) في هـ: بأنه.

[أو أنه يغتفر اعتراض الراقد ما لا يغتفر في القاعد والماشي لقلة تشويشه دونهما، وفي رواية النسائي (¬1) عن عائشة لحديثها في اعتراضها في قبلة النبي - صلى الله عليه وسلم -: "فأكره أن أقوم فأمر بين يديه فأنسل انسلالا" فظهر أنها كرهت القيام بين يديه دون الاعتراض والله أعلم] (أ). وقد ورد أنه يقطع الصلاة الكلب والمرأة والحمار واليهودي والنصراني والمجوسي والخنزير وهو ضعيف (¬2). 178 - وعن أَبي سعيد الخُدْرِيّ - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله، - صلى الله عليه وسلم -: "إذا صلى أَحَدُكُم إلى شيءٍ يستره (ب) من الناس وأراد أحد أن يجتاز بين يديه فلْيَدْفَعْه فإنْ أَبَى فلْيُقاتِلْهُ، فإنَّما هو شيطانٌ" متفق عليه (¬3). وفي رواية: "فإنَّ معهُ القَرِين" (¬4). ¬

_ (أ) بهامش الأصل. (ب) في الأصل: ليستره، والصحيح المثبت.

الحديث يدل بحسب مفهومه أنه إذا لم يستتر المصلي بشئٍ فليس له أن يدفع المار هذا الدفع لتقصيره، وكذا إذا تباعد عن السترة، وقد نَصَّ على هذا بعض الشافعية (¬1). وقوله: "فليدفعه" وفي رواية لمسلم: "فليدفع في نحره" (¬2) قال القرطبي (¬3): أي بالإِشارة ولطيف المنع. وقوله: "فليقاتله": أي يزيد في دفعه الثاني أشد من الأول. قال: وأجمعوا على أنه لا يلزمه أن يقاتله بالسلاح لمخالفة ذلك قاعدة الصلاة من الإقبال عليها والاشتغال بها والخشوع فيها. انتهى. وأطلق جماعةٌ من الشافعية (¬4) إلى أن له أن يقاتله حقيقة، واستبعد ابن العربي (¬5) ذلك في "القبس" وقال: المراد بالمقاتلة المدافعة، وقال الباجي: المراد بالمقاتلة (¬6): اللعن والتعنيف، وتعقب بأن الكلام يفسد الصلاة بخلاف الفِعل اليسير، وأجيب بأنه إنما يفسد إذا كان مخاطِبًا وهو يأتي به هنا على جهة الدعاء، لكن فعل أبي سعيد مع الشاب الذي دفعه وهو راوي الحديث قرينة أن المقاتلة على ظاهرها بالفعل لا بالقول، وقد روى الإسماعيلي في هذا الحديث: " ... فإنْ أَبَى فليجعل يده في صدره وليدفعه" (¬7). ونقل البيهقي عن الشافعي (أأن المقاتلة مراد بها دفع أَشَدّ من الدفع الأول، قال أصحاب الشافعي (¬8): يرده أ) بأسهل الوجوه ¬

_ (أ، أ) بهامش هـ.

فإن أَبَى فبأشد ولو أدى إلى قتله ولا شيء عليه، لأن الشارع أباح له مقاتلته فلا ضمان عليه كمقاتلة الصائل. ونقل عياض (¬1) الخلاف عندهم في وجوب الدية في هذه الحالة، ونقل ابن بطال (¬2) وغيره كالقاضي عياض الاتفاق على أنه لا يجوز له المشي من مكانه ليدفعه ولا العمل الكثير في مدافعته لأن ذلك أشدّ في إبطال الصلاة من المرور، وذهب الجمهور (¬3) أنه إذا مَرَّ ولم يدفعه فلا ينبغي له أن يرده لأن فيه إعادة للمرور، وروى ابن أبي شيبة عن ابن مسعود أنّ له ذلك (¬4)، ويمكن حمله على ما إذا رده فامتنع وتمادى لا حيث يُقَصِّر المصلي في الرد، قال النووي (¬5): ولا أعلم أحدا من الفقهاء قال بوجوب هذا الدفع بل صَرَّح أصحابُنَا بأنه مندوب. قال المصنف -رحمه الله (¬6) -: قد صرح بوجوبه أهل الظاهر، وكأن النووي لم يطلع على خلافهم أو لم يعتد به. انتهى (¬7). وقوله "إنما هو شيطان": أي: فِعله فعل الشيطان من التشويش على المصلي. وفي الحديث دلالة على جواز إطلاق هذا اللفظ على من فُتِنَ في الدين كما قال تعالى: {شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ} (¬8) والظاهر أنه من باب التشبيه البليغ لأنَّ الشيطان حقيقة في المتمرد من الجن، ويحتمل أنْ يكون المعنى: فإنما الحامل له ¬

_ (¬1) شرح مسلم 2/ 141، 142. (¬2) شرح ابن بطال باب يرد المُصلِّي من مر بين يدي المُصَلّي. (¬3) المغني وعزاه إلى الثوري والشعبي وإسحاق وابن المنذر. وعزاه ابن حجر إلى الجمهور، المغني 2/ 247، الفتح 1/ 584. (¬4) عن عبد الرحمن بن الأسود عن أبيه قال: كان ابن مسعود إذا مر أحدٌ بين يديه وهو يصلي التزمه حتى يرده ويقول: إنه يقطع نصف صلاة المرء مرور المرء بين يديه، مصنف ابن أبي شيبة 1/ 282. (¬5) شرح مسلم 2/ 141. (¬6) الفتح 1/ 584. (¬7) قلت: بل صرح الإمام النووي أنه لا يعتد بقول داود في الإجماع والخلاف لإخلاله بالقياس وهو أحد شروط المجتهد. شرح مسلم 4/ 764. (¬8) الآية 112 من سورة الأنعام.

على ذلك الشيطان، ويدل على هذا ما وقع في رواية الإِسماعيلى: "فإن معه الشيطان" (¬1)، ورواية مسلم: "فإن معه القرين" (¬2). واستنبط ابن أبي حمزة من هذا أن الأمر بالمقاتلة المراد به المدافعة اللطيفة، لأن مقاتلة الشيطان إنما هي بالاستعاذة منه. واختلف في الحكمة المقتضية للأمر بالمدافعة، فقيل: إنها (أ) لدفع الإِثم عن المار، وقيل لخلل يقع في الصلاة، والأخير أرجح (¬3) إذ اشتغال المصلي بصلاته أهم من دفعه الإِثم عن غيره، وقد روى ابن أبي شيبة (¬4) عن ابن مسعود: إن المرور بين يدي المصلي يقطع نصف صلاته، وروى أبو نعيم عن عمر: "لَوْ يَعلَمُ المصلِّي ما ينقص من صلاته بالمرور بين يديه ما صلَّى إلا إلى شيءٍ سَتَره (ح) من الناس". والأثران يُؤَيِّدَان الأخير ولهما حكم الرفع، والله أعلم. 179 - وعن أَبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا صلى أحدكم فليجعل تلقاء وجهه شيئًا، فإنْ لم يجد فلينصِب عَصًا، فإن لم يكن فليخط خطا، ثم لا يضره من مَرَّ بين يَدَيْه" أخرجه أحمد وابن ماجه، وصححه ابن حبان (¬5)، ولم يُصب مَنْ زعم أنه مضطرب بل هو حسن. الزاعم بأنه مضطرب ابن الصلاح حيث أورده مثالا للمضطرب (¬6). ¬

_ (أ) في هـ: بأنها. (ب) في هـ وجـ: يستره.

قال المصنف -رحمه الله (¬1) -: وقد نوزع في ذلك كما بينته في "النكت" (¬2)، وقد ذكره الشافعي في القديم، وأخرجه أبو داود والبيهقي وصححه أحمد وابن المديني فيما نقله ابن عبد البر (¬3) في "الاستذكار"، وأشار إلى ضعفه سفيان بن عيينة (¬4) والشافعي (¬5) والبغوي (¬6) وغيرهم، وقال الشافعي (¬7) في البويطي: ولا يخط المصلي بين يديه خَطًّا إلا أن يكون في ذلك حديث ثابت، وكذا قال في "سنن حرملة"، ورواه المزني في المتوسط عن الشافعي وهو من الجديد فلا اختصاص له بالقديم. والحديث يدل على أن السترة تجزئ من أي شيءٍ، وقد ورد في الصحيحَيْن من حديث ابن عمر (¬8) "أن النبي، - صلى الله عليه وسلم -، كان يعرض راحلته فيصلي إليها" أي: ينيخها بالعَرْض من القبلة حتى تكون معترضة بينه وبين من يمر بين يَدَيْه. وفي ذلك الحديث قلت: أفرأيت إذا هبت الركاب، أي قامت والركاب جمع لا واحد له من لفظه، وإنما واحده راحلة. قال: كان يأخذ الرحل فيعد له فيصلي إلى آخرته وقد تقدم ذلك. ¬

_ (¬1) التلخيص 1/ 286. (¬2) النكت وقال: إنَّ جميع مَنْ رواه عن إسماعيل بن أمية عن هذا الرجل إنما وقع الاختلاف بينهم في اسمه أو كنيته، وهل روايته عن أبيه أو عن جده أو عن أبي هريرة بلا واسطة، وإذا تحقق الأمر فيه لم يكن فيه حقيقة الاضطراب. وحقيقة الاضطراب الخلاف الذي يؤثر قدحا واختلاف الرواة في اسم رجل لا يؤثر، ذلك لأنه إذا كان ذلك الرجل ثقة فلا ضير، وإن كان غير ثقة فضعف الحديث إنما هو من قبل ضعفه لا من قبل اختلاف الثقات في اسمه فتأمل. (النكت 2/ 772: 773 بتصرف). (¬3) التمهيد 4/ 199. (¬4) حيث قال: لم نجد شيئًا يشد به هذا الحديث ولم يجيء إلا من هذا الوجه. النكت 2/ 773. (¬5) سنن البيهقي 2/ 271 قال ابن حجر: فيه نظر فإنه احتج به فما وقفت عليه في المختصر الكبير للمزني. النكت 2/ 774. (¬6) شرح السنة 2/ 451، والنووي: المجموع 3/ 209. (¬7) سنن البيهقي 2/ 271. (¬8) البخاري 1/ 580 ح 507، مسلم 1/ 359 ح 248 - 502 م.

(أقال أصحاب الشافعي (¬1): وإذا لم يجد العصا جمع أحجارًا أو ترابا أو متاعه، فإن لم يكن شيءٌ من ذلك خطَّ خَطًّا، والخط قال أبو داود (¬2) (ب): سمعت أحمد بن حنبل سئل عن الخط غير مرة فقال: هكذا يعني عرضا مثل الهلال، قال أبو داود: وسمعت مسددا قال: قال أبو داود: الخط بالطول [أي يكون مستقيما أ) بين يديه إلى القبلة، قال النووي (¬3): المختار في كيفيته (جـ) ما قاله الشيخ أبو إسحاق أنه إلى القبلة، لقوله (د في الحديث د) تلقاء وجهه، واختار في "التهذيب" أنْ يكون من المشرق إلى المغرب كالجنازة] (هـ). وقوله: "ثم (و) لا يضره مَنْ مَرَّ بين يديه" لفعله ما شرع له من الإِعلام بأنه مصلي (ز) بخلاف ما إذا قصر في ذلك، وقد تقدم معنى الضرر وأنه يرجع إلى نقص صلاة المصلي، وهذا إذا كان منفردا، أو إماما، وأما إذا كان مؤتمًّا فسترة الإِمام سترة له، وقد بوب البخاري وأبو داود (¬4) لذلك وأورد بعده حديث ابن عباسٍ (¬5) وحماره في صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - في مِنًى. قال القاضي عياض (¬6): الاتفاق على أنَّ المأمومين يصلون إلى سترة لكن اختلفوا هل سترتهم سترة الإِمام أم سترتهم الإِمام نفسه. انتهى. ¬

_ (أ، أ) ما بينهما متأخر في هـ بعد قوله: (كالجنازة) وقد أشار في النسخة إلى ذلك. (ب) زاد في هـ: و. (جـ) في هـ: من كيفيته. (د، د) بهامش هـ. (هـ) بهامش الأصل. (و) ساقطة من جـ. (ز) في هـ: يصلي.

قال المصنف -رحمه الله (¬1) -: وفيه نظر لما رواه عبد الرزاق عن الحكم بن عمرو الغفاري الصحابي "أنه صلى بأصحابه في سفر (أ)، وبين يديه سترة، فمرت حمير بين يدي أصحابه فأعاد لهم الصلاة" (¬2)، وفي رواية (ب له أنه قال ب): "إنها لم تقطع صلاتي ولكن قطعت صلاتكم" (¬3) فهذا يعكر على ما نُقل من الاتفاق، وقد ورد (جـ في حديث مرفوع جـ) عن أنس أخرجه الطبراني في "الأوسط" (¬4) من طريق سويد بن عبد العزيز عن عاصم عن أنس مرفوعًا: "سترة الإِمام سترة لمن خلفه"، وقال: تفرد به سويد عن عاصم وسويد ضعيف عندهم، وورد أيضًا في حديث موقوف على ابن عمر أخرجه عبد الرزاق (¬5) ويظهر (د) أثر الخلاف الذي نقله القاضي عياض فيما لو مر بين يدي الإِمام أَحَدٌ فعلى قول مَنْ يقول: إن سترة الإِمام سترة من خلفه يضر صلاته وصلاتهم معا وعلى قول من يقول: إن الإِمام نفسه سترة من خلفه يضر صلاته ولا يضر صلاتهم. واعلم أن ظاهر الحديث وما كان عليه، - صلى الله عليه وسلم -، واستمرت عادته في الصلاة إلى السترة سواء كان في فضاء أو غيره فثبت أنه كان، - صلى الله عليه وسلم -: إذا صلى إلى الجدار جعل بينه وبينه قَدْر (هـ) ممر الشاة (¬6) ولم يكن يتباعد منه بل أمرنا بالقرب من السترة، وكان إذا صلى إلى عُودٍ أو عمود أو شجرة جعله على جانبه الأيمن أو ¬

_ (أ) في جـ: سفره. (ب، ب) ساقطة من هـ. (جـ، جـ) مكررة في هـ. (د) زاد في هـ: من. (هـ) في هـ: وبين الجدار قدر.

الأيسر ولم يصمد له صمدا، وكان يركز الحربة في السفر والبرية فيصلي إليها فتكون سترته، وكان يعرض راحلته فيصلي إليها، وكان يأخذ الرحل فيعدله فيصلي إلى آخرته، وأمر المصلي أن يستتر ولو بسهم أو عصا، فإِنْ لم يجد فليخط خَطًّا، وقاس بعضُ الشافعية (¬1) علي ما ذكر بسط المصلى بجامع إشعار المار، والحكمة في اعتبار ذلك هو منع المار (أمن المرور أ) بينه وبين قبلته وقد مر تفصيل ذلك، والله أعلم. 180 - وعن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله، - صلى الله عليه وسلم -: "لا يقطع الصلاة شيءٌ وادْرَأْ ما اسْتَطَعْتَ" أخرجه أبو داود وفي سنده ضعف (¬2). وأخرج نحوه أيضًا الدارقطني من حديث أنس (¬3) وأبي أمامة (¬4)، وأخرج أيضًا الطبراني من حديث جابر (¬5)، وفي إسناده ضعف، وترجم البخاري (¬6): من قال لا يقطع الصلاة شيءٌ وأورد هذه الجملة من قول الزهري، ورواها مالك في "الموطأ" (¬7) عن الزهري عن سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه من قوله، ورواها سعيد بن منصور بإسنادٍ صحيح عن علي وعثمان وغيرهما موقوفًا. الكلام تقدم على فقه الحديث والجمع بينه وبين معارضه. عدة (ب) أحاديث الباب اثنا عشر حديثًا. ¬

_ (أ، أ) ساقطة من هـ. (ب) ساقطة من هـ.

باب الحث على الخشوع في الصلاة

باب الحث على الخشوع (أ) في الصلاة قال: الخشوع تارة يكون من قبل القلب كالخشية، وتارة يكون من قِبَل البَدَن كالسكون، وقيل لا بد من اعتبارها، حكاه الفخر الرازي في تفسيره، ويدل على أنه مِنْ عَمَل القلب حديث علي - رضي الله عنه: "الخشوعُ في القلب" (¬1) أخرجه الحاكم، وأما حديث: "لو خشع قلبه لخشعت جوارحه" ففيه إشارة إلى أن الظاهر عنوان الباطن (أ). 181 - عن أبي هريرة - رضي الله عمه- قال: "نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يصلي الرجل مختصرًا" متفق عليه، واللفظ لمسلم (¬2)، ومعناه: أن يجعل يده على خاصرته. وفي البخاري عن عائشة أن ذلك فِعْل (ب) اليهود (¬3). تفسير الاختصار بما ذكره المصنف عليه المحققون والأكثرون من أهل اللغة والغريب والمحدثين (¬4)، وبه قال أصحاب الشافعي، وقال الهروي (¬5): قيل: هو ¬

_ (أ) في حاشية الأصل وفي هـ. (ب) في جـ: كان فعلة.

الذي يأخذ بيده عصا يتوكأ عليها، وقيل (¬1): أن يختصر السورة يقرأ من آخرها آية أو آيتين، وقيل: أن يحذف منهما ولا يمد قيامها وركوعها وسجودها وحدودها، والصحيح ما ذكره المصنف. والحكمة في النهي عنه قيل: لأنه فِعْل اليهود (¬2)، وقيل: فِعْل الشيطان، وقيل: لأن إبليس هبط من الجنة كذلك (¬3)، وقيل: إنه فِعل المتكبرين (¬4)، (¬5) والله أعلم. 182 - وعن أنس - رضي الله عنه - أن رسول الله، - صلى الله عليه وسلم -، قال: "إذا قُدِّم العَشَاءُ فابْدَووا به قبل أَنْ تصلُّوا المغرب". متفق عليه (¬6). الحديث ورد في هذه الرواية بالتصريح بالمغرب، وورد في غيره من الروايات بإطلاق لفظ الصلاة، قال ابن دقيق العيد (¬7): فيحمل المطلق على المقيد والحديث يفسر بعضه بعضا، وقد ورد في رواية صحيحة: "إذا وُضِعَ العَشَاءُ وأحدُكم صائمٌ ... " (¬8) فلا ينبغي أن تُحمل الأحاديث المطلقة على هذه الرواية ¬

_ (¬1) الغزالي. الفتح 3/ 89. (¬2) ويؤيده رواية عائشة عند البخاري 6/ 495 ح 3458. (¬3) روى ابن أبي شيبة 2/ 47 موقوفًا عن حُميد بن هلال أنه إنما كره التخصر في الصلاة لأن إبليس أهبط متخصرًا. (¬4) حكاه المهلب. الفتح 3/ 89. (¬5) وقيل: لأن الراجز يضع يده كذلك، وقيل: لأنّ وَضْع اليَدَيْن على الحقو استراحة أهل النار، مصنف ابن أبي شيبة 2/ 47. (¬6) البخاري كتاب الآذان باب إذا حضر الطعام وأقيمت الصلاة 2/ 159 ح 672 مسلم نحوه المساجد ومواضع الصلاة باب كراهة الصلاة بحضرة الطعام الذي يريد أكله في الحال 1/ 392 ح 64 - 557. الترمذي نحوه الصلاة باب ما جاء "إذا حضر العشاء وأقيمت الصلاة فابدؤوا" 2/ 184 ح 353، ابن ماجه نحوه في إقامة الصلاة باب إذا حضرت الصلاة ووضع العشاء 1/ 301 ح 393، النسائي نحوه الإمامة باب العذر في ترك الجماعة 2/ 86، أحمد نحوه 3/ 110. (¬7) إحكام الأحكام 2/ 65. (¬8) مجمع الزوائد وعزاه إلى الطبراني في الأوسط وقال: رجاله رجال الصحيح 2/ 47.

فإن الحكمة في ذلك هو دفع ما يحصل من تشويش الخاطر المفضِي إلى ترك الخشوع في الصلاة وقد يكون الجائع غير الصائم أشوق إلى الأكل من الصائم، والأولى حَمْل المطلق على إطلاقه، وذكر الخاص الموافق لا يقتضي تقييدا ولا تخصيصا، والجمهور حملوا الأمر على الندب، ثم اختلفوا فمنهم من قيده بمن كان محتاجا إلى الأكل وهو المشهور عند الشافعية (¬1)، وزاد الغزالي قيدا وهو إذا خشي فساد المأكول، وحمله ابن حزم والظاهرية على الوجوب (¬2)، وقالوا: تبطل الصلاة إذا قدّمها، ومنهم مَن اختار البداءة بالطعام إذا كان خفيفا، نقله ابن المنذر عن مالك (¬3)، وفصل أصحابه فقالوا: يبدأ بالصلاة إن لم تكن النفس متعلقة بالأكل أو (أ) كان لا يشغله عن صلاته، وإن كان ذلك يشغله بدأ بالطعام واستحب له الإعادة. ويلحق باشتغال النفس بالطعام اشتغالها بغير ذلك من سائر مقاصدها فيندب تقديم ذلك، وهذا إذا كان في الوقت سَعَة، فإن ضاق صلى على حاله محافظة على حُرمة الوقت، ولا يجوز التأخير، وحكى المتولي وجهًا أنه يبدأ بالأكل وإن خرج الوقت؛ لأن مقصود الصلاة الخشوع فلا (ب) يفوته، كذا ذكره النووي (¬4)، وهذا إنما يجيئ على قول من يوجب الخشوع في الصلاة، وفي قولهم أيضًا نظر لأن المفسدتين إذا تعارضتا اقتصر على أخفهما، (جـ) فخروج الوقت أشد من ترك الخشوع بدليل صلاة الخوف والغريق وغير ذلك، وإذا صلَّى لمحافظة الوقت صحت مع الكراهة، ويستحب الإعادة عند الجمهور (¬5). ¬

_ (أ) في هـ: و. (ب) في جـ: و. (جـ) في جـ وهـ: و.

واستدل بالحديث على أن الجماعة ليست بواجبة، وفيه نظر لأن بعض من أوجب الجماعة كابن حِبَّان (¬1) جعل حضور الطعام عُذْرًا، في تَرْك الجماعة، فلا دليل فيه حينئذ على إسقاط الوجوب. وظاهر قوله "فابدؤوا" في حق من لم يكن قد أكل شيئًا وأما من قد شرع في الأكل فلا يتمادى فيه. وقد استدل به بعض الشافعية على ذلك، وقد أخرج البخاري (¬2) عن ابن عمر "أنه كان إذا حضر عشاؤه وسمع الإِقامة وقراءة الإِمام لم يقم حتى يفرغ"، ورواه ابن حبان (¬3) عن نافع أن ابن عمر كان يصلي المغرب إذا غابت الشمس وكان أحيانا يلقاه وهو صائم فيقدّم له عشاءه وقد نودي للصلاة ثم تقام وهو يسمع، فلا يترك عشاءه، ولا يعجل حتى يقضي عشاءَه ثم يخرج فيصلِّي، وروى سعيد بن منصور (¬4) وابن أبي شيبة بإسناد حسن عن أبي هريرة وابن عباس: أنهما كانا يأكلان طعاما، وفي التنور شواء، فأراد المؤذن أن يقيم الصلاة فقال له ابن عباس: "لا تعجل لا نقوم، وفي أنفسنا منه شيءٌ". وفي رواية ابن أبي شيبة (¬5): "لئلا يعرض لنا في صلاتنا"، وله (¬6) عن الحسن ¬

_ = الجمهور لكن يستحب إعادتها ولا يجب، فاستحباب الإعادة ليس للجمهور. وحكاه ابن قدامة عن مالك. شرح مسلم 2/ 194، المغني 1/ 630. وقال في المجموع: والمشهور من مذهبنا ومذهب العلماء صحة صلاته مع الكراهة 4/ 34، قلتُ: فلا معنى لاستحباب الإعادة مع الإِجزاء. وقرأتُ بعد ذلك تعليقًا لسماحة شيخنا عبد العزيز بن عبد الله بن باز: الأولى عدم استحباب الإعادة؛ لأن من صلى كما أمر فليس عليه إعادة فقد قال الله تعالى {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} والله أعلم الفتح 2/ 161. (¬1) ابن حبان- الإحسان - 3/ 254. (¬2) البخاري 2/ 159 ح 673. (¬3) ابن حبان- الإحسان - 3/ 254 ح 2064، ولفظه: كان ابن عمر إذا غربت الشمس وتبين له الليل فكان أحيانا يقدم عشاءه وهو صائم والمؤذن يؤذن ثم يقيم وهو يسمع فلا يترك عشاءه ولا يعجل حتى يقضي عشاءه ثم يخرج فيصلي ويقول: قال رسول الله، - صلى الله عليه وسلم -: "لا تَعْجَلُوا عن عشائكم إذا قدّم إليكم". (¬4) الفتح 2/ 161. (¬5) ابن أبي شيبة 2/ 421. (¬6) ابن أبي شيبة 2/ 421.

ابن علي قال: "العَشَاء قبل الصلاة يذهب النفس اللوامة". وفي هذا كله إشارة إلى أن العلة في ذلك (أ) تشوق النفس إلى الطعام فيدار الحكم معها وجودا وعدمًا بالنظر إلى البداية بالطعام والتمام إلا في حق من منعه (ب) الشرع من الأكل كالصائم فلا يكره له ذلك؛ إذ الممتنع شرعا لا تشوق النفس إليه لكن يستحب له الانتقال، إذا شغله، إلى غير ذلك المكان. 183 - وعن أبي ذَرٍّ - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا قام أحدكم في الصلاة فلا يمسح الحصى فإن الرحمةَ تُواجِهه". رواه الخمسة بإسناد صحيح، وزاد أحمد: "واحدة أودع" (¬1). وفي الصحيح عن معيقيب نحوه بغير تعليل (¬2). ¬

_ (أ) ساقطة من جـ. (ب) في جـ: رخصة.

حديث معيقيب متفقٌ عليه في الرجل و (أ) يسوي التراب حيث يسجد فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إن كنت فاعلا فواحدة"، أي: إنْ كنتَ لا بد أن تسوِّيَ فسوِّ مرة واحدة. وقوله: "فلا تمسح الحصا" المراد بمَسح الحصا اللعب به وتسويته ليسجد عليه وذلك مما يشغل القلب. وقوله: "فإن الرحمة" إلخ يعني الرحمة تقبل عليه وتنزل فلا يليق اللعب بالحصى وغيره مما تغشاه الرحمة وتواجهه والله أعلم. [ومُعَيْقِيْبِ (¬1) بضم الميم وفتح العين المهملة: وسكون الياء تحتها نقطتان وكسر القاف بعدها ياء أخرى ساكنة بعدها باء موحدة، وهو معيقيب بن أبي فاطمة الدوسي مولى سعيد بن أبي العاص، وقيل حليف لآل سعيد شهد بدرا وكان أسلم قديما بمكة وهاجر إلى الحبشة الهجرة الثانية، وأقام بها حتى قدم على النبي - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة وكان على خاتم النبي - صلى الله عليه وسلم -، واستعمله أبو بكر وعمر على بيت المال. روى عنه ابنه محمد وابن ابنه إياس بن الحارث وأبو سلمة بن عبد الرحمن، مات سنة أربعين، وقيل في آخر خلافة عثمان] (ب). 184 - وعن عائشة - رضي الله عنها - قالت: سألتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، عن الالتفات في الصلاة، فقال: "هو اختلاسٌ يخْتَلِسُه الشيطان من صلاةِ العبد" رواه البخاري (¬2). ¬

_ (أ) ساقطة من جـ. (ب) بهامش الأصل.

وللترمذي وصححه (¬1): "إياكَ والالتفاتَ في الصلاة فإنه هلكةٌ، فإنْ كان لا بدَّ ففي التطوع". الحديث فيه دلالة على كراهة الالتفات، وهو إجماع (¬2)، و (أ) لكن الجمهور على أنها للتنزيه والمراد به الالتفات الذي لم يبلغ إلى استدبار القبلة بصدره أو عنقه كله، وسبب الكراهة يحتمل أَنْ يكون لنقص الخشوع كما أراده المصنف بإيراده في هذا الباب أو لترك استقبال القبلة ببعض البَدَن، أو لما فيه من الإِعراض عن التوجه إلى الله تعالى. كما أشار إلى ذلك فيما أخرجه أحمد وابن خزيمة من حديث أبي ذر، رفعه: "لا يزالُ الله مُقبلًا على العبد في صلاته ما لم يلتفت، فإذا صرف وجهه انصرف" (¬3)، وأخرجه أيضًا أبو داود والنسائي (¬4). وقوله: "اختلاس" أي اختطاف بسرعة، وفي النهاية (¬5): اختلاس افتعال من الخلسة وهو ما يؤخذ سلبا مكابرة. وقال غيره: المختلس الذي يخطف من غير غلبة ويهرب ولو مع معاينة المالك له، والناهب يأخذ بقوة، والسارق يأخذ في خفية (ب). ¬

_ (أ) الواو ساقطة من جـ. (ب) في جـ: يأخذ خفية، وهـ: يأخذ بخفية.

ونسبه إلى الشيطان مجازا عقليا، لما كان الالتفات سبب ما يوسوس به الشيطان من أخطار الأسباب المفضية إلى التفات المصلي، وأطلق على ذلك الالتفات اسم الاختلاس مبالغة في تشبيهه بالاختطاف بسرعة، وقيل: أسند إلى الشيطان لأن فيه انقطاعا عن ملاحظة التوجه إلى الحَقّ سبحانه. وقال الطيبي (¬1): سماه اختلاسا تصويرا لقُبح تلك الفعلة بالمختلس لأن المصلي يُقْبِلُ على الرب تعالى والشيطان مرتصد له ينتظر فوات ذلك عليه، فإذا التفت اغتنم الشيطان الفرصة فيسلبه تلك الحالة. وقوله: "يختلسه" بالضمير في رواية الكشميهني (¬2)، وهي رواية أبي داود (¬3) عن مسدد شيخ البخاري وفي سائر الروايات بحذف الضمير. وقوله: "فإنه هلكة" أطلق اسم الهلكة عليه مبالغة لما فيه من طاعة الشيطان والإِعراض عن التوجه إلى الرحمن. 185 - وعن أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا كان أحدكم في الصلاة فإنه يناجي ربه فلا يبصقن بين يديه ولا عن يمينه ولكن عن شماله تحت قدمه" متفق عليه (¬4). وفي رواية: "أو تحت قدمه" (¬5). قوله: "إذا كان أحدكم في الصلاة" ورد في رواية التقييد بالصلاة وفي غيرها أورده البخاري (¬6) من طريق ابن شهاب من حديث أبي هريرة، ومن ¬

_ (¬1) الفتح 1/ 235. (¬2) الفتح 1/ 235. (¬3) أبو داود 1/ 560 ح 910. (¬4) مسلم كتاب المساجد باب النهي عن البصاق في المسجد 1/ 390 ح 54 - 551 البخاري كتاب العمل في الصلاة باب ما يجوز من البصاق والنفخ في الصلاة 3/ 84 ح 1214، ابن ماجه كتاب المساجد باب كراهية النخامة في المسجد 1/ 251 ح 761. (¬5) البخاري كتاب الصلاة باب إذا بدره البزاق فليأخذ بطرف ثوبه 1/ 513 ح 417. (¬6) البخاري 1/ 510 ح 410.

طريق قتادة (¬1) من حديث أنس أيضًا (أ) مطلق من التقييد بكونه في الصلاة. ولعله بحمل المطلق على القيد والتعليل بقوله: "فإنه يناجي ربه" يدل على ذلك في حق القبلة، وأما في حق اليمين فقد علل في حديث أبي هريرة المطلق فإن على يمينه ملكًا (¬2)، وظاهره الإِطلاق، وورود المقيد المطابق للمطلق لا يدل على التقييد، وقد جزم النووي (¬3) بالمنع في كل حالة (ب) داخل الصلاة وخارجها، سواء كان في المسجد أم في غيره، ونقل عن مالك (¬4) أنه قال: لا بأس به خارج الصلاة، ويشهد للإِطلاق ما رواه عبد الرزاق (¬5) وغيره عن ابن مسعود: أنه كره أن يبصق عن يمينه وليس في الصلاة، وعن معاذ بن جبل قال: ما بصقتُ عن يميني منذ أسلمت (¬6)، وعن عمر بن عبد العزيز أنه نهى ابنه عنه مطلقا (¬7). وقوله: "فإنه يناجي ربه" وفي البخاري زيادة: "وإن ربه بينه وبين القبلة" (¬8) بواو العطف في رواية الحموي والمستملي، وبالشك في رواية الأكثر (¬9)، والمناجاة من العبد مراد بها حقيقة النجوى ومن قِبَل الرب لازم ذلك فيكون مجازا، والمراد إقباله عليه بالرحمة والرضوان. وأما قوله: "فإن ربه بينه وبين القبلة" فمعناه أن توجهه إلى القبلة مفضٍ ¬

_ (أ) ساقطة من جـ. (ب) في جـ: حال.

بالقصد منه إلى ربه، فصار في التقدير كأن مقصوده بينه وبين قبلته، وقيل: هو على حذف مضاف أي عظمة الله أو ثواب الله (¬1)، وقال ابن عبد البر: هو كلامُ خرج مخرج التعظيم لشأن القبلة. وقد أفهم الحديث أن البصاق إلى القبلة حرام سواء كان في المسجد أم غيره، وسواء كان في الصلاة أم غيرها، ويؤيده ما في صحيحَي ابن خزيمة وابن حبان من حديث حذيفة مرفوعًا: "مَنْ تَفَلَ تجاه القبلة جاء يوم القيامة وتفله بين عينَيْه" (¬2)، وفي رواية لابن خزيمة من حديث ابن عمر مرفوعًا: "يُبعث صاحب النخامة في القبلة يوم القيامة، وهي في وجهه" (¬3)، ولأبي داود وابن حبان من حديث السائب بن خلاد أن رجلا أَمَّ قوما فبصق (أ) في القبلة، فلما فرغ قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: "لا يصلي لكم ... " الحديث، وفيه أنه قال له (ب): "إنك (ح) آذيت الله ورسوله" (¬4). وقوله: "فلا يبصقن بين يديه" أي قبلته، يقال: بصق وبزق لغتان مشهورتان، والبصاق والبزاق (¬5) من الفم، وقد يقال: بساق، لغة قليلة. وعدها جماعة خطأ (¬6). والنخامة و (د) هي النخاعة من الصدر (¬7)، يقال: تنخع وتنخم. ¬

_ (أ) في جـ: بصق. (ب) ساقطة من جـ. (جـ) ساقطة من هـ. (د) ساقطة من جـ وهـ.

وقوله: "ولكن عن يساره أو تحت قدمه" وهذا إذا كان في غير المسجد، وأما إذا كان في المسجد فلا يبصق إلا في ثوبه لقوله: "البصاق في المسجد خطيئة" (¬1)، وقد أورد البخاري في بعض روايات حديث أنس: "ثم أخذ طرف ردائه فبصق فيه ثم رد بعضه على بعض، فقال: أو يفعل هكذا" (¬2). فائدة: قد تقدم تعليل النهي بالبصق عن اليمين بأن على يمينه ملكا فيقال: واليسار عليها ملك وهو الموكل بالسيئات. وأجيب باحتمال اختصاص ذلك بمَلَك اليمين تشريفا له وتكريما، هكذا قاله جماعة من القدماء، وأجاب بعض المتأخرين بأن الصلاة أم الحسنات البدنية فلا دخل لكاتب السيئات فيها، ويشهد له ما رواه ابن أبي شيبة. من حديث حذيفة موقوفًا في هذا الحديث قال: "ولا عن يمينه (أفإن عن يمينه أ) كاتب الحسنات" (¬3)، وفي الطبراني من حديث أبي أمامة في هذا الحديث: "فإنه يقوم بين يدي الله وملكه عن يمينه وقرينه عن يساره" (¬4) انتهى. فالتفل حينئذ إنما يقع على القرين وهو الشيطان، ولعل مَلَك اليسار حينئذ يكون بحيث لا يصيبه شيء من ذلك، أو أنه يتحول في الصلاة إلى اليمين. والله أعلم. 186 - وعنه - رضي الله عنه - قال: "كان قِرَامٌ لعائشة - رضي الله عنها - سترت به جانب بيتها فقال النبي، صلى الله عليه وسلم: "أَمِيطِي عنا قِرَامَكِ هذا، فإِنَّه لا تزال تَصاويرُه تَعرِض لي في صلاتي" رواه البخاري (¬5). ¬

_ (أ، أ) بهامش هـ.

واتفقا على حديثها في قصة أَنْبِجَانِيَّة أبي جهم وفيه: "فإنها ألهتني عن صلاتي" (¬1). "القِرَام" بكسر القاف وتخفيف الراء: ستر رقيق من صوف ذو ألوان (¬2). وقوله: "أميطي": أزيلي. وقوله: "تصاوير" روي بحذف الضمير. قال المصنف -رحمه الله (¬3): كذا في روايتنا، ورواه الباقون بإثبات الضمير كما في الأصل فيكون الضمير في قوله: "فإنه" ضمير الشأن على حذف ضمير "تصاوير"، وعلى إثبات الضمير فيكون ضمير "فإنه" عائد إلى القرام. وقوله: "تَعرِض" بفتح أوله وكسر الراء: أي تَلُوح، وللإِسماعيلي (¬4) تعرَّض بفتح العين وتشديد الراء وأصله: تتعرض. وفي الحديث دلالة على أن الصلاة لا تفسد بذلك؛ لأنه، صلى الله عليه وسلم، لم يقطعها ولم يُعِدْها. وقوله: "في قصة أَنْبِجَانيَّة" (¬5): بفتح الهمزة وسكون النون وكسر الموحدة وتخفيف الجيم وبعد النون ياء النسبة: كساء غليظ لا عَلَم له، وقال ثعلب: يجوز فتح همزته وكسرها، وكذا الموحدة يقال: كبش أنبجانيّ: إذا كان ملتفًّا كثير الصوف، وكساء أنبجاني كذلك، وأنكر أبو موسى المديني على مَنْ زعم أنه منسوب إلى "منبج" البلد المعروف بالشام، قال صاحب "الصحاح" (¬6): ¬

_ (¬1) حديث عائشة: البخاري الصلاة باب إذا صلى في ثوب له أعلام ونظر إليها علمها 1/ 482 ح 373، مسلم المساجد باب كراهة الصلاة في ثوب له أعلام 1/ 391 ح 61 - 556، أبو داود الصلاة باب النظر في الصلاة 1/ 562 ح 914، النسائي القبلة، الرخصة في الصلاة في خميصة لها أعلام 2/ 56، ابن ماجه اللباس باب لباس رسول الله، صلى الله عليه وسلم، 2/ 1176 ح 3550، أحمد 6/ 37. (¬2) النهاية 4/ 49. (¬3) الفتح 1/ 484. (¬4) المرجع السابق. (¬5) النهاية 1/ 73. (¬6) الصحاح 1/ 343.

إذا نسبتَ (أ) إلى منبج فتحت الباء فقلت كساء مَنْبجَانِيّ، وقال أبو حاتم السجستاني: لا يُقال كساء أنبجاني وإنما يقال: منبجاني، قال: وهذا مما يخطئ فيه العامة، وتعقبه أبو موسى فقال: الصواب أن هذه النسبة إلى موضع يقال له: "أنبجان". وأبو جهم (¬1) هو (ب) عبيد -ويقال عامر- بن حذيفة العدوي صحابي مشهور، [أسلم عام الفتح، وكان مقدما في قريش معظما في مشيخة قريش، عالما بالأنساب، معمرا، حضر بناء الكعبة مع قريش مع عبد الله بن الزبير، وهو أحد الأربعة الذين دفنوا عثمان] (جـ). والحديث عن عائشة "أن النبي، صلى الله عليه رسلم، صلَّى في خَمِيصَةٍ لها أعلام، فنظر إلى أعلامها نظرة، فلما انصرف قال: اذهبوا بخميصتي هذه إلى أبي جهم وائتوني بأنبجانية أبي جهم، فإنها ألهتني آنفا عن صلاتي" (¬2)، وقال هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قال النبي، صلى الله عليه وسلم: "كنتُ أنظر إلى عَلَمِها، وأنا في الصلاة، فأخاف أن تفتنني" (¬3) والخميصة: كساء مربع له عَلَمان (¬4) وهي بفتح المعجمة وكسر اليم وفتح الصاد الهملة، وإنما خصه، صلى الله عليه وسلم، بإرسال الخميصة لأنه كان أهداها له كما رواه مالك في "الموطأ" من طريق أخرى عن عائشة قالت: "أهدى أبو جهم بن حذيفة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم خميصة لها عَلَم، فشهد فيها الصلاة، فلما انصرف قال: ¬

_ (أ) في جـ: نسب. (ب) في هـ: أبو عبيد. (جـ) بهامش الأصل.

رُدِّي هذه الخميصة إلى أبي جهم" (¬1) ولأبي داود من طريق أخرى: "وأخذ كرديًّا لأبي جهم فقيل: يا رسول الله الخميصة كانت خيرا من الكرديّ" (¬2). قال ابن بطال (¬3): إنما طلب منه ثوبا غيرها لِيُعْلمَهُ أنه لم يردّ عديه هديته استخفافا به، قال (أ): وفيه أن الواهب إذا ردت عليه عطيته من غير أن يكون هو الراجع فيها فله أن يقبلها من غير كراهة. وقوله: "ألهتني" أي: شغلتني، يقال لهي بالكسر: إذا غفل: ولها بالفتح: إذا لعب (¬4). وقوله: "آنفا" أي: قريبا، مأخوذ من انتياف الشيء أي ابتدائه (¬5). وقوله: "عن صلاتي" أي: كمال الحضور فيها، وفي بعض طرق الحديث ما يدل على أنه لم يقع الإِلهاء لأنه قال: "وأخاف"، وكما تقدم في رواية هشام "فأخاف"، ويمكن الجمع بينهما بأن الإِلهاء وقع في الصلاة الواقعة والخوف في الصلاة المستقبلة [أو أن معنى ألهتني: كادت تلهيني فإطلاق حقيقة الإِلهاء عليه مبالغة في القُرْب (ب) لا لتحقق الإِلهاء] (جـ). وفي الحديت الدلالة على مبادرة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى مصالح الصلاة، ونفي ما لعله يخدش فيها، ويدل على كراهية ما شَغَلَ (د) عن الصلاة مِن الإِمتاع والنقوش، ونحوها. ¬

_ (أ) ساقطة من هـ. (ب) في جـ: للقرب. (جـ) بهامش الأصل. (د) في جـ: يشغل.

وفيه قَبول الهدية من الأصحاب والإِرسال إليهم والطلب منهم. و (أ) قال الطيبي (¬1): فيه إيذان بأن للصور والأشياء الظاهرة تأثيرا في القلوب الطاهرة والنفوس الزكية، يعني: فضلا عما دونها. وفي هذا الحديت دلالة على أن الاستملاء من الكتابة لا يفسد الصلاة واستثبات المكتوب كذلك إذ الأنبجانية وتعرض التصاوير لا تشغله إلا وقد استثبت ما فيها، والله أعلم. 187 - وعن جابر بن سَمُرَة - رضي الله عنه - قال: قال، رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لَيُنْتَهَيَنَّ قَوْمٌ يرفعون أبصارَهم إلى السماء في الصلاة أولًا ترجع إليهم" رواه مسلم (¬2). [قوله: "لَيُنْتَهيَنَّ": في رواية المستملي والحموي للبخاري (¬3) بضم الياء وسكون النون وبفتح المثناة والهاء والياء وتشديد النون على البناء للمفعول والنون للتأكيد، وللباقين بفتح أوله وسكون النون وضم الهاء على البناء للفاعل وهو الضمير المحذوف. "وقوم" فاعل أيضًا على لغة أكلوني البراغيث] (ب)، وفي رواية "أو لتخطفن أبصارهم". ¬

_ (أ) سقطت من جـ. (ب) في هامش الأصل.

في الحديث النهي الأكيد والوعيد الشديد في ذلك، [وعلى هذا فهو حرام، وقال ابن حزم: تبطل به الصلاة (¬1)، وقيل المعنى: إنه يخشى على الأبصار من الأنوار التي تنزل على المصلي، وفي قصة قراءة أُسَيْد بن (أ) حُضَير (¬2) ما يدل على ذلك أشار إلى هذا المعنى الداودي] (ب)، وقد قيل إنه مجمع على أنه منهيّ عن ذلك في الصلاة. قال القاضي عياض (¬3): واختلفوا في غير الصلاة في الدعاء فكرهه شريح وآخرون وجوّزه الأكثرون، وقالوا إن السماء قبلة الدعاء كما أن الكعبة قبلة الصلاة فلا يكره رفع الأبصار إليها كما لا يكره رفع اليد بالدعاء قال الله تعالى {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ} (¬4) (جـ). 188 - وله عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: "سمعت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يقول: لا صلاة بحضرة طعام، ولا وهو يدافعه الأخبثان" (¬5). تقدم الكلام في حضور الطعام. وقوله: "ولا وهو يدافعه الأخبثان": فيه دلالة على أنّ ذلك مع المدافعة لا إذا كان يجد في نفسه ثقل ذلك ولا يحتاج إلى دفعِ خارجٍ فلا كراهة، والمراد بالأخبثين البول والغائط، ويلحق بهما ما كان شاغلا عن الصلاة وعن كمال ¬

_ (أ) ساقطة من هـ. (ب) بهامش الأصل. (جـ) الآية بهامش هـ.

الخشوع وحضور القلب، وهو محمول على كراهة التنزيه دون الحَصْر مع استكماله لواجب الصلاة، فقوله: "لا صلاة" متوجه إلى نفي الكمال والأفضل، إذ ذات الصلاة غير منفيَّة لإمكان وقوعها، وتقديم إزالة الخَبَث إذا كان الوقت فيه سَعَة، فإن ضاق الوقت وأمَكن تأدية الصلاة وجب تقديمها كما تقدم في حضور الطعام (أ)، والله أعلم. 189 - وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "التثاؤب من الشيطان، فإذا تثاءب أحدكم فليكظم ما استطاع" رواه مسلم والترمذي (¬1) وزاد: "في الصلاة". قوله: "التثاؤب" مصدر تثاءب الرجل، وتثاوب على وزن تفاعل إذا فتح فاه من غَلَبَةِ النوم أو الغفلة أو كثرة امتلاء البطن، وكل ذلك غير مرضيّ، فلأجل هذا كره التثاؤب، ومن وجد ذلك في نفسه فليكظمه أي (ب) وأضيف إلى الشيطان لما يوثر من الغفلة والكسل عن الطاعة التي يرضاها الشيطان، ولعل الشيطان وسوسه، وتنشيطا لحضور ذلك، قد أشار إلى هذا في تمام الحديث (¬2) في رواية مسلم بقوله: "فإن الشيطان يدخل". وقوله: "فليكظم" الكَظْم المَنْع والإِمساك. ¬

_ (أ) في جـ: الصلاة. (ب) ساقطة من جـ وهـ.

وزاد: "في الصلاة" ظاهره أنها زيادة للترمذي، وهي أيضًا في البخاري، وتمام رواية البخاري: "ولا تَقُلْ (أ) ها فإنما ذلكم من (ب) الشيطان يضحك منه" (¬1)، والضمير في "منه" عائد إلى الحالة المعبر عنها بقوله "ها"، وزيادة "في الصلاة" لا تنافي النهي عن تلك الحالة مطلقا، لموافقة الطلق والمقيد في الحكم فلا تقييد حينئذ، والله أعلم. عدد أحاديث الباب: أربعة عشر حديثًا. ¬

_ (أ) بالأصل: ولا يصلي ها. (ب) في جـ وهـ: ذلك.

باب المساجد

باب المساجد 190 - عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: "أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ببناء المساجد في الدور وأن تنظف وتطيب" رواه أحمد وأبو داود والترمذي وصحح إرساله (¬1). المساجد جمع مسجد بفتح العين وكسرها، وقال سيبويه: إذا قصدت بالمسجد المكان المخصوص الذي على هيئة مخصوصة يقع فيه السجود فهو بالكسر لا غير؛ لأنه أخرجته عما يكون عليه اسم المكان، وإن قصدت به موضع السجود وموضع وقوع الجبهة في الأبيض فهو بالفتح لأنه جاري على الفعل وفعله فَعَل يَفْعُل وحق المكان منه على مَفْعَل بالفتح لا غير. والدور جمع دار، والدار لغة: العامر المسكون والغامر المتروك، وهي مأخوذة من الاستدارة لأنهم كانوا يخطون بطرف رماحهم قدر ما يريدون أن يتخذوه مسكنا ويدورون حوله. والظاهر أن الأمر محمول على الندب لقرينة وهو قوله: "أيضًا أدركت الصلاة فصل" (¬2) "ولا صلاة لجار المسجد" (¬3) وغير ذلك ولعله إجماع. 191 - وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله ¬

_ (¬1) أبو داود: الصلاة باب اتخاذ المساجد في الدور 1/ 314 ح 455. الترمذي موصولا ومرسلا الصلاة باب ما ذكر في تطييب المساجد 1/ 489، 490 ح 594، 595، أحمد 6/ 279، ابن ماجه المساجد والجماعات باب تطهير المساجد وتطييبها 1/ 250 ح 758، ابن حبان باب ما جاء في المساجد 18 ح 306 (موارد). (¬2) سيأتي في ح 305. (¬3) الدارقطني 1/ 420.

عليه وسلم: "قَاتَلَ الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" متفق عليه (¬1)، وزاد مسلم: "والنصارى" (¬2). ولهما من حديث عائشة: "كانوا إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدا"، وفيه: "أولئك شِرَار الخلق" (¬3). الحديث أخرجه البخاري بأسانيد مختلفة في أبواب متعددة، ومعنى "قاتل" أي: قتلهم الله، أو المعنى: لعن، فإنه قد ورد بذلك (¬4) اللفظ. واتخاذ القبور مساجد أعم من أن يكون بمعنى الصلاة إليها كما هو الظاهر، أو بمعنى الصلاة عليها، وقد أورد مسلم من طريق أبي يزيد الغنوي مرفوعًا: "لا تجلسوا على القبور ولا تصلوا إليها أو عليها" (¬5)، وليس على شرط البخاري، فلذلك أشار إليه في ترجمة باب (¬6). وقوله: "اتخذوا": جملة استئنافية بيان لسبب اللعن كأنه قيل: ما سبب لعنهم؟ فأجيب بقوله: اتخذوا، وزاد (أ) مسلم قوله: "والنصارى" وقد (ب) استشكل ذكر النصارى فيه لأن اليهود لهم أنبياء بخلاف النصارى، فليس بين عيسى وبين نبينا صلى الله عليه وسلم ¬

_ (أ) في جـ وهـ: وزيادة. (ب) ساقطة من هـ.

نبي، وليس له قبر أو لأن أنبياء اليهود كموسى وهرون وغيرهما أنبياء للنصارى، وإنما شريعة عيسى ناسخة لبعض شريعة موسى صلى الله عليه وسلم أجمعين. وأجيب أنه كان فيهم أنبياء غير مرسلين كالحواريين ومريم -في قولٍ-، والجمع في قوله "أنبيائهم" للمجموع من اليهود والنصارى، أو المراد الأنبياء وكبار أتباعهم، فاكتفى بذِكْر الأنبياء، ويؤيده قوله في رواية مسلم من طريق جندب: "كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد" (¬1) ولهذا (أ) لما أفرد النصارى كما في حديث عائشة قال: "إذا مات في الرجل الصالح" (¬2) ولما أفرد اليهود كما في حديث أبي هريرة قال: "أنبيائهم" (¬3)، أو المراد بالاتخاذ أعمّ من أن يكون ابتداعا أو اتباعا، فاليهود ابتدعت والنصارى اتبعت، ولا ريب أَنَّ النصارى تعظم قبور كثير من الأنبياء الذين يعظمهم اليهود. وحديث عائشة أخرجه البخاري (¬4) بألفاظ في بعضها أن أم حبيبة وأم سلمة ذكرتا كنيسة رأيتها بالحبشة فيها تصاوير، فذكرتا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: "إن أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات بنوا على قبره مسجدا وصوروا فيه تلك الصورة وأولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة"، وهذا القول كان في مرض النبي صلى الله عاجه وسلم الذي مات منه قبل أن يتوفى بخمس. أخرجه مسلم (¬5) وزاد فيه: "فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك"، وهذا يدل على أن هذا النهي ثابت غير منسوخ وإنما صَوَّرَ الصورة أوائلهم ليتأنسوا برؤية تلك ¬

_ (أ) الواو زائدة في جـ.

الصورة ويتذكروا أحوالهم الصالحة فيجتهدون كاجتهادهم ثم خَلَفَ من بعدهم خُلُوف جهلوا مرادهم، وسوس (أ) لهم الشيطان أن آباءم كانوا يعبدون هذه الصورة يعظمونها فيعبدونها، فحذر النبي صلى الله عليه وسلم عن مثل ذلك سدا للذريعة المؤدية إلى ذلك. وفي الحديث دليل على تحريم التصوير، وحمل بعضهم الوعيد على مَنْ كان في ذلك الزمان لِقُرْب العهد بعبادة الأوثان وأما الآن فلاث وقد رد ابن دقيق العيد على ذلك أحسن رد (¬1). وقال البيضاوي (¬2): لما كانت اليهود والنصارى يسجدون لقبور الأنبياء تعظيما لشأنهم، ويجعلونها قبلة يتوجهون في الصلاة نحوها، واتخذوها أوثانا لعنهم ومنع المسلمين من ذلك، فأما من اتخذ مسجدا في جوار صالح وقصد التبرك بالقرب منه لا لتعظيم له ولا التوجه نحوه فلا يدخل في ذلك الوعيد (¬3)، وظاهر الأحاديث في النهي عن اتخاذ المساجد على القبور غير معلل بما ذكروا، إنما النهي مطلق، ولعل الحكمة في ذلك النهي سدا للذريعة، وبُعْدًا عن التشبه بعبدة الأوثان التي تعظّم الجمادات التي لا تسمع ولا تنفع (ب ولا تشفع ب) ولا تدفع ولِما في إنفاق المال في ذلك من العبث والتبذير الخالي عن النفع بالكلية، وفي حديث ابن عباس تصريح بالنهي، وهو ما أحرجه أبو داود والترمذي والنسائي عن ابن (جـ) عباس قال: "لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم زائرات القبور والمتخذين عليها ¬

_ (أ) في جـ: ووسوس. (ب- ب) بهامش هـ. (جـ) في هـ: على.

المساجد والسُّرج" (¬1)، والله سبحانه أعلم. 192 - وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: "بَعَثَ النبي صلى الله عليه وسلم خيلا فجاءت برجل فربطوه بسارية من سواري المسجد. . ." الحديث متفق عليه (¬2). قوله: "خيلا" أي: فُرسانا، والرجل التي أتت به هو ثُمامة بن أَثَال، صرح بذلك في الصحيحَيْن وغيرهما. وقوله: "فربطوه" فيه دلالة على أن الربط لم يكن بأمر النبي صلى الله عليه وسلم ولكن النبي صلى الله عليه وسلم قرر ذلك؛ لأن في القصة أنه كان يمر به ثلاثة أيام وكان (1) يقول له: ما عندك يا ثمامة؟ ففي هذا تصرج بأن النبي صلى الله عليه وسلم قرر ذلك الفعل، ففيه دلالة على جواز ربط الأسير بالمسجد وإن كان كافرا، وأن ذلك مخصوص لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: "إنما المسجد لذكر الله والطاعة" (¬3). ويدل على جواز دخول الكافر المسجد، وقد ذهب إلى هذا المؤيد بالله وأبو حنيفة (¬4) لهذا ولإدخاله صلى الله عليه وسلم وفد ثقيف (¬5)، ويقاس بقية المساجد ¬

_ (أ) ساقطة من جـ وهـ.

على مسجده صلى الله عليه وسلم ولو المسجد الحرام، وأما قوله تعالى {فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ} (¬1) فالمراد: لا يمكنون من الحج والعمرة كما ورد في القصة التي بعث النبي صلى الله عليه وسلم بآيات براءة إلى مكة، وقوله: "فلا يحجن بعد هذا العام مشرك". وقال الشافعي (¬2): يجوز دخول الكافر المساجد إلا المسجد الحرام بإذن المسلم، سواء كان مشركا أو كتابيا، وذهب الهادي والناصر ومالك وعمر بن عبد العزيز وقتادة والإِمام يحيى (¬3) إلى أنه لا يجوز دخول الكافر مطلقا إلى المسجد سواء كان المسجد الحرام أو غيره، قالوا لقوله تعالى {فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ}، وقوله {أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إلا خَائِفِينَ} (¬4) ويجاب عن الآية الأولى بما عرفت وعن الآية الثانية (¬5) بأن ذلك في حقّ من استولى عليها، وصار له الحكمة والمنعة كما وقع في سبب نزول الآية الكريمة أنها نزلت في شأن النصارى، واستيلائهم على بيت المقدس وتخريبه، وإلقاء الأذى والأزبال فيه، أو أنها نزلت في شأن قريش ومنعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحديبية عن العمرة، وأما مجرد دخوله من دون استيلاء وتخريب ومَنْع فمن أين يُفهم ذلك والأحاديث موضحة لهذا المعنى أشد إيضاح (أ)؟ وفي الحديث دلالة أيضًا على جواز الربط للأسير وحبسه والاستيثاق منه والمنّ عليه كما وقع في تمام القصة. ¬

_ (أ) في هـ وجـ: والإيضاح.

193 - عنه - رضي الله عنه - "أن عمر رضي الله عنه مر بحسان ينشد في المسجد فلحظ إليه فقال: قد كنت أنشد وفيه من هو خير منك" متفق عليه (¬1). يريد بالخير: النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه أنشد الشعر في المسجد لما قال له النبي صلى الله عليه وسلم: "يا حسان، أجب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم"، وقد أشار البخاري في باب بدء الخلق في رواية هذه القصة عن سعيد بن المسيب أن قوله صلى الله عليه وسلم: "أَجِبْ" كان في المسجد، وأنه أنشد فيه ما أجاب به المشركين. وإيراده للقصة في كتاب الصلاة من حديث أبي سلمة (¬2) مجردة عن ذكر المسجد لا ينافيه، وقد أورده في باب الشعر في المسجد (¬3)، ولعل البخاري اختصر القصة في كتاب الصلاة لإِيرادها في موضع آخر. (أ) وفي الحديث دلالة على جواز إنشاد الشعر في المساجد (ب)، وقد ورد ما يعارض ذلك وهو ما أخرجه ابن خزيمة وصححه والترمذي وحسنه من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تناشد الأشعار في المساجد" (¬4) وفي هذا المعنى عدة أحاديث وإن كان ¬

_ (أ) الواو ساقطة من جـ وهـ. (ب) في جـ: المسجد.

في إسنادها مقال، وطريق الجمع أن يُحْمَلَ النهيُ على تناشد أشعار الجاهلية والمبطلين وما لم يكن فيه غرض صحيح والمأذون ما سَلِم من ذلك. وقيل: المأذون فيه مشروط بأن لا يكون ذلك مما يتشاغل مَنْ في المسجد به، وأدعى أبو عبد الملك البوني (¬1) بأن أحاديث الإِذن منسوخة بأحاديث النهي، ولم يوافق على ذلك، والله أعلم. 194 - عنه - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من سمع رجلا ينشد ضالة في المسجد فليقل: لا ردها الله عليك، فإنَّ المساجد لم تُبْنَ لهذا" رواه مسلم (¬2). قوله "يَنْشُد": بفتح الياء وضم الشين من نشد بفتح النون والشين المعجمة يقال: نشدت الدابة إذا طلبتها ويقال: أنشدت أي عرفتها. قوله: (أ "ضالة" يقال بالهاء للذَّكَر والأنثى والجمع ضوال، مثل: دابة ودواب، والضالة مخصوصة بالحيوان ويقال: لغير الحيوان ضائع ولقطة أ)، ¬

_ (أ، أ) بهامش هـ.

والجواب عليه بلا ردها الله عليك عقوبة له لما ارتكب من العمل الذي لا يجوز في المسجد. وقوله: "فإن المساجد لم تبن لهذا" معناه: أنها لم تبن إلا لذكر الله تعالى والصلاة والعِلْم والمذاكرة في الخير ونحوها. قال القاضي عياض (¬1): وفيه دليل على منع عمل الصنائع في المساجد قال فيه: قال بعض شيوخنا: إنما يمتنع في المساجد عمل الصناعة التي يختص نفعها بالآحاد ويكتسب به ويتخذ متجرا، فأما الصنائع التي يشمل نفعها المسلمين في دينهم، كمبايعة وإصلاح آلات الجهاد (أ) ومما لا امتهان (ب) للمسجد في عمله فلا بأس به (¬2) قال: وحكى بعضهم في تعليم الصبيان فيها خلافا (¬3)، [وعلل بعض المالكية كراهة تعليم الصبيان في المساجد وقال: إنه من باب البيع، وهذا إذا كان بأجرة، فإن كان بغير أجرة منع أيضًا من وجه آخر، وهو أن الصبيان لا يتحرزون من القذر والوسخ فيؤدي ذلك إلي عدم تنظيف المسجد، وقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بتنظيفها وقال: "جنبوا مساجدكم صبيانكم. . ." (¬4)] (جـ). وفي الحديث دلالة على أن إنشاد الضالة لا يجوز في السجد، ويلحق به ما في ¬

_ (أ) الواو ساقطة من جـ. (ب) في هـ: يتهاون. (جـ) بهامش الأصل وهـ.

معناه من البيع والشراء والإِجارة ونحوها في (أ) العقود، وكراهة رفع الصوت في المسجد، قال مالك وجماعة من العلماء (¬1): يكره رفع الصوت في المسجد بالعلم وغيره، وأجاز أبو حنيفة (¬2) ومحمد بن مسلم من أصحاب مالك رفع الصوت بالعلم والخصومة وغير ذلك مما يحتاج إليه الناس لأنه مجمعهم ولابد لهم منه. 195 - عنه - رضي الله عنه - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا رأيتم من يبيع أو يبتاع في المسجد فقولوا: لا أربح الله تجارتك". رواه النسائي والترمذي وحَسَّنه (¬3). في الحديث دلالة على أن البيع والشراء لا يجوزان في المساجد وقد تقدم تعليل ذلك في الحديث الذي قبله، وقال الماوردي: اختلفوا في جواز ذلك في المسجد مع اتفاقهم على صحة العقد لو وقع. 196 - وعن حكيم بن حِزَام - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تُقَامُ الحدود في المساجد ولا يستقاد فيها". رواه أحمد وأبو داود بسندٍ ضعيف (¬4). ¬

_ (أ) في جـ وهـ: من.

هو أبو خالد حكيم بن حِزَام -بكسر الحاء المهملة وبالزاي- بن خويلد، ابن أخي خديجة بنت خويلد أم المؤمنين، ولد في الكعبة قبل الفيل بثلاثة عشر سنة، وكان من أشراف قريش ووجوهها في الجاهلية والإسلام، وتأخر إسلامه إلى عام الفتح، وهو من مسلمة الفتح هو وبنوه عبد الله وخالد ويحيى وهشام وكلهم صَحِبَ النبي صلى الله عليه وسلم، ومات بالمدينة في داره سنة أربع وخمسين، وقيل ثمان وخمسين وله مائة وعشرون سنة ستون في الجاهلية وستون في الإِسلام، كان عاقلًا، سَرِيًّا، فاضلا، تقيا، حسن إسلامه بعد أن كان من المؤلفة قلوبهم، أعتق في الجاهلية مائة رقبة، وحمل على مائة بعير، وكان مع المشركين يوم بدر فنجا من القتل، وكان إذا حلف بعد أن أسلم قال: "لا والذي نجاني يوم بدر"، روى عنه عُروة بن الزبير وسعيد بن المسيب وموسى بن طلحة (¬1). الحديث رواه أيضًا الحاكم وابن السكن وأحمد بن حنبل والدارقطني والبيهقي. قال المصنف -رحمه الله تعالى- في "التلخيص" (¬2): ولا بأس بإسناده، ورواه البزار (¬3) من حديث جبير بن مطعم وفيه الواقدي (¬4). ورواه ابن ماجه (¬5) من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده بلفظ: "نهي أن يجلد الحد في المسجد" (أ) وفيه ابن لهيعة (¬6)، ورواه الترمذي وابن ماجه ¬

_ (أ) في هـ: في المسجد الحد.

من حديث ابن عباس (¬1) وفيه إسماعيل بن مسلم المكي، وهو ضعيف (¬2). والحديث فيه دلالة على النهي عن فِعْل ما ذكر في المسجد لما تقدم أن المساجد إنما هي للذكر وما يتبعه، وهو إخبار في معنى الإِنشاء لامتناع الحقيقة، فوجب الحمل على المجاز وظاهر النهي التحريم إذ هو حقيقة ولا مقتضى لصرفه عن ظاهره، والله أعلم. 197 - وعن عائشة - رضي الله عنه - قالت: "أُصِيبَ سعد يوم الحندق فضرب عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم خيمة في المسجد، ليعوده مِنْ قُرْب" متفق عليه (¬3). وهو سعد بن معاذ (¬4) أصابه رجل منْ قريش، قال ابن الكلبي: اسم هذا الرجل حِبَّان -بكسر الحاء المهملة- ابن أبي قيس بن علقمة ويقال له: ابن العَرِقَة -بعين مهملة مفتوحة ثم راء مكسورة ثم قاف- وهي أمه، واسمها قِلَابة -بقاف مكسورة وبباء موحدة- بنت سعيد بن سهيل وهو من بني عبد مناف بن الحارث وسميت بالعَرِقَة لطيب ريحها، وكنيتها أم فاطمة. رماه في الأكحل وهو عِرْق معروف، قال الخليل: إذا قطع في اليد لم يرق (أ) الدم، وهو عرق الحياة في كل عضو منه شعبة. ¬

_ (أ) بالأصل: يرقى.

وقوله: "فضرب عليه" إلخ: فيه دلالة على جواز النوم في المسجد وجواز مكث المريض فيه وإن كان جريحا وفي ذلك فضيلة ظاهرة لسعد رضي الله عنه. 198 - وعنها - رضي الله عنه - قالت: "رأيتُ رسول صلى الله عليه وسلم يسترني وأنا أنظر إلى الحبشة يلعبون في المسجد. . ." الحديث، متفقُ عليه (¬1). قولها: "يسترني" يدل على أن ذلك كان بعد نزول الحجاب، ويدل على جواز نظر المرأة إلى الرجل، وأجيب بأن ذلك قبل بلوغ عائشة، وهو مردود بالستر، وقولها في تمام الحديث في رواية الزهري: "فاقدروا قَدْر الجارية الحديثة السن الحريصة على اللهو" (¬2) وفي رواية أبي سلمة: "فقلتُ يا رسول الله. لا تَعْجَل. فقال لي ثم قال: حسبك قلتُ: لا تَعْجَل، قالت: وما بي حب النظر إليهم، ولكن أحببت أن تنظر النساء مقامه لي ومكاني منه" (¬3). وظاهر هذا أنها حينئذ شابة، وأجيب بأن ذلك منسوخ بحديث: "أفعمياوتان أنتما؟ " (¬4) ويجاب بأن هذا مُخْتَلَفٌ فيه لا يقاوِم هذا الحديث، وأيضًا فإنه مؤيد بظاهر قوله تعالى: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ} (¬5) فإن الظاهر أن "مِنْ" للتبعيض فيكون الغض عند خشية الفتنة ¬

_ (¬1) مسلم العيدين باب الرخصة في اللعب الذي لا معصية فيه في أيام العيد 2/ 608 ح 17 - 892 م، البخاري العيدَيْن باب إذا فاته العيد يصلي ركعتين 2/ 474 ح 988، النسائي العيد اللعب في المسجد يوم العيد ونظر النساء إلى ذلك 3/ 159، الحميدي 1/ 123 ح 254 بمعناه، مشكل الآثار 1/ 116، عبد الرزاق 10/ 465 ح 19721 بمعناه. (¬2) النسائي 2/ 159، ومسلم 2/ 609 ح 17 - 892 م بلفظ (حريصة). (¬3) النسائي الكبرى في عشرة النساء. تحفة الأشراف 12/ 359. (¬4) أبو داود 4/ 361، 362 ح 4112، الترمذي 5/ 102 ح 2778. أحمد 6/ 296، ابن حبان 483 ح 1968 (موارد). البيهقي 7/ 92. والحديث ضعيف لأن مداره على نبهان مولى أم سلمة وهو مقبول ولم يتابع، التقريب 356. قلتُ: وقال ابن حجر: إسناده قوي فإنه من رواية الزهري عن نبهان مولى أم سلمة وأكثر ما عُلل به انفراد الزهري عن نبهان وليست بعلة قادحة فإن مَنْ يعرفه الزهري ويصفه بأنه مكاتب أم سلمة ولم يجرحه أحد لا ترد روايته. (¬5) الآية 31 من سورة النور.

والنظر إلى المحاسن والجواز فيما عدا ذلك، وأيضًا فتظاهر الأخبار بخروج النساء في عصره صلى الله عليه وسلم إلى المسجد وحضور الصلاة والخروج إلى الجبانة، وأَمْر النبي صلى الله عليه وسلم بالصدقة وإلقاء حليهن في ثوب بلال (¬1). ويبعد مع تلك الأحوال عدم رؤيتهن للرجال وإنما أمرن بإدناء الجلابيب وإجماع المسلمين خَلَف عن سلف بعدم منع النساء من الخروج لقضاء ما يحتجن له من البيع والشراء والتحاكم. قال القاضي عياض (¬2): وفيه جواز نظر النساء إلى الرجال الأجانب لأنه إنما يكره لهن النظر إلى المحاسن والاستلذاذ لذلك، وقال النووي (¬3): النظر بشهوة وعند خشية الفتنة حرام اتفاقا، وأما بغير شهوة فالأصح أنه يحرم. وأجاب عن هذا الحديث بأنه يحتمل أن يكون ذلك قبل بلوغ عائشة وقد عرفت الجواب عنه، قال: وكانت تنظر إلى لعبهم بحرابهم لا إلى وجوههم وأبدانهم، وإن وقع بلا قصد إن أمكن أن تصرفه في الحال. انتهى. وقد عرفتَ بُعْدَ هذا وقولها: "وأنا أنظر إلى الحبشة يلعبون" وقع في رواية البخاري في موضعٍ (¬4): "وكان يوم عيد يلعب فيه السودان بالدرق (¬5) والحِرَاب" في رواية عروة عن عائشة، ووقع في رواية الزهري في البخاري في موضع: "والحبشة يلعبون في المسجد" (¬6) ووصلها مسلم: "بحرابهم"، ولمسلم من رواية هشام عن أبيه: "جاء حبش يلعبون في المسجد" (¬7) قال المحب الطبري (¬8): هذا السياق يُشْعِرُ بأن عادتهم ذلك في كل عيد، ووقع في رواية ابن حبان (¬9): "لما قَدِمَ وفد الحبشة قاموا ¬

_ (¬1) البخاري 2/ 166 ح 978. (¬2) شرح مسلم 2/ 345 وترجم الإمام البخاري باب نظر المرأة إلى الحبشة وغيرهم من غير ريبة. (¬3) شرح مسلم 2/ 545. (¬4) البخاري 2/ 440 ح 950. (¬5) الدرق جمع درقة وهي الترس. لسان العرب 10/ 95. (¬6) البخاري 2/ 474 ح 988، زاد مسلم: "بحرابهم" 2/ 609 ح 18 - 892 م. (¬7) مسلم 2/ 609 ح 20 - 892 م بلفظ (يزمنون) بمعنى يلعبون. (¬8) الفتح 2/ 443. (¬9) ابن حبان 7/ 545 ح 5841 (إحسان).

يلعبون في المسجد"، وهو يُشْعِر بأن الترخيص لهم في ذلك بحال القدوم، ولا تنافي بينهما لاحتمال أن يكون قدومهم صادف يوم عيد، وكان من عادتهم اللعب في الأعياد يفعلون ذلك كعادتهم ثم صاروا يلعبون في كل عيد، ويؤيده ما رواه أبو داود عن أنس: "لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة جاء الحبش بحرابهم" (¬1) ولا شك أن يوم قدومه كان أعظم عندهم من يوم العيد. وفي الحديث دلالة على جواز مثل ذلك اللعب في المسجد إذا كان في يوم من أيام المسرة التي شرع للمسلمين إظهار المسرة والتلبس بشعار النعمة، وحكى ابن التين عن أبي الحسن اللخمي أن اللعب بالحراب في المسجد منسوخ بالقرآن والسنة، أما القرآن فقوله تعالى {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ} (¬2) وأما بالسنة فحديث: "جَنِّبوا صِبْيَانَكُمْ مَسَاجِدَكُمْ. . ." (¬3) الحديث، وتعقب بأن الحديث ضعيف وليس فيه ولا في الآية تصريح بما ادعاه ولا عُرِفَ التاريخ فيثبت النسخ. وحكى بعض المالكية عن مالك أن لعبهم كان خارج المسجد وكانت عائشة في المسجد، وهذا لا يثبت عن مالك فإنه خلاف ما صرح به في طرق هذا الحديث، وفي بعضها أن عمر أنكر عليهم لعبهم في المسجد فقال له صلى الله عليه وسلم: "دَعْهُمْ" (¬4) من (أ) طريق أبي الزناد وعن عروة عن عائشة أنه، صلى الله عليه وسلم، قال: "لِتعلمَ يهودُ (ب) أنّ في ديننا فسحةً وأني بعثت بحنيفيَّة سَمْحَة" (¬5)، وكأنَّ عمر بَنَى على الأصل من تنزيه المساجد فبين له النبي صلى الله ¬

_ (أ) في جـ: في. (ب) في هـ: اليهود.

عليه وسلم أن التعمق والتشديد ينافي قاعدة شريعته، صلى الله عليه وسلم، من التسهيل والتيسير، وهذا يدفع جواب الطبري بأنه يغتفر للحبش ما لا يغتفر لغيرهم فيقرر (أ) حيث ورد ويدفع قول من قال: إن اللعب بالحراب ليس لَعِبًا مجردا بل فيه تدريب الشجعان على مواقع الحروب والاستعداد للعدو ففي ذلك من المصلحة التي تجمع عامة المسلمين ويحتاج إليها إقامة الدين فيجوز في المسجد. وفي الحديث دلالة على جواز النظر إلى اللهو المباح، وفيه حُسْن خُلُقِه، صلى الله عليه وسلم، مع أهله وكرم معاشرته، وفَضْل عائشة وعِظَم محلها عنده. فائدة في سَتْرِهِ صلى الله عليه وسلم لها (ب): فوقع في البخاري في بعض ألفاظه "سترني بردائه" (¬1)، وفي بعض ألفاظه: "فأقامني وراءه خدي على خده" (¬2) أي متلاصقين، وفي بعضها: "فوضعت رأسي علي مَنْكِبه" (¬3)، وفي رواية: "فوضعتُ ذَقني على عاتقه وأسندت وجهي إلى خده" (¬4)، وفي رواية: "أنظر بين أذنه وعاتقه" (جـ) (¬5) وقد استنبط من هذه الألفاظ أنها كانت مستترة بقيامها خلف النبي، صلى الله عليه وسلم، وأن مثل ذلك يكفي في الستر إذا قام مقام الرداء، ويجاب عنه بأن الستر بالرداء متعين لأن القصة واحدة، وقد وقع التعيين في بعض الألفاظ بالساتر فتحمل بقية الألفاظ عليه، والله أعلم. 199 - وعنها - رضي الله عنها "أنَّ وليدةً سوداءَ كان لها خِباءٌ في المسجد، ¬

_ (أ) في هـ: فيقر. (ب) ساقطة من جـ. (جـ) في جـ: مايقه.

فكانت تأتيني فتحدث عندي. . ." الحديث، متفقُ عليه (¬1). وسياق الحديت في البخاري: عن عائشة أن وليدة كانت سوداء لحي من العرب فأعتقوها فكانت معهم، قالت: فخرجت صبية لهم عليها وشاح أحمر من سيور، قالت: فوضعته -أو وقع (أ) منها- فمرت حدياة وهو ملقى فحسبته لحمًا فخطفته، قالت: فالتمسوه فلم يجدوه، قالت: فاتهموني به، قالت: وطفقوا (ب) يفتشون حتى فتشوا قُبُلَهَا، قالت: والله إني لقائمة معهم إذ مرت الحدياة فألقته فوقع بينهم، قالت: فقلتُ للذي اتهمتموني (جـ) به: زعمتم وأنا منه بريئة -وهو ذا هو قالت: فجاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلمت، قالت عائشة: فكان (د) لها خباء في المسجد أو حِفْش، قالت: فكانت تأتيني فتحدث عندي قالت: فلا تجلس عندي مجلسا إلا قالت: ويوم الوشاح من تعاجيب ربنا ... ألا إنه من بلدة الكفر نجاني قالت عائشة: فقلتُ لها: ما شأنُكِ لا تقعدين معي إلا قلتِ هذا؟ قالت: (هـ) فحدثتني بهذا الحديث. قولها (و) "وليدة": الوليدة هي أَمَة (ز)، وهي في الأصل لها ساعة تولد، قال ¬

_ (أ) زاد في هـ: عليهم. (ب) في جـ وهـ: فطفقوا. (جـ) في هـ: الذي اتهمتوني به، وفي جـ: للذي اتهموني به، وفي البخاري: "هذا الذي اتهمتوني به" 1/ 533 ح 439. (د) في جـ وهـ: فكانت. (هـ) ساقطة من هـ. (و) في هـ وجـ: قوله. (ز) في هـ وجـ: الأمة.

ابن سيده: ثم أطلق على الأمة وإن كانت كبيرة. والخِبَاء -بكسر الخاء المعجمة بعدها موحدة وبالمد- الخيمة مِنْ وَبَر أو غيره، وعن أبي عبيدة: لا تكون من شَعَر، وفي البخاري: أو حِفْش -وهو بكسر المهملة وبعدها فاء ساكنة وشين معجمة- البيت الصغير القريب السمك (¬1)، مأخوذ من الانخفاش وهو الانضمام، وأصله الوعاء الذي تضع المرأة فيه غَزْلَها. وقولها: "فتحدث" بلفظ المضارع بحذف إحدى التائين. وفي الحديث دلالة على إباحة المبيت والمقيل في المسجد لمن لا سَكَنَ له من المسلمين رجلا كان أو امرأة عند أمن الفتنة، وإباحة (أ) استظلاله بالخيمة ونحوها. وفي تمام القصة دلالة على الخروج من البلد الذي تحصل للمرء فيه المحنة، ويتحول إلى ما هو خير منه. وفيه: فضل الهجرة من دار الكفر وإجابة دعوة المظلوم ولو كان كافرا لأن في السياق إسلامها كان بعد قدومها المدينة، والله أعلم. فائدة: (ب) قال المصنف -رحمه الله (¬2) -: لم أقف على اسم المرأة، ولا على اسم القبيلة التي كانت لهم، ولا على اسم الصبية صاحبة الوشاح، والبيت الذي كانت تنشده عروضه من الضرب الأول من الطويل وأجزاؤه ثمانية ووزنه: فعولن مفاعيلن أربع مرات (جـ) لكن دخل البيت المذكور القبض وهو حَذف الخامس ¬

_ (أ) في هـ: واستباحه. (ب) ساقطة من جـ. (جـ) في هـ: مراتب.

الساكن في ثاني جزء منه فإن أشبعت حركة الحاء من الوشاح صار سالما أو قلت: ويوم وشاحٍ بالتنوين صار القبض في أول جزء من البيت وهو أخف من الأول، واستعمال القبض في الجزء الثاني وكذا في السادس في أشعار العرب كثير جدا نادر في أشعار المولدين (¬1). 200 - عن أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "البصاق في المسجد خطيئة وكفارتها دفنها" متفق عليه (¬2). وفي لفط للبخاري: "البزاق" ولمسلم "التفل" (¬3). والتفل -بالمثناة من فوق-: أخف من البزاق، والنفث بمثلثة آخره: أخف منه. وفي الحديث دلالة على أن ذلك في المسجد خطيئة، والدفن مكفر لها، وهو معارَض بحديث "فليبصق عن يساره أو تحت قدمه" (¬4)، وظاهره سواء كان في المسجد أو في غيره، قال النووي (¬5): هما عمومان تعارضا (أ) ولكن العموم الثاني مخصوص بما إذا لم يكن في المسجد ويبقى عموم الخطئة إذا كان في المسجد من دون تخصيص، وقال القاضي عياض (¬6): إنما يكون البصاق في المسجد خطيئة إذا لم يدفنه وأما مَنْ أراد دفنه فلا. وذهب إلى هذا ابن مكي في التنقيب والقرطبي في "المفهم" (¬7) وغيرهما، ¬

_ (أ) ساقطة من جـ وهـ.

ويشهد لهم ما رواه أحمد بإسنادٍ حسن (¬1) من حديث سعد بن أبي وقاص مرفوعًا قال: "فمن تنخم في المسجد فليغيب (أ) نخامته أن يصيب جلد مؤمن أو ثوبه فتؤذيه". وأوضح منه ما رواه أحمد أيضًا والطبراني بإسنادٍ حَسَن (¬2) من حديث أبي أمامة مرفوعًا قال: "فمن تنخّع في المسجد فلم يدفنه فسيئة، وإنْ دفنه فحسنة" فلم يجعله سيئة إلا بقيد عدم الدفن، ونحوه حديث أبي ذر عند مسلم مرفوعًا قال: "ووجدت في مساوئ أعمال أمتي النخاعة تكون في المسجد لا تُدْفَنُ" (¬3). وروى سعيد بن منصور عن أبي عبيدة بن الجراح أنه تنخم في المسجد ليلة فنسي أن يدفنها حتى رجع إلى منزله أخذ شعلة من نار ثم جاء فطلبها حتى دفنها ثم قال: "الحمد لله الذي لم يكتب علي خطيئة الليلة" (¬4)، فدل على أن الخطيئة مختص عن تركها. وعند أبي داود من حديث عبد الله بن الشخير "أنه صلى مع النبي، صلى الله عليه وسلم، فبصق تحت قدمه اليسرى ثم دلكه بنعله" (¬5) إسناده صحيح، وأصله في مسلم، والظاهر أن ذلك كان في المسجد. قال النووي (¬6): قال الجمهور: والمراد بدفنها في تراب المسجد ورمله ¬

_ (أ) في هـ وجـ: فيغيب.

وحصائه، وحكى الروياني (¬1) أن المراد بدفنها: إخراجها من المسجد، وهو بعيد، والظاهر أن (أ) الخطيئة وقوع البزاق في المسجد (ب سواء كان الفاعل داخل المسجد أو من خارج المسجد إلى داخله، والله أعلم ب). (جـ وأما حديث: "إن المسجد جـ) لينزوي من النخامة كما تنزوي الجلدة من النار" (¬2)، لم (د) أقف على مَنْ خرجه، وبمعناه رواه في "الأمالي" عن علي رضي الله عنه فلا يدل على تحريم التنخم في المسجد، أو يحمل على عدم دفنها فيوافق الأحاديث الصحيحة، والله أعلم. [فائدة: ورد في القملة إذا وجدها وهو ما رواه الطبراني في "الأوسط" عن مالك عن عامر قال: "رأيت معاذ بن جبل يقتل القملة والبراغيث في المسجد" (¬3)، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا وجد أحدكم القملة في المسجد فليدفنها"، وزاد "وليمطها عنه" (¬4)، وروي في الكبير والبزار بسندٍ رجاله موثقون عن رجل من الأنصار أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قال: "إذا وجد أحدكم القملة فليصرها في ثوبه ولا يُلْقِهَا في المسجد" (¬5)] (هـ). ¬

_ (أ) في جـ: في، وهـ: من. (ب، ب) بهامش هـ. (جـ، جـ) بهامش هـ. (د) في هـ وجـ: فلم. (هـ) مثبتة بورقة ملحقة بالأصل وبهامش هـ وجـ.

201 - وعنه - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تقوم الساعة حتى يتباهى الناسُ في المساجد" أخرجه الخمسة إلا الترمذي، وصححه ابن خزيمة (¬1). [وأورده البخاري (¬2) تعليقا عن أنس فقال: وقال أنس: "يتباهَوْن" بفتح الهاء. قال المصنف: وهذا التعليق رويناه موصولا في مسند أبي يعلى وصحيح ابن خزيمة من طريق أبي قلابة أن أنسا قال: سمعته يقول: "يأتي على أمتي زمان يتباهَوْن بالمساجد ثم لا يعمرونها إلا قليلا" (¬3) والمراد بعمارتها قليلا هو عمارتها بالذكر والصلاة] (أ) التباهي في المساجد بأن يقول واحد منهم مسجدي أحسن من مسجدك زينة وعلوًّا وغير ذلك. [وذلك بأن يتفاخروا في إحداث بناء (ب) المساجد وقد جاء في رواية أنه في حسن بنائها وفي رواية البخاري يتباهون بها أي تنقيش المساجد وكثرتها] (جـ). ¬

_ (أ) بهامش الأصل، وأعاد في جـ الكلام من قوله: قال المصنف إلى نهاية القوس. في الحديث التالي (حديث ابن عباس). (ب) ساقطة من هـ. (جـ) في هامش الأصل وهـ.

202 - وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما أمرت بتشييد المساجد". أخرجه أبو داود (¬1)، وصححه ابن حبان (¬2). تمام حديث ابن عباس قال: "لتزخرفنها كما زخرفت اليهود والنصارى"، والمراد بالتشييد: هو رفع البناء وتزيينه بالشيد وهو الجصّ، وظاهر هذين الحديثين الكراهة إن لم يكن في تمام رواية ابن عباس التشبه باليهود والنصارى دلالة على التحريم، وظاهره سواء كان المحراب وحده أو جميع المسجد، وقال أبو طالب (¬3): لا كراهة في تزيين المحراب لعمل السلف من غير نكير، وقال المنصور بالله إنه يجوز في جميع المسجد، وقال أبو مضر: يجوز من بذر المسجد، قال الإِمام المهدي في "البحر" (¬4): فأما تزيين الحرمَيْن فلم يكن برأي ذي حَلّ وعقد ولا سكوت رضي، وفي تخريبه إضاعة، فلم يغير أحد من بعد ما قد وضع، ومثله ذكر الإِمام يحيى، قال (أ): وإنما فعلها أهل الدول الجائرة من غير مؤاذنة لأَحدٍ من أهل الفضل، وسكت المسلمون والعلماء من غير رضي. وحديث ابن عباس أورده البخاري تعليقا فقال (ب): وقال ابن عباس: "لتزخرفنها. ." الحديث (¬5)، ولم يذكر البخاري المرفوع وهو قوله: "ما أمرت" إلخ للخلاف على يزيد بن الأصم (¬6) في وصله وإرساله، وقد توهم الطيبي (¬7) أن قوله: "لتزخرفنها"، من تمام الحديث، وأنه بكسر اللام تعليل لما ¬

_ (أ) في هـ: قال المصنف. (ب) في جـ وهـ: قال.

قبله، وليس كذلك وإنما هو بفتح اللام وهو (أ) جواب قَسَم. وأخرج البخاري عن نافع أن عبد الله بن عمر أخبره أن المسجد كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم مبنيا باللبن وسقفه الجريد، وعُمُده خشب النخل فلم يزد فيه أبو بكر شيئًا وزاد فيه عمر وبناه على بنيانه (ب) في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم باللبن والجريد، وأعاد عمده خشبا، ثم غيره عثمان فزاد فيه زيادة كثيرة، وبنى جداره بالحجارة المنقوشة والقَصَّة، وجعل عمده من حجارة منقوشة وسقفه بالساج" (¬1). والقَصَّة بفتح القاف وتشديد الصاد المهملة وهي الجص بلغة أهل الحجاز، وقال الخطابي (¬2): يشبه الجص وليست به. والساج نوع من الخشب معروف، يؤتى به من (جـ) الهند. قال ابن بطال (¬3) وغيره: وهذا يدل على أن السنة في بنيان المسجد القصد وترك الغلوّ في تحسينه، فقد كان عمر مع كثرة الفتوح في أيامه وسعة المال عنده لم يغير المسجد عما كان عليه، وإنما احتاج إلى تجديده لأن جريد النخل قد نخر في أيامه، ثم قال عند عمارته: "أكنَّ الناس من المطر وإياك أن تحمّر أو تصفر فيفتن الناس" (¬4) ثم كان عثمان والمال في زمانه أكثر فحسّنه بما لا يقتضي الزخرفة، ومع ذلك فقد (د) أنكر بعض الصحابة عليه، وأول من زخرف ¬

_ (أ) في جـ وهـ: وهي. (ب) في هـ: بناية. (جـ) في الأصل: في. (د) ساقطة من جـ وهـ.

المساجد الوليد بن عبد الملك بن مروان وذلك في أواخر عصر الصحابة، وسكت كثيرُ من أهل العلم عن إنكار ذلك خوفا من الفتنة، ورخص في ذلك بعضهم، وهو قول أبي حنيفة (¬1) إذا وقع ذلك على سبيل التعظيم للمساجد ولم يقع الصرف على ذلك من بيت المال. وقال ابن المنير (¬2): لما شيد الناس بيوتهم وزخرفوها ناسب أن يصنع ذلك بالمساجد صونا لها عن الاستهانة، وهو مستقيم إذا كانت العلة فيه هو ترك الرفاهية، وأما إذا كانت العلة هو شغله بال المصلي فالعلة مستمرة (¬3). 203 - عن أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عرضت عليَّ أجور أمتي حتى القذاة يخرجها الرجل من المسجد" رواه أبو داود، والترمذي، واستغربه، وصححه ابن خزيمة (¬4). ¬

_ (¬1) الهداية شرح بداية المبتدئ 1/ 650. (¬2) فتح الباري 1/ 541. (¬3) قلت: بل العلة قائمة والأولى ترك زخرفها لأن في ذلك خشوع للمصلي وزهد في الدنيا وتذكير بالآخرة وإيثار ما عند الله والباقيات الصالحات على الدنيا، والله أعلم. (¬4) أبو داود الصلاة باب في كنس المسجد 1/ 316 ح 461 (وله بقية)، الترمذي كتاب فضائل القرآن باب 19 ح 2916، الطبراني في الصغير 1/ 198. البيهقي الصلاة باب في كنس المسجد 1/ 440، ابن خزيمة باب فضل إخراج القذى من المسجد 2/ 271 ح 1297. قلتُ: وللحديث علتان: أ- أنه من رواية المطلب بن عبد الله بن المطلب بن حنطب بن الحارث المخزومي وهو صدوق كثير التدليس والإرسال قال أبو حاتم: روايته عن الصحابة مرسلة، قال محمد: لا أعرف للمطلب بن عبد الله سماعا من أحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. الميزان 4/ 129، الجرح والتعديل 8/ 359، تهذيب التهذيب 10/ 178، سنن أبي داود 5/ 179، التقريب 339. ب- فيه ابن جريج وهو مدلس وقد عنعنه قال الدارقطني شَرّ التدليس تدليس ابن جريج فإنه قبيح التدليس لا يدلس إلا فيما سمعه من مجروح. طبقات المدلسين 30. قلتُ: وروي من طريق الزهري عن أنس لكن فيه عبد المجيد بن عبد العزيز بن أبي رواد صدوق يخطئ، قال ابن حبان: متروك. التقريب 218. لكن هذه الرواية وإن كانت ضعيفة لكنها تتابع رواية المطلب عن أنس فإن الزهري روى عن أنس. التهذيب 9/ 445، 446. وللحديث شواهد أخرى منها حديث أبي ذر عند مسلم: "عرضت علي أعمال أمتي. . ." وفيه "ووجدت في مساوئ أعمالها النخاعة تكون في المسجد لا تدفن" فإنه يدل بمفهومه أن دفنها من المحاسن، والله أعلم.

القِذَى -بالقاف والذال المعجمة مقصور: جمع قذاة (أ)، وجمع الجمع أقذية، قال أهل اللغة: القذى في العين والشراب ما سقط فيه، ثم استعمل في كل شيء يقع في البيت وغيره إذا كان يسيرا. وفي الحديت دلالة على أن ذلك مما يؤجر عليه المسلم وإنْ قَلَّ وحَقُرَ. [وفيه ترغيب في تنظيف المساجد مما يحصل فيها من القمامات القليلة أنها تكتب في أجورهم، وتعرض على نبيهم صلى الله عليه وسلم، وإذا كتب هذا القليل وعرض فيكتب الكبير ويعرض من باب الأولى، ففيه تنبيه بالأدنى على الأعلى، وبالطاهر على النجس، والحسنات على قدر الأعمال، وينبغي لمن أخرج قذاة من المسجد أو أذى من طريق أن يقول عند أخذها لإِزالتها: لا إله إلا الله، ليجمع بين أدنى شعب الإِيمان وأعلاها وهي كلمة التوحيد، وبين الأفعال والأقوال، وإن جمع القلب مع اللسان كان أكمل] (ب). 204 - وعن أبي قتادة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتَيْن". متفق عليه (¬1). فيه دلالة على أن الصلاة مأمور بها لأن النبي عن الشيء أمر بالضد أو يقتضيه، والجمهور على أن ذلك أمر ندب، والقرينة على ذلك قوله، صلى الله عليه وسلم، للذي رآه يتخطى: "اجلس فقد آذيت" (¬2) ولم يأمره ¬

_ (أ) ساقطة من هـ وجـ. (ب) بهامش الأصل معلقة بورقة، وبهامش هـ.

بصلاة (أ)، وكذلك مِثل قوله، صلى الله عليه وسلم: "أفلح إن صدق" (¬1) لمن قال: لا أزيد على ذلك، [وكذا ما أخرجه ابن أبي شيبة عن الدراوردي عن زيد بن أسلم قال: "كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخلون المسجد ثم يخرجون ولا يصّلون" (¬2)، وروى حماد بن زيد قال: إذا دخلتَ المسجد فَصَلِّ فيه، فإن لم تصل فيه فاذكر الله تعالى، وهذا مثل ما قاله الغزالي -رحمه الله- وغيره: إن داخل المسجد إذا كان على غير وضوء يقول: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر] (ب). ونقل ابن بطال (¬3) عن أهل الظاهر أن الأمر على وضعه وهو الوجوب وابن حزم (¬4) (جـ) صرح بمثل قول الجمهور. وظاهر الحديث أن ذلك مشروع في جميع الأوقات لا يختص منه وقت الكراهة لإِطلاق اللفظ، ولكنه قد عارضه عموم كراهة الصلاة في الأوقات المخصوصة لمن دخل المسجد وغيره، فذهب جمع إلى تخصيص النهي وتعميم هذا الأمر وهو الأصح عند الشافعية (¬5)، وذهب جمع إلى عكسه وهو قول الحنفية والمالكية (¬6). ¬

_ (أ) ساقطة من هـ وجـ. (ب) مثبت في ورقة ملحقه بالأصل، وفي هامش هـ. (جـ) في هـ: من الظاهرية.

وظاهر الحديث أن ذلك مشروع قبل أن يجلس فإن خالف وجلس فصرح جماعة بأنه لا يشرع له التدارك (¬1)، وفيه نظر لما رواه ابن حبان في "صحيحه" من حديث أبي ذر أنه دخل المسجد فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "أَرَكَعتَ ركعتَيْن؟ " قال: لا، قال: "قُمْ فاركعهما" (¬2) وترجم عليه ابن حبان أن تحية المسجد لا تفوت بالجلوس، وكذلك ما سيأتي من قصة سُليك الغطفاني (¬3). وقال المحب الطبراني (¬4): يحتمل أن يقال: وقتها قبل الجلوس وقت فضيلة، وبعده وقت جواز، أو يُقَال: وقتهما قبله أداء وبعده قضاء، ويحتمل أن مشروعيتهما بعد الجلوس على ما إذا لم يَطُل الفصل، وقد أخرج ابن أبي شيبة حديث أبي قتادة من وجه آخر: "أعطوا المساجد حقها، قيل: وما حقها؟ قال: ركعتين قبل أن تجلس" (¬5). [وبقي الكلام فيمن يكثر تردده إلى المسجد (¬6) ويتكرر هل تتكرر عليه التحية؟ قال بعضهم: لا، وقاسه على الحطابين والفكاهين المترددين إلى مكة في سقوط الإِحرام عليهم. والحديث يدل على تكرار التحية بتكرار الدخول، قلتُ: والقول بالتكرار أولى (¬7)، وهل يدخل في ذلك من دخل المسجد ولم يجلس؟ ظاهر قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا دخل. . ." إلخ أنه يدخل في عمومه المجتاز، ونازع في ذلك ابن دقيق العيد (¬8) لظاهر قوله، صلى الله عليه وسلم: "فلا يجلس حتى يصليَ ركعتَيْن" لأنه علَّق النهي عن الجلوس بالصلاة فإذا لم يكن جلوس انتفى النهي، وقيل: وفيه نظر لأن الجلوس بخصوصه ليس هو ¬

_ (¬1) المجموع 3/ 502، 503. (¬2) ابن حبان 101 ح 322 (موارد). (¬3) في كتاب الجمعة وسيأتي تفصيل الخلاف في ذلك. (¬4) الفتح 1/ 538 وفي كتب الفقه تفصيل أكثر. انظر المجموع 3/ 502، 503، والمغني 2/ 135. (¬5) مصنف ابن أبي شيبة 1/ 340. (¬6) إحكام الأحكام 2/ 475. (¬7) المجموع 3/ 502. (¬8) إحكام الأحكام 2/ 468.

المقصود بالتعليق عليه، بل المقصود هو الحصول في بقعته كما نبه عليه إمام الحرمين، والنهي عن الجلوس إنما ذُكِرَ للتنبيه على أنه لا يشتغل بشيء غير صلاة ركعتين كما في نظيره وهي تحية البيت الحرام أو المسجد الطواف بالبيت فإنه معلّق (أ) بالحصول بالحرم (ب) لا بالجلوس. قال البرماوي: ويدل على ذلك أنه لو دخل ونام أو استمر قائما فإنه يكره له ذلك حتى يصلي، وحديث أبي داود يصرح بهذا فإنه أخرج الحديث بلفظ: "إذا جاء أحدكم. . ." إلخ، وفي رواية أخرى للحديث بزيادة: "ثم ليقعد بعد إن شاء أو ليذهب لحاجته" أخرجها أبو داود] (جـ). وقوله: "ركعتين" لا مفهوم له في جانب الكثرة، واختلف في جانب العلة والصحيح اعتباره، فلا تتأدى هذه السُّنَّة بأقل من ركعتين، وقد أخرج من عموم المسجد المسجد الحرام فتحيته الطواف وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يُصَلِّ قبلها ولا بعدها وقد يَرِد على ذلك أنه لم يصلها في مسجد. قلتُ: ولعله يجاب بأنه، صلى الله عليه وسلم، صلَّى العيد عقب وصوله قبل أن يجلس والمنهي عنه إنما هو الجلوس قبل الصلاة، وأما إذا اشتغل بصلاة ولو كانت فرضا فقد أجزته عن التحية. وقد أخرج مسلم وأصحاب السنن وابن خزيمة وابن حبان من رواية عمرو بن دينار عن عطاء بن يسار عن أبي هريرة: "إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة" (¬1) وأورده البخاري ترجمة (¬2)، ولعل ذلك منه لما اختلف ¬

_ (أ) في جـ: تعلق. (ب) في جـ، هـ: في الحرم. (جـ) بهامش هـ وبورقة ملحقة بالأصل.

على عمرو بن دينار في رفعه ووقفه. [فائدة: ويستحب لمن دخل المسجد أن يدعو بالدعاء المأثور وذلك ما رواه أبو داود عن عبد الملك بن سعيد بن سويد قال: سمعتُ أبا سعيد أو أبا أسيد الأنصاري يقول: قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: "إذا دخل أحدكم المسجد فليسلّم على النبي صلى الله عليه وسلم ثم ليقل: اللهم افتح لي أبواب رحمتك، وإذا خرج فليقل: اللهم إني أسألك من فضلك" (¬1). وقد ورد في صفة الصلاة على النبي، صلى الله عليه وسلم، عند الدخول عن أنس من رواية ابن السني: "كان رسول الله، صلى الله عليه وسلم، إذا دخل المسجد قال: بسم الله اللهم صلى على محمد، وإذا خرج قال: بسم الله اللهم صل على محمد"، وروى ابن مردويه (أ) السلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم عند دخول المسجد والخروج منه، وزاد في الموضع السلام على رسول الله اللهم صلى على محمد وعلى (ب) آل محمد] (جـ). (د عدد أحاديث الباب ستة عشر حديثًا د). آخر الجزء الثاني، ويتلوه إن شاء الله الجزء الثالث وأوله: باب صفة الصلاة والحمد لله رب العالمين ¬

_ (أ) في جـ وهـ: أنه من دون. (ب) ساقطة من هـ وجـ. (جـ) في ورقة ملحقة بالأصل، وبهامش هـ. (د، د) ساقطة من هـ وفي الأصل سبعة عشر والصحيح أنها ستة عشر حديثًا.

البدرُ التمام شرح بلوغ المرام للإمام القاضي الحسين بن محمد المغربي (1048 هـ- 1119 هـ) تحقيق علي بن عبد الله الزبن عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية قدم له فضيلة الشيخ صالح بن محمد اللحيدان رئيس مجلس القضاء الأعلى الجزء الثالث

البدر التمام شرح بلوغ المرام

حقوق الطبع محفوظة الطبعة الأولى 1424 - هـ = 2003 م

باب صفة الصلاة

باب صفة الصلاة 205 - عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: "إِذَا قمتَ إِلى الصَّلاه فأسْبغ الوضوءَ، ثم استقبل القبْلَة فكبر، ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن، ثمَّ اركع حتَّى تطمئن راكعًا، ثم ارفع حتَّى تعتدلَ قائِمًا، ثم اسْجد حتى تطمئن ساجدًا، ثم افعل ذلك في صلاتك كلها". أخرجه السبعة (¬1) واللفظ للبخاري (¬2). ولابن ماجه بإسناد مسلم: "حتى تطمئِنَّ قائمًا" (¬3) ومثله في حديث رفاعة عند أحمد وابن حبان (¬4). وفي لفظٍ لأحمد: "فأقِمْ صُلْبَكَ حتَّى تَرجِعَ العِظَامُ" (¬5). وللنسائي وأبي داود (¬6) من حديث رفاعة بن رافع: "إِنها لن (أ) تتم صلاة ¬

_ (أ) في هـ: لم، ولفظ أبي داود لا تتم، ولفظ النسائي: لم، وفي نسخة البلوغ المخطوطة: لن.

أحدكم حتى يسبغ الوضوء كما أمره الله تعالى، ثم يكبر الله ويحمده ويثنى عليه" وفيها: "فإِنْ كانَ مَعَكَ قُرآنٌ فَاقْرَأْ (أ)، وإِلا فاحْمِدِ الله وَكَبّرْهُ وَهَلّلهُ" (¬1). ولأبي داود: "ثُمَّ اقرأْ بأمِّ الكِتَابِ (ب). وَبِمَا شاءَ الله" (¬2). ولابن حبان: "ثم بما شِئتَ" (¬3). الحديث أخرجه البخاري في مواضع فمنها ما هو مختصر ذكر الوضوء، وهو في باب صفة الصلاة ويذكر في الوضوء، في باب الاستئذان من رواية ابن نمير (¬4) بلفظ "فأسبغِ الوضوء"، وفي رواية يحيى بن علي (¬5): "فتوضأ كما أمرك الله ثم تشهد وأقم"، وأخرجه النسائي (¬6) من رواية إسحاق بن أبي طلحة: "إِنَّها لَنْ تَتِمَّ صَلاةُ أحَدِكمْ حتىِ يسْبغَ الوِضوءَ كما أمره الله تعالى فَيَغْسلَ وجْهَهُ ويديه إلى المِرْفَقَيْنِ ويَمْسحَ برأَسه وِرجْلَيْه إِلى الكَعْبَيْنِ، ثمَّ يكبر الله ويَحْمَده ويمجده" وعندَ أبي داود (¬7) بدل "يمجده" "ويثني عليه". ¬

_ (أ) بهامش هـ. (ب) في الأصل: القرآن وباقي النسخ الكتاب وهو موافق لأبي داود.

وفي هذا دلالة على [وجوب] (أ) إسباغ الوضوء، فإن كان المراد به إكمال الأعضاء فهو على ظاهره، وإن كان المراد به تثليث الأعضاء مع الإكمال فلعله (ب) يحمل تمام الصلاة على إكمال الفضيلة لا على الأجر أو يتعين حمل الإسباغ على إكمال الأعضاء، ويدل عليه الرواية الأخرى بقوله: "كما أمرك الله" (¬1)، وتفصيل المأمور به ليس فيه التثليث، ويدل التفصيل أيضًا على عدم وجوب المضمضة والاستنشاق، ويصح أن يكون هذا قرينة على حمل الأمر بهما على الندب. وقوله: "ثم استقبل القبلة": فيه دلالة على وجوب ذلك، وهو مجمع عليه، وقد تقدم تفصيل ذلك (¬2) وعفوه عن الراكب. وقوله: "فكبِّر": فيه دلالة على استفتاح الصلاة بالتكبير وتعين ذلك اللفظ، ويدل على تعين هذا اللفظ (جـ) رواية الطبراني لحديث رفاعة بلفظ: "ثم يقول: الله أكبر (¬3) وحديث أبي حميد أخرجه ابن ماجه، وصححه ابن خزيمة وابن حبان: "إذا قامَ إلى الصلاة اعْتَدَلَ قائمًا ورفع يديه ثم قال: الله أكبر" (¬4) وروى البزار بإسنادٍ صحيِح على شرط مسلم عن علي رضي الله عنه قال: "إن النبي - صلى الله عليه وسلم - كَان إذَا قَام إلى الصَّلاةِ قال: الله أكبر" (¬5)، وأخرج ¬

_ (أ) بهامش الأصل. (ب) زاد في هـ: المراد به. (جـ) في جـ، هـ: هذه الألفاظ.

أحمد والنسائي من (أ) طريق واسع بن حبان أنه سأل ابن عمر رضي الله عنه عن صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "الله أكبر كُلما وَضَعَ وَرَفَع" (¬1) فهذه فيها بيان للمراد من قوله "فَكبر"، وأن المراد اللفظ لا الإتيان بما فيه معنى التكبير، وهذا (ب) قول الجمهور (¬2) وأبي يوسف (¬3) وعن الحنفية وزيد بن علي أنه يجزئ كل لفظ يفيد التعظيم كالتسبيح (¬4)، وقال أحمد بن يحيى وأبو العباس (¬5) وأبو طالب: أنه يجزئ كل ما فيه صيغة التفضيل نحو: "الله أجَلُّ وأعظَمُ"، ونحو ذلك، وقال أبو طالب (¬6): وكذا التهليل، والحجة لقول (جـ) الجمهور ما مر [وهو اتباع (د) اللفظ، وظاهره تعين التكبير ويتأيد ذلك بأن العبادات محل التعبدات (هـ) ويكثر ذلك فيها، والاحتياط فيها الاتباع (و)، وأيضًا فإن الخصوص قد يكون مطلوبًا أعني خصوص التعظيم بلفظ: "الله أكبر" لأن رتب هذه الألفاظ مختلفة. كما تدل عليه الأحاديث، فقد لا تتأتى مرتبة بما يُقْصَدُ من أخري كما أَنَّا نفهم أن الركوع المقصود منه التعظيم والخضوع، فلو أقام غيره مقامه خضوعًا لم ¬

_ (أ) في الأصل: في. (ب) في جـ: وهو. (جـ) في هـ: لقوله. (د) في هـ: إيقاع. (هـ) ساقطة من جـ. (و) في جـ: للاتباع.

يكتف به، وكما أنه شرع (أ) التكبير عند القيام والسجود، ولا يقوم غيره مقامه من التسبيح والتحميد] (ب). واختلف العلماء في تكبيرة الإحرام فقال الجمهور: إنها ركن (¬1)، وقيل: شرط، وهو عند الحنفية (¬2)، ووجه عند الشافعية، وقيل: سنة، وقال ابن المنذر: لم يقل به أحد غير الزهري (¬3). ونقله غيره عن سعيد بن المسيب والأوزاعي ومالك، ولم يثبت عن أحدٍ منهم تصريحًا وإنما قالوا فيمن أدرك الإمام راكعًا: تجزئه تكبيرة الركوع، ونقله الكرخيُّ من الحنفية عن ابن عُلَيَّةَ وأبي بكر الأصم (جـ). وقوله "ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن": فيه دلالة على وجوب قراءة القرآن في الصلاة سواء كان الفاتحة أو غيرها، ولا تتعين الفاتحة، وقد ذهب إلى هذا أبو حنيفة وأصحابه (¬4)، فتجزِئ عنده آية، وعن أبي يوسف ومحمد: آية طويلة، أو ثلاث آيات، وأجاب من أوجب الفاتحة (¬5) بأن قوله "ما تيسر" وإن أفهم ما ذكره وهو كذلك في رواية أبي هريرة، ولم ¬

_ (أ) يشرع. (ب) بهامش الأصل، وهـ. (جـ) زادت هـ في الهامش: وظاهر الأمر أن التكبير مرة واحدة، ولعله إجماع إلا ما روى عن الصادق أنه يكون سبع مرات كذا في "الأم".

يختلف الرواة فيه (أ) فقد ورد في حديث رفاعة مختلف بألفاظ ففي رواية إسحاق: "ويقرأ ما تيسر من القرآن مما علمه الله" (¬1)، وفي رواية يحيى بن علي (¬2): "فإن كان معك قرآن فاقرأ، وإلا فاحمد الله تعالى وكبره وهلله". وفي رواية محمد بن عمرو عند أبي داودة "ثم اقرأ بأُمِّ القرآن وبما شاء الله تعالى" (¬3)، ولأحمد وابن حبان من هذا الوجه (ب) "ثم اقرأ بأمِّ القرآن ثم اقرأ بما شئت" وترجم له ابن حبان (¬4): "باب فرض المصلي فاتحة الكتاب في كل ركعة"، فمع هذه الرواية المصرحة بأم القرآن: ثم اقرأ بما شئت يحمل ما تيسر علي الفاتحة، وكانت هي (جـ) المتيسرة لحفظ المسلمين لها فهي المتيسرة أو أنه عرف من حال الرجل أنه لا يحفظ الفاتحة، ومن كان كذلك وهو يحفظ غيرها فله أن يقرأه، أو أنَّ ذلك منسوخ بحديث تعيين الفاتحة أو أن المراد ما تيسر فيما زاد على الفاتحة، ولعل الرواي ذهل عن ذكر الفاتحة، ويؤيد هذا برواية أحمد وابن حبان، وأيضًا فإن في هذه الرواية زيادة وهي غير (د) معارضة مع الجمع بين الأمرين، وهذا أرجح. ويؤخذ من الحديث أنه لا يجب على من لم يحسن القراءة والتعلم وإن أمكنه بل يعدل إلي التسبيح ونحوه. ¬

_ (أ) ساقطة من جـ. (ب) زاد في جـ: تا. (جـ) في جـ: هذه وزاد في هـ: قبل. (د) ساقطة من جـ.

وأنه لا يتعين منه قدر مخصوص ولا لفظ مخصوص، وقد ورد في تعيين اللفظ حديث عبد الله بن أبي أوفى (¬1) قال: جاء رجل إلي النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: إنِّي لَا أسْتَطيعُ أنْ آخُذَ منْ القُرآن شَيْئًا فَعَلِّمني مَا يُجزئ مِنْهُ، قالَ: "قلْ سبْحانَ الله والحَمْدُ لله وَلَا إلهَ إلَّا اللهَ والله أكْبَرُ، ولا حوْلَ وَلَا قُوةَ إلَّا بالله العَليِّ العظيم" ولكن لا دلالة فيه على أنه يتعين ذلك إذ هو مَقَيَّد موافق لمطلق ولا (أ) دلالة على التقييد بمفهوم ولا منطوق والله أعلم. وقوله: "ثم اركع حتى تطمئن راكعًا": فيه دلالة على وجوب الركوع وعلى وجوب الطمأنينة في الركوع لأن قوله: "حتى تطمئن" إنما هو صفة الركوع المتمكن، فلا يتوهم المغايرة من الغاية، وفي رواية أحمد لهذا الحديث: "فَإذَا رَكَعْتَ فاجْعلْ رَاحَتَيْكَ علَى رُكْبَتَيْكَ، وامْدُدْ ظَهْرَكَ وَمَكِّنْ رُكُوعَكَ" (¬2) وفي رواية إسحاق بن طلحة: "ثمَّ يُكَبِّرُ فَيَرْكَعُ حَتَّى تطمئن مَفَاصِلَهُ وتَسْتَرْخِي (¬3). وقوله: "ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَعْتَدِلَ قَائمًا" فيه دلالة على وجوب الرفع وعلى وجوب الانتصاب قائمًا، وأما الطمأنينة في حال القيام فقال إمام الحرمين: في القلب من وجوبها شيء؛ لأنها لم تذكر في حديث المسيء صلاته ¬

_ (أ) ساقطة من جـ.

وكأنه لم يقف على ما صح فيها، ففي رواية ابن نمير عند ابن ماجه: "حتى تطمئن قائما" (¬1) من رواية ابن أبي شيبة عنه وهو على شرط مسلم، وكذا أخرجه إسحاق ابن راهوية في "مسنده" عن أبي أسامة وهو في "مستخرج أبي نعيم" من طريقه، وكذا أخرجه السراج عن يوسف بن موسى أحد شيوخ البخاري عن أبي أسامة فهو على شرط البخاري أيضًا، ومثله في حديث رفاعة عند أحمد وابن حبان، وفي لفظ لأحمد: "أَقِمْ صُلْبَكَ حَتَّى تَرْجِعَ العِظَامُ إلى مَفَاصِلهَا" (¬2) والخلاف في الرفع لأبي حنيفة (¬3) فقال: الواجب هو الركوع فقط لقوله تعالى: {ارْكَعُوا}، والجواب ما ثبت في الحديث. وقوله: "ثُمَّ اسْجُدْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ سَاجِدًا": فيه دلالة على وجوب السجود والطمأنينة فيه (أ) وفي رواية إسحاق بن طلحة: "ثم يكبر ويسجد حتى يمكن وجهه أو جبهته حتى تطمئن مفاصله وتسترخي" (¬4) وهو مجمع على وجوب السجود (¬5)، والخلاف في الطمأنينة لأبي حنيفة (¬6) قال: لقوله تعالى: {ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} (¬7) ولم يوجب ما زاد على ذلك، والجواب ما ثبت في الحديث. وقوله: "ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَطْمَئِن جَالسًا": وفي رواية إسحاق: "ثم يكبر ¬

_ (أ) زاد في هـ: هذا.

فيرفع رأسه حتّى يستوى قَاعدًا على مقعدته ويقيم صلبهُ" (¬1)، وفي رواية محمّد بن عمرو: "فإِذَا رفعت رأَسك فاجلس على فخذك اليسرى" (¬2): فيه دلالة على وجوب الرفع وعلى الطمأنينة في حال الرفع، وقال أبو حنيفة: (¬3) يكتفي بأدنى رفع ولو مقدار حد السيف، وقال مالك: يكون أقرب إلى الجلوس، وفي قوله "تجلس على فخذك اليسرى": دلالة على أنّ هيئته افتراش اليسرى ونصب اليمنى، والخلاف فيه لأحد قولي الشّافعيّ أنه يقعد على رؤوس أصابعه (¬4). وقوله "ثُمَّ اسْجُدْ حتّى تطمئن ساجدًا ثمّ افعل كذلك في صلاتك كلها": دليل على أنه لا يقعد للاستراحة حيث لا قعود للتشهد، ولكنه قد وقع في رواية ابن نمير ذكره البخاريّ في باب الاستئذان بعد السجود (أ) الثاني "ثمّ ارفع حتّى تطمئن جالسًا"، ولكن البخاريّ أشار إلى أنّ هذه ¬

_ (أ) في جـ: واو زائدة.

الزيادة وهم، فإنّه عَقَّبه بأن قال: قال أبو أُسامة (¬1) في الاُخير "حتَى تَسْتَوي قَائِمًا" ولكنه إذا كان ذلك اللّفظ محفوظًا فيحمل على القعود للتشهد، ويدلُّ عليه أنّ في رواية إسحاق: "فإذَا جَلَسْتَ في وَسَط الصَّلاة فاطْمَئن جَالسًا ثُمَّ افْتَرِشْ فَخْذَكَ اليُسْرَى ثُمّ تَشَهَّدْ" (¬2)، فذكر جلَوس التشَهد لكن رواه إسحاق ابن راهوية في "مسنده" عن أبي أُسامة كما قال ابن نمير بلفظ " ثُمَّ اسْجُدْ حتّى تَطْمَئِن سَاجدًا، ثمَّ اقعدْ حتّى تَطْمَئِن قَاعدًا، ثُمَّ اسْجُدْ حتى تَطْمَئِن سَاجدًا، ثمَّ اقْعُدْ حتّى تَطْمَئِنَ قَاعدًا، ثمَّ افعلْ ذَلِكَ في كلِّ رَكْعةٍ" (¬3). وأخرجه البيهقي من طريقه قال: وكذا قال إسحاق ابن راهويه عن أبي أُسامة، والصّحيح رواية عبيد الله بن سعيد أبي قلابة ويوسف بن موسى عن أبي أُسامة، بلفظ "ثُمَّ اسْجُدْ حتّى تَطْمَئِن سَاجدًا ثمَّ ارْفَعْ حتّى تستوي قائمًا" ثمّ ساقه من (أ) طريق يوسف بن موسى كذلك. واعلم أنه تكرر من العلماء الاستدلال بهذا الحديث على وجوب ما ذكر فيه، وعلى عدم وجوب ما لم يُذْكَرْ أنها الوجوب فللأمر بذلك، وأما عدمه فلكون المقام مقام تعليم الواجب في الصّلاة فلو لم يذكر بعض ما يجب (ب) لكان فيه تأخير البيان عن وقت الحاجة وهو لا يجوز بالإجماع، فإذا حصرت ألفاظ هذا الحديث الصحيحة أخذ منها بالزائد ثمّ إنْ عارض الوجوب أو عدمه دليل أقوي منه عُمِلَ به، وإن جاءت صيغة أمر بشيء لم ¬

_ (أ) في جـ: ثمّ. (ب) في الأصل: (ما يحجب) ولعلّه سبق قلم.

يذكر في هذا الحديث احتمل أنْ يكون هذا الحديث قرينة على حمل الصيغة على الندب واحتمل البقاء على الظّاهر فيحتاج إلى مرجح (أ) للعمل به، وقد ذكرنا الزيادات الواردة في طرق هذا الحديث. واعلم أنّ من الواجبات المتفق عليها ولم تُذْكَر في هذا الحديث: النية (¬1) والقعود الأخير (¬2)، ومن المختلف فيه التشهد الأخير (¬3). والصلاة على النَّبيِّ، - صلى الله عليه وسلم - فيه، السّلام في آخر الصّلاة (¬4). واستدل بهذا الحديث على وجوب الطمأنينة في أركان الصّلاة، وبه قال الجمهور (¬5) واشتهر عن الحنفية (¬6) أنّ الطمأنينة سنة، وصرح بذلك كثير من مصنفيهم قالوا: لأن هذا الحديث خبر آحاد، وفيه زيادة على النص وهو قوله تعالى: {ارْكَعُوا واسْجُدُوا} (¬7) وهما حاصلان بغير طمأنينة والطمأنينة زيادة والزيادة على المتواتر بالآحاد لا تعتبر، وعورض بأن ذلك ليس زيادة بل بيان للمراد بالسجود والركوع، وأنه مخالف للسجود اللغوي، وِهو وضع الجبهة على الأرض مطلقًا وكذا الركوع مجرد انحناء الظهر (ب) فَبَيَّنَت السنة أنّ المأمور به في الصّلاة ما كان على هذه الكيفية المخصوصة من التمكن، ويؤيده أنّ الآية الكريمة إنّما نزلت بعد ثبوت كون ¬

_ (أ) في جـ: ترجيح. (ب) في جـ: و.

النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - كان يصلّي ويركع ويسجد ولم يثبت أنه - صلى الله عليه وسلم - فعل ذلك بغير طمأنينة. وأما الطحاوي (¬1)، فظاهر كلامه موافقة الحنفية للجمهور في الوجوب، فإنّه ترجم: "مقدار الركوع والسجود" ثمّ ذكر حديث أبي داود في قول: "سبحان ربي العظيم" ثلاثًا في الركوع وذلك أدناه، قال: فذهب قوم إلى أنّ هذا مقدار الركوع والسجود لا يجزئ أدنى منه. قال: وخالفهم آخرون فقالوا: إذا استوى راكعًا، واطمأن ساجدًا أجزأ (أ)، ثمّ قال: وهذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد. فائدة: الرَّجل الّذي علمه النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - اسمه: خلادُ بن رافع جد علي بن يحيى راوي الحديث، وصرح ابن أبي شيبة (¬2) باسمه في روايته لحديث رفاعة، وفي رواية التّرمذيّ (¬3): "جاء رجل كالبدوي" لا ينافي ذلك لأنه شبه بالبدوي؛ لأنه أخف صلاته، ووقع في رواية النَّسائيّ (¬4) أنه صلّى ركعتين وفيه إشعار بأن الصّلاة نفل ولعلّها تحية المسجد، وفي الرِّواية المذكورة: "وقد كان النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يرمقه في صلاته" زاد في رواية إسحاق بن طلحة (¬5) ولا يدري ما يعيب منها (ب) [ووقع في رواية رفاعة بن رافع عند ¬

_ (أ) في هامش: هـ. (ب) في هـ: فيها.

ابن أبي شيبة (¬1) في هذه القصة: دخل رجلٌ فصلّى صلاةً خفيفة لم يتم ركوعها ولا سجودها، وأشار في البخاريّ إلى هذا في (أ) ترجمة الباب فقال: باب أمر النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - الّذي لا يتم ركوعه بالإعادة ثمّ أورد الحديث] (¬2) (ب) و (جـ) يؤخذ منها أنّ الدخول في النافلة يوجب إتمامها ويحتمل أنه - صلى الله عليه وسلم - عرف من حاله أنه لا يعرف استكمال الصّلاة من حيث هي فعرفه كيفية الصّلاة وإن لم يكن المقصود إلزامه بتأدية تلك النافلة ويحتمل أنها صلاة فرض، وفيه ما عرفت والحديث بكماله وقد اشتمل على فوائد وآداب فمن أراد استيفاء ذلك فليرجع إلى شروح الحديث. 206 - وعن أبي حميد الساعدي - رضي الله عنه - قال: "رأيْتُ رَسُولَّ الله - صلى الله عليه وسلم - إِذَا كَبَّرَ جَعَلَ يَدَيْه حذو منكبيه، وإذَا رَكعَ أمْكَنَ يديه مِنْ رُكبَتَيْهِ ثُمَّ هَصَرَ ظهره، فإِذَا رَفَعَ رأسَهُ اسْتَوى حَتَّى يَعُودَ كلُّ فَقَارٍ مكَانَهُ، فإِذَا سَجَدَ وَضَعَ يَدَيْه غَيْرَ مُفْترشٍ ولا قَابِضْهُما واستَقْبَلَ بأطْرَافِ أصَابِعِ رِجْلَيْهِ الْقِبْلَةَ، وإذَا جَلَسَ في الرَّكعَتَيْنِ جَلَسَ علَى رجله اليُسْرَى، ونَصَبَ اليُمْنَى وإِذَا جَلَسَ في الرَّكْعَة الأخِيرَة قَدَّمَ رجله اليُسْرَى ونَصَبَ الأخْرَى وقَعَدَ علَى مقْعَدَتِهِ" أخرجه البَخاري (¬3). ¬

_ (أ) زاد في الأصل: "كا"، ولا معنى لها. (ب) في هامش الأصل. (جـ) ساقطة من جـ، هـ.

هو أبو حُمَيد عبد الرّحمن بن سعد -ويقال: عبد الرّحمن بن عمرو (أ) بن سعد الأنصاري الخزرجي الساعدي، منسوب إلى ساعدة (¬1) وهو أبو الخزرج المدني غلب عليه كنيته. روي عنه جابر بن عبد الله والعباس بن سهل وعروة بن الزُّبير، وخارجة بن زيد بن ثابت، ومحمد بن عمرو (ب) بن عطاء، مات في آخر ولاية معاوية (¬2). و (جـ) الحديث روي عن أبي حميد قولا وروي عنه فعلا. أراه صلاة النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، والجمع بين الروايتين ممكن بالقول وبالفعل. قوله: "إِذَا كبَّرَ جعل يَدَيْهِ حَذْو منكبيه": زاد ابن إسحاق: "ثُمّ قرأ بَعْضَ القُرآن" ونحوه لعبد الحميد، فيه دلالة على أنّ ذلك من أفعال الصّلاة، وأنه مقارن للتكبيرة وهو موافق لحديث (د) وائل بن حُجْرْ (¬3) عند أبي دود (هـ) رفع يديه مع التكبيرة، والمعية تقتضي أنه ينتهي بانتهائها، وهو ¬

_ (أ) في جـ: عمر. (ب) في جـ، هـ: عمر. (جـ) الواو ساقطة من جـ، هـ. (د) في هـ: بالحديث. (هـ) زاد في جـ: و.

الّذي صححه النووي في شرح المهذب (¬1)، نقله عن نصّ الشّافعي، وهو المرجّح عند المالكية (¬2)، وصحح في الروضة (¬3) تبعًا لأصلها أنه لا حَدّ لانتهائه. وقد ورد تقديم الرفع على التكبير وعكسه أخرجهما مسلم فأخرج من حديث ابن شهاب لفظ (أ) رفع يديه ثمّ كبر (¬4)، وفي حديث مالك بن الحويرث: "كبر ثمّ رفع يديه" (¬5)، وذهب إلى تقديم الرفع على التكبير صاحب "الهداية" (¬6) من (ب) الحنفية قال: لأن الرفع نفي صفة الكبرياء عن غير الله تعالى، والتكبير إثبات ذلك له والنفي سابق على الإثبات كما في كلمة الشّهادة. وهذا منه بناء على أنّ هذه (جـ) الحكمة في الرفع، وقال غيره: الحكمة في الجمع بين التكبير والرفع في افتتاح الصّلاة أن يراه الأصم ويسمعه الأعمى، وقيل معنى الرفع: الإشارة إلى طَرْح الدنيا والإقبال بكليته على العبادة، وقيل إلى الاستسلام والانقياد ليناسب فعله قوله: "الله أكبر" وقيل: إلى استعظام ما دخل فيه، وقيل: إلى تمام (د) ¬

_ (أ) ساقطة من جـ، هـ. (ب) في جـ، هـ: و. (جـ) في الأصل وهـ: هذا. (د) في هـ: إتمام.

القيام، وقيل: إلى رَفْعِ الحجاب بين العبد والمعبود، وقيل: ليستقبل بجميع بدنه. قال القرطبي (¬1): هذا أنسبها. وقال الربيع قلت: للشافعي: ما معنى رفع اليدين؟ قال: تعظيم الله واتباع سنة نبيه - صلى الله عليه وسلم -. ونقل ابن عبد البرّ (¬2) أنه قال: رفع اليدين من زينة الصّلاة. وعن عقبة بن عامر قال: "لكل رفع عشر حسنات وكل (أ) إصبع حسنة"، ولم يقل أحد بتقديم التكبير على الرفع (¬3) واختلف العلماء في حكم الرفع فقال النووي (¬4): أجمعت الأمة على استحبابه، وهو منقوض بأن داود وأحمد بن سيار (ب) قالا بوجوبه ونقله القرطبي (¬5) في أوائل تفسيره عن بعض المالكية، وهو مقتضي قول ابن خزيمة أنه رُكن، واحتج له بمواظبة النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، على فعله، وقد قال: "صَلُّوا كَمَا رَأَيِتُمُوني أُصَلي". [وقال بالوجوب أيضًا الأوزاعي والحميدي شيخ البخاريّ، وحكاه القاضي حسين عن الإمام أحمد (¬6). ¬

_ (أ) في جـ، هـ: بكل. (ب) في جـ: يسار

وقال ابن عبد البرّ: كلّ مَنْ نقل عنه الإيجاب لا يبطل الصّلاة بتركه، إلا في رواية عن الأوزاعي والحميدي، ونقل بعض (¬1) الحنفية عن الإمام أبي حنيفة أنه يأثم تاركه] (أ)، وقد تؤول قول النووي بأنه أراد إجماع من سلف قبل المخالفين، أو أنّ الاستحباب لا ينافي الوجوب. وقال ابن عبد البرّ: أجمع العلماء على جواز رفع اليدين عند افتتاح الصّلاة، وهو منقوض بما تقدّم والجواب كما تقدّم. قال المصنِّف رحمه الله تعالى (¬2) -: ونقل العبدريّ عن الزيدية أنه لا يرفع (ب)، قال: وفي رواية عن مالك أنه لا يستحب، نقله صاحب: "التبصرة" منهم، وحكاه (جـ) الباجيّ عن كثيرٍ مِنْ متقدميهم، انتهى كلامه. وأقول: وفي حكايته عن الزيدية الجميع نظر فإن القول بعدم الرفع إنّما هو للهادي ورواية عن القاسم (¬3)، وقال زيد بن علي (¬4) والمؤيد بالله ورواية عن القاسم، والناصر والإمام يحيى: يستحب رفع اليدين للافتتاح، واحتج القائلون به بهذا الحديث وغيره من سائر الأحاديث الواردة في ذلك من الطرق الصحيحة المعتبرة، حتّى قال المصنِّف رحمه الله (¬5): عددت من روى ¬

_ (أ) في هامش الأصل: وفيه بعض المحو واستدركته من نسخة هـ. (ب) زاد في هامش جـ (ولا يعتد بخلافهم)، وهي موجودة في الفتح 2/ 219. (جـ) في جـ: وحكى.

رفع اليدين في ابتداء الصّلاة خمسين صحابيا، منهم العشرة المشهود لهم بالجنة. وروى البيهقي عن الحاكم قال: لا نعلم سنة اتفق على روايتها عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الخلفاء الأربعة، ثمّ العشرة الشهود لهم بالجنة فمن بعدهم من أكابر الصّحابة على تفرقهم في البلاد (أ) الشاسعة غير هذه السنة. قال البيهقي: هو كما قال أستاذنا أبو عبد الله. وقد صنف السبكي في ذلك كتابًا ونسب إلى الزيدية إنكار ذلك وفيه ما عرفت، وقد رواه أبو خالد الواسطي في مجموع عن (ب) زيد بن عليّ، ورواه محمّد بن منصور في أمالي أحمد بن عيسى من حديث أنس ومن حديث وائل بن حجر، ورواه أيضًا عن القاسم واحتج المانعون للرفع بحديث جابر بن سَمُرَة أخرجه مسلم قال: "خرج علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "مَا لِي أرَاكُمْ رَافعِي أيْدِيَكُمْ كأَنَّهَا أذْنَابُ (جـ) خَيْلٍ شُمْسٍ اسْكُنُوا فِي الصَّلاةِ" (¬1). [وشُمَّسٍ: جمع شموس وهي النفور من الدواب التي لا تستقر لشغبه وحدته، كذا في "النهاية" (¬2)، وقال النووي في "شرح مسلم" (¬3) شمس: بإسكان الميم وضمها -وهي التي لا تستقر بل تضطرب وتتحرك بأذنابها ¬

_ (أ) في هامش هـ. (ب) في هـ ساقط: (عن). (جـ) في ب: أذيال.

وأرجلها] (أ) فدل الحديث على النهي عن ذلك فكان ناسخًا لما ثبت من الرفع. وأجاب الأولون بأنَّ أصل هذا الحديث الّذي أخرجه مسلم (¬1) قال: "كُنَّا إِذَا صَلَّينَا مَعَ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قُلْنَا: السَّلامُ عليكم ورحمة الله، السَّلَامُ عليكم ورحمة الله، وَأشار بيده إلى الجانبين فقال لهم النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - "علام تومئون بأيديكم كانها أذناب خيل شمس، إنّما يكفي أحدكم أنّ يضع يده على فخذه ثمّ يسلم على أخيه من عن يمين ومن عن شمال". وفي رواية: "إِذَا سلم أَحدُكُمْ فلْيَلتَفِتْ إلى صَاحِبِه ولا يُوُمئ بيديه" (¬2). وقال ابن حبّان: تقدّم (ب) ذكرُ الخبر المقتضي للقصة المتقدمة المختصرة بأن القوم إنّما أمروا بالسكون في الصّلاة عند الإشارة بالتسليم دون الرفع الثابت عند الركوع، ثمّ رواه (جـ) كنحو رواية مسلم. قال البخاريّ (¬3): من احتج بحديث جابر بن سمرةَ على منع الرفع عند الركوع فليس له حظ من العلم، هذا مشهور، لا خلاف، إنّما كان في حال التشهد. وأجاب الإمام المهدي في "البحر" (¬4) عن هذا قال: وحملهم إياه على ¬

_ (أ) مثبت: بهامش الأصل. (ب) هـ: بعد. (جـ) في جـ: ثمّ روي، وساقطة من هـ.

الإشارة عند التسليم بعيد إذ قال "أيْدِيَكُمْ" ولم يقل "أَصَابِعَكمْ" ولضعف التشبيه معه انتهى (¬1). وهو يريد أنّ تشبيه الأيدي بأذناب الخيل الشّمس في حال الإشارة وقت السّلام ضعيف لبُعْد المشابهة، بخلاف رفعها عند التكبير فهو ظاهر وجه الشبه، وهو محل تأمَل، والله أعلم. وقوله: "حَذو منكبيه" -بفتح الحاء المهملة وسكون الذال المعجمة أي: مقابلها، والمَنْكب مجمع عظم العضد والكتف (¬2)، وبهذا أخذ الشّافعيّ (¬3) والجمهور، وذهب الحنفية (¬4) إلى أنه ترفع حتّى تحاذي بهما فروع أذنيه لحديث مالك بن الحويرث الآتي (¬5)، وعند أبي داود من حديث وائل بن حجر بلفظ: "حَتَّى حَاذَتَا أُذُنَيْهِ" (¬6)، ورجح الأوّل بكون إسناده أصح، وروي أبو ثَوْر عن الشّافعيّ أنه جمع بينهما، فقال: يحاذي بظهر كفيه المنكبين وبأطرافِ أنامله الأُذُنَين (¬7)، ويؤيده رواية أخرى عن وائل عند أبي داود: "حتّى كَانتْ حيَالَ مَنْكَبَيْه وحَاذَي بإبْهَامِيهِ أُذُنَيْهِ" (¬8)، وبهذا قال المتأخرون من المالكية فيما حكاه ابن سابق في "الجواهر"، لكن روي مالك عن نافع عن ابن عمر أنه كان يرفع يديه حذو منكبيه في الافتتاح ¬

_ (¬1) بل رواية مسلم المتقدمة تدل على خلاف ما قال المهدي في البحر، وأن المراد عند السّلام. (¬2) مختار الصحاح 47. (¬3) المجموع 3/ 243، وعند أحمد أنه يتخير بينهما ولا فضيلة لأحدهما، المغني 1/ 470. (¬4) الهداية 1/ 280. (¬5) وهو: أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا كبر رفع يديه حتّى يحاذي بهما أذنيه، وإذا ركع ... وإذا رفع رأسه ... ، فعدل مثل ذلك" مسلم 1/ 294 ح 25 - 391 م. (¬6) أبو داود 1/ 465 ح 726. (¬7) المجموع 1/ 247، فقه أبي ثور 214. (¬8) أبو داود 1/ 464 ح 723.

وفي غيره دون ذلك (¬1) أخرجه أبو داود (¬2). ويعارضه قول ابن جُرَيْج: قلت لنافع: كان ابن عمر يجعل الأولى أرفعهما؟ قال: لا (¬3)، ذكره أبو داود أيضًا، وقال: لم يذكر رفعهما دون ذلك غير مالك فيما أعلم، والله أعلم. فائدة: لم يَردْ ما يدلُّ على التفرقة في الرفع بين الرَّجل والمرأة، وعند الحنفية (¬4): يرفع الرَّجل إلى الأُذُنَين والمرأة إلى المنكبين لأنه أستر لها (¬5). وقوله "أمْكَنَ يَدَيْه مِنْ رُكْبَتَيْه" في رواية أبي داود "كأنه قابض عَلَيْهِما" (¬6) وهذا تفسير الإمكان. وقوله "ثُمَّ هَصر ظهره" (¬7) بالهاء والصاد المهملة المفتوحتين "أي ثَنَاهُ في استواء من غير تقويس ذكره الخطابي (¬8)، وفي رواية الكشميهني "ثُمَّ حَنَى" -بالحاء المهملة والنون وهو بمعناه، وفي رواية عيسى: "غَيْرَ مُقْنِع رَأَسَهُ ولَا مُصَوِّبه" ونحوه (¬9) لعبد الحميد ولأبي داود في رواية ابن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب، "وفَرَّجَ بين أصَابِعِهِ" (¬10). ¬

_ (¬1) الموطَّأ 70. (¬2) أبو داود 1/ 475، ح 742، وقال: لم يذكر رفعهما دون ذلك أحد غير مالك. (¬3) أبو داود 1/ 474 - 475 ح 741. (¬4) الهداية 1/ 46 - 47. (¬5) قال الشوكاني: اعلم أنّ هذه السنة يشترك فيها الرجال والنساء ولم يرد ما يدلُّ على الفرق بينهما، وكذا لم يرد ما يدلُّ على الفرق ببن الرَّجل والمرأة في مقدار الرفع، ويروى عن الحنفية أنّ الرَّجل يرفع إلى الأُذُنَين والمرأة إلى المنكبين ولا دليل على ذلك. النيل، 4/ 198. (¬6) أبو داود 1/ 471 ح 734. (¬7) هصر الغصن، أخذ برأسه فأماله إليه. مختار الصحاح 204. (¬8) وفي معالم السنن (هصر ظهره) ثنى ظهره وخفضه 1/ 357. (¬9) و (¬10) أبو داود 1/ 467 ح 730، 1/ 468 ح 731.

وقوله: "فإذَا رَفَعَ رَأْسَهُ اسْتَوَى": زاد عيسى عند أبي داود فقال: "سَمِعَ الله لمَنْ حَمدَه اللَّهُمَّ رَبَنَّا لَكَ الْحَمْدُ، ورفع يديه" (¬1) ونحوه لعبد الحميد وزادَ "حتى يحاذي بِهِمَا منكبيه مُعْتَدِلا" (¬2). وقوله: "حَتى يَعُودَ كلّ فَقَارٍ مَكَانَهُ": الفقار (¬3) -بفتح الفاء والقاف- جمع فقارة وهي عظام الظهر وهي العظام التي يقال لها خرز الظهر، قاله الفراء، وقال ابن سيده (¬4): هي من الكاهل إلى العَجْب، وحكى ثعلب عن نوادر ابن الأعرابي "أنّ عدتها سبع"، وفي أمالي الزجَّاج: أصولها سبع غير التوابع، وعن الأصمعي: هي خمس وعشرون؛ سبع في العنق وخمس في الصلب وبقيتها في أطراف الأضلاع. وحُكى في: "المطالع" أنه وقع في رواية الأصيلي: بفتح الفاء وكسرها، ولابن السكن بكسرها، والصواب بفتحها. (أقال المصنِّف -رحمه الله (¬5) وفي روايتنا قفار بتقديم القاف على الفاء وكذا للأصيلي، وعند الباقين بتقديم الفاء كرواية يحيى بن بكير، لكن ذكر صاحب "المطالع" أنهم كسروا الفاء، وجزم جماعة من الأئمة بأن تقديم القاف تصحيف، وقال ابن المُنَيِّر: لم يتبين لي وجهه (أ) انتهى. ¬

_ (أ - أ) الفقرة متأخرة في الأصل، وهـ (حتّى يقع كلّ عظم موضعه) في الصفحة التالية.

والمراد بذلك كمال الاعتدال تفسره رواية هشيم عن عبد الحميد: ثمّ يمكث قائما حتّى يقع كلّ عظم موقعه (¬1). وقوله "غير مفترش": أي لهما، ولابن حبّان: "غير مفترش ذراعيه" وهي مفسرة. وقوله "ولا قابضهما": أي بأن يضمهما إليه. وقوله: "فإذا جلس في الركعتين": أي في الأوليين ليتشهد. وقوله "وإذا (أ) جلس في الركعة الأخيرة" إلخ فيه دلالة قوية للشافعي (¬2) ومن يقول بقوله إن هيئة الجلوس في التشهد الأوّل مغايرة لهيئة الجلوس في الأخير، وخالف في ذلك المالكية والحنفية (¬3) فقالوا: يسوّي بينهما، لكن قال المالكية: يتورك فيهما كما جاء في التشهد الأخير، ويقاس عليه الأوسط، وعكسه الآخرون، وهو قول الهادي (¬4) والقاسم والمؤيد بالله وزيد بن عليّ لثبوت ذلك في الأوسط، قالوا: وتوركه - صلى الله عليه وسلم - في الأخير بيان للجواز لطوله، [والتورك: هو أنّ يفضي بوركه إلى الأرض وينصب رجله اليمنى] (ب) (¬5). وقد قيل في حكمه المغايرة بينهما أنه أقرب إلى عدم اشتباه عدد ¬

_ (أ) في هـ: فإذا. (ب) بهامش الأصل، وفيه بعض المحو واستدركته من نسخة هـ.

الركعات، ولأن الأوّل تعقبه حركة بخلاف الثّاني، ولأن المسبوق إذا رآه علم قدر ما سبق به، واستدل به الشَّافعيُّ على أنّ حُكْمَ تشهد صلاة الصُّبح حكم الأخير لعموم قوله "الركعة الاخيرة" (¬1)، واختلف فيه قول أحمد، والمشهور عنه اختصاص التورك بما فيه تشهدان. 207 - وعن عليّ بن أبي طالب - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَنَّهُ كانَ إِذَا قَامَ إِلى الصَّلاة قال: "وَجَّهْت وجهي" إِلى قوله "من المُسْلمين، اللهُمَّ أنت الملك لا إِله إِلا أنت، أنت ربي وأنا عَبْدُكَ" إِلى آخره". رواه مسلم (¬2). وفي رواية له أنّ ذلك في صلاة اللّيل (¬3). تمامه: "ظلمتُ نفسي، واعترفت بذنبي، فاغفر لي ذنوبي جميعًا، إنّه لا يغفر الذنوب إلا أنت، واهدني لأحسن الأخلاق، لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عني سيئها لا يصرف عني سيئها إلا أنت، لَبَّيْكَ، وسعدَيْك، والخير كله في يديك، والشر ليس إليك، أنا بك وإليك، تباركت وتعاليت، أستغفرك وأتوب إليك". ¬

_ (¬1) واستدل الشّافعيّ بقوله في حديث أبي حميد: "في الركعة الأخيرة، واستدل الحنابلة بقوله في الحديث "فإذا جلس في الركعتين جلس على رجله اليسرى ونصب اليمنى"، المجموع 3/ 394، والمغني 1/ 533. (¬2) مسلم، صلاة المسافرين وقصرها، باب الدُّعاء في صلاة اللّيل وقيامه 1/ 534 ح 201 - 771، أبو داود و (نحوه) الصّلاة، باب ما يستفتح به الصّلاة من الدُّعاء 1/ 481 ح 760، التّرمذيّ، الدعوات، باب ما جاء في الدُّعاء عند افتتاح اللّيل 5/ 485 ح 3421، النَّسائيُّ، الافتتاح، نوع آخر من الذكر والدعاء بين التكبير والقراءة 2/ 100 - 101، وابن ماجة مختصرًا، إقامة الصّلاة، باب سجود القرآن 1/ 335 ح 1054، ابن خزيمة في الصّلاة، باب ذكر الدُّعاء بين تكبيرة الافتتاح والقراءة 1/ 235 - 236 ح 462 - 463 - 464، أحمد 1/ 94 - 95. (¬3) لم أقف عند مسلم على أنّ ذلك في صلاة اللّيل من حديث علي، وأخرجه مسلم من حديث عائشة 1/ 534 ح 200 - 770.

وإذا ركع قال: "اللَّهُمَّ لك ركعت وبك آمنت، ولك أسلمت، خشع لك سمعي، وبصري، ومخي، وعظم، وعصبي". وإذا رفع رأسه قال: "اللَّهُمَّ رَبَّنَا لك الحمد، ملء السموات وملء والأرض (أ)، ملء ما شئت من شيء بعد". وإِذا سجد قال: "اللَّهُمَّ لك سجدت، ولك آمنت، ولك أسلمت، سَجَد وجهي للذي خلقه وصوره، وشق سمعه وبصره فتبارك الله أحسن الخالقين". ثمّ يكون (ب) آخر ما يقول بين التشهد والتسليم: اللَّهُمَّ اغفر لي ما قدمت وما أخرت وما أسررت وما أعلنت، وما أسرفت، وما أنت أعلم به مني، أنت المقدم وأنت المؤخر لا إله إلا أنت. وروى هذا الحديث أحمد والترمذي وصححه. معنى "وَجَّهْتُ وَجْهِيَ": قصدتُ بعبادتي. "وفطر السموات والأرض" أي (جـ): ابتدأ خلقهما من غير مثال سابق، وجَمَعَ "السموات" ووحد "الأرض" في هذا وفي غيره، قيل لأن النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أُسْرِي به ووطئَها بقدميه، وأما الأرض فلم يطأ بقدمه (د) إلا العلّيا فشرفت بذلك، أو (هـ) لأن "السموات" محل الملائكة ولم يثبت في سائر الأرضين مثل ذلك ولذلك كانت السموات أفضل. وقد قيل إن الأرضين ¬

_ (أ) ساقطة من هـ. (ب) زادت هـ من (ثمّ يكون من). (جـ) ساقطة من جـ. (د) زاد في هـ: منها. (هـ) في هـ: و.

السبع لها سكن فروى البيهقي (¬1) عن أبي الضحى عن ابن عبّاس أنه قال: في قوله {وَمِنَ الأرْضِ مِثْلَهُنَّ} (¬2) قال: "سبع أرضين في كلّ أرض نبي كنبيكم وآدم كآدمكم ونوح كنوحكم وإبراهيم كإبراهيمكم وعيسى كعيساكم" (أ). ثمّ قال: إسناد هذا الحديث عن ابن عبّاس صحيح، غير أني لا أعلم لأبي الضحى متابعًا. و"حنيفًا": قال الأكثرون معناه مائلا إلى الدين الحق وهو الإسلام، والحنف (ب): الميل ويكون في الخير والشر، وقيل المراد بالحنيف هنا المستقيم، قاله الأزهري وغيره. وقال أبو عبيد: الحنيفية عند العرب: من كان على دين إبراهيم. وقوله "وما أنا من المشركين" بيان للحنيف وإيضاح لعناه، والمشرك يطلق على كلّ كافر من عابد وثن وغيره. وقوله (جـ): "إن صلاتي ونسكي": النسك: العبادة (¬3) وكل ما يتقرب به إلى الله تعالى، وهو مِن عطف العام على الخاص، والنسيكة في ¬

_ (أ) في هـ: كعيسايكم. (ب) في جـ: والحنيف. (جـ) في هـ: وكقوله.

الأصل: الفضة المذابة المصفاة من كلّ خلط. وقوله: "ومحياي ومماتي": أي حياتي، ويجوز فتح الياء وإسكانها، والأكثر على فتح ياء "محياي". وقوله "لله": اللام لام الملك والاختصاص، وكلاهما مراد هنا. وقوله "رب العالمين": في معنى الرب (¬1) أربعة أقوال: المالك والسيد والمدبر والمربي (أ)، فعلى الأولين هو صفة ذات، وعلى الأخيريْن صفة فِعْل ومتى دخلت عليه اللام اختص بالله سبحانه [وقد أطلق على غيره نادرًا مع القرينة كقول ابن حِلِّزة: وهو الرب والشهيد على يو ... م الحيارين والبلاء بلاء (¬2)] (ب) "والعَالَمين": جمع عَالَم، والعالم مشتقٌّ من العلم وهو اسم لجميع المخلوقات يعني أنه يصح إطلاقه على جميع (جـ) الأجناس، فيقال: عالم الملك وعالم الإنس وعالم الجن وعالم الأفلاك وعالم النبات إذا كان المراد بعالم ما يُعْلمُ به الخالق. وإن كان المراد به من يَعْلَمُ كان مختصا بالمَلك والثَّقَلين، ويتناول غيرهم على جهة الاستتباع. وقيل: عنى به هنا الإنس وحدهم لأن كلّ واحد منهم يشتمل على ¬

_ (أ) في هـ: والمربي والمدبر. (ب) بهامش الأصل. (جـ) ساقطة من هـ.

نظائر ما في العالم الكبير من الجواهر والأعراض يعلم بها الصانع، ولذلك (أ) رود عن عليّ، رضي الله عنه: (¬1). أتحسب أنك جرم صغير ... وفيك انطوى العالم (ب) الأكبر وقال الله تعالى: {وفي أنفسكم أفلا تبصرون} (¬2). وأما جمعه مع القول بشموله في حال التعريف فلدلالته (جـ) على أنّ القصد إلى الإفراد دون الحقيقة. وقوله: "لَا شَرِيكَ له": تأكيد لقوله: و (د) "لله رَبِّ العَالَمِينَ" المفهوم منه معنى الاختصاص. وقوله: "وأنَا أولُ المسلمين" أي من هذه الأمة، وفي رواية لمسلم: "وأنا من المسلمين" (¬3). وقوله "اللَّهُمَّ أنت المَلِكُ" أي القادر على كلِّ شيء المالك لجميع المخلوقات. وقوله "ظَلَمْتُ نَفْسِي": اعتراف بالتقصير، قدَّمه على سؤال المغفرة أدبًا. وقوله: "اهدني": أي: أرشدني ووفقني للتخلق بها. وقوله: "سيئها": أي: قبيحها (هـ). ¬

_ (أ) في جـ: وذلك. (ب) في جـ: العلم. (جـ) في جـ: فلدلالة. (د) الواو ساقطة من هـ، جـ. (هـ) في هـ: قبيحا.

وقوله: "لَبَّيْكَ" مصدر مثنى مضاف من لَبِّ بالمكان أي أقام، أو من أُلب ومعناه، أنا مقيم على طاعتك وامتثال أمرك إقامة متكررة، أو من اللُّباب أي: الخالص؛ أي مخلص في عبادتك وتوجهي إليك، أو بمعنى اتجاهي وقصدي إليك. وقوله "سَعْديك" ومعناه أي أسعد أمرك وأتبعه إسعادًا متكررًا، وهو كذلك مصدر مثنى مضاف. وقوله: "الخير كله في يديك، والشر ليس إليك": ومعناه: أنّ الفواضل والآلاء كلها من إنعامك على عبادك، والمزيد ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، كله بيديك والشر ليس إليك، قال الخليل بن أحمد والنضر بن شميل وإسحاق بن راهويه ويحيى بن معين وأبو بكر بن خزيمة والأزهري (أ) وغيرهم: معناه: لا يتقرب به إليك. وقال المزني كما حكاه عنه الشّيخ أبو حامد معناه: لا يضاف إليك على جهة الانفراد، فلا يقال: يا خالق القردة والخنازير، ولا يا رب الشر. وإن كان هو خالق كلّ شيء، وإنّما يدخل على جهة العموم (ب) بأن يقال خالق كلّ شيء. وقيل معناه: والشر لا يصعد إليك، وإنّما يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح. وقيل: معناه: والشر ليس مضافًا ومعدودًا، ومنتهيًا نسبته إليك، كما يقال: "فلان إلى بني فلان" إذا كان عداده فيهم، ويحتمل أنّ يكون معناه: والشر ليس إليك؛ أي ليس ما أوجدته شرًّا بل كلّ ما فعلته ¬

_ (أ) في جـ: الزّهريُّ. (ب) في جـ: بأنه.

وأوجدته فهو خير، وكون فيه مضرة للغير ليس هو بشر باعتبار عاقبته المحمودة وما تضمن من الحكمة البالغة. وقوله: "أنا بك وإليك": أي التجائي إليك وانتمائي إليك وتوفيقي بك. وقوله: "تباركت": أي استحققت الثّناء، أو معناه: ثبت الخير عندك. وقوله: "ملء السموات" إلخ .. بكسر اليم، وهو منصوب صفة مصدر (أ)، محذوف، ويجوز رفعه خبرًا لمبتدأ محذوف، والأظهر النصب ومعناه: حمدًا لو كان أجسامًا لملأ السموات والأرض لعظمه، وهو من باب الاستعارة بالكناية شبه الحمد الصادر منه الكبير بالأجسام المتكاثرة المالئة للسموات والأرض فاستغنى عن ذكر ما يدلُّ على ذلك، بما يلزم تلك الأجسام وهو شغل الحيز الوسيع. وقوله "سجد وجهي": يحتمل أن يراد به الذات، ويحتمل أن يراد به حقيقة الوجه، فيستدل به على الوجه الأخير على أنّ الأُذُنَين من الوجه. وقوله: "أحسن الخالقين": أي: المقدِّرين أو المصورين. وقوله "أنت المقدم": أي: تقدّم مَنْ شئت بطاعتك وغيرها وتؤخر من شئت عن ذلك كما تقتضيه حكمتك. وهذا الحديث يدلُّ على أنه يستحب الاستفتاح بهذا وسائر ما ذكر في أركان الصّلاة، ورواية أنّ ذلك في صلاة اللّيل لا ينافي الاستحباب مطلقا، والله أعلم. 208 - وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: "كان رسول الله إِذا كبر في الصّلاة سكت هنيهة قبل أنّ يقرأ. فسألته فقال: أقول: اللَّهُمَّ ¬

_ (أ) في جـ: مقدرة.

باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب. اللَّهُمَّ نقني من خطاياي كما يُنَقَّى الثوبُ الأبيض من الدنس، اللَّهُمَّ اغسلني من خطاياي بالماء والثلج والبرد" متفق عليه (¬1). قوله "سكت" المراد بالسكوت هنا هو ترك الجهر بالقراءة. وقوله: "هنيهة" هكذا في رواية الكشميهني (¬2) للبخاري، وهي رواية إسحاق والحميدي في مسنديهما (أ) عن جرير والهاء مقلوبة من الياء وأصلها هنية تصغير هيوة (ب)، اجتمعت الواو والياء، والياء ساكنة فقلبت الواو إليها فقيل: هنية وهي الثابتة عند الأكثر، وذكر عياض (¬3) والقرطبي أنّ أكثر الرواة قالوه بالهمز، وقال النووي (¬4): الهمزة خطأ. وقوله " باعد": المراد بالمباعدة: محو ما حصل منها والعصمة عما ¬

_ (أ) في جـ: مسندهما. (ب) في هـ: بالهمزة.

سيأتي منها، وهو مجاز عن (أ) عدم اجتماعه بالخطايا كعدم اجتماع الشرق والغرب إذ الاجتماع حقيقة إنّما هو بين أجسام، كما في المشبّه به، والمراد أنّ لا يبقي لها منه اقتراب بالكلية، وأعاد "بين" في المعطوف لئلا تعطف على الضمير المجرور من دون إعادة الخافض. وقوله "نقني": مجاز عن زوال الذنوب ومحو أثرها، ولما كان الدنس في الثّوب الأبيض أظهر من غيره وقع التشبيه به. وقوله: "بالماء والثلج والبرد" قال الخطابي (¬1) ذكر الثلج والبرد تأكيدًا، ولأنهما ماءان لم تستعملهما الأيدي ولم يمتهنهما الاستعمال. وقال ابن دقيق العيد (¬2): عبر بذلك عن عامة المحو، فإن الثّوب الّذي تتكرر عليه ثلاثة أشياء مُنَقِّية يكون في غاية النقاء. قال: ويحتمل أنّ يكون المراد أنّ كلّ واحد من هذه الأشياء مجاز عن صفة يقع بها المحو، وكأنه كقوله تعالى: {وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا} (¬3). و (ب) قال الطيبي (¬4): المراد من ذكر الثلج والبرد بعد الماء شمول الرّحمة والمغفرة بعد العفو، لإطفاء حرارة عذاب النّار الّتي هي في غاية الحرارة، ومنه قولهم: بَرَّدَ الله مضجعه؛ أي رحمه الله ووقاه عذاب النّار، انتهى. ¬

_ (أ) في جـ: على. (ب) الواو ساقطة من جـ.

ويؤيده ورود وصف الماء بالبرودة في حديث عبد الله بن أبي أوفى. عند مسلم (¬1) وكأنه جعل الخطايا بمنزلة جهنم، لكونها مسببة عنها فعبر عن إطفاء حرارتها بالغسل وبالغ فيه باستعمال المبردات ترقيا عن الماء إلى أبرد منه (¬2). وقال التوربشتي (¬3): خصَّ هذه الثّلاثة بالذكر لأنها منزلة من السَّماء. وقال الكرماني (¬4): يحتمل أنّ يكون في الدعوات الثلاث إشارة إلى الأزمنة الثّلاثة، فالمباعدة للمستقبل والتنفية للحال والغسل للماضي انتهى. وكان تقديم المستقبل للاهتمام بدفع ما سيأتي قبل رفع ما حصل. وفي الحديث دلالة علي مشروعية السكوت للمصلّي، ونقل ابن بطّال (¬5) عن الشّافعيّ أنّ سبب هذه السكتة للإمام أنّ يقرأ المأموم الفاتحة، ودفعه بأنه لو كان كذلك لقال في الجواب: أسكت ليقرأ من خلفي والنقل هو غير معروف عن الشّافعيّ ولا عن أصحابه، إلا أنّ الغزالي قال في "الإحياء" (¬6): إن المأموم يقرأ الفاتحة إذا اشتغل الإمام بدعاء الافتتاح، وقال ¬

_ (¬1) مسلم 1/ 346 - 347 ح 204 - 476 م. (¬2) انظر كلام ابن حجر في الفتح 2/ 230. (¬3) الفتح 2/ 230. (¬4) الكرماني 5/ 112. (¬5) الفتح 8/ 229 - 230. (¬6) قال: إن كان خلف الإمام اختصر إن لم يكن للإمام سكتة طويلة يقرأ فيها ثمّ يقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، ثمّ يقرأ الفاتحة يبتدئ فيها ببسم الله الرّحمن الرحيم 1/ 150.

المتولي (1) أنه يكره تقديم المأموم قراءة الفاتحة على الإمام، ووجه (أ) أنّ فراغ المأموم من قراءة الفاتحة قبل الإمام يبطل صلاته (2)، والمعروف عن الشّافعيّ أنّ المأموم يقرؤها في سكتة الإمام بين الفاتحة والسورة. وفي الحديث دلالة على مشروعية (ب) الدُّعاء بين التكبير والقراءة خلافًا للمشهور عن مالك (¬3)، وقد ورد فيه الحديث المتقدم عن علي رضي الله عنه، وقد أخرجه الشّافعيّ وابن خزيمة وغيرهما بلفظ "إذا صلّى المكتوبة .. " (¬4)، واعتمده الشّافعيّ في "الأم" (¬5). ثمّ هذا الدُّعاء صدر منه - صلى الله عليه وسلم - على سبيل المبالغة في إظهار العبودية، وقيل قاله على سبيل التعليم لأمته، واعترض بأنه لو أراد ذلك لجهر به، وأجيب بأنه قد ورد الأمر بذلك في حديث سمرة عند البزار (¬6). وفيه (جـ) ما كان الصّحابة عليه من المحافظة على تتبع أحوال النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - في حركاته وسكناته وإسراره وإعلانه حتّى حفظ الله تعالى بهم الدين، ¬

_ (أ) غير واضحة في هـ ولعلّها: ووجهه. (ب) زاد في هـ: تقديم. (جـ) ساقطة من هـ.

وهذا حديث أبي هريرة أصح ما ورد في هذا. 209 - وعن عمر - رضي الله عنه - أنه كان يقول: "سبحانك اللَّهُمَّ وبحمدك تبارك اسمك، وتعالى جدك، ولا إِله غيرك" رواه مسلم بسند منقطع، والدارقطني موصولا وهو موقوف (¬1). ونحوه عن أبي سعيد مرفوعًا عند الخمسة وفيه: "وكان يقول: بعد التكبير "أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، من همزه ونفثه ونفخه". حديث عمر (أرواه مسلم أ) موقوفًا بإسناد منقطع، وقال الحاكم، قد صح ذلك (¬2) عن عمر. وقال في "الهدي" (¬3): إنّه صح عن عمر أنه كان يستفتح به في مقام النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - ويجهر به ويعلمه النَّاس، وهو بهذا (ب) الوجه في حكم المرفوع، ولذا قال الإمام أحمد (¬4): أما أنا فأذهب إلى ما روي عن عمر، ولو أنّ رجلا استفتح ببعض ما روي كان حسنا، وهو أيضًا في "صحيح ابن خزيمة" (¬5) و (جـ) أخرجه أبو داود والحاكم من حديث عائشة مرفوعًا قالت: "كان النَّبيُّ ¬

_ (أ - أ) ساقطة من جـ، في هـ: مثبتة ومضروب عليها. (ب) في هـ: بهذى. (جـ) الواو ساقطة من هـ وجـ.

- صلى الله عليه وسلم - إذا استفتح الصّلاة قال: "سبحانك ... " (¬1) الحديث، ورجال إسناده ثقات، وبه انقطاع (¬2)، وأعله أبو داود (¬3)، وقال الدارقطني (¬4): ليس بالقوي، ورواه التّرمذيّ وابن ماجة (¬5) من طريق حارثة بن أبي الرجال عن عمرة عن عائشة، وحارثة (¬6) ضعيف، وروى الطَّبرانيُّ (¬7) نحوه عن عطاء عن عائشة، وحديث أبي سعيد رواه أيضًا أحمد والحاكم (¬8)، وفيه بعد (أ) قوله: "لا إله غيرك" (ب) "ولا إله إلا الله ثلاثًا، ثمّ يقول "الله أكبر" ثلاثًا ثمّ يقول: "أعوذ ... " إلى آخره. قال التّرمذيّ (¬9) حديث أبي سعيد أشهر حديث في الباب، وقد (جـ) ¬

_ (أ) زاد في جـ: و. (ب) في جـ: غيره. (جـ) ساقطة من جـ.

تكلم في إسناده، وقال أحمد (¬1): لا يصح هذا الحديث، وقال ابن خزيمة (¬2): لا أعلم في الافتتاح "سبحانك اللَّهُمَّ " خبرًا ثابتًا عند أهل المعرفة بالحديث، وأحسن أسانيده حديث أبي سعيد، ثمّ قال (أ): لا نعلم أحدًا ولا سمعنا به استعمل هذا الحديث على وجهه. وروى أحمد (¬3) من حديث أبي أمامة، نحوه وفيه: "أعوذ بالله من الشيطان الرجيم". وفي إسناده مَنْ لم يسم، وروى ابن ماجة وابن خزيمة (¬4) من حديث ابن مسعود أنّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كان يقول: "اللَّهُمَّ إنِّي أعوذ بك من الشيطان الرجيم من هَمْزِه ونفخه ونفثه. ورواه الحاكم (¬5) بلفظ: "كان إذا دخل في الصّلاة"، وعن أنس نحوه رواه الدارقطني (¬6)، وفيه الحسين بن علي بن الأسود، وفيه مقال، وله طريق أخرى ذكرها ابن أبي حاتم في "العلل" وضعفها. ¬

_ (أ) زاد في جـ: و.

والحديث يدلُّ على مشروعية افتتاح الصّلاة بما ذكر فيه، وقد ذهب إليه أحمد وأبو حنيفة (¬1) وسفيان الثّوريّ، وإسحاق ابن راهويه وغيرهم، وظاهره عدم الجمع بينه وبين: "وجهت وجهي" الّذي قد مر، وقد ورد الجمع بينهما في حديث ابن عمر، رواه الطَّبرانيُّ (¬2) في "الكبير"، وفي روايته (أ) عبد الله بن عامر الأسلمي (¬3) عن محمّد (ب) بن المنكدر، وهو ضعيف (¬4)، وفيه عن جابر أخرجه البيهقي (¬5) بسند جيد ولكنه من رواية ابن المنكدر (¬6)، وقد اختلف عليه فيه، وفيه عن عليّ رضي الله عنه. وقوله "مِنْ نَفْخِهِ" وهو بالخاء المعجمة قال عمر رضي الله عنه (¬7): نفخه الكبر، ونفثه الشعر، وهمزة المؤتة والمراد بها الجنون، ولعلّ الشعر المراد به ما لا يجوز من الهجاء، ونحوه، والله أعلم. 210 - وعن عائشة - رضي الله عنها - قالت: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسَتَفْتِح الصّلاة بالتكبير، والقراءة بالحمد لله رب العالمين، وكان إِذا ركع لم ¬

_ (أ) في هـ: رواية. (ب) في النسخ: عبد الله، والتصويب من التلخيص والطبراني الكبير والبيهقي وانظر: التلخيص 1/ 230، البيهقي 2/ 35، الطَّبرانيُّ الكبير 12/ 353 - 354.

يُشخِص رأسَه، ولم يُصَوبه ولكن بيْنَ ذلك، وكان إِذا رفع من الركوع لم يسجد حتّى يستوى [قائمًا] وكان إِذا رفع رأسه من السجدة لم يسجد حتّى يستوي] (أ) جالسًا، وكان يقول في كلّ ركعتين التحية، وكان يفرش رجله اليسرى وينصب اليمنى، وكان ينهى عن عقبة الشيطان وينهى أن يفترش الرَّجل ذراعيه افتراش السَّبعُ، وكان يختم الصّلاة بالتسليم". أخرجه مسلم وله علة (¬1). العلّة فيه أنه رواه مسلم من رواية أبي الجوزاء عنها، وقال ابن عبد البرّ: هو مرسل لم يسمع أبو الجوزاء من (ب) عائشة، ورواه أبو نعيم في "الحلية" (¬2) في ترجمة أبي الجوزاء ولفظه: "إذا دخل في الصّلاة قال: الله أكبر" لكن في إسناده أبان بن أبي عياش (جـ) (¬3) وهو متروك. وقولها: "بالتكبير": فيه دلالة على تعين (د) التكبير، وقد تقدّم الخلاف فيه. ¬

_ (أ) بهامش الأصل. (ب) في جـ: عن. (ب) في النسخ ابن عياش والتصحيح من الحلية وانظر التّرجمة. (د) في هـ: تعيين.

وقودها "والقراءة بالحمدُ لله" (أ): هو برفع الدال على الحكاية يستدل به من يقول أنّ البسملة (¬1) ليست من الفاتحة، وهو قول أنس وأبي وغيرهما (ب) ومالك وأبي حنيفة والثوري والأوزاعي وقراء المدينة والبصرة والشام، والجواب عنه بأن قولها: "الحمد لله رب العالمين" قصد به اسم سورة الفاتحة، فالمعنى (جـ) أنه يبدأ (د) بهذه السورة، لا بغيرها من السور، كما تقول "قرأت سورة البقرة" أي (هـ): السورة الّتي يذكر فيها، تسميته السورة بذلك لما كانت البقرة مذكورة فيها، كذلك الفاتحة سميت بالحمد لله لما كان (و) مذكورًا فيها. ويجاب عنه بأنه لو كان كذلك لقالت بالحمد إذ هو المشهور في اسم (ز) الفاتحة، وأما ذكر الآية كاملة فلا يظهر فيما ذكر. ¬

_ (أ) زاد في هـ: و. (ب) في جـ: وغيرهم. (جـ) في هـ: والمعنى. وفي جـ: المغني. (د) في هـ: يبتدأ. (هـ) في جـ: هي. (و) في جـ: وسميت الحمد لله لما كانت. (ز) في جـ: باسم.

[وهو مدفوع بأنه قد ثبت في "صحيح البخاري": "ألا أعلمك بأفضل سورة فذكر الحديث" (¬1)، وفيه قال: الحمد لله رب العالمين، هي السبع المثاني .. "، فسمى (أ) السورة بالآية (ب) كاملة] (جـ) ويحتمل أنه لم يجهر بها فذكرت ما يجهر به كما سيأتي في حديث أنس. وقولها "لم يشخص" (¬2): أي يرفعه. "ويُصَوِّبه": هو بضم الياء وفتح الصاد المهملة وكسر الواو المشددة، لم يخفضه خفضًا بليغًا بل بين الرفع والخفض وهو التسوية. وقولها: "حتّى يستوي قائمًا" فيه دلالة على وجوب الاعتدال. وقولها "حتّى يستوي جالسًا": فيه دلالة على وجوب الاعتدال بين السجدتين. وقولها "في كلّ ركعتين التحية": فيه دلالة لأحمد بن حنبل ومَنْ وافقه من فقهاء أصحاب الحديث أنّ التشهد الأوّل والأخير واجبان (¬3)، وقال مالك وأبو حنيفة والأكثرون: هما سُنَّتان ليسا بواجبين (د) (¬4)، وقال الشافعي وهو قول (هـ) الهادي: الأوّل سنة (¬5) والثاني واجب. ¬

_ (أ) في جـ: سمى. (ب) في جـ: في الآية. (جـ) بهامش الأصل. (د) في هـ: بواجبتين. (هـ) في جـ: وقول.

احتج أحمد بهذا الحديث مع قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا صلّى أحدُكم فليقل: التحيات لله" (¬1)، والأمر للوجوب، واحتج أبو حنيفة والأكثر (أ) بأن النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - ترك التشهد الأوّل وجبره بسجود السّهو، ولو وجب لم يصح جبره كالركوع وغيره من الأركان. قالوا: وإذا ثبت هذا في الأوّل فالأخير مثله، (ب) لأن النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - لم يعلمه الأعرابي حين علمه فروض الصّلاة. حجة القول الثّالث ما ورد في قول ابن مسعود -كما سيأتي من رواية النَّسائيِّ- (¬2): "كنا نقول قبل أنّ يفرض علينا التشهد .. " إلخ فصرح فيه بالفرض. وبوب له النسائي في "سننه": باب فرض التشهد وعدم وجوب التشهد الأوّل بسجوده (جـ) - صلى الله عليه وسلم - لما تركه فدل على عدم وجوبه. وقولها " وكان يفرش .. " إلخ: ومعناه يجلس مفترشًا، ظاهره في جميع جَلَسَاته، ففيه (د) دلالة لقول من يقول بذلك وهو أبو حنيفة ومن وافقه، وقال مالك: يجلس متوركًا في جميع الجلسات، وقال الشّافعيّ مثل قول أبي حنيفة (¬3) إلا الجلوس للتشهد الأخير فمثل قول مالك (هـ)، قال النووي (¬4): وجلوس المرأة كالرجل، والنفل كالفرض، وهذا مذهب مالك والشّافعيّ والجمهور (¬5). ¬

_ (أ) في هـ: بأن والأكثر، "والأكثر" مثبتة بهامش هـ. (ب) الواو ساقطة من جـ. (جـ) في هـ: لسجوده. (د) في جـ: فيه. (هـ) في هامش هـ. وقد تقدّم الكلام في ذلك.

وحكى القاضي عياض عن بعض السلف أنه سنة المرأة التربع (¬1)، وعن بعضهم: التربع في النافلة، والصواب الأوّل. ثمّ هذه الهيئة مسنونة فلو جلس في الجميع مفترشًا أو متوركًا أو متربعًا أو مقعيا أو مادا رجليه صحت صلاته انتهى (¬2). ولعلّ وجه ذلك عدم تعليمه - صلى الله عليه وسلم - ذلك (أ) للمسيء صلاته، والله أعلم. وقولها "عن عُقْبَة الشيطان" (¬3) فسرت بأن يفرش (ب) قدميه ويجلس بإليتيه على عقبيه، [وقيل أنّ يلصق الرَّجل إليتيه بالأرض، وينصب ساقيه وفخذيه ويضع يديه على الأرض كما يقعي الكلب] (جـ)، وقد سمى ذلك الإقعاء، وهي بضم العين، وفي رواية أخرى لمسلم (¬4) "عَقِب" بفتح العين وكسر القاف، وحكى القاضي عياض (¬5) عن بعضهم ضم العين أيضًا وضعفه. وقولها "أن يفترش الرَّجل ... " إلخ: افتراش الذراعين هو بسطهما على الأرض، والمراد بالسبع هنا هو الكلب، وقد ورد ذلك مصرحًا به في رواية مسلم (¬6). وقولها: "يختم الصّلاة بالتسليم": فيه دلالة على شرعية التسليم، وقد ¬

_ (أ) ساقطة من هـ. (ب) في جـ: يفترش. (جـ) بهامش الأصل.

احتج به على الوجوب وهو لا يظهر إلا مع قرينة قوله - صلى الله عليه وسلم - "تحْرِيمُها التَّكبير، وتَحْليلُهَا التسليم" (¬1) فإن ظاهر هذا أنه جزء من الصّلاة كالتكبير، فهو واجب، وبه قال جمهور العلماء من السلف والخلف (¬2) وقال أبو حنيفة (¬3) والثوري والأوزاعي هو سنة لو تركه صحت صلاته، بدليل أنه لم يعلمه الأعرابي، وليس في هذا الحديث دلالة على القدر من التسليم، وسيأتي (أ) (¬4). 211 - وعن ابن عمر - رضي الله عنهما - أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "كان يرْفَعُ يَدَيْهِ حذو مَنْكَبَيه إِذا افْتَتَحَ الصَّلاة، وإذَا كَبَّرَ للرُّكوع، وإذا رَفَعَ رأسه من الركُوع" متفق عليه (¬5). ¬

_ (أ) في هامش هـ: "قال ابن دقيق العيد في شرح هذا الحديث: ولا ظهر لبعض فقهاء المتأخرين من المالكية قوة الرفع في الأماكن الثلاثة على حديث ابن عمر اعتذر عن تركه في بلاده فقال: وقد ثبت عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنه رفع يديه فيهما أي في الركوع والرفع منه ثبوتًا لا يردّ له صحة فلا وجه للعدول عنه إلا أنّ في بلادنا هذه يستحب للعالم تركه؛ لأنه إنْ فعله نُسِبَ إلى البدعة وتأذى في عرضها، وربما تعدت الأذية إلى بدنه فوقاية العرض والبدن بتركه سنة واجب في الدين. اهـ: بلفظه من شرح العمدة.

وفي حديث أبي حُمَيْد (¬1) عند أبي داود: يرفعُ يديه حتّى يُحَاذِي بهما منكبيه. ثُمَّ يُكَبِّر". ولمسلم عن مالك بن الحويرث نحو حديث ابن عمر لكن قال: حَتَّى يُحَاذي بهما فُروع أُذُنَيه" (¬2). تقدّم الكلام في الرفع عند افتتاح الصّلاة، وفي قوله "فإذا (أ) كبر للركُوع .. " إلخ، فيه دلالة على شرعية ذلك في الحالين جميعا (¬3)، وقد ذَهب إلى هذا الشّافعيّ، واختلفت الرِّواية عن مالك. قال ابن عبد الحكم (¬4): لم يرو أحدٌ عن مالك تَرك الرفع فيها إلا ابن القاسم، وقال محمّد بن نصر المروزي (¬5): أجمع (ب) علماء الأمصار على مشروعية ذلك، إلا أهل الكوفة (¬6)، والخلاف فيه للحنفية .. فقالوا: إنّه لا ¬

_ (أ) في جـ: وإذا. (ب) في الأصل: جمع.

يشرع، بل قال بعض الحنفية (¬1): إنّه يبطل الصّلاة، ونسب بعض متأخري المغاربة فاعله إلى البدعة (¬2)، واحتجوا على ذلك برواية مجاهد أنه صلّى خلف ابن عمر فلم يره يفعل ذلك (¬3)، وبما أخرجه أبو داود من حديث ابن مسعود (¬4) أنه رأى النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - ولم يرفع يديه عند الافتتاح ثمّ لا يعود. وأجيب بالطعن في إسناد (أ) الأوّل لأن فيه أبا بكر بن عياش (¬5) وقد ساء حفظه، وأيضًا فقد أثبت نافع وسالم ذلك من فعْل ابن عمر (¬6)، وهما مثبتان، وهو ناف، وأيضًا فإن ترك ذلك مثبتًا (ب) لجواز ذلك لأنه لم يكن يراه واجبًا، وحديث ابن مسعود رده الشّافعيّ بأنه لم يثبت (¬7)، قال ولو ثبتا لكان في رواية ابن عمر إثباتًا وهذا نفي، وهي أقدم، والطحاوي احتج بما ذكر على من يقول بوجوب الرفع، كالأوزاعي وبعض أهل الظّاهر وهو ¬

_ (أ) في جـ: في إسناده. (ب) في جـ: مبينا.

مستقيم، وقد بالغ البخاريّ في مصنفه في إثبات الرفع، وحكى فيه عن الحسن وحميد بن هلال أنّ الصّحابة - رضي الله عنهم - كانوا يفعلون ذلك، قال البخاريّ: ولم يستثن الحسن أحدًا، ونقل عن شيخه علي بن المديني قال: حق على المسلمين أن يرفعوا أيديهم عند الركوع والرفع منه لحديث ابن عمر هذا، وذكره في "جُزء (أ) رفع اليدين (1) وزاد: وكان علي أعلم أهل زمانه، وقال فيه: مَنْ زعم أنه بدعة فقد طعن في الصّحابة فإنّه لم يثبت عن أحدٍ منهم تركه (2)، وذكر البخاريّ أيضًا أنه رواه سبعة عشر رجلًا من الصّحابة، وذكر الحاكم وابن منده ممّن رواه العشرة المبشرة بالجنة. قال المصنِّف -رحمه الله تعالى (¬3) - وذكر شيخنا أبو الفضل أنه تتبع مَنْ رواه من الصّحابة فبلغوا خمسين رجلًا. وفي قوله "وإِذا كَبَّر" أي: عند ابتداء الركوع، وفي حديث مالك بن الحويرث: "إذا أراد أنّ يركع رفع يديه". وقوله: "إِذا رفع رأسه من الركوع": أي: إذا أراد ان يرفع، ويؤيده راواية أبي داود: "ثمّ إذا أراد أن يرفع صلبه رفعهما" (¬4) ومقتضاه أنه يبتدئ رفع يديه عند ابتداء القيام من الركوع ويتأول رواية أحمد: "وبعدما يرفع رأسه ¬

_ (أ) في هـ: خبر.

من الركوع (¬1) بأنَّ معناه بعدما يشرع في الرفع. وقوله "حتّى يحاذي بهما .. " إلخ تقدّم الكلام في ذلك. 212 - وعن وَائِلِ بن حُجْر - رضي الله عنه - قال: "صَليْتُ مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فَوَضع يَدَهُ اليُمْنَى عَلَى يده الْيُسْرَى عَلَى صَدْرِهِ". أخرجه ابن خزيمة (¬2). هو أبو (أ) هُنَيْدة -بضم الهاء وفتح النون وائل بن حجْر بن ربيعة الحضرمي، كان قيلا من أقيال حضرموت وكان أبوه من ملوكهم، وَفَدَ على النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ويقال إنّه بشر به النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - أصحابه قبل قدومه وقال: يأتيكم وائل بن حجْر من أرض بعيدة من حضرموت طائعًا راغبًا في الله -عَزَّ وَجَلَّ-، ¬

_ (أ) في جـ: ابن.

وفي رسوله، وهو بقية أبناء الملوك". فلما دخل على النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - رَحَّبَ به وأدناه من نفسه وبسط له رداءه فأجلسه عليه، وقال: "اللَّهُمَّ بارك في وائل وولده وولد ولده (¬1)، واستعمله على الأقيال من حضرموت. قال في النُّبَلاء (¬2): روى له الجماعة إلا البخاريّ، والظاهر أنه عاش إلى زمن معاوية وبايع له، وقيل: قتل بصفين مع علي، رضي الله عنه. انتهى. وذكر القاسم بن إبراهيم - رحمة الله عليه - أنه كان يكتب بأسرار عليّ إلى معاوية، وهو الّذي شهد على حُجر بن عديّ أنه نزع يده من الطّاعة، فكتب زياد بذلك إلى معاوية فقتله معاوية والله أعلم. روى عنه ابناه علقمة وعبد الجبار وكليب بن شهاب وعبد الرّحمن اليحصبي (¬3). حديث وائل (أ) أخرجه أبو داود والنَّسائيُّ بلفظ: "ثُمَّ وَضَعَ يَدَهُ الْيُمْنَى على كَفِّه اليُسْرَى والرُّسغ من (ب) الساعد"، وأصله في مسلم (¬4) بدون "والرسغ من الساعد"، والرُّسغِ بضم الراء وسكون السين المهملة بعدها معجمة هو المفصل بين الساعد والكف، وأخرجه البزار أيضًا، وفيه: "عند صدره"، في محل "على صدره" وقد أخرجه محمّد بن منصور في ¬

_ (أ) زاد في هـ: بن حجر. (ب) ساقطة من هـ.

"علوم آل محمّد" المعروف "بأمالي أحمد بن عيسى" في باب التغليس بالفجر. وفي الحديث دلالة على مشروعية الوَضع المذكور في الصّلاة، وقد ذهب إلى هذا زيد بن عليّ (¬1) وأحمد بن عيسى، والحنفية والشّافعيّة، ومحله فوق السرة عند الشّافعيّة (¬2) وتحتها عند الحنفية (¬3)، وحجة الحنفية ما في زيادات "المسند" من حديث (¬4) علي رضي الله عنه. أنه وضعهما تحت السرة، وإسناده ضعيف (¬5)، وحجة الشّافعيّة حديث الباب المذكور بقوله "على صدره"، وفي الرِّواية الآخرة "عند صدره" متقاربتان في تعيين المحل المذكور (¬6). وذهب القاسية والناصرية (¬7) إلى أنّ ذلك غير مشروع وتبطل به الصّلاة (¬8) عند الهادي والقاسم وأبي طالب، قالوا: لأنه فعل كثير، وعند المؤيد والإمام يحيى: لا تبطل به الصّلاة وإنّما يكره، قالوا: إذ لا دليل ¬

_ (¬1) البحر 1/ 242. (¬2) المجموع 3/ 249. (¬3) الهداية 1/ 47. (¬4) أبو داود 1/ 480 ح 756، البيهقي 2/ 31، الدارقطني 1/ 286. (¬5) لأنه فيه عبد الرّحمن بن إسحاق الواسطي، أبو شيبة، قال البخاريّ: فيه نظر، قال يحيى والنَّسائيّ: متروك. الميزان 2/ 548، المجروحين 2/ 54، التقريب 198. (¬6) وعند الإمام أحمد روايتان: تحت السرة وفوق السرة، وعنه أنه مخير في ذلك لأن الجميع مرويّ والأمر واسع في ذلك، المغني 1/ 472 - 473. (¬7) و (¬8) البحر 1/ 242 - 253.

على بطْلان الصّلاة به، وحجتهم حديث جابر بن سمرة (¬1): "ما لي أراكم رَافِعِي أيْديكُمْ" قالوا: هو ناسخ لرفع الأيدي. وقوله. "لو خشع قلبه لخَشعت جَوارحه" (¬2) وقوله تعالى: {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} (¬3) وحركة الأيدي تنافي الخشوع. والقول بالنسخ لا يكاد يتم مع ما عرفت من سبب ورود قوله: "ما لي أراكم" فيما مر، وقولهم: إنّه ينافي الخشوع غير مسلم، بل قال العلماء: الحكمة في هذه الهيئة أنه صفة السائل الذليل وهو أمنع من العبث وأقرب إلى الخشوع. ومن اللطائف (¬4) قول بعضهم: القلب موضع النية، والعادة أنَّ من أحرز على حفظ شيء جعل يديه (أ) عليه. وقال ابن عبد البرّ (¬5): لم يأت عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فيه خلاف وهو قول جمهور الصّحابة والتابعين، وقال: وهو الّذي ذكره مالك في "الموطَّأ" (¬6)، ولم يحك ابن المنذر وغيره عن مالك غيره، وروى ابن (ب) القاسم عن مالك ¬

_ (أ) في جـ: يده. (ب) ساقطة من جـ.

الإرسال وصار إليه أكثر أصحابه (¬1) وعنه التفرقة بين الفريضة والنافلة. [فكرهها في الفرض، وأجازها في النفل] (أ). ومنهم من كره الإمساك، ونقل ابن الحاجب أنّ ذلك حيث يمسك معتمدا لقصد الراحة، ويؤيد ما ادعاه ابن عبد البرّ (ب) ما أخرجه البخاريّ عن أبي حازم عن سهل بن سعد قال: "كان النَّاس يؤمرون أن يَضَعَ الرجل اليد اليمنى على ذراعه اليسرى في الصّلاة (¬2) قال أبو حازم: لا أعلمه إلا ينمى ذلك إلى النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم -. وظاهر (جـ) قوله "يؤمرون" أنّ الآمر هو النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - وأن ذلك لعموم مَنْ كان حاضرا، وأمكن أمره. وأردف البخاريّ باب الخشوع (¬3) لهذا الّذي رفعه لعلّه ردا (د) على من يقول إنّه ينافي الخشوع بناء منه على أنّ ذلك من الخشوع. والله أعلم. وردد الإمام الهدي في "البحر" الكلام في هذه المسألة فقال: أما فعله - صلى الله عليه وسلم - فلعلّه لعذر لاحتماله (¬4)، وأما الخبر فإنْ صَحَّ فقوي، ثمّ قال: ¬

_ (أ) بهامش الأصل. (ب) في جـ: "أنه لم يأت عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -" وقد كشط عليها، ومثبتة في حاشية هـ. (جـ) في جـ: وظاهره. (د) في جـ: راد.

وتركه أحوط، ولا يخفى عليك ما في هذا الكلام، والله أعلم. 213 - وعن عُبَادة بن الصَّامت - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرأْ بِأُمِّ الْقُرْآنِ" متفق عليه (¬1). وفي رواية لابن حبّان والدارقطني: "لا تجْزِئ، صَلَاةٌ لَا يُقْرأ فيها بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ" (¬2). وفي أخرى لأحمد وأبي داود والترمذي (أ) وابن حبّان: "لَعَلَّكُمْ تَقْرَؤون خلف إِمامكم؟ قلنا: نعم، قال: لا تَفْعَلُوا إلا بفَاتحَة الْكتَاب، فإنَّهُ لا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرأ بها" (¬3). هو أبو الوليد عبادة بن الصامت بن قيس الخزرجي الأنصاري السالمي كان نقيبا وشهد العقبة الأولى، والثّانية، والثالثة (¬4)، وآخى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ¬

_ (أ) في جـ: للترمذي.

بينه وبين أبي مرثد الغنوي، وشهد بدرًا والمشاهد كلها، ثمّ وجهه عمر إلى الشّام قاضيا ومعلما فأقام بحمص ثمّ انتقل إلى فلسطين، ومات بها في الرملة، وقيل: بيت المقدس سنة أربع وثلاثين وهو ابن اثنتين وسبعين سنة، روي عنه أنس بن مالك وجابر بن (أ) عبد الله وفضالة بن عبيد والمقداد وغيرهم من الصّحابة والتابعين، وقيل إنّه أقام إلى زمن معاوية. وعُبَادة بضم العين المهملة والباء الموحدة المخففة والدال المهملة (¬1). قوله: "لا صلاة" إِلخ: ظاهره نَفْي ذات الصّلاة لمن لم يقرأ؛ لأن المراد هنا (ب) الصّلاة الشرعية، وهي مركبة من أقوال وأفعال. والمركب ينتفي بانتفاء جميع أجزائه وبانتفاء البعض، ولا حاجة إلى تقدير يكون هو النفي من الكمال أو الإجزاء لأن التقدير إنّما يكون عند تعذر نفي الذات كما هو المعنى الحقيقي. إلا أنّ هذا الحديث قد (جـ) رواه الإسماعيلي بالإسناد الّذي لحديث الكتاب من طريق العباس بن الوليد القُرَشيّ -أحد شيوخ البخاريّ- عن سفيان بلفط: "لا تجزئ صلاة لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب" (¬2)، وتابعه على ذلك زياد بن أَيّوب (¬3) -أحد الأثبات- أخرجه الدارقطني (¬4). ¬

_ (أ) زاد في هـ: سمرة. (ب) هـ: هنا هي ... (جـ) ساقطة من جـ.

وله شاهد من طريق العلاء بن عبد الرّحمن عن أبيه عن أبي هريرة مرفوعًا بهذا اللّفظ أخرجه ابن خزيمة وابن حبّان وغيرهما (¬1)، ولأحمد من طريق عبد الله بن سوادة القشيري عن رجل عن أبيه مرفوعًا: "لا تقْبل صلاة لا يقرأ فيها بأم الكتاب" (¬2) فهذه الألفاظ يمكن أنّ تجعل مفسرة للنفي المذكور أنه متوجه إلى مُقَدَّر وهو الإجزاء والقبول وهو مجاز مشهور قريب من نفي الحقيقة متبادر من اللّفظ. وفي الحديث دلالة على وجوب قراءة الفاتحة في الصّلاة وتعينها، وقد ذهب إلى هذا الهادي وأتباعه وزيد بن عليّ والناصر وغيرهم من أهل البيت والشافعي ومالك (¬3)، وخالف في الطرف الأوّل نفاة الأذكار فقالوا: لا تجب الفاتحة ولا غيرها، قالوا: لقوله تعالي: {ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} ولم يذكرها، والجواب قوله: {فَاقْرَءوا مَا تَيَسَّرَ منَ القُرْآنِ} والأحاديث الواردة في ذلك. وخالف في الطرف الثاني: أبو حنيفة وأصحابه (¬4) فيكفي عنده آية واحدة طويلة كانت أو قصيرة، وقال أبو يوسف ومحمد: آية طويلة أو ثلاث آيات قصار، قالوا لقوله تعالي: {فَاقْرَءوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ القُرْآنِ} ولحديث تعليم (أ) المسئ صلاته بقوله: "ثمّ اقرأ ما تيسر" (ب) والجواب أنّ في ¬

_ (أ) زاد في جـ: النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم -. (ب) زاد في جـ: من القرآن.

هذه الأحاديث تتعين الفاتحة، ونحوها بيان القدر الواجب من المتيسر، وحديث المسئ، قد ورد في بعض ألفاظه ذِكْر الفاتحة (¬1) فلا حجة فيه. [واعلم أنّ الحنفية (¬2) إنّما نفوا كون الفاتحة شرطًا في الصّلاة، وأما الوجوب فإنهم قائلون به، قالوا: لأن وجوبها إنّما ثبت بالسُّنَّة والذي لا تتم الصّلاة إلا به فرض، والفرض عندهم لا يثبت بما يزيد على القرآن] (¬3) (أ). وظاهر هذا الحديث وجوب الفاتحة، وهو محتمل لتكررها في كلّ ركعة أو يكفي قراءتها في ركعة، إلا أنه قد زاد الحميدي (¬4) في رواية هذا الحديث عن سفيان لفظ "فيها" فقال: "لمن لم يقرأ فيها" هكذا في "مسنده"، وهكذا رواه سفيان بن يعقوب عن الحميدي، أخرجه البيهقي (¬5)، وكذا لابن أبي عمر عند الإسماعيلي، ولقتيبة وعثمان بن أبي شيبة عند أبي نعيم في "المستخرج": فإن كانت الركعة الواحدة تسمى ¬

_ (أ) بهامش الأصل وفيه بعض واستدركه من نسخة هـ.

صلاة فبهذه الزيادة يتقرر وجوب قراءتها في كلّ ركعة، وقد ذهب إلى هذا الشّافعيّ واختاره الإمام شرف الدين، ويتأيد ذلك بما ورد في حديث المسئ صلاته وهو قوله: "وافعل ذَلِكَ في صَلَاتكَ كُلِّها" بعد أن علَّمه صلاة ركعة، فإنّه قد سمى كلّ ركعة صلاة وقد أمره بالقراءة في الركعة الأولى، فتكون القراءة مأمور بها في سائر الركعات (¬1)، وفي رواية لأحمد وابن حبّان: "ثمّ افعل ذَلكَ فِي كلِّ رَكْعَةٍ" (¬2) والخلاف في ذلك للهادي (¬3) وأتباعه فقالوا: تكفي قراءتها مرّة واحدة في جُمْلَة الصّلاة مفرقة أو في ركعة. وقال بهذا أيضًا من السلف: الحسن البصري (¬4) رواه عنه ابن المنذر بإسناد حسن، قالوا: لأن الصّلاة اسم لمجموع الفريضة بدليل قوله "خَمْسُ صَلَوَاتٍ كَتَبَهُنَّ الله عَلَى العِبَاد" (¬5) وغير ذلك، فإطلاق الصّلاة على الركعة الواحدة يكون مجازًا وقال زيد بن عليّ والناصر: إن الواجب قراءة الفاتحة فقط في الركعتين الأوليين (¬6). وفي قوله "لعلّكم تقرؤون خلف إمامكم .. " إلخ: في الحديث دلالة على النهي عن قراءة ما عدا الفاتحة بعد الإمام، وأنه لا بد من قراءة ¬

_ (¬1) وبه قال أكثر العلماء. (¬2) ابن حبّان موارد 131 ح 484، أحمد 4/ 340، ولفظهما (اصنع ذلك). (¬3) البحر 1/ 244. (¬4) في المجموع: لا تجب القراءة إلا في ركعة من كلّ الصلوات 3/ 291. (¬5) البخاريّ 5/ 287 ح 2678، مسلم 1/ 40 - 41 ح 8 - 11. (¬6) البحر 1/ 244.

"الفاتحة، وظاهره سواء كانت الصّلاة سرية أم (أ) جهرية، وقد ذهب إلى هذا الشّافعيّ (¬1) فقال بوجوب الفاتحة ولو كانت الصّلاة جهرية سواء سمع قراءة الإمام أو لا، وهو صريح الحديث المذكور (¬2)، وظاهر مذهب الشّافعيّ أنه يقرأ الفاتحة المأموم سواء قرأ الفاتحة في حال قراءة الإمام أو في حالة سكوته (¬3)، ويشرع للإمام السكوت بعد القراءة ليقرأ المؤتم [فإنْ ركع الإمامُ قبل تمام المؤتم فوجهان أحدهما: يتابعه ويسقط عن المأموم باقيها، والثّاني: ذكره صاحب "التهذيب" وقطع به وصححه النووي (¬4) أنه لا يسقط بل عليه أنّ يتمها ويلحق الإمام ما لم يسبقه بأكثر من ثلاثة أركان. فإن زاد على الثّلاثة فوجهان: أحدهما: يعزل صلاته، وأصحهما يستمر على المتابعة ويجري على أثره، والأصح أنه يوافقه فيما هو فيه ثمّ يقضي ما فاته بعد سلام الإمام، ذكر هذا في الروضة" (¬5) (ب). وقد روى عبد الرزّاق عن سعيد بن جُبَيْر قال: لا بد من أم القرآن، ولكن من مضى من الأمة كان الإمام يسكت ساعة قدر ما يقرأ المأموم بأم القرآن (¬6). انتهى. ¬

_ (أ) في جـ: أو. (ب) بهامش الأصل.

فإن لم يسكت الإِمام كان له القراءة وله تمام الفاتحة ولو سبقه الإِمام بالركوع فهو عذر في التأخر، والخلاف في قراءة المأموم لمن عدا الشافعي على جهة الجملة والتفصيل، قالت الحنفية (¬1): لا يقرأ المأموم لا في سرية، ولا جهرية: لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ صلى خلف الإِمام فقراءة الإِمام له قراءة" (¬2) وهو حديث ضعيف عند الحفاظ وقد استوعب طرقه وعلله الدارقطني وغيره. وقال الهادي والقاسم وزيد بن عليّ وأَحمد وأحد قولي الشَّافعيّ ومالك وغيرهم (¬3): لا يقرأ المأموم في الجهرية، قالوا لقوله تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} (¬4) والحديث: "فإِذَا قَرأَ فَأنْصِتُوا"، وهو (أ) حديث صحيح، أخرجه مسلم (¬5)، ويجاب عن ذلك بأنه مخصوص بحديث "لا تفعلوا إلَّا بأم الكتاب" والعمل به لازم لخصوصه لا مدفع له [وقول الإِمام المهدي في "البحر" أنَّه معارض بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "ما لي أنازع القرآن" ويجاب عنه بأنه لا يعارضه علي القول بأن العام يبنى على الخاص مطلقًا وعلى قول من يقول: إن العام المتأخر يكون ناسخًا للخاص المتقدم فمع جهل التاريخ يحصل التعارض مع أن حديث "ما لي أنازع" ورد في حديث ¬

_ (أ) في جـ: وهذا.

عبادة بلفظ: "ما لي أنازع القرآن، فلا تقرءوا بشيء إذا جهر الإِمام القراءة" وفي بعض ألفاظه: "فلا تفعلوا إلَّا بأم القرآن" وبأنه لا صلاة لن لم يقرأ بها، وفي بعض ألفاظه: "فلا يقرأن أحد منكم إذا جهر الإِمام القراءة" فتحمل الروايات في غير المطلقة على هذه الرواية فهي قضية واحدة وإنما بعض الرواة حفظ الحديث بكماله فرواه وبعضهم لعله نسي التمام وحفط أصل الحديث فاقتصر عليه أو بعثه حامل على الاستشهاد بأول الحديث وأحال معرفته على علم السامع لكون الفاتحة قراءتها معروفة لا نزاع فيها فلا تعارض حينئذ رأسًا ومثل هذا واقع في كثير من الروايات والحمل على تعدد القضية بعيد] (أ). وعلى قول هؤلاء فإذا (ب) قرأ المأموم فَسَدَتْ صلاتُه لأن النهي يقتضي فساد العبادة، وقال المؤيد: لا تفسد. فائدة: حديث عبادة فيه زائد في رواية معمر عن الزُّهْرِيّ (جـ) لفظ: "فصاعدا" أخرجه النَّسائيّ (¬1) وغيره، واستدل به على وجوب قدْر زائد على الفاتحة، وقال البُخَارِيّ في جزء القراءة" (¬2): وهو نطر قوله (د) "تقطع اليد في ربع دينار فصاعدًا" (¬3) يعني إنما هو لدفع توهم حصر الحكم على الفاتحة ¬

_ (أ) بهامش الأصل وفيه بعض المحو واستدركته من نسخة هـ وساقطة من جـ. (ب) في جـ: إذا. (جـ) زاد في هـ: عن. (د) زاد في هـ: له.

وادعى ابن حبان والقرطبي (¬1) وغيرهما الإجماع على عدم وجوب قدر زائد عليها، وفيه نظر (¬2) كثوبته عن بعض الصَّحَابَة وغيرهم فيما حكاه ابن المنذر، وقال به الهادي (¬3) وأتباعه من الأئمة فأخرج (أ) البُخَارِيّ من حديث أبي هريرة: "وإن لم تزد على أم القرآن أجزأت" (¬4)، ولابن خزيمة من حديث ابن عباس: "أن النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - قام فصلى ركعتين لم يقرأ فيهما إلَّا بفاتحة الكتاب" (¬5)، وفي حديث المسيء (ب) من رواية أبي داود "ثُمَّ اقْرأ بِأمُ القُرآنِ وَبمَا شَاءَ الله أن تَقْرأْ" (¬6) وهذه الروايات يؤخذ من مجموعها عدم وجوب ما زاد على الفاتحة، وفي قوله: "وبما شاء الله" فيه إيماء إلى عدم الوجوب؛ لأن القراءة مقيدة بالمشيئة، ومفهومها إذا لم تحصل المشيئة فلا قراءة عليك (جـ) والله أعلم. 214 - وعن أنس -رَضِيَ الله عَنْهُ- "أن النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - وأَبا بكر وعمر ¬

_ (أ) في جـ، هـ. وأخرج (ب) زاد في هـ: صلاته. (جـ) في جـ: عليه.

كانوا يفتتحون الصلاة بالحمد لله رب العالمين" متفق عليه (¬1). زاد مسلم "لا يذكرون بسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم في أول قراءة ولا في آخرها" (¬2). وفي رواية لأحمد والنَّسائيّ وابن خزيمة: "لا يجهرون ببسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم" (¬3)، وفي أخرى لابن خزيمة "كانوا يسرون" (¬4). وعلى هذا يحمل النفي في رواية مسلم خلافًا لمن أعلَّهَا. قوله "كانوا يفتتحون بالحمد لله" بضم الدال وقد تقدم الكلام على هذا. وقوله: زاد مسلم الحديث: حديث مسلم من طريق الأَوْزَاعِيّ عن قتادة، والعلة فيه أنَّه رواه الأَوْزَاعِيّ عنه مكاتبة (¬5)، وقد ردت هذه العلة بأن الأَوْزَاعِيّ لم ينفرد به فقد رواه أبو يعلى (¬6) عن أَحْمد الدورقي (أ) والسراج ¬

_ (أ) في هـ: الزورقي.

عن يعقوب الدورقي وعبد الله بن أَحْمد بن عبد الله السلمي ثلاثتهم عن أبي داود الطَّيالِسيّ (¬1) عن شعبة، وكذلك القَدْح فيه من تدليس قتادة فإنَّ ذلك زائل بتصريحه بالسماع من أنس، قال شعبة (¬2): قلتُ لقتادة: سمعته من أنس، قال: نحن سألناه، فزال تدليس احتمال الإرسال منه، وظاهر هذه الرواية حجة لمن لم يثبت البسملة آية من الفاتحة، ولا من غيرها فإن قوله في أول قراءة أراد به أول قراءة الفاتحة. وقوله: "ولا في آخرها" مُرَادُ به بآخر قراءة الفاتحة عند الشروع في السورة وهو مؤول عند من أثبتها برواية ابن خزيمة (¬3) وأن المراد به إنما هو ترك الجهر بها، ويقولونها سرا فلا ينتهض دليلًا لهم، ورواية "لا يجهرون" رواه سعيد بن أبي عروبة عند (أ) النسائي، وابن حبان، وهمام عند الدارقطني، وشيبان عند الطحاوي، وابن حبان وشعبة أَيضًا من طريق وكيع عنه عند أَحْمد أربعتهم عن قتادة (¬4) ولا يقال هذا اضطراب من قتادة لأنه قد رواه جماعة من أصحاب أنس عنه كذلك، فرواه البُخَارِيّ في "جزء القراءة" (¬5) والسراج وأبو عوانة في "صحيحه" (¬6) من طريق إسحاق بن أبي طلحة. والسراج من طريق ثابت البناني، والبخاري فيه من طريق مالك بن دينار كلهم عن أنس باللفظ الأول، رواه الطَّبْرَانِيّ في الأوسط (¬7) من طريق ¬

_ (أ) في جـ: عن.

إسحاق أَيضًا، وابن خزيمة (¬1) من طريق ثابت أَيضًا، والنَّسائيّ (¬2) من طريق منصور بن زاذان، وابن حبان من طريق أبي قلابة، والطبراني من طريق أبي نعامة، كلهم عن أنس باللفظ الثاني للجهر. وطريق الجمع بين هذه الروايات حمل نَفْي القراءة على نفي السماع ونفي السماع على نفي الجهر، ويؤيد هذا التأويل رواية ابن خزيمة (¬3): "كانوا يسرون" وكذلك رواية منصور بن زاذان: "فلم يسمعنا قراءة بسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم"، وإذا تقرر أن محصل (أ) حديث أنس نفي الجهر بالبسملة فمتى وجدت رواية فيها إثبات الجهر قدمت على نفيه لا لمجرد تقديم المثبت على النافي؛ لأن أنسًا يبعد جدًّا أن يصحب النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - مدة عشر سنين ويصحب الثلاثة الخلفاء مدة خمس (ب) وعشرين سنة فلا (جـ) يسمع منهم الجهر بها في صلاة حتَّى يقدم المُثبتُ عليه وهذه تكون طريقة النفي على هذه الكيفية تفيد العلم اليقين، فلا يقدم (د) الإثبات عليها، بل يكون أنس اعترف بأنه لا يحفظ هذا الحكم، كأنه لبعد عهده به لم يذكر منه الجزم بالافتتاح بالحمد لله جهرًا، فلم يستحضر الجهر بالبسملة (¬4)، فيتعين الأخذ بحديث من أثبت ذلك. ¬

_ (أ) زاد في هـ: قراءة. (ب) في جـ: خمسة. (جـ) في جـ: فلم. (د) في هـ: تقديم.

واعلم أنَّه اختلفت الروايات المتكثرة من كلا الجانبين (أ) وظاهرها التباين، وقد أشار إلى الجمع بينهما القرطبي وأحسن قال بعد ذكر الأحاديث من الجانبين (أ): وقد روى عن سعيد بن جبير قال: "كان المشركون يحْضرون المسجد، فإذا قرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قالوا: هذا محمَّد يذكر رحمن اليمامة -يعنون مسيلمة- فأُمر أنّ يخافت ببسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم ونزلت: {وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا} (¬1) قال التِّرْمِذِيّ الحكيم أبو عبد الله (¬2): فبقى ذلك إلى يومنا هذا على ذلك الرسم، [وبقيت المخافتة في صلاة النهار وإن زالت العلة] (ب) انتهى. وقريب منه (جـ) ما ذكره ابن القيم في "الهَدْي" (¬3) قال: كان يجهر ببسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم تارة، ويخفيها أكثر مما جهر بها، ولا ريب أنَّه لم يكن يجهر بها دائمًا في كل يوم وليلة، خمس مرات أبدًا حضرًا وسفرًا ويخفى ذلك على خلفائه الراشدين وعلى جمهور أصحابه وأهل بلده في الأعصار الفاضلة، هذا من أمحل المحال حتَّى (د) يحتاج إلى التشبث فيه بألفاظ مجملة وأحاديث واهية، "فصحيح تلك الأحاديث غير صريح، وصريحها غير صحيح". انتهى. ¬

_ (أ- أ) بهامش جـ. (ب) بهامش الأصل. (جـ) في جـ: منها. (د) في هـ: حتَّى، وباقي النسخ حين المثبت موافق للهدي.

وأقول والله أعلم: لعل أحوال النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - اختلفت فمتى حضر الصلاة من يريد الطعن والتشبث بظاهر ما سمع من المعاندين أخفى قراءة البسملة، ومتى زال ذلك الشائع أظهرها، وهذا أنسب بالجمع بين رواية النافي والمثبت؛ لأنه لو أديم أحدهما في بعض المدة بعد أن قد فعل خلافه ما خفي على الملازمين لتلك الحضرة الشريفة، والله أعلم. واعلم أن كثيرًا من الأئمة احتج على كون البسملة ليست بآية من الفاتحة بعدم قراءتها واشتهر ذلك، ولم أر من رده، وذلك لا يصح، فإن من روى أنَّه لم يقرأها أو يجهر بها لم يتعرض لكونها آية أو غير آية ولعلها آية ولم يقرأها، ويكون عدم قراءتها مبينًا لأن يقرأ من الفاتحة ما عداها فبينهما فرق، فتنبه لذلك، والله سبحانه أعلم. تنبيه: وقع في رواية الصنف هنا في رواية أنس ذكر أبي بكر وعمر دون عثمان وقد وقع ذكر عثمان في رواية عمر بن مرزوق عن شعبة عند البُخَارِيّ في "جزء القراءة" (¬1) وكذا في رواية حجاج بن محمَّد عن شعبة عند أبي عوانة (¬2)، وهو في رواية شيبان وهشام والأوزاعي وقد أشرنا إلى روايتهم فتنبه. 215 - وعن نُعَيْم المُجمِر قال: (صليت وراء أبي هريرة - رضي الله عنه - فقرأ بسم الله الرحمن الرَّحِيم. ثم قرأ بأم القرآن حتَّى إِذا بلغ ¬

_ (¬1) جزء القراءة 32 ح 118. قلت: ومن رواية أبي عاصم عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن أنس 32 ح 121، ومن رواية محمَّد بن يوسف قال: حَدَّثَنَا الأَوْزَاعِيّ كتب إلى قتادة قال: حَدَّثني أنس 32 ح 119، وهناك روايات أخرى. (¬2) مسند أبي عوانة 2/ 122.

"ولا الضالين" قال: آمين. ويقول كما سجد وإذا قام من الجلوس: "الله أكبر" ثم يقول إِذا سلم "والذي نفسي بيده، إِني لأشبهكم صلاة برسول الله - صلى الله عليه وسلم -" رواه النسائي وابن خزيمة (¬1). هو أبو عبد الله نُعَيْم بن عبد الله المُجْمر -بضم النُّون وفتح المهملة مصغر- والمجْمِر -بضم الميم وسكون الجَيم وكسر الميم وبالراء -مولى عمر بن الخَطَّاب، سمع أَبا هريرة، روى عنه ابنه محمَّد ومالك بن أنس، وسُمى المُجْمِر لما ذكر سعيد بن منصور عن نُعَيْم بن عبد الله المجمر أن عمر بن الخَطَّاب، رضي الله عنه أمر أنْ يجمر مسجد المدينة كل جمعة حين ينتصف النهار (¬2). ¬

_ (¬1) النَّسائيّ، الافتتاح قراءة "بسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم" 2/ 103 - 104، ابن خزيمة، باب ذكر الدليل على أن الجهر ببسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم والمخافتة بها جميعًا مباح 1/ 251 ح 499، وابن حبان (موارد) 125 ح 450، الحاكم 1/ 232 وصححه ووافقه الذهبي، البيهقي الصلاة، باب جهر الإِمام بالتأمين 2/ 58 الدارقطني 1/ 305، 306، والحديث فيه سعيد بن أبي هلال الليثيّ مولاهم أبو العلاء المصري روى له الجماعة وقد وثقه ابن خزيمة والدارقطني والبيهقي والعجلي وابن حبان والذهبي وقال ابن حزم: شذ الساجي فضعفه وقال أبو حاتم: لا بأس به وقال أبو زرعة: صدوق، وضعفه قوم، وقال الشيخ حماد الأَنْصَارِيّ: لم يصب في ذلك، قيل: اختلط، ولم يعتبر ذلك الشيخان أو لعل روايتهم عنه قبل الاختلاط، فهو ثِقَة لاتفاق جل العلماء على ذلك، والله أعلم. ثقات العجلي 189، الميزان 2/ 162، التهذيب 4/ 94، ثقات ابن حبان 6/ 374، الكواكب النيرات 468، المحلى 3/ 9. قلت: وقع عند النسائي "أبو هلال"، وعند ابن خزيمة "ابن أبي هلال" وهو الصواب انظر ابن حبان (موارد)، وتحفة الأشراف 10/ 384، والتقريب 126، وسير أعلام النبلاء 5/ 227، قلت: فالحديث إسناده صحيح والله أعلم. وقد أخرج البُخَارِيّ بمعناه موصولًا: "يكبر كلما خفض ورفع ويقول: إنِّي لأشهبكم ... " 2/ 269 ح 785. (¬2) سير أعلام النبلاء 5/ 227، تهذيب الكمال 3/ 1421، تهذيب التهذيب 10/ 465.

الحديث ذكره البُخَارِيّ تعليقًا، وأخرجه أَيضًا السَّرَّاج وابن حبان وغيرهم من طريق سعيد بن أبي هلال عن نعيم، وبوب عليه النَّسائيّ (¬1) الجهر ببسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم، وهو أصح حديث ورد في ذلك. وقوله: "قال آمين" فيه دلالة على مشروعيتها للإمام وهو قول الحنفية والشافعية (¬2) وعن مالك (¬3): يقولها المأموم فقط وعنه يسرها الإِمام. وهذا الحديث حجة عليه وفيه دلالة على أن التكبير مشروع عند إرادة السجود وعند الانتهاض للقيام وسيأتي الكلام فيه إن شاء الله تعالى. وقوله "ثم يقول": نفهم من هذا أنَّه حكاية لصلاة متكررة اعتادها أبو هريرة فمتى فرغ قال ذلك. وقوله "أشبهكم" ظاهره أن المشابهة بجميع ما ذكر فيها، ويحتمل أن تتم المشابهة بالموافقة ولو في الأكثر. والله أعلم. 216 - وعن أبي هريرة -رَضِيَ الله عَنْهُ- قال: قال رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إِذ قرأتم الفاتحة فاقرؤوا بسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم، فإِنها إِحدى آياتها". رواه الدارقطني وصوب وقفه (¬4). وعنه قال: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا فرغ من قرأة أمِّ القرآن رفع صوته وقال: آمين" رواه الدارقطني وحسنه، والحاكم وصححه (¬5). ¬

_ (¬1) النسائي 2/ 103. (¬2) الهداية 1/ 48 - 49، المجموع 3/ 305. (¬3) الكافي 1/ 206. (¬4) الدارقطني، باب وجوب قراءة بسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم في الصلاة 1/ 312، البيهقي الصلاة، باب الدليل على أن بسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم آية تامة من الفاتحة 2/ 45. (¬5) الدارقطني، باب التأمين في الصلاة بعد فاتحة الكتاب والجهر بها 1/ 335، وقال: هذا إسناد حسن، البيهقي الصلاة، باب التأمين 2/ 58، الحاكم الصلاة 1/ 223.

ولأبي داود والتِّرمذيّ من حديث وائل بن حجْر نحوه (¬1). الحديث أخرجه الدارقطني من رواية أبي بكر الحنفي عن عبد الحميد بن جعفر قال: أخبرني نوح بن أبي بلال عن سعيد المقبري عن أبي هريرة رفعه، وأخرجه أَيضًا عن أبي بكر الحنفي قال: لقيتُ نوحًا فحدثني به ولم يرفعه، فرفعه نوح تارة ووقفه أخرى، وصحح غير واحد من الأئمة وقفه على رفعه (¬2)، فأعله (أ) ابن القطَّان (¬3) بهذا التردد، وتكلم فيه ابن الجوزي (¬4) من أَجل عبد الحميد بن جعفر (ب) فإن فيه مقالا (¬5)، ولكن قد رواه أبو بكر عن نوح بغير واسطة عبد الحميد (ب) في طريق الوقف ولذلك صوب الدارقطني وقفه ولكن مثل هذا الموقوف في حكم المرفوع إذ لا مدخل للاجتهاد فيه (¬6). وقد رواه البيهقي من طريق أخرى ترجع إلى عبد الحميد بن جعفر بالإسناد المذكور بلفظ: "إنه كان يقول الحمد لله رب العالمين سبع آيات ¬

_ (أ) في جـ: وأعله. (ب- ب) بهامش هـ.

إحداهن بسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم، وهي السبع المثاني، وهي أم القرآن، وهي فاتحة الكتاب" (¬1)، وروى الدارقطني (¬2) من طريق أخرى عن أبي هريرة عن النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - "أنَّه كان إذا قرأ وهو يؤم النَّاس افتتح ببسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم" (¬3) قال أبو هريرة: هي الآية السابعة. في الحديث دلالة على وجوب قراءة بسم الله الرَّحْمَن الرحيم مع قراءة الفاتحة، وتحقيق أنها إحدى آياتها وليست بآية مستقلة، وقد ذهب إلى هذا جمهور السلف والعِتْرة جميعا والشافعي وقراء مكة والكوفة (¬4)، وقال محمَّد بن كعب وابن المسيب: هي آية من الفاتحة فقط، قيل: إن منها بعض آية من غيرها، وقال أَحْمد وداود (¬5) ورازي الحنفية: آية مستقلة مُنزّلة بين كل سورتين، وقد تقدم بقية الأقوال فيها. وهذا الحديث لا ينافيه ما مر من عدم سماعها أو ترك الجهر بها. إذ مدلوله الأمر بقراءتها من غير تعرض للجهر أو الإسرار. وقوله "وعنه قال: كان .. إلخ" (أ) الحديث أخرجه الدارقطني والحاكم من طريق الزبيدي، وقال الدارقطني: إسناده (ب) حسن، وقال الحاكم: ¬

_ (أ) ساقطة من هـ. (ب) في جـ: إسناده

إسناده صحيح على شرطهما، وقال البيهقي: حسن صحيح (¬1). وحديث وائل أخرجوه (¬2) عن طريق الثَّوريّ بلفظ: "صليت خلفَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلما قال: ولا الضالين، قال آمين ومد بها صوته". ورواه أَيضًا ابن ماجه من طريق أخرى عنه بلفظ: "قال آمين فسمعناها منه". ورواه أَحْمد والدارقطني من هذه الطريق بلفظ: "مد بها صوته". وقال التِّرْمِذِيّ في "جامعه" (¬3) رواه شعبة فقال: "وخفض بها صوته" قال: وسمعت محمدًا -يعني البُخَارِيّ- يقول: حديث سفيان يعني الثَّوريّ أصح، وأخطأ فيه شعبة (¬4). (أ) في الحديث دلالة على أن الإِمام يشرع له قول "آمين" بعد قراءة الفاتحة جهرًا في الجهرية، وقد ذهب إلى هذا الشَّافعيّ (¬5)، وقال أبو حنيفة بل يسر الإِمام في الجهرية (¬6) وعن مالك في رواية (ب) أبي القاسم أن الإِمام ¬

_ (أ) زاد في هـ: و. (ب) زاد في جـ وهـ: ابن.

لا يقولها، ورواية عنه كأبي حنيفة (¬1) " وهذا الحديث لم يكن فيه تعرض لحكم المؤتم والمنفرد في التأمين، وقد وليس البُخَارِيّ من حديث أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: "إذا أمن الإِمام فأمّنوا فإنَّه مَنْ وافقَ تأمِينُه تأمين الملائكة غفِرَ له مَا تَقَدَّم مِنْ ذنبه" (¬2). وأخرج من حديث أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: "إذا قال الإِمام: غير المغضوب عليهم ولا الضَّالين فقولوا: آمين، فإنَّه مَن وافَقَ قوله قوِلَ الملائكة غُفر له مَا تقدم من ذنبه" (¬3) وذكر تعليقًا (¬4): أمَّن ابنُ الزُّبير ومنْ وراءه حتَّى إن للمسجد لَلَجَّة، وكان أبو هريرة ينادي الإِمام لا تفتني بآمين (¬5). وقال نافع: كان ابن عمر لا يدعه ويحضهم (¬6)، وسمعت منه في ذلك خبرًا. وأخرج أَيضًا عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا قال أحدكم "آميِن" وقالت الملائكة في السماء "آمين" فوافقت إحداهما الأخرى، غُفِر له ما تقدم من ذنبه" (¬7). ففي هذه الأحاديث دلالة على شرعية ذلك للمؤتم والمنفرد، والحديث ¬

_ (¬1) الكافي 1/ 206. (¬2) البُخَارِيّ 2/ 262 ح 780، مسلم 1/ 307 ح 72 - 410. (¬3) البُخَارِيّ 2/ 266 ح 782، مسلم 1/ 307 ح 76 - 410 م. (¬4) البُخَارِيّ 2/ 262، ووصله عبد الرَّزّاق في المصنف 2/ 96 - 97. (¬5) وصله عبد الرَّزّاق 2/ 96 ح 2639 بلفظ (لا تسبقني) وابن أبي شيبة 2/ 425. (¬6) أخرجه عبد الرَّزّاق في المصنف 2/ 97 ح 2641. (¬7) البُخَارِيّ 2/ 266 ح 781.

الأخير للقارئ مطلقًا في الصلاة أو في غيرها، وفي بعض هذه الألفاظ (أ) ما يدل على أن تأمين المأموم (¬1) يتأخر عن تأمين الإِمام لأنه رتبه عليه بالفاء وقد (ب) ذهب الجمهور (¬2) إلى أن المشروع المقارنة، قال الشيخ محمَّد الجويني (¬3) لا تستحب مقارنة الإِمام في شيء من الصلاة غيره، وتأويل الجمهور الرواية المذكورة بأن المعنى إذا أراد أن يقول آمين، وحمل الجمهور (¬4) هذا الأمر على الندب، وحكى ابن بزيزة عن بعض أهل العلم وجوبه على المأموم عملًا بظاهر الأمر، قال: وأوجبه الظاهرية على كل مُصَلٍّ (¬5)، وظاهره أنَّه يؤمن المأموم ولو كان مشغولًا بقراءة الفاتحة، وبه قال أكثر الشافعية، ثم اختلفوا هل تنقطع به موالاة الفاتحة على وجهيْن أصحهما (¬6): لا تنقطع لأنه مأمور بذلك لمصلحة الصلاة بخلاف الأمر الذي لا يتعلق بها كتشميت العاطس (¬7) والخلاف في شرعية التأمين في الصلاة للعترة جميعًا كذا رواية الإِمام المهدي في "البحر" (¬8) وفي "جامع آل محمَّد" رواه أحمد بن عيسى عن علي -رَضِيَ الله عَنْهُ- عند القول بالجهر ببسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم، ونقل في "البيان" عن أَحْمد بن عيسى ¬

_ (أ) ساقطة من جـ. (ب) ساقطة من جـ.

القول به، ففي نسبة الإِمام المهدي ذلك إلى الجميع فيها نظر فقالوا: إنه بدعة لقوله - صلى الله عليه وسلم - لمن شمت العاطس في الصلاة "لا يَصْلُح فيها شيءٌ مِنْ كَلامِ النَّاس" (¬1) قال الإِمام المهدي: والراوي لفعله وائل بن حجْر (¬2) وهو ضعيف الرواية، قالِ: سلمنا. فمعارض بقوله "لا يَصلح فِيهَا شيء مِن كَلامِ النَّاس" ومَنْ جوزه جوز الدعاء، والتشميت دعاء، وقد أنكر عليه. انتهى. وقد علمت أنَّ ذلك قد ثبت من غير رواية وائل على فرض صحة ضعفه (¬3)، والمعارضة غير صحيحة لما عرفت من أن معناه من تكليم النَّاس كما مر، ولو كان معناه ما ذكر فهذا خاص وذلك عام، والتلازم الذي ذكره غير صحيح إذ غاية الأمران هذا يصير من جملة أذكار الصلاة التي منْ غير القرآن ثابتة بدليلها، وإلا لزم قصر الصلاة على فهمه من حديث السلمي ألا يتكلم في الصلاة إلَّا بقرآن، فما قال في ثبوت سائر الأذكار قيل في هذا والأمر واضح. ولفظ "آمين" (¬4) هي بالمد والتخفيف في جميع الروايات وعن جميع القراء، وحكى أبو نصر عن حمزة والكسائي الإمالة، وفيها ثلاث لغات أخرى شاذة؛ القصر حكاه ثعلب وأنشد له شاه"، وأنكره ابن درستويه ¬

_ (¬1) تقدم في 627 ح 166. (¬2) وائل بن حجر صحابي جليل -رضي الله عنه وأرضاه- والصحابة كلهم عدول بتعديل الله لهم وتعديل رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- .. فلا يلتفت إلى كلام الإِمام المهدي في "البحر" أو لنقل الشارح. (¬3) لا ينبغي افتراض صحة الضعف. (¬4) القاموس 4/ 199، تفسير أبي السعود 1/ 33، تفسير القرطبي 1/ 127 - 131.

وطعن في الشاهد بأنه لضرورة الشعر، وحكى عياض (¬1) ومن تبعه عن ثعلب أنَّه إنما أجازه في الشعر خاصة. والتشديد مع المد والقصر وخطأهما جماعة من أهل اللغة. وآمين من أسماء الأفعال مثل صه للسكوت، ويُفتح في الوصل لأنها مبنية بالاتفاق، ولم يكسر لثقل الكسرة بعد الياء مثل كيف، ومعناها: اللهمَّ استجيب، وقيل: كذلك يكون، وقيل معناه: اللهمَّ آمنا بخير، وقيل: درجة في الجنة تجب لقائلها، وقيل: لمن استجيب له كما استجيب للملائكة (¬2)، وقيل: هو اسم من أسماء الله تعالى، رواه عبد الرَّزّاق (¬3) عن أبي هريرة بإسناد ضعيف، وعن هلال بن يساف (أ) التابعي مثله (¬4) وقال: من مد وشدد معناها (ب) قاصدين إليك، ونُقل ذلك عن جعفر الصادق. وقال: من قصر وشدد هي كلمة عبرانية أوسريانية، وعند أبي داود (¬5) من حديث أبي زهير النميري الصحابي أن آمين مثل الطابع على الصحيفة ثم ذكر قوله - صلى الله عليه وسلم - "إن خَتَمَ بآمين فقد أوْجَبَ، والمستحب الاقتصار على التأمين. وقد أخرج البيهقي (¬6) حديث وائل قال: - صلى الله عليه وسلم - ولا الضَّالين ربّ ¬

_ (أ) في النسخ: يسار، وفي مصنف عبد الرَّزّاق يساف 2/ 99. (ب) في جـ: معناه.

اغفرْ لي آمين، وفي إسناده أبو بكر النهشلي (أ) وهو ضعيف (¬1)، وفي "الأم" للشَّافعي (¬2): فإن قال: آمين رب العالمين كان حسنًا، ونقله النووي من زوائده في "الروضة" (¬3). 217 - وعن عبد الله بن أبي أوْفَى -رَضِيَ الله عَنْهُ- قال: "جاء رَجُلٌ إِلى النَّبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: إِنِّي لا أستَطِيِعُ أنْ آخذَ منْ القُرآن شيئًا، فَعَلمني مَا يُجْزِئني، فقال: "قُلْ سُبْحَانَ الله، والحمدُ لله، وَلَا إِلهَ إلا الله، والله أكْبَر ولَا حَوْلَ ولَا قوةَ إلا بالله العَلي العَظِيم". الحديث رواه أَحْمد، وأبو داود، والنَّسائيّ، وصححه ابن حبان، والدارقطني، والحاكم (¬4). هو أبو إبراهيم، ويقال: أبو محمد، ويقال أبو معاوية، واسم أبي أوفى: علقمة بن قيس بن خالد بن الحارث بن أبي أسيد الأسلمي، شهد الحديبية؛ ¬

_ (أ) في النسخ: السهيلي، والتصحيح من البيهقي، وانظر الترجمة.

وخيبر وما بعدها من المشاهد ولم يَزَلْ بالمدينة حتَّى قُبض النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - ثم تحول إلى الكوفة، وهو آخر منْ مات من الصَّحَابَة بالكوفة سنة سبع وثمانين، وقيل سنة ست، وكان قد كف بصره، وكان من أصحاب الشجرة، روى عنه الشعبي وإسماعيل بن أبي خالد وعمرو بن مرة. وأسيد بفتح الهمزة وكسر السين المهملة (¬1). الحديث أخرجوه من حَدَّثَنَا إبراهيم بن إسماعيل السكسكي (¬2) وهو من رجال البُخَارِيّ، وقد عيبَ على البُخَارِيّ إخراج حديثه، وضعفه النَّسائيّ (¬3)، وقال ابن القطان: ضعفه قوم فلم يأتوا بحجة، وذكره النووي في "الخلاصة" (¬4) في فصل الضعيف، وقال في "شرح المهذب" (¬5): رواه أبو داود والنَّسائيّ بإسناد ضعيف، وكان سببه كلامهم في إبراهيم وقد قال ابن عدي (¬6) لم أجد له حديثًا منكر المتن، وقد رواه الطَّبْرَانِيّ (أ) وابن حبان في "صحيحه" (¬7) أَيضًا من طريق طلحة بن مصرف (ب) عن ابن أبي أوفى، وفي إسناده الفضل بن موفق (¬8) ضعّفه أبو حاتم. ¬

_ (أ) في جـ: الطبري. (ب) في جـ: مطرف.

والحديث فيه دلالة على أن ذلك المذكور يقوم مقام القراءة لمن لا يحسنها، وظاهره أنَّه يكفي قوله مرة واحدة، ولعله بالقياس على قراءة الفاتحة أن الخلاف في تكريره في كل ركعة، أو أنه لا يجب تكريره كما تقدم في الفاتحة. وتقدم تمام الكلام في هذه المادة في حديث أبي هريرة تعليم المسئ صلاته (¬1). 218 - وعن أبي قتادة -رَضِيَ الله عَنْهُ- قال: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّي بِنَا، فَيَقرأ في الظُّهْرِ والعَصْرِ في الركعَتَيْنِ الأوليينِ بفَاتحَة الْكِتَابِ وَسورَتَيْنِ، ويُسمعُنَا الآية أحْيَانًا، ويطَوّلُ الرَّكعَة الأوَلىَ، وَيَقرأْ في الآخرتين بِفَاتِحةِ الْكِتَاب" متفق عليه (¬2). قوله: "الأولَيَينِ" بياءين تثنية أُولَى، وكذا (أ) آخرتين تثنية أخرى. في الحديث دلالة على شرعية قراءة الفاتحة في كل ركعة وقراءة السورة في الركعتين الأوليين. وفيه دلالة على قراءة سورة كاملة وإن قصرت أفضل من قراءة قدرها ¬

_ (أ) ساقطة من جـ.

من سورة طويلة (¬1)، إذ لفظ كان يفعل تدل بحسب الأغلب على الدوام أو الغالب. وقوله "ويسمعنا الآية أحيانًا": فيه دلالة على أن الإسرار في السرية ليس بواجب وأنه لا يجب سجود السهو على من فعل ذلك، وسواء قلنا كان يفعل ذلك عمدًا لبيان الجواز أو بغير قصد للاستغراق في التدبر. وقوله: "أحيانًا" يدل على تكرر ذلك منه. وقد أخرج النَّسائيّ (¬2) من حديث البراء: "كنا نصلي خلف النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - الظهر فنسمع منه الآية بعد الآية من سورة لقمان (أ) والذاريات"، ولابن خزيمة (¬3) من حديث أنس نحوه ولكن قال: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} و {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ}. وقوله "ويطول الرَّكعة الأولى": ونحوه لأبي داود وابن خزيمة (¬4) ومن رواية عبد الرَّزّاق عن عطاء قال: "إنِّي لأحبُّ أنَّ يُطَولَ الإمامُ الرَّكْعَةَ الأولى من كلِّ صلاةٍ حتَّى يكثرَ النَّاسُ في الأولى، ويقصر في الثَّانية" وروى عبد الرَّزّاق (¬5) في آخر حديث أبي (ب) قتادة: "فظننا أنَّه يريد بذلك أن ¬

_ (أ) هـ: القمر. (ب) ساقطة من جـ وهـ.

يدرك النَّاس الركعة الأولى". في الحديث دلالة على استحباب التطويل للركعة الأولى وظاهره التطويل بالقراءة وادعى ابن حبان أن الطول إنما هو بترتيل القراءة فيها مع استواء المقروء، وقد روي مسلم من حديث حفصة: "كان يرتل السورة حتَّى تكون أطول منْ أطول منها" (¬1) ويؤخذ من هذا أن للإمام تطويل ركن الركوع ليلحق به المأموم (¬2)، وقد ذكر البُخَارِيّ (¬3) في "جزء القراءة" (أ) ما معناه أنَّه لم يرد عن أحد من السلف في انتظار الداخل (ب) في الركوع شيء والله أعلم. [وعن أبي حنيفة (¬4): يطوِّل في أولى (ب) الصبح خاصة، وذهب بعض الأئمة إلى استحباب تطويل الأولى من الصبح دائمًا وغيرها إنْ كان يرجى كثرة المأمومين، وصلاته في أول الوقت وإلا فلا] (د). وقال: مَنْ يستحب استواء الركعتين في القراءة: إنما طالت الأولى ¬

_ (أ) في جـ: القرآن. (ب) في جـ: الرَّجل. (جـ) في هـ: أول. (د) بهامش الأصل.

بدعاء الافتتاح والتعوذ، وأما في القراءة فهما سواء، ويدل عليه حديث أبي سعيد الآتي: وقال البيهقي (¬1) في الجمع بين أحاديث المسألة يطول في الأولى إنْ كان منتظرًا أحدًا وإلا فيسوي بين الأولين. وقوله "ويقرأ في الآخريين بفاتحة الكتاب": ظاهره من غير زيادة عليهما، وكذا الثالثة من المغرب حكمها كذلك، وإنْ كان مالك قد أخرج في الموطأ (¬2) من طريق الصنابحي أنَّه سمع أَبا بكر يقرأ فيها: {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا} (¬3) الآية، وللشافعي قولان في استحباب قراءة السورة في الآخريين (¬4). وفي الحديث دلالة على جواز الإخبار بما يفيد الظن والعمل به وإلا فالصلاة السرية لا طريق إلى معرفة قراءة السورة فيها يفيد اليقين بذلك، وإنما ذلك بما يظهر من شاهد الحال مع قرينة سماع الآية والآيتين من السورة. والقول بأن ذلك يجوز أن يكون مأخوذًا من إخبار النَّبِيّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يفيد مع "كان" التي تفيد الدوام أو الأغلبية، وفي حديث أبي سعيد الآتي: (¬5) دلالة على ما قلنا، وكذلك في جواب خباب بن الأرت لمن سأله عن قراءة النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - في صلاة الظهر والعصر، بأي شيء كنتم تعلمون قراءته؟ قال: باضطراب لحيته (¬6) والله أعلم. 219 - وعن أبي سعيد الخدرِيّ -رَضِيَ الله عَنْهُ- قال: "كنا نحْزُر ¬

_ (¬1) المجموع 3/ 322. (¬2) الموطأ باب القراءة في المغرب والعشاء 71. (¬3) الآية 8 من سورة آل عمران. (¬4) وصحح النووي عدم الاستحباب 3/ 321. (¬5) ح 219. (¬6) البُخَارِيّ 2/ 245 ح 761.

قِيَامَ رسول الله (أ) - صلى الله عليه وسلم - في الظهر والعصر، فحزرنا قيامه في الركعتين الأوليين من الظهر قدر: آلم تنزيل .. السجدة، وفي الآخريين قدر النصف من ذلك، وفي الأولَيين من العصر قدر الآخريين من الظهر، والآخريين على النصف من ذلك" رواه مسلم (¬1). نَحْزُر بضم الزاي وبعدها مهملة وهو بمعنى الخرص والتقدير (¬2)، وفي رواية لابن ماجه (¬3) أنّ الحازرين لذلك ثلاثون رجلًا من الصَّحَابَة. وفيه دلالة على استواء الركعتين الأوليين واستواء الآخريين، وعلى تطويل الظهر أكثر من العصر، وقد عرفت ما مر، قال النووي (¬4): قال العلماء: السنة أن يقرأ في الصبح والظهر بطوال المفصل، ويكون الصبح أطول، وفي العشاء والعصر بأوساطه، وفي المغرب بقصاره، قالوا: والحكمة في إطالة الصبح والظهر: أنهما في وقت غفلة بالنوم في آخر الليل وفي القائلة، فطوّلتا (ب) ليدركهما المتأخر بغفلة ونحوها، والعصر ليست كذلك بل إنها تفعل (جـ) في وقت تعقب أهل الأعمال فخففت عن ذلك، والمغرب لضيق الوقت فاحتيج إلى زيادة تخفيفها لذلك ولحاجة النَّاس إلى ¬

_ (أ) في جـ: النَّبِيّ. (ب) في جـ: فطولها. (جـ) ساقطة من جـ

عشاء صائمهم وضيفهم، والعشاء في وقت غلبة النَّوم والنعاس ولكن وقتها واسع فأشبهت العصر. انتهى، وهذا الذي ذكروه هو مضمون الحديث الآتي. وأقول: إن الأحاديث في هذه المادة مختلفة لا يوقف منها، على الضابط المذكور فإنَّه قد ورد عنه - صلى الله عليه وسلم - أن صلاة الظهر تُقَام ويذهب الذاهب إلى البقيع فيقضي حاجته، ثم يأتي أهله فيتوضأ ويدرك النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - في الركعة الأولى مما يطيلها (¬1). وقد ورد في صلاة العصر أنها على النصف من صلاة الظهر إذا طالت الظهر ومثلها إذا قصرت (¬2). وقد روى أنَّه قرأ في المغرب بـ: {المص} (¬3) (أ) وأنه قرأ فيها بـ {الصافات} وأنه قرأ فيها بـ {حم} الدخان (¬4) (أ) وأنه قرأ فيها {سَبِّح اسْمَ رَبكَ الأعْلَي} (¬5) وأنه قرأ فيها بـ {التين والزَيْتُّونِ} (¬6)، وأنه قرأ فيها بالمَعوذتين، وأنه قرأ فيها بـ {المرّسَلات} (¬7)، وأنه كان يقرأ فيها بقصار المفصل (¬8). وهي كلها آثار صحاح، وأما المداومة على قِصَار المْفَصَّل في المغرب فإنما هو فعل مروان. و (ب) لهذا أنكر عليه يزيد بن ثَابت، وقال له: "ما لك تقرأ بقصار المفصل؟ " ¬

_ (أ- أ) ساقطة من جـ. (ب) الواو ساقطة من جـ.

وقد رأيتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في الغرب بطولى الطوليين (¬1) وهي الأعراف [والطولى الأخرى الأنعام، يريد بواحدة من الطوليين] (أ). وقد أخرج النَّسائي "أنَّه فرق الأعراف في ركعتي المغرب (¬2)، وقد قرأ في العشاء {بالتين والزيتون} (¬3) وَوَقَّت لعاذ فيها "بالشمس وضحاها" (¬4)، و {سبح اسم ربك الأعلى} و {واللّيلِ إِذَا يَغشَى} ونحوها"، وقد أخرج النَّسائيّ من حديث ابن عمر: "كان النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - يأمرنا بالتخفيف، ويؤمنا بالصافات" (¬5) فالصافات بيان للتخفيف المأمور به. والجمع بين هذه الروايات أنَّه وقع الجميع من النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - وأنه كان يختلف باختلاف الأوقات والأشغال والنشاط والفتور والإقبال في الصلاة بالقلوب والإدبار، والله أعلم. وقوله و (ب) "في الآخريين على النصف من ذلك": احتَّج به الشَّافعيّ (¬6) على قراءة سورة في الركعتين الآخريين، وهو مأخذ قريب، إذ من البعيد سكوته - صلى الله عليه وسلم - عن الذكر في الصلاة، والقول بترتيل قراءة الفاتحة فيهما محتمل بعيد، والله أعلم. ¬

_ (أ) ساقطة من الأصل، وبهامش جـ وهـ. (ب) الواو ساقطة من جـ.

220 - وعن سليمان بن يَسَار -رَضِيَ الله عَنْهُ- قال: "كانَ فلانٌ يُطِيل الأوُلَيَيْن من (أ) الظهر ويُخَفِّفُ العَصر، ويَقْرأ في المَغْرِب بقصَار المُفَصَّل، وفي العِشَاءِ بوَسْطِهِ، وفي الصبْح بِطِوَاله". فقال أبو هريرة: "ما صليتُ وراء أحدٍ أشْبَهَ صَلَاةً بِرَسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - من هذا" أخرجه النَّسائيّ بإسناد صحيح (¬1). هو أبو أَيُّوب -ويقال: أبو عبد الرَّحْمَن، ويقال: أبو عبد الله- سليمان بن يسار -بفتح الياء التحتانية وتخفيف السين المهملة- مولى ميمونة زوج النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - وأخو عطاء بن يسار، من أهل المدينة، وكبار التابعين، كان فقيهًا فاضلًا ثِقَة عابدًا وَرعًا حجة، وهو أحد الفقهاء السبعة، قال الحسن بن محمَّد: سليمان بن يسار أفهم عندنا من سعيد بن المسيّب ولم يقل أعلم ولا أفقه، روى عن ابن عباس وأبي هريرة (ب) وأم سلمة، روى عنه الزُّهْرِيّ (ب) ويحيى بن سعيد الأَنْصَارِيّ وغيرهما من الأعلام، مات سنة سبع ومائة وهو ابن ثلاث وسبعين سنة (¬2). وقوله: "كان فلان": قال في "شرح السنة": هو رجل كان أميرًا ¬

_ (أ) ساقطة من جـ. (ب- ب) ساقطة من جـ.

على المدينة، وقيل اسمه عمر بن سلمة بن نفيع البَصْرِيّ إمام بني خزيم بالبصرة، وكنيته أبو يزيد، وليس هو بعمر بن عبد العزيز كما قاله التوربشتي؛ لأن ولادة عمر بن العزيز كانت بعد وفاة أبي هريرة. في الحديث دلالة على أن هذه الصفة كانت عادة النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - أو قريبًا منها، وقد عرفت ما فيه (أ) في الحديث الذي قبله. 221 - وعن جبير بن مُطْعم -رَضِيَ الله عَنْهُ- قال: "سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في المغرب بالطور" متفق عليه (¬1). في الحديث دلالة على أن المغرب لا يختص بقراءة قِصَار المُفَصل، وقد تقدم الكلام في ذلك. 222 - وعن أبي هريرة -رَضِيَ الله عَنْهُ- قال: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في صلاة الفجر يوم الجمعة: {الم تَنْزيل} .. السجدة و {هل أتى عَلَى الإِنْسَانِ} متفق عليه (¬2). وللطبراني من حديث ابن مسعود: "يديم ذلك". في الحديث دلالة على أن قراءة السورتين في فجر الجمعة مندوبة ¬

_ (أ) في هـ: ما فيها.

لا سيما رواية الطَّبْرَانِيّ، قال شيخ الإِسلام ابن تيمية (¬1): السر في قراءتهما في فجر الجمعة؛ لأنها تضمنتا ما كان و (أ) يكون في يومهما، فإنهما اشتملتا على خلق آدم وعلى ذكر المعاد وحشر العباد، وذلك يكون يوم الجمعة ففي قراءتهما تذكير للأمة بما كان فيه ويكون، والله أعلم. 223 - وعن حذيفة -رَضِيَ الله عَنْهُ- قال: "صليتُ مع النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - فما مَرَّتْ به آية رحمة إِلا وقف عندها يسأل، ولا آية عذاب إِلا تَعوَّذَ منها .. " أخرجه الخمسة وحسنه التِّرْمِذِيّ (¬2). في الحديث دلالة على أنَّه ينبغي للمصلي تدبر القرآن، وترتيل آياته، والانزجار عند الزواجر، والاشتياق لما أعده من الرحمة والزلفى في اليوم الآخر، وأن هذا من تمام خشوع الصلاة، والله أعلم. 224 - وعن ابن عباس - رضيِ الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ألا وإنِّي نُهِيتُ؛ أنْ أقْرأَ القرآن راكعًا أو ساجدًا، فأما الركوع فعَظِّموا فيه الرَّبَّ وأما السُّجودُ فَاجْتَهِدُوا في الدعَاءِ فَقمنٌ أنْ يُسْتَجَاب لكم .. " رواه ¬

_ (أ) زاد في جـ: ما.

مسلم (¬1). قوله: "نُهِيتُ" فيه دلالة على أن ذلك منهيّ عنه، فلو فعل ذلك فقد ارتكب النهي، وظاهر النهي التحريم، إلَّا إذا دل دليل بخلافه، وقد (أ) اختلف العلماء فيما إذا قرأ شيئًا من القرآن فيهما، فعند الهادوية وغيرهم، أنَّه لا تفسد الصلاة إذا كان قليلًا مطلقًا، بأن كان كثيرًا أفسد إذا كان عمدًا، ويجب سجود السهو [في القليل مطلقًا، وفي الكثير إذا كان سهوًا] (ب)، (جـ وعند الشافعية (¬2) كذلك جـ) في غير الفاتحة يكره ولا تفسد الصلاة، وظاهره سواء كان كثيرًا أو قليلًا إذا كان عمدًا، وفي الفاتحة وجهان: أحدهما لا تبطل بها الصلاة كغيرها (¬3)، والثاني تحرم وتبطل الصلاة، وإن (د) كان سهوًا فلا كراهة وسجد للسهو عند الشَّافعيّ. وقوله: "وأما الركوع فعظّموا فيه الرَّبَّ ": المراد بالتعظيم هو قول: "سبحان ربي العظيم" كما رواه مسلم (¬4) في حديث حذيفة: "فجعل يقول: سبحان ربي العظيم ثم قال: سمع الله لمن حمده ثم سجد فجعل ¬

_ (أ) ساقطة من هـ. (ب) في هامش الأصل. (جـ - جـ) في هامش هـ. (د) في هـ: وإذا.

يقول: سبحان ربي الأعلى"، وظاهره وجوب التسبيح في الركوع، وقد ذهب إلى هذا أَحْمد وطائفة من أئمة الحديث (¬1)، وخالف في ذلك الجمهور وحملوا الأمر على الاستحباب لحديث المسئ صلاته، فإنَّه لم يعلمه النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - تسبيح الركوع ولو كان واجبًا لأمر به، وظاهر حديث حذيفة، وإطلاق قوله: "فعَظِّموا فيه الرَّبَّ" أن المرة الواحدة يحصل بها المأمور به، وقد أخرج أبو داود من حديث عون بن عبد الله عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذَا رَكع أحَدُكُم فَلْيَقلَ: ثلاث مَرَاتٍ: "سبْحَانَ ربي العَظيم"، وذلك أدناه وإذا سجد فليقل: "سُبحانَ رَبي الأعلى" ثلاثًا، وذلك أدناه" (¬2) رواه أبو داود والتِّرمذيّ وابن ماجه، وقال أبو داود (¬3)، فيه إرسال؛ لأن عونًا (¬4) لم يدْرِك ابن مسعود، وكذا قال البُخَارِيّ في "تاريخه" (¬5)، وكذا التِّرْمِذِيّ (¬6)، ففيه دلالة على أن المرة الواحدة [غير كافية] (أ)، ولا سيما مع قوله: "وذلك أدناه" وأما حمله على الندب فهو مثل الحديث الأول. وفي قوله (ب): "فاجتهدوا في الدعاء" فيه دلالة على قُرْبِ المصلي من المعبود جل وعلا لما في ذلك من الخضوع والاستكانة، وقد اختلف ¬

_ (أ) بهامش الأصل. (ب) في جـ: وقوله.

العلماء في الأفضل من السجود أو القيام في الصلاة على ثلاثة أقوال (¬1): الأول أن السجود وتكثير الركوع والسجود أفضل حكاه التِّرْمِذِيّ والبغوي عن جماعة وروي عن ابن عمر في السجود. والثاني: أن القيام أفضل، ذهب إليه الشَّافعيّ وجماعة لحديث مسلم "أفضل الصلاة طول القنوت" (¬2) ولأن ذكره قراءة القرآن، وهو أفضل من التسبيح، ولأنه - صلى الله عليه وسلم - كان يطول القيام بئر من تطويل السجود. والثالث: أنهما سواء، وتوقف أَحْمد، وقال إسحاق ابن راهويه: أما في النهار فتكثير (أ) الركوع والسجود أفضل، وأما في الليل فالقيام، وذلك لأن صلاة النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - في الليل قد وُصِفَتْ (ب) بطول القيام (¬3). واعلم أنَّه يجْمَع بين الدعاء والتسبيح للأحاديث الواردة في ذلك. وقوله: "فَقَمِن": وهو بفتح القاف وكسر اليم وفتحهما لغتان مشهورتان فمن فتح فهو عنده مصدر لا يثنى ولا يجمع، ومن كسر فهو صفة، وفيه لغة ثالثة: "قَمِين" (جـ) بزيادة ياء وفتح القاف وكسر اليم ومعناه: حقيق وجدير. ¬

_ (أ) في هـ: فتكبير. (ب) في هـ: وصف. (جـ) في جـ: فقمين.

225 - وعن عائشة - رضي الله عنها - قالت: "كانَ رسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: في ركُوعه وسُجُوده: "سُبْحَانَكَ اللهُم وَبحَمْدكَ، اللهُم اغْفرْ لي". متفق عليه (¬1). الحديث ورد بألفاظ، ففي لفظ كما في الأصل، وفي لفظ قالت: "ما صلى النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - بعد أن نزلت (أ) عليه،: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} إلا يقول: سبحانك ربنا وبحمدك، اللهمَّ اغفر لي" (¬2)، وثبت في رواية بحذف الواو وفي كثير من الروايات بإثباتها. فيه دلالة على قول ذلك في الركوع والسجود، وهو لا ينافي الحديث الذي قد مر وهو: "أما الركوع فَعَظِّموا فيهِ الرَّبَّ"؛ لأن ذلك يدل على أنَّه محل للتعظيم (ب)، وهذه الزيادة مفهومة من هذا الحديث فيجمع بين الروايتين جميعًا بالجمع بين مدلوليهما مع أن في قوله: "فاجتهدوا فيه بالدعاء" يدل بمفهومه أن غيره لا يجتهد فيه، وأما اليسير من الدعاء فلا يضر، إذ معنى الاجتهاد هو الإكثار منه. وقوله: "سبحانك" منصوب على المصدرية بتقدير "أسبحك" ومعنى التسبيح التنزيه والتقديس من النقص. ¬

_ (أ) في جـ: نزل. (ب) زاد في جـ، هـ: و.

وقوله: "وبحمدك": يحتمل أن تكون الواو للعطف، والمعطوف متعلق "بحمدك" والتقدير: وألتبس (أ) بحمدك والمعنى وأحمدك (ب) يحتمل أن تكون للحال والمعنى أسبحك وأنا ألتبس بحمدك أي في حال كوني ملتبسا بحمدك، وهذا هو الأنسب لما روي عن عائشة - رضي الله عنها - في تمام رواية الحديث: "يَتَأوَّل القرآن" (¬1)، أي يتأول قوله سبحانه: {فَسَبِّح بَحَمْدِ رَبِّكَ} (¬2)، وعلى رواية حذف الواو يحتمل أيضًا الحال، ويحتمل أن تكون الباء للسببية ويناسبه أَيضًا ما روي عن عائشة "بحمدك لا بحمد غيرك" أي وقع هذا بسبب حمد الله أي بفضله وإحسانه فعبّر عنهما بالحمد لأنهما مسببان عنه. وقوله: "اللهمَّ اغفر لي" لموافقة قوله: {واسْتَغْفِرْهُ} وفي هذا دلالة على سرعة (جـ) امتثاله - صلى الله عليه وسلم - لما أمر به وقيامه بحق العبودية وكمال معرفته بعظمة الربوبية، زاده الله شرفا وفضلًا وقد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر. 226 - وعن أبي هريرة - رضي الله عنه قال: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إِذَا قَامَ إِلى الصلاة يكبر حين يقوم، ثم يكبر حين يركع، ثم يقول: سَمِعَ الله لِمَنْ حَمِدَه"، حِينَ يَرْفَعُ صُلْبَهُ مِنِ الرُّكُوع، ثمَّ يَقُولُ وَهُوَ قَائِمٌ: ربنا وَلَكَ الحَمْدُ، ثم يكبر حين يهوي سَاجدًا، ثم يكبر حِينَ يَرْفَعُ رأسَهُ، ثُمَّ يُكَبِّرُ حِينَ يَسْجُدُ، ثُمَّ يُكَبِّرُ حِينَ يرفع، ثمّ يَفْعَلُ ذَلِك في الصَّلاةِ كُلِّها، ويُكَبِّرُ حِينَ ¬

_ (أ) في جـ: واللبس. (ب) في جـ: التعظيم. (جـ) في هـ: شرعية.

يقوم من الثنتين بَعْدَ الجُلُوسِ". متفق عليه (¬1). قوله (أ) "يكبر حين يقوم" أي حين يقوم إلى الصلاة، وظاهره أن التكبير مُقَارنُ لحال القيام، والقيام هو الانتصاب واستواء القامة فلا يجزئه أن يكبِّر وهو على غير حال القيام، كما إذا أهوى إلى الركوع أو نحوه، وهذا التكبير واجب وقد دل على وجوبه ما تقدم في حديث المسيء صلاته (ب). وقوله: "ثم يكبر حين يركع .. " إلخ، فيه دلالة على شرعية التكبير في كل خفض ورفع، وهذا مُجْمعٌ عليه في هذه الأعصار، وقد كان وقع فيه خلاف في زمن أبي هريرة (¬2) فكان (جـ) بعضهم لا يرى التكبير إلَّا في افتتاح الصلاة، وبعضهم يزيد عليه بعض ما في هذا الحديث، ولعلهم لم يبلغهم ¬

_ (أ) زاد في جـ: ثم. (ب) زيادة من: جـ، هـ. (جـ) في هـ: وكان.

فعْل النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - لذلك قال أبو هريرة لما فعل مثل هذا المروي في صلاته فَلما انصرف قال: والله إنِّي لأشْبَهُكمْ صَلَاةً برسولِ الله (¬1) واستقر العمل على ما في هذا الحديث (أ) في كل صلاة ثنائية إحدي عشرة تكبيرة، وهي تكبيرة الإحرام وخمس في كل ركعة، وفي الثلاثية سبع عشرة وهي تكبيرة الإحرام وتكبيرة القيام من التشهد الأول، وخمس في كل ركعة، وفي الرباعية ثنتان وعشرون ففي المكتوبات الخمس: أربع وتسعون تكبيرة، وظاهره فِعْلِهِ - صلى الله عليه وسلم - ومداومته على ذلك يدل على وجوبه. وقد ذهب إلى هذا أَحْمد بن حنبل في إحدى الروايتين عنه (¬2)، والجمهور (¬3) على خلاف ذلك، قالوا لأن النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - لم يعلم ذلك المسئ صلاته وإنما عَلَّمه تكبيرة الإحرام، وهو موضع بيان للواجب، ولا يجوز التأخير عن وقت الحاجة. وظاهر قوله: "يكبر حين" كذا: أنَّه يقارن التكبير (ب) هذه الحركات فيشرع في التكبير عند ابتدائه للركن ويمده حتَّى يتم الحركة لذلك، وهذا مذهب كافة العلماء، إلَّا ما روي عن عمر بن عبد العزيز، وبه قال مالك (¬4): إنه لا يكبر للقيام من الركعتين حتَّى يستوي قائمًا. ¬

_ (أ) زاد في هـ: كما. (ب) ساقطة من جـ.

وقوله: ثم يقول حين يَرْفَعُ صُلْبَهُ منَ الْركُوع: "سَمِعَ الله لمَنْ حَمدَه"، ويقول وهو قائم: "ربنَا وَلَكَ الْحَمْدُ" ظاهره أنَّه يقول ذلك كل مُصَلّ، إذ هو حكاية لمطلق صلاة النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - وإن كان يحتمل أن ذلك حكايته لصلاة النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - إذ الصلاة المتبادر منها الصلاة الواجبة، والغالب على صلاته الجماعة وهو الإِمام فيها، وأيضًا في رواية لمسلم منْ فعْل أبي هريرة وهو إمام بالمدينة في أيام مروان (¬1) حكاية ذلك وقالَ: وَالله إنِّي لأشْبَهُكُمْ صَلَاةً برَسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - ولكن ذلك لا يُكَدر هذا الظاهر لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "صلوا كَمَا رأيتموني أصلي" (¬2)، وظاهر الأمر إطلاق المشابهة لكل مصلّ يصلي كصلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد ذهب إلى هذا الشَّافعيّ (¬3)، وذهب الهادي (¬4) والقاسم وأبو حنيفة ورواية عن الناصر أن التسميع للإمام والمنفرد، وِالحمد للمؤتم، قالوا لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا قَالَ الإمَامُ سَمِع الله لمنْ حَمدَه فقُولوا: اللهُم ربنا لَكَ الحَمْدُ فإنهُ مَنْ وَافَقَ قَولهُ قوْلَ الملائكَةَ غُفِرَ لهَ مَا تَقَدَّم مِنْ ذنبهِ" (¬5). وذهب أَبو يوسف ومحمَّد إلى أنَّه يجمع بينهما الإِمام والمنفرد (¬6)، ويأتي ¬

_ (أ) بهامش الأصل.

بالتحميد المؤتم [قال في "شرح القُدُوري" وذكر الجخندي هذه المسألة وقال: هو قول أصحابنا جميعًا] (أ) جمعًا بين الحديثين حكاية فعله وقوله، وقد عرف أن قوله: "إذا قال الإِمام سَمِع الله لمَنْ حمده فقولوا ربَّنَا لَكَ الحمْدُ" لا ينفي قول المؤتم: "سَمِعَ الله لِمنْ حمده"، وَإنما دلالته على أن قول المؤتم: "رِبنا لَكَ الحمْدُ"، يكون عقيب قول (ب) الإِمام: "سَمِعَ الله لمَنْ حَمده"، والواقع في التصوير ذلك لأن الإِمام يقول التسميع في حَال انتقاله والمأموم يقول التحميد في حال اعتداله، واستفيد الجمع بينهما من الحديث الأول. وادعى الطحاوي (¬1) وابن عبد البر (¬2) الإجماع على كون المنفرد يجمع بينهما وجعل (جـ) الحجة جمع الإِمام بينهما لاتحاد حكم الإِمام والمنفرد. ومعنى "سَمِعَ الله لمَنْ حَمده": أجاب، ومعناه أنَّ مَنْ حمد الله متعرضًا لثوابه استجاب الله له وأعطاه ما تعرض له، فناسب بعده أن يقول: "ربنَا لَكَ الحمْدُ". وإثبات الواو ثبت في (د) طرق كثيرة، وفي بعضهما بحذف الواو (هـ). ¬

_ (أ) بهامش الأصل. (ب) ساقطة من هـ. (جـ) في جـ: وهل. (د) في جـ: من. (هـ) زاد في هـ: و.

قال النووي (¬1): المختار أن لا ترجيح لأحدهما على الآخر. قال ابن دقيق العيد: زيادة الواو تدل على تقدير استحب بعد قوله: "ربنا" بناءً منه على أن الواو عاطفة، وقال أَيضًا النووي في "شرح المهذب" (¬2): يحتمل أنها عاطفة على محذوف (أ): ربنا أطعناك وحمدناك ولك الحمد. وذكر ابن السكن في "صحيحه" (¬3) عن أَحْمد بن حنبل أنَّه قال: من قال: ربنا ولك الحمد، ومن قال: اللهمَّ ربنا قال: لك الحمد. قال الأصمعيّ: سألت أَبا عمرو بن العلاء عن الواو في قوله: "ربنا ولك الحمد" فقال: هي زائدة، ويحتمل أن تكون واو الحال (¬4)، والله أعلم. 227 - وعن أبي سعيد الخُدرِيّ -رَضِيَ الله عَنْهُ- قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذَا رَفَعَ رأسَه منْ الركوع قال: "اللهُمَّ رَبَّنَا لَكَ الحَمْدُ مِلءَ السَّموات والأرضِ وملء مَا شئْت مِنْ شيءٍ بَعْدُ، أهْل الثَّناءِ والْمَجْدِ، أحقُّ ما قالَ العبدُ، وكلنا لَكَ عبد، اللهمَّ لا مَانِعَ لمَا أعْطَيتَ ولَا مُعْطِي لمَا مَنَعتَ، ولَا يَنْفَعُ ذَا الجد مِنْكَ الجَدّ". رواه مسلم (¬5). ¬

_ (أ) زاد في هـ: أي.

في الحديث دلالة على شرعية هذا الذكر في الاعتدال، وتطويل هذا الركن، وظاهره: لكل مصلٍّ. وقوله: "مِلْءَ" بنصب الهمزة نصب على الصدرية ويجوز الرفع، ورجع ابن خالويه النصب، وحكى عن الزجاج وجوب الرفع، ورفعه على خبرية مبتدأ محذوف، ومعناه المبالغة في كثرة الحمد حتَّى ولو كان أجساما لملأ السموات والأرض، "وأهل": منصوب على النداء أو الاختصاص، والنصب هو الأشهر، ويجوز رفعه على خبرية مبتدأ محذوف. و"الثناء" الوصف الجميل والمدح. "والمجد: العظمة ونهاية الشرف، وهذا اللفظ هو المشهور في رواية مسلم وقال القاضي (¬1) عياض: وقع في رواية ابن ماهان: "أهل الثناء والحمد". وقوله: "أحق" بالهمزة كذا في رواية مسلم وغيره. و"كلنا": بالواو كذلك، ووقع في كتب الفقهاء: "حق ما قال العبد كلنا" .. بحذف الهمزة والواو، والمعنى الصحيح (¬2). وتوجيه هذا علي الرواية الأولى أن "أحق" مبتدأ وخبره: " [اللهمَّ] (أ) لا مانع لما أعطت"، "وكلنا" .. جملة اعتراضية من مبتدأ وخبر، وعلى الرواية الثانية حق: مبتدأ، وخبره كلنا لك عبد. وقوله: "لا مانع لما أعطيت": جملة مستأنفة، وفي هذا دلالة واضحة ¬

_ (أ) مثبتة في هامش الأصل وساقطة من جـ.

على أفضلية هذا الذكر، وقد تضمن التفويض إلى الله، والإذعان له، والاعتراف بوحدانيته، والتصريح بأن لا حول ولا قوة إلَّا به وأن الأمر كله له، والحث على الزهادة في الدنيا، والإقبال على الأعمال الصالحة. وقوله: "ذا الجد": المشهور فتح الجيم (¬1)، وقال ابن عبد البر: منهم من بقاه بالكسر، وقال (أ) أبو جعفر محمَّد بن جرير الطبري: هو بالفتح قال: وقاله الشَّيبانِيّ بالكسر، قال: وهذا خلاف ما عِرفه أهل النقل. قال ولا نعلم من قاله غيره ومعناه بفتح الجيم: الحظ والغنى والعظمة والسلطان، لا ينفعه حظه وينجيه منك وإنما ينجيه العمل الصالح، وعلى رواية الكسر وإن ضعف -فمعناه الاجتهاد أي لا ينفعه اجتهاده، وإنما تنفعه رحمتك، وقيل: المراد السعي التام في الحرص على الدنيا وقيل: معناه الإسراع في الهرب (ب أي لا ينفع ذا الإسراع في الهرب ب) منك هربه فإنَّه في قبضتك وسلطانك (¬2). 228 - وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أمرت أن أسجد على سبعة أعظم، على الجبهة -وأشار بيده إِلى أنفه- واليدين والركبتين وأطراف القدمين" متفق عليه (¬3). ¬

_ (أ) في هـ: ومنهم قال: (ب- ب) ساقطة من جـ.

قوله: "أمرتُ": هذه إحدى روايات البُخَارِيّ، وفي رواية له: "أمرَ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم -"، و (1) في رواية له: "أُمرنا" (2) على البناء للمفعول فيهما. (أ) قوله: "أعَظم" وفي رواية للبخاري: "أعضاء" (¬3): قال ابن دقيق العيد (¬4) سمى كل عضو عَظْمًا باعتبار الجملة وإن اشتمل كل واحد على عظام، ويكون من باب تسمية الكل باسم البعض. وقوله: "على الجبهة"، وأشار إلى أنفه، ولفظ البُخَارِيّ: "وأشار بيده على أنفه": كأنه ضمن أشار معنى أمَرَّ بتشديد الراء فلذلك عداه بعلى ولفظ المحكي هنا هي (ب) في بعض النسخ من رواية كريمة (¬5)، وفي النَّسائيّ (¬6) بعد حكاية هذا الحديث: قال ابن طاوس: ووضع يده علي جبهته وأمَرَّهَا على أنفه، وقال: هذا واجب، فهذه رواية مفسرة قال القرطبي (¬7): وهذا يدل على أن الجبهة الأصل في السجود، والأنف تَبعٌ. وقال ابن دقيق العيد (¬8): قيل معناه أنهما جُعِلَا كَعُضْوٍ واحد وإلا لكانت الأعضاء ثمانية. ¬

_ (أ) زاد في هـ: من. (ب) في جـ: هو.

قوله: "واليَدَيْنِ": المراد بهما الكفين، وقد وقع بلفظ "الكفين" في رواية حماد بن زيد عن عمرو بن دينار عند مسلم (¬1). وقوله: "وأطراف القدمين": وقع بهذا اللفظ في رواية للبخاري (¬2) عن ابن طاوس، وقع بلفظ آخر: "والرجلين" (¬3)، والرواية الأولى مبينة للمراد، والمراد من هذا أن يجعل قدميه قائمتين على بطون أصابعهما، وعقباه مرتفعان فيستقبل بظهور قدميه القبلة، وقد ورد في حديث أبي حميد في صفة السجود هذا (¬4)، ومن ثم قيل: إنه يندب ضم الأصابع في السجود لأنها لو انفرجت انحرفت رؤوس بعضها عن القبلة. والحديث فيه دلالة على وجوب السجود على ما ذكر فيه، إذ (أ) الأمر حقيقة في الوجوب وما وجب عليه - صلى الله عليه وسلم - وجب على أمته إلَّا الخاص به - صلى الله عليه وسلم - وقد ذهب إلى هذا العترة وأحد قولي الشَّافعيّ (¬5)، وذهب أبو حنيفة واحد قولي الشَّافعيّ وأكثر الفقهاء (¬6) إلى أن الواجب الجبهة فقط، قالوا: لقوله في حديث تعليم المسئ صلاته: "ويمكن جَبْهَته"، فكان قرينة على ¬

_ (أ) في هـ: إذا.

حَمْل الأمر على غير الوجوب، وكذا قوله: "سجد وجهي" ويجابُ عنه بأن هذا الاحتجاج يتوقف على تقدم هذا الحديث على تعليم المسئ صلاته ليكون قرينة، وأما لو فرض تأخره ففي هذا زيادة شرع ويمكن أن تتأخر شرعية وجوب ما ذكره فمع جهل التاريخ ترجع العمل بالموجب لزيادة الاحتياط مع احتمال أن يكون قد علمه جميع ما ذكر في هذا الحديث، ونسي الراوي ولم يذكر إلَّا الجبهة. ويدل الحديث على وجوب السجود على الأنف، وإشارته إليها عند ذكْرِ الجبهة فيه دلالة على أنهما في حكم العضو الواحد بين ذلك بالفعل، وقد ذهب إلى هذا النَّخَعيّ وسعيد بن المسيّب، وأَحمد وإسحاق (¬1). وأجاب منْ لم يوجب ذلك بذكر السبعة إذ لو قيل بوجوبهما لكانت الأعضاء ثمانية، ولا يخفى عليك الجواب عنه مما ذكر، وظاهره وجوب السجود على العضو جميعه، ولا يكفي بعض ذلك. وفي الجبهة يضع منها على الأرض ما أمكنه بدليل "ويمكن جبهته"، وظاهره أنَّه لا يجب كشف شيء من هذه الأعضاء؛ لأن مسمى السجود يحصل بوصفها (أ) دون كشفها، ولا خلاف أن كشف الركبتين غير واجب لا يحذر من كشف العورة، واختلف في غيرها فذهب الهادي والقاسم والشافعي إلى أنَّه لا يجب كشف شيءٍ من السبعة، وذهب الناصر والمرتضى وأبو طالب وأحد قولي الشَّافعيّ إلى أنَّه لا يجب في غير الجبهة (¬2). ¬

_ (أ) في هـ: بوضعها، وهو المناسب للسياق.

واعلم أنَّه قد ورد في هذا الباب حديث خباب بن الأرت: "شَكَوْنَا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حر الرَّمْضاءِ في جبَاهنا وأكفنا فلم يشكنا" (¬1) رواه الحاكم في "الأربعين" له من حديث ابن وهب، ورواه البيهقي أيضًا من هذا الوجه، ومن طريق زكريا بن أبي زائدة (¬2)، وأخرجه (أ) مسلم (¬3) بغير لفظ: "حرّ" وبغير لفظ "جباهنا وأكفنا" وهو معار ضبحديث أنس: "فإذا لم يستطع أحدنا أن يمكن جبهتَهُ مِن الأرض بَسَطَ ثوْبَه فسجد عليه" (¬4)، وهو يدل على أنَّهم عند الحاجة يتقون الحُر وعند السعة يباشرون الأرض بجباههم، فيمكن حمل الحديث بأن الشكاية إنما كانت لأجل تأخير الصلاة حتَّى يبرد الحر لا لأجل السجود على الحائل، إذ لو كان كذلك لأمرهم بالحائل المنفصل كما كان يصلي على الخمرة. وعلق البُخَارِيّ (¬5) عن الحسن: "كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسجدون وأيديهم في ثيابهم، ويسجد الرَّجل منهم على عمامته"، ووصله البيهقي (¬6) وقال: هذا أصح ما في السجود موقوفًا على الصَّحَابَة، وأخرج أبو داود في "المراسيل" (¬7): أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأى رجلًا يسجد على جبهته وقد اعتمّ على جبهته فحسر عن جبهته، وعن عياض بن عبد الله ¬

_ (أ) في جـ: وأخرج.

قال: رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجلًا يسجد على كور العمامة فأومأ بيده ارفع عمامتك" (¬1). وقد رويت أحاديث أنَّه - صلى الله عليه وسلم - كان يسجد على كور عمامته من حديث ابن عباس، أخرجه أبو نعيم في "الحلية" (¬2) في (أ) ترجمة إبراهيم بن أدهم، وفي إسناده ضعف، ومن حديث ابن أبي أوفى أخرجه الطَّبْرَانِيّ في "الأوسط" (¬3) وفيه فائد أبو الورقاء (¬4)، وهو ضعيف، ومن حديث جابر أخرجه ابن عدي في "الكامل" (¬5) وفيه عمرو بن شمر (¬6) وجابر الجعفي (¬7)، وهما متروكان، ومن حديث أنس أخرجه في "علل أبي حاتم" (¬8)، وفيه حسان بن سِيَاه (¬9) وهو ضعيف، وقال أبو حاتم: هذا حديث منكر (¬10)، ¬

_ (أ) في جـ: من.

ورواه عبد الرَّزّاق (¬1) عن عبد الله بن محرز عن سليمان بن موسى عن مكحول مرسلًا، وعن يزيد بن الأصم أنَّه سمع أَبا هريرة يقول: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسجد على كور عمامته". قال ابن أبي حاتم: هذا حديث باطل (¬2). وقال البيهقي (¬3) بعد ذكْر هذه الأحاديث: أحاديث (أ) كان يسجد على كور عمامته لا يثبت منها شيء يعني مرفوعًا، وحكي عن الأَوْزَاعِيّ أنَّه قال: كانت عمائم القوم صغارًا البتة وكان السجود على كورها لا يمنع من وصول الجبهة إلى الأرض. 229 - وعن ابن بحَيْنَة -رَضِيَ الله عَنْهُ- "أن النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - كان إِذَا صَلَّى فَرَّجَ بَيْنَ يَدَيْهِ حتَّى يَبْدُو بَيَاضَ إِبطَيْهِ". متفق عليه (¬4). هو عبد الله بن مالك بن بُحَيْنَة -بضم الباء الموحدة وفتح الحاء المهملة وسكون الياء تحتها نقطتان وبعدها نون- هي أمه، وأبوه (ب): مالك بن القشب الأَزدِيّ، وقيل: هي أم أَبيه مالك، والأول أصح، وهي بنت الحارث بن عبد المطلب بن عبد مناف بن قصيّ، مات في ولاية معاوية ما ¬

_ (أ) ساقطة من جـ. (ب) في هـ: وأبو.

بين سنة أربع وخمسين و (أ) ثمان وخمسين (¬1). قوله: "فَرَّجَ بيْنَ يَدَيْهِ": أي نحي كل يد عن الجنب الذي (ب) تليها. واختلف ما الحكمة في ذلك؟ فقال القرطبي (¬2): الحكمة في استحباب هذه الهيئة في السجود أنَّه يخفف بها اعتماده على وجهه، ولا تتأثر أنفه ولا جبهته، ولا يتأذى بملاقاة الأرض، وقال غيره: هو (جـ) أشبه بالتواضع وأبلغ في تمكين الجبهة والأنف من الأرض مع مغايرته لهيئة الكسلان. وقال ابن المنير (¬3): الحكمة في ذلك أن يظهر كل عضو بنفسه ويتميز حتَّى يكون الإنسان الواحد في سجوده كأنه عدد، ومقتضى هذا أن يستقل كل عضو بنفسه ولا يعتمد بعض الأعضاء على بعض، وقد ورد هذا المعنى مصرحًا فيما أخرجه الطَّبْرَانِيّ (¬4) وغيره من حديث ابن عمر بإسناد ضعيف أنَّه قال: "لا تفترش افتراش السَّبُع، واعتمد على راحتيك، وأبد إصبعيك، فإذا فعلت ذلك سجد كل عضو منك". ¬

_ (أ) في جـ: أو. (ب) في جـ: التي. (جـ) في هـ: هي.

وظاهر هذا الحديث وجوب هذه الكيفية، وفي حديث ميمونة أَيضًا عند مسلم (¬1): "كان النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - يجافي بيديه، فلو أن بهيمة أرادت أن تمر لمرت"، ولكنه قد أخرج أبو داود (¬2) ما يدل على أن ذلك مستحب من حديث أبي هريرة: "شكا أصحاب النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - له مشقة السجود عليهم إذا تفرجوا، فقال: استعينوا بالركب" وترجم له الرخصة (أ) في ذلك، أي في ترك التفريج. قال ابن عجلان أحد رواته: وذلك أن يضع مرْفقَيْه على ركبتيه إذا أطال السجود. وفي قوله: "حتَّى يبدو بياض إبطيه": أخذ منه ابن التين أنَّه لم يكن عليه - صلى الله عليه وسلم - قميص، وتُعقّب بأنه يجوز أن يكون القميص واسع الكمين فتدرك منهما الإبطان. وقد روي التِّرْمِذِيّ في "الشمائل" (¬3) عن أم سلمة أنَّه كان أحب الثياب إلى النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - القميص. ويحتمل أنَّه أراد بياض إبطيه لو لم يكن عليهما ساتر وهو بعيد. [ويحتمل رؤية بياض إبطيه في بعض الحالات وهو إذا لم يكن لابسًا القميص، ومع لبسه على ذلك القدر بحيث لولا القميص لرآه الرائي] (ب). ¬

_ (أ) في جـ: للرخصة. (ب) بهامش الأصل.

واستدل بهذا على أنَّه لم يكن شعر بإبطيه، ولكنه قد حكى المحب الطبري في الاستسقاء من "الأحكام" له أن من خصائصه - صلى الله عليه وسلم - أن إبطه لم يكن متغير اللون بخلاف غيره (¬1). وظاهر إطلاق هذه الرواية أن التفريج في السجود والركوع، ولكن البُخَارِيّ ذكر الحديث في المناقب (¬2) وقيده بالسجود، والمطلق يحمل على المقيد. 230 - وعن البَرَاء بن عازبٍ -رَضِيَ الله عَنْهُ- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِذا سَجَدْتَ فَضعْ كَفَّيْكَ وارْفَعْ مِرْفَقَيْكَ" رواه مسلم (¬3). هو أبو عمارة -وقيل: أبو عمرو، (أوقيل أبو عمر أ)، وقيل: أبو الطفيل والأشهر الأول- البَرَاء -بفتح الباء الموحدة والراء (ب) - ابن عازب بن الحارث الأوسيّ، الأَنْصَارِيّ، الحارثيّ. أول مشهد شهده الخندق لأنه استصغر قبل ذلك من الشاهد، نزل الكوفة، وافتتح الريّ سنة أربع وعشرين ¬

_ (أ- أ) ما بينهما بهامش هـ. (ب) في هـ: البراء.

في قول، وشهد مع علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - الجمل وصفِّين والنهْرَوان، ومات بالكوفة أيام مصْعَب بن الزُّبَيْر. روى عنه أبو جحيفة وعبد الله بن يزيد الأنصاري، وبنوه الربيع ويزيد وعبيد، وأبو إسحاق السبيعي بفتح السين (¬1). الحديث يدل على شرعية هذه الهيئة في الصلاة. وهذا أدب متفق على استحبابه، فلو تركه كان مسيئا مرتكبا لنهي التنزيه، وصلاته صحيحة. قال العلماء، والحكمة من هذا أنه أشبه بالتواضع، وأبلغ في تمكين الجبهة والأنف من الأرض، وأبعد من هيئات الكسالي، فإن المنبسط يشبه الكلب، ويشعر حاله (أ)، بالتهاون بالصلاة وقلة الاعتناء بها والإقبال عليها، والله أعلم. وهذا في حق الرجل، والمرأة تخالفه في ذلك، فقد أخرج أبو داود في "مراسيله" (¬2) عن يزيد (ب) بن أبي حبيب: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مر على امرأتين تصليان فقال: إذا سجدتما فضما بعض اللحم إلى الأرض فإن المرأة ليست في ذلك كالرجل. قال البيهقي: وهذا المرسل أحسن من موصولَين فيه [يعني من حديثين موصولين ضعفهما البيهقي وذكرهما في "سننه الكبرى"] (جـ). ¬

_ (أ) زادت هـ: المرأة (وكأنه مضروب عليها). (ب) في جـ، هـ: زيد. (جـ) بهامش الأصل وفي جـ: موصولين ذكرهما البيهقي في سننه الكبرى وضعفهما.

231 - وعن وائل بن حُجْر - رضي الله عنه - "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كَانَ إِذَا ركع فَرَّج بين أصَابِعِهِ وإِذَا سَجَدَ ضمَّ أصَابِعَهُ" رواه الحاكم (¬1). تفريج الأصابع في الركوع رواه أبو داود من حديث أبي حميد "أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يمسك راحتيه على ركبتيه كالقابض عليهما ويفرِّج بين أصابعه" (¬2). وحديث وائل أخرجه أيضًا ابن خزيمة وابن حبان. ولعل الحكمة في الضم في حال السجود لتكون متوجهة إلى سَمْت القبلة، والله أعلم. 232 - وعن عائشة - رضي الله عنها - قالت: "رأيتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلِّي مُتَربعًا" رواه النسائي، وصححه ابن خزيمة (¬3). ¬

_ (¬1) ابن خزيمة، بلفظ: "إذا سجد ضم أصابعه" باب ضم أصابع اليدين في السجود 1/ 324 ح 642، البيهقي، الصلاة، باب يضم أصابع يديه في السجود ويستقبل القبلة 2/ 112، الحاكم، وقد أخرجه من طريق عمر بن عون ثنا هشيم عن عاصم بن كليب عن علقمة ابن وائل عن أبيه "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا ركع فرَّج بين أصابعه"، وأخرجه من طريق الحارث بن عبد الله الحازن مثله إذا سجد ضم أصابعه فالمنصنف جمع بين الحديثين. قلت: الحديث فيه عاصم بن كليب مختلف فيه، مر في ح 211 وفيه هشيم بن بشير بن القاسم السلمي، أبو معاوية بن أبي حازم ثقة ثبت كثير التدليس والإرسال الخفي. التقريب 365، طبقات المدلسين 34 علقمة بن وائل بن حجر، صدوق اختلف في سماعه من أبيه وسيأتي في ح 245 وأن الحافظ صح سماعه من أبيه. (¬2) مر في ح 206. (¬3) النسائي، كتاب قيام الليل، باب كيف صلاة القاعد 3/ 183، ابن خزيمة، باب التربع في الصلاة إذا صلى جالسا 2/ 236 ح 1238، البيهقي من طريق أبي داود الحفري ومن طريق محمد بن سعيد الأصبهاني، الصلاة، صلاة المريض ما روى في كيفية هذا القعود 2/ 305.

الحديث أخرجه النسائي من رواية أبي داود الحفري (¬1) وقال: لا أعلم أحدًا رواه غيره ولا أحسبه إلا خطأ، وقد رواه ابن خزيمة والبيهقي من طريق محمد بن سعيد بن الأصبهاني بمتابعة أبي داود، فلا خطأ فيه. وروى البيهقي (¬2) من طريق ابن عيينة عن ابن عجلان عن عامر بن عبد الله بن الزبير عن أبيه: "رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدعو هكذا: ووضع يديه على ركبتيه وهو متربع جالس". ورواه البيهقي (¬3) عن حميد، رأيتُ أنسًا يصلي متربعًا على فراشه وعلقه البخاري (¬4). والحديث فيه دلالة على كيفية قعود العليل إذا صلى من قعود، إذ الحديث وارد في ذلك وهو في صلاته - صلى الله عليه وسلم - لما سقط عنِ (¬5) فرسه فانفكَّت قدمه فصلى متربعًا، والتربع في الجلوس خلاف الإقْعاء والجثوّ (¬6)، وقد ذهب إلى العمل بظاهر الحديث في جلوس المريض الهادوية والإمام يحيى. قالوا: وصفة التربع أن يجعل باطن القدم اليمنى تحت الفخذ اليسرى، وباطن اليسرى تحت اليمنى مطمئنًا، وكفاه على ركبتيه مفرقًا أنامله كالراكع. وذهب زفر وأحد قولي الشافعي إلى أنه يقعد مفترشًا اليسرى ناصبًا لليمنى قالوا لأنه قعود العبادة، والتربع إنما هو للعادة، وذهب محمد وعن أبي حنيفة أنه يقعد كيف شاء، إذ هي حالة ضرورية فيوكل إلى رأيه ¬

_ (¬1) أبو داود الحفري عمر بن سعد بن عبيد، أبو داود الحفري ثقة عابد. التقريب 353، الكاشف 2/ 311، التهذيب 7/ 452. (¬2) و (¬3) البيهقي 2/ 305، ابن أبي شيبة 2/ 221. (¬4) البخاري، باب الصلاة على الفراش وصلى أنس على فراشه 1/ 491. (¬5) في البخاري، ولم يرد إثبات صفة التربع 2/ 173 ح 689. (¬6) الجُثو: القيام على الركب، مشارق الأنوار 1/ 140.

وذهب بعض أصحاب الشافعي إلى أنه يقعد واضعًا ركبته اليسرى على الأرض وينصب اليمنى ويفضي بمقعدته إلى الأرض، وقد عرفت من تفسير معنى التربع لغة احتماله لهذه الأقوال، ولا يجزئ الإقعاء ولا الجثو على هذا، وقال في "البحر" (¬1): إنه لا يجزئ الإقعاء للنهي. 233 - وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقول بين السجدتين "اللهم اغفر لي وارحمني واهدني وعافني وارزقني" رواه الأربعة إلا النسائي واللفظ لأبي داود، وصححه الحاكم (¬2). ورواه الترمذي بلفظ: "واجبرني" بدل "ارحمني" ولم يقل "وعافني". وجمع ابن ماجه بين "ارحمني"، و"اجبرني"، ولم يقل "اهدني" ولا "عافني". وجمع الحاكم بينها (أ) إلا أنه لم يقل "وعافني"، وفيه كامل أبو العلاء وهو مُخْتَلفٌ فيه (¬3). ¬

_ (أ) في جـ: بينهما.

234 - وعن مالك بن الحويرث - رضي الله عنه - "أنه رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - يُصلي، فإِذا كان في وِتْرٍ من صلاته لم ينهض حتى يستوي قاعدًا" رواه البخاري (¬1). وفي لفظ للبخارى (¬2) (أفإذا رفع رأسه من السجدة الثانية جلس، واعتمد على الأرض ثم قام" أ)، وللبخاري (¬3) من حديث أبي هريرة في قصة المسئ صلاته: "ثم اسْجُدْ حتى تَطْمَئن ساجدًا، ثم ارْفعْ حتى تطْمَئِن جَالِسًا"، وفي رواية أخرى له: "حتى تطْمَئِن قائَمًا" (¬4) وهو أشبه. وأخرج أبو داود (¬5) في وصف أبي حميد الساعدي لصلاة، النبي - صلى الله عليه وسلم - في عشرة من أصحابه، فقال: "ثم أهوي ساجدا، ثم ثَنَى رجله، وقعد حتى [رَجع] (ب) كل عضو في موضعه ثم نَهَضَ"، وأخرجه الترمذي (¬6). ولا التفات إلى إنكار الطحاوي لهذه القعدة في حديث أبي حميد لما ¬

_ (أ- أ) بهامش هـ. (ب) بهامش الأصل، وساقطة من جـ: وأثبتها المصحح هناك.

سمعت من رواية أبي داود والترمذي، وكذلك إنكار النووي (¬1) أن يكون في حديث المسئ صلاته لما سمعت عند البخاري، وهو ذِكر ذلك في باب الاستئذان، إلا أنه قال عقيب الرواية: قال أبو أسامة في الأخير: "حتى تستوي قائمًا". ويمكن أن يحمل إن كان محفوظًا على الجلوس للتشهد (¬2). انتهى كلامه، فشكك البخاري رواية ابن نمير لمخالفة أبي أسامة بقوله: "إن كان محفوظا"، لكن رواه إسحاق بن راهويه في "مسنده" عن أبي أسامة كما قال ابن نمير بلفظ: "ثم اسجد حتى تطمئن ساجدًا، ثم اقعد حتى تطمئن قاعدًا، ثم اسجد حتى تطمئن ساجدا، ثم اقعد حتى تطمئن قاعدا ثم افعل ذلك في كل ركعة" (¬3)، وأخرجه البيهقي من طريقه كذلك (¬4). وقد ذهب إلى شرعية قعدة الاستراحة الشافعي على المشهور (¬5)، وعلى غير المشهور عنه لا تُسن، وذهب العترة وأبو حنيفة ومالك وأحمد وإسحاق وغير المشهور عن الشافعي أنه لا يقعد في الركعة الثانية للاستراحة، قالوا: لحديث وائل بن حُجر وهو أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا رفع رأسه من ¬

_ (¬1) وأنكر النووي أن تكون ثابتة في حديث المسئ في صلاته، المجموع 3/ 387 ولكنها ثابتة عند البخاري في كتاب الاستئذان 11/ 36 ح 6251 كذا قال ابن حجر في التلخيص 1/ 259 .. قلت: وإنكار النووي لا يزال قائمًا في وصف جلسة الاستراحة. (¬2) الفتح 2/ 279. (¬3) الفتح 2/ 279. (¬4) انظر: مختصر الخلافيات 2/ 586. (¬5) المغني 1/ 529، المجموع 3/ 386.

السجدتين استوى قائمًا، أخرجه البزار في "مسنده" (¬1) وقد ذكره النووي في "الخلاصة" في فصل الضعيف (¬2)، وبيَّضَ له المنذري في الكلام على "المهذب"، وأخرج الطبراني (¬3) عن معاذ في أثناء حديث طويل أنه كان يمكِّن جبهته وأنفه من الأرض ثم يقوم كأنه السهم، وفي إسناده الخصيب بن جحدر، وقد كذبه شعبة ويحيى القطان، وأخرج أبو داود (¬4) من حديث وائل: "وإذا نهض نهض (أ) على ركبتيه واعتمد على فخذيه". وروي ابن المنذر (¬5) من حديث النعمان بن أبي عياش قال: "دركتُ غيرَ واحد من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - فكان إذا رفع رأسه من السجدة في أول ركعة وفي الثالثة قام كما هو ولم يجلس". ¬

_ (أ) بهامش الأصل.

وحديث القعدة يحتمل أن تكون لضَعفٍ عرض له، وهذا الاحتمال لا يستقيم ردا على ما ورد في تعليم المسئ صلاته. [وأما قيامه بعد التشهد (أ) الأوسط فذكر في "الهدي النبوي" (¬1) أنه - صلى الله عليه وسلم - كان ينهض مكبرا على صدور قدميه وعلى ركبتيه معتمدا على فخذيه] (ب)، والله أعلم. 235 - وعن أنس - رضي الله عنه - "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قَنَتَ شهرا بعد الركوع يدعو على أحياء من العرب، ثم تركه" متفق عليه (¬2). ولأحمد والدارقطني نحوه من وجه آخر وزاد: "فأما (جـ) في الصبح فلم يزل يَقنُتُ حتى فارق الدنيا" (¬3). وعنه رضي الله عنه: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان لا يَقنُتُ إلا إذا دعا لقومٍ أو دعا على قوم" صححه ابن خزيمة (¬4). حديث أنس، قد روى مختصرًا كما في رواية الصحيحين المتفق عليها، وهي من رواية عاصم الأحول، ولفظه في البخاري قال: سألت أنس بن مالك عن القنوت فقال: قد كان القنوت، قلتُ: قبل الركوع أو بعده؟ ¬

_ (أ) في جـ: وأما قبل التشهد. (ب) في هامش الأصل. (جـ) في جـ: وأما.

قال: قبله، قال: فإن فلانًا أخبرني عنك أنك قلت بعد الركوع، فقال: كذب، إنما قَنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد الركوع شهرا، أراه كان بعث قوما يقال لهم القُراءُ زهاء سبعين رجلا إلى قِومٍ من المشركين دون أولئك، وكان بينهم وبين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عهد فقَنتَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شهرًا يدعو عليهم" (¬1). ورواية الدارقطني (¬2) هي من حديث عبيد الله (أ) بن موسى عن أبي جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أنس، ومن طريق عبد الرزاق (¬3) وأبي نعيم (¬4) عن أبي جعفر مختصرًا، وأحمد رواه عن عبد الرزاق (¬5)، ورواه أيضًا البيهقي (¬6) من حديث عبد الله بن موسى وأبي نعيم (ب)، وصححه الحاكم في كتاب "القنوت". وأبو جعفر الرازي (¬7) قال أحمد: ليس بالقوي، وقال ابن معين: ثقة لكنه يخطئ ولكنه قد وجد (جـ) لهذا شاهد من رواية الحسن بن سفيان عن جعفر بن مهران عن عبد الوارث عن عمرو عن الحسن عن أنس قال: "صليتُ مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلم يزل يقنت في صلاة الغذاة حتى فارقته، ¬

_ (أ) في جـ: عبد الله. (ب) في هـ: وابن نعيم، ولعله تصحيف. (جـ) في هـ: وجب.

وخلف أبي بكر كذلك، وخلف عمر كذلك (¬1). وقد ضعفت هذه الطريق بعمرو بن عبيد (¬2). ويعارض هذا ما رواه الخطيب من طريق قيس بن الربيع عن عاصم بن سليمان قال: قلت لأنس: إن قوما يزعمون أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يزل يقنت في الفجر، فقال: كذبوا إنما قنت شهرا واحدا يدعو على أحياء من أحياء المشركين. وقيس (¬3) وإن كان ضعيفا لكنه لم يتهم بكذب، وحديث ابن خزيمة (¬4) من طريق سعيد عن (أ) قتادة عن أنس، فهذه الروايات عن أنس مضطربة كما ترى، وقد روى البيهقي (¬5) عن عبد الرحمن بن مهدي بسند صحيح الجمع بين روايات أنس المضطربة بأن المنفي هو الدعاء على الكفار في القنوت، وهذا هو المؤقت بالشهر، والمستمر هو مطلق الدعاء وقال في "الهدي النبوي" (¬6): أحاديث أنس كلها صحاح يصدّق بعضها بعضًا ولا ¬

_ (أ) في جـ: بن.

تناقض، والقنوت الذي ذكره قبل الركوع غير الذي ذكره بعده، والذي وقته غير الذي أطلقه، فالذي ذكره قبل الركوع هو إطالة القيام للقراءة الذي قال فيه النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أفضل الصلاة (أ) طول القيام" (¬1)، والذي ذكره بعده هو إطالة القيام للدعاء، ففعله شهرا يدعو على قوم ويدعوا لقوم (ب)، ثم استمر يطيل هذا الذكر للدعاء والثناء إلى أن فارق الدنيا كما في "الصحيحين" عن ثابت عن أنس قال: "إني لا آلو أن أصلي لكم صلاة كما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي بنا، فكان أنس يصنع شيئًا لا أراكم تصنعوه، كان إذا رفع رأسه من الركوع انتصب قائما حتى يقول القائل: قد نسى وإذا رفع رأسه من السجدة مكث حتى يقول القائل: قد نسى" (¬2) فهذا هو القنوت الذي ما زال عليه حتى فارق الدنيا ومعلوم أنه لم يكن يسكت في مثل هذا الوقوف الطويل، بل كان يثني على ربه ويمجده ويدعوه، وهذا هو غير القنوت المؤقت لشهر (جـ) فإن ذلك دعاء على رعل وذكوان وعُصيَّة وبني لحيان، ودعاء للمستضعفين الذين كانوا بمكة، وأما تخصيص هذا بالفجر فبحسب سؤال السائل، فإنه إنما سأله عن قنوت الفجر فأجابه عما سأله عنه، وأيضًا فإنه كان يطيل صلاة الفجر دون سائر الصلوات، إلا أنه صار في لسان الفقهاء وأكثر الناس أن القنوت هو الدعاء بقول "اللهم اهدني .. " إلخ فحصل الوهم في قوله إنه لم يزل (د) يقنت إلا ¬

_ (أ) في هـ: الصلوات. (ب) في جـ، هـ: القوم. (جـ) في جـ: بشهر وهو الأوفق للسياق. (د) في جـ: يزال.

أنه حافظ على هذا الدعاء فحصل الخلاف في أن هذا هل هو ثابت أم لا؟ ويدل على أن هذا مراد (أ) أنس ما رواه سلمان بن حارث ثنا أبو هلال ثنا حنظلة إمام مسجد قتادة -قلت: هو السدوسي- قال: اختلفت أنا وقتادة في القنوت في صلاة الصبح، فقال قتادة: قبل الركوع، وقلت أنا: بعد الركوع. فأتينا أنس بن مالك فذكرنا له ذلك فقال: "أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - في صلاة الفجر فكبر وركع ورفع رأسه ثم سجد ثم قام في الثانية فكبر وركع ثم رفع رأسه وقام ساعة ثم وقع ساجدا" (¬1) فبين هذا أن مراده بالقنوت هو القيام بعد الركوع فاتفقت أحاديثه كلها، وبالله التوفيق (¬2). انتهى. وقد صحح الحاكم حديث ابن أبي فديك عن عبد الله بن سعيد القبري عن أبيه عن أبي هريرة قال: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا رفع رأسه من الركوع من صلاة الصبح في الركعة الثانية، يرفع يديه فيدعو بهذا الدعاء: "اللهم اهدني فيمن هديت، وعافني فيمن عافيت، وتولني فيمن توليت، وبارك لي فيما أعطيت، وقني شر ما قضيت (ب، إنك (جـ) تقضي ولا يقضى عليك ب) إنه لا يذل من واليت، تباركت ربنا وتعاليت" (¬3) ولكن عبد الله ضعيف لا تقوم بحديثه حجة (¬4)، وروى الطبراني في "الأوسط" (¬5) من ¬

_ (أ) في جـ: على أنه مراد. (ب - ب) ما بينهما في هامش جـ. (جـ) في جـ: فإنك.

حديث بريدة نحوه، وفي إسناده مقال أيضًا. وقد صح من حديث أبي هريرة أنه قال: "والله لأنا أقربكم صلاة برسول الله - صلى الله عليه وسلم -"، فكان أبو هريرة يقنت في الركعة الأخيرة من صلاة الصبح، بعد ما يقول سمع الله لمن حمده، فيدعو للمؤمنين، ويلعن الكافرين (¬1)، فهو (أ) يقوي ذلك. ومن تأمل هذه الروايات علم أن له أصلًا في الجملة، وأنه ثابت عند حدوث نازلة وموسع في شأنه عند غيرها غير حتم، وهو غير واجب إجماعا، وذهب جماعة من السلف والخلف إلى أنه مسنون، منهم علي وأبو بكر وعمر وعثمان، وهو مذهب الهادي والقاسم وزيد بن علي والناصر والمؤيد والشافعي ومالك والنخعي وابن أبي ليلى والحسن بن صالح (¬2) وروي عن العبادلة (¬3) وأبي الدرداء، وإليه ذهب أبو حنيفة وأبو يوسف إلى أنه منهي عنه في الفجر. 236 - وعن سعد (ب) بن طارق الأشْجَعي قال: قلت: لأبي يا أبَتِ إنك قد صليت خلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وعمر وعثمان وعلى أفكانوا (جـ) ¬

_ (أ) في (جـ): فهذا (ب) قلت: في النسخ: سعيد، وذكر الصنعاني أنه كذلك في نسخ البلوغ ولكن في نسختي الخطية سعد وهو كذلك في تحفة الأشراف وفي أسماء الصحابة. سبل 1/ 361، تحفة الأشراف 4/ 205، بلوغ المرام ل 20. (جـ) في جـ: أفكانون.

يقنتون في الفجر؟ قال (أ): أيْ بُنَي مُحْدَثٌ. رواه الخمسة إلا أبا داود (¬1). الحديث إسناده حسن، وهو معارض بما أخرجه البيهقي (¬2) من طريق العوام بن حمزة قال: سألتُ أبا عثمان عن القنوت في الصبح، فقال: بعد الركوع، فقلتُ عمن؟ فقال: عن أبي بكر وعمر وعثمان. ومن طريق قتادة (¬3) عن الحسن عن أبي رافع أن عمر كان يقنت في الصبح، ومن طريق حماد (¬4) عن إبراهيم عن الأسود قال: "صليتُ خلف عمر في الحضر والسفر فما كان يقنت إلا في صلاة الفجر". وروي أيضًا (¬5) بسند صحيح عن عبد الله بن معقل عن مقرن المزني قال: قنت على - رضي الله عنه - في الفجر. ورواه الشافعي أيضًا. ¬

_ (أ) في جـ: فقال.

ومما عرفت في الحديث الأول يمكن الجمع بين هذا بالتوسعة في الأمر، وأنه قد فعل ذلك وترك. والله أعلم. 237 - وعن الحسن بن علي - رضي الله عنهما - قال: علمني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كلماتٍ أقوُلهنَّ في قُنوتِ الوتْر. اللهم اهدني فيمن (أ) هديت، وعافني فيمن عافيت، وتولني فيمن توليت، وبارك لي فيما أعطيت، وقني شر ما قضيت، فإِنك تقضي ولا يُقْضى عليك، إِنه لا يذل من واليت تباركت ربنا وتعاليت" رواه الخمسة (¬1). وزاد الطبراني: والبيهقي: "ولا يَعزُّ مَنْ عاديت" (¬2). زاد النسائي من وجهٍ آخر في آخره: "وصلى الله على النبي" (¬3). ¬

_ (أ) في جـ: فيما.

وللبيهقي عن ابن عباس - رضي الله عنه -: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعلمنا دعاء ندعو به في القنوت في صلاة الصبح"، وفي سنده ضعف (¬1). الحديث في قوله "قنوت الوتر" هذه تفرد بها أبو إسحاق عن يزيد بن أبي مريم وتبعه ابناه يونس وإسرائيل. كذا قال ابن خزيمة وابن حبان، وقد رواه شعبة فلم يذكر فيه القنوت ولا الوِتْر، وإنما قال: كان يعلمنا هذا الدعاء، وهو أحفظ، وكذا رواه الدولابي في "الذرية الطاهرة" والطبراني في "الكبير" (¬2) من طريق الحسن بن عبد الله عن يزيد بن أبي مريم عن أبي الجوزاء أنه قال: "وكلمات علمنيهن ... ". فذكرهن. قال يزيد: فدخلت على محمد بن علي في الشعب فحدثته، فقال: "صدق أبو الجوزاء، هن كلمات علمناهن نقولهن في القنوت". وقد رواه البيهقي من طريق قال في بعضها: قال يزيد بن أبي مريم فذكر ذلك لابن الحنفية فقال: "إنه للدعاء الذي كان أبي يدعو به في صلاة الفجر". ورواه البيهقي (¬3) من طريق أخرى عن يزيد بن أبي مريم: سمعتُ ابن الحنفية وابن عباس يقولان: "كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقنت في صلاة الصبح وفي وتر الليل بهؤلاء الكلمات" [وفي إسناده عبد الرحمن بن هرمز يحتاج إلى ¬

_ (¬1) البيهقي، باب دعاء القنوت 2/ 210، وفي إسناده ضعف ذكر الشارح المقال في عبد الرحمن بن هرمز، وعبد الرحمن بن هرمز قال فيه الحافظ في التلخيص: يحتاج للكشف عن حاله، وقال الألباني: لم أجد من ذكر عبد الرحمن، التلخيص 1/ 248، إرواء الغليل 2/ 174 - 175. (¬2) الطبراني 3/ 75 - 76 ح 2708. (¬3) البيهقي 2/ 210.

الكشف عن حاله (¬1) (أ) (ب). وروي من طريق أخرى عن ابن جريج (¬2) بلفظ: "فعلمنا دعاءً ندعو به في القنوت في صلاة". ورواه مخلد (جـ) بن زيد عن ابن جريج فقال (د): في قنوت الوتر. وقوله: وفي إسناده ضعف لما عرفت من المقال في عبد الرحمن بن هرمز، وقد وقع شك في هذا الحديث في الحسن أو الحسين (¬3)، وأحمد بن حنبل أخرجه في "المسند" (¬4) عن الحسين من غير تردد، والتردد وقع من أبي إسحاق، والأصح أنه من رواية الحسن كما في رواية يونس عن يزيد ابن أبي مريم، ورواية شعبة عنه (¬5). ¬

_ (أ، ب) جاء في هامش الأصل: (قال الخزرجي في الخلاصة، عبد الرحمن بن هرمز الهاشمي مولاهم أبو داود المدني الأعرج القاري عن أبي هريرة ومعاوية وأبي سعيد وعنه الزهري وأبو الزبير وأبو الزناد وخلق، وثقه جماعة قال أبو عبيد: توفي سنة سبع عشرة ومائة بالإسكندرية) وفي هـ في صلب الكتاب. (جـ) في جـ: محمد. (د) في جـ: قال.

قال المصنف -رحمه الله تعالى- (¬1): وقد وقع لنا عاليًا متصلًا بالسماع، وساق إسناده إلى الحسن بن علي قال: "علمني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كلمات أقولهن في قنوت الوتر، اللهم اهدني .. " الحديث. والحديث فيه دلالة على شرعية القنوت في الوتر، وهو مُجْمَعٌ عليه في النصف الأخير من رمضان، وذهب العترة وأبو حنيفة وأحمد والتبريزي من أصحاب الشافعي، وكذا في غيره، وذهب الشافعي ومالك إلى أنه لا يشرع إلا فيه إذ كان أُبَيّ لا يَقْنُتُ في الوتر إلا في النصف الأخير من رمضان، وكان عمر يلعن الكفرة في الوتر في النصف الأخير من رمضان، والجواب ثبوت ذلك في الأحاديث، والعمل بها هو الواجب والله أعلم (¬2). 238 - وعن أبي هريرة - رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِذا سجد أحدُكم، فلا يبْرك كما يَبرك البعير، وليضع يَدَيْهِ قبل ركبتيه" أخرجه الثلاثة (¬3). ¬

_ (¬1) التلخيص 1/ 249. (¬2) الهداية 1/ 66، البحر 1/ 260 والكافي 1/ 207، المجموع 3/ 445 .. (¬3) أبو داود، الصلاة: باب كيف يضع ركبتيه قبل يديه 1/ 525 ح 840، الترمذي، الصلاة، باب آخر منه 2/ 57 ح 269، النسائي، باب أول ما يصل إلى الأرض من الإنسان في سجوده 2/ 163، أحمد 2/ 381، شرح معاني الآثار، باب ما يبدأ بوضعه في السجود اليدين أو الركبتين 1/ 254، البيهقي، الصلاة، باب من قال يضع يديه قبل ركبتيه 2/ 99 - 100، الدارقطني، باب ذكر الركوع والسجود 1/ 344 - 345، الدارمي، باب أول ما يقع من الإنسان على الأرض إذا أراد أن يسجد 1/ 303، والحديث إسناده صحيح، وتكلم بعضهم في محمد بن عبد الله بن حسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب الملقب بالنفس الزكية خرج على المنصور سنة 145 وجرت بينهما حروب. وهو ثقة. تهذيب التهذيب 9/ 295، الجرح 7/ 295، الميزان 3/ 59.

وهو أقوى من حديث وائل: "رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - إِذا سجد وضع ركبتيه قبل يديه"، أخرجه الأربعة (¬1) فإن للأول شاهدًا، من حديث ابن عمر (¬2) صححه ابن خزيمة وذكره البخاري، معلقًا موقوفًا (¬3). حديث أبي هريرة: أخرجه أصحاب السنن، وقد علله البخاري والترمذي والدارقطني قال البخاري (¬4): محمد بن عبد الله لا يتابع عليه، وقال: لا أدري سمع من أبي الزناد أم لا (¬5)، وقال الترمذي (¬6): غريب لا نعرفه من حديث أبي الزناد إلا من هذا الوجه. ¬

_ (¬1) حديث وائل: أبو داود 1/ 524 ح 838، الترمذي، الصلاة، باب ما جاء في وضع الركبتين قبل اليدين في السجود 2/ 56 ح 268، ابن ماجه، إقامة الصلاة باب السجود 1/ 286 ح 883، النسائي، باب أول ما يصل إلى الأرض من الإنسان في سجوده 2/ 163، ابن خزيمة، الصلاة، البدء بوضع الركبتين على الأرض قبل اليدين إذا سجد 1/ 318 ح 626، شرح معاني الآثار 1/ 254، الدارقطني، الصلاة، باب ذكر الركوع والسجود وما يجري فيهما 1/ 345، الحاكم الصلاة 1/ 226، الدارمي، باب أول ما يقع من الإنسان إذا أراد أن يسجد 1/ 303، البيهقي، الصلاة، باب وضع الركبتين قبل اليدين 2/ 98. (¬2) شرح معاني الآثار باب ما يبدأ بوضعه في السجود 1/ 254، الحاكم، في الصلاة 1/ 226، الدارقطني 1/ 344، البيهقي 2/ 100، ابن خزيمة 1/ 318 ح 627. (¬3) البخاري 2/ 290. (¬4) التاريخ الكبير 1/ 139. (¬5) قال الألباني عن كلام البخاري: ليست بعلة إلا عند البخاري بناء على أصله المعروف وهو اشتراط معرفة اللقاء، وليس ذلك بشرط عند جمهور المحدثين بل يكفي عندهم مجرد إمكان اللقاء مع أمن التدليس، وهذا متوفر هنا فإن محمدًا لم يعرف بتدليس ثم هو قد عاصر أبا الزناد وأدركه زمنًا طويلًا فإنه مات سنة 145 وله من العمر 53، وشيخه أبو الزناد مات سنة 130، فالحديث صحيح لا ريب فيه. الإرواء 2/ 79. وقال الدراوردي: لم ينفرد به بل توبع عليه في الجملة فقد أخرجه أبو داود والنسائي والترمذي مختصرًا من طريق عبد الله بن نافع عن محمد بن عبد الله بن حسن. الإرواء 2/ 79. (¬6) السنن 1/ 58.

وقال الدارقطني: تفرد به (¬1) الدراوردي عن محمد بن عبد الله بن الحسن العلوي عن أبي الزناد وقد ذكر النسائي عن قتيبة: ثنا عبد الله بن نافع عن محمد بن عبد الله بن حسن عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "يعمد (أ) أحدكم في صلاته فيبرك كما يبرك الجمل" ولم يزد. وقال ابن أبي داود: ثنا يوسف بن عدي ثنا فضيل عن عبد الله بن سعيد عن جده عن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا سجد بدأ بركبتيه قبل يديه" (¬2). وقوله: "وهو أقوى .. " إلخ (¬3): الشاهد الذي علقه البخاري قول البخاري قال نافع: "كان ابن عمر يضع يديه قبل ركبتيه" (¬4)، وأخرج أصبغ بن الفرج عن الدراوردي عن عبد الله عن نافع عن ابن عمر أنه كان يضع يديه قبل ركبتيه ويقول: "كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يفعل ذلك" رواه الحاكم في "المستدرك" (¬5) من طريق محمد بن سلمة عن الدراوردي، وقال: على شرط مسلم. وأخرج ابن خزيمة في "صحيحه" (¬6) من حديث مصعب بن سعد عن ¬

_ (أ) في جـ: يعمل.

أبيه قال: "كنا نضع اليدين قبل الركبتين، فأُمِرْنَا بالركبتين قبل اليدين". وحديث وائل أخرجه أصحاب السنن الأربعة وابن خزيمة وابن السكن في صحاحهم من طريق شريك عن عاصم عن كليب عن أبيه، قال البخاري والترمذي وابن أبي داود والبيهقي (¬1): تفرد به شريك، قال البيهقي (¬2): وإنما تابعه همام بن عاصم (أعن أبيه مرسلًا. وقال الترمذي: رواه همام عن عاصم أ) مرسلًا. وقال الحازمي (¬3): رواية مَنْ أرسله أصح، وقد تعقب على الترمذي بأن هماما رواه عن شقيق عن عاصم عن أبيه مرسلًا، ورواه همام أيضًا عن محمد بن جحادة عن عبد الجبار بن وائل عن أبيه موصولًا، وهذه الطريق في "سنن أبي داود" (¬4) إلا أن عبد الجبار لم يسمع من أبيه (¬5). وله شاهد من طريق حفص بن غياث عن عاصم الأحول عن أنس قال: "رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - انحط بالتكبير حتى سبقت ركبتاه يديه". أخرجه الدارقطني والحاكم والبيهقي (¬6)، وقال الحاكم: هو على شرطهما، قال ¬

_ (أ- أ) ساقط من هـ.

البيهقي: تفرد به العلاء بن العطار، والعلاء مجهول (¬1). والحديث فيه دلالة على الهيئة المذكورة بتقديم اليدين على الركبتين عند الانحطاط للسجود وظاهر الحديث الوجوب، للنهي بقوله: "فلا يبرك"، والأمر بقوله: "وليضع"، والظاهر أنه لم يَقلْ به أحد فتعين حمل ذلك على الندب، ولعله قد يجعل حديث تعليم المسئ صلاته قرينة على ذلك. واختلفت أقوال السلف والخلف في العمل، فذهب العترة ورواية عن مالك (¬2) والأوزاعي إلى العمل بحديث أبي هريرة حتى قال الأوزاعي (¬3): أدركنا الناس يضعون أيديهم قبل ركبهم. وقال ابن أبي داود (أ) (¬4) هو قول أصحاب الحديث، وذهب الحنفية والشافعية (¬5) ورواية عن مالك إلى العمل بحديث وائل بن حجر، وهو مروي عن عمر أخرجه عبد الرزاق (¬6) وعن ابن مسعود، أخرجه الطحاوي (¬7)، وقال به إبراهيم النخعي ومسلم بن يسار والثوري وأحمد وإسحاق وأهل الكوفة. وروي عن مالك وأحمد (¬8) التخيير، وهو قول الناصر ورواية عن مالك. ¬

_ (أ) زاد في هـ: و.

وقال النووي (¬1): لا يظهر ترجيح أحد المذهبين على الآخر، احتج أهل القول الأول بحديث أبي هريرة ورجح على حديث وائل بما ذكره المصنف (¬2)، واحتج أهل القول الثاني بحديث وائل، وأجابوا عن حديث أبي هريرة بأنه مضطرب إذ قد رُوى عنه الأمران وادعى بعض المحققين (¬3) بأن فيه قلبا من الراوي في قوله: "وليضع يديه قبل ركبتيه" بأن "وليضع ركبتيه قبل يديه" قال: ويدل عليه أول الحديث وهو قوله "فلا يبرك كما يبرك البعير" فإن المعروف مِنْ بُروُك البعير هو تقديم اليدين على الرجلين، وقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - الأمر بمخالفة سائر الحيوانات في هيئات الصلاة فنهى عن التفات كالتفات الثعلب، وافتراش كافتراش السبع، وإقعاء كإقعاء الكلب، ونقر كنقر الغراب، ورفع الأيدي كأذناب خيل شمس. وتأويل أهل القول الثاني بأن البعير يبرك على ركبتي يديه مردود (¬4) بأن ذلك غير متعارف، وإن الركب إنما هي في الأرجل لا في اليد وبعضهم أجاب بالقول بالنسخ، وفي الحديث الذي أخرجه ابن خزيمة (¬5) دلالة على ¬

_ (¬1) المجموع 3/ 361. (¬2) قلت: ولحديث وائل شاهد من حديث أنس ومتابعات، وقد تتبع ابن القيم المسألة وتكلم عليها ورجح حديث وائل من عشرة وجوه في الهدي النبوي 1/ 230. (¬3) ابن القيم في الهدي 1/ 226. (¬4) ساق ابن القيم الردود فقال: إن هذا القول فاسد لوجوه: 1 - أن البعير إذا برك فإنه يضع يديه أولًا، وتبقي رجلاه قائمتين، فإذا نهض فإنه ينهض برجليه أولًا، وتبقي يداه على الأرض وهذا هو الذي نهى عنه - صلى الله عليه وسلم - وفعل خلافه. 2 - أن الركبة في الرجلين وأن من قال ركبتا البعير في يديه لا يعقل، ولا تعرفه أهل اللغة. قلت: وقوله لا تعرفه أهل اللغة مردود ففي اللسان: ركبة البعير في يده وكل ذي أربع ركبتاه في يديه، لسان العرب 1/ 417. (¬5) ابن خزيمة 1/ 319 ح 628، وهو ضعيف قد تقدم قريبا.

ذلك، وحديث وائل له شاهد وإن كان في إسناده المقال الذي عرفت لكنه لا يزيد على المقال الذي في حديث أبي هريرة، وفي تمام حديث وائل: "وإذا نهض -أي من السجدة الثانية أو الأولى- رفع يديه قبل ركبتيه" أخرجه أبو داود والبيهقي (¬1). وقد استدل بهذا أحمد بن حنبل على أنه (¬2) إذا نهض للقيام بعد سجدتيه نهض على صدور قدميه معتمدا على ركبتيه بيديه رافعا يديه قبل ركبتيه، قال القاضي (¬3) في (أ) أصحابه: إنه لا يختلف (ب) قوله: إنه لا يعتمد على الأرض سواء قلنا يجلس للاستراحة أو لا يجلس، وجاء في لفظ في "سنن أبي داود" (¬4) لحديث وائل: "إذا نهض على ركبتيه واعتمد "أي بيديه على فخذيه. وذهب (جـ) الهادوية إلى أن من هيئة القيام أن يقدم رفع ركبتيه ويعتمد بيديه على الأرض، وقال الفقيه على الوشليّ من الهادوية: إنه إذا قعد للاستراحة فسدت الصلاة لأنها زيادة ركن، وقال الفقيه يحيى: لا تفسد، وهو المفهوم من كلام شرح القاضي زيد، والله أعلم. 239 - وعن ابن عمر - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "كان إِذا ¬

_ (أ) في هـ: من (ب) ساقطة من هـ. (جـ) في هـ: وذهبت.

قعد للتشهد، وضع يده اليسرى على ركبته اليسرى، واليمنى على اليمنى، وعقد ثلاثا وخمسين، وأشار بإِصبعه السبابة". رواه مسلم (¬1). وفي رواية له: "وقبض أصابعه كلها وأشار بالتي تلي الإِبهام" (¬2). وضع اليد على الركبتين وارد في هذه الرواية، وللطبراني في "الأوسط": "كان إذا جلس في الصلاة للتشهد نصب يديه على ركبتيه". وفي رواية للدارقطني (¬3): "وضع يده اليمنى على فخذه اليمنى، وألقم كفه اليسرى ركبته. والمراد بالإِلقام هو عطف (أ) الأصابع على الركبة. وفي الحديث دلالة على استحباب وضع اليدين على الركبتين (¬4)، وهو مجمع عليه، وقد ذهب إلى عطف أصابع اليسرى على الركبة بعضهم عملا بالرواية المذكورة، وكأن الحكمة في هذه الهيئة منع اليد من العبث. وقوله: "وعقد ثلاثا وخمسين": وصورة عقد ذلك عند أهل الحساب: أن يضع طرف الخنصر على البنصر، وليس ذلك مرادا، بل المراد أنه يضع الخنصر على الراحة ويكون على الصورة التي يسميها الحساب تسعة وخمسين، ولعله في الحديث تقدير لفظ قريبا من ثلاثة وخمسين. ¬

_ (أ) في جـ: عصو.

وقوله: "وقبض أصابعه كلها .. " إلخ: تُحمل الروايتان على أنه فعلهما في وقتيْن. وقوله: "وأشار بالتي تلي الإِبهام" فيدل على استحباب ذلك، ويشير عند قوله "إلا الله" من الشهادة بمسبحته اليمنى لا غير، موجهة إلى القبلة، وينوي بالإشارة (أ) التوحيد، والإخلاص لله، ولذلك "نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - مَنْ أشار بإصْبعين وقال له: أحد" (¬1)، وفي حديث وائل بن حجر (¬2): أنه يحرك إصبعه ولا يشير بها وهي ساكنة. وعارضه حديث ابن الزبير عند أبي داود: "أنه يشير بإصبعه إذا دعا ولا يحركها" (¬3) ولكن رواية وائل مثبتة وهذه نافية (¬4)، مع أن مسلما لم يذكر في روايته هذه الزيادة. وقد ذكر حديث وائل أبو حاتم في "صحيحه". 240 - وعن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: "التفت إِلينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: إِذا صلَّى أحدكم فليقل: التحيات لله والصلاة والطيبات، السلام عليك أيها النبي، ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إِله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، ثم ليتخير من الدعاء ¬

_ (أ) في هـ: الإشارة.

أعجبه إِليه فيدعو" متفق عليه، واللفظ للبخاري (¬1). وللنسائي: "كنا نقول قبل أن يفرض علينا التشهد" (¬2). ولأحمد (¬3): "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - علمه التشهد وأمره أن يعلمه الناس". ولمسلم عن ابن عباس - رضي الله عنه -: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعلمنا التشهد، التحيات المباركات، الصلوات الطيبات لله .. إلى آخره" (¬4). حديث ابن مسعود متفق على صحته وثبوته، وأكثر الروايات فيه بتعريف السلام في الموضعَيْن، ووقع في رواية للنسائي بتنكير: "سلام (أ) علينا" (¬5)، وفي رواية للطبراني (¬6): "سلام عليكم"، بالتنكير. قال ¬

_ (أ) في هـ: السلام.

الترمذي (¬1): وهو أصح حديث روي في التشهد، والعمل عليه عند أكثر أهل العلم. وقال (أ) البزار (¬2): أصح حديث في التشهد عندي حديث ابن مسعود روي عنه من نيف وعشرين طريقًا، ولا نعلم روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في التشهد أثبت منه ولا أصح (ب) إسنادًا، ولا أشهر رجالًا ولا أشد تضافرًا لكثرة الأسانيد والطرق. وقال مسلم: إنما أجمع الناس على تشهد ابن مسعود لأن أصحابه لا يخالف بعضهم بعضا، وغيره قد اختلف أصحابه. وقال محمد بن يحيى الذهلي: هو أصح ما روي في التشهد. وحديث النسائي وقوله: "قبل أن يفرض علينا": أخرجه من طريق ابن عيينة قال ابن عبد البر في "الاستذكار": تفرد ابن عيينة بذلك (¬3)، وأخرج مثله الدارقطني، والبيهقي وصححاه (¬4). وحديث ابن عباس (¬5): أخرجه مسلم والشافعي والترمذي والدارقطني وابن ماجه من طريق طاوس عنه بلفظ: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُعَلِّمُنَا التشهد كما يُعلِّمُنَا السورة من القرآن" ووقع في رواية الشافعي (¬6) تنكير السلام في ¬

_ (أ) ساقطة من هـ. (ب) زاد في جـ: من.

الموضعيْن، وكذا عند الترمذي وأما رواية مسلم فهي بالتعريف فيهما، وكذا إحدى روايتي الدارقطني، وفي "صحيح ابن حبان" تعريف الأول وتنكير الثاني، وعكسه الطبراني (¬1). وقد روى حديث التشهد ستة وعشرون صحابيا بألفاظ مختلفة (¬2)، فقد روي من حديث ابن مسعود وابن عباس وجابر وأبي موسى وعائشة وسمرة بن جندب وعلى وابن الزبير ومعاوية وسليمان وأبي حميد وعن أبي بكر موقوفًا ومرفوعًا، وعن عمر كذلك، وابن عمر والحسين بن علي وطلحة بن عبد الله وأنس وأبي هريرة وأبي سعيد والفضل بن عباس وأم سلمة وحذيفة والمطلب بن ربيعة وابن أبي أوفى هي مختلفة، فبعضها صحيح وبعضها حسن وبعضها ضعيف (¬3). والحديث فيه دلالة على وجوب التشهد لقوله: "فليقل"، ولمواظبته - صلى الله عليه وسلم - على ذلك وقد قال "صلوا كما رأيتموني أصلي" (¬4). وقد ذهب إلى وجوبه عمر وابن مسعود والهادي والقاسم وأبو حنيفة وأحد قولي الشافعي (¬5)، وذهب علي - رضي الله عنه - والثوري ومالك (¬6) إلى أنه غير واجب، قالوا لقوله تعالى: {ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} ولعدم تعليمه المسئ صلاته. وأجيب بأنه ورد بصيغة الأمر في السنة، وظاهره الوجوب، ورده بعض ¬

_ (¬1) الطبراني 11/ 46 ح 10996. (¬2) قال الشارح: ستة وعشرون صحابيًّا، وفي التلخيص: أربعة وعشرون والذي سمي من الصحابة هنا أربعة وعشرون. (¬3) ذكرها في التلخيص ومظانها وبين الصحيح والضعيف فارجع إليه 1/ 264 - 268. (¬4) سيأتي في 876 ح 252. (¬5) الهداية 1/ 52، المجموع 3/ 394، البحر 1/ 276. (¬6) البحر 1/ 276، الكافي 1/ 204 - 205.

المالكية بأن (أ) التسبيح في الركوع والسجود كذلك وردا بصيغة الأمر ولم يجبا، وأجيب بأن الإجماع هنا صرف الأمر عن الوجوب إلى الندب، وفيه نظر فإنه لا إجماع على عدم وجوبه. إذ قد (ب) قال بوجوبه أحمد (¬1) وغيره من أهل الظاهر. واختلفوا في الواجب من ألفاظ التشهد فنقل الطحاوي عن بعض العلماء القول بوجوب تشهد عمر - رضي الله عنه - قالوا: لأن عمر علمه الناس على المنبر ولم ينكر عليه (¬2)، [ولفظه نحو تشهد ابن عباس، إلا أنه قال "الزاكيات" بدل "المباركات"، وفيه زيادة "ليسم الله في أوله"، وقد ضعفت الزيادة (¬3) ورجح الحافظ عدمها (جـ). وذهب جماعة من محدثي الشافعية كابن المنذر إلى اختيار تشهد ابن مسعود، وذهب ابن خزيمة وغيره إلى عدم الترجيح، ونقل جماعة من ¬

_ (أ) في جـ: فإن. (ب) في هـ: وقد. (جـ) بهامش الأصل، وفيه بعض المحو واستدركته من نسخة هـ.

العلماء الاتفاق على جواز التشهد بكل ما ثبت، وقال الإمام المهدي في "البحر" (¬1). والأفضل الأخذ بأحد المأثور (أ) عن علي وزيد بن علي وابن مسعود، والمعروف عند الحنفية أنه واجب (¬2) غير فرض، وقالا الشافعي: هو فرض، لكن قال: لو لم يزد رجل على قوله: "التحيات لله سلام عليك أيها النبي .. " إلخ كرهتُ له ذلك ولم أر عليه إعادة الصلاة، هذا لفظه في "الأم" (¬3)، وقال الشافعي (¬4) بعد أن أخرج حديث ابن عباس: رويت أحاديث في التشهد مختلفة فكان هذا أحب إلى لأنه أكملها، وقال في موضع آخر لما سُئل عن اختياره تشهد ابن عباس: لما رأيته واسعًا وسمعته عن ابن عباس صحيحا (¬5) كان عندي أجمع وأكثر لفظًا من غيره، فأخذت به غير معنف لمن يأخذ بغيره مما صح، ورجحه بعضهم لكونه مناسبًا للفظ القرآن في قوله: {تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً} (¬6). * شرح ألفاظ التشهد: التحيات: جمع تحية، ومعناها السلام، وقيل: النقاء، وقيل: العظمة، وقيل: السلامة من الآفات والنقص، وقيل: الملك، وقيل: الكَلام الذي يُحيَّا به الملك. وقال ابن قتيبة: لم يكن يحيا إلا الملك، وكان لكل ملك تحية تخصه ¬

_ (أ) في ب: الأخذ بالثأر.

فلهذا جمعت فكان المعنى: التحيات التي كان يعظم بها الملوك المستحق لها هو الله، والمعنى أنواع التعظيم له. والصلوات: قيل: المراد الخمس، أو ما هو أعم من ذلك من الفرض والنفل والعبادات كلها أو الدعوات كلها أو الرحمة. وقيل: التحيات: العبادات القولية، والصلوات: العبادات الفعلية والطيبات: العبادات المالية. والطيباب: أي ما طاب من الكلام، وحَسُنَ أن يثني به على الله، أو ذكر الله، أو الأقوال الصالحة، أو الأعمال الصالحة، أو ما هو أعم من ذلك وطيبها كونها كاملة خالصة عن الشوائب. والتحيات: مبتدأ خبره "لله"، والصلوات والطيبات عطف على المبتدأ، أو أن الصلوات مبتدأ والخبر محذوف. والطيبات معطوف عليها، أو يقدر لها خبر أيضًا ويكون من عطف الجمل، ورجح ابن مالك هذا الأخير قال: لأن على رواية حذف الواو "الصلوات" صفة للتحيات، ولو عطف عليه عطف الصفة على موصوفها. وقوله: "السلام عليك" بإثبات اللام في جميع روايات حديث ابن مسعود، واللام فيه (أ) إما للعهد، والمعنى: السلام الذي يوجه إلى الرسل والأنبياء عليك، وكذلك السلام الذي وجه إلى الأمم السالفة علينا، أو أنه للإشارة (ب) إلى السلام الذي عين في قوله: {وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ ¬

_ (أ) في هـ: وفيها. (ب) في جـ: إشارة.

اصْطَفَى} (¬1) (أأو للجنس، والمعنى: إن حقيقة السلام الذي يعرفه كل أحد أ)، وأفردوه - صلى الله عليه وسلم - بالذكر لشرفه ومزيد حقه عليهم، ثم خصصوا أنفسهم ثم عمموا السلام على الصالحين للإعلام بأن الدعاء للمؤمنين ينبغي أن يكون شاملًا لهم. والسلام بمعنى السلامة كالمقام بمعنى المقامة، أو أنه من أسماء الله تعالى بمعنى المسلم، أو المعني أنه سالم من كل عيب وآفة ونقص وفساد ويكون المعنى على الأول: السلامة من المكاره عليك وعلينا، وعلى الثاني: أي اسم السلام عليك، كأنه برّك عليه بالاسم، ولا يقال أنه يلزم خطابه - عليه السلام -، وهو منهي عن الخطاب في الصلاة لأن ذلك مخصوص به، وخوطب به - صلى الله عليه وسلم - وأن كان المقام بالنسبة إلينا (ب هو مقام الغيبة، ففي حياته - صلى الله عليه وسلم - لمن علمهم الأمر ظاهر، بالنسبة (جـ) إلينا ب) من وجهة أن المصلين لما استفتحوا باب الملكوت بالتحيات أذن لهم بالدخول في حرم الحي الذي لا يموت، فقرت أعينهم بالمناجاة فنبهوا على أن ذلك بواسطة نبي الرحمة وبركة متابعته، فالتفتوا فإذا الحبيب حاضر، فأقبلوا عليه قائلين: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته (د) كما ذكره الطيبي. وقد ورد في حديث ابن مسعود وفي "صحيح البخاري" (¬2) في باب ¬

_ (أ - أ) في الأصل: قدم ما بينهما على جملة "أو أنه للإشارة" وقد أشار إلى أن حقه التأخير. (ب - ب) بهامش هـ. (جـ) في جـ: وفي النسبة. (د) ساقطة من جـ.

الاستئذان بعد أن ساق حديث التشهد قال: "وهو بين ظهرانينا، فلما قبض قلنا: السلام يعني (أ) على النبي"، وأخرجه أبو عوانة وغيره (¬1) إلى أبي نعيم شيخ البخاري بلفظ: "فلما قُبض قلنا: السلام على النبي" وأخرج عبد الرزاق (¬2) أن الصحابة لما مات النبي - صلى الله عليه وسلم - قالوا: السلام على النبي، وهو بإسناد صحيح. وقد روي (ب) عن ابن مسعود (¬3) بإسناد ضعيف أنه لما قال له ابن عباس: إنما كنا نقول: السلام عليك أيها النبي إذا كان حيا، قال ابن مسعود: "هكذا عُلمنا، وهكذا نُعَلِّم" ولكن العمل على الأول. وذكر هنا بلفظ النبي ليجمع له بين وصفي النبوة والرسالة في أول التشهد وآخره، وقدم وصف النبوة لأنها كذلك تقدمت في الخارج. وقوله: "ورحمة الله": أي إحسانه (¬4)، "وبركاته" أي زيادته من كل خير. وقوله: "السلام علينا": فيه دلالة على استحباب تقديم النفس في الدعاء، وفي الحديث أنه - صلى الله عليه وسلم - كان إذا ذكر أحدًا فدعا له بدأ بنفسه، وكذا ¬

_ (أ) ساقطة من جـ. (ب) في جـ: ورد.

حكى (أ) الله تعالى عن نوح وإبراهيم عليهما السلام. وقوله: "عباد الله الصالحين" (¬1): الأشهر في تفسير الصالح أنه القائم (ب) بما يجب عليه من حقوق الله تعالى وحقوق عباده، وتتفاوت درجاته، وهذا لفظ شامل للملائكة والأنبياء ومن عداهم. وقوله: "أشهد أن لا إِله إِلا الله": زاد ابن أبي شيبة من رواية أبي عبيدة (¬2) عن أبيه: "وحده لا شريك له" (¬3) وسنده ضعيف، لكن ثبتت هذه الزيادة في (جـ) حديث أبي موسى عند مسلم (¬4)، وفي حديث عائشة الموقوف في "الموطأ" (¬5)، وفي حديث ابن عمر عند الدارقطني (¬6)، "إلا (د أن سنده ضعيف وفي "سنن أبي داود" قال ابن عمر: "زدت فيها وحده لا شريك له" د)، وظاهره الوقف. ¬

_ (أ) في هـ: حكاه. (ب) في جـ: العالم. (جـ) في جـ: من. (د- د) بهامش هـ.

وقوله: (أ) "وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله": لم تختلف الطرق عن ابن مسعود في هذا اللفظ، وفي حديث ابن عباس عند مسلم: "وأشهد أن محمدًا رسول الله"، ومنهم من حذف (ب): "وأشهد"، ورواه ابن ماجه (¬1) بلفظ ابن مسعود. وقوله: "ثم ليتخير من الدعاء أعجبه إِليه": زاد أبو داود: "فيدعو به" (¬2) ونحوه. للنسائي (¬3) من وجه آخر بلفظ: "فليدع به"، ولإسحاق بن عيسى عن الأعمش "ثم ليتخير من الدعاء ما أحب"، وفي رواية منصور عند البخاري في الدعوات (¬4): "من الثناء ما شاء"، وفي مسلم: (¬5) من المسألة. ويستدل به على جواز الدعاء في الصلاة (جـ لما اختار المصلي من أمر الدنيا والآخرة بل ويدل على وجوب الدعاء، فإن التخيير بين أفراد المدعو به لا يقتضي عدم وجوب أصل الدعاء، وقد ذهب إلى هذا أبو هريرة فإنه أمر ابنه بإعادة الصلاة جـ) لما لم يتعوذ من الأربع التي سيأتي ذكرها (¬6)، وبه قال بعض أهل الظاهر، وقال ابن حزم (¬7): ويجب أيضًا في التشهد الأول، ¬

_ (أ) ساقطة من جـ. (ب) في هـ: يحذف. (جـ- جـ) بهامش جـ.

وقال ابن المنذر: لولا قوله: "ليتخير" لقلتُ بوجوب الاستعاذة، وقد عرفت أنه لا مأخذ له. وحَمَلَ من لم يقل بالوجوب الأمر على الندب (أ)، ويحتاج إلى دليل، وادعى بعضُهم الإجماع على عدم الوجوب، وقد عرفت ما فيه. وقال ابن بطال: خالف في ذلك النخعي وطاوس وأبو حنيفة فقال: لا يدعو في الصلاة إلا بما يوجد في القرآن (¬1)، وبعضهم روى الخلاف بأنه لا يدعو إلا بما كان مأثورًا. وقال ابن سيرين: لا يدعو في الصلاة إلا بأمر الآخرة. وقال بعضُ الشافعية: لا يدعو بما يفتح من أمور الدنيا، وبعضهم (¬2) لا يخرج إلى أوصاف المسؤول، بأن يذكر مثلًا زوجة ويصفها بأوصافها. وأخرج سعيد بن منصور من حديث ابن مسعود: "يعلمنا (ب) التشهد في الصلاة" يعني ابن مسعود ثم يقول: "إذا فرغ أحدكم من التشهد فليقل: اللهم إني أسألك من الخير كله ما علمت منه وما لم أعلم، وأعوذ بك من الشر كله ما اعلمت منه وما لم أعلم، اللهم إني أسألك من خير ما سألك عبادك الصالحون، وأعوذ بك من شر ما استعاذ منه عبادك ¬

_ (أ) في جـ: بالوجوب على الأمر بالندب. (ب) في جـ: فعلمنا.

الصالحون، {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً} .. الآية (¬1) قال: ويقول "ولم يدع نبي ولا صالح بشيء إلا دخل في هذا الدعاء". فائدة: قال الرافعي: المنقول أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقول في تشهده: "أشهد أني رسول الله". قال في "المقاصد" (¬2): قال شيخنا في تلخيص تخريجه: ولا أصل لذلك كذلك، بل ألفاظ التشهد متواترة عنه - صلى الله عليه وسلم - وأنه كان يقول: "أشهد أن محمدًا رسول الله وعبده ورسوله" (أ). وللأربعة (¬3) من حديث ابن مسعود في خطبة الحاجة: "وأشهد أن محمدًا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نعم (ب) في البخاري عن سلمة بن الأكوع: "لما جفت أزواد القوم" فذكر الحديث في دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم -، ثم قال: "أشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله" (¬4) وله شاهد عند مسلم. 241 - وعن فَضَالَة بن عُبيد - رضي الله عنه - قال: "سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجلًا يدعو في صلاته، لم يمجِّد الله تعالى، ولم يصل على النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: عجل هذا، ثم دعاه فقال: إِذا صلى أحدكم فليبدأ بتحميد ربه والثناء عليه، ثم يصلي على النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم يدعو بما شاء" رواه أحمد، والثلاثة. وصححه الترمذي، وابن حبان، والحاكم (¬5). ¬

_ (أ) في جـ: - صلى الله عليه وسلم - نعم في البخاري عن سلمة بن الأكوع فذكر "وعبده ورسوله". (ب) في النسخ: هذا، وقد ورد في جـ: نعم، أثبتناها لأنه الموافق للمقاصد 61.

هو أبو محمد فَضَالة (¬1) -بفتح الفاء وبالضاد المعجمة- وعبيد -بضم العين المهملة- ابن نافذ -بالنون والفاء والذال المعجمة- الأنصاري العمري الأوسي، أول مشاهده أحُد، ثم شهد ما بعدها، وبايع تحت الشجرة، ثم انتقل إلى الشام، وسكن دمشق، وقضى بها لمعاوية زمن (أ) خروجه إلى صِفِّيْن، ومات بها في عهد معاوية، وقيل مات سنة تسع وستين، وقيل سنة ثلاث وخمسين، وهو أصح: روي عنه ميسرة مولاة، وإسماعيل بن عبد الله وحنش السبائي. الحديث فيه دلالة على وجوب ما ذكر من التمجيد (ب) والثناء والصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم الدعاء بما شاء، وهو موافق في المعنى لتشهد ابن مسعود وغيره. فإن ذلك متضمن للتمجيد (جـ) والثناء، وهذا مجمل، وذلك مبين للمراد. وسيأتي الكلام في الصلاة فيما بعده. وفي قوله: "عجل": دلالة على أن المسألة ينبغي أن تقدمها الوسيلة، وأن ذلك من حق السائل أن يتلطف في نيل ما أراده، ويقدم بين يدي مسألته ما يكون فيه استعطاف المسؤول ليكون أدخل في قضاء بغيته، لإدراك أمنيته. ¬

_ (أ) في جـ: رأس. (ب) في جـ: التحميد. (جـ) في جـ: للتحميد.

242 - وعن أبي مسعود الأنصاري - رضي الله عنه - قال: قال بشير بن سعد يا رسول الله: "أمرنا الله أن نُصَلِّي عليك فكيف نصلي عليك؟ ". فسكت، ثم قال: "قولوا: اللَّهُمَّ صل على محمدٍ وعلى آل محمدٍ، كما صليتَ على إِبراهيم [وعلى آل إِبراهيم] (أ) وبارك على محمدٍ وعلى آل محمد كما باركتَ على آل إِبراهيم في العالمين إِنك حميد مجيد. والسلام كما علمتم" رواه مسلم (¬1). وزاد ابن خزيمة فيه "فكيف نصلي عليك إذا نحن صلينا عليك في صلاتنا؟ " (¬2). هو أبو مسعود عقبة بن عمرو بن ثعلبة الأنصاري الخزرجي البدري النجاري شهد العقبة الثانية، وكان أصغر منْ شهدها، ولم يشهد بدرًا عند ¬

_ (أ) في هامش الأصل.

جمهور العلماء بالسير وقيل: إنه شهدها، والأول أصح وإنما نسب إلى ماء بدر لأنه نزله فنسب إليه، سكن الكوفة، ومات في خلافة علي بن أبي طالب وقيل: في سنة إحدى أو اثنتين وأربعين. روى عنه ابنه بشير وعبد الله بن زيد الأنصاري ومحمد بن عبد الله بن زيد وعمرو بن ميمون وأبو وائل شقيق بن سلمة (¬1). وبشير بن سعد (¬2) هو أبو النعمان (أ) بشير بن سعد بن ثعلبة الأنصاري الخزرجي، والد النعمان بن بشير، شهد العقبة وبدرًا والمشاهد بعدها، ويقال: إنه أول من بايع أبا بكر الصديق يوم السقيفة من الأنصار. روى عنه ابنه النعمان، وجابر بن عبد الله، عداده في أهل المدينة، قُتلَ مع خالد بن الوليد بعين التمر في خلافة أبي بكر. والحديث أخرجه أبو داود والنسائي. وزيادة ابن خزيمة أخرجها أيضًا ابن حبان والدارقطني والحاكم. وفي الباب عن أبي سعيد رواه البخاري (¬3)، وعن طلحة رواه النسائي (¬4)، وعن سهل بن سعد رواه الطبراني (¬5)، وعن زيد بن خارجة رواه أحمد والنسائي (¬6) وعن كعب بن عجرة متفق عليه (¬7) وعن أبي حميد الساعدي متفق عليه أيضًا (¬8). ¬

_ (أ) زاد في جـ: ابن.

والحديث فيه دلالة على وجوب الصلاة عليه على جهة الإطلاق بصيغة الأمر وهو "قولوا"، وهي ظاهرة في الوجوب فقال الأكثر: إنها تجب في العمر مرة واحدة (¬1)، وقيل: تجب كلما ذكر، واختاره الطحاوي (¬2) من الحنفية، والحليمي من الشافعية، وقيل: تجب في الصلاة فقط وقد ذهب إلى هذا جماعة من السلف والأئمة والشافعي وإسحاق (¬3)، والقول بأن الشافعي مسبوق بالإجماع على عدم وجوبها غير صحيح (¬4)، ويحتج على وجوبها على جهة الإطلاق بقوله تعالى: {صَلُّوا عَلَيْهِ} (¬5) وهو أمر مطلق يقتضي الوجوب في الجملة ويحصل الامتثال بحصول فرد، والقائل بوجوبها على جهة التخصيص لا بد له من دليل خاص ينضم إلى ذلك، فالقائل بوجوبها كلما ذكر فهو لقوله - صلى الله عليه وسلم -: البخيل من ذكرت عنده فلم يصل علي" (¬6) وقوله: "رغِمَ أنف من ذكرت عنده فلم يصل" (¬7) ¬

_ (¬1) حكاه صاحب الهداية عن الكرخي 1/ 52. (¬2) الهداية 1/ 52. (¬3) قلت: اختلف العلماء في وجوب الصلاة على النبي عقب التشهد الأخير في الصلاة: 1 - أبو حنيفة ومالك وأحمد في رواية وهو قول جماهير العلماء قال ابن المنذر: قول جل أهل العلم إلا الشافعي. 2 - أحمد والشافعي واجبة ويروى عن عمر وابنه والشعبي. شرح مسلم 2/ 47، الكافي 1/ 205، المغني 1/ 541 - 542، المجموع 3/ 513، الهداية 1/ 52. (¬4) قال النووي: وقد نسب جماعة الشافعي رحمه الله تعالى في هذا إلى مخالفة الإجماع ولا يصح قولهم فإنه مذهب الشعبي، شرح مسلم 2/ 47. (¬5) الآية 56 من سورة الأحزاب. (¬6) الترمذي 5/ 551 ح 3546، أحمد 1/ 201 عمل اليوم والليلة لابن السني 147 ح 384، الحاكم 1/ 549 وقال: صحيح، ووافقه الذهبي من حديث الحسين بن علي. وفيه عبد الله بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب مقبول، التقريب 182. (¬7) الترمذي 5/ 550 ح 3545، الحاكم 1/ 549، من حديث أبي هريرة بسند صحيح وله شاهد =

فوصفه بالبخيل يقتضي أنه ترك إخراج ما يجب إخراجه، والموجب لها في الصلاة يتم له ذلك بإنضمام الرواية الأخرى وهي قوله: "إذا نحن صلينا عليك في صلاتنا ... " وقد أخرجها أبو حاتم وابن خزيمة في "صحيحيهما"، ومن لم يوجبها في الصلاة يحتج عليه بتعليم ابن مسعود وابن عباس التشهد وتعليم عمر الناس وهو على المنبر، وتعليم المسيء صلاته، ويجاب عن ذلك بأن هذا مثبت والمثبت مقدم. ويدل الحديث أيضًا على وجوب الصلاة (¬1) على الآل، وقد قال به الهادي والقاسم وأحمد بن حنبل وبعض أصحاب الشافعي، وذهب الناصر والشافعي وأبو حنيفة وأصحابه إلي أنها سنة فقط، وادعى النووي (¬2) وغيره الإجماع على ذلك، قالوا: وهو قرينة على حمل الأمر على الندب دون الوجوب. وقال في "البحر" (¬3): قياسًا على الأذان [يعني أنه ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يذكر معه الآل] (أ). قلنا: لا قياس مع النص. وأما تمام الصلاة فقوله: "كما صليت" إلى آخره فسنة لا حتم. قال في "البحر" (¬4): إذ لا دليل على الوجوب، ويقال عليه: بل الدليل قائم، وهو ما احتج به على وجوبها على الآل وهو ذَكَرَ ذلك في هذا الحديث، وقد ذهب إلى وجوب ذلك بعض أصحاب الشافعي (¬5) في أحد احتمالين. ¬

_ (أ) بهامش الأصل.

والآل قيل: هم بنو هاشم، وذهب إليه الإمام يحيى، وذهب الشافعي إلى أنهم بنو هاشم وبنو المطلب (أ). وذهب الأزهري وغيره من المحققين -[وذهب جماعة من أئمة أهل البيت إلى أنهم ذريته، وقد تقدم الكلام فيه] (¬1) (ب) قال النووي: وهو أظهرها- أنهم أهل دينه لقوله تعالى: {أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} (¬2). وقيل: إنه ذاته، ونسب إلى الحسن البصري لأنه كان يقول: "اللهم صل على محمد"، ولا يذكر آله ويتركه إلا والمراد به (جـ) ذاته. وقد اشتهر سؤال وارد على هذا وهو أن قوله "كما صليت" للتشبيه، والمشبه دون المشبه به، ويجاب عن ذلك بأن التشبيه لا يقتضي ذلك لازمًا فإن الغرض منه قد يكون لبيان حال المُشَبِّه كما في تشبيه ثوب بآخر في السواد فإنه قد يكون المشبه في هذه الحال أقوى، وكذا في بيان المقدار فإن المشبه قد يكون مساويا للمشبه به، وهذا يكون من الأول، فإنه لما قد (د) علم وشاع عن جميع أهل الملل في الأعصار المتعاقبة والأوقات الحالية (هـ) ما اختص به إبراهيم وآله عليه أفضل الصلوات (و) والسلام من الخصائص ¬

_ (أ) في جـ: والآل قيل: هم بنو هاشم وبنو المطلب وذهب جماعة من أهل البيت إلى أنهم ذريته. (ب) في هامش الأصل وفيه بعض المحو واستدركته من نسخة هـ. وهي ساقطة من جـ إلا قوله "وقد .. إلخ". (جـ) ساقطة من جـ. (د) ساقطة من جـ. (هـ) في هـ: الخالية. (و) في جـ: الصلاة.

الرحمانية والمقامات العالية، وتسليم ملائكة الرحمن وترحمهم عليه وعلى آله فقيل: هذه الصلاة على محمد وآله لها الحد العلي من التعظيم والترحم الذي قد عهد وسلف مع إبراهيم وآله، فهو غير منظور فيها إلى جانب زيادة أو نقص، وإنما المقصود أن لها من نوع الإجلال والتعظيم الحظ الأوفر كما فعل في حق إبراهيم، واشتهر من تقرر (أ) تعظيمه واختصاصه بشرائف التكريم (ب) هذا ما يظهر لي في الجواب عن السؤال، وقد أجيب (جـ) بخمسة أجوبة: أولها: أن التشبيه وقع لأصل الصلاة بأصل الصلاة لا القدر بالقدر. الثاني: أن التشبيه وقع في الصلاة على الآل لا على النبي - صلى الله عليه وسلم -. الثالث: المشبه مجموع (د) الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - بمجموع الصلاة على إبراهيم وآله وفي آل إبراهيم معظم الأنبياء. الرابع: أن هذه الصلاة متكررة في حق النبي - صلى الله عليه وسلم - بالنظر إلى كل مصل، فباعتبار مجموع الأفراد هي أعظم وأوفر أضعافًا مضاعفة، وإن كان باعتبار الفرد هي مساوية أو ناقصة. الخامس: أن السؤال في الصلاة إنما هو زائد على القدر الذي قد كان ثبت له - صلى الله عليه وسلم -، وانضم إليه ما سألناه من الصلاة المساوية أو ناقصة فبانضمامه (هـ) إلى ما قد ثبت في جانب (و) نبينا - صلى الله عليه وسلم - أعظم قدرا وأوفر أفرادا. والعالمين: جمع عالَم. ¬

_ (أ) في جـ: تقرير. (ب) زاد في هـ: ثم. (جـ) في جـ: أجبت (د) في هـ: مجموع المشبه. (هـ) في جـ: فانضمامه. (و) في جـ: ما في بجانب.

[وقوله (أ): "بارك"، البركة: الزيادة والنماء من الخير] (ب)، وفي تحقيق معناه خلاف. وقوله: "إِنك حميد": صيغة مبالغة فعيل بمعنى مفعول يستوي فيه المذكر والمؤنث، أي: محمود بمحامدك اللائقة بعظمتك بلسان المقال والحال والمعنى أنك مستحق لجميع المحامد، وهو تعليل لطلب الصلاة منه لأنك محمود ومن جملة محامدك إفاضتك أنواع العنايات ومزيد البركات على من فعل الحسنى وتقرب إليك بامتثال ما أمرته (جـ) وندبت إليه. ويحتمل أن يكون "حميد" فَعِيل بمعنى فاعل أي أنك حامد لمن يستحق أن يحمد ومن حمدك لمحمد وآله إظهار شرفه والثناء عليه باستجابة دعاء من دعاك بإعطائه ذلك وهذا أنسب هنا. ومجيد: مبالغة ماجد، والمجد الشرف. وفي قوله: "والسلام كما عَلِمتم": بفتح العين وكسر اللام المخففة، ومنهم من رواه بضم العين وتشديد اللام والمفعول الثاني محذوف أي علمتموه، والمعنى أن صفة السلام كما علمتم في التشهد وهو السلام عليكم" (د). 243 - وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: "قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إِذَا تَشَهَّد أحدكم فَلْيَسْتَعِذْ بِالله من أرْبَع يقول: اللهمَّ إِني أعوذ بِكَ مِنْ عَذَاب جَهَنَّمَ، ومن عذاب القَبْرِ، ومن فَتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَات، ومن شرّ ¬

_ (أ) زاد في هـ: و. (ب) بهامش الأصل. (جـ) في جـ: ما أمرت. (د) في هـ عليك.

فِتْنةِ الْمَسِيح الدَّجَّال". متفق عليه (¬1). وفي رواية مسلم: "إذا فرغ أحدكم من التشهد الأخير" (¬2). الحديث فيه دلالة على شرعية الاستعاذة المذكورة بعد التشهد، وإطلاق الرواية الأولى يدل على (أ) "أنها في التشهدين (¬3)، وأفرط ابن حزم (¬4) فقال بوجوبها في التشهد الأول أيضًا، ولكن الرواية التي لمسلم مبينة لما أطلق في هذا بأن ذلك في التشهد الأخير وأن محلها بعد التشهد قبل الدعاء بدلالة التعقيب بالفاء للتشهد، فيكون الدعاء المتخير بعدها وقبل السلام، وهذه الاستعاذة ظاهر الأمر وجوبها، وقد ذهب إلى ذلك بعض أهل الظاهر، ويروى عن طاوس (¬5) ما يدل على ذلك فإن من رواية عبد الرزاق بإسناد صحيح أنه سأل ابنه (ب): هل قالها بعد التشهد؟ فقال: لا، فأمره أن يعيد الصلاة، وادعى بعضهم الإجماع على أن ذلك مندوب، ولا يصح مع ما قد عرفت. ¬

_ (أ) في هـ: عليه. (ب) في هـ: أبيه.

وفي قوله: "فليستعذ بالله" يدل على أنه يأتي من الألفاظ بما (ب) يفيد ذلك، وقد اقتصر على ذلك في رواية البخاري، ولكنه قد بين ذلك في رواية مسلم بقوله: "فليقل: اللهُم إنِّي أعوذُ بكَ من عذابِ جهنم" إلخ. وقوله: "من عذاب القبر" فيه دلالة على ثبوت ذلك خلافا لمن أنكره من المعتزلة والأحاديث متضافرة على ثبوته (¬1). وقوله: "فتنة المحيا": قيل: أراد بفتنة المحيا: ما يعرض للإنسان مدة حياته من الافتتان بالدنيا والشهوات والجهالات، وأعظمها -والعياذ بالله- أمر الخاتمة عند الموت، وقيل: هي الابتلاء مع زوال الصبر، وفتنة الممات قيل: أريد بها (جـ) الفتنة عند الموت أضيفت إليه لقربها منه. ويجوز أن يراد بها فتنة القبر، وقيل: أراد بها السؤال مع الحيرة. وقد أخرج البخاري من حديث أسماء (¬2) "إنكم تفتنون في قبوركم مثل -أو قريبًا من- فتنة الدجال" ولا يكون متكررًا على هذا من عذاب القبر لأن العذاب مرتب على ذلك. وقد أخرج الحكيم الترمذي في "نوادر ¬

_ (أ) ساقطة من هـ. (ب) في هـ: ما. (جـ) في هـ: أراد.

الأصول" (¬1) أن الميت إذا سئل: مَنْ رَبك؟ تراءى له الشيطان فيشير إلى نفسه، أي (أ) أنا ربك، فلهذا ورد سؤال التثبيت له حين يسأل. ثم أخرج بسندٍ جيد إلى عمرو بن مرة: "كانوا يستحبون إذا وضع الميت في قبره أن يقولوا: اللهم أعذه من الشيطان". وقوله: "فتنة المسيح الدجال": قال (ب) أهل اللغة: الفتنة: الامتحان والاختبار، وقد يطلق على القتل والإحراق والتهمة وغير ذلك، والمسيح: بفتح الميم وتخفيف السين المهملة (جـ) المكسورة وآخره حاء مهملة ويطلق (د) على الدجال وعلى عيسى لكن إذا أريد الدجال قيد، وقال أبو داود في "السنن": المَسِّيح مثقل الدجال، ومخفف عيسى (¬2). وقد نقل الفربري (¬3) أن التشديد والتخفيف ثابت ويطلق على عيسى - عليه السلام - وعلى الدجال. وقال الجوهري: من قاله بالتخفيف فلمسحه الأرض، وبالتشديد فلكونه ممسوح العين وهذا في الدجال، وقد حكي عن بعضهم أنه بالخاء المعجمة، ¬

_ (أ) ساقطة من هـ. (ب) في هـ: قالوا. (جـ) في هـ: المهمة. (د) زاد في هـ: المسيح.

ونسب إلى التصحيف. وقيل في تلقيب الدجال بذلك لأنه ممسوح العين، وقيل: لأن أحد شِقَّي وجهه خلق (أ) ممسوحًا عين فيه، ولا حاجب، وقيل: لأنه يمسح الأرض إذا خرج، وأما عيسى فقيل: سُمي بذلك لأنه خرج من بطن أمه ممسوحًا بالدهن، وقيل: لأن زكريا مسحه وقيل: لأنه كان لا يمسح ذا عاهة إلا برئ، وقيل: لأنه مسح الأرض بسياحته، وقيل: لأن رجله كانت لا أخمص لها، وقيل: هو بالعبرانية ماسحًا فعرب السيح وذكر الشيرازي صاحب "القاموس" أنه جمع في سبب تسميه عيسى بذلك خمسين قولا أوردها في "المشارق" (¬1) وقيل: المسيح الصديق (¬2). 244 - وعن أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - أنه قال لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: عَلِّمنِي دُعَاءً أدْعُو بِه في صَلاتِي فقال: قُلْ اللَّهُمَّ إِنّي ظَلَمْت نَفْسِي ظُلْمًا كثِيرًا ولا يَغْفر الذْنوب إلا أنْتَ، فاغْفِرْ لِي مَغفِرَةً مِنْ عِنْدَكَ، وارْحَمْنِي إِنَّكَ أنْتَ الغَفور الرًّحيم" متفق عليه (¬3). الحديث فيه دلالة على شرعية هذا الدعاء في الصلاة على الإطلاق من دون تعيين محل له، ولعله يختار بعد التشهد لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "فليتخير من ¬

_ (أ) ساقطة من جـ.

الدعاء" (¬1) وأشار البخاري (¬2) إلى هذا بإيراد باب ما يتخير من الدعاء بعد التشهد بعد ذكر هذا الحديث. وقوله: "ظلمت نفسي"، أي بملابسته (أ) ما يوجب العقوبة أو ينقص الحظ، وفيه دلالة على أن الإنسان لا يعرى عن تقصير ولو كان صديقًا. وقوله: "ولا يغفر الذنوب إِلا أنت": فيه إقرار بالوحدانية، واستجلاب للمغفرة كقوله تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ} (¬3) .. الآية. وقوله: "ولا يغفر الذنوب إِلا أنت": فيه إقرار بالوحدانية، واستجلاب للمغفرة كقوله تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ} .. الآية. وقوله: "مغفرة من عندك": تنكير "مغفرة" فيه إشعار بأنها مغفرة عظيمة لا يُدْرَك كنهها، ووصفها بأنها من عنده سبحانه لتعظيمها، لأن ما يكون من عند اللَّه لا يحيط به وصف، أو أن تنكيرها للنوعية، والمعنى مغفرة يتفضل بها لا يقتضيها سبب من العبد من عمل حسن ولا غيره. وقوله: "إِنك أنت الغفور الرحيم": هما صفتان ذكرتا ختمًا للكلام على جهة المقابلة لما تقدم، فالغفور مقابل لقوله: "اغفر لي"، والرحيم مقابل لقوله "ارحمني". وفي الحديث من الفوائد أيضًا استحباب طلب التعليم من العالم خصوصًا في الدعوات المطلوب فيها جوامع الكلم. ¬

_ (أ) في جـ: بملامسة.

245 - وعن وائل بن حجْر -رضي اللَّه عنه- قال: "صليتُ مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فكان يُسلم عن يمينه: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وعن شماله السلام عليكم ورحمة الله وبركاته". رواه أبو داود بإسناد صحيح (¬1). (أ) الحديث أخرجه أبو داود من رواية علقمة بن وائل عن أبيه، والمصنف رحمه اللَّه نسبه في التلخيص (¬2) (ب) إلى عبد الجبار بن وائل، قال: ولم يسمع من أبيه، وليس كذلك كما عرفت. وقد روى الحديث في التسليمتين جميعا خمسة عشر صحابيا هم: عبد اللَّه بن مسعود، وسعد بن أبي وقاص، وسهل بن سعد الساعدي، ووائل بن حجر، وأبو موسى الأشعري، وحذيفة بن اليَمَان، وعمار بن ياسر، وعبد اللَّه بن عمر، وجابر بن سمرة، والبراء بن عازب، وأبو مالك الأشعري، وطلق بن علي، وأوس بن أوس (جـ)، وأبو رمثة، وعدي بن ¬

_ (أ) زاد في جـ، وفي هامش هـ: هذا. (ب) زاد في هـ: نسبه. (جـ) في هـ: أويس.

عميرة، والمغيرة بن شعبة، وواثلة بن الأسقع، ويعقوب بن الحصين (¬1) أخرجت أحاديثهم بأسانيد مختلفة، منها صحيح ومنها حسن ومنها ضعيف ومنها متروك ولكنها بدون زيادة: "وبركاته" إلا رواية ابن مسعود عند ابن ماجه (¬2). وعند أبي داود من رواية وائل كما ذكره المصنف فلا يسمع قول ابن الصلاح (¬3) أن هذه الزيادة ليست في شيء من كتب الحديث إلا في رواية وائل بن حُجْر. الحديث فيه دلالة أنَّ التسليم كان عادة النبي (أ) - صلى الله عليه وسلم - في الصلاة، تسليمتين باللفظ المذكور، وظاهره يقتضي الوجوب، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "صلوا كَمَا رأيتموني أصلي" (¬4)، ولقوله: "تحرِيمها التكبير وتحليلُهَا التسليم" (¬5). ¬

_ (أ) في هـ: للنبي.

أخرجه أصحاب السنن بسند صحيح، وقد ذهب إلى وجوبه أكثر العترة (¬1) والشافعي ونسبه النووي (¬2) إلى جمهور العلماء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم. وذهب أبو حنيفة (¬3) والناصر إلى أنه سنة، وتوقف البخاري في ذلك فبوب على ذلك في الصحيح بباب التسليم ولم يبين (أ) حكمه (¬4) وكأنه لم يقو له الدليل على وجوبه، وحجتهما على ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث ابن عمرو (ب) "إذا رفع الإمام رأسه من السجدة وقعد ثم أحدث قبل أن يسلّم فقد تمت صلاته" (¬5)، فدل (جـ) على أنَّ التسليم ليس بركن واجب، وإلا لوجب الإعادة مع الحَدَث قبل تأديته، كما أنه إذا أحدث قبل إكمال (د) السجود وجب عليه الإعادة، ولحديث تعليم المسيء صلاته، ولقوله: {ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} (¬6) فلا يجب ما عداهما إلا بدليل موجب، وفعله - صلى الله عليه وسلم - بيان للأكمل. ¬

_ (أ) في جـ: ولم يبن. (ب) في النسخ عمر والمثبت هو الصحيح انظر التخريج. (جـ) ساقطة من هـ. (د) في جـ: كمال.

ويجاب عنه بأن حديث ابن عمرو ضعيف باتفاق الحفاظ (¬1)، وحديث (أ) التعليم والآية الكريمة لا ينافيان الوجوب لغيرهما للزيادة، وهي مقبولة، وكون فعله بيانًا للأكمل غير مسلَّم لأن الظاهر الوجوب إلا فيما دل دليل خاص على عدم وجوبه لكون فعله بيانًا لما أجمل في آية الصلاة. ودَلَّ الحديثُ على أن التسليم على اليمين واليسار، وقد ذهب إلى وجوب ذلك الهادي والقاسم وزيد بن علي وأحمد والحسن بن صالح لحديث الباب وغيره (¬2). وذهب الشافعي (¬3) إلى أن الواجب تسليمة واحدة والثانية مسنونة، قال النووي (¬4) أجمع العلماء (ب) الذين يُعتد بهم على أنه لا يجب إلا تسليمة، فإن سلَّم واحدة استحب له أن يسلمها تلقاء وجهه، وإن سلم تسليمتين جعل الأولي عن يمينه، والثانية عن يساره. ولعل حجة الشافعي في وجوب واحدة حديث عائشة: "كان يسلم تسليمة واحدة، السلام عليكم يرفع بها صوته حتى يوقظنا" (¬5)، وهو معلول (¬6). وأخرج ابن حبان في "صحيحه" من حديثها: "كان إذا أوتر أوتر بتسع ¬

_ (أ) في هـ: والحديث. (ب) زاد في جـ: على.

ركعات لم يقعد إلا في الثامنة، فيحمد اللَّه ويذكره ثم يدعو ثم ينهض ولا يسلم، ثم يصلي التاسعة فيجلس ويذكر اللَّه ويدعوه ثم يسلم تسليمة، ثم يصلي ركعتين وهو جالس" (¬1)، وإسناده على شرط مسلم. ويجاب عنه بأنه لا يُعَارضُ حجة القول الأول للزيادة، والقول بالإجماع غير صحيح مع ما عرفت من الخلاف. وذهب مالك (¬2) إلى أنّ المسنون: تسليمة واحدة فقط لحديث عائشة المذكور وحديث سعد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - "كان يسلِّم في الصلاة تسليمة واحدة". قال ابن عبد البر (¬3): وهو وهْم، فإن المحفوظ من حديث سعد (أ) قال: "رأيْتُ رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - يسلم عن يمينه وعن شماله، حتى كأنِّي أَنْظُرُ إلى صفْحَة جهةِ خَدِّهِ" (¬4). قال: وقد روي مثل هذا من حديثًا أنس (¬5) وهو التسليم مرة واحدة. ولكنه من طريق أيوب السختياني عن أنس، وهو لم يسمع من أنس عندهم ¬

_ (أ) في الأصل: سعيد.

شيئًا، وقد روي مرسلا عن الحسن (¬1) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبا بكر وعمر كانوا يسلمون تسليمة واحدة. قال: وليس مع القائلين بالتسليمة الواحدة غير عمل أهل المدينة، قالوا: وهو عمل (أ) قد توارثوه كابرا عن كابر، ومثله يصح الاحتجاج به لوقوعه في كل يوم مرارا، وأنت خبير بأن هذا لا يتم إلا على القول بحجية عمل أهل المدينة، وقد دل على بطلانه في علم الأصول (¬2). وذهب عبد اللَّه بن موسى بن جعفر (¬3) إلى أنه يسلم ثلاث تسليمات: يمينًا وشمالًا وتلقاء وجهه جمعًا بين الروايات، وقيل: واحدة في المسجد الصغير مع قلة الأصوات، وإلا فاثنتان يمينا وشمالًا جمعًا بين الروايات. وحديث الباب يدل على أنه تشرع زيادة: "بركاته"، ولم أر من قال بوجوب ذلك إلا ما روي عن الإمام يحيى أنه قال: فإن زاد وبركاته ورضوانه وكرامته أجزأ، إذ هو زيادة فضيلة، هذا قوله (¬4)، وقد عرفتَ أن هذه الزيادة لم ترد في رواية وإنما الوارد (ب) "وبركاته" فقط. فالحديث (جـ) يدل على أن تلك من لفظ السلام المعتبر في الصلاة إن لم يقم إجماع بخلافه، واللَّه أعلم. ¬

_ (أ) في هـ: زيادة: المالكية (مدرجة بين السطرين). (ب) في هـ: الواردة. (جـ) في جـ: والحديث.

وفي قوله: "عن يمينه وعن شماله": إنه يقول ذلك منحرفًا إلى جهة اليمين والشمال وحد الانحراف أن يرى من خلفه بياض خده كما في حديث سعد: "حتى كأني أنظر إلى صفحة خده". 246 - وعن المغيرة بن شعبة - رضي اللَّه عنه- "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقول في دُبْرِ كُلِّ صَلاة مكتوبة: لا إِله إلا اللَّه وَحْدَهُ لَا شَريكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ ولَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُل شيءٍ قَديرٌ. اللَّهُمَّ لَا مَانِعَ لمَا أعْطَيْتَ، ولا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْتَ ولا يَنْفَعُ ذَا الجدِّ مَنْكَ الَجَدُّ" متفق عليه (¬1). قوله: "دُبُر" بضم الدال وهو المشهور في اللغة، والمعروف في الروايات، وقال أبو عمرو في كتابه "اليواقيت": دَبْر كل شيء بفتح الدال آخر أوقاته، من الصلاة وغيرها قال: هذا هو المعروف في اللغة، ويقال لجارحة بالضم. وقال ابن الأعرابي: هو بضم الدال لآخر أوقات الشيء، ولم يذكر الجوهري وغيره غير الضم، وفي "القاموس" (¬2): الدُّبُرَ بالضم وبضمتين نقيض القبل، ومن كل شيء عقبه ومؤخره، وقال في الدّبَر: محركة الدال والباء بالفتح الصلاة في آخر وقتها، وتسكن الباء ولا تقل بضمتين فإنه من لَحْن المحدثين، انتهى. فهو يفهم أنه قد استعمل بالفتح في معنى آخر وقت الشيء، ولكنه غير مناسب في الحديث هنا. ¬

_ (¬1) البخاري: الأذان، باب الذكر عقب الصلاة 2/ 325 ح 844. مسلم: المساجد ومواضع الصلاة، باب استحباب الذكر بعد الصلاة وبيان صفته 1/ 414 ح 137 - 593، أبو داود، الصلاة، باب ما يقول الرجل إذا سلم 2/ 172 ح 1505، النسائي، السهو، نوع آخر من القول عند انقضاء الصلاة 3/ 60، أحمد 4/ 250. (¬2) القاموس 2/ 27.

وقوله: "له الملك وله الحمد": زاد الطبراني (¬1) من طريق أُخْرَى عن المغيرة: "يحيي ويميت وهو حي لا يموت، بيده الخير" ورواته موثقون، وثبت مثله عن البزار من حديث عبد الرحمن بن عوف بسند صحيح (¬2) لكن في القول: إذا أصبح وإذا أمسى. وقوله: "اللهم لا مانع لما أعطيت": يعني أن مَنْ قضيتَ له برزق فلا مانع من وصوله إليه، ولا معطي لما منعت من قضيت له بحرمان فلا معطي له. وقوله: "و (أ) لا ينفع ذا الجَد منك الجد": وهو بفتح الجيم، قال الخطابي (¬3): الجد: الغنى، ويقال: الحظ، وقال البخاري (¬4) في تفسيره عن الحسن: الجد: الغنى، وقع في رواية كريمة: قال الحسن: الجد، غنَاؤه، [فالمعنى (ب): لا ينفعه ولا ينجيه حظه في الدنيا بالمال والولد أو (جـ) العظمة والسلطان، وإنما ينجيه فضلك ورحمتك] (د). ومنك قال الخطابي: هي بمعنى بدل، قال الشاعر: ¬

_ (أ) الواو ساقطة من جـ. (ب) في هـ: والمعنى. (جـ) في جـ، هـ: و. (د) بهامش الأصل.

فليت لنا من ماء زمزم شربة أي بدل ماء زمزم، وفي الصحاح (¬1)، بمعنى عند، أي لا ينفع ذا الغنى غناؤه، إنما ينفعه العمل الصالح. وقال ابن دقيق العيد (¬2): ينفع مضمن معنى: يمنع، وما قاربه (أفيتعلق منك به أ). وقال القرطبي (¬3): حكى عن أبي (ب) عمرو أنه روى الجدّ بالكسر وقال: لا ينفع ذا الاجتهاد اجتهاده، وأنكره الطبري، ووجه الإنكار أن الاجتهاد في العبادة نافع لأن اللَّه قد دعا إلى ذلك ووعد عليه الأجر، وقيل: إنه لا يكون نافعًا إلا إذا قرنه القبول، وهو فضل من اللَّه ورحمة على وفق قوله: "لَا يَدْخُل أحَدٌ مِنْكُم الجَنَّةَ بِعَمَلِهِ" (¬4). والحديث يدل على استحباب هذا الذِّكر عقيب الصلاة لا اشتمل عليه من ألفاظ التوحيد، ونسبة الأمر كله إلى اللَّه تعالى والمنع والإعطاء وتمام القدرة. فائدة: وقد ورد زيادة: "ولا راد لما قضيت"، وهي في مسند عبد ابن (جـ) حميد من رواية معمر عن عبد اللك بن عمير بهذا الإسناد لكن ¬

_ (أ- أ) ما بينهما بهامش هـ. (ب) في هـ: ابن. (جـ) في نسخة الأصل: عبد الرحمن، وفي الهامش تعليقة لعلها سبق قلم، وفي الفتح عبد بن حميد فقط 2/ 233.

حذف قوله: "ولا معطي لما منعت"، ووقع عند الطبراني تاما من وجه (¬1). 247 - وعن سعد بن أبي وقاص -رضي اللَّه عنه- "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يتعوذ بهن دبر كل صلاة. اللهم إِني أعوذ بك من البخل، وأعوذ بك من الجبن، وأعوذ بك من أن أرد إِلى أرذل العمر، وأعوذ بك من فتنة الدنيا، وأعوذ بك من عذاب القبر" رواه البخاري (¬2). البُخْل: بضم الخاء الموحدة وإسكان المعجمة. والبُخُل بضمهما (أ)، وكَجَبَل ولَحْم وعُنُق ضد الكَرَم، ولعل المقصود منه هنا هو منع ما يجب إخراجه من المال شرعًا أو عادةً. والجبن: بضم الجيم وسكون الباء ولضمها أيضًا: المهابة للأشياء والتأخر عن فعلها، يقال: منه جبان كسحاب لمن قام به المعنى، والمتعوذ منه هو التأخر عن الإقدام بالنفس إلى الجهاد الواجب، والرد إلى أرذل العمر هو أن يبلغ إلى الهرم والخرف حتى يعود كهيئته الأولى في أوان الطفولة ضعيف البنية، سخيف العقل، قليل الفهم. وفتنة الدنيا: هي الافتتان بزخارفها وشهواتها حتى يلهى عن القيام بأداء ما خلق له العبد من العبادة، وهذا (ب) هو المطابق لقوله تعالى: {إِنَّمَا ¬

_ (أ) في جـ: بضمها. (ب) ساقطة من جـ.

أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ} (¬1) ويصح أن يُرَادَ بها ما تقدم في فتنة المحيا. وأما عذاب القبر فقد تقدم الكلام فيه واختصاص هذه المذكورات بالاستعاذة منها إذ غالب الهلاك للإنسان بسببها، نعوذ باللَّه من ذلك. 248 - وعن ثوبان -رضي اللَّه عنه- قال: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إِذا انصرف من صلاته، استغفر الله ثلاثًا وقال: اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام". رواه مسلم (¬2). قوله: "انصرف من صلاته" أي سَلَّمَ منها، وفي الاستغفار بعد الصلاة إشارة إلى ما يحصل للعبد فيها من الوسوسة والخواطر، وأنه لا يفي بالحق الواجب عليه فيشرع له الاستغفار عن التقصير، وأن الإنسان لما يقض ما أمره. 249 - وعن أبي هريرة -رضي اللَّه عنه- عن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -، قال: "مَنْ سَبَّح اللَّه دُبُر كل صلاة ثلاثا وثلاثين، وحمد اللَّه ثلاثًا وثلاثين، وكَبَّر الله ثلاثا وثلاثين فتلك تسعٌ وتسعون، وقال تمام المائة: لا إِله إِلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، غفرت خطاياه ولو كانت مثل زَبَدِ البحر". رواه مسلم (¬3). ¬

_ (¬1) الآية 15 من سورة التغابن. (¬2) مسلم، المساجد ومواضع الصلاة، باب استحباب الذكر بعد الصلاة وبيان صفته 1/ 414 ح 135 - 591. أبو داود بمعناه: الصلاة، باب التسبيح بالحصى 2/ 176 ح 1513، الترمذي: الصلاة، باب ما يقول إذا سلم من الصلاة 2/ 97 ح 300. النسائي، السهو، باب الاستغفار بعد التسليم 3/ 58. ابن ماجه، إقامة الصلاة والسنة فيها، باب ما يقال بعد التسليم 1/ 300 ح 928. أحمد 5/ 275. (¬3) مسلم، المساجد ومواضع الصلاة، باب استحباب الذكر بعد الصلاة وبيان صفته 1/ 418 ح 146 - 597، أحمد 2/ 373. مالك، القرآن، باب ما جاء في ذكر اللَّه تعالى 147 ح 22، =

وفي رواية لمسلم أخرى أن التكبير أربع وثلاثون (¬1). وهي زيادة من ثقة فينبغي الجمع بين الروايات لينال الفضل. 250 - وعن معاذ بن جبل -رضي اللَّه عنه- أن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - قال: "أوصيك يا مُعاذ: لا تدعنّ دُبر كلِّ صلاة أن تقول: اللهم أعنّي على ذكْرِكَ وشُكرِكَ وحُسنَ عِبَادَتِكَ". رواه أحمد وأبو داود والنسائي بسند قوي (¬2). قوله: "لا تدعن" نهي من ودع كوضع بمعنى ترك، وقد هجر استعمال ماضيه استغناء عنه بترك (¬3)، وقد استعمل في الشعر، وقرئ قوله تعالى شاذا: (ما وَدَعَك) (¬4) وهي قراءة رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - وهو نهي إرشاد، ويحتمل أن يكون للتحريم خصوطًا في حقه، وسؤاله لهذه الثلاث الخصال لشرفها، واستلزامها لجميع الخيرات والبركات في الدنيا والآخرة ولا يكمل ¬

_ = أبو عوانة، باب الترغيب في التسبيح والتحميد 2/ 447، البيهقي: الصلاة، باب الترغيب في مكث المصلي في مصلاه لإطالة ذكر اللَّه تعالى في نفسه 2/ 187. (¬1) رواية مسلم من حديث كعب بن عجرة وليس كما قال الصنعاني من حديث أبي هريرة فليس في مسلم التكبير أربع وثلاثون من حديث أبي هريرة بل من حديث كعب، مسلم 1/ 418 ح 596 - 144. (¬2) أحمد 5/ 245. أبو داود، الصلاة، باب في الاسنغفار 2/ 180 ح 1522. النسائي (نحوه) السهو نوع آخر من الدعاء 3/ 45 ابن حبان، الأذكار، باب الدعاء بعد الصلاة 583 ح 2345 (الموارد)، الحاكم، الصلاة 1/ 273. قلت: ورجال هذا السند ثقات. (¬3) قال المبرد: لا يكادون يقولون: وَدعَ ولا وَذَرَ لضعف الواو، وإذا قدمت، واستغنوا عنها بترك. تفسير القرطبي 20/ 94. (¬4) الآية 3 من سورة الضحى.

فعل ذلك إلا بإعانة اللَّه وتيسيره العبد للخير، كما أردف العبادة بالاستعانة في فاتحة الكتاب الكريم. 251 - وعن أبي أمامة -رضي اللَّه عنه- قال: قال رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -: "من قرأ آية الكرسي دُبرَ كل صَلاة مَكْتوبَةٍ لَمْ يَمْنَعَهُ مِن دخول الجَنَّةِ إلا الموتُ". رواه النسائي، وصححه ابن حبان. وزاد فيه الطبراني: و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} (¬1). هو أبو أمامة أياس بن ثعلبة الحارثي الأنصاري من بني حارثة بن الحارث بن الخزرج، وقيل: اسمه ثعلبة، وقيل: سهل، وقيل: عبد اللَّه. قال ابن عبد البر (¬2): و (أ) لا يصح فيه غير إياس بن ثعلبة ولم يسمه البخاري، ولا سماه مسلم في "كتاب الكنى" (¬3) لم يشهد بدرًا لأنه أقام يمرِّض أمه بأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - روي عنه ابنه عبد اللَّه ومحمود بن لَبِيد، وعبد اللَّه بن كعب بن مالك (¬4). الحديث قد ورد نحوه من حديث علي -رضي اللَّه عنه- بزيادة: "ومن قرأها حين يأخذ مضجعه أمنه اللَّه على داره ودار جاره وأهل دويرات حوله". رواه البيهقي في "شعب الإيمان" وقال: إسناده ضعيف (¬5). ¬

_ (أ) الواو ساقطة من هـ.

وقوله: "لم يمنعه من دخول الجنة إِلا الموت": هو على تقدير مضاف محذوف، والمعنى: عدم الموت حذف لانسياق المعنى إليه واختصت آية الكرسي بالفضيلة لما جمعت من أصول الأسماء والصفات من الإلهية والوحدانية والحياة والعلم والملك والقدرة والإرادة، وهذه السبعة هي أصول الأسماء والصفات، وقل هو اللَّه أحد متمحضة لذكر صفات الرب تبارك وتعالى. 252 - وعن مالك بن الحويرث - رضي اللَّه عنه- قال: قال رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - "صلوا كما رأيتموني أصلي" رواه البخاري (¬1). هذا الحديث أصل عظيم في بيان ما أجمل في الأمر بالصلاة في القرآن وفي السنة، وفيه دلالة على وجوب التأسي بفعله في الصلاة، فما حافظ عليه والأفعال والأذكار فالظاهر وجوب التأسي به، إلا لمخصص يخرجه، والكاف في قوله "كما" للتشبيه، و"ما" يحتمل أن تكون موصولة صفة الصلاة (أ) المقدرة، والمعنى: صلوا كالصلاة التي رأيتموني أصليها ولما كان مستند معرفة كيفية صلاته هي الرؤية صرح بها لكونها من الأفعال المرئية، ويحتمل أن تكون مصدرية داخلة على أصلي وبوسيط الرؤية، للدلالة على أن الطريق إلى معرفة الكيفية هي الرؤية، واللَّه أعلم. ¬

_ (أ) في هـ وجـ: للصلاة.

253 - وعن عِمْرَان بن حصين - رضي اللَّه عنه- قال: قال رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -: "صلِّ قَائِمًا، فإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَقَاعِدًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَعَلى جَنْبٍ وإِلَّا فأومِئ". الحديث أخرجه البخاري والنسائي، وزاد: "فإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَمُسْتَلقٍ لا يكلف اللَّه نفسًا إِلا وُسْعَهَا" (¬1)، واستدركه الحاكم فوهم، ولم يخرج البخاري قوله: "وإلا فأومِ"، ولكنه ترجم الباب بقوله: "باب صلاة القاعد بالإيماء" (¬2). قال ابن رُشَيْد (¬3): مطابقة الحديث للترجمة من جهة أن من صلى على جنب فقد احتاج إلى الإيماء، وليس ذلك بلازم، وقد روي الإيماء من حديث علي -رضي اللَّه عنه- وأخرجه الدارقطني بلفظ: "فإن لم يستطع أن يسجد أومأ وجعل سجوده أخفض من ركوعه، فإن لم يستطع ¬

_ (¬1) البخاري (وأوله: "كانت بي بواسير"): تقصير الصلاة، باب إذا لم يطق قاعدًا صلى على جنب 2/ 587 ح 1117، النسائي، كتاب قيام الليل، فضل صلاة القاعد على صلاة النائم 3/ 183، أبو داود، باب في صلاة القاعد 1/ 585 ح 952، الترمذي، الصلاة، باب ما جاء أن صلاة القاعد على النصف من صلاة القائم 2/ 208 ح 372، ابن ماجه، إقامة الصلاة والسنة فيها، باب ما جاء في صلاة المريض 1/ 386 ح 1273، أحمد 4/ 426. قلت: وفي نسخة البلوغ الخطية "فإن لم تستطع فعلى جنب" أخرجه البخاري فقط وليس فيها "فأوم" ولم أقف على زيادة النسائي في الكبرى ولا الصغرى وإنما ذكر ذلك ابن حجر في التلخيص. بلوغ المرام ل 22، النسائي الصغرى 3/ 183، الكبرى 2/ 707 تحقيق الكليب، التلخيص 1/ 225، تحفة الأشراف 8/ 185، وقال الصنعاني: إن قوله: "فأوم" لم نجده في نسخ البلوغ منسوبًا 1/ 391، قلت: أخذه الشارح من التلخيص. (¬2) البخاري 2/ 586. (¬3) الفتح 2/ 586 والحديث الذي أورده للترجمة حديث عمران قال: سألت النبي - صلى الله عليه وسلم -، عن صلاة الرجل وهو قاعد فقال: "من صلى قائما فهو أفضل ومن صلى قاعدا فله نصف أجر القائم، ومن صلى نائما فله نصف أجر القاعد" قال أبو عبد اللَّه: نائما عندي مضطجًا.

يصلي قاعدًا صلى على جنبه الأيمن مستقبل القبلة، فإن لم يستطع أن يصلي على جنبه الأيمن صلى مستلقيًا، رجليه مما يلي القبلة (¬1)، وفي إسناده ضعيف ومتروك [والضعيف هو (أ) حسين بن زيد بن علي (¬2)، قال ابن عدي (¬3): وجدت في حديثه بعض النكرة، وأرجو أنه لا بأس به، قيل: وهو مجمع على إمامته عند العترة، والمتروك هو الحسن بن الحسين العرني] (¬4) (ب). وقال المصنف -رحمه اللَّه (¬5) - إنه لم يقع في الحديث ذكْر للإيمَاء وإنما أورده الرافعي (¬6) ولكنه ورد في حديث جابر: "إن استطعت وإلا فأومئ إيماء، واجعل سجودك أخفض من ركوعك". أخرجه البزار (¬7) والبيهقي في "المعرفة"، وقال البزار: وقد سئل عنه أبو حاتم فقال: الصواب عن جابر موقوفًا، ورفعه خطأ (¬8)، وقد روي أيضًا من حديث ابن عمر (¬9) وابن ¬

_ (أ) في جـ: وهو الضعيف. (ب) بهامش الأصل.

عباس (¬1)، وفي إسنادهما ضعف. والحديث يدل على أنه لا يصلي قاعدا إلا لعذر (¬2)، وهو عدم الاستطاعة، ويلحق به ما إذا خشي ضررا، ولقوله: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} (¬3)، وكذا قوله: "فإن لم تستطع فعلى جنب" [وقوله في حديث الطبراني: "فإن نالته مشقة فجالسا، فإن نالته مشقة فنائمًا"، أي مضطجعًا] (أ)، وفي هذا حجة على من قال: إن العاجز عن القعود في الصلاة تسقط عنه، وقد حكاه الغزالي عن أبي حنيفة (¬4)، وهو لا يوجد في كتب الحنفية وعذر عمران بن حصين هو كما صرح به في البخاري أنه كان مبسورا (¬5) -بالباء الموحدة (ب) - في رواية وهو من به ورم في باطن المقعدة، وفي رواية بالنون وهو من به قرحة فاسدة، وأما التألم فلا يبيح ذلك عند الجمهور (¬6) خلافًا للمنصور باللَّه وقواه الإمام المهدي لدين اللَّه، ¬

_ (أ) بهامش الأصل. (ب) زاد في جـ: و.

والتقييد بعدم الاستطاعة، وقوله: "وإِن نالته مشقة" يرد عليه، وعند الشافعية (¬1) المعتبر في عدم الاستطاعة وجود المشقة الشديدة، أو خوف زيادة المرض أو الهلاك، قالوا: ومن المشقة الشديدة دوران الرأس في حق راكب السفينة، وخوف الغَرَق لو صلى قائما، وفيمن يخاف على نفسه من عَدو لو صلى قائمًا فيه وجهان عندهم الأصح عذر (¬2) [واختار إمام الحرَمين (¬3) في ضبط العَجْز عن القيام أن تلحقه مشقة به تذهب خشوعه] (أ). وقوله: "فإِن لم يستطع فقاعدًا: لم يُبَيِّنْ في الحديث هيئة القعود [الذي هو بدل عن فرض القيام] (ب)، فيؤخذ من إطلاقه جوازه على أي صفة شاء المصلي (¬4)، وهو مقتضى كلام الشافعي والبويطي، وذهب الهادي والمؤيد (¬5) والقاسم إلى أنه يتربع واضعا ليديه على ركبتيه، ومثله عن أبي حنيفة (¬6)، وعنه كقول الشافعي، وذهب زيد بن علي والناصر والمنصور إلى أنه مِثْل قعود التشهد، قيل: والخلاف إنما هو في الأفضل (¬7). قَال المصنف -رحمه اللَّه تعالى- في "فتح الباري" (¬8): وقد اختلف في الأفضل، فعن الأئمة الثلاثة، يصلي متربعًا، وقيل: يجلس مفترشًا، ¬

_ (أ) بهامش الأصل. (ب) بهامش الأصل.

وهو موافق لقول الشافعي في "مختصر المزني"، وصححه الرافعي (¬1)، ومنْ تَبِعَهُ، وقيل: متوركا، وفي كلٍّ منها أحاديث. وقَوله: "فَعَلَى جِنْبٍ": الكلام في الاستطاعة هنا كما مر خَلافًا لإمام الحرمين، والجنب وَردَ في هذه الرواية مطلقًا، وفي حديث علي -رضي اللَّه عنه- عند الدارقطني (¬2) على جنبه الأيمن مستقبل القبلة بوجهه وهو حجة للجمهور (أ) أنه يكون على هذه الصفة كتوجيه (ب) الميت في القبر المتفق عليه وذهب الهادي وبعض الشافعية، ورواية عن الحنفية (¬3) أنه يستلقي على ظهره ويجعل رجليه إلى القبلة، وحجتهم على ذلك ما روي في إحدي روايات حديث (جـ) الأنصاري (¬4) الذي شبكته الريح حيث قال فيها: "إن استطعتم أنْ تُجلسوه فأجلسوه (د) وإلا فوجهوه إلى القبلة". قالوا: ولا توجيه كامل إلا إذا كان ذلك. ووقع الخلاف أيضًا في توجيه المحتضر، وقد تقدم في رواية حديث علي أن هذا بعد تعذر الكون على الجنب. ويؤخذ من الحديث أنه لا يجب شيء بعد تعذر الإيماء على الجنب. وعن الشافعي والمؤيد باللَّه: يجب الإيماء بالعينين والحاجبين (¬5)، وعن ¬

_ (أ) زاد في جـ: و. (ب) في جـ: كتوجه. (جـ) ساقطة من جـ. (د) في جـ: تجلسوا فاجلسوا.

زُفَر (¬1): الإيماء بالقلب، وقيل: يجب إمرار القرآن والذِّكْر على اللسان ثم على القلب، لكن جميع ذلك لم يذكر في الحديث، وكذا قوله تعالى: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ} (¬2) ولكن عدم الذكر لا ينفي الوجوب بدليل آخر، وقد ثبت وجوب الصلاة على الإطلاق. قال - صلى الله عليه وسلم - "إذا أُمِرْتُمْ بأمرٍ فأْتُوا منه ما استطعتم" (¬3)، فإن استطاع شيئًا مما يفعل في الصلاة فهو واجب عليه إذ هو مستطاعه من الصلاة. 254 - وعن جابر - رضي اللَّه عنه- "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لمريض صَلَّى على وِسَادَةٍ فرمى بها، وقال: صَلِّ على الأرض إِن استطعت، وإِلا فأومئ إِيماء واجعل سُجُودَكَ أخفضَ من رُكوعِكَ". رواه البيهقي بسندٍ قوي، ولكن صح أبو حاتم وقفه (¬4). الحديث أخرجه البيهقي في "المعرفة" من طريق سفيان الثوري، وفي الحديث بعد "فرمى بها": "فأخذ عودًا ليصلي عليه، فأخذه فرمي به، وقال ... " إلخ. وقال البزار (¬5): لا نعرفُ أحدا رواه عن الثوري غير أبي بكر الحنفي، ¬

_ (¬1) الهداية وشرحها فتح القدير 2/ 5. (¬2) الآية 191 من سورة آل عمران. (¬3) البخاري: "إذا أمرتكم بشيء" 13/ 251 ح 7288، مسلم 2/ 975 ح 412 - 1337. (¬4) سنن البيهقي: الصلاة، باب الإيماء بالركوع والسجود إذا عجز عنهما 2/ 306 كشف الأستار، باب صلاة المريض 1/ 274 - 275 ح 568، المقصد العلي 358 ح 348. (¬5) قال البزار: لا نعلم أحدًا رواه عن الثوري إلا الحنفي. قلت: لكن تابعه عبد الوهاب عن عطاء عن الثوري. البيهقي 2/ 306.

وقد سُئل عنه أبو حاتم (¬1) فقال: الصواب عن جابر موقوفًا، ورفعه خطأ، قيل له: فإن أبا أسامة قد روى عن الثوري هذا الحديث مرفوعًا، فقال (أ): ليس بشيء، ولكنه قد روى الطبراني من حديث طارق بن شهاب عن ابن عمر قال: "عاد رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - مريضا ... " (¬2)، فذكره وفي إسناده ضعف. والحديث يدل على أنه لا يصح منه أن يتخذ له ما يسجد عليه حيث لم يمكنه الوصول إلى الأرض. وفي قوله: "واجعل سجودَك أخفض من ركوعك" ليتم الفصل فيما بينهما وذلك حيث استطاع ذلك، ولم يذكر في الحديث كَوْن الإيماء لهما منْ قعُود أو من قيام ولا بد من تفصيل في ذلك، وهو أنه إِنْ تعذر عليه القيام مع تعذر السجود أومأ للركوع والسجود من قعود، وزاد في خفض السجود، وإن أمكنه القيام والقعود، وتعذر عليه الركوع والسجود أو الركوع فقط فإنه يجب عليه أن يومئ للركوع من قيام ويسجد أو يومئ للسجود من قعود، وعند المؤيد باللَّه (¬3) أن يومئ لهما جميعا من قيام، ويقعد للتشهد، وعند أبي يوسف (¬4) ومحمد يومئ لهما كليهما من قعود ويقوم للقراءة وعند أبي حنيفة أنه يسقط عنه القيام ويصلي قاعدًا، فإن صلى قائمًا جاز، وإن تعذر عليه القعود أومأ لهما (ب) من قيام، وزاد في ¬

_ (أ) في جـ: قال. (ب) في جـ: بهما.

خفض السجود، ويدل على هذه الأطراف قوله: "فأتوا منه ما استطعتم"، واللَّه أعلم. [أحاديث الباب خمسة وأربعون حديثًا] (أ). ¬

_ (أ) بهامش الأصل.

باب سجود السهو وغيره

باب سجود السهو وغيره 255 - عن عبد اللَّه بن بحينَة - رضي اللَّه عنه- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صَلَّى بِهم الظُّهْرَ، فَقَام في الركعتين الأولَيَيْنِ، ولم يجلس، فقام الناس معه حتى إِذا قضى الصلاة، وانتظر الناس تسليمه، كَبَّرَ وهو جالس، وسجد سجدتين قبل أن يسلِّمَ ثم سَلَّمَ". أخرجه السبعة (¬1)، وهذا لفظ البخاري، وفي رواية مسلم (¬2): "يكبر في كل سجدة وهو جالس، ويسجد الناس معه، فكان ما نسي من الجلوس". هو أبو محمد عبد اللَّه بن مالك بن القِشْب -بكسر القاف وسكون الشين المعجمة وبالباء الموحدة- الأزدي، من أزد شَنُوءة -بفتح الشين وضم النون وسكون الواو بعدها همزة مفتوحة-، وأمه اسمها بحَيْنة -بضم الباء الموحدة، وفتح الحاء المهملة، وسكون الياء تحتها نقطتان وبعدها نون- بنت الحارث بن عبد المطلب بن عبد مناف، وقيل: إن بحينة اسم أم أبيه. والأول أصح، وهو حليف لبني المطلب بن عبد مناف. وروى عنه ابنه علي، وحفص بن عاصم وعبد الرحمن الأعرج. مات في ولاية معاوية ما بين سنة أربع وخمسين وثمان وخمسين (¬3). ¬

_ (¬1) البخاري، كتاب الأذان، باب من لم ير التشهد الأول واجبا لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قام من الركعتين ولم يرجع 2/ 309 ح 829، مسلم (نحوه): المساجد ومواضع الصلاة، باب السهو في الصلاة والسجود له 1/ 399 ح 85 - 570، أبو داود (نحوه): الصلاة، باب من قام من ثنتين ولم يتشهد 1/ 625 ح 1034، الترمذي (نحوه): الصلاة، باب ما جاء في سجدتي السهو قبل التسليم 2/ 235 ح 391، النسائي (نحوه): السهو ما يفعل من قام من اثنتين ناسيا ولم يتشهد 3/ 17، ابن ماجه، إقامة الصلاة والسنة فيها، باب ما جاء فيمن قام من اثنتين ساهيا 1/ 381 ح 1206، أحمد 5/ 345. (¬2) مسلم، ولفظه: "وهو جالس قبل أن يسلم وسجدهما الناس معه" 10/ 399 ح 86 - 570 م، والبخاري كذلك 3/ 99 ح 1230. (¬3) ترجم له الشارح في ح 229.

الحديث فيه دلالة على أنَّ تَرْك التشهد الأوسط يجبره سجود السهو، والظاهر من هذا الوجوب لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "صلوا (أ) كما رأيتموني أصلي" (¬1)، وقد استدل به بعضهم على أن التشهد الأوسط غير واجب (¬2) إذ لو كان واجبًا لما أغنى عنه السجود إذ حق الواجب أن يفعل بنفسه، وفيه تأمل إذ يمكن أنْ يُقال: إن هذا مخصوص بأن يُغْنِي عنه السجود إذا ترك سهوًا، [وهو قول أحمد بن حنبل أن التشهد واجب وهو مخصوص بأن سد عنه السجود] (¬3) (ب). وفي قوله: "كَبَّرَ": دلالة على أنه يُحْرم بالتكبير لسجود السهو، وفي رواية مسلم "يكبّر في كل سجدة" دلالة على شرعية تكبير النفل، وأما عدم وجوبه فكما تقدم في تكبير الصلاة. وفيه دلالة على أن محل سجود السهو مثل هذا السهو قبل التسليم، وسيأتي ما يخالفه والكلام عليه إن شاء اللَّه تعالى. وفي رواية مسلم دلالة على متابعة المأموم للإمام في السجود وأن ذلك كاف. وفي الحديث دلالة على وجوب متابعة الإمام، وأنَّ تَرْك ما هذا حاله، إذ النبي - صلى الله عليه وسلم - أقرهم على متابعته مع تركهم التشهد عمدًا. واعلم أن في هذه الأطراف المدلول عليها خلافًا مع تفاصيل، أما ¬

_ (أ) ساقطة من جـ. (ب) بهامش الأصل.

وجوب السجود فذهب الهادي (¬1) أنه واجب في الفرض، مستحب في النفل إذ لا يزيد الشيء على أصله. وعن الناصر والشافعي (¬2) أنه سنة في الفرض والنفل، قيل: وهو ظاهر كلام القاسم، وعن القاسم والمؤيد باللَّه وأبي طالب أنه فرض في الفرض والنفل، وهو قول أبي حنيفة (¬3). وفي الإحرام له بالتكبير الإجماع إذا كان قبل التسليم، والخلاف إذا كان فعلهما بعد التسليم فقولان عند أصحاب الشافعي، والصحيح أنه يحرم له بالتكبير من دون تسليم. 256 - عن أبي هريرة -رضي اللَّه عنه- قال: "صلَّى النبيّ - صلى الله عليه وسلم - إِحْدَى صلاتي العشي ركعتين، ثم سلم، ثم قام إِلى خشبة في مُقَدَّم المسجد، فوضع يده عليها، وفي القوم أبو بكر وعمر، فهابا أن يكلماه، وخرج سرعان الناس فقالوا: أقصرت الصلاة؟ ورجل يدعوه النبي - صلى الله عليه وسلم - "ذا اليدين" فقال: يا رسول الله: أنَسيتَ أم قُصِرَت الصلاة؟ فقال: لم أنس، ولم تقصر، قال: بلى قد نسيتَ، فصلى ركعتين، ثم سلم ثم كبر فسجد مثل سجوده أو أطول ثم رفع رأسه وكبر". متفق عليه، واللفظ للبخاري (¬4). ¬

_ (¬1) البحر 1/ 232 - 233. (¬2) البحر 1/ 232 - 233، المجموع 4/ 61. (¬3) المجموع 4/ 61، وعند أبي حنيفة واجب يأثم بتركه وليس لشرط صحة الصلاة. البحر 1/ 232 - 233، الهداية وشرحها 1/ 501 - 504. (¬4) البخاري، كتاب السهو باب من يكبر في سجدتي السهو 3/ 99 ح 1229، وعند البخاري بلفظ: "فيهم أبو بكر وعمر ورجل يدعوه رسول اللَّه ... " مسلم، (نحوه): المساجد ومواضع الصلاة 1/ 403 ح 97 - 573، أبو داود، (نحوه): الصلاة، باب السهو في السجدتين 1/ 612 ح 1008، الترمذي (مختصرًا ولم يذكر قصة ذي اليدين) الصلاة، باب ما جاء في سجدتي السهو بعد السلام والكلام 2/ 239 ح 394، النسائي، (نحوه) السهو ما يفعل من =

وفي رواية لمسلم: "صلاة العصر" (¬1). ولأبي داود (¬2) قال: "أصَدَقَ ذُو اليَدَيْنِ؟ فأومئوا: أي نعم". وهي في الصحيحين (¬3) لكن بلفظ: "فقالوا"، وفي رواية له (¬4): "ولم يسجد حتى يَقَّنَه اللَّه ذلك". الحديث متفقٌ عليه من رواية محمد بن سيرين عن أبي هريرة، وقد أُخْرِج مِنْ طُرقٍ كثيرة. قال الحافظ المصنف -رحمه اللَّه-: وقد جمع طرقه الحافظ صلاح الدين العلائي وتكلم عليه كلاما شافيا في جزء مفرد (¬5). واعلم أن الكلام في سهوه - صلى الله عليه وسلم - وفيما يتعلق بهذا الحديث يطول ويتشعب من مباحث كلاميه وأصلية وفرعية، ولنأخذ في بعضٍ من ذلك. أما وقوع السهو منه - صلى الله عليه وسلم - فاختلف العلماء في جواز السهو على الأنبياء (أفي أحكام أ) الشرع فالأكثر على جواز ذلك ووقوعه (¬6) ولكن لا يقرون عليه (ب). [وذهب الأكثرون إلى أنه لا بد أن يُنبه عليه على الفور متصلا ¬

_ (أ- أ) ساقطة من جـ. (ب) زاد في هـ: إلى تأخير.

بالحادثة ولا يقع فيه تأخير، وجوزت طائفة تأخيره مدة حياته، واختاره إمام الحرمين] (¬1) (أ). ودليل الوقوع هذه الأحاديث في سهوه، [وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إنما أنا بشر مثلكم أنسى كما تنسون، فإذا نَسيت فذكروني" (¬2)] (ب). ومنع قومٌ من ذلك فقالوا: لا يجوز عليه السهو [في الأفعال البلاغية والعبادات] (جـ)، وإنما يتعمد صورة النسيان، واحتجوا بالحديث الضعيف: "إني لا أنسى ولكن أنَسَّى لأسن (د) ". وقد ذكره مالك بلاغا في "الموطأ" (¬3)، وهو أحد الأحاديث الأربعة التي تكلم عليها في "الموطأ"، وهو مردود عليهم بما قد ثبت من الأحاديث الصحيحة من الفعل والقول، ولا وجه للتكلف الذي ارتكبوه (هـ) (وفأجابوا (ز) عن الظواهر الواردة في ذلك، وإليه مال الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني و). ¬

_ (أ) بهامش الأصل. (ب) بهامش الأصل. (جـ) بهامش الأصل. (د) زاد في جـ: به. (هـ) في جـ وهامش هـ: أما السهو في الأقوال البلاغية فمنحت طائفة من العلماء السهو عليه فيها. (و- و) ما بينهما تقدم في هـ: على قوله (وهو مردود عليهم ..). (ز) في ب: وأجابوا.

قال النووي (¬1): والصحيح الأول فإن السهو لا يناقض النبوة، وإذا لم يقر عليه لم يحصل منه مفسدة، بل يحصل فيه فائدة وهو بيان أحكام الناسي وتقرير الأحكام. وادعى القاضي عياض (¬2) الإجماع على امتناع السهو عنه في الأقوال البلاغية، قال: وجوز قومٌ ذلك فيما لا يتعلق بالأحكام ولا أخبار القيامة، وما يتعلق بها ولا يضاف إلى وحي، إذ لا مفسدة فيه، والحَقُّ الذي لا شك فيه ترجيح قول مَنْ منع ذلك على الأنبياء في كل خبرٍ من الأخبار كما لم يجيزوا عليهم الخلف (أ) في خبر لا عن قصد ولا عن سهو، ولا في صحة ولا مرض ولا رضى ولا غضب. ويؤخذ من الحديث قاعدة أن الواحد إذا أخبر بوقوع حادثة في محضر مما يستنكر وتقضي العادة بنقلها أنه لا يقبل وحده، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يصدقه وحده بل طلب من غيره تصديقه. وقوله: "إحدى صلاتي العشي": تردد من محمد بن سيرين بعد أن كان سماها له (ب) أبو هريرة كما في رواية البخاري (¬3) فيما بين الظهر والعصر، وفي رواية مسلم: صلاة العصر (¬4)، في رواية له أخرى (¬5)، والظاهر ¬

_ (أ) في جـ: خلفا. (ب) ساقطة من جـ.

أنهما قضيتان متعددتان، وفي رواية عِمْرَان بن حُصَيْن: "سلم في ثلاث ركعات من العصر ثم دخل منزله فقام إليه رجل يقال له الخرباق". فيحمل حديث عمران أنها قصة ثالثة (¬1). والله أعلم. وقوله: "إحدى صلاتي العشي": هو بفتح العين المهملة وكسر الشين المعجمة وتشديد الياء، وقال الأزهري: العشي عند الغروب ما بين زوال الشمس وغروبها. وقوله: "خشبة": وفي رواية مسلم (¬2) "أتى جذعًا وهو الخشبة". وسرعان: بفتح السين والراء وهو الذي قاله الجمهور من أهل اللغة والحديث وهم المسرعون إلي الخروج، ونقل القاضي أبو بكر (¬3) عن بعضهم إسكان الراء. قال: وضبطه الأصيلي في البخاري (¬4) بضم السين وإسكان الراء جمع سريع كقَفِيز وقُفْزَان [وفي "معالم السنن" (¬5) (أ): وسكون الراء، ¬

_ (أ) زادت في هـ: جَوَّز فيه كسر السين.

وحكى القرطبي (¬1) عن الخطابي (¬2) تخطئة الكسر في غير المعالم] (أ). وقصرت: بضم القاف وكسر الصاد (¬3)، وروي بفتح القاف وضم الصاد وكلاهما صحيح، والأول أشهر وأفصح (¬4). وذا اليدين: كذا في رواية البخاري (¬5)، وفي رواية (¬6): "رجل من بني سليم"، وفي رواية: "رجل يقال له الخرباق وكان في يده طول" (¬7)، وفي رواية: "رجل سبط (ب) اليدين" (¬8). قال النووي (¬9): هو رجل واحد، واسمه الخرباق بن عمرو بكسر الخاء المعجمة والباء الموحدة، وآخره قاف، ولقبه "ذو اليدين" لطولٍ كان في يديه وهو معنى "سبط اليدين"، وقال ابن منده: "ذو اليدين" رجل من أهل وادي القرى يقال له: الخرباق، أسلم في آخر زمن النبي - صلى الله عليه وسلم -. ¬

_ (أ) بهامش الأصل: وبه بعض المحو واستدركته من نسخة هـ. (ب) في هـ: بسيط.

والسهو كان بعد أُحُد، وقد شهده أبو هريرة، وأبو هريرة شهد من رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - أربع سنين، وذو اليدين هو من بني سليم، قال: ووهم الزهري (¬1) فجعل مكان ذي اليدين "ذا الشمالين"، وهو من أهل مكة قُتل يوم بدر قبل سهو النبي - صلى الله عليه وسلم - بست سنين، وهو من خزاعة، ذكره ابن إسحاق في: "السيرة" (¬2) حليف بني أمية. وقال ابن عبد البر في "التمهيد": وأما قول الزهري في حديث السهو أن المتكلم ذو الشمالين فلم يتابع عليه وقد اضطرب في حديث ذي اليدين اضطرابًا أوجب عند أهل العلم بالحديث تركه من روايته خاصة. ثم ذكر طرقه وبيَّن اختلافها في المتن والإسناد (أ). قال: وإن كان إمامًا في هذا ¬

_ (أ) في هـ: والأسانيد.

الشأن فالغلط لا يسلم منه بشر والكمال للَّه، وكل أحد يؤخذ من قوله ويترك إلا النبي - صلى الله عليه وسلم -. انتهى مختصرًا (¬1). وقوله: "لم أنْسَ ولم تُقْصَر": وفي رواية مسلم: "كل ذلك لم يكن" (¬2) قد يورد على هذا أنه يلزم الكذب فإن في الواقع أحدهما. وأجيب بأنه إخبار عما في الواقع بحسب ظنه فكأنه قال: لم يكن ذلك في الواقع بحسب ظني، وهو مطابق للواقع حينئذ، ومثله قوله تعالى حكاية عن زكريا: {يرثني} (¬3)، على قراءة الجزم (¬4) فإنه في معنى إن تهب لي يرثني وهو مطابق للواقع بحسب ظنه ولا كَذِب فيه. وقوله: "فصلى ركعتين .. إِلخ"، فيه دلالة على أن نية الخروج من الصلاة وقطعها إذا كانت بناء على ظن التمام لا يوجب بطلانها ولو بتسليمتين، وفيه خلاف الهادوية، وأن كلام الناسي لا يبطل الصلاة وكذا من ظن التمام، و (أ) بهذا قال جمهور العلماء من السلف والخلف (¬5)، وهو قول ابن عباس وعبد اللَّه بن الزبير وأخيه عروة وعطاء والحسن والشعبي وقتادة والأوزاعي ومالك والشافعي وأحمد وجميع المحدثين، وبهذا قال الناصر، وقال أبو حنيفة وأصحابه (¬6) والثوري: يُبْطِل الصلاة الكلام ناسيًا أو ¬

_ (أ) الواو ساقطة من هـ.

جاهلًا، وكذا رواه السيد يحيى من مذهب الهادي (¬1) وهو قول زيد بن علي والمؤيد باللَّه قالوا: لحديث ابن مسعود (¬2) (أوزيد بن أرقم (¬3) أ)، وهو: أن لا تتكلموا في الصلاة، وأن ذلك ناسخ لهذا الحديث. و (ب) أجيب بأن حديث ابن مسعود كان بمكة قبل الهجرة بعد عوده من هجرته إلى (جـ) الحبشة (¬4) -وقد تقدم- فلا يصحّ أن يكون ناسخًا لهذا المتأخر، و (د) حديث زيد بن أرقم ليس فيه ما يدل على أنه بعد هذه القصة، فيجوز أن يكون لم وقع ذلك قبلها، ويحتمل أن زيدًا لم يكن قد بلغه النهي المتقدم، وأنه كان يتكلم في الصلاة لأنه من صغار الصحابة إلى حين نزول الآية، وهو لم يخبر عن جماعة المسلمين. وأحسن من هذا كله أن هذه القصة تدل على شيء خاص وهو كلام الناسي، ومَنْ ظن تمام الصلاة، وحديث ابن مسعود وابن أرقم عمومًا، والجمع ممكن بالعمل بالخاص فيما تناوله، والعام فيما بقي، لا سيما على طريقة منْ يبني العام على الخاصّ مطلقا، وهو الأقوى والأرجح إذ (هـ) إعمال الدليلين هو الواجب مهما أمكن، واللَّه أعلم. ¬

_ (أ- أ) تأخرت في هـ بعد "في الصلاة". (ب) الواو ساقطة من جـ. (جـ) في هـ: من. (د) زاد في هـ: في. (هـ) في جـ: و.

ويدل على أن الكلام العمد لإصلاح الصلاة لا يفسدها (¬1) كما في رواية الصحيحين (أقالوا: وكما في قول ذي اليَدين للنبي - صلى الله عليه وسلم - فإن ذلك كلام عمد لإصلاح الصلاة، وقد روى ابن القاسم (¬2) عن مالك أن الإمام لو تكلم بما تكلم به النبي - صلى الله عليه وسلم - من الاستفسار والسؤال عند الشك وإجابة المأموم أن الصلاة لا تفسد. وقد أجيب عن هذا بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - تكلم معتقدًا للتمام، والصحابة مجوِّزين للنسخ، فقد ظنوا حينئذ التمام فلا ينتهض دليلًا على ذلك. وأما جواب الصحابة على النبي - صلى الله عليه وسلم - فهو إنه إجابة له وهي واجبة ولو كانت في الصلاة، ويدل على أن الأفعال الكثيرة (ب) التي ليسَتْ من جِنْس الصلاة إذا وقعت سهوًا أو مع ظَنِّ التمام لا تبْطل الصلاة فإن في رواية: "أنه خرج إلى منزله" (¬3) وفي رواية: "يجرُّ رداءه مغضبًا"، ورواية: "قام إلى خشبة فوضع يده عليها" (¬4)، وكذلك خروج سرعان، فإنها أفعال كثيرة قطعًا، وقد ذهب إلى هذا الشافعي رحمه اللَّه (¬5) ويدل على صحة البناء على الصلاة بعد السلام سهوًا أو ظنا للتمام، والجمهور عليه. ¬

_ (أ) زاد في جـ: و. (ب) في هـ: الكبيرة.

وذهب سحنون (¬1) من المالكية إلى أن ذلك إنما هو فيما كان على ركعتين لا إذا كان على ركعة أو ثلاث بناء منه أن ذلك لا يقاس عليه لكونه مخالفًا للقياس، ولا يسلم له ذلك، وأيضًا فالعلة معقولة، والفرع مساوٍ للأصل فيصحّ القياس كما ذهب إليه كثير وإن كان مخالفًا للقياس، ويدل على أنه يصح البناء على الصلاة، وإن طال زمان الفصل بينهما ما لم ينتقض وضوؤه، وقد روي هذا عن ربيعة، ونسِبَ إلى مالك، وليس بمشهور عنه. وقد روي في هذه القصة أنه خرج - صلى الله عليه وسلم - إلى منزله والأكثر على تخصيص هذا بالزمن القريب، واختلفوا في حده فقيل: بمقدار فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - وقيل: (أ) ما يعد في العرف قريبا، وقيل: بمقدار ركعة، وقيلَ: بمقدار الصلاة، والوَجه الأول، ويدل على أنه يجبر ذلك سجود السهو وجوبًا لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "صلوا كما رأيتموني ... " (¬2)، ويدلُّ على أنه سجدتان، وعلى أنه يحرم له بالتكبير، وعلى أنه في آخر الصلاة ولذلك فائدة على قول من يجعله قبل التسليم، وهو أنه لو صلى قاصرًا وهو في سفينة فسجد للسهو ووصلت به السفينة قبل التسليم أو نوى الإقامة فإنه لا يعتدُّ به، ويدل على أن السجود لا يتعدد لتعدد أسباب السهو، وأنه لا سهو على المؤتمين، وعلى أن السجود بعد السلام. وقد اختلفت الأدلة وسيأتي تحقيق هذا إن شاء اللَّه تعالى. 257 - وعن عمْرَان بن الحُصَيْن -رضي اللَّه عنه- "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلَّى بهم فَسَها، فسجد سجدتين، ثم تشهد، ثم سلم". رواه أبو داود والترمذي حسنه، الحاكم وصححه (¬3). ¬

_ (أ) في جـ: وفعل.

الحديث فيه دلالة على أنه يسجد عقيب الصلاة إذ الفاء في قوله: "فسجد" تدل على ذلك، وفيه تصريح بلفظ التشهد، ولم يقل أحد بوجوبه، والظاهر أن ذلك لتكثر الأخبار على عدم التشهد. ولفظ "تشهد" يحتمل أنه أتى بالشهادتين إذ هو من المتبادر من الإطلاق، وقد قال به بعضهم، ويحتمل أن يراد به أحد التشهدين المعهودَيْن في الصلاة، وقد قال زيد بن علي: إنه التشهد الأوسط، واللفظ محتمل (أ)، واللَّه أعلم. وقوله: "ثم سَلَّمَ": فيه دلالة على شرعية التسليم، قال النووي (¬1): ¬

_ (أ) في جـ: يحتمل.

واختلفوا في ما إذا فعلهما بعد التسليم هل يحرم [أي يكبر للإحرام] (أ) ويتشهد ويسلّم؟ والصحيح في مذهبنا أنه يسلم ولا يتشهد، وهكذا الصحيح عندنا في سجود التلاوة أنه يسلم ولا يتشهد كصلاة الجنازة، وقال مالك (¬1): يتشهد ويسلِّم في السجود بعد السلام. واختلف قوله هل يجهر بسلامهما كسائر الصلوات أم لا؟ وقد ثبت السلام إذا فعلتا بعد السلام في حديث ابن مسعود وحديث ذي اليدين، ولم يثبت في التشهد (ب) حديث. انتهى. ويرد عليه أنه قد ثبت في التشهد هذا الحديث (¬2)، [وإنْ كان قوله "يتشهد ثم يسلم" قال أبو داود: إنه تفرد به البصريون، ولكن مع ثقة الراوي فالعمل به صحيح، واللَّه أعلم] (جـ). 258 - وعن أبي سعيد الخُدْري -رضي اللَّه عنه- قال: "قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إِذا شَكَّ أحَدُكمْ في صَلاته فَلَمْ يدْرِ كَمْ صَلَّى؟ أثَلاثًا أمْ أَرْبَعًا؟ فَلْيَطْرَح الشَّكَّ ولْيَبْنِ على ما استيقن، ثم يسجد (د) سجدتين قبل أن يسلم، فإِن كان صلى خمسا شفعن صلاته، وإن كان صلى تماما كانت ترغيما للشيطان". رواه مسلم (¬3). ¬

_ (أ) في هامش الأصل. (ب) في هـ: التشهدين. (جـ) في هامش الأصل، وفيه بعض المحو واستدركته من نسخة هـ. (د) في جـ: ليسجد.

الحديث فيه دلالة على أن الشاك في الصلاة يجب عليه البناء على المتيقن ويجب عليه أن يسجد سجدتين، وفي هذا خلاف بين العلماء، فذهب إلى هذا مالك والشافعي وأحمد (¬1) والجمهور، وذهب الهادوية، وهو مروي عن الشعبي والأوزاعي وكثير من السلف إلى وجوب الإعادة عليه حتى يستيقن (¬2). وعن بعضهم: يجب عليه الإعادة ثلاث مرات فإذا شك في الرابعة فلا إعادة عليه، وظاهر الحديث. والخلاف في الشاك من غير تفرقه إلى كونه مبتلى بالشك أو مبتدأ به، وقد ذهب الهادوية (¬3) إلى التفرقة بينهما فقالوا في المبتدأ: إنه يجب عليه الإعادة، وفي المبتلى أنه يتحرى بالنظر في الأمارات فإن حصل له ظن بالتمام أو بالنقصان عمل به، وإنْ كان النظر في الأمارات لا يحصل له ظنا بحسب العادة فإنه يبني على الأقل كما في هذا الحديث، وإنْ (أ) كان عادته أن يفيده النظر الظن ولكن لم يفده في هذه (ب) الحال وجب عليه أيضًا الإعادة، وهذا التفصيل يرد عليه هذا الحديث الصحيح. ¬

_ (أ) في جـ: وأنه. (ب) ساقطة من جـ.

[وفي هذا الحديث، وحديث ذي اليدين، وحديث "إذا شك أحدكم أخرج منه شيء أم لا فلا يخرجن من المسجد حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا (¬1) " حجة لقاعدة كلية ذهبت إليها الهادوية والشافعي وجمهور العلماء، وهو قول مالك بإعمال حكم الاستصحاب (¬2) وإلغاء الشك العارض وأنه لا يُزَال إلا بيقين، وأن الاستصحاب حجة معمول بها، وخالف فيه أكثر الحنفية وجمهور المتكلمين (¬3)] (أ). وقوله: "فإن صلى خمسا شفعْنَ صلاته" (ب): يعني أن السَجْدَتينِ هما ركْنَا ركعة فكأنه (جـ) قد فعل ركعة سادسة فتكون الزيادة المفعولة والسجدتان في حكم ركعتين نافلة له زائدة على الفرض الواجب. وقوله: "إن كان صلى تماما كانتا ترغيما للشيطان": وإنما كانتا ترغيما له لأن قصده بالتلبيس على المصلي إبطال صلاته وإذهاب فضيلة عمله، فشرعيتها وفعلهما زيادة ثواب له، فعاد على قصد الشيطان بالنقص. [ويتفرع على هذا أنه لو زال شكه وتردد (د) قبل السلام وعرف أن ¬

_ (أ) ساقط من الأصل وأشار إلى السقط لم أقف عليه في نسختي ولعله كان في قصاصة وسقطت. (ب) زاد في هـ: وخالف فيه أكثر الحنفية، ولعله سبق قلم من الناسخ. (جـ) في هـ: وكأنه. (د) في هـ: وتردده.

الركعة الأخيرة هي الرابعة حقا، وأنه ما زاد شيئًا هل يسجد للسهو؟ قال الشيخ أبو علي والمؤيد باللَّه (¬1): يسجد لأن تلك الركعة أديت على التردد وضَعْفَ النية، فزوال التردد بعد ذلك لا يغْنِي عن الجبر، والذي جنح إليه إمام الحرمين (¬2) وقطع به شيخه والمنصور باللَّه لا يسجد لزوال التردد، ويحتج لأبي علي بما رواه أبو داود (¬3) عن زيد بن أسلم أنه قال: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا شك أحدكم في صلاته فإن استيقن أن قد صلى ثلاثا فليقم فليتم ركعة بسجودها ثم يجلس فيتشهد فإذا فرغ فلم يبق إلا أن يسلم فليسجد سجدتين، وهو جالس، ثم يسلم" وسيأتي في شرح حديث ابن مسعود مثل هذا (¬4) واللَّه أعلم] (أ). 259 - وعن ابن مسعود -رضي اللَّه عنه- قال: "صلى رسول - صلى الله عليه وسلم -، فلما سَلَّمَ قيل له: يا رسول الله أحدث في الصلاة شيء؟ قال: وما ذاك؟ قالوا: صليت كذا، قال: فثنى رجليه (ب) واستقبل القبلة، فسجد سجدتين ثم سلم، ثم أقبل علينا بوجهه فقال: إِنه لو حدث في الصلاة شيء أنبأتكم به، ولكن إِنما أنا بشر مثلكم أنسى كما تنسون، فإِذا نسيتُ (جـ) فَذَكِّروني، فإِذا شَكَّ أحَدُكمْ في صَلاتِهِ فليتحرَّ الصَّوابَ فَلْيتِمَّ عَلَيْهِ ثمَّ ¬

_ (أ) ساقط من الأصل وأشار إلى السقط ولم أقف عليه في نسختي. (ب) في جـ: رجله. (جـ) ساقطة من جـ.

ليَسْجُدْ سَجْدَتيْن". متفق عليه (¬1). وفي رواية للبخاري (أ): "فَلْيُتِمّ عَليهِ ثُمَّ ليَسْجُدْ سَجْدَتيْن" (¬2). ولمسلم: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سَجَدَ سَجْدَتَيْ السَّهْوِ بَعْدَ السَّلامِ والكَلامِ" (¬3). ولأحمد وأبو داود والنسائي من حديث عبد اللَّه بن جعفر مرفوعًا: "مَنْ شَكَّ فِي صلاته فَلْيَسْجُدْ سجدتين بَعْدَ مَا يُسَلِّم". وصححه ابن خزيمة (¬4). ¬

_ (أ) في جـ: البخاري.

حديث ابن مسعود هذا وقع في زيادته - صلى الله عليه وسلم - الركعة الخامسة وظاهر الحديث أنهم تابعوه - صلى الله عليه وسلم - في الزيادة، وفيه دلالة على أن متابعة المؤتم للإمام مع تجويزه أن يكون المتابع فيه واجبا لا يفسد الصلاة، فإنَّ قولهم أحَدَثَ في الصلاة شيء يقتضي حصول الشك في أنَّ ما فعله واجب عمدا أو أنه سهو ولم يأمرهم بإعادة الصلاة، وفي فِعْلِهِ بعد أن سَلَّمَ وتكلم دليل على أنَّ محلَّه بعد السلام، ولكن يحتمل أن يجوز ذلك إذا كان تنبهه لموجبه بعد أن قد (أ) سلم فقط، كما هو مذهب داود وأحمد (¬1) ولم يذكر فيه تكبيرًا للافتتاح وذكر فيه التسليم، ولكن عدم ذِكْر ذلك لا يدل على نفي الحكم مع وجود ما قد دل على إثباته. وفي قوله: "إنَّهُ لو حَدَثَ شيءٌ أنبأتكم به": دليلٌ على أنه لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة كما هو المذهب الراجح (¬2). وفي قوله: "أنسى" (ب) دليل على ثبوت النسيان له، وقد تقدم. ¬

_ (أ) ساقطة من جـ. (ب) زاد في هـ: كما تنسون.

وفي قوله: "فليتحَرَّ الصواب": فيه (أ) دليل على أنه يعمل بالظَّنّ في ذلك من غير تفرقة بين الشك في الركعة والركن، وقد ذهب إلى (¬1) هذا الناصر، وإن لم يحصل له ظن بنى على الأقل عنده، وفي رواية عنه: يعمل في الأولتين باليقين وفي الآخرتين كما تقدم له (ب) وهو قول الإمامية (¬2)، والمؤيد باللَّه (¬3) والمنصور ذهبا (جـ) إلى قريب منه، وهو أنه يعمل بظنه مطلقا في الركعة وفي الركن فإن لم يحصل له ظن أعاد الصلاة إن كان مبتدأ بالشك، وبنى المبتلى على الأقل. وقوله: "فليتمّ عليه": أي ليبن على الصواب الذي أفاده التحري من التمام للصلاة، أو الحكم بكمالها. وقوله: "ثم ليسجد" فيه دلالة على أنه (د) يسجد وإن لم يحصل منه فِعْل زائد على النظر والفكر في تمام الصلاة، أو نقصانها وذلك لما اعترى الصلاة من النقصان بسبب الوسوسة، والاشتغال عنها. وفي رواية البخاري "أنه يسلم ثم يسجد"، وكذا رواية مسلم "أنه - صلى الله عليه وسلم - سجد بعد السلام والكلام"، والمراد بالكلام خطابه لأصحابه (هـ) وإجابته لما نبهوه عليه من السهو، وكذلك حديث عبد اللَّه بن جعفر. ¬

_ (أ) ساقطة من هـ. (ب) ساقطة من: هـ (جـ) زاد في جـ: هنا. (د) زاد في هـ: الذي أفاده. (هـ) وفي جـ: للأصحاب.

وقوله: ثنى [رجليه": بالتثنية وفي رواية مسلم، وفي رواية أبي داود والنسائي وابن حبان وابن ماجه: رجْلَه بالإفراد وهي الأولى، ومعنى ثنى رجله: صرفها عن حالها التي كانت عليها] (أ). واعلم أن الأحاديث اختلفت في محلّ سجود السهو، واختلفت أقوال الأئمة بسبب ذلك، قال الإمام أبو عبد اللَّه المازريّ (¬1) أحاديث الباب خمسة: حديث أبي هريرة فيمن شَكَّ فلم يذكركم، وفيه أنه سجد (ب) سَجْدَتيْن، ولم يذكر موضعهما، وحديث أبي سعيد: منْ شَكَّ، وفيه أنه سجد سجدتين قبل أن يسلم، وحديث ابن مسعود وفيه القيام إلى خامسة (جـ) وأنه سجد بعد السلام، وحديث ذي اليدين: وفيه أنه سجد بعد السلام، وحديث ابن بحَيْنَة: وفيه السجود قبل السلام. واختلف العلماء في كيفية الأخذ بهذه الأحاديث فقال داود: لا يُقَاسُ عليها، بل تستعمل في مواضعها على ما جاءت، وقال أحمد كقول داود (د) في هذه الصلوات خاصة، وخالف في غيرها، وقال: يسجد فيما سواها قبل السلام لكل سهو. فأما الذين قالوا بالقياس فاختلفوا فقال بعضهم: هو مخيّر في كل سهو إن شاء سجد بعد السلام وإن شاء قبله في الزيادة والنقص، وقال أبو حنيفة: الأصل هو السجود بعد السلام، وتأول باقي (هـ) الأحاديث عليه. ¬

_ (أ) في هامش الأصل. (ب) في هـ: يسجد. (جـ) في جـ: خشبة. (د) زاد في جـ: و. (هـ) في هـ: ما في.

وقال الشافعي: الأصل هو السجود قبل السلام، ورد بقية الأحاديث إليه. وقال مالك: إن كان السهو زيادة سجد بعد السلام، وإن كان نقصانا فقبله. قال الشافعي: نصَّ في حديث أبي سعيد مع تجويز الزيادة على السجود قبل السلام، والمجوّز في حكم الموجود، ويتأول حديث ابن مسعود في القيام إلى الخامسة والسجود بعد السلام على أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يعلمه إلا بعد أن سلَّم. وحديث ذي اليدين بأنه لتجويز أنه - صلى الله عليه وسلم - سها عن السجود قبل السلام، ولم يذكره إلا من بعد فتداركه، هذا كلام المازري (¬1)، ولكنه لا يتم بهذا الجمع بل الظاهر أن الشافعي (¬2) قال بالنسخ لما بعد التسليم، فإنه قال: قد روينا قولنا عن أبي سعيد الخدري وعبد الرحمن بن عوف ومعاوية بن أبي سفيان وكلهم يروون أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سجد فيهما (أ) جميعا قبل السلام، ثم روى حديث ابن بُحينة من طريق مالك، ثم (ب) قال الشافعي: وفي هذا نقصان، وفي حديث أبي سعيد زيادة، فتبين بذلك أنه سجد فيهما جميعا قبل السلام، وقال في القديم: أخبرنا مطرف بن مازن عن معمر عن ¬

_ (أ) في جـ: منهما. (ب) ساقطة من جـ.

الزهري قال: "سجد رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - سجدتي السهو قبل السلام وبعده"، وآخر الأمرين قبل السلام، ثم أكده الشافعي برواية معاوية بن أبي سفيان ["أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سجدهما قبل السلام"] (¬1) (أ) وصحْبَتُه متأخرة، وقد ذهب إلى مثل قوله من السلف أبو هريرة ومكحول والزهري ويحيى بن سعيد الأنصاري وربيعة بن عبد الرحمن والأوزاعي وأهل الشام والليث بن سعد. وطريق الإنصاف أن الأحاديث الواردة في ذلك قولا وفعلا فيها نوع تعارض وتقدم بعضها وتأخر البعض (ب) صحيحة موصولة (جـ حتى يستقيم القول بالنسخ جـ) غير ثابت برواية، فالأولى الحمل على التوسع (د) في جواز الأمرين وقد قال الشافعي في القديم من سجد السهو بعد السلام تشهد ثم سلم، ومن سجد قبل السلام أجزأه التشهد الأول، وهذا يدل على أنه يقول بجواز الأمرين، وقد روى أحمد بن إسحاق القاضي عن أبيه قال: أخبرنا الشافعي وذكر حديث ذي اليدين قال: وسجدهما رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - في الزيادة بعد التسليم، وفي النقصان قبل التسليم، فذهبنا إلى ذلك في الحديثين جميعا، وهذا مثل قول مالك وأبي ثور وجماعة من أهل الحجاز، وقوله في حديث عبد اللَّه بن جعفر "بعدما يسلم فيه تصريح بأن محل ¬

_ (أ) في هامش الأصل. (ب) في جـ: بعض (1) لفظ هـ: وتأخر غير ثابت برواية صحيحة موصولة حتى يستقيم القول بالنسخ. (جـ - جـ) هذ الجملة متقدمة في الأصل وفي جـ وفيه إشارة لذلك. (د) في هـ: التوسيع.

السجود بعد التسليم كما هو مروي عن علي وسعد بن أبي وقاص وعبد اللَّه بن مسعود وعمار بن ياسر وعبد اللَّه بن عباس وعبد اللَّه بن الزبير وعن الحسن وإبراهيم والنخعي وعبد الرحمن ابن أبي ليلى والثوري والحسن بن صالح وأهل الكوفة، ولكن في سبب الشك في الصلاة كما في حديث ابن مسعود ومعارض أيضًا لحديث أبي سعيد أيضًا فالمرجع إلى ما ذكر من التخيير، واللَّه أعلم (¬1). 260 - وعن المغيرة بن شعْبَة -رضي اللَّه عنه- أن رسولَ اللَّه - صلى الله عليه وسلم - قال: "إِذَا شَكَّ أحَدُكُم فَقَامَ في الركعَتَيْن فاسْتَتَمَّ قائِمًا، فليمض وليسجد سجدَتَيْن، فإِن لَمْ يسْتَتمَّ قَائِمًا فَلْيَجْلِسْ، ولا سهْوَ عَلَيْه". رواه أبو داود وابن ماجه والدارقطني بسند ضعيف (¬2). الحديث بهذا السياق أخرجه الدارقطني، وأخرجه أبو داود، وابن ماجه، والدارقطني، والبيهقي بلفظ: "إذا قام الإمام في الركعتين، فإن ذَكَرَ قبل أن يستوي قائما فليجلس، وإن استوى قائما فلا يجلس ويسجد سجدتي السهو (¬3)، ولابن ماجه: "إذا قام الإمام من الركعتين فلم يستتم قائما فليجلس، فإذا استتم قائما فلا يجلس ويسجد سجدتي السهو" (¬4). ¬

_ (¬1) انظر: التمهيد 1/ 364 - 366، 5 - 29، المجموع 4/ 35، المغني 2/ 14، الهداية 1/ 498، الفتح 3/ 94، شرح مسلم 2/ 203. (¬2) الدارقطني (بلفظه): الصلاة، باب الرجوع إلى القعود قبل استتمام القيام 1/ 378 - 379، أبو داود (بمعناه): الصلاة، باب من نسي أن يتشهد وهو جالس 1/ 629 ح 1036، ابن ماجه (بمعناه): إقامة الصلاة والسنة فيها، باب ما جاء فيمن قام من اثنتين ساجد 1/ 386 ح 1208، البيهقي (بمعناه): الصلاة، باب من سها فقام من اثنتين ثم ذكر قبل أن يستتم قائما عاد فجلس وسجد للسهو 1/ 343، أحمد 4/ 253 - 254. (¬3) البيهقي 1/ 343، وهو لفظ أبي داود. (¬4) ابن ماجه 1/ 381 ح 1208.

والحديث مداره على جابر الجعفي (¬1): وهو ضعيف (أوقد قال أبو داود (¬2): ليس في كتابي عن جابر الجعفي أ) إلا هذا الحديث. وفي الحديث دلالة على أن السجود إنما هو لفوات التشهد الأوسط لا لِفِعْل القيام لقوله: "ولا سهو عليه"، وقد ذهب إلى هذا النخعي وعلقمة والأسود وأحد قولي الشافعي (¬3)، وذهب أهل البيت عليهم السلام (¬4) وأحمد بن حنبل إلى أنه يسجد للسهو قالوا لحديث أنس وهو أنه - صلى الله عليه وسلم -، تحرك للقيام في الركعتين الأخيرتين من العصر على جهة السهو فسبَّحوا له، فقعد ثم سجد للسهو، قال الإمام المهدي (¬5): والعمل به أرجح لثقة راويه وهو أنس، ولأن فيه زيادة، وحديث أنس أخرجه البيهقي (¬6)، والدارقطني في "العلل" من فعله موقوفًا عليه وفي بعض طرقه أنه قال: هذه السنة (¬7) ولا يخفى عليك أن دلالة حديث المغيرة أقوى من حيث الرفع أيضًا، وحديث ابن عمر: "لا سهو إلا في قيام عن جلوس أو جلوسٍ عن قيام"، ¬

_ (أ- أ) في هامش جـ.

أخرجه الدارقطني والحاكم والبيهقي (¬1)، وفيه ضَعْف أيضًا محتمل لا يؤيد أي المذهبين، إلا أنه قد وردت أحاديث كثيرة في الترخيص في الفعْل القليل، وحكاية أفعال صدرت منه - صلى الله عليه وسلم -[ومنْ غيره مع علمه بذلك] (أ)، ولم يأمر بسجود ولم يحك عنه فِعْل ذلك فيها يؤيد حديث المغيرة، واللَّه أعلم. 261 - وعن عمر -رضي اللَّه عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ليس على من خلف الإِمام سهو، فإِن سها الإِمام فعليه وعَلى منْ خَلْفَهُ". رواه البزار والبيهقي بسند ضعيف (¬2). وأخرجه الدارقطني وفي إسناده خارجة بن مصعب، وهو ضعيف، وفي الباب عن ابن عباس، رواه ابن عدي في ترجمة عمر بن عمرو العسقلاني، وهو متروك (¬3). ¬

_ (أ) بهامش الأصل.

والحديث فيه دلالة على أنه لا يجب على المؤتم (أ) سجود للسهو إذا سها في صلاته وإنما يجب عليه إذا سها الإمام فقط، وقد ذهب إلي هذا زيد بن علي والناصر والمؤيد باللَّه والإمام يحيى والحنفية والشافعية (1)، وذهب الهادي ورواية عن مكحول (2) أنه يسجد لسهوه لعموم أدلة موجبات السجود، والظاهر العموم في حق الإمام والمؤتم والمنفرد. قلت: لو قوي الحديث لكان الرجوع إليه هو الواجب إذ هو خاصٌّ في حقِّ المؤتم، فإن سها الإمام والمؤتم فعلى قول الهادي يجب عليه سجودان، ويقدم ما لسهو الإمام، وفي اللاحق وجهان للإمام (ب) يحيى أصحهما تقدمه لسبق وجوبه، واللَّه أعلم. 262 - وعن ثوبان -رضي اللَّه عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لِكلِّ سَهْوٍ سَجْدَتَانِ بَعْدَمَا يسلم". رواه أبو داود وابن ماجه بسند ضعيف (¬3). الحديث تفرد بوصله عمرو بن عثمان (¬4) من حديث عبد الرحمن بن جبير نفير عن أبيه عن ثوبان، وغيره من الرواة قالوا: عن عبد الرحمن بن ¬

_ (أ) زاد في جـ: سجود. (ب) في الأصل، وهـ: الإمام.

جبير بن نفير عن ثوبان وحديثهم الجميع مداره على ابن عياش، كذا أعله أبو داود (¬1). [ابن عياش اسمه إسماعيل (¬2)، ضعفه النسائي (¬3)، وجماعة، قال ابن حبان (¬4) لا يُحْتج به. (أ) قال العلائي: وفي هذا التعليق نظر، فقد وثقه يحيى بن معين (¬5) ويعقوب بن سفيان وجماعة، وقال يزيد بن هارون ما رأيتُ أحفظ من إسماعيل بن عياش وقال أحمد بن حنبل والبخاري: إذا حدث عن أهل بلده -يعني الشاميين- فصحيح وإذا حدث عن غيرهم فقيه نظر، ولذلك قال يحيى بن معين في روايته: ليس به بأس في أهل الشام، وقال دُحَيم: ¬

_ (أ) زاد في جـ: ثم.

هو في أهل الشام غاية. وهذا الحديث من روايته في الشاميين فتضعيف أبي داود فيه نظر. والحديث يدل: على أنَّ جميع السهو في أركان الصلاة في جانب الزيادة والنقصان يوجب سجود السهو، وقد ذهب إلى ظاهر الحديث ابن أبي ليلى كما حكاه عنه النووي في "شرح مسلم" (¬1)، وحكى ابن المنذر (¬2) عن الأوزاعي: أنه إذا سها سهوين سجد أربع سجدات، والذي حكاه أبو الطيب (¬3) عن الأوزاعي: أنه إن (أ) كان السهو زيادة أو نقصان كفاه سجدتان، وإن كان أحدهما زيادة والآخر نقصان سجد أربع سجدات، وحكى الماوردي عن الأوزاعي تفصيلًا آخر أنه إن كان السهو من جنس واحد قامت السجدتان عن جميعه، وإن كان (ب) من جنسين كان لكل سهو سجدتان، وقاس ذلك على المُحْرِم أنه إذا كرر اللبس لم يتعدد عليه الدم (جـ وإن لبس وتطيب تعدد عليه الدم جـ) وذهب الجمهور من العلماء (¬4) أنه لا يتعدد السجود وإنْ تعدد مقتضيه لحديث ذي اليدين، فإنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - تكلم ومشى ناسيًا ولم يسجد إلا سجدَتين. واللَّه أعلم] (د). ¬

_ (أ) في جـ: إذا. (ب) في جـ: كانت. (جـ - جـ) ساقطة من جـ. (د) مثبت في الأصل بقصاصة ورقة زائدة، وزاد في جـ: (والحديث يدل على أنَّ جميع السهو في أركان الصلاة في جانب الزيادة والنقصان يوجب سجود السهو، والظاهر أن هذا العموم لم يقل به أحد فلا بد من الرجوع إلى غيره من الأدلة المفضلة لما يستدعي السجود وما لا. واللَّه أعلم).

263 - وعن أبي هريرة -رضي اللَّه عنه- قال: "سجدنا مع رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - في: {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} و {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} (أ) رواه مسلم (¬1). الحديث فيه دلالة على شرعية سجود التلاوة، وفي ذكره في السورتين رد على من قال إنه لا سجود في آيات المفصل وهو مالك (¬2) محتجا بما في مسلم من حديث زيد بن ثابت: أنه قرأ على النبي - صلى الله عليه وسلم -: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى} فلم يسجد (¬3) وسيأتي، وبحديث ابن عباس: أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يسجد في شيء من المُفَصَّل منذ تحول إلى المدينة، وهو ضعيف الإسناد (¬4). ويُجَابُ بأن حديث زيد ترك السجود دلالة على عدم الوجوب، وحديث ابن عباس عرفت ما فيه مع أن إسلام أبي هريرة بالمدينة، [وأيضًا فحديثه (ب) مُثْبت، وحديث ابن عباس ناف] (جـ). ¬

_ (أ) ساقطة من هـ. (ب) في هـ: فإن حديثه. (جـ) في هامش الأصل، وفيه بعض المحو واستدركته من نسخة هـ.

واعلم أنه قد أجمع العلماء على شرعية سجود التلاوة، واختلفوا في الوجوب، وفي مواضع السجود، فذهب الجمهور (¬1) إلى أنه سنة، وقال أبو حنيفة (¬2): إنه واجب ليس بفرض بناء على التفوقة بين الفرض والواجب، وهو سنة للقارئ والمستمع، قال العلماء (¬3): إذا سجد المستمع لقراءة غيره وهما في غير صلاة لم يرتبط به بل له أن يرفع قبله وله أن يطول السجود بعده، وله أن يسجد وإن لم يسجد القارئ، وسواء كان القارئ متطهرًا أو محدثًا، أو امرأة أو صبيا. ولأصحاب الشافعي (¬4) وجه ضعيف: أنه لا يسجد لقراءة الصبي والمحدث والكافر، والصحيح الأول. وأما مواضع السجود فذهب الشافعي إلى أنه يسجد فيما عدا المفصل فتكون حينئذ أحد عشر موضعًا [في قوله القديم (¬5)، وفي الجديد أربع عشرة سجدة، وعد منها الثلاث في الفصل، ولم يعد سجدة "ص" لأنها عنده شكر لحديث ابن عباس: "سجدها داود توبة، ونسجدها شكرًا" رواه النسائي مرسلًا (¬6) ويقوى إرساله برواية في البخاري، أنه - عليه السلام - سجدها مرة على المنبر (¬7)، ورواه أبو داود (¬8)، وابن حبان وصححه، و (أ) الحاكم، ولكنها تستحب في غير الصلاة] (ب). ¬

_ (أ) في جـ: الواو ساقطة. (ب) في الأصل في قصاصة ورقة ملحقة.

وقال أبو حنيفة والهادوية (¬1) في أربعة عشر إلا أن أبا حنيفة لم يعد في سورة الحج إلا سجدة، واعتبر سجدة (أ) "ص"، والهادوية العكس، وقال أحمد وابن سريج من أصحاب الشافعي وطائفة (¬2): في خمس عشرة فأثبتوا في الحج السجدتين، وفي "ص" أيضًا، ومواضع السجدات معروفة. واعلم أنه يُشْتَرط في الساجد أن يكون بصفة المصلي من الطهارة والستر (¬3)، وقال البخاري (¬4): "وكان ابن عمر يسجد على غير وضوء"، كذا في رواية الأكثر للبخاري، وفي رواية الأصيلي بحذف غير والأول أولى (¬5)، فقد روى ابن أبي شيبة مسندًا، قال: "كان ابن عمر ينزل عن راحلته، فيهريق الماء ثم يركب فيقرأ السجدة فيسجد وما يتوضأ (¬6)، وقد أخرج البيهقي عن ابن عمر بإسناد (ب) صحيح قال: "لا يَسْجُدُ الرَّجُلُ إلَّا وَهُوَ طَاهِرٌ (¬7). ¬

_ (أ) هـ: بسجدة. (ب) في الأصل: فإسناد، وفي جـ: وإسناده.

والجمع بينهما بأنه أراد الطهارة الكبرى، ولم يوافق ابن عمر على جواز السجود بلا وضوء إلا الشَّعْبِى أخرجه ابن أبي شيبة (أ) عنه بسند صحيح (¬1). وظاهر أحاديث السجود كما صار إليه ابن عمر إذ لم يؤمر المستمعون لقراءة النبي - صلى اللَّه عليه وسلم - بالطهارة، ومن البعيد أن يكونوا الجميع على وضوء، [وقد ذهب إلى ما روي عن ابن عمر أبو طالب والمنصور باللَّه (¬2)، وهكذا الخلاف في طهارة اللباس والمُصلي (ب) ويتفقون في (جـ) اشتراط ستر العورة والاستقبال مع الإمكان] (د). واللَّه أعلم. 264 - وعن ابن عباس - رضي اللَّه عنهما - قال: "ص ليست من عزائم السجود وقد رأيت رسولَ اللَّه - صلى الله عليه وسلم - يسجد فيها". رواه البخاري (¬3). وعنه: "أن النبي - صلى اللَّه عليه وسلم - سجد بِالنَّجْمِ". رواه البخاري (¬4). وقوله: "عزائم السجود": العَزيمةَ: فعيلة من العزْم وهو عقد القلب على الشيء وفي اصطلاح الأصوليين (¬5): ما شرع من الأحكام ابتداء، ¬

_ (أ) في هـ: قدم قوله: "في حديث ابن عباس في عزائم السجود"، "وقال مالك في "الموطأ" .. إلى "وقد حكاه القرطبي "وزاد": عنه بسند صحيح "التي هنا ويبدو أن الناسخ له نقل من نسخة المؤلف والقصاصة التي فيها فلما جاء إلي ابن أبي شيبة هنا نقلها قبل أوانها، ولعله سبق قلم، ثم تابع كبقية النسخ. (ب) في هامش هـ. (جـ) في جـ، هـ: علي. (د) ما بين القوسين مثبت في قصاصة في الأصل.

والمراد هنا أنه لم يرد فيها صيغة أمر ولا نهي، ولا تحريض ولا تحضيض، ولا حث وإنما وردت بصيغة الإخبار عن داود - عليه السلام - وفعل النبي - صلى اللَّه عليه وسلم - ابتداء اقتداء بداود لقوله تعالى: {فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} (¬1)، كذا أخرجه البخاري عن ابن عباس (¬2). وفيه دلالة على أن المسنونات والمندوبات بعضها قد يكون آكد من بعض، وقد روي ابن المنذر وغيره (¬3) عن علي بن أبي طالب -رضي اللَّه عنه- بإسنادٍ حسن أن العزائم: {حم} و {اقرأ} و {النَّجْمِ} و {الم (1) تَنْزِيلُ}. وكذا ثبت عن ابن عباس في الثلاثة الأخر. وقيل: {الأَعرَافِ} و {سُبْحَانَ} و {حم} و {الم} أخرجه ابن أبي شيبة (¬4). [وقال مالك في "الموطأ": الأمر عندنا أن عزائم سجود القرآن إحدى عشرة سجدة، ليس في المفصل منها شيء (¬5). وقال أصحابه (¬6): أولها خاتمة الأعراف، وثانيها في الرعد عند قوله تعالى: {بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ}، وثالثها في النحل عند قوله تعالى: {وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ}، ورابعها في بني إسرائيل عند قوله تعالى: {وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا}، وخامسها في مريم عند قوله تعالى: {خَرُّوا سُجَّدًا ¬

_ (¬1) الآية 90 من سورة الأنعام. (¬2) أخرج البخاري بسنده عن مجاهد قال: قلتُ لابن عباس: أنسجدُ في ص؟ فقرأ {وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ}، حتى أتى {فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ}، فقال ابن عباس رضي اللَّه عنهما: نبيكم - صلى الله عليه وسلم - فيمن أمر أن يُقْتَدَي به، 6/ 456 ح 3421. (¬3) الفتح 2/ 552. (¬4) ابن أبي شيبة 2/ 7. (¬5) الموطأ 145. (¬6) شرح الزرقاني 1/ 373.

وَبُكِيًّا} (أ)، وسادسها الأولى من الحج عند قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} (ب)، وسابعها (جـ) في الفرقان عند قوله تعالى (د): {وَزَادَهُمْ نُفُورًا}، وثامنها (هـ) في النمل عند قوله تعالى (و): {رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ}، وتاسعها (ز) في: الم تنزيل: {وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ} وعاشرها في "ص": {وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ} والحادي عشر في {حم} فصلت عند قوله تعالى: {إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ}، وقيل: {وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ} ومن عدها أربعة عشر زاد ثلاثا منها في المفصل، في "النجم" وفي سورة "الانشقاق" عند قوله تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ} أو آخر السورة ذكره ابن التين في "شرح البخاري"، وذكر الوجهين ابن الحاجب في "مختصره". ومن عدها خمسة عشر زاد سجدة "ص" عند قوله: {وَأَنَابَ}. وقيل: {مَآبٍ}. وعن النقاش أن عند أبي حنيفة (حـ) ويمان بن رباب سجدة عند قوله تعالى: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ الشاكرينَ} م وهذا غريب، وقد حكاه القرطبي (¬1) (ط). ¬

_ (أ) ساقطة من جـ. (ب) زاد في جـ: وسابعها: الأخرى من الحج عند قوله تعالى: {وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}، بالهامش إلى قوله: "وعاشرها". (جـ) في جـ: وثامنها. (د) زاد في جـ: {أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا}. (هـ) في جـ: وتاسعها. (و) زاد في جـ: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إلا هُوَ} وهو. (ز) في جـ: وعاشرها. (حـ) في تفسير القرطبي: حذيفة. (ط) ما بين القوسين ساقط من هـ ومثبت بقصاصة في نسخة الأصل.

265 - وعن زيد بن ثابت -رضي اللَّه عنه- قال: "قرأتُ على النبي - صلى الله عليه وسلم - النَّجْمَ فلم يسجد فيها". متفق عليه (¬1). الحديث فيه دلالة على عدم السجود في هذه السورة، وقد احتج به مالك على أنه لا سجود في المُفَصَّل، وقد تقدم الكلام فيه. 266 - وعن خالد بن مَعْدَان -رضي اللَّه عنه- قال: فُصِّلَتْ سورة الحَجِّ بسجدَتَيْن. رواه أبو داود في "المراسيل" (¬2). ورواه أحمد والترمذي موصولًا من حديث عقبة بن عامر وزاد: "فمن لم يسجدهما فلا يقرأها" (أ). وسنده ضعيف (¬3). وهو أبو عبد اللَّه خالد بن معدان -بفتح الميم وسكون العين وتخفيف الدال المهملة- الشامي الكلاعي -بفتح الكاف- تابعي من أهل حمص، وقال: لقيت سبعين رجلًا من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكان من ثقات الشاميين، مات بالطَّرَسُوس سنة أربع ومائة، وقيل: سنة ثلاث (¬4). ¬

_ (أ) في هـ: يقرأهما.

حديث عقبة بن عامر أخرجه أيضًا الدارقطني والبيهقي والحاكم، وفي إسناده ابن لَهِيْعَة، وهو ضعيف (¬1)، وقيل: إنه تفرد به أيضًا. وأيده الحاكم (¬2) بأن الرواية صحت فيه من قول عمر وابنه وابن مسعود وابن عباس وأبي الدرداء وأبي موسى وعمار ثم ساقها موقوفة عليهم، وأكده البيهقي بما رواه في "المعرفة" من طريق خالد بن معدان. وفي الحديث رد على أبي حنيفة (¬3) وداود وعطاء الخراساني القائلين بأنه لا سجدة في الآخرة (أ) من "الحج". وفي قوله: "فمن لم يسجدهما فلا يقرأها"، تأكيد لشرعية السجود فيهما، فأما (ب) على القول بالوجوب فلأنه مع القراءة تسبب لترك الواجب فكان المندوب ذريعة لترك الواجب، وأما على القول بعدمه فلأنه لما ترك السنة بسبب فعل المندوب وكان (جـ) الأليق الاعتناء بالسنون وأن لا يتركه فالأحسن أن لا يقرأ السورة ويحمل النهي على (د) التنزيه، واللَّه أعلم. 267 - وعن عمر -رضي اللَّه عنه- قال: "يا أيها الناس: إِنَّا نَمُرُّ بالسجود فمن سجد فقد أصاب، ومن لم يسجد فلا إِثم عليه". رواه البخاري (¬4). ¬

_ (أ) في جـ: الأخيرة. (ب) في جـ: وأما. (جـ) في جـ، هـ: فكان. (د) في جـ: عن.

وعنه وفيه: "إنَّ اللَّه لم يفرض السجود إلَّا أن نشاء". وهو في "الموطأ" (¬1). في الأثر دلالة صريحة على عدم وجوب سجود التلاوة لقوله: "فلا إثم عليه". وأما قوله: "إِن اللَّه لم يفرض السجود": فقد احتج به بعض الحنفية على أنه واجب غير فرض، وفيه نظر، إذ ذاك اصطلاح محدد للفقهاء لم يكن في زمن (أ) الصحابة، ويدل على خلاف هذه الرواية (ب) الأولى. واستدل بقوله "إِلا أن نشاء" بأنه إذا شرع في السجود وجب عليه إتمامه إذ هو مخرج من بعض حالات عدم فرضية السجود. وأجيب بأنه استثناء منقطع، والمعنى: ولكن ذلك موكول إلى مشيئتنا. وهذا الأثر صدر من عمر (جـ وهو يخطب جـ) وفيه من الفوائد: أن للخطيب أن يقرأ القرآن في الخطبة، وأنه إذا مر بسجدة تلاوة أن ينزل إلى الأرض، فيسجد إذا لم يتمكن من السجود على المنبر كما وقع من عمر في القصة التي حكاها البخاري، وأن ذلك لا يقطع الخطبة، وقد فعل عمر هذه الأفعال مع حضور الصحابة ولم ينكر عليه أحد، وفي هذا رد على مالك حيث قال: لا يسجد وهو يخطب (¬2). واللَّه أعلم. 268 - وعن ابن عمر - رضي اللَّه عنهما - "كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ ¬

_ (أ) في جـ: وقت. (ب) زاد في جـ: و. (جـ - جـ) ساقطة من جـ.

علينا القرآن فإِذا مَرَّ بالسجدة كَبَّرَ وسجَد وسجدنا" رواه أبو داود بسندٍ فيه لين (¬1). الحديث من رواية عبد اللَّه -المكبر- العُمَريّ، وهو ضعيف (¬2)، وأخرجه الحاكم (¬3) من رواية عبيد اللَّه -المصغر- العمري، وهو ثقة، يقال: إنه على شرط الشيخين، وأصله في الصحيحين (¬4) من حديث ابن عمر بلفظٍ آخر. في الحديت زيادة: "كَبَّرَ" تدل على أن التكبير مشروع. قال عبد الرزاق: وكان الثوري يعجبه هذا الحديث، قال أبو داود (¬5): [يعجبه] لأنه كبر (أ)، وقد ذهب إلى هذا بعض أصحاب الشافعي فقالوا: بتكبيرة واحدة للافتتاح (¬6)، وكذا أبو طالب (¬7) لكنه قال: وتكبيرة أخرى للنقل. ولا دليل على ذلك، وقال بعض أصحاب الشافعي (¬8): ويتشهد أيضًا ويسلم كالصلاة، وبعضهم ¬

_ (أ) في الأصل وهـ بلفظ: (لأن فيه كبر) والصحيح المثبت كما في أبي داود 2/ 126.

قال: يسلم قياسًا للتحليل على التحريم ولا يتشهد، ولا دليل على ذلك. واعلم أنه وقع الإجماع على شرعيَة سجود التلاوة مطلقًا، وسواء كان القارئ والمستمع في حال الصلاة أو غير مصل، إلا أنه إذا كان مصليًا فرضًا فإنها تؤخر إلى بعد الصلاة عند الهادي والقاسم والناصر (¬1) والمؤيد باللَّه قالوا: لأنها زيادة على الصلاة فتفسدها ولما رواه نافع عن ابن عمر أنه قال: "كان رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - يقرأ علينا السورة في غير الصلاة، فيسجد ونسجد (أ) معه". [أخرجه أبو داود (¬2). وقوله: "في غير الصلاة": وقعت في رواية ابن نمير] (ب) قالوا: فقوله: "في غير الصلاة": يدل على أنه لم يكن يسجد في الصلاة إذا قرأ فيها ما كان يسجد فيه خارج الصلاة، (جـ إذ لولا ذلك لكان لا معنى لقوله: "في غير الصلاة". ذكر هذا في "الشفاء" وإلا أن تكون الصلاة جـ) نافلة، فإنه يسجد فيها، قالوا: لتخفيف النافلة، ولأنه يجوز الزيادة فيها، وذهب الجمهور من العلماء إلى أنه مشروع في الصلاة ولو كانت (د) الصلاة فرطًا لحديث أبي هريرة: "أنه سجد في {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} خلف أبي القاسم" (¬3)، وظاهر سياق القصة أن ذلك في الصلاة، أخرجه أبو داود (¬4)، وكذا في "صحيح أبي عوانة" من رواية يزيد بن هارون عن ¬

_ (أ) في جـ: فنسجد. (ب) في هامش الأصل وفيه بعض المحو واستدركته من نسخة هـ. (جـ - جـ) في هامش هـ. (د) في الأصل وجـ: كان.

سليمان التَّيْمِي (¬1)، وعموم الشرعية شامل لجميع الأوقات. والجواب عن حجة الأولين أن هذه ثبتت (أ) بالدليل فلا تفسدها، وعن الحديث بأنه عمل بمفهوم الصفة وهو قوله: "في غير الصلاة" ومفهومه (ب)، وأما في الصلاة فلا. والمفهوم مطرح مع وجود ما هو أقوى منه وهو حكاية فِعْل النبي - صلى الله عليه وسلم - وفي هذا رد على مالك (¬2) حيث كره قراءة آية السجدة في الصلاة مطلقًا كما نقل عنه أو في السِّرِّية فقط دون الجهرية كما نقل عنه أيضًا وعن بعض الحنفية (¬3)، وقد أخرج أبو داود والطحاوي والحاكم من حديث ابن عمر - رضي اللَّه عنهما -: "أن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - سجد في الظهر فرأى أصحابه أنه قرأ آية السجدة فسجدها" (¬4). واعلم أنه ورد في الذكر في سجود القرآن بالليل: "وسَجَدَ وَجْهِي للذي خَلَقَهُ وصَوَّرَه وشَقَّ سَمْعَه وبصره بحوله وقوته" أخرجه أحمد وأصحاب السنن والدارقطني والحاكم (جـ) والبيهقي وصححه ابن (د) السكن (¬5)، وزاد في آخره "ثلاثا"، وزاد الحاكم في آخره ¬

_ (أ) في هـ: تثبت. (ب) ساقطة من هـ. (جـ) ساقطة من جـ. (د) هـ: وابن السكن زيادة واو.

{فَتَبَارَكَ (أ) اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ}، وفي حديث ابن عباس أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يقول في سجود القرآن: "اللهم اكتب لي بها عندك أجرًا، واجعلها لي عندك ذخرًا، وضع عني بها وزرًا، وتقبلها مني كما تقبلتها من عبدك داود" (¬1). 269 - وعن أبي بكرة -رضي اللَّه عنه- "أن النبي (ب) - صلى الله عليه وسلم - كان إِذا جاءه أمر يسره خر ساجدًا للَّه"، رواه الخمسة إلا النسائي (¬2). [الحديث قال الترمذي: غريب، وهو من رواية بكار بن عبد العزيز بن أبي بكرة (¬3) عن أبيه عني جده، وبكار ضعفه العقيلي وغيره، قال ابن معين: صالح الحديث (¬4)، ولابن ماجه عن أنس، وفي سنده ضعف واضطراب، ولكن لهذا المعنى شواهد كثيرة (¬5)] (جـ). ¬

_ (أ) في جـ: تبارك. (ب) في جـ: أنه. (جـ) بهامش الأصل.

في الحديث دلالة على شرعية سجدة الشكر، وقد ذهب إليه العترة والشافعي (¬1) وأحمد خلافًا لمالك، ورواية عن أبي حنيفة فقالا: تكره إذ لم يؤثر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مع ترادف النعم عليه، واندفاع الضار، ورواية عن أبي حنيفة بأنه لا كراهة فيها، ولا ندب لذلك (¬2)، وأجيب بأن ذلك قد أثر بهذا الحديث المذكور (أ) وغيره (ب) كما سيأتي، ولقوله - صلى الله عليه وسلم - في سجدة {ص} "هي لنا شكر ولداود توبة" (¬3). وشرط السجود الطهارة (¬4) كالصلاة عند أبي العباس والمؤيد، وتيمم المحدث عند النخعي، وبعض أصحاب الشافعي قال: بل يتوضأ، وقيل: الحائض تومئ برأسها (جـ) وقال أبو طالب والإمام يحيى: لا تشترط الطهارة إذ ليس بصلاة وللحرج لتكرره بكثرة (د) النعم (¬5)، وهذا هو الظاهر من الآثار إذ لم يؤثر إحداث الوضوء عند إرادة السجود، ولا حصل الأمر به، وليس بصلاة حقيقة حتى يتناوله (هـ) أدلة اشتراط الطهارة للصلاة، ولم يذكر في الحديث أنه كَبَّرَ، بل الظاهر منه أنه لم يكبر، فإن قوله "خر ساجدًا" ¬

_ (أ) في جـ: بهذه الأحاديث المذكورة. (ب) زاد في جـ: ضبط. (جـ) الواو ساقطة من جـ. (د) في جـ: يتكرر. (هـ) في جـ: تناوله.

عقيب قوله: "إِذا جاءه" وكذلك في سائر الأحاديث، يدلّ على أنه لم يشتغل بغير السجود. واختار الإمام المهدي في البحر أنه يكبّر (1)، ذكره بغير مستند، قال أبو طالب (2): ويستقبل القبلة. قال الإمام يحيى (3): ولا يسجد للشكر في الصلاة قولًا واحدًا، إذ ليس من توابعها، ومقتضى الشرعية له عند حدوث نعمة أو دفع مكروه أن يفعل ذلك في الصلاة كسجود التلاوة ويكون ذلك مخصصًا لعموم النهي عن الزيادة في الصلاة (¬4)، واللَّه أعلم. 270 - وعن عبد الرحمن بن عوف -رضي اللَّه عنه- قال: سَجَدَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - فأطال السجود ثم رفع رأسه، وقال: "إِن جبريل أتاني فبشرني، فسجدت للَّه شكرًا". رواه أحمد وصححه الحاكم. وأخرجه البزار وابن أبي عاصم في "فضل الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم -" والعقيلي في "الضعفاء" (¬5). ¬

_ (1، 2، 3) 1/ 346. (¬4) حكى الإمام النووي أن أصحابه اتفقوا على تحريم سجود الشكر في الصلاة وإن سجد بطلت صلاته. المجموع 3/ 521. (¬5) أحمد 1/ 191، الحاكم، الدعاء 1/ 550، مجمع الزوائد وعزاه إلى البزار وقال: فيه موسى بن عبيدة وهو ضعيف 2/ 283، البيهقي، الصلاة، باب سجود الشكر 2/ 373، العقيلي في الضعفاء في ترجمة قيس بن عبد اللَّه بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة 3/ 467 - 468، فضل الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - 25 ح 7 وفي 26 ح 10، ابن شاهين في فضائل الأعمال ل 4، وفي مسند أحمد، عبد الواحد بن محمد بن عبد الرحمن بن عوف وثقه ابن حبان وذكره البخاري وابن أبي حاتم فلم يذكر فيه جرحًا فهو مستور. تعجيل المنفعة 267. قلت: ولكن تابعه سعد بن إبراهيم عن أبيه عن جده عند البزار والعقيلي وإسماعيل الجهضمي في فضل الصلاة على النبي - صلى اللَّه عليه وسلم - وللحديث شواهد ذكرنا طرفًا منها في الحديث السابق.

قال البيهقي (¬1): وفي الباب عن جابر وابن عمر وأنس وجرير وأبي جحيفة. والبشارة أنه مَنْ صلى عليه مرة صلى اللَّه عليه عشرًا. أخرج ذلك من ذكر (¬2). 271 - وعن البراء بن عازب -رضي اللَّه عنه- "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعث عليًّا إِلى اليمن .. فذكر الحديث، وقال: فكتب علي بإِسلامهم، فلما قرأ رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - الكتاب خر ساجدًا". رواه البيهقي، وأصله في البخاري (¬3). أخرجه البخاري وصححه. والمبعوث بإسلامهم هم: همدان، وقد روي عن علي -رضي اللَّه عنه- أنه سجد لما وجد ذا الثدية في القتلى، وفي حديث توبة كعب بن مالك أنه خر ساجدًا لما جاءه البشير (¬4). [اشتمل هذا الباب على ستة وعشرين حديثًا] (أ). ¬

_ (أ) بهامش الأصل.

باب صلاة التطوع

باب صلاة التطوع 272 - عن ربيعة بن كعب الأسلمي -رضي اللَّه عنه- قال: قال لي رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -: "سَلْ. فقلت: أسْأَلُكَ مرافقتك في الجنة، فقال: أو غير ذلك؟ قلت: هو ذاك. قال: فأعِنِّي على نَفْسكَ بكَثْرَة السُّجُود". رواه مسلم (¬1). هو أبو فِرَاس (¬2) -بكسر الفاء والسين المهملة- ربيعة بن كعب الأسلمي، من أسلم، معدود في أهل المدينة من أهل الصفة، كان خادمًا لرسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - صحبه قديمًا وكان يلزمه سفرًا وحضرًا وكان ينزل على بريد من المدينة، مات سنة ثلاث وستين بعد الحرة. روى عنه أبو سلمة بن عبد الرحمن وحنظلة بن علي ومحمود بن عمر وابن عطاء وأبو عمران الجَوْني بفتح الجيم وسكون الواو وبالنون. في الحديث دلالة على فضيلة السجود، وأنه يستعان به على تنزيه النفس من الصفات الذميمة، وتحليتها بكريم الأخلاق، فيناسب بذلك القرب والمرافقة لمن هو على خُلُق كريم، وفي هذا المعنى قوله - صلى الله عليه وسلم -: "أقرَبُ مَا يكون الْعبد من ربه وهو ساجد" (¬3). ¬

_ (¬1) مسلم وطرفه (كنت أبيت مع رسول اللَّه)، الصلاة، باب فضل السجود والحث عليه 1/ 353 ح 226 - 489، أبو داود، الصلاة، باب وقت قيام النبي - صلى الله عليه وسلم - من الليل 2/ 78 ح 1320، النسائي فضل السجود 2/ 180، أحمد في قصة طويلة 4/ 59، أبو عوانة بيان ثواب السجود والترغيب بكثرة السجود 2/ 181، البيهقي، الصلاة، باب الترغيب في الإكثار من الصلاة 2/ 486. (¬2) الاستيعاب 3/ 264، الإصابة 3/ 270. (¬3) مسلم 1/ 350 ح 215 - 482.

273 - وعن ابن عمر - رضي اللَّه عنهما - قال: "حفظتُ من النبي - صلى الله عليه وسلم - عشر ركعات: ركعتين قبل الظهر، وركعتين بعدها، وركعتين بعد المغرب في بيته، وركعتين بعد العشاء في بيته، وركعتين قبل الصبح". متفق عليه (¬1). وفي رواية لهما: "وركعتين بعد الجمعة في بيته" (¬2). ولمسلم: "كان إذا طلع الفجر لا (أ) يصلى إلا ركعتين خفيفتين" (¬3). في الحديث دلالة على فضيلة التطوع في الأوقات المذكورة بما ذكر. وقوله: في بيته" دلالة على أن فِعْلَ النافلة في البيت أفضل [وفي حديث مسلم دلالة على المبادرة بهما في أول طلوع الفجر وتخفيفهم أو (ب) هو مذهب مالك والشافعي (¬4) والجمهور، وقال بعض السلف: لا بأس بإطالتهما، ولعله أراد أنها ليست بمحرمة، وحكى الطحاوي (¬5) عن قوم أنه لا قراءة فيهما، وهو غلط، فإن في حديث عائشة: "حتى أني أقول: ¬

_ (أ) في جـ: لم. (ب) الواو ساقطة من جـ.

هل قرأ فيهما بأم القرآن" (¬1). وقد يستدل به من يقول: تكره النافلة من طلوع (أ) الفجر، ولأصحاب الشافعي ثلاثة أوجه (¬2): أحدها هذا، والثاني: الكراهة بعد صلاة سنة الصبح، والثالث: الكراهة بعد صلاة الصبح، ولا مأخذ في هذا الحديث واللَّه أعلم] (ب). 274 - وعن عائشة - رضي اللَّه عنها - "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان لا يدع أربعًا قبل الظهر وركعتين قبل الغداة". رواه البخاري (¬3). وعنها قالت: "لم يكن النبي - صلى الله عليه وسلم - على شيء من النوافل أشد تعاهدًا منه على ركعتي الفجر". متفق عليه (¬4). ولمسلم: "ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها" (¬5). قولها: "على شيء من النوافل" إِلى آخره، فيه دلالة على فضلهما، وأنهما سنة ليستا بواجبتين، وبه قال جمهور العلماء، وحكى القاضي (¬6) ¬

_ (أ) زاد في هـ: الشمس. (ب) بهامش الأصل، وفيه بعض المحو واستدركته من نسخة هـ.

عن الحسن البصري وجوبهما، وقد يستدل به على أنهما أفضل من الوتر، ولا دلالة في ذلك، لأن الوتر كان واجبًا عليه - صلى الله عليه وسلم - فلم يكن داخلًا في عموم النوافل إذ ليس بنافلة في حقه. وفي قوله: "خيرٌ من الدُّنْيَا وما فيها": أي (أ) متاع الدنيا. 275 - وعن أم حبيبة أم المؤمنين - رضي اللَّه عنها - قالت: سَمِعْتُ رَسولَ اللَّه - صلى الله عليه وسلم - يقول: "من صلى اثنتي عشرة ركعة في يوم وليلة، بنى له بهن بيت في الجنة" رواه مسلم (¬1). وفي رواية: "تطوعًا" (¬2) وللترمذي نحوه وزاد: "أربعًا قبل الظهر وركعتين بعدها، وركعتين بعد المغرب، وركعتين بعد العشاء، وركعتين قبل صلاة الفجر" (¬3). وللخمسة عنها (ب): "مَنْ حافظ على أربع قبل الظهر وأربع بعدها حَرَّمَهُ اللَّه تعالى على النار" (¬4). ¬

_ (أ) هـ: أي من متاع. (ب) ساقطة من جـ.

الحديث قال الترمذي: حسن (¬1)، وصححه ابن حبان (¬2)، وخالف ابن القطان فأعله (¬3) وحكى أبو حاتم عن أبي الوليد الطيالسي أنه أنكر هذا الحديث، والعلة فيه أنه من رواية مكحول (¬4) عن عنبسة بن أبي سفيان (¬5)، ومكحول لم يسمع منه كما ذكره أبو زرعة وهشام (أوأبو عبد الرحمن النسائي، لكن صححه الترمذي (¬6) من حديث أبي عبد الرحمن القاسم بن عبد الرحمن أ) صاحب أبي أمامة. قاله (ب) المنذري] (جـ). [وقد روي الحديث بروايات فيها: "حَرَّمَ اللَّه لَحْمَهُ عَلى النار" (¬7)، وفي رواية: "حرم عَلَى النار" (¬8). وفي رواية: "لم تمسه النار" (¬9). وفي رواية: قال: لما نزل بعنبسة بن أبي سفيان جعل يتضور (¬10) فقيل ¬

_ (أ- أ) ساقط من هـ. (ب) في هـ: قال: (جـ) بهامش الأصل، وفيه بعض المحو واستدركته من نسخة هـ.

له فقال (أ): أما إني سمعت أم حبيبة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - تحدث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه "من ركع أربع ركعات قبل الظهر، وأربعا بعدها حرم اللَّه لَحْمَهُ علَى النارِ فَمَا تَرَكتهُنَّ منذ سمعتهن" (¬1). وفي رواية عن محمد بن أبي سفيان قال: "لما نزل به الموت أخذه أمر شديد فقال: حدثتني أختي أم حبيبة قالت: قال رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -: "من حافظ على أربع ركعات قبل الظهر وأربع بعدها حرمَهُ اللَّه على النار" (¬2). وأخرج أبو داود عن أبي أيوب قال: قال رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -: "أربع قبل الظهر ليس فيهن تسليم" (¬3) وفي إسناده عبيدة بن معتب (¬4) تكلم فيه يحيى بن سعيد، وقال ابن عدي (¬5): هو مع ضعفه يُكتب حديثه، وذكر الغزالي (ب) حديثًا في صلاة الزوال، قال العراقي: ذكره عبد الملك بن حبيب بلاغًا عن ابن مسعود عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "من صلَّى أَرْبع رِكْعَات بَعْد زَوَال الشَّمْسِ يحسن قَراءتهنَّ وركوعهن وسُجُودهُنَّ، صلى معَهُ سَبْعُونَ ألف مَلَكٍ يستَغْفِرُون له حتى اللَّيل" (¬6). ¬

_ (أ) في جـ: "فصل" مضروب عليها. (ب) في هـ: للغزالي.

وفي الطبراني الكبير (أ) عن ابن عباس - رضي اللَّه عنهما - قال: "كان رسول اللَّه - صلى اللَّه عليه وسلم - إذا استوى النهار خرج إلى بعض حيطان المدينة، وقد يسر له فيها طهور، فإذا زالت الشمس عند كبد السماء قدر شراك، قام يصلي أربع ركعات، لم يتشهد بينهن، ويسلم (ب) في آخر الأربع ثم يقوم، فقال (جـ) ابن عباس: يا رسول اللَّه ما هذه الصلاة التي تصليها ولا نصليها؟ فقال: يا ابن عباس من صلاهن من أمتي فقد أحيا ليله بساعة (د) تفتح أبواب السماء، ويستجاب فيها الدعاء" (¬1)، وكان إذا فاتته هذه الصلاة قبل الظهر صلاها بعدها. وفي السنن عن عائشة رضي اللَّه عنها: "أن رسول اللَّه - صلى اللَّه عليه وسلم - كان إذا لم يصل أربعًا قبل الظهر صلاهن بعدها" (¬2)] (هـ). 276 - وعن ابن عمر - رضي اللَّه عنهما - قال: قال رسول اللَّه - صلى اللَّه عليه وسلم -: "رَحِمَ اللَّه امْرَءًا صَلَّى للَّه أَرْبَعًا قَبْلَ العَصْرِ". رواه أحمد وأبو داود والترمذي وحسنه وابن خزيمة وصححه (¬3). ¬

_ (أ) ساقطة من هـ. (ب) في هـ: وسلم. (جـ) في جـ: قال. (د) في جـ: "ليلة ساعة" ولفظ "ليلة" غير واضح في جـ ومضروب عليه. (هـ) ما بين القوسين في قصاصة بالأصل.

وعن عبد اللَّه بن مغفل المزني -رضي اللَّه عنه- عن النبي - صلى اللَّه عليه وسلم - قال: "صلوا قَبْل المَغْرب، صلوا قبل المغرب ثم قال في الثالثة: لمن شاء، كراهية أن يتخذها الناس سنة" رواه البخاري (¬1). وفي رواية لابن حبان: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى قبل المَغْرِبِ رَكْعَتين" (¬2). ولمسلم عن أنس -رضي اللَّه عنه-: "كنا نصلي ركعتين بعد غروب الشمس وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يرانا، فلم يأمرنا، ولم ينهنا" (أ) (¬3). هذه الأحاديث فيها دلالة على ما ذكر من فضيلة هذه الرواتب، ولم يذكر في الصحيحين في (ب) النافلة قبل العصر شيء، وقد وردت فيها الأحاديث الحسان من غيرهما. واعلم أن جمهور العلماء على استحباب ما ذكر، إلا في الركعتين قبل المغرب فالخلاف في استحبابهما. وظاهر هذه الأحاديث التوسعة فيها، وأنه لا كراهة فيها، ولا زيادة ندب للتأدية في الوقت المخصوص كغيرها (ب). واختلاف الأحاديث في أعداد الرواتب المذكورة فيه دلالة على التوسعة، وأن من اقتصر على الأقل فقد فعل أصل السنة، ومن فعل الأكثر فقد استكمل الأجر، وزادت له ¬

_ (أ) في جـ: ينهانا. (ب) ساقطة من هـ. (جـ) في هـ: كغيرهما.

الفضيلة، ومن توسط في الأمر أخذ قسطه من الحظ. 277 - وعن عائشة - رضي اللَّه عنها - قالت: "كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يخفف الركعتين اللتين قبل صلاة الصبح، حتى إِني أقول (أ): أقرأ بأم (ب) الكتاب"؟. متفق عليه (¬1). فيه دلالة على تخفيف القراءة فيهما، وقد تقدم، [وذهب جمهور الحنفية (¬2) إلى إطالة القراءة فيهما، ونقل عن النخعي، وأورد البيهقي فيه حديثًا من مرسل سعيد بن جبير، وفي سنده راو لم يسم، وخص ذلك بمن فاته شيء من قراءته في صلاة الليل، ونقل ذلك عن أبي حنيفة، وأخرجه ابن أبي شيبة بسند صحيح عن الحسن البصري (¬3). والحكمة في تخفيف القراءة فيهما لأنه ورد أن المؤمن يخفف عليه الحساب يوم القيامة حتى يكون كعدد ركعتي الفجر، فاستحب تخفيفهما رجاء أن يكون له ذلك، وقيل: لمزاحمة الإقامة، لأنه كان لا يصليهما حتى يأتيه المؤذن، وكان يغلس بصلاة الصبح] (جـ). 278 - وعن أبي هريرة -رضي اللَّه عنه- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - "قرأ في ¬

_ (أ) في جـ: حين أقول. (ب) في جـ: أم. (جـ) بهامش الأصل.

ركعتي الفجر {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} رواه مسلم (¬1). وفي رواية لمسلم: قرأ الآيتين: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا} و {قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا} (¬2). وفي هذا دليل (أ) لمذهب الجمهور من أنه يقرأ فيهما بعد الفاتحة سورة، ويستحب أن تكون هاتان السورتان أو الآيتان، وكلاهما سنة، وقال مالك وجمهور أصحابه: (¬3) لا يقرأ غير الفاتحة، وقال بعض السلف: لا يقرأ شيئًا كما سبق، وكلاهما خلاف هذه السنة التي لا معارض لها. وفي السورتين مناسبة كاملة لما يفتتح به المصلي أول يومه؛ فإن {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}: إخلاص الاعتقاد و {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ}: إخلاص للأعمال، وكذلك الآيتان. واللَّه أعلم. 279 - وعن عائشة - رضي اللَّه عنها - قالت: "كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا صلى ركعتي الفجر اضطجع على شقه الأيمن" رواه البخاري (¬4). ¬

_ (أ) ساقطة من جـ.

الحديث وقع الاختلاف فيه بين أصحاب [الزهرى] (أ) فرواه عقيل ويونس وشعيب وابن أبي ذئب (ب) والأوزاعي، وغيرهم كما صدر. ورواه مالك عن الزهري عن عروة عن عائشة: "كان رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - يصلي من الليل إحدى عشرة ركعة يوتر فيها (جـ) بواحدة، فإذا فرغ منها اضطجع على شقه الأيمن حتى يأتيه المؤذن فيصلي ركعتين خفيفتين (¬1)، فذكر مالك أن اضطجاعه كان قبل ركعتي الفجر، [وذهب إلى هذا القاضي عياض (د)] وفي حديث الجماعة أنه اضطجع بعدهما (¬2). قال ابن تيمية: فحكم العلماء أن مالكًا أخطأ، وأصاب غيره (¬3). واعلم أن العلماء في حكم هذه الضجعة ما بين مفرط ومُفْرِط ومتوسط، فأفرط جماعة من أهل الظاهر منهم ابن حزم ومن تابعه فقالوا بوجوبها وأبطلوا الصلاة بتركها، [فقال ابن حزم (¬4): ومن لم يقدر على الاضطجاع على الأيمن فإنه يومئ، ولا يضطجع على الأيسر] (هـ)، وذلك لفعله - صلى الله عليه وسلم - المذكور، ولحديث أبي هريرة أنه قال - صلى الله عليه وسلم -: "إذا صلى أحدكم ¬

_ (أ) بهامش الأصل. (ب) في جـ: ذؤيب. (جـ) في هـ: منها. (د) بهامش الأصل وساقطة من جـ. (هـ) بهامش الأصل.

الركعتين قبل صلاة الصبح فليضطجع على جنبه الأيمن" (¬1) قال الترمذي: حديت حسن صحيح غريب، وقد ذكر عبد الرزاق في "المصنف" (¬2) عن معمر عن أيوب عن ابن سيرين أن أبا موسى ورافع بن خديج وأنس بن مالك رضي اللَّه عنهم كانوا يضطجعون بعد ركعتي الفجر، ويأمرون بذلك، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: الحديث ليس بصحيح، لأنه تفرد به عبد الواحد (أ) بن زياد (¬3)، وفي حفظه مقال (¬4). قال المصنف -رحمه اللَّه- والحق أنه تقوم به الحجة. ¬

_ (أ) في النسخ عبد الرحمن، ولكن في الفتح والزاد: "عبد الواحد" وهو الصحيح الموافق لسنن أبي داود والترمذي، فلعل ذلك سبق قلم أو تصحيف من الناسخ.

وفرط جماعة فقالوا بكراهتها، واحتجوا بآثار الصحابة، كما أخرج عبد الرزاق (¬1) عن ابن عمر أنه كان لا يفعل ذلك، وقال (أ). كفى بالتسليم، وروي عنه أنه كان يحصب من فَعَلهَا. وذكر ابن أبي شيبة عن أبي الصديق الناجي أن ابن عمر رأى قومًا قد اضطجعوا بعد ركعتي الفجر فأرسل إليهم فنهاهم، فقالوا: نريد بذلك السنة؟ فقال ابن عمر: ارجع إليهم فأخبرهم أنها بدعة (¬2). وقال أبو مجلز: سألت ابن عمر عنها فقال: يلعب بكم الشيطان (¬3) وقال ابن مسعود: ما بال الرجل إذا صلى الركعتين يتمعك كما يتمعك الحمار إذا تمعك (¬4). وتوسط فيها طائفة منهم مالك وغيره فلم يروا بها بأسًا لمن فعلها راحة وكرهوها لمن فعلها استنانًا. ومنهم من قال: استحسانها (¬5) على الإطلاق، سواء استراح بها أم لا. وروي عن أحمد أنه قال: روته عائشة، وأنكره ابن عمر، وقال أحمد: لما سئل عنه: ما أفعله وإن فعله رجل فحسن (¬6)، وبوب البخاري (¬7) لمن تحدث بعد الركعتين ولم يضطجع وأشار بهذه الترجمة إلى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم ¬

_ (أ) زاد في هـ: و.

يداوم عليها، وبهذا احتج الأئمة على حمل الأمر في حديث أبي هريرة علي عدم الوجوب، وجزم ابن العربي (¬1) بأن فعلها إنما يكون للاستراحة والنشاط لصلاة الفريضة، فلا تكون حينئذ إلا للمتهجد وشهد له ما أخرجه عبد الرزاق (¬2) أن عائشة كانت تقول: "إن النبي - صلى اللَّه عليه وسلم - لم يضطجع لسنة ولكنه كان يدأب ليلته [فيضطجع] (أ) "ليستريح"، وفي إسناده راو لم يسمّ. وقيل: إن فائدتها الفصل بين ركعتي الفجر وصلاة الصبح، وعلى هذا فلا اختصاص ومن ثم قال الشافعي: تتأدى السنة بكل ما يحصل به الفصل من مشي وكلام وغيره حكاه البيهقي (¬3). وقال النووي (¬4): المختار أنه سنة لظاهر حديث أبي هريرة (ب وقد قال أبو هريرة ب)، راوي الحديث: إن الفصل بالمشي إلى المسجد لا يكفي، وأقول هذا الأولى (جـ)، وترك النبي - صلى اللَّه عليه وسلم - في بعض الأوقات إنما هو لبيان عدم الوجوب، ولا وجه لرد ما روي من الفعل والقول. قال المصنف -رحمه اللَّه - (¬5) وذهب بعض إلى استحبابها في البيت دون المسجد، وهو محكي عن ابن عمر، وقواه بعض شيوخنا، فإنه لم ¬

_ (أ) بهامش الأصل، وساقطة من هـ وجـ. (ب - ب) ساقطة من جـ. (جـ) في جـ: أولى.

ينقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه فعله (أ) في المسجد، وصح عن ابن عمر أنه كان يحصب من فعله في المسجد. أخرجه ابن أبي شيبة (¬1) انتهى. وأقول: مع ما عرفت من إطلاق الدليل (ب) فلا وجه للتقييد. وفي اضطجاعه على شقه الأيمن سرّ وهو أن القلب معلق في الجانب الأيسر فإذا نام الرجل على الجانب الأيسر استثقل نومًا؛ لأنه يكون في دعة واستراحة فيثقل نومه، فإذا نام على شقه الأيمن، فإنه يقلق ولا يستغرق في النوم لقلق القلب، وطلبه مستقره وميله إليه، ولهذا استحب (جـ) الأطباء النوم على الجانب الأيسر لكمال الراحة، وطيب المنام، وصاحب الشرع يستحب النوم على الجانب الأيمن لئلا يثقل في (د) نومه فينام عن قيام الليل، فالنوم على الجانب الأيمن أنفع للقلب وعلى الجانب الأيسر أنفع للبدن. [ويكون وجهه إلى القبلة مع قبالة بدنه على الشق الأيمن كاستقبال الميت في اللحد لئلا يخلو بدنه عن التوجه إلى القبلة] (هـ). 280 - وعن أبي هريرة -رضي اللَّه عنه- قال: قال رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -: "إِذا صلى أحدكم الركعتَيْن قبل صلاة الصبح فليضطجع على جنبه الأيمن" ¬

_ (أ) في جـ: فعل. (ب) في هـ: قدم الدليل على "إطلاق" وقد أشار الناسخ إلى ذلك. (جـ) في جـ: يستحب. (د) ساقطة من هـ. (هـ) ساقطة من جـ: ومثبتة بهامش الأصل.

رواه أحمد والتومذي وأبو داود وصححه (¬1) (أ). تقدم الكلام في الحديث. 281 - وعن ابن عمر -رضي اللَّه عنه- قال: قال رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -: "صلاة الليل مثنى مثنى، فإِذا خشَى أحدُكم الصبح صلى ركعة واحدة توتر له ما قد صلى". متفق عليه (¬2). وللخمسة وصححه ابن حبان: "صلاة الليل والنهار مثنى مثنى". وقال النسائي: هذا خطأ (¬3). ¬

_ (أ) في جـ وهـ: قدم "الترمذي" على "أبي داود" فالتصحيح في جـ لأبي داود.

الحديث من رواية ابن عمر رواه (أ) عنه طاوس ونافع وغيرهما بدون ذكر النهار، وتفرد بِذِكْر النهار عليّ بن عبد اللَّه البارقيّ الأزدي (¬1) عن ابن عمر، وكان يحيى بن معين يضعّف حديثه ولا يحتج به ويقول: إن نافعًا وعبد اللَّه بن دينار وغيرهما رووه بدون ذِكْر النهار. وقال أيضًا: ومَنْ الأزدي حتى أقبل حديثه، وادعى يحيى بن سعيد أن ابن عمر كان يتطوع في النهار بأربع، فلو كانت الرواية صحيحة عنه لما خالفها. وقال الدارقطني في "العلل": ذِكْر النهار وَهْم. قال الخطابي (¬2): هي زيادة من ثقة فتقبل. وقال البيهقي (¬3): هذا حديث صحيح، وقال: البارقي احتج به مسلم، والزيادة من الثقة مقبولة، وقد صححه البخاري (¬4) لما سئل عنه، ثم روى ذلك بسنده إليه، قال: وقد روي عن محمد بن سيرين عن ابن عمر موقوفًا بأسانيد كلهم ثقات. في الحديث دلالة على أن المشروع في صلاة الليل أن يسلم المتطوع على ركعتين. وفي قوله: "مثنى مثنى" إشارة إلى أن مَنْ أراد تكرار النافلة سلم على كل اثنين، وقد ذهب إلى هذا جمهور العلماء (¬5)، إلَّا أنَّ مالكًا قال: لا ¬

_ (أ) في هـ: روى.

يجوز الزيادة على ركعتَيْن. قال: لأن مفهوم الحديث الحَصْر، فهو في قوة: ما صلاة الليل إلا مثنى مثنى، لأن تعريف المبتدئ قد يفيد ذلك بحسب الأغلب. وأجاب الجمهور المجوّزون الزيادة أنه وقع ذلك جوابًا لمن سأل عن صلاة الليل كما يدل عليه أول الحديث، فلا دلالة حينئذ، وبما صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يصلي ثلاث عشرة ركعة يوتر من ذلك بخمس (¬1)، وفي الصحيحين حديث عائشة أنه كان يصلي أربعًا فلا تسأل عن حسنهن، وسيأتي (¬2). وحديث أبي أيوب الآتي: "منْ أحب أن يوتر بخمس .. " (¬3) وهو حجة على أبي حنيفة حيث قال: الأفضل أن يصلي أربعًا أربعًا، وإن شاء ركعتين، وإن شاء ستًّا (¬4). وقوله: "إِذا خشى أحدكم .. " إلخ: فيه دلالة على أن الوتْر في الليل مشروع فإذا لم يكن قد صلى وتر، وخشى طلوع الفجر أوتر بركعة. وفيه دلالة على صحة الإحرام بركعة. وفي زيادة ذِكْر النهار يدل على أن الأفضل في نافلة النهار أيضًا أن تكون ركعتين وفيه خلاف أبي حنيفة (¬5) وصاحبيه، فقالوا (أ): يخيَّر بين أن يصلى ركعتين ركعتين أو أربعًا أربعًا ولا يزيد على ذلك، وقد أخرج في البخاري (¬6) ثمانية أحاديث في صلاة النهار ركعتين. ¬

_ (أ) في جـ: قالوا.

282 - وعن أبي هريرة -رضي اللَّه عنه- قال: قال رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -: "أفْضَلُ الصَّلاةِ بَعْدَ الْفَرِيضة صَلَاةُ اللَّيل". أخرجه مسلم (¬1). فيه دلالة ظاهرة على فضل (أ) النافلة بالليل. 283 - وعن أبي أيوب الأنصاري -رضي اللَّه عنه- أن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - قال: "الوتر حق على كل مسلم، من أحب أن يوتر بخمس فليفعل، ومن أحب أن يوتر بثلاث فليفعل، ومن أحب أن يوتر بواحدة فليفعل". رواه الأربعة إلا الترمذي (¬2) وصححه ابن حبان، ورجع النسائي وقفه (¬3). وكذا صح أبو حاتم والذهلي والدارقطني في "العلل" والبيهقي وغير واحد وقْفَه. ¬

_ (أ) زاد في هـ: صلاة.

قال المصنف رحمه اللَّه: وهو الصواب (¬1). وفي رواية الدارقطني (أ): "الوتر حقٌّ واجبٌ فمن شاء فليوتر بثلاث" (¬2). وحكى مجد الدين بن تيمية (¬3) عن ابن المنذر في حديث أبي أيوب: "الوتر حق وليس بواجب". الحديث فيه دلالة علي وجوب الوتر: "حق على كلِّ مُسْلِمٍ"، إذ معنى الحق هو الثابت، والظاهر من الثبوت هو اللزوم، فيكون واجبًا إذا لا لزوم إلا للواجب. وقد ذهب إلى هذا أبو حنيفة (¬4) والحسن بن زياد، ورواية أيضًا عن أبي حنيفة أنه فرض، وكذا عن زفر، وقد روي عن أبي حنيفة عدم الوجوب، وذهب إلى خلاف هذا العترة ومالك والشافعي (¬5)، وصاحبا أبي حنيفة والجمهور فقالوا: إنه ليس بواجب لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "خَمْسٌ في اليَوْمِ والليلة" (¬6)، ولقول علي: "الوتر ليس بحتم" (¬7)، وسيأتي، ولقوله: ¬

_ (أ) في جـ الدراقطني.

"ثلاث هن عليَّ فرائض ولكم تطوع: النحر والوتر وركعتا الضحى" (¬1)، وفي رواية أحمد (¬2): "وركعتا الفجر" بدل "ركعتا الضحى"، وفي رواية لابن عدي (¬3): "وركعتا الفجر" بدل (أ) "النَّحر". والحديث وإن كان ضعيفًا (¬4) فله متابعات يتأيد بها. ولقوله "فمن أحب": فإنه دليل عدم الوجوب، ولما في حديث ابن عمر: "كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي في السفر على راحلته حيث توجهت به يومئ إيماء صلاة الليل إلا الفرائض، ويوتر على راحلته" أخرجه البخاري (¬5)، فالإيتار على الراحلة والإخراج من حكم الفرائض دليل (ب) عدم الوجوب، وحديث أبي أيوب الأصح وقفه فلا تقوم به حجة واضحة، ويمكن حمله وكذلك حمل ما أشبهه من الأحاديث الواردة بصيغة الأمر -على تأكيد سنيته، وأنه من السنن التي ينبغي المحافظة عليها جمعًا بين الأدلة. وفي قوله: "فَمَنْ أحب أن يوتر ... " إِلخ: ظاهره التخيير بين هذه الأعداد في إحراز فضيلة أصل السنة، وإن كان الأكثر أكثر أجرم، ويدل على أنه يفعل ما ذكر من الخمس والثلاث موصولًا وسيأتي في حديث عائشة: "يوتر من ذلك بخمس لا يجلس في شيء إلا في آخرها" (¬6) [وإذا أوتر بثلاث ¬

_ (أ) في جـ: بعد. (ب) زاد في هـ: على.

فله الفصل والوصل والفصل أفضل لرواية (أ) ابن حبان في "صحيحه" (¬1) عن ابن عمر - رضي اللَّه عنهما -: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يفصل بين الشَّفْع والوتْر"، وفي "شرح المهذب" أنه يكره الوصل (¬2) لأن أحاديث الفصل أكثر ولأنه أكثر عملا، إذ يزيد بالسلام ثم التكبير والنية وغيرها. وقيل: الوَصْلُ أفضل (ب)، خروجًا من خلاف الهادوية وأبي حنيفة (¬3) فإنه لا يصح المفصول عندهم، وقال السبكي: الوَصْل مكروه، لأن الدارقطني روى حديثًا رجاله ثقات: "لا تشبهوا بصلاة المغرب" (¬4) قال الرافعي (¬5): وفي وجه الاقتصار على تشهد واحد أولى فرقًا بين صلاة المغرب والوتر، وسيأتي زيادة تحقيق لهذا إن شاء اللَّه تعالى (¬6)] (جـ). وفي قوله: "ومن أحب أنْ يوتر بواحدة .. ": ظاهره الاقتصار على ركعة واحدة، وقد روي مثل ذلك عن جماعة من الصحابة فأخرج محمد بن نصر وغيره بإسناد صحيح عن السائب بن يزيد، أن عثمان -رضي اللَّه عنه- قرأ القرآن ليلة في ركعة لم يصل غيرها (¬7)، وأخرج البخاري (¬8) أن معاوية ¬

_ (أ) في هـ: الرواية. (ب) في هامش هـ. (جـ) ما بين القوسين في قصاصة في الأصل.

أوتر بركعة، وأن ابن عباس استصوبه. وقد ذهب إلى هذا الشافعي [(أوقيل شرط الإيتار (ب) بركعة سبق نفل بعد العشاء سواء كانت راتبة العشاء أو غيرها من النوافل المطلقة ليوتر ما تقدمه (¬1). وإطلاق هذا الحديث وغيره من الأحاديث، وفعل عثمان يرد عليه، وأطنب الشافعي في "الأم" (¬2) في الرد على قائله. قال الأوزاعي: والظاهر اعتبار كون النفل السابق إذنًا فلو قضى فائتة أو غيرها من الفرائض بعد العشاء فكالعدم فيما يظهر. قال: ولم أره منقولا] (جـ) أ). 284 - وعن علي - رضي اللَّه عنه - (د) قال: "ليس الوتر بحتم كهيئة المكتوبة، ولكن سنة سنها رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -". رواه النسائي، والترمذي وحسنه و (هـ) الحاكم وصححه (¬3). ¬

_ (أ- أ) ما بينهما ساقط من هـ. (ب) في جـ: الإتيان. (جـ) ما بين القوسين في قصاصة في الأصل. (د) مثبت في جـ: "أن رسول اللَّه" وكان عليها كشط بنسخة المؤلف، وساقطة من هـ وفي النسخة المخطوطة كمتن البلوغ ولا توجد، وكذلك في السنن. (هـ) الواو ساقطة في جـ.

في الحديث دلالة على عدم وجوب الوتر، وقد تقدم. وفي قوله: "ولكن سنة سَنَّها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ": إفهام بأن ذلك اعتياد منه - صلى الله عليه وسلم - لذلك الفِعْلِ وأنه باختيار منه واجتهاده. والسنة: العادة والطريقة. 285 - وعن جابر بن عبد اللَّه -رضي اللَّه عنه- "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قام شهر رمضان، ثم انتظروه من القابلة، فلم يخرج، وقال إني خشيت أن يكتب عليكم الوتر". رواه ابن حبان (¬1). الحديث أخرجه أبو داود من حديث عائشة ولفظه: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى في المسجد، فصلى بصلاثه ناس، ثم صلى من القابلة فكثر الناس، ثم اجتمعوا من الليلة الثالثة فلم يخرج إِليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلما أصبح قال: قد رأيت الذي صنعتم ولم يمنعني من الخروج إلا أني خشيت أن يفرض عليكم، وذلك في رمضان". فيدل على أنه صَلَّى بهم ليلتين، وحديث ¬

_ (¬1) ابن حبان (موارد) بمعناه 230 ح 920، الطبراني في الصغير 108، قيام الليل، باب الأخبار الدالة على أن الوتر سنة وليس بفرض 252. والحديث فيه يعقوب بن عبد اللَّه بن سعد الأشعري أبو الحسن القمي صدوق يهم، قال النسائي: ليس به بأس، وقال الدارقطني: ليس بالقوي. التقريب 386، الخلاصة 436. وفيه أيضًا عيسى بن جارية الأنصاري المدني، قال النسائي: منكر الحديث وقال: متروك، قال ابن معين: عنده مناكير وساق الذهبي في الميزان هذا الحديث وقال: إسناده وسط اهـ. ومع ما عرفت من رواته تبين لك ضعفه، ولكن له شاهد من الصحيحين وأبي داود وغيرهم من حديث عائشة - رضي اللَّه عنها -، أبو داود 2/ 104 ح 1373، البخاري 3/ 10 ح 1129، مسلم 1/ 524 ح 177 - 671، التقريب 270، الميزان 3/ 310.

الكتاب أنه صلى بهم ليلة واحدة، [وفي رواية أحمد (¬1) أنه صلى بهم ثلاث ليالٍ، وغُصَّ المسجد بأهله في (أ) الليلة الرابعة] (ب). وفي قوله: "خشيت أن يكتب عليكم الوتر": فيه دلالة على عدم وجوب الوتر مطلقًا، وإن كان ذلك الصنع في شهر رمضان، واللَّه أعلم. 286 - وعن خارجة بن حُذُافة -رضي اللَّه عنه- قال: قال رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ اللَّه أمدَّكم بصلاةٍ هي خيرٌ لكم مِنْ حمر النعم، قلنا: وما هي يا رسول اللَّه؟ قال: الوَّتْر ما بين صلاة العشاء إِلى طلوع الفجر". رواه الخمسة إلا النسائي وصححه الحاكم (¬2). وروى أحمد عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده نحوه. هو خارجة بن حُذافة -بضم الحاء المهملة وبالذال المعجمة والفاء- القرشي العدوي: كان يعدل بألف فارس، وروي أن عمرو بن العاص استمد من عمر بثلاثة آلاف فارس فأمده بثلاثة، وهم خارجة بن حذافة، والزبير بن العوام، والمقداد بن الأسود، ولي خارجة القضاء بمصر لعمرو بن العاص، وقيل كان علىي شرطته، وعداده في أهل مصر، قتله الخارجي ظنًّا منه أنه عمرو بن العاص حين تعاقد الثلاثة على قتل عمرو ومعاوية وعلي -رضي اللَّه عنهم- وسبقت الشهادة لعلي -رضي اللَّه عنه، ¬

_ (أ) في هـ: من. (ب) في هامش الأصل.

وكرم وجهه- (أ)، ويقال: (ب) إنه قتل خارجة رجل من بني العنبر بن عمرو بن تميم، وقيل: مولى لبني العنبر، وكان قتله في سنة أربعين، وروى عنه عبد اللَّه بن أبي مرة (¬1). [والحديث ضعفه البخاري (¬2) بعدم سماع رواية بعضهم من بعض وقال: ابن حبان إسناده منقطع ومتن باطل] (¬3) (جـ). ¬

_ (أ) في هـ: وسبقت بالشهادة السعادة لعلي - عليه السلام -. وفي جـ: فنفذ أمر اللَّه في علي رضي اللَّه عنه وكرم وجهه. (ب) في جـ: وقيل. (جـ) في هامش الأصل.

في الحديث إفهام بعدم وجوب الوتر إذ الإمداد (¬1) هو الزيادة لما يقوي المديد عليه، يقال: مد الجيش وأمده إذا زاده وألحق به ما يقويه (أ) ويكثره، ومد الدواة وأمدها زادها ما يصلحها، ومددت السراج والأرض إذا أصلحتها بالزيت والسماد، والنوافل هي تكميل للفرائض، إن عرض فيها نقص كما ثبت في الحديث في "سنن أبي داود" وغيرها. وقوله "خير لكم من حمر النَّعم": خصها بالذكر لأنها الأشرف عند أربابها. وفي قوله: (ما بين صلاة العشاء ..) إلخ: تنبيه على وقتها، وأن الفاعل لها في أي ساعة من ذلك الوقت قد أجزأه ذلك وفعل بالسُّنة. 287 - وعن عبد اللَّه بن بريدة عن أبيه -رضي اللَّه عنه- قال: قال رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -: "الوتر حق، فمن لم يوتر فليس منَّا" أخرجه أبو داود (¬2) بسند لين، وصححه الحاكم، وله شاهد ضعيف عن أبي هريرة عند أحمد (¬3). هو أبو سهل عبد اللَّه بن بريدة (¬4) -بضم الباء الموحدة وفتح الراء وسكون الياء تحتها نقطتان وبالدال المهملة- ابن الحُصَيْب -بضم الحاء المهملة وفتح الصاد المهملة وسكون الياء تحتها نقطتان وبالباء الموحدة- ¬

_ (أ) في هـ: ما يقوم به.

الأسلمي، قاضي مرو، تابعيّ مِنْ مشاهير التابعين وثقاتهم. سمع أباه وسَمُرة بن جندب، وعمران بن حصين، وعبد اللَّه بن مغفل. روى عنه ابنه سهل، وحسين المكتب، وعبد اللَّه بن مسلم المروزي الأسلمي. مات بمرو، له عند المراوزة حديث كثير. الحديث فيه عبد اللَّه (أ) بن عبد اللَّه العتكي (¬1) يكنى أبا المنيب، ضعفه البخاري والنسائي، وقال أبو حاتم: صالح الحديث، ووثقه يحيى بن معين. والشاهد الذي له (ب) من حديث أبي هريرة رواه أحمد بلفظ: "من لم يوتر فليس منا"، وفيه الخليل بن مرة (¬2)، وهو منكر الحديث، وفي الإسناد انقطاع بين معاوية بن قرة وأبي هريرة كما قال أحمد (¬3). ظاهر قوله "فليس منا": أي متصل بنا، يعني من أهل طريقتنا وملتنا يدل على وجوب الوتر، ولكنه يُحْمَل علي المبالغة في تأكد (جـ) سنيته حتى يلحق بالواجب بقرينة ما تدل على عدم الوجوب كما تقدم، واللَّه أعلم. 288 - وعن عائِشَة -رَضِيَ اللَّه عَنْهَا- قالت: "ما كان رسول الله ¬

_ (أ) في جـ: عبد اللَّه، وهو خطأ. (ب) ساقطة من هـ. (جـ) في جـ: تأكيد.

- صلى الله عليه وسلم - يزيدُ في رمضان ولا في غيره على إِحدى عشرة ركعة، يصلِّي أربعًا فلا تسأل عن حسنِهنَّ وطُولِهِنَّ، ثمَّ يصلي أربعًا فلا تسأل عن حُسنهنَّ وطُولِهِنَّ، ثم يصَلي ثلاثًا. قالت عائشة رضي اللَّه عنها: فقلت يا رسول اللَّه: أتنام قبل أن توترَ؟ قال: يا عائشة إِن عينيَّ تنامان، ولا ينام قلبي". متفق عليه (¬1). وفي رواية لهما عنها: "كان يصلي من الليل عشرَ ركعاتٍ، ويوتر بِسَجْدةٍ ويركع ركعتي الفجر، فتلك ثلاث عشرة ركعة" (¬2). وعنها قالت: "كان رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - يصلي من الليل ثلاث عشرة ركعة، يوتر من ذلك بخمس، لا يجلس في شيء إلا في آخرها" (¬3). وعنها قالت: من كل الليل قد أوتر رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -، فانتهى وتره إلى السَّحر". متفق عليه (¬4). قولها: "ما كان يزيد في رمضان .. " إلخ: فيه دلالة على أن صلاته - صلى الله عليه وسلم - كانت متساوية في جميع السنة. واعلم أن حديث عائشة - رضي اللَّه عنها - لصفة صلاته - صلى الله عليه وسلم - اختلف ¬

_ (¬1) البخاري، كتاب صلاة التراويح، باب فضل من قام رمضان 4/ 251 ح 2013، مسلم، كتاب صلاة المسافرين، باب صلاة الليل وعدد ركعات النبي - صلى اللَّه عليه وسلم - في الليل وأن الوتر ركعة 1/ 509 ح 125 - 738، أبو داود، باب في صلاة الليل 2/ 86 ح 1341، الترمذي، الصلاة، باب ما جاء في وصف صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - بالليل 2/ 302 ح 439، النسائي، كتاب قيام الليل وتطوع النهار، باب كيف الوتر بثلاث 3/ 192. (¬2) مسلم 1/ 510 ح 127 - 738 م، البخاري 3/ 20 ح 1140. (¬3) مسلم 1/ 508 ح 123 - 737. (¬4) البخاري 2/ 486 ح 996، مسلم 2/ 511 ح 136 - 745.

في العدد لركعاته وكيفيتها، حتى إن بعضهم (¬1) نسب حديثها إلى الاضطراب، وهذا إنما يتم لو كان إخبارها عن وقت واحد، وليس كذلك بل ما روته فهو محمول على أوقات متعددة وأحوال مختلفة بحسب النشاط وبيان الجواز، فقد روي ما ذُكر هنا وقد روي من حديث مسروق: "سبع وتسع وإحدى عشرة سوى ركعتي الفجر" (¬2)، وفي رواية مسلم من هذا الوجه: "كان صلاته عشر ركعات، ويوتر بسجدة، ويركع ركعتي الفجر، فتلك ثلاث عشرة" (¬3)، ورواية: "يصلي من الليل ثلاث عشرة"، وفيها زيادة: "ثم يصلي إذا سمع النداء بالصبح ركعتين خفيفتين" (¬4) يدل على أن صلاته ثلاث عشرة ركعة في الليل، وهي رواية الزهري (¬5) عن عروة عن عائشة، فيحتمل أنها أضافت (أ) إلى الإحدى عشرة ما كان يفتتح به صلاته من الركعتين الخفيفتين، وقد ثبت هذا في "صحيح مسلم" (¬6)، ويدل على هذا ما ذكر في الرواية: "يصلي أربعًا"، ثم قالت: "ويصلي (ب) أربعًا"، فلم يتعرض لركعتي الافتتاح في هذه الرواية، وتعرض لها في رواية ¬

_ (أ) في جـ: إضافة. (ب) في هـ: وثم يصلي.

الزهري والزيادة من الحفاظ مقبولة، والجمع بين الروايات هو الواجب مهما أمكن (أ) وأيضًا ويتأول ما قد ثبت أنه كان يصلي بعد الوتر ركعتين بأنهما ركعتا الفجر، ويؤيد هذا المذكور ما وقع عند أحمد وأبي داود من رواية عبد اللَّه بن [أبي] (ب) قيس: "كان يوتر بأربع وثلاث وست، وثلاث وثمان، وثلاث وعشر، ولم يكن يوتر بأكثر من ثلاث عشرة ولا أنقص من سبع" (¬1). قال الحافظ المصنف (¬2) -رحمه اللَّه-: وهذا أوضح ما وقفت عليه من ذلك ويجمع به بين ما اختلف. واللَّه أعلم. [وقولها "فلا تسأل عن حسنهن وطولهن": يعني في غاية من كمال الحُسْنِ والطول مستغنيات بظهور حسنهن وطولهن عن السؤال"] (جـ). وقولها: "من كل الليل .. " إلى آخره: فيه دلالة على التوسعة في وقت الوتر، وانتهاء وتره إلى السَّحَر لا يلزم منه أنه لا يصح الوتر قبيل (د) طلوع الفجر إذ لا دلالة على ذلك. واعلم أن الحكمة في عدم الزيادة على إحدى عشرة أنَّ التهجد والوتر مختص بصلاة الليل. وفرائض النهار، الظهر أربع، والعصر أربع، والمغرب ثلاث وهي وتر النهار، فناسب أن يكون صلاة الليل كصلاة النهار في العدد، وأما مناسبة ثلاث عشرة فإذا ضم ركعتا الفجر إلى صلاة النهار. واللَّه أعلم. ¬

_ (أ) الواو ساقطة من هـ. (ب) في النسخ عبد اللَّه بن قيس، والتصحيح من أبي داود وأحمد. (جـ) بهامش الأصل. (د) في جـ: قبل.

289 - وعن عبد اللَّه بن عمرو بن العاص -رضي اللَّه عنه- قال: قال رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -: "يا عبدَ اللَّه لا تكنْ مثلَ فُلان، كان يقوم من (أ) الليل فَتَرَكَ قيامَ الليل". متفق عليه (¬1). قوله "مثل فلان": يحتمل أن تكون الكناية عنه بفلان، وقع من النبي - صلى الله عليه وسلم - للسَتْرِ عليه، ويحتمل أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - قد سماه باسمه، وكان الستر من عبد اللَّه. وفيه دلالة على أنَّ أحب العمل أدومه، واللَّه أعلم. 290 - وعن علي -رضي اللَّه عنه- قال: قال رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -: "أوْتِروا يا أهلَ القرآن، فإِن اللَّه وِتر يحب الوتر" رواه الخمسة وصححه ابن خزيمة (¬2). ¬

_ (أ) ساقطة من جـ، وفي مسلم كذلك.

المراد بأهل القرآن: المؤمنون الذين صدَّقوا القرآن، وخاصة من يتولى بحفظه وتلاوته ومراعاة حدوده وأحكامه. وقوله: "فإِن اللَّه وتر". قال في "النهاية" (¬1): أي واحد في ذاته لا يقبل الانقسام ولا التجزئة واحد في صفاته لا شبه له ولا مثل، واحد في أفعاله لا شريك له ولا معين. وقوله: "ويحب الوتر". أي يُثيْب عليه ويقبل من عامله، وقال القاضي: كلما ناسب الشيء أدنى مناسبة كان أحب إليه مما لم تكن له تلك المناسبة. 291 - وعن ابن عمر - رضي اللَّه عنهما - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "اجعَلوا آخرَ صَلاتِكُمْ باللَّيْلِ وِتْرًا". متفق عليه (¬2). قد استدل به من يوجب (أ) الوتر، وهو متأوَّل بما تقدم. 292 - وعن طَلْق بن علي -رضي اللَّه عنه- سمعت رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - يقول: "لا وتْرَانِ في ليلة" رواه أحمد والثلاثة، وصححه ابن حبان (ب) (¬3). ¬

_ (أ) في جـ: أوجب. (ب) في هـ: وابن حبان وصححه.

أخرجوه من حديث قيس بن طلْق عن أبيه، وقال الترمذي: حسن، وقال عبد الحق وغيره بصحته، وأصل الحديث في "سنن أبي داود"، قال قيس: زارنا طلق بن علي في يوم من رمضان، وأمسى عندنا، وأفطر، ثم قام تلك الليلة، وأوتر بنا ثم انحدر إلى مسجده فصلى بأصحابه حتى إذا بقي الوتر قَدَّم رجلًا فقال: أوتِر بأصحابك، فإني سمعت رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - يقول: لا وتران في ليلة". الحديث يدل على أن مَنْ أوْتر في الليل فلا ينقض وتره (¬1) إذا صلى بعد ذلك شفعًا، ولا يحتاج إلى إعادة وتر، وقد اختلف السلف في ذلك في موضعين: أحدهما في مشروعية ركعتين بعد الوتر عن جلوس، والثاني من أوتر ثم أراد أن يتنفل في الليل هل يكتفى بوتره الأول ويتنفل ما شاء أو يشفع وتره بركعة، ثم يتنفل، ثم إذا فعل هل يحتاج إلى وتر آخر أو لا؟ أما الأول فوقع عند مسلم (¬2): "كان يصلى ركعتين بعد الوتر وهو جالس" وقد ذهب إليه بعضُ أهل العلم، وجعلوا الأمر في قوله: "اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وترًا"، مختصًا بمن (أ) أوتر آخر الليل، وأجاب مَنْ لم ¬

_ (أ) في جـ: لمن.

يقل بذلك بأن الركعتين هما ركعتا الفجر. وأجاب النووي بأن فعله لهما لبيان جواز النفل بعد الوتر والصلاة قاعدًا (¬1). وأما الثاني وهو عدم نقض الوتر فقد ذهب إليه جمهور السلف (¬2)، وقد روي عن عبد اللَّه بن عمر أنه كان ينقض الوتر، فيوتر من أول الليل، فإذا قام يتهجد صلى ركعة يشفع بها تلك، ثم يوتر من آخر الليل، أخرجه الشافعي (¬3) عن مالك عن نافع بهذا وروى محمد بن نصر (¬4) من طريقٍ أخرى أنه سُئل (أ) ابن عمر عن ذلك فقال: إذا كنت لا تخاف الصبح ولا النوم (ب) فاشْفع، ثم صلِّ ما بدا لك ثم أوْتِرْ، وإلا فَصَلِّ على وترك الذي كنتَ أوترت، ومن طريق أخرى عن ابن عمر أنه سُئِلَ عن ذلك فقال: "أما أنا فأصلي مثنى فإذا انصرفت ركعت واحدة"، فقيل (ب): أرأيت إن أوترت قبل أن أنام ثم قمت من الليل فشفعت حتى أصبح؟ قال: "ليس بذلك بأس". وهذا فيه دلالة على صحة صلاة ركعة واحدة (د)، وقد قال به الشافعي ¬

_ (أ) في جـ وهـ: سأل. (ب) ساقطة من جـ. (جـ) في جـ: قيل. (د) ساقطة من جـ.

والجمهور (¬1)، ومنع منه الهادي وغيره من أهل البيت والحنفية (¬2). 293 - وعن أُبَي بن كعب -رضي اللَّه عنه- قال: "كان رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - يوتر بسبِّح اسم ربك الأعلى وقُل يا أيها الكافرون، وقل هو اللَّه أحدْ". رواه أحمد وأبو داود والنسائي وزاد: "ولا يسلِّم إِلا في آخرهن" (¬3). ولأبي داود والترمذي نحوه عن عائشة وفيه: "كل سورة في ركعة، وفي الأخيرة قل هو اللَّه أحد والمعوذتين" (¬4). حديث عائشة في إسناده لِين لأن فيه خصيف (¬5) الجزري (أ)، ورواه ¬

_ (أ) في جـ وهـ: الحروى.

الدارقطني وابن حبان والحاكم (¬1) من حديث يحيى بن سعيد عن عمرة عن عائشة، وتفرد به يحيى بن أيوب عنه، وفيه مقال، ولكنه صدوق (¬2)، وقال العقيلي (¬3): إسناده صالح ولكن حديث أُبَيّ بن كعْب -وهو مرويّ عن ابن عباس (¬4) بإسقاط المعوذتين- أصح، وقال ابن الجوزي: أنكر أحمد ويحيى بن معين زيادة المعوذتين وروى ابن السكن في "صحيحه" له شاهدًا من حديث عبد اللَّه بن سرجس بإسنادٍ غريب. في الحديث دلالة على شرعية الوتر بثلاث لا على تعين ذلك، لما قد ثبت من الأحاديث كما تقدم، وذهب الهادي والقاسم وغيرهما من الأئمة والحنفية إلى تعين الوتر في الثلاث بهذا الحديث وأنها تصلى أيضًا موصولة (¬5)، قالوا: ولأن الصحابة أجمعوا على أن الوتر بثلاث موصولة جائز واختلفوا فيما عداه، فالأخذ به أخذ بالإجماع. ورد عليهم بأن الإجماع غير صحيح بما أخرجه محمد بن نصر من حديث أبي هريرة مرفوعًا وموقوفًا لا توتروا بثلاث لتشبهوا بصلاة المغرب" (¬6) وقد صححه الحاكم (¬7) من طريق عبد اللَّه بن الفضل، وإسناده على شرط الشيخين، ¬

_ (¬1) الدارقطني 2/ 34 - 35، ابن حبان (موارد) 175 ح 675، الحاكم 1/ 305. (¬2) يحيى بن أيوب الغافقي المصري أبو العباس عالم أهل مصر، مر في ح 59. (¬3) قلت: كلام العقيلي في الضعفاء بعد أن ذكر إسناد الحديث والقراءة في الركعات، قال: وأما المعوذتين فلا يصح 4/ 392. (¬4) الترمذي 2/ 325 ح 462، النسائي 3/ 194، ابن ماجه 1/ 371 ح 1172، أحمد 1/ 300. (¬5) تقدم الكلام على هذه المسألة في ح 283. (¬6) مر في ح 283. (¬7) من حديث أبي هريرة 175 ح 680، الحاكم 1/ 304.

وقد صح ابن حبان والحاكم (¬1) من طريق مقسم عن ابن عباس وعائشة كراهية الوتر بثلاث، وأخرج النسائي عن سليمان بن يسار أنه كره الثلاث في الوتر، وقال: لا يشبه التطوع الفريضة، فهذه الآثار تقدح في الإجماع. واعلم أنه قد يُجَاب عن مشابهتها للمغرب بأن يصلي ثلاثا يتشهد بتشهد واحد في آخرها [كما أخرج أحمد والنسائي والبيهقي والحاكم من رواية عائشة (¬2)، ولفظ أحمد: "كان يوتر بثلاث لا يفصل بينهن"، ولفظ الحاكم: "لا يقعد إلا في آخرهن"] (أ) وكما روى محمد بن نصر من طريق الحسن أن عمر كان ينهض في الثالثة من الوتر بالتكبير (¬3). ومن طريق المسور بن مخرمة: أن عمر أوتر بثلاث لم يسلم إلا في آخرهن. ومن طريق ابن طاوس عن أبيه: أنه كان يوتر بثلاث لا يقعد بينهن، ولعل من روي عنه من الصحابة أنه قعد بين الثلاث لم يبلغه النهي، وهم ابن مسعود وأنس وأبو العالية كما أخرجه محمد بن نصر (¬4) عنهم. [وأما ما رواه الدارقطني عن ابن مسعود قال: قال رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -: "وِتْر الليل ثلاث كوتر النهار، صلاة المغرب" فقد قال الدارقطني (¬5): تفرد به ¬

_ (أ) في هامش الأصل وفيه بعض المحو واستدركته من نسخة هـ.

يحيى وهو ضعيف، وقال البيهقي: الصحيح وقفه على ابن مسعود، وأخرجه الدارقطني (¬1) من حديث عائشة، وفيه إسماعيل بن مسلم المكيّ، وهو ضعيف) (أ). واللَّه أعلم. 294 - وعن أبي سعيد الخدري -رضي اللَّه عنه- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "أوتروا قبل أن تصبحوا". رواه مسلم (¬2). ولابن حبان: "من أدرك الصُّبْحَ، ولم يوتر، فلا وِترَ له" (¬3). وعنه قال: قال رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ نَامَ عن الوتْر أو نَسِيه فليُصَلِّ إِذا أصبحَ أو ذَكرَ". رواه الخمسة إلا النسائي (¬4). في قوله: "أوتروا قبل أن تصبحوا": دلالة على أن وقت الوتر قبل الإصباح. وقوله: "فلا وتر له": دليل على خروج الوقت، وأما أنه لا يصح قضاؤه فلا، إذ المقصود (ب) المبالغة في تركه متعمدًا، وأنه قد فاتته السنة ¬

_ (أ) ما بين القوسين في هامش الأصل، وفيه بعض المحو واستدركته من نسخة هـ. (ب) هـ: المقصود به.

العظمى حتى إنه لا يمكنه تداركه، وقد حكى ابن المنذر عن جماعة من السلف أن الذي يخرج بالفجر وقته الاختياري ويبقى وقت الضرورة إلى قيام صلاة الصبح وحكاه القرطبي (¬1) عن مالك والشافعي وأحمد ولكنه قول قديم للشافعي، وقال ابن قدامة (¬2): لا ينبغي لأحد أن يتعمد ترك الوتر حتى يُصْبِحَ، واختلف السلف في مشروعية قضائه، فقال الأكثر: لا يقضى (¬3)، وقال الأوزاعي وسفيان الثوري: إنه يقضى ولو بعد صلاة الفجر، وهو ظاهر قوله: "إِذا أصبح أو ذكر" وذهب إلى هذا أهل الرأي أيضًا وجماعة من الأئمة. [قال ابن التين: اختلف في الوتر في (أ) سبعة أشياء (¬4): في وجوبه وعدده واشتراط النية واختصاصه بقراءة واشتراط شفع قبله وأخر وقته، وصلاته في السفر على الدابة. زاد المصنف -رحمه اللَّه تعالى (¬5) -: وفي قضائه، والقنوت فيه، ومحل القنوت منه، وما يُقَال فيه، وفصله، ووصله، وهل يسن ركعتان بعده، وجوازه قاعدًا في (ب) أول وقته، وكونه أفضل من الرواتب] (جـ). ¬

_ (أ) في هـ: من. (ب) في هـ: و. (جـ) بهامش الأصل وفيه بعض المحو واستدركته من نسخة هـ.

واعلم إنهم أجمعوا على أن وقت الوتر (¬1) ممتد من مغيب الشفق بعد صلاة العشاء إلى طلوع الفجر، ونقل ابن المنذر عن بعضهم أنه يدخل بدخول وقت العشاء، وللخلاف فائدة فيمن صلى العشاء وبان أنه على غير طهارة، ثم صلى الوتر، وقد تطهر، وكذا فيمن قد ظن أنه صلى العشاء، فصلى الوتر، ثم بان له عدم الصلاة فإنه يجزئه على هذا القول دون الأول، واللَّه أعلم. 295 - وعن جابر -رضي اللَّه عنه- قال: قال رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -: "من خاف أن لا يقوم من آخر الليل فليوتر أوله، ومن طمع أن يقوم آخره فليوتر آخر الليل، فإِن صلاة آخر الليل مشهودة، وذلك أفضل". رواه مسلم (¬2). في الحديث دلالة على أنه ينبغي الاحتياط في أداء الطاعات، ولذلك إنه إذا خاف فوات الوتر أداه في أول الوقت، وإن وثق من نفسه بالقيام آخر الليل كان التأخير أفضل، وقد روي اختلاف الحالين عن جماعة من الصحابة - رضي اللَّه عنهم. وقوله: "فإِن الصلاة آخر الليل مشهودة": أي تشهدها ملائكة الليل والنهار، ويشهدها كثير من المصلين في العادة. 296 - [وعن ابن عمر -رضي اللَّه عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إِذا طلعَ الفجر فقد ذهب كلُّ صلاةِ اللَّيل، والوِتْرِ، فأوتِرُوا قبل طلوع الفجر". ¬

_ (¬1) المغني (وَلَمْ يَحْكِ الإجماع) 2/ 161 - 162، المجموع 3/ 468. (¬2) مسلم، صلاة المسافرين وقصرها، باب من خاف أن لا يقوم من آخر الليل فليوتر أوله 1/ 520 ح 162 - 755، أحمد (نحوه) 3/ 389، البيهقي، الصلاة، باب الاختيار في وقت الوتر وما ورد من الاحتياط في ذلك 3/ 35، ابن خزيمة، باب ذكر الخبر المفسر للفظين إلخ 2/ 146 ح 1086.

رواه الترمذي (¬1). تقدم الكلام في هذا الحكم، وتأويل الحديث] (أ). 297 - وعن عائشة - رضي اللَّه عنها - قالت: "كان النبي - صلى اللَّه عليه وسلم - يصلي الضُّحى أرْبَعًا، ويزيد ما شاء اللَّه". رواه مسلم (¬2). وله عنها: "أنها سئلت: هل كان رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - يصلي الضُّحى؟ قالت: لا، إِلا أن يجيء من مغيبه" (¬3). وبه عنها: "ما رأيت رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - يصلِّي سبْحَة الضُّحى قَطُّ، وإني لأسَبّحها" (¬4). اعلم أن ظاهر الروايات عن عائشة - رضي اللَّه عنها - مختلفة متنافية في دلالتها على شرعية صلاة الضحى، وعدم ذلك، وقد جمع بينهما بأن قولها: كان يصلي الضحى أربعًا ويزيد ما شاء اللَّه يدل على وقوع ذلك منه، ولا يلزم منه المداومة لأن كان لا يدل على ذلك كما هو ¬

_ (أ) مثبت بهامش الأصل، وفيه محو من التصوير واستدركته من نسخة هـ.

الصحيح ولا يلزم منه رؤيتها لذلك الفعل، بل يجوز أن يكون ثبت لها برواية. وقوله: "لا إلا أنّ يجيئ من مغيبه": مطابق للإثبات المطلق في الحديث الأول، فالوقت الذي فعل فيه في الرواية محمول على أنه الوقت الذي جاء فيه من مغيبه. [ومغيبه بفتح الميم وكسر المعجمة وتنوين آخره أي من غيبة من السفر] (أ). وقولها: "ما رأيت رسول اللَّه .. " إِلخ: لا ينافى ذلك لما ذكرنا أنه يجوز أن يكون ذلك ثبت لها بالرواية دون الرؤية، ويحتمل أيضًا أن يكون فعلها في وقت المجيء من مغيبه وقع بمشاهدتها، والوقت الذي نفت فيه الرؤية وأثبتت فيه الفعل لم يكن بمشاهدتها وإنما هو ثبت بالنقل، ويكون في ترك المداومة منه على (ب) الفِعْلِ تخفيف لأمته خشية أن تفرض عليهم (¬1)، ولا بُعْدَ في عدم رؤيتها لفعله، فإن ذلك الوقت ليس من الأوقات التي تعتاد الخلوة فيه بالنساء، وأيضًا فإنما كان لها يوم من تسعة أيام. وأما ما صح عن ابن عمر أنها بدعة (¬2) فمحمول على أن صلاتها في المساجد وإظهارها كما كانوا يفعلونه بدعة، أو يريد بدعة المواظبة عليها في ¬

_ (أ) في هامش الأصل. (ب) زاد في جـ: ذلك.

حقنا كما في حديث أبي هريرة وأبي الدرداء (¬1). وفي قولها: "أربعًا ويزيد ما شاء اللَّه": دليل على عدم الاقتصار على حد معلوم، فإن الصلاة خير موضوع، وأقلها ركعتان، وأكملها ثمان ركعات، وأوسطها أربع ركعات أو ست وسيأتي في حديث أنس اثنتا عشرة ركعة (¬2). وقولها: "سُبْحَة": بضم السين وإسكان الباء الموحدة، أي نافلة الضحى. وقولها: "أسبحها": بالباء الموحدة، كذا في رواية مسلم وهو التسبيح، أي أفعلها وفي "الموطأ" (¬3) "لأستحبها" بالتاء المثناة من فوق من الاستحباب قال القرطبي (¬4): والأول أولى. واعلم أنه وقع الاختلاف (أ) في المواظبة عليها وعدمه، الظاهر الأول لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "أحبُّ الأعمال إلى اللَّه ما داومَ عليه صاحبه وإنْ قَلَّ"، وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة: "أوصاني (ب) خليلي بثلاث .. " الحديث، ¬

_ (أ) في هـ: اختلاف. (ب) في جـ: وصاني.

وذهب طائفة إلى الثاني لما ورد من حديث عائشة من عدم المحافظة عليها. والجواب عنه: أن ذلك لخشية أن تفرض وقد زال ذلك في حقنا، واللَّه أعلم. وقيل في حديث أبي هريرة: إنما كان التوصية له بالمحافظة عليها، لما علم من حاله من عدم قيام الليل لاشتغاله بحفظ العلم، فكانت الضحى في حكم الجائزة لما فاته من فضل صلاة الليل، واللَّه أعلم. 298 - وعن زيد بن أرقم -رضي اللَّه عنه- أن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - قال: "صلاة الأوابين ترمض الفصال". رواه الترمذي (¬1). قوله: "الأوابين": جمع أواب (أ)، الأواب: وهو الراجع إلى اللَّه تعالى بترك المعاصي، وفعل الخيرات. وقوله: "ترمض" بفتع الميم، مِنْ رمضت (¬2) بكسر الميم: أي تحترق من الرمضاء وهو شدة حَرِّ الأرض، من وقع الشمس على الرمل وغيره، أي إذا وجد الفصيل حر الشمس، وذلك يكون عند ارتفاع الشمس، وتأثيرها الحر في الرمل. وفي هذا إثبات لشرعية النافلة في الوقت المذكور، ولا يلزم منه نفي صلاة الضحى كما يدل عليه أول الحديث، وهو أنه رأى قومًا يصلون من الضحى فقال: "لقد علموا أن الصلاة في غير هذه الساعة أفضل. إن ¬

_ (أ) في هـ: الأواب.

رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - قال .. " الحديث، لأنه إنما أراد أن الأفضل أن لا يبادر بها بعد ارتفاع الشمس، وإنما يؤخر حتى ترتفع الشمس ويزداد حرها [وقد تقدم ذكر هذه الصلاة في هذا الباب] (أ) واللَّه أعلم. والفصيل: وَلَدُ الناقة، سُمي بذلك لأنه يفصل عن أمه (¬1). 299 - وعن أنس -رضي اللَّه عنه- قال: قال رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -: "من صَلى الضُّحى اثْنَتَي عشرة رَكعَة بَنى الله قَصْرًا فِي الجنَّة". رواه الترمذي واستغربه (¬2). قال المصنف -رحمه اللَّه-: وإسناده ضعيف (¬3)، وفي الباب عن أبي ذر رواه البيهقي (¬4) وعن أبي الدرداء رواه الطبراني (¬5)، وإسنادهما ضعيفان. في الحديث دلالة على أنها تنتهي إلى هذا العدد لإحراز هذه الفضيلة، ولكن الحديث ضعيف، إلا أنه قد يستشهد له بحديث أم حبيبة في مسلم (¬6): "ما من عبد مُسْلِمٍ يصلّي في يوم ثنتي عشرة ركعة تطوعًا غير ¬

_ (أ) بهامش الأصل وساقطة من جـ.

فريضة، إلا بنى اللَّه له بيتًا في الجنة". وأما كون الضحى لا يكون أكثر فلا يدل عليه. 300 - وعن عائشة - رضي اللَّه عنها - قالت: "دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيتي فَصَلَّى الضحى ثماني رَكعَاتٍ". رواه ابن حبان في "صحيحه" (¬1). في الحديث دلالة على وقوع ذلك العدد المعين منه - صلى الله عليه وسلم - وقد عرفت الجمع بين الإثبات والنفي في رواية عائشة، وهذا لا يدل على أنها رأت منه (أ) الصلاة بل يجوز أن يكون ذلك ثبت لها برواية، ولا بعد (ب) في ذلك وإن كان في بيتها لجواز غفلتها في ذلك الوقت فلا منافاة، والجمع ما أمكن هو الواجب، واللَّه أعلم. [اشتمل هذا الباب على سبعة وأربعين حديثًا] (جـ). ¬

_ (أ) زاد في هـ: صلى اللَّه عليه وآله وسلم. (ب) في هـ: ولا يبعد. (جـ) في هامش الأصل.

باب صلاة الجماعة والإمامة

باب صلاة الجماعة والإمامة 301 - عن عبد اللَّه بن عمر - رضي اللَّه عنهما - أن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - قال: "صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة". متفق عليه (¬1). ولهما عن أبي هريرة -رضي اللَّه عنه-: "بخمسة وعشرين جزءًا" (¬2). وكذا للبخاري عن أبي سعيد -رضي اللَّه عنه- وقال: "درجة" (¬3). قوله: "صلاة الفذ": هو بالفاء والذال المعجمة الفرد: يقال: فذ الرجل من أصحابه إذا بقي وحده (¬4). وقوله: "سبع (أ) وعشرين درجة": إلخ، قال الترمذي (¬5): عامة مَنْ رواه قالوا: "خمسًا وعشرين" إلا ابن عمر فإنه قال: "سبعًا وعشرين"، وعنه ¬

_ (أ) في جـ: بسبع.

رواية كالباقين (¬1)، وهم: أبو سعيد وأبو هريرة وابن مسعود وأنس وعائشة وصهيب ومعاذ وعبد اللَّه بن زيد وزيد بن ثابت ولأُبي بن كعب: أربع أو خمس على الشك (¬2)، ولمسلم عن ابن عمر (¬3): "بضع وعشرين" فقيل الخمس أرجح لكثرة رواتها، وقيل: السبع لأنها زيادة من عدل حافظ، وقيل: يجمع بأنه (أ) أعلم أولًا بالخمس، ثم أخبر بزيادة الفضل، وتُعقِّب بأنه يحتاج إلى التاريخ وبأن دخول النَّسْخ في الفضائل مختلف فيه، وقد يقال: إن مفهوم العدد في قوله: "خمس" غير معمول به لظهور التصريح بالزيادة، فالخمس لا ينافي السبع لدخولها تحت مفهومها، وقيل: تحمل السبع على المصلي في المسجد والخمس على غيره، وقيل السبع على بعيد المسجد والخمس على قريبه، وقيل: السبع على الجهرية والخمس على السرية. ¬

_ (أ) زاد في جـ: يعني النبي - صلى اللَّه عليه وسلم -.

قال المصنف (¬1) -رحمه اللَّه-: وهذا أوجهها. ثم الحكمة في هذا العدد الخاص لا تدرك حقيقتها، بل هي من علوم النبوة التي تقصر علوم الأولياء عن الوصول إليها وقد خاض الأئمة في إبداء مناسبات لذلك، ومن لطيفها قول البلقيني: لما كان أقل الجماعة غالبًا ثلاثة (أحتى تتحقق صلاة كل واحد في جماعة، وكل منهم أتي بحسنة والحسنة بعشرة، يحصل أ) من جميع ما أتوا به ثلاثون فاقتصر في الحديث على الفضل الزائد وهو سبعة وعشرون دون الثلاثة التي هي أصل ذلك. وقال ابن الجوزي: خاض قومٌ في تعيين الأسباب المقتضية للدرجات المذكورة. قال الحافظ المصنف -رحمه اللَّه-: وقد نقحتها (ب) (¬2) وهذبتها، فأولها: إجابة المؤذن بنية الصلاة في الجماعة، و (جـ التبكير إليها في أول الوقت، والمشي إلى المسجد بالسكينة (د)، ودخول المسجد داعيًا جـ)، وصلاة التحية عند دخوله كل ذلك بنيّة الصلاة في الجماعة، وانتظار الجماعة، وصلاة الملائكة عليه، وشهادتهم له، وإجابة الإقامة، والسلامة من ¬

_ (أ- أ) ما بين القوسين بهامش هـ. (ب) في هـ: نفتحها. (جـ- جـ) في هامش هـ (د) زاد في هـ: والوقار.

الشيطان حين يفر عند الإقامة، والوقوف منتظرًا إحرام الإمام، وإدراك تكبيرة الإحرام معه، وتسوية الصفوف، وسد فرجها، وجواب الإمام عند قوله: "سمع اللَّه لمن حمده"، والأمن من السهو غالبًا، وتنبيه الإمام إذا سها، وحصول الخشوع والسلامة مما يلهي غالبًا وتحسين الهيئة غالبًا، واحتفاف الملائكة به، والتدرب على تجويد القراءة، وتعلم الأركان والأبعاض، وإظهار شِعَار الإسلام، وإرغام الشيطان بالاجتماع على العبادة، والتعاون على الطاعة، ونشاط المتكاسل، والسلامة من صفة النفاق، ومن إساءة الظن به أنه ترك الصلاة، ونية رد السلام على الإمام، والانتفاع باجتماعهم على الدعاء والذكر، وعود بركة الكامل على الناقص، وقيام نظام الألفة بين الجيران، وحصول تعاهدهم في أوقات الصلاة، فهذه خمس (أ) وعشرون خصلة ورد في كل منها أمر أو ترغيب، وبقي أمران يختصان (ب) بالجهرية وهما: الإنصات عند قراءة الإمام والاستماع لها، والتأمين عند تأمينه ليوافق تأمين الملائكة، وبهذا يترجح (جـ) أن رواية السبع تختص بالجهرية (¬1). وقوله "درجة"، وفي رواية: "جزء" (¬2)، وقد ورد في رواية: "ضِعْفًا" (¬3)، ¬

_ (أ) في جـ: خمسة. (ب) في جـ: أثران مختصان. (جـ) في جـ: يرجح.

وفي رواية: "خمسًا وعشرين من صلاة الفذ"، وفي رواية: "أفضل من خمس وعشرين صلاة يصليها وحده"، المراد من ذلك أنه يحصل له بالصلاة في جماعة مثل ثواب ما لو صلى تلك الصلاة بعينها منفرد، سبعًا وعشرين مرة، ويؤيد هذا أن في رواية أحمد: "أفضل من خمس وعشرين صلاة يصليها وحده كلها مثل صلاته" (¬1)، وزاد أبو داود وابن حبان: "فإن صلاها في فلاة فأتم ركوعها وسجودها بلغت خمسين صلاة" (¬2). قال المصنف -رحمه اللَّه- وكأن السر في ذلك أن الجماعة لا تتأكد في حق المسافر لوجود المشقة، واستشكل بأنه يلزم عليه زيادة ثواب المندوب على الواجب، ويجاب بأن الثواب مرتب على الفرض وصفته من (أ) صلاة الجماعة فلا يلزم من ذلك ما ذكر. وقد روى ابن أبي شيبة عن ابن عباس (¬3) قال: "فضل صلاة (ب) الجماعة على صلاة المنفرد خمس وعشرون (جـ) درجة فإن كانوا أكثر فعلى عددهم في المسجد، فقال رجل: وإن كانوا عشرة آلاف، قال: نعم"، وهذا موقوف له حكم الرفع (د). ¬

_ (أ) في جـ: في. (ب) ساقطة في جـ. (جـ) في هـ: بخمس وعشرين. (د) في هامش جـ، هـ: وقد نظم بعضهم السبع والعشرين حيث قال: =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = قد نقح القول في أسباب ما فضلت ... به الجماعة بالتنصيص في السنن منها إجابة تأذين بنيتها ... ثم البكور إليها أول الزمن (أ) ثم السكينة في مشي لمسجدها ... ثم الدخول بدعوات على وهن ثم التحية للناوي الدخول لها ... والانتظار لها وقتًا من الزمن وبعد ذاك صلاة من ملائكة ... معًا شهادتهم للفعل ذا الحسن ثم الإجابة للداعي المقيم لها ... مع سلامة شيطان يفر عني (1) ثم الوقوف لإحرام الإمام وإد ... راكٍ لتكبيرة (ب) في صفة الحسن كذا (جـ) مساواة صف لا ائتلام به ... وحامدًا عند تسميع لذي المنن ثم الأمان لسهو غالبًا معها ... تنبيه من أمَّه للسهو من محن وسالمًا غالبًا من لهوه معها ... ثم الخشوع بها (د) كالواله الحزن ثم الجماعة تقضي حسن هيئة ... في غالب الحال لا تخلو عن الحسن ثم الملائك إذ حفت بصاحبها ... ثم التدرب للتجويد والسنن بها التعلم للأركان جامعة ... بها ظهور شعار الدين في علن قد أرغم الرجس حين الاجتماع لها ... تعاونًا في عبادات على قرن ثم النشاط لكسلان سلامته ... من وصفه بنفاق خاسر يهن ومن إساءة ظن أن (هـ) يظن به ... ترك الصلاة وما في ذاك من محن ونية منه للرد السلام على ... إمامه بعد تسليم على سنن والانتفاع بجمع للدعاء معًا ... والذكر في حالة ناهيك من حسن وعود كاملهم في جبر ناقصهم ... تبركا خيره قد فاض في الدمن نظام ألفة جيران يقوم بها ... معًا (و) تعاهدهم في وقتها الحسن (ز) وزيد في الجهر إنصات لمستمع ... والاستماع كما قد جاء في السنن كذاك تأمين مؤتم موافقة ... إمامه ولأملاك من المنن عشرون من بعدها سبعة مفصلة ... فالحمد لله منجينا من الحزن

302 - عن أبي هريرة -رضي اللَّه عنه- أن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - قال: "والذي نفسي بيده، لقد هَمَمْت أن آمرَ بِحَطَبٍ فَيُحْتَطب، ثم آمرَ بالصلاة فَيُؤذَّن لها، ثم آمر رجلًا فيؤم النَّاس، ثم أخالف إِلى رجالٍ لا يشهدون الصلاة: فأحرق عليهم بيوتهم، والذي نفسي بيده، لو يعلم أحدُهم أنه يجد عَرْقًا سمينًا، أوْ مرْمَاتَيْنِ حَسَنَتَين لَشَهِدَ العِشَاء". متفق عليه، واللفظ للبخاري (¬1). [قوله "آمرَ": بالمد، أصله أأمر بهمزتين الأولى مفتوحة والثانية ساكنة فخففت الهمزة بقلبها ألفًا من جنس حركة ما قبلها] (أ). قوله: "أخالف": في الصحاح خالف إلى فلان أي أتاه إذا غاب عنه. وقوله: "فأحرّق": هو بالتشديد للراء منصوب، هذه الرواية المشهورة، قال البرماوي: ويروى بالتخفيف وقال ابن الأثير في "شرح مسند الشافعي": التشديد هو الأكثر في الرواية؛ لأنه يدل على التكثير والمبالغة في الفعل، وزيادة: "عليهم" تدل على أن التحريق يكون لأبدانهم (¬2)، ولو كان المراد تحريق البيوت فقط لحذفها. ¬

_ (أ) بهامش الأصل، وفيه بعض المحو واستدركته من نسخة هـ.

وقوله: "عرقا": بفتح (¬1) المهملة وسكون الراء ثم القاف، هو العظم إذا كان عليه لحم فإن لم يكن عليه لحم فعراق. قاله الخليل، وقال الأصمعي: العرق قطعة لحم، وقال الأزهري: هو واحد العُراق بالضم، وهي العظام الذي يؤخذ منها (أ) هبر اللحم، ويبقى عليها لحم رقيق فيكسر ويطبخ. وقوله: "مرْماتيْن": تثنية مرْماة بكسر الميم بوزن منساة، وفتحها لغة، ما بين ضلعي الشاة من اللحم (¬2)، [وإنما وصف العرق بالسمن والمرماتين بالحُسْن ليكون ثَمَّ باعثٌ نفساني على تحصيلهما] (ب) (جـ، وقيل: سهم يرمى (د به الرجل فيجوز سبقه، وهو بعيد هنا جـ) (¬3). واعلم أنه قد قيل: إن هذه الصلاة المذكورة د) في الحديث هي صلاة الجمعة ونصر هذا الوجه الذهبيُّ (¬4)، ولكن في آخر هذا الحديث ما يدل على أنه العشاء، وفي رواية مسلم: "يعني العشاء"، وفي رواية لهما (¬5) ما يومئ إلى أنها العشاء والفجر، وقد ورد في رواية في صدر الحديث (¬6): أنه أخَّرَ العشاء ليلة فخرج فوجد الناس قليلًا فغضب"، فذكر الحديث، وفي ¬

_ (أ) في جـ: فيها. (ب) في هامش الأصل. (جـ - جـ) تقدمت في جـ على قوله: "وإنما وصف العرق .. ". (د- د) في هامش هـ.

رواية لابن حبان (¬1): "يعني الصلاتين العشاء والغداة"، وفي رواية عند أحمد (¬2) التصريح بتعيين العشاء، وهذا في رواية أبي هريرة، وفي سائر الروايات عن أبي هريرة (¬3) الإبهام إلا في رواية شاذة من طريق مَعْمَر عن جعفر بن برقان (أ) فقال: "الجمعة". أخرجه عبد الرزاق عنه والبيهقي (¬4) من طريقه وأشار إلى ضعفها وشذوذها فإن سائر الرواة عن جعفر بالإبهام، وإلا أنه قد روى مسلم (¬5) حديث ابن مسعود، وفيه الجزم بالجمعة، إلا أن مخرجه مغاير لحديث أبي هريرة، فيحمل على أنه في واقعة أخرى فلا تنافي بينهما، وقد أشار إلى هذا (ب) النووي (¬6) والمحب الطبري، وقد أخرج ابن خزيمة والحاكم وأحمد (¬7) عن ابن أم مكتوم: "أن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - استقبل الناس في صلاة العشاء فقال: لقد همَمْت أن آتي (جـ) هؤلاء الذين يتخلفون عن الصلاة فأحرّق عليهم بيوتهم"، فقام ابن أم مكتوم فقال: يا رسول اللَّه قد علمت ما بي، وليس لي قائد، زاد أحمد: "إن بيني وبين ¬

_ (أ) في النسخ: ثوبان، وفي البيهقي ومسلم: برقان. (ب) في هـ: هذه. (جـ) في جـ: أتاني.

المسجد شجرًا ونخلًا، ولا أقدر على قائد كل ساعة. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: أتسمع الإقامة؟ قال: نعم، قال: فاحضرها، ولم يرخص له". ولابن حبان من حديث جابر قال: تسمع الأذان؟ قال: نعم. قال: فأْتِهَا وَلَوْ حَبْوًا" (¬1) [(أ) زاد الطبراني (¬2) "على يديه ورجليه"، وفي رواية عن أحمد وأبي يعلى (¬3): "ولَوْ حبوًا أو زَحْفًا"] (ب). والحديث فيه دلالة على تأكيد شرعية الجماعة، وأن التارك لها مستحق للعقوبة المتبالغة المنتهية إلى الإحراق بالنار. واعلم أن العلماء يختلفون في حُكْم الجماعة، فذهب عطاء والأوزاعي وأحمد وجماعة من محدثي الشافعية كأبي ثور وابن خزيمة وابن المنذر وابن حبان وأبو العباس من أهل البيت والظاهرية إلى أنها فرض عين (¬4)، وبالغ داود (¬5) ومن معه فجعلها شرطا في صحة الصلاة، وهو مبني قوله على أن ما كان واجبًا في الصلاة فهو شرط فيها، وهو غير مسلم (جـ) لأن الشرطية حكم لا بد لها من دليل، ولذلك خالف أحمد (د) ومن تبعه، وقالوا: إنها واجبة غير شرط وذهب جمهور المتقدمين من أصحاب ¬

_ (أ) زاد في هـ: و. (ب) في هامش الأصل. (جـ) في هـ: فهو مسلم. (د) ساقطة من هـ.

الشافعي وكثير من الحنفية والمالكية وهو تحصيل أبي العباس لمذهب الهادي، وهو ظاهر نص الشافعي أنها فرض كفاية (¬1)، وذهب المؤيد باللَّه وأبو حنيفة وصاحباه، وهو قول زيد بن علي والناصر وكثير من العلماء إلى أنها سنة مؤكدة (¬2). احتج (أ) القائل بوجوبها بحديث الباب، فإن العقوبة المتبالغة إنما تكون على ترك الفرائض ولغيره (ب) من الأحاديث وهي كثيرة جدا، ولذلك أطلق البخاري الوجوب عليها، وبَوَّب به وقال: "باب وجوب صلاة الجماعة" (¬3) وهو أعمُّ من كونه فرض عين أو فرض كفاية، والحديث المذكور أظهر في كونها فرض عين لأنها لو كانت فرض كفاية لكان قد سقط وجوبها بفعْل النبي - صلى الله عليه وسلم - ومَنْ معه إنْ كان يجوز (جـ) أن يقال: يؤخذ من هذا أنه (د) يعَاقب تارك (5) فرض الكفاية، فإنْ كان على اعتياد تركه أو لأجل الاستخفاف به فهو قريب لكنه غير ظاهر من لفظ الحديث لأنه إن كان في حقهم، وقد عرفوا لم يكن لاستخلاف النبي - صلى اللَّه عليه وسلم - لغيره ومخالفته إلى بيوتهم فائدة إذ يمكن معاقبتهم في غير ذلك الوقت. وإن كان مطلق التَّرْك كما هو المفهوم من الحديث هو المقتضي للعقوبة ¬

_ (أ) ساقطة من جـ. (ب) في هـ: ولغيره. (جـ) في هـ: لجواز. (د) زاد في جـ: يجوز أن. (هـ) زاد في هـ: الصلاة.

لم يفترق الحال بين فرض الكفاية وفرض العين حينئذ. وأما الاعتراض بأن التحريق بالنار غير مشروع في العقوبة، وقد نهي عنه، فيجاب عنه بأن هذا خصوص وذاك عموم، فيجمع بينهما بأن هذا عقوبة تارك الجماعة مخصص من العموم كما خصص عقوبة الزاني المحصن بالرجم، وإن كان السيف أحسن، وقد قال: "فأحسنِوا القِتْلَة". واحتج القائلون بالسنية أولًا: بما أخذ من ظاهر هذا الحديث من تركه - صلى الله عليه وسلم - الجماعة ومخالفته إلى بيوت المذكورين، وهو غير تام لجواز أن يقال: يجوز ترك واجب لأداء واجب أكمل منه، أو أنه يصليها (أ) جماعة بعد ذلك. وثانيًا بما يظهر من قوله: "صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفذ" فقد اشتركا في الفضيلة وبقوله في الحديث الآتى: "إِذا صليتما في رحالكما" (¬1) فأثبت لهما إدراك الصلاة في الرحال وبما تقدم من تعليم المسيء صلاته (¬2). وأجابوا عن الحديث المذكور وغيره بأجوبة منها: أنها لو كانت شرطًا في صحة الصلاة لبين (ب) ذلك عند الوعيد بالتحريق لأنه وقت البيان، كذا قاله ابن بطال (¬3). ¬

_ (أ) في هـ: يصليهما. (ب) في جـ: لنبين.

وقد يجاب عنه بأنه قد بين ذلك بالدلالة على وجوب الحضور وهو كاف في البيان. ومظنها أن الخبر ورد مبالغة للزجر ولا تراد حقيقته، ويجاب عنه بأن هذا يحتاج إلى دليل، ويجاب عنه: التوسعة للبعض في ذلك. ومنها أنه - صلى الله عليه وسلم - إنما هَمَّ ولم يفعل ذلك، كذا قاله القاضي والنووي (¬1)، وأجاب ابن دقيق العيد (¬2) عن ذلك بأنه لا يهم إلا بما يجوز فعله له لو فعله، وتركه يجوز إما لأنهم انزجروا بذلك أو لغيره، كما ورد في حديث أحمد (¬3) عن أبي هريرة بلفظ: "لولا ما في البيوت من النساء والذرية لأقمت الصلاة وأمرت فتياني يحرّقون .. " الحديث. ومنها: أن ذلك في حق قوم تركوا الصلاة رأسًا مطلقًا لا الجماعة، ويجاب عنه بأن في رواية مسلم (¬4): "لا يشهدون الصلاة"، أي لا يحضرون، وفي رواية أحمد (¬5): "لا يشهدون العشاء في الجمع"، أي: في الجماعة، وفي حديث ابن ماجه عن أسامة بن زيد مرفوعًا: "لينتهين رجال عن تركهم الجماعات أو لأحرِّقن بيوتهم" (¬6). ومنها: أن الحديث ورد في الحث على مخالفة فعْل أهل النفاق والتحذير من التشبه بهم لا لخصوص (أ) ترك الجماعة، ذكره الزين ابن المنيّر (¬7). ¬

_ (أ) زاد في جـ: من.

ومنها: أن الحديث ورد في حق المنافقين، ويُجَابُ عنه باستبعاد تأديب المنافقين على ترك الجماعة والعفو عنهم في أعظم من ذلك، وهو النفاق. وقد يجاب عنه بأنه - صلى الله عليه وسلم - كان مخيرًا في عقوبة المنافقين فيجوز أن يترك عقوبتهم على النفاق لما كان ذلك أمرًا خفيا لا يطلع عليه بحسب الأغلب، وترك الصلاة أمر ظاهر فَهَمَّ بعقوبتهم عليه لما فيه من إظهار مباينة المسلمين. ومنها: أنه يجوز أن تكون الجماعة واجبة في صدر الإسلام، لأجل سد باب التخلف عن الصلاة على المنافقين ثم نسخ، حكاه عياض عن بعضهم (¬1). وقال الحافظ المصنف -رحمه اللَّه تعالى- (¬2): الأظهر أن ذلك لرد في حق المنافقين لقوله: "ليس صلاة فقل على المنافقين من العشاء والفجر" أخرجه البخاري (¬3)، لكن المراد به نفاق المعصية لا نفاق الاعتقاد، يدل عليه ما في رواية أبي داود (¬4): "ثم آتي قومًا يصلون في بيوتهم ليست بهم علة"، لأن الكافر لا يصلي في بيته، وإنما يصلى رياءً وسمعة فإذا خلا في بيته كان كما قال تعالى: {إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} (¬5) كذا أفاده القرطبي (¬6) انتهى. ¬

_ (¬1) الفتح 2/ 127. (¬2) الفتح 2/ 127. (¬3) البخاري 2/ 141 ح 657. (¬4) أبو داود 1/ 372 ح 549. (¬5) الآية 14 من سورة البقرة بـ {قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ}. (¬6) الفتح 2/ 127.

وقال أيضًا: وعلى تقدير أن يكون المراد بالنفاق نفاق الكفر لا يدل على عدم الوجوب أيضًا لأنه يتضمّن أن ترك الجماعة من صفات المنافقين، وقد نهينا عن التشبه بهم. وسياق الحديث يدل على الوجوب من جهة البالغة في ذَمّ مَنْ تخلف عنها، قال الطيبي (¬1): خروج المؤمن من هذا الوعيد ليس من جهة أنهم إذا سمعوا النداء جاز لهم التخلف عن الجماعة، بل من جهة أن التخلف ليس من شأنهم، بل هو من صفات المنافقين، ويدل عليه قول ابن مسعود: "ولقد رأيتنا ما يتخلف عن الجماعة إلا منافق" رواه مسلم (¬2). انتهى كلامه. قال المصنف (¬3): فظهر (أ) من هذا أن المراد به (ب) نفاق المعصية، فعلى هذا الذي خرج من الوعيد هو المؤمن الكامل لا العاصي الذي يجوز إطلاق النفاق عليه مجازًا للجمع بين الروايات، واللَّه أعلم. وفي الحديث من الفوائد: تقديم الوعيد والتهديد على العقوبة، ومناسبة قولهم في الأمر بالمعروف ولا يخشى إن كفى اللين. ومنها جواز العقوبة بالمال، وقد استدل به من قال بذلك من المالكية (¬4) وغيرهم، وقد يقال عليه: إنه يجوز أن يكون حيث كان لا يتمكن من ¬

_ (أ) في: هـ وجـ: يظهر. (ب) ساقطة من جـ.

عقوبتهم لاختفائهم في البيوت إلا بذلك. ومنها: أنه يجوز أخذ صاحب الجريمة على غرة منه لهمه - صلى الله عليه وسلم - بأن يبغتهم في وقت لا يظنون أنه يطرقهم فيه. ومنها: أنه يجوز إعدام محل المعصية كما هو مذهب مالك، وقد قيل: إنه منسوخ كما قيل في العقوبة بالمال. وقد استدل به ابن العربي وغيره على مشروعية قتل تارك الصلاة متهاونًا بها، وذلك لأنهم إذا استحقوا التحريق لترك صفة من صفاتها خارجة عنها سواء كانت واجبة أو مسنونة كان تاركها (أ) أصلا أولى بالعقوبة، وإن كان قد يقال عليه إنه لا يلزم من التهديد بالتحريق القتل لأنه يمكن الفرار عنه أو الإخماد له بعد حصول المقصود منه من الزجر والإرهاب (¬1). 303 - وعنه -رضي اللَّه عنه- قال: قال رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -: "أثقل الصلاة على المنافقين صلاة العشاء، وصلاة الفجر، ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبوًا". متفق عليه (¬2). وعنه رضي اللَّه عنه- قال: "أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - رجلٌ أعمَى فقال: يا رسول الله، ليس لي قائد يقودني إِلى المسجد، فرخص له (ب)، فلما ولى دعاه ¬

_ (أ) في جـ: تركها. (ب) في جـ: لي.

فقال: هل تسمع النداء بالصلاة؟ قال، نعم قال: فأجب (أ) ". رواه مسلم (¬1). قوله: "أثقل الصلاة" .. إلخ: لعل وجه ثقلها (ب) عليهم هو أنه لما كانت هاتان الصلاتان مظنة اجتماع المؤمنين كاملي الإيمان لعدم ما يشغلهم عن الحضور من الاكتساب، وكان التخلف عنهما إنما هو لمحض الكسل وعدم الباعث على الحضور من رجاء الثواب، وخوف العقاب، فيخشى (جـ) من تخلف عنهما (د) أن لا يقام له عذر ويسجل عليه بمخالفة سره علانيته، ويظهر على ظلام نفاقه، فكانتا أثقل من سائر الصلوات اللاتي (هـ) يقام لها العذر في التخلف عنها لما فيها من الأشغال (و)، أما العصران فظاهر وأما المغرب فلأنها بحسب الأغلب وقت رجوع الحراثة والتجارة في الأغلب إلى بيوتهم لا سيما للصائم مع ضيق وقتها، وبهذا (ز) يظهر عدم صحة احتجاج موجبي الجماعة في الصلوات على الإطلاق. ¬

_ (أ) في جـ: أحب. (ب) في هـ: ثقلهما وله وجه أنه متعرف على الصلاتين. (جـ) زاد في هـ: على. (د) في جـ: عنها. (هـ) في هـ: التي. (و) في هـ: الاشتغال. (ز) في جـ: ولهذا.

[أو لأنه لما كثر الداعي إلى تركهما (أ) لأن العشاء وقت السكون والراحة والإيواء إلى البيوت والاجتماع بالزوجة والولد. وأما وقت الفجر فلأنه وقت لذة النوم، فإن (ب) كان في زمن (جـ) البرد ففي وقت شدة لبعد العهد بالشمس لطول الليل، وإن كان في زمن الحر فهو وقت البرد والراحة لبعد العهد بالشمس أيضًا] (د)، وأيضًا في الاجتماع في الوقتين انتظام الألفة بين المتجاورين في (هـ) طرفي النهار، وليختموا النهار بالاجتماع على الطاعة ويفتتحوه كذلك. وقوله: "ولو (و) يعلمون ما فيهما" أي من الفضيلة والخير، ثم لم يستطعوا الإتيان إليهما إلا حبوا لأتوهما -[أي أتوا المسجد الذي يصليان فيه] (ز)، والحبو (¬1) هو من حبو الصبي على يديه ورجليه، وقيل: هو الزحف على الرُّكب، وقيل: على الإست، وفيه حثٌّ بليغٌ على حضورهما. وقوله في حديث مسلم: "أتى رجل أعمى": هو ابن أم مكتوم، وقد تقدم قريبًا (¬2). ¬

_ (أ) في جـ: تركها. (ب) في جـ: وإن. (جـ) في جـ: وقت. (د) بهامش الأصل. (هـ) في جـ: من. (و) في جـ: فلو. (ز) بهامش الأصل، وفيه بعض المحو واستدركته من نسخة هـ.

وقوله: "فرخص له": وقوله بعد: "فأجب" يحتمل أن يكون الترخيص اجتهادًا منه - صلى الله عليه وسلم - ثم رجع عن اجتهاده فقال له: "أجِبْ"، ويحتمل أن يكون ذلك بوحي ثم نسخ ولكنه لا يصح على قول من يشترط إمكان العمل، ويحتمل أن يكون الترخيص الأول مطلقًا عن التقييد، ثم قيد الترخيص من بعد بمفهوم قوله: هل تسمع النداء؟ فإن مفهومه أنه إذا لم يسمع النداء كان ذلك له (أ) عذرًا، وإذا سمعه لم يكن له عذر عن الحضور. ويمكن أن يعلل بأنه لو وسع العذر لمن يسمع (ب) النداء لتعلل الناس بالأعذار فبطل فائدة النداء للصلاة، وذهب شعار الإسلام. ويمكن أن يدعي الوجوب أو تأكد السنية لمن كان بهذه المثابة، حيث لم يصادمه إجماع، وسيأتي (جـ في الحديث جـ) ما يؤيده قريبًا. ويحتمل أن يكون الترخيص للعذر ثابتا وأمره بالإجابة أمر ندب حثا له على إحراز الفضل لعلمه - صلى الله عليه وسلم - بسبقه إلى الإيمان ورسوخ قدمه فيه وإن المشقة تغتفر بالنسبة إلى ما يجد في قلبه من الروح في الحضور. 304 - وعن ابن عباس - رضي اللَّه عنهما - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من سمع النداء فلم يأت الصلاة، فلا صلاة له إِلا من عذر". رواه ابن ماجه والدارقطني وابن حبان والحاكم، وإسناده على شرط مسلم لكن رجع ¬

_ (أ) ساقطة من هـ. (ب) في هـ: سمع. (جـ - جـ) ساقطة من هـ.

بعضهم وقفه (¬1). الحديث أخرج من طريق شعبة (أموقوفًا ومرفوعًا، والوقوف منه بزيادة: "إلا مِنْ عُذْر (ب) " قال الحاكم: وقفه عند أكثر أصحاب شعبة أ)، وأخرج له شواهد من حديث أبي موسى الأشعري بلفظ: "من سمع النداء فارغًا صحيحًا فلم يجب فلا صلاة له" (¬2) أخرج له من ثلاث طرق بعضها موقوف، وبعضها مرفوع، قال البيهقي: الموقوف (جـ) أصح. وروى العقيلي في الضعفاء من حديث جابر (¬3). ورواه ابن عدي من حديث أبي هريرة وضعفه (¬4). ¬

_ (أ- أ) بهامش هـ. (ب) في جـ: لعذر. (جـ) زاد في جـ: و.

وأخرج حديث ابن عباس أبو داود بزيادة: "قالوا: وما العذر؟ قال: خَوْفٌ أو مرضٌ لم يقبل اللَّه منه الصلاة التي صلى"، بإسناد ضعيف (¬1). الحديث فيه دلالة على تأكد الجماعة، وظاهره حجة لمن يقول إنها فرض عين، ويتأول من يقول بأنها سنة قوله: "فلا صلاة له": يعني (ألا صلاة أ) كاملة ولكنه نزل نفي الكمال منزلة نفي الذات مبالغة في ذلك. وقوله: "إِلا مِنْ عُذْر": قد فسر العذر في رواية أبي داود بالخوف والمرض، وقد يلحق بذلك ما فيه مشقة من سائر الأعذار، وقد ورد الرخصة في المطر والريح الباردة، وفي حق من أكل من ذوات الروائح الكريهة، لقوله: "فلا يقربن مسجدنا" (¬2) وكان (ب) ذلك عذرًا له، وإن احتمل أن يكون نهيًا عن قربانها لما لزم من أكلها فوات الفريضة، واللَّه أعلم. 305 - وعن يزيد بن الأسود -رضي اللَّه عنه- "أنه صَلَّى مع رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - صلاة الصبح، فلما صلى رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - إِذا هو برجلين لم يصليا فدعا بهما، فجيء بهما ترْعَدُ فرائصهما، فقال لهما: ما منعكما أن تصليا معنا. قالا: قد صلينا في رحالنا. قال: فلا تفعلا، إِذا صليتما في رحالكما ثم أدركتم الإِمام ولم يصل، ¬

_ (أ- أ) ساقطة من جـ. (ب) في هـ: فكان.

فصليا معه، فإِنه لكما نافلة". رواه أحمد واللفظ له، والثلاثة، وصححه الترمذي، وابن حبان (¬1). هو أبو جابر يزيد بن الأسود السوائي بضم السين المهملة وتخفيف الواو بالمد، ويقال: الخزاعي، ويقال: العامري، روى عنه ابنه جابر، وعداده في أهل الطائف، وحديثه في الكوفيين (¬2). الحديث رووه من طريق يعلى بن عطاء بن جابر بن يزيد بن الأسود عن أبيه، قال الشافعي في القديم (¬3): إسناده مجهول، قال البيهقي: لأن يزيد بن الأسود ليس له راو غير ابنه جابر، ولا لابنه جابر غير راو واحد، وهو يعلى. قال الحافظ المصنف -رحمه اللَّه-: يعلى (¬4) من رجال مسلم، وجابر (¬5) وثقه النسائي وغيره، وقد وجدنا لجابر راويًا غير يعلى (أ) أخرجه ابن منده، وهو عبد الملك بن عمير بن جابر. ¬

_ (أ) زاد في جـ: و.

وفي الباب عن أبي ذر عند مسلم (¬1)، وعن يزيد بن عامر في "سنن أبي داود" (¬2)، وعن محجن رواه مالك والنسائي (¬3)، وهذا حديث يزيد بن الأسود وقع في مسجد الخيف في حجة الوداع. وفيه دلالة على شرعية الصلاة مع الإمام إذا وجده يصلي وإن كان قد صلى، [وظاهره ولو صلى في رحله جماعة، لأنه - صلى الله عليه وسلم - أطلق الأمر ولم يستفسر] (أ) وتكون هذه الصلاة نافلة والأولى فريضة كما صرح به في الحديث. وظاهره (ب) أنه لا يحتاج إلى نية رفض الأولى، وقد ذهب إلى هذا زيد بن علي والمؤيد وأبو حنيفة والناصر والمنصور، وهو قول الشافعي (¬4)، وذهب الهادي ومالك (¬5) وقول للشافعي (¬6) إلى أن (جـ) الثانية هي الفريضة والأولى تكون النافلة (د)، قالوا: لحديث يزيد بن عامر أخرجه أبو داود (¬7) قال - صلى الله عليه وسلم -: "إذا جئت الصلاة فوجدت الناس يصلون فصل معهم، وإن كنت ¬

_ (أ) بهامش الأصل. (ب) في جـ: وظاهر. (جـ) في جـ: لأن. (د) في جـ: نافلة.

قد صليت، تكن لك نافلة وهذه مكتوبة". وأجيب بأن هذا الحديث فيه ضعف (¬1)، صرح بضعفه النووي. وقال البيهقي (¬2): هو مخالف لحديث (أ) يزيد بن الأسود وهو أصحّ، ورواه الدارقطني (¬3) بلفظ: "وليجعل التي صلى في بيته نافلة". قال الدارقطني: هي رواية ضعيفة شاذة. وقول ثالث للشافعي (¬4) أنه يحتسب اللَّه بأيهما شاء لقول ابن عمر لمن سأله عن ذلك: "أوذلك إليك؟ إنما ذلك إلى اللَّه عزَّ وجلَّ، يجعل أيتهما شاء" .. أخرجه "الموطأ" (¬5)، وعلى القول الثاني: لا بد من نية الرفض للأولى بعد دخوله في الثانية، وقيل: بشرط (ب) فراغه من الثانية (جـ) صحيحة. وظاهر الحديث شمول الإعادة للصلوات كلها ولو قد صليت جماعة، وقد ذهب إلى هذا الشافعي (¬6)، وقال أبو حنيفة (¬7): لا تعاد إلا الظهر والعشاء أما الصبح والعصر فلا، للنهي عن الصلاة بعدهما، وأما المغرب فلأنه وتر النهار فلو أعادها صارت شفعًا. ¬

_ (أ) في جـ: حديث. (ب) في جـ: يشترط. (جـ) في جـ: والثانية.

قال مالك (¬1): إنْ كان قد صلاها في جماعة لم يعِدْهَا، وإن كان قد صلاها منفردًا (أ) أعادها في جماعة إلا المغرب. وقال النخعي والأوزاعي: يعيد إلا المغرب والصبح (¬2)، والحديث كما قد عرفت لم يخص (ب) شيئًا من ذلك، وقد ورد الإعادة أيضًا في حق من صلى جماعة لقوله - صلى الله عليه وسلم -في حق من دخل المسجد وقد صلوا-: "ألا رجل يتصدق على هذا فيصلي معه" رواه الترمذي وابن حبان والحاكم والبيهقي (¬3). تنبيه: روى أبو داود والنسائي وابن حبان من حديث سليمان بن يسار عن ابن عمر يرفعه "لا تصلوا صلاة في يوم مرتين" (¬4). ظاهره يخالف هذا، وقد يجاب عنه بأن ذلك إذا صلى منفردًا ثم أعادها منفردًا، وهذا يختص بقيام الجماعة جمعًا بين الروايات (¬5). وقوله: "ترْعَد فرائصهما" (جـ) [بضم أوله وفتح ثالثه وقوله] (د) "فرائصهما" (¬6): جمع فريصة وهي اللحمة التي بين جنب الدابة وكتفها، ¬

_ (أ) في جـ: منفردة. (ب) في جـ: لم يحصر. (جـ) ساقطة من جـ. (د) في هامش الأصل.

والرعدة: الاضطراب، يقال للإنسان إذا دخله الرعب وأخذ منه الفزع: أرعدت فريصته، وهي منبض القلب، وفرائص العنق: أوداجه، [وسبب ارتعاد فرائصهما لما اجتمع في النبي - صلى الله عليه وسلم - من الهيبة العظيمة والحرمة الجسيمة لكل من رآه مع كثرة تواضعه] (أ). 306 - وعن أبي هريرة -رضي اللَّه عنه- قال: قال رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -: "إِنما جُعِلَ الإِمائم ليؤتم به، فإِذا كبَّر فكَبِّروا، ولا تُكَبِّروا حتى يُكَبِّرَ، وإذا ركع فاركعوا، ولا تركعوا حتى يركع، وإِذا قال: سمع الله لمن حمده" فقولوا: اللهم ربنا ولك الحمد، وإذا سجد فاسجدوا، ولا تسجدوا حتى يسجد، وإذا صلى قائمًا فصلوا قيامًا، وإذا صلى قاعدًا فصلوا قعودًا أجمعين". رواه أبو داود (¬1)، وهذا لفظه، وأصله (ب) في الصحيحين. قوله: "إِنما جُعِلَ الإِمام ليُؤتَمَّ به": يعني جُعل الإمام مقصورًا على الاتصاف بكونه مؤتمًا به. لا يتجاوزه إلى مخالفته. والائتمام هو الاقتداء والاتباع، والمعنى من هذا أنه جعل الإمام إمامًا ليقتدي به ويتبع، ومن شأن التابع أن لا يسبق متبوعه، ولا يساويه، ولا يتقدم عليه في موقفه، بل يراقب أحواله ويأتي على أثره بنحو فعله، ومقتضى ذلك أن لا يخالفه في شيء من ¬

_ (أ) بهامش الأصل. (ب) في جـ: وصله.

الأحوال. وقد فصلها بقوله: "فإِذا كبر" .. إلخ، ويقاس ما لم يذكر مثل التسليم على ما ذكر، وهذه المذكورات (أ) وإن وجبت المتابعة للإمام فيها -فليس التقدم مطلقًا فيها (ب) مفْسِدٌ للصلاة، وذلك أنه ليس كل (جـ) واجب فتركه مفسد، إذ الفساد حكم شرعي لا يثبت إلا بدليل، وقد صرح - صلى الله عليه وسلم - باستحقاق العقوبة لمن رفع رأسه قبل الإمام أن يحول اللَّه رأسه رأس حمار. أخرجه البخاري (¬1)، ولم يأمر بالإعادة إلا التكبير فإنه لا يصح أن يدخل بها قبل الإمام إذ هي عنوان الدخول في الجماعة مع الإمام، والتسليم لأن الانفصال من الجماعة به، فيكون خارجًا قبل الإمام، والخلاف للحنفية (¬2) فقالوا: يكفي فيه المقارنة. وظاهر الحديث حجة للشافعية في أنَّ مخالفة المؤتم للإمام في غير ذلك لا تضر، وذلك كما إذا بان للمؤتم أن الإمام جنب أو محدث أو عليه نجاسة، أو اختلفت نيتهما أو فرضهما، وقيد الرافعي (¬3) في "المحرر" النجاسة بالخَفِيَّة، وفي النجاسة الظاهرة احتمال للإمام. ¬

_ (أ) هـ: أوجبت. (ب) ساقطة من جـ. (جـ) ساقطة من جـ.

وقال بعض أصحاب الشافعي (¬1): إنما يصح الاقتداء به إذا لم يعلم هو بحدث نفسه فإن عَلِمَ ففيه قولان، أما إذا علم المأموم بَحدَث الإمام ثم نسيه فاقتدي به فعليه الإعادة لتفريطه، وأما إذا ظهر أن الإمام كافر (¬2) أو امرأة أو خنثى (¬3) أو مجنون (¬4) فإنها تجب الإعادة خلافًا للمزني في الكافر، وصح البغوي وجماعة أنه إن كان يسرُّ الكفر لم تجب الإعادة، وهو قوي، وإلا تعذر الائتمام لعدم أمن ذلك. [وهَذا مروي عن علي وعمر وابن عباس وابن عمر، وذهب إليه أحمد وأبو ثور والبصري والنخعي (أ) والإمام يحيى، والخلاف فيه للفقهاء ولأبي حنيفة وأصحابه (ب) والشعبي وابن سيرين] (جـ). وقوله: "إِذا قال سمع اللَّه لمن حمده .. " إلخ: دلالة على جواب المؤتم بقوله: "اللهم ربنا لك الحمد"، وقع هكذا في رواية لأبي هريرة (¬5) بحذف الواو، وفي رواية أخرى الجمع بين اللهم وبين الواو لأبي هريرة (¬6) (د أيضًا، أخرجها البخاري، وفي رواية حذف "اللهم" وزيادة الواو في قوله: ولك الحمد (¬7)، ورواية حذفها (¬8) لأبي هريرة د)، وفي رواية عائشة وأنس (¬9) زيادة ¬

_ (أ) لفظ هـ: وذهب الإمام يحيى وحماد والخلاف فيه للعترة ولأبي حنيفة وأصحابه والشعبي وابن سيرين. (ب) ساقطة من جـ. (جـ) في هامش الأصل، وزاد في جـ: وحماد. (د- د) في هامش جـ.

الواو (أ)، أخرج الجميع البخاري في مواضع، وقد رجحت زيادة الواو (ب) بأن فيها معنى زائدًا لكونها عاطفة على محذوف تقديره، ربنا استجب لنا، أو ربنا أطعنا ولك الحمد، ورجح بعضهم حذفها لأن التقدير خلاف الظاهر، وقال النووي (¬1): قد ثبتت الرواية بالوجهين جميعًا فهما جائزان بغير ترجيح، وكذلك زيادة "اللهم" ثبت (جـ) الوجهان، وكلاهما جائزان، والزيادة أرجح لأن فيها ما لم يكن في حذفها وفي ثبوتها تكرير النداء كأنه قال: يا اللَّه يا ربنا. وفي الحديث دلالة أن الإِمام يقول: "سمع اللَّه لمن حمده" والمؤتم: "اللهم ربنا لك الحمد". واحتج به من قال: لا يجمع الإمام ولا المؤتم (د) بين اللفظين، وقد ذهب إلى هذا الهادي والقاسم وأبو حنيفة، ورواية (هـ) عن الناصر. وفي حق المنفرد والإمام التسميع فقط، وذهب أبو يوسف ومحمد أنه يجمع بينهما الإمام والمنفرد، ويسمع (و) المؤتم لحديث أبي هريرة أنه كان يقول - صلى الله عليه وسلم - الأمرين جميعًا، وظاهره أنه يفعل ذلك في حال إمامته وفي حال انفراده، وصلاته مؤتمًا نادرة. ¬

_ (أ، ب) زاد في هـ: و. (جـ) في جـ: ثبتت. (د) في جـ: المؤتم. (هـ) في جـ: وفي رواية. (و) في الأصل: ويسمعل، وفي هـ: وتسميع.

وذهب الإمام يحيى والنووي والأوزاعي بل يجمع الإمام والمنفرد ويحمد المؤتم لحديث أبي هريرة المذكور في الكتاب فإن مفهوم: "فقولوا: اللهم ربنا .. " ألا يقول المؤتم إلا ذلك. وذهب الشافعي إلى أنه يجمع بينهما المصلي مطلقًا ويكمل: بـ: "ملء السماوات وملء الأرض، وملء ما بينهما، وملء ما شئت من شيء بعد"، ويزيد المنفرد: "أهل الثناء والمجد، أحق ما قال العبد، وكلنا لك عبد، لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت ولا ينفع ذا الجد منك الجد". دليله ما أخرجه مسلم (¬1) من حديث ابن أبي أوفى "أنه كان - صلى الله عليه وسلم - إذا رفع رأسه من الركوع قال: "سمع اللَّه لمن حمده، اللهم ربنا ولك الحمد، ملء السماوات، وملء الأرض، وملء ما شئت من شيء بعد"، وإذا (أ) قد ثبت جمعه - صلى الله عليه وسلم - لذلك فالظاهر عموم الأحوال، وقد قال: "صلُّوا كما رأيتموني أُصَلِّي" (¬2)، ولا حجة في سائر الروايات على الاقتصار إذا عدم الذِّكْر في اللفظ لا يدل على عدم الشرعية، فقوله: "إِذا قال: سمع اللَّه لمن حمده" لا يدل على نفي قول الإمام: ربنا لك الحمد، وقوله: "فقولوا: "اللهم ربنا" لا يدل على نفي قول المؤتم: سمع اللَّه لمن حمده، وفي حكاية هذا الفعل زيادة وهي مقبولة لأن القول غير معارض لها، وقد روى ابن المنذر هذا القول في "الإشراف" عن عطاء وابن سيرين وغيرهما، فلا يثبت ما نقل عنه أن الشافعي انفرد بذلك فيكون قوله: "سمع اللَّه لمن حمده" عند رفع رأسه وقوله: "ربنا لك الحمد" عند انتصابه، ومعنى ¬

_ (أ) كذا ولعل الصواب (وإذا).

سمع اللَّه لمن حمده، أن مَنْ حَمِدَهُ متعرضًا لثوابه (¬1) استجاب اللَّه له، وأعطاه ما تعرض له. وقوله: "فصلوا قعودًا أجمعين": هكذا روي بالنصب في رواية أبي هريرة في "السنن" (¬2)، وهي أيضًا في رواية أبي ذر اللؤلؤي بالرفع، وفي "صحيح البخاري" أيضًا من رواية همام (¬3)، وسائر الروايات "أجمعون" على ما هو الأكثر في اللغة والرفع على التأكد لضمير الفاعل في قوله: "صَلُّوا"، والنصب على الحال. وقد أجازه الشلوبين في المثنى، وهو جمعاوين، والفراء في الواحد المؤنث ولعله يقاس عليه الجمع، ويحتمل أن يكون تأكيد الضمير منصوب مقدر وهو أعينكم وهو بعيد. وفي الحديث دلالة على أنه يصح أن يصلي من يطق القيام خلف من لا يطيقه ويتابع في القعود، وعلله في حديث جابر بالبعد عن فعْلَ الأعاجم، وهو قوله: "إِن كدتم آنفا تفعلون فعل فارس والروم يقومون على ملوكهم وهم قعود فلا تفعلوا" (¬4). وقد ذهب إلى هذا أحمد بن حنبل (¬5) وإسحاق بن راهويه، وذهب ¬

_ (¬1) التفسير بما يليق بجلاله وعظمته. (¬2) انظر تخريج الحديث. (¬3) البخاري 2/ 208 - 209 ح 722. (¬4) مسلم 1/ 309 ح 84 - 413. (¬5) قال ابن قدامة: المستحب للإمام إذا مرض وعجز عن القيام أن يستخلف لأن الناس اختلفوا في صحة إمامته فيخرج عن الخلاف .. 2/ 220، وبنحوه قال النووي. المجموع 4/ 145.

العترة ومالك ومحمد (¬1) إلى أنه لا يصح أن يصلي القائم خلف القاعد لقوله: "لا تختلفوا على إمامكم ولا تتابعوه في القعود" (¬2) لقدرتهم على القيام فلا عذر لهم. وذهب الشافعي (¬3) وزفر إلى أنه يصح أن يصلي القائم خلف القاعد ولا يتابعه في القعود، قال: لصلاة أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - في مرض مَوته قيامًا حين خرج وأبو بكر قد افتتح الصلاة فقعد يسار أبي بكر (¬4) فكان ذلك ناسخًا لأمره - صلى الله عليه وسلم - لهم بالجلوس في حديث أبي هريرة، فإن ذلك في صلاته قاعدًا لما سقط عن فرسه، وانفكت قدمه. وكذا حديث جابر وأنس (¬5) وغيرهم، وكان هذا آخر الأمرين فتعيّن العمل به، كذا قرره الشافعي ونقله جابر عن شيخه الحميدي (¬6) وهو تلميذ الشافعي. ¬

_ (¬1) الهداية 1/ 58، الكافي 1/ 213، البحر 1/ 315، وحكاه العراقي عن الشافعية في طرح التثريب 2/ 335. (¬2) لفظ: "لا تختلفوا على إمامكم" فهي في الصحيح من حديث أبي هريرة: "إنما الإمام ليؤتم به فلا تختلفوا عليه"، وبقيته: "فإن صلى جالسًا فصلوا جلوسًا" مسلم 1/ 309 - 310 ح 86 - 414، البخاري 2/ 208 ح 722، واللفظة الثانية "لا تتابعوه في القعود" لم أقف عليها إلا أن بقية الحديث الصحيح تعارضها. واللَّه أعلم. (¬3) المجموع 4/ 145. (¬4) البخاري 2/ 166 ح 683 - 2/ 172 ح 687. (¬5) حديث جابر في مسلم 1/ 309 ح 84 - 413 وحديث أنس في البخاري 2/ 173 ح 689، ومسلم 2/ 301 ح 77 - 411. (¬6) قال أبو عبد اللَّه: قال الحميدي: قوله: "إذا صلى جالسًا فصلوا جلوسًا" وهو في مرضه القديم ثم صلى بعد ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - جالسًا والناس خلفه قيامًا لم يأمرهم بالقعود، وإنما يؤخذ بالآخر فالآخر من فعل النبي - صلى الله عليه وسلم -، البخاري 2/ 173.

وأجيب عن هذا بوجوه: منها: [أن هذا فيما قد كان افتتح في الصلاة قائمًا، وحديث أبي هريرة فيما كان الإمام قاعدًا من أول الصلاة] (أ). منها: أن الأحاديث التي وردت في أمرهم بالجلوس لم يختلف في صحتها، ولا في سياقها، وأما صلاته - صلى الله عليه وسلم - في مرضه، فقد اختلف فيها هل كان إمامًا أو مأمومًا، وهذا عن ابن خزيمة (¬1). منها: أنه يُحْمَلُ الأمر بالجلوس على أنه للندب وتقرير القيام قرينة على ذلك، فيكون حينئذ هذا الجمع بين الروايتين خارجًا عن المذهبين جميعًا، لأنه يقتضي التخيير للمؤتم بين القيام والقعود. منها: أن مثل هذا الحديث مروي عن جماعة من الصحابة، فروي عبد الرزاق بإسناد صحيح عن قيس بن قَهد -بفتح القاف وسكون الهاء- الأنصاري أن إمامًا لهم اشتكى على عهد رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - قال: "وكان يؤمنا، وهو جالس، ونحن جلوس" (¬2). وروى ابن المنذر بإسناد صحيح عن أسيد بن حضير أنه كان يؤم قومه فاشتكى فخرج إليهم بعد شكواه فأمروه أن يصلي بهم، فقال: إني لا أستطيع أن أصلي قائمًا فاقعدوا فقعدوا، فصلى بهم قاعدًا، وهم قعود (¬3). وروى أبو داود من وجهٍ آخر عن أسيد بن حضير أنه قال: يا رسول اللَّه إن ¬

_ (أ) في هامش الأصل.

إمامنا مريض، قال - صلى الله عليه وسلم -: "إذا صلى قاعدًا فصلوا قعودًا"، وفي إسناده انقطاع (¬1). وروى ابنُ أبي شيبة بإسناد صحيح عن جابر أنه اشتكى فحضرت الصلاة، فصلى بهم جالسًا وصلوا معه جلوسًا. وعن أبي هريرة أنه أفتى بذلك، وإسناده أيضًا (أ) صحيح. وقال ابن المنذر: ومما يزيد الحديث قوة عمل الصحابي بوفق ما روى، ثم قال: ولا نحفظ عن أحد من الصحابة خلاف ذلك، ثم قال: ولا نسلم أن الصحابة في مرضه - صلى الله عليه وسلم - صلوا بعده (ب) قيامًا، إذ لم يكن في الرواية تصريح بذلك. وأجيب عن هذا الأخير بما أخرجه عبد الرزاق في "مصنفه" عن ابن جريج: أخبرني عطاء -فذكر الحديث ولفظه: "فصلى النبي - صلى اللَّه عليه وسلم - قاعدًا وجعل أبا بكر وراءه بينه وبين الناس، وصلى الناس وراءه قيامًا" (¬2)، وهذا مرسل (¬3)، ووقع أيضًا في مرسل عطاء المذكور متصلًا به بعد قوله: وصلى الناس وراءه قيامًا فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لو استقبلتُ من أمري ما استدبرت ما صليتم إلا قعودًا، فصلوا صلاة إمامكم ما كان، إن صلى قائمًا فصلوا قيامًا، وإن صلى قاعدًا فصلوا قعودًا" (¬4). ¬

_ (أ) ساقطة في جـ. (ب) في جـ: خلفه.

وهذا السياق لا يناسب ما ذهب إليه الشافعي، وهو يناسب (أ) التخيير الذي قد سبق إشارة إليه، وذهب أبو حنيفة وأبو يوسف والإمام (1) يحيى إلى مثل قول أحمد. قالوا: إلا أن مقتضى القياس خلافه، وهو المنع للنقصان، والاستحسان يرجحه لصحة الحديث. قال الإمام المهدي -رحمه اللَّه- في "البحر" (2) ردا (ب) على أحمد وغيره: قلتُ: قال - صلى الله عليه وسلم -: "لا يؤمن أحَدكُمْ بَعْدي قاعدًا قَوْمًا قيَامًا". انتهى (¬3). [وفي هذا دلالة على أنه كان خاصا بالنبي - صلى الله عليه وسلم -] (ب)، ويتأيد أيضًا بفِعل الخلفاء وأنهم لم يؤم أحد منهم قاعدًا، وإن كان النسخ لا يمكن بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - فمثابرتهم على ذلك تشهد بصحة نهيه عن إمامة القاعد بعده. ويُجَابُ عن الحديث بأنه ضعيف أخرجه الدارقطني والبيهقي من حديث جابر الجعفي عن الشعبي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو مرسل، وجابر (¬4) ضعيف جدًّا، قال الشافعي (¬5): قد علم من احتج به أنه لا حجة فيه لأنه مرسل، ومن رواية رجل يرغب أهل العلم عن الرواية عنه -يعني جابرًا الجعفي- والذي احتج به هو محمد بن الحسن، وروي أيضًا من رواية ¬

_ (أ) في جـ: مناسب. (ب) في جـ: زاد. (جـ) بهامش الأصل.

عبد الملك بن حبيب عن من أخبره عن مجالد عن الشعبي، ومجالد ضعيف، وفيه من لمْ يُسمّ فلا يصح الاحتجاج به لا سيما مع معارضة الأحاديث الصحيحة (¬1). 307 - وعن أبي سعيد الخدري -رضي اللَّه عنه- "أن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - رأى في أصحابه تأخُّرًا، فقال: تقدموا فائْتموا بي، وليأتم بكم مَنْ بعدكم". رواه مسلم (¬2). قوله: "فائْتموا بي": أي اقتدوا بأفعالي، "وليأتم بكم مَنْ بعدكم": أي يقتدي من بعدكم مستدلين على أفعالي بأفعالكم. فالحديث يدل على جواز اعتماد المأموم (أ) في متابعة الإمام الذي لا يراه ولا يسمعه على مبلغ عنه، وفي الأمر بذلك دلالة على يد استحباب التقدم في الصف الأول وكراهة البُعْد عن تعرف أحوال الإمام، وفي تمام الحديث: "لا يزال قوم يتأخرون حتى يؤخرهم اللَّه". وفي الصف الأول أحاديث كثيرة، واللَّه أعلم. 308 - وعن زيد بن ثابت -رضي اللَّه عنه- قال: "احتجَرَ رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - حُجْرَةً بخصفَة (ب)، فصلَّى فيها، فتتبع إِليه رجالٌ، وجاءوا يصلُّون ¬

_ (أ) في جـ: المؤتم. (ب) في جـ: مخصفة.

بصَلاتِهِ ... " الحديث. وفيه: "أفضل صلاة المرء في بيته إِلا المكتوبة". متفق عليه (¬1). قوله: "احتجر": هو بالراء، أي اتخذ مثل الحجرة من الخصف، وهو الحصير وهي رواية الأكثر للبخاري، وبالزاي في رواية الكشميهني (¬2)، أي اتخذ حاجزًا بينه وبين غيره، وقد فعل ذلك - صلى الله عليه وسلم - في المسجد موضعًا حوط (أ) عليه بالحصير ليستره ولا يمر بين يديه مار ليكون أوفر (ب) لخشوعه وفراغ قلبه. وفيه دلالة على جواز مثل ذلك الفعل في المسجد إذا لم يكن فيه تضييق (جـ) على المصلين لأنه كان يفعله بالليل ويبسطه بالنهار وكما (د) في رواية مسلم (¬3)، ولم يتخذه دائمًا، ثم تركه بعد لهذا السبب دائمًا وصلى في بيته. ¬

_ (أ) في هـ: حفظ. (ب) في جـ: أوثر. (جـ) في جـ: مضيق. (د) في هـ: "كما" بدون الواو وهو المناسب للسياق.

وقوله: "فتتبع" (أ): من التتبع وهو الطلب، والمعنى: طلبوا موضعه فاجتمعوا إليه، وفي رواية البخاري: "فثار إليه" (¬1). وقوله: "وجاءوا يصلون بصلاته": وفي رواية البخاري (¬2): "فصلى فيها ليالي"، فصلى بصلاته ناس من أصحابه فلما علم بهم جعل يقعد فخرج إليهم فقال: "قد عرفت الذي رأيت من صفكم، فصلوا أيها الناس في بيوتكم، فإن أفضل الصلاة صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة". هذا لفظه، وفي مسلم ما يؤدي هذا المعنى وفيه أنهم حصبوا الباب (¬3) أي رموه بالحصباء وهي الجار (ب) الصغار تنبيهًا له، وظنا منهم أنه نام أو سها. وقوله: "أفضل صلاة المرء" إِلخ: هذا عام في جميع النوافل شامل لرواتب الفرائض وغيرها، ويستثنى من هذا النوافل التي شرع فيها الجماعة كالكسوف والاستسقاء، وكذا التراويح على الأصح لزوال المانع من خشية أن تفرض. 309 - وعن جابر -رضي اللَّه عنه- قال: صلى معاذ بأصحابه العشاء فَطَوَّلَ عليهم فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أتريد أن تكون يا معاذ فتَّانًا؟ إِذا أمَمْتَ الناس فاقرأ: بالشمس وضحاها، وسبح اسم ربك الأعلى، واقرأ باسم ربك، والليل إِذا يغشى". متفق عليه. ¬

_ (أ) في جـ: وتتبع. (ب) في هـ: بلفظ: بالحجارة.

واللفظ لمسلم (¬1). ولفظ الحديث في البخاري قال: "أقبل رجل بناضحين وقد جنح الليل فوافق معاذًا يصلي فترك ناضحيه (¬2)، وأقبل إِلى معاذ فقرأ سورة البقرة والنساء، فانطلق الرجل، وبلغه أن معاذًا نال منه، فأتي النبي - صلى الله عليه وسلم - فشكا إِليه (أ) مُعاذًا فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: أفتانٌ أنت؟ أو فَاتِنٌ أنت؟ -ثلاث مرات- فلولا صليت بسبح اسم ربك الأعلى، والشمس وضحاها، والليل إذا يغشى، فإِنه يصلي وراءك الكبير والضعيف وذو الحاجة". وفي رواية له للبخاري: "أن معاذ بن جبل كان يصلي مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، ثم يرجع فيؤم قومه" (¬3). وفي رواية له: "فصلى العشاء فقرأ بالبقرة فانصرف الرجل" (¬4). الحديث فيه دلالة على كراهة تطويل الإمام في الصلاة، واستحباب التوسط والقراءة بنحو ما ذكر. وقوله: "أفتان": مبالغة في الزجر له لما يلزم منه من ترك الناس السنن وتنفيرهم عن الانضمام في الجماعات، ولذلك صرح في قصة من شكا ¬

_ (أ) ساقطة من جـ.

منه تطويل صلاة الصبح بقوله: "إنَّ منكم منفرينَ" (¬1). [ويدل عليه ما أخرجه البيهقي في "شُعَب الإيمان" من حديث عمر قال: "لا تُبَغِّضوا اللَّه تعالى إلى عباده، يكون أحدكم إمامًا فيطول على القوم الصلاة حتى يبغض عليهم ما هم فيه". وقال الداودي (¬2): يحتمل أن يريد بفتان أي معذب لهم (أبالتطويل] (ب)، وهذا محمول على كراهة المؤتمين للإطالة بدليل أنه قد صح عنه - صلى الله عليه وسلم - أ) أنه قرأ الأعراف في المغرب (¬3) وغيرها، وكان مقدار قيامه في صلاة الظهر الستين الآية. وذلك يختلف باختلاف الأوقات والمأمومين (جـ) والإمام. وفي ألفاظ (د) الحديث اختلاف، ولعله من تصرّف الناقلين اعتمادًا على جواز الرواية بالمعنى. والرجل الذي كره صلاة معاذ في رواية أبي داود الطيالسى والبزار (¬4) هو حزم بن أُبيّ بن كعب، وكذا في "سنن أبي داود" (¬5) إلا أنه وقع عنده أنها صلاة المغرب وسماه ابن شاهين: خازمًا، أخرجه من طريق ابن لَهِيعَة، ¬

_ (أ- أ) ساقطة من هـ. (ب) في هامش الأصل. (جـ) في جـ: أوقات المأمومين. (د) في جـ، هـ: لفظ.

وفي رواية أحمد والنسائي وأبي يعلى وابن السكن (¬1) بإسناد صحيح عن أنس أنه حرام براء بعدها ألف، وظن بعضُهم أنه حرام بن ملحان خال أنس، وبهذا جزم الخطيب في "المبهمات" (¬2)، ويحتمل أن يكون تصحف (أ) من حزم فلا مخالفة حينئذ، وابن عبد البر ذكر في "الصحابة" حرام بن أُبي بن كعب (¬3) وذكر له هذه القصة وعزا تسميته إلى هذه الرواية عن أنس. قال المصنف -رحمه اللَّه (¬4) -: ولم أقف على تسمية أبيه في هذه الرواية وكأنه بنى على أن اسمه تصحف، والأب واحد سماه جابر، ولم يسمه أنس، ووقع في رواية لأحمد (¬5) أن اسمه: سليم من بني سلمة، ورواه البزار من وجهٍ آخر عن جابر وسماه: "سليمًا" أيضًا، ووقع عند ابن حزم (¬6) من هذه طريق البزار أن اسمه "سَلْم" بفتح أوله وسكون اللام، وكأنه تصحيف، وجمع بعضهم بأنهما واقعتان، وأيد ذلك بالاختلاف في الصلاة هل هي (ب) المغرب أو العشاء، والاختلاف في السورة هل هي ¬

_ (أ) في جـ: صحف. (ب) زاد في جـ: في.

البقرة؟ أو اقتربت؟ وفي الاختلاف في عُذْر الرجل، هل هو لأجل أنه جاء من عمل وهو تعبان، أو لكونه أراد أن يسقي نخله إذ ذاك، أو لكونه خاف علي الماء في النخل، وأورد على هذا أن معاذًا لو سبق له نهي لما عاد إلى ما نُهيَ عنه، وأجيب عنه بأنه نهي عن البقرة أولًا فقرأ بعد ذلك باقتربت، أو أنَّ النهي لما يخشى من التنفير لمن هو قريب العهد بالإسلام ثم لما اطمأنت نفوسهم ظن معاذ زوال المانع، ففعل مثل ذلك لما سمع النبي - صلى اللَّه عليه وسلم - قرأ في المغرب بالطور. وفي الحديث دلالة على صحة صلاة الفترض خلف المتنفل إذ يستبعد أن يصلي معاذ بعد رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - نافلة ويترك فرضه. [وأصرح منه ما رواه عبد الرزاق والشافعي والطحاوي والدارقطني وغيرهم (¬1) من طريق ابن جريج عن عمرو بن دينار عن جابر في حديث الباب، زاد: "هي له تطوع"، وهو حديث صحيح ورجاله رجال الصحيح، والأصل أن ما كان موصولًا بالحديث فهو منه، والظاهر أن هذه الزيادة من قول جابر وكان أعلم باللَّه وأخشى أن يقول مثل هذا إلا بعلم (¬2)] (أ). وكذلك جواز الخروج من صلاة الجماعة للعذر كما وقع في رواية الشافعي عن ابن عيينة في هذا الحديث: "فتنحى رجلٌ من خلفه فصلى وحده" (¬3)، وإن كان هذا محتملًا، وقد جوز الخروج عن الائتمام من ¬

_ (أ) ومن قوله: "والأصل" إلى النهاية ساقط من جـ، وممحو من الأصل. بهامش الأصل.

دون قطع الصلاة المؤيد باللَّه والإمام يحيى والشافعي وغيرهم، وفي أكثر روايات الحديث أنه قطع الصلاة بتسليم، وصلى وحده (¬1). فيدل (أ) أيضًا على أنه يجوز قطع الصلاة واستئنافها للعذر. وقوله في لفظ البخاري: "إن معاذًا نال منه" قد فسره في رواية قال: "إنه منافق" (¬2)، وفي رواية قال: "أنافقت يا فلان؟ قال: لا واللَّه، ولآتين رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - فلأخْبِرَنَّه" (¬3)، وفي هذه الرواية أن الرجل هو الذي اشتكى ¬

_ (أ) في جـ: ويدل.

من معاذ، وفي رواية النسائي (¬1) فقال معاذ: "لئن أصبحت لأذكرن ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - فذكر ذلك له فأرسل إليه فقال: ما حملك على الذي صنعت؟ فقال: يا رسول اللَّه عملت على ناضحٍ لي .. " فذكر الحديث، وكأن معاذًا سبقه بالشكوى، فلما أرسل له جاء فاشتكى من معاذ". واللَّه أعلم. 310 - وعن عائشة - رضي اللَّه عنها - في قصة صلاة رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - بالناس، وهو مريض قالت: "فَجَاء حتى جلس عن يسار أبي بكر، وكان يصلي بالناس جالسًا، وأبو بكر قائمًا يَقْتَدي أبو بكر بصلاة النبي - صلى الله عليه وسلم -، ويقْتَدي الناس بصلاةِ أبي بكر". متفق عليه (¬2). قوله "عن يسار أبي بكر": فيه دلالة على أنه يجوز أن يقف الواحد على يمين الإمام وإن حضر معه غيره، وإدارة ابن عباس (¬3) وجابر مع جناد (أ) بن صخر لا يدل على أن جنب الإمام لا يصح الوقوف فيه إذ ذاك لينضم مع غيره، فلا يبقى الثاني منفردًا، وهنا زال المانع، ويحمل على أنْ ثَمَّ مقتضيًا هنا: إما التبليغ، أو لكونه إمامًا في أول الصلاة، أو أن إمامته باقية، أو لكون الصف قد ضاق، أو لغير ذلك من المحتملات، ومع عدم الدليل على أنه فعل لواحد (ب) منها، فالظاهر الجواز على الإطلاق. وقوله "وكان يصلي بالناس .. " إِلخ تقدم الكلام على ذلك [قريبًا في ¬

_ (أ) في جـ: جبار. (ب) في هـ: الواحد.

حديث "إنما جعل الإمام .. " إلى آخره] (أ). وقوله "يقتدى أبو بكر .. " إِلخ فيه احتمال أن يكون ذلك الاقتداء على جهة الائتمام، فيكون أبو بكر إمامًا ومأمومًا، وفيه احتمال أن أبا بكر إنما كان مبلغًا وليس بإمام. واعلم أنه وقع الاختلاف في حديث عائشة هذا وفي غيره هل كان النبي إمامًا أو مأمومًا؟ فأخرج أبو داود الطيالسي (¬1) كما أخرج عنه البخاري (¬2) (ب بعضه: "كان رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - المُقَدَّم بين يدي أبي بكر"، وأخرج عنه ابن خزيمة في "صحيحه" (¬3) عن محمد بن بشار عند ب) أبي داود الطيالسي بسنده هذا عن عائشة قالت: "من الناس من يقول كان رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - المُقَدَّم، ومن الناس منْ يقول كان أبو بكر المقَدَّم بين يدي رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -". ورواه مسلم بن إبراهيم عن شعبة بلفظ: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صَلَّى خَلْفَ أبي بكر". أخرجه ابن المنذر، ووقع في رواية مسروق عنها اختلاف، فأخرجه ابن حبان من رواية عاصم عن شقيق (جـ بلفظ: "كان أبو بكر يصلي بصلاته، والناس يصلون بصلاة أبي بكر" (¬4)، وأخرجه الترمذي والنسائي وابن خزيمة من رواية شعبة عن نعيم بن أبي هند عن شقيق جـ) ¬

_ (أ) بهامش الأصل وساقطة من هـ. (ب - ب) بهامش هـ. (جـ- جـ) ساقطة من هـ.

عنه بلفظ: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى خلف أبي بكر" (¬1)، وظاهر رواية محمد بن بشار أن عائشة لم تشاهد الهيئة المذكورة، لكن تضافرت الروايات عنها بالجزم بما يدل على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان هو الإمام في تلك الصلاة، منها رواية موسى بن أبي عائشة: "فجعل أبو بكر يصلي بصلاة النبي - صلى اللَّه عليه وسلم -، والناس يصلون بصلاة أبي بكر" (¬2)، وهذه رواية زائدة (أ) بن قدامة عن موسى، وخالفه شعبة فرواه بلفظ: "أن أبا بكر صلى بالناس ورسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - في الصف خلفه" (¬3) فمن العلماء من سلك الترجيح، فقدم الرواية التي فيها "أن أبا بكر كان مأمومًا" للجزم بها، ولأن أبا معاوية أحفظ في حديث الأعمش من غيره. ومنهم من عكس ذلك ورجع أنه كان إمامًا وتمسك بقول أبي بكر: "ما كان لابن أبي قحافة أن يتقدم بين يدي رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - ". أخرجه البخاري. ومنهم من حمل القصة على التعدد، ويؤيده حديث ابن عباس (¬4)، وفيه: "أن أبا بكر كان مأمومًا". أخرجه البخاري، وحديث أنس فيه أن ¬

_ (أ) في النسخ: زيد بن قدامة، والتصويب من "الصحيح".

أبا بكر كان إمامًا. أخرجه الترمذي وغيره بلفظ: "آخر صلاة صلاها النبي - صلى الله عليه وسلم - خلف أبي بكر في ثوب" (¬1)، فهذا الاختلاف يقتضي تعدد القصة. ثم اعلم أن الظاهر من تسويتها اقتداء أبي بكر، واقتداء الناس به هو الائتمام. وأن أبا بكر كان مأمومًا (أ) إمامًا، وقد بوب البخاري في "صحيحه" على ذلك فقال: (ب) باب الرجل يأتم بالإمام ويأتم الناس بالمأموم (¬2). قال ابن بطال (¬3): هذا يوافق قول مسروق والشعبي أن الصفوف يؤم بعضها بعضا خلافًا للجمهور. (جـ) قال المصنف -رحمه اللَّه (¬4) -: وليس المراد أنهم يأتمون بهم في التبليغ فقط كما فهمه بعضهم، بل الخلاف معنوي لأن الشعبي قال فيمن أحرم قبل أن يرفع الصف الذي يليه رءوسهم من الركعة: إنه أدركها ولو كان الإمام رفع قبل ذلك، لأن بعضهم لبعض أئمة. انتهى. فهذا يدل على أنه يرى أنهم يتحملون عن بعضهم بعضًا ما يتحمله ¬

_ (أ) زاد في هـ: و. (ب) ساقطة من جـ. (جـ) زاد في جـ، هـ: و.

الإمام، ويؤيد هذا القول قوله - صلى الله عليه وسلم -: "تقدموا فائتموا بي، وليأتم بكم من بعدكم" (¬1). وفي حديث أبي بكر أنه كان يسمعهم التكبير في رواية مسلم (¬2)، فيه دلالة على جواز رفع الصوت بالتكبير ليسمعه الناس ويتبعونه، وأنه يجوز للمقتدي اتباع صوت المكبر. وهذا مذهبنا (¬3) ومذهب الجمهور، ونقلوا فيه الإجماع، والإجماع غير صحيح. فقد نقل القاضي عياض عن مذهبهم أن منهم من يبطل صلاة المقتدي، ومنهم منْ لم يبطلها، ومنهم من قال: إن أذن الإمام في الإسماع صَحَّ الاقتداء به وإلا فلا، ومنهم من أبطل صلاة المسمِّع، ومنهم من صحَّحها، ومنهم من شرط إذن الإمام، ومنهم من قال: إن تكلف صوتًا بطلت صلاته وصلاة من ارتبط بصلاته، وكل هذا ضعيف، والصحيح جواز ذلك كله، وصحة صلاة المسمع والسامع، ولا يعتبر إذن الإمام. 311 - وعن أبي هريرة -رضي اللَّه عنه- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إِذا أمَّ أحدُكم النَّاسَ فلْيُخَفف، فإِن فيهم الصغير والكبير، والضعيف وذا الحاجة فإِذا صلَّى وحده فلْيُصل كيف شاء". متفق عليه (¬4). ¬

_ (¬1) مسلم 1/ 325 ح 130 - 438. (¬2) مسلم 1/ 309 ح 85 - 413 م. (¬3) المجموع 3/ 335 - 336. (¬4) البخاري بلفظ: "السقيم والضعيف والكبير": الأذان، باب إذا صلى لنفسه فليطول ما شاء 2/ 199 ح 703، مسلم، الصلاة، باب أمر الأئمة بتخفيف الصلاة في تمام 1/ 341 ح 183 - 467، وليس فيه "ذا الحاجة" وهي موجودة في رواية أخرى عن أبي هريرة عند مسلم 184، 185 - 467، أبو داود، بلفظ البخاري، الصلاة، باب في تخفيف الصلاة 1/ 502 ح 794 - 795 الترمذي بلفظ: "المريض" بدل "ذا الحاجة"، الصلاة، باب ما جاء إذا أم أحدكم الناس فليخفف 1/ 461 ح 236، النسائي بلفظ: "السقيم والضعيف والكبير" الإمامة، ما على الإمام من التخفيف 2/ 74، أحمد نحوه 2/ 486.

وقوله: "فليصل كيف شاء": أي مخففًا أو مطولًا، وفيه دلالة على جواز تطويل المنفرد بالصلاة في جميع الأركان من القيام والركوع والسجود والاعتدال، وظاهره: ولو خشي خروج الوقت، وقد صحح هذا بعض الشافعية، ولكنه يعارضه حينئذ قوله في حديث [أبي] (أ) قتادة: "إنما التفريط أن يؤخر الصلاة حتى يدخل وقت الأخرى" أخرجه مسلم (¬1)، فإذا تعارضت مصلحة المبالغة في الكمال بالتطويل ومفسدة إيقاع الصلاة في غير وقتها كانت مراعاة ترك المفسدة أولَى. 312 - وعن عمرو بن سَلمة -رضي اللَّه عنه- قال (ب): قال أبي: جئتكم من عند رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - حقًّا، قال: "فإِذا حضرت الصلاة فلْيؤذِّن أحدكم وليؤمكم أكثركم فرآنًا". قال: فنظروا فلم يكن أحد أكثر قرآنًا مني، فقدموني وأنا ابن ست أو سبع سنين. رواه البخاري وأبو داود والنسائي (¬2). هو أبو يزيد -من الزيادة، قاله البخاري (¬3)، وقال مسلم بن الحجاج وغيره (¬4): بُريد بضم الباء الموحدة وفتح الراء وسكون الياء تحتها نقطتان ¬

_ (أ) في النسخ قتادة، والتصحيح من "مسلم". (ب) ساقطة من هـ.

وبالدال المهملة- عمرو بن سَلمة -بكسر اللام- بن نُقَيْع -بضم النون وفتح القاف وسكون الياء- الجرمي، (أقاله ابن منده، وقال ابن عبد البر (¬1): سلمة بن قيس الجرمي، وقال ابن ماكولا: عمرو بن سلمة بن لأي -بفتح اللام وسكون الهمزة وبالياء- الجرمي، أدرك زمن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكان يؤم قومه على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - لأنه كان أقرأهم للقرآن، وقيل: إنه قدم على رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - مع أبيه، ولم يُخْتَلَف في قدوم أبيه، نزل عمرو البصرة روي عنه أبو قلابة وعاصم (ب) الأحول وأبو الزبير المكي (¬2). في الحديث دلالة على أن الأكثر قرآنًا أحق بالإمامة كما في الحديث الذي بعده. [وفي الحديث دلالة على (جـ) أفضلية الإمامة على الأذان (¬3)، (د ومن قال د) بتفضيل الأذان (هـ) قال: إنما أطلق هنا، وقال: "أحدكم" لأن الأذان لا يحتاج إلى كثير علم، وأعظم مقصوده الإعلام بالوقت] (و) فقط، وتقديمه وهو في ست أو سبع فيه دلالة لما ذهب (ز) إليه الحسن البصري والشافعي ¬

_ (أ- أ) آخره في جـ بعد قوله: وسكون الهمزة وبالياء الجرمي. (ب) في جـ: وعامر. (جـ) زاد في هـ: أن. (د- د) ساقط من هـ. (هـ) زاد في هـ: ومن. (و) بهامش الأصل. (ز) في جـ: إلى ما ذهب.

وإسحاق في أنه لا كراهة في إمامة المميز (¬1)، وكرهها مالك (¬2) والثوري [والشعبي والأوزاعي] (أ)، وعن أبي حنيفة، وأحمد روايتان (¬3)، والمشهور عنهما الإجزاء في النوافل دون الفرائض (¬4)، ومنع من ذلك الهادي والناصر والمؤيد باللَّه (¬5). قالوا قياسًا على المجنون، ولا حجة في قصة عمرو لأنه لم يرو أن ذلك بأمر من النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا تقرير، ويحتمل أن يكون أمهم في نافلة، وأجيب بأن وقوع مثل ذلك في زمن الوحي لا يكاد يقع لأحد من الصحابة التقرير على ما لا يجوز فعله، وبهذا استدل أبو سعيد وجابر على جواز العزل بأنهم كانوا يعزلون والقرآن ينزل (¬6)، والوفد الذين قَدَّمَوا عَمْرًا كانوا جماعة من الصحابة. قال ابن حزم (¬7): ولا يعلم لهم في ذلك مخالف، واحتمال أن تكون نافلة تبعده القصة بعد تعليمهم أوقات الصلاة وفي رواية لأبي داود: قال عمرو: "فما شهدت مشهدًا في جرم إلا كنت إمامهم" (¬8) وهذا يعم الفرائض والنوافل، وعلى القول بصحة إمامة المتنفل ¬

_ (أ) بهامش الأصل، وساقطة من جـ.

بالمفترض فإمامة (أ) الصبي جائزة إذ هي من هذا القبيل. وقوله: "حقًّا": منصوب على صفة الصدر المحذوف أي إرسالًا حقا أو أنه مصدر مؤكد للجملة المتضمنة إذ هو في قوة: هو رسول اللَّه حقا، فهو مصدر مؤكد لغيره. 313 - وعن أبي مسعود -رضي اللَّه عنه- قال: قال رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -: "يؤم القوم أقرؤهم لكتاب اللَّه، فإِن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة، فإِن كانوا في السنة سواء فأقدمهم هِجْرَةً، فإِن كانوا في الهِجْرَةِ سواء فأقدمهم سلمًا، وفي رواية: "سنًّا، ولا يؤمن الرجل في سلطانه، ولا يقعد في بيته على تَكْرِمَته إِلّا بإِذْنِهِ" رواه مسلم (¬1). ولابن ماجه (¬2) من حديث جابر -رضي اللَّه عنه-: "ولا تَؤمَّنَّ امرأةٌ رجلًا، ولا أعرابيٌّ مُهاجرًا، ولا فاجرٌ مؤمنًا". وإسناده واه. ¬

_ (أ) في هـ: المفترض بإمامة.

قوله: "أقرؤهم": أي أكثرهم حفظًا للقرآن، ويحتمل أن يراد به أحسن (أ) تأدية، و (ب) كما في قوله "أقرأكم" إلخ، (جـ) فيه دلالة على تقديم الأقرأ على الأفقه، وهو مذهب أبي حنيفة وأحمد وبعض أصحاب الشافعي (¬1)، وقال مالك والشافعي وأصحابهما وهو قول الهادوية (¬2): أنه (د) يقدم الأفقه على الأقرأ، لأن الذي (هـ) يحتاج إليه من القراءة مضبوط والذي يحتاج إليه من الفقه غير مضبوط، وقد تعرض في الصلاة أمور لا يقدر على مراعاة مقتضاها إلا كامل الفقه، قالوا: ولهذا قدَّم النبيّ - صلى الله عليه وسلم - أبا بكر على غيره مع قوله: "أقرؤكم أُبَيّ" (¬3). والحديث خرج على ما كان عليه حال الصحابة من أن الأقرأ هو الأفقه، وقد قال ابن مسعود: "ما كنا نتجاوز عشر آيات حتى نعرف حكمها وأمرها ونهيها" (¬4) ولكن قوله: "فإِن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة" يبعد هذا الجواب، فإنه دليل على تقديم الأقرأ مطلقًا، ¬

_ (أ) في جـ: أحسنهم. (ب) الواو ساقطة من هـ. (جـ) زاد في جـ، وهـ: و. (د) ساقطة من جـ. (هـ) زاد في هـ: لا.

[ولعله يقال: إن الأكثر حفظًا للقرآن هو القدم لكونه أفقه بما نزل به الوحي، فإن استويا قدم الأعلم بالسنة؛ لأنه انضم إلى فقه القرآن فقه السنة فقد صار أكثر فقهما، واللَّه أعلم. وفي رواية الطبراني (¬1) عن مرثد الغَنَويّ: "إنْ سَرَّكُمْ أن تقْبَلَ صلاتُكم فلْيؤمُّكم عُلماؤكم فإنَّهم وفدُكم فيما بينكم وبيْن ربِّكم"] (أ). (ب) قوله: "فأقدمهم هجرة": وهذا شامل لمن تقدمت هجرته سواء كان في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - أو بعده كمن يهاجر من دار كفر إلى دار إسلام (جـ)، وأما قوله: "لا هجرة بعد الفتح" (¬2)، فالمقصود من مكة إلى المدينة، لاستوائهما في كونهما صارا داري إسلام (¬3) ولعله يقال: وكذا أولاد المهاجرين فلهم حكم سلفهم في التقديم. وقوله: "فأقدمهم سلمًا": أي إسلامًا يعني من تقدم إسلامه مقدم على من تأخر عنه، وكذا رواية "سنا" أي الأكبر في السن [أي في الإسلام فمن تقدم إسلامه فهو أولى، وإن كان أصغر في السن ممن تأخر إسلامه، قال البغوي (¬4): وكذا مَنْ كان إسلام أحد آبائه قبل إسلام آباء الآخر يكون أولى، ومن أسلم بنفسه فهو أولى ممن أسلم بإسلام أحد أبويه إذا كان إسلام ¬

_ (أ) بهامش الأصل. (ب) زاد في هـ: و. (جـ) في هـ: من دار الكفر إلى دار الإسلام.

المسلم بنفسه قبل بلوغ من أسلم بإسلام أحد أبويه، (أإذا كان إسلام المسلم بنفسه قبل بلوغ من أسلم بإسلام أحد أبويه أ)، وإنما كان من أسلم بنفسه أولى لأنه اكتسب الفضيلة بنفسه] (ب). وقوله: "ولا يؤم المرء في سلطانه": فيه دلالة على تقديم ذي الولاية على غيره، وظاهره وإن كان غيره أفقه منه ونحوه، وهذا خاص، وأول الحديث عام فالبناء صحيح، ويلحق بالسلطان (ب) صاحب البيت وإمام المسجد المعتاد، لأنه متصرف (د) في ذلك، فهو لاحق بالسلطان المتصرف، قال أصحاب الشافعي (¬1): ويستحب لصاحب البيت أن يأذن لمن هو أفضل منه. وقوله: "على تَكْرمته": هو بفتح التاء وكسر الراء، الفراش ونحوه مما يبسط لصاحب المنزل ويختص به. وحديث ابن ماجه إسناده واه بأنه من رواية عبد الملك بن حبيب وهو متهم بسرقة الحديث وتخليط الأسانيد (¬2). ¬

_ (أ - أ) بهامش هـ. (ب) بهامش الأصل. (جـ) في جـ: السلطان. (د) في جـ: يتصرف.

وفيه دلالة على أن المرأة لا تؤم الرجل (¬1). وقد ذهب إلى هذا العترة والحنفية والشافعية وغيرهم، وأجاز المزني وأبو ثور إمامة المرأة (¬2)، وظاهر الرواية الإطلاق في الفرائض والنوافل، والطبري (¬3) أجاز إمامتها في التراويح إذا لم يحضر من يحفظ القرآن، ولعل حجتهم ما سيأتي من حديث أم ورقة (¬4)، ويحمل النهي على التنزيه ضد الاستحباب. وقوله: "ولا أعرابي مهاجرًا" (¬5): ظاهره أنها لا تصح صلاة المهاجر مؤتمًا بالأعرابي الذي لم يهاجر، على فرض صحة الحديث، إلا أن يمنع إجماع حمل النهي على الكراهة ضد الاستحباب. وقوله: "ولا فاجر مؤمنًا": كذلك فيه دلالة على أنه لا تصح إمامة الفاسق، وقد ذهب إلى هذا العترة ومالك وجعفر بن ميسر (أ) (¬6) وجعفر بن حرب، وذهب الحنفية (¬7) والشافعية والمعتزلة (ب) وغيرهم إلى صحة إمامة ¬

_ (أ) هـ: ميسرة. (ب) قدم في جـ: المعتزلة على الشافعية.

الفاسق ودليلهم ما سيأتي من حديث ابن عمر (¬1)، وكذلك حديث أبي هريرة: "والصلاة واجبة عليكم خلف كل مسلم برا كان أو فاجرًا وإن عمل الكبائر" رواه أبو داود، والدارقطني (¬2) وهو (أ) منقطع من حديث (ب) مكحول، وله طريق أخرى (¬3) عند ابن حبان (جـ) في "الضعفاء" من حديث عبد اللَّه بن محمد، وعبد اللَّه متروك، ورواه الدارقطني (¬4) من حديث الحارث عن علي، ومن حديث علقمة (¬5) والأسود عن عبد اللَّه، ومن حديث مكحول أيضًا عن واثلة (¬6)، ومن حديث أبي الدرداء (¬7) من طرق كلها واهية جدا، قال العقيلي (¬8): ليس في هذا المتن إسناد يثبت، ونقل ¬

_ (أ) في جـ: وهذا. (ب) بهامش جـ. (جـ) في هـ: ابن ماجه.

ابن الجوزي (¬1) عن أحمد أنه سئل عنه فقال: ما سمعنا بهذا. قال الدارقطني (¬2): ليس فيها شيء يثبت وللبيهقي في هذا الباب أحاديث ضعيفة غاية الضعف، وأصح ما فيه حديث مكحول عن أبي هريرة على إرساله، وقال أبو أحمد الحاكم: هذا حديث منكر (¬3)، ولكن الحديث المانع من الصلاة هو أيضًا غير صحيح، وقد عارضته (أ) هذه الأحاديث وهي متأيدة بالكثرة وأنها مقررة للأصل وهو الصحة، وعموم أحاديث الأمر بالجماعة، والمأمور بها الجميع من البر والفاجر، وقد أخرج البخاري صلاة ابن عمر خلف الحجاج (¬4)، وكذا أخرج البخاري في "تاريخه" (¬5) عن عبد الكريم البكاء أنه قال: "أدركتُ عشرة من أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - كلهم يصلي خلف أئمة الجور"، ويؤيده أيضًا حديث مسلم: "كيف أنت إذا كان عليك أمراء يؤخرون الصلاة عن وقتها، أو يميتون الصلاة عن وقتها؟. قال: قلتُ: فما تأمرني؟ قال: الصلاة لوقتها، فإنْ أدركتها معهم فصل، فإنها لك نافلة (¬6) " فإنَّ الظاهر من حال من اعتاد إمامة الصلاة وأخرها عن وقتها الخروج عن الحق والتنكب عن سنن الشريعة ويحمل ¬

_ (أ) في جـ: عارضة.

حديث النهي على الكراهة ضد الاستحباب كما في المعطوف عليه القريب، وإنْ كان في ذلك جمع بين الحقيقة والمجاز كما في إمامة المرأة بالرجل. واللَّه أعلم. 314 - وعن أنس -رضي اللَّه عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "رُصُّوا صفوفكم، وقَارِبُوا بينها، وحَاذُوا بالأعْنَاق" رواه أبو داود والنسائي وصححه ابن حبان. تمام الحديث "فوالذي نفسي بيده إِني لأرى الشيطان يدخل من خلل الصف كأنها الحذف" (¬1). ورص الصف مأخوذ من رص البناء. [والمراد المبالغة في الازدحام حتى لا تبقى فرجة يدخل الشيطان منها (أ) وفي رواية الطبراني (¬2) عن علي رضي اللَّه عنه: "استووا وتماسوا" (ب قال شريح: تماسوا ب) يعني ازدحموا في الصلاة] (ب)، والمقاربة بين الصفوف هو ألا يبعد الصف الثاني عن الصف الذي قبله، [والحكمة في الأمر بالمقاربة ليشاهد كل صف أفعال (د) إمامه من الانتفالات وغيرها وليكونوا أقرب إلى الإمام ليسمعوا قراءته] (هـ). ¬

_ (أ) في هـ: فيها. (ب - ب) ساقطة من جـ. (جـ) بهامش الأصل وفيه بعض المحو واستدركته من نسخة هـ. (د) في جـ: انقتال. (هـ) بهامش الأصل.

والمراد بمحاذاة الأعناق أن لا يقف أحدهم في مكان أرفع من غيره ولا عبرة بالأعناق أنفسها إذ ليس للطويل أن يوطئ عنقه ليحاذي عنق غيره. وقوله في: تمام الحديث: "كانها الحَذَف" بفتح الحاء المهملة والذال المعجمة هي صغار الغنم السود، الضمير في "كأنها" راجع إلى نفس مضاف إلى الشيطان أي جعل نفسه شاة أو ماعزة كأنها الحذف، أو أنث باعتبار الخبر. 315 - وعن أبي هريرة -رضي اللَّه عنه- قال: قال رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -: "خيرُ صفوف الرجال أوَّلُهَا، وشرّها آخرها، وخير صفوف النساء آخرها، وشرها أولها" رواه مسلم (¬1). فيه دلالة على (أ) فضيلة الصف الأول، وفيه أحاديث كثيرة، وإنما كان شرها آخرها لما فيه من النكص عن إحراز الفضائل، ولأنه "لا يزال العبد يتأخر حتى يؤخره اللَّه" (¬2) كما في حديث مسلم، وإنما كان خير صفوف النساء آخرها لأنهن إذا كانت صلاتهن مع الرجال بعدن عن ¬

_ (أ) ساقطة من جـ.

مخالطة الرجال ورؤيتهم، وتعلق القلب بهم عند رؤية حركاتهم وسماع كلامهم، ونحو ذلك، فذم صفهن الأول لذلك، وفيه دلالة على جواز اصطفاف النساء صفوفًا، وظاهره وسواء كانت صلاتهن مع الرجال أو مع امرأة، إلا أن التعليل ينتفي فيما إذا كانت إمامتهن امرأة، والشرية والخيرية باعتبار كثرة الثواب وقلته. وقد قيل: في تأويل الصف الأول أنه الذي يتقدم من أول الصلاة، وهو قول باطل. 316 - وعن ابن عباس - رضي اللَّه عنهما - قال: "صليت مع رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - ذاتَ ليلة، فقمت عن يساره، فأخذ رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - برأسي من ورائي، فجعلني عن يمينه" متفق عليه (¬1). قيام ابن عباس وصلاته مع رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - هو في صلاة الليل. وقوله: "فقمت (أ) عن يساره" إِلخ، فيه دلالة على صحة صلاة المتنفل بالمتنفل، [وعلى أن الجماعة تنعقد بصبي مميز، وعلى أنه يصح الائتمام بمن لم ينو الإمامة، ويحتمل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نوى الإمامة عند دخوله معه (¬2)، ¬

_ (أ) في جـ: قمت.

ففيه دلالة على صحة النية المتوسطة في الصلاة] (أ) وعلى أن موقف الواحد مع الإمام على اليمين بدليل الإدارة، إذ لو كان موقفًا للمؤتم لما فعل ذلك الفعل في الصلاة، وقد ذهب إلى هذا الجمهور من العلماء (¬1)، والخلاف في ذلك للنخعي فقال: "إذا كان الإمام وواحد قام الواحد خلف الإمام، فإن ركع الإمام قبل أن يجيء أحد قام عن يمينه" (¬2) أخرجه سعيد ابن منصور ووجه بأن الإمامة مظنة الاجتماع، فاعتبرت في موقف المأموم حتى يظهر خلاف ذلك، وهو حَسَن، لكنه مخالف للنص، وقد رَوَى سعيد بن منصور عنه قال: "ربما قمت خلف الأسود وحدي حتى يجيء المؤذن" (¬3)، ففيه دلالة على أنه إذا ظنا قويا انضمام الغير. ولكنه لا دلالة في الحديث أنها تفسد صلاة من كان على اليسار بل قد يستدل (ب) على الصحة، إذ النبي - صلى الله عليه وسلم - قرره على أول صلاته وقد ذهب إلى هذا الجمهور، والخلاف لأحمد بن حنبل (¬4) والهادوية، ولهم أن يقولوا: الوقوف علي اليسار جائز للعذر، والجهل عذر. وذهب سعيد بن السيب (¬5) (جـ) أن موقف المأموم الواحد يكون عن يسار ¬

_ (أ) في هامش الأصل. (ب) هـ: يستدل بها. (جـ) زاد في هـ: إلى.

الإمام ولم يتابع على ذلك، وفي إدارته من ورائه دلالة على أنه لا يتقدم المؤتم على الإمام خلافًا لمالك (¬1)، فجوز تقدمه [وفيه دلالة على أن الإمام إذا اطلع على مخالفةٍ من المأموم يرشده إليها، وأن العمل اليسير لا تبطل الصلاة به ولا يوجب سجود السهو] (أ). وقوله: "فجعلني عن يمينه": يحتمل المساواة ويحتمل التقدم (ب) قليلًا والتأخر إلا أن في بعض ألفاظ الحديث: "فقمت إلى جنبه" (¬2)، وظاهره المساواة، وعن ابن جريج قال: قلت لعطاء: الرجل يصلي مع الرجل أين يكون منه؟ قال: إلى شِقِّه، قلتُ: أيحاذيه حتى يصف معه لا يفوت أحدهما الآخر؟ قال: نعم. قلت: أيجب (جـ) أن لا يبعد حتى لا تكون بينهما فرجة؟ قال: نعم (¬3). وفي "الموطأ" عن عبيد اللَّه بن عتبة بن مسعود قال: "دخلت على عمر بن الخطاب -رضي اللَّه عنه- بالهاجرة، فوجدته يسبح فقمت وراءه، فقربني حتى جعلني حذاءه عن يمينه" (¬4). ¬

_ (أ) في هامش الأصل. (ب) في هـ: التقديم. (جـ) في جـ: تحب.

وعن بعض أصحاب الشافعي: يستحب أن يقف المأموم دونه قليلًا. 317 - وعن أنس -رضي اللَّه عنه- قال: "صلى رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -، فقُمت ويَتِيمٌ خلْفَهُ، وأمُّ سُليْمٍ خلفنا" متفق عليه، واللفظ للبخاري (¬1). قوله: "فقمت ويتيم" (أ): اليتيم هو ضميره بن أبي ضميرة (¬2) (ب) جد حسين بن عبد اللَّه بن ضميرة (جـ)، وقد وقع (¬3) عند ابن فتحون (د) فيما رواه عن ابن السكن بسنده: صليت أنا وسليم بسين مهملة ولام مصغرًا، ووقع في "ذيل الاستيعاب" لابن فتحون (5) سَليْم مكبرًا ولعله تصحف عليه يتيم، وأم سليم (¬4) هي أم أنس بن مالك واسمها مليكة مصغرًا. [قوله: "ويتيم": معطوف على التاء ضمير الفاعل من دون تأكيده ¬

_ (أ) زاد في جـ: قال: في عمدة الأحكام: قلت: وفي العمدة كذلك. العمدة بشرحها مع تيسير العلام 1/ 169. (ب) في هـ: ضمرة بن أبي ضمرة. (جـ) في هـ: بن ضمرة مولى رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -. (د) في جـ، هـ حيحون. (هـ) بهامش الأصل وفيه بعض المحو واستدركته من نسخة هـ.

بضمير منفصل، كما هو مذهب الكوفيين] (¬1) (أ). وفيه دلالة على أن صلاة المتنفل بمتنفل صحيحة. وأن فِعْل الصلاة للتعليم أو التبرك كما هو ظاهر القصة مشروع. وأن صف الاثنين خلف الإمام، وهو قول الجمهور (¬2) خلافًا لمن قال من الكوفيين (¬3): إنهما يقفان عن يمينه ويساره محتجين بفعل ابن مسعود كما أخرجه عنه أبو داود وغيره: أنه أقام علقمة عن يمينه والأسود عن يساره (¬4). وأجاب عنه ابن سيرين أن ذلك قد كان لضيق المكان، رواه الطحاوي (¬5). وأن الصغير المميز معتَدّ بوقوفه مع المصلي داخل في حكم الجماعة والاصطفاف [إذ الظاهر من لفظه: "يتيم" هو الصغير قال في "البحر" (¬6): قلتُ يحتمل بلوغ اليتيم فاستصحب الاسم] (ب). ¬

_ (أ) بهامش الأصل وفيه محو استدركته من نسخة هـ. (ب) بهامش الأصل.

وأن المرأة لا تُصَفُّ مع الرجل (أ)، ولعل المناسبة في ذلك لما (ب) يخشى بحسب الأغلب من الافتتان، وأن انفرادها في صف خير لها فلو صفت مع الرجال (جـ) أجزأت صلاتها عند الجمهور (¬1)، وعند الهادوية (¬2) أنها تفسد عليها وعلى منْ خلفها وفي صفها، إن علموا، قالوا: والوجه في ذلك أنه لما أخرها - صلى الله عليه وسلم - في هذه القصة دل على أنه (د) ليس موقفها مع الرجال فهو منهي عن ذلك الموقف، ولقول ابن مسعود: "أخروهن من حيث أخرهن اللَّه" (¬3)، والأمر يقتضي الوجوب، وقوله: "من حيثُ" معناه ظرف المكان، ولا مكان يجب تأخرهن فيه إلا مكان الصلاة، وذهب أبو حنيفة إلى فساد صلاة الرجل دون المرأة وهو عجيب. وأنت خبير بأن في هذه القصة تعريف مقام المرأة وهو محتمل لوجوبه أو لكونه أولى، ولا دليل على الفساد بوجه. [وفيه دليل (هـ) على أن المرأة لا تؤمّ الرجل، فإنه إذا كان مقامها متأخرًا في الجماعة امتنع تقدمها إمامة للرجال] (و)، واللَّه أعلم. ¬

_ (أ) في هـ: الرجال. (ب) في جـ: بما. (جـ) في جـ: الرجل. (د) زادت هـ: شرع. (هـ) في هـ: دلالة. (و) في هامش الأصل وفيه بعض المحو واستدركته من نسخة هـ.

318 - وعن أبي بكرة -رضي اللَّه عنه- أنه انتهى إِلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو راكع، فركع قبل أن يَصِلَ إِلى الصفّ، فقال له (أ) النبي - صلى الله عليه وسلم -: "زَادَكَ الله حِرْصًا، ولا تَعُدْ". رواه البخاري، وزاد أبو داود: "فركع دون الصف ثم مشى إلى الصف" (¬1). في الحديث دلالة على أن اللاحق إذا خشى فوات بعض الجماعة قبل أن ينضم أن له الدخول في الجماعة ثم ينضم بحسب إمكانه، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يأمره بإعادة الصلاة، بل قال له: "زادَكَ اللَّه حرصًا"، والمراد بالحرص المحافظة على استكمال الطاعات وعدم المسامحة بترك بعضها -وإن قل- بل ولو حصل معه ترك مندوب. وبقي الكلام في قوله: "ولا تَعُدْ": فقيل: إنه نهاه عن العوْد إلى الإحرام خارج الصف، فإن حمل النهي على التحريم ناقضه صدر الحديث، وإن حمل النهي على الكراهة بقرينة أوله استقام معناه، ولكن ابن حبان أنكر أن يكون هذا معنى الحديث وقال: أراد لا تعد في إبطاء المجيء إلى الصلاة. وقال ابن القطان الفاسي تبعًا للمهلب بن أبي صفرة: (¬2) معناه: لا تعد إلى دخولك في الصف وأنت راكع، فإنها (ب) ¬

_ (أ) ساقطة من جـ. (ب) في هـ: فإنه.

كمِشْية البهائم، ويؤيده رواية حماد بن سلمة في "مصنفه" (¬1) عن الأعلم عنَ الحسن عن ابن أبي بكرة: "أنه دخل المسجد ورسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - يصلي، وقد ركع، فركع ثم دخل الصف وهو راكع، فلما انصرف النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "أيكم دخل في الصف، وهو راكع؟ فقال له أبو بكرة: أنا، فقال: زادك اللَّه حرصًا ولا تعد". [وما رواه ابن أبي شيبة عن أبي هريرة بإسناد صحيح عن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -: إذا أتى أحدكم إلى الصف، فلا يركع دون الصف، ولا يكبّر حتى يأخذ مقامه (أ) من الصف] (ب). ولكنه يعارض هذا ما أخرجه الطبراني (¬2) عن عطاء: أنه سمع ابن الزبير على المنبر يقول: "إذا دخل أحدكم المسجد والناس ركوع، فليركع حين يدخل ثم يدب راكعًا حتى يدخل في الصف"، قال: "ذلك السنة"، قال عطاء: "وقد رأيته يصنع ذلك". وقال الطبراني: تفرد به ابن وهب، [وقد روي عن زيد بن ثابت وابن ¬

_ (أ) في جـ: ولا تكبر حتى تأخذ مقامك. (ب) بهامش الأصل وفيه بعض المحو واستدركته من نسخة هـ.

مسعود وأبي لُبَابَة وسعيد بن جبير (¬1) أنهم فعلوا ذلك] (أ). وقيل معناه: ولا تَعُدْ إلى إتيان الصلاة مسرعًا، واحتج له بما رواه ابن السكن في "صحيحه" بلفظ: "أقيمت الصلاة فانطلقتُ أسعى حتى دخلت في الصفّ، فلما قضى الصلاة قال: مَن الساعى آنفًا؟ قال أبو بكرة: فقلت: أنا، فقال: زادك اللَّه حرصًا، ولا تعد"، وهذا قريب. 319 - وعن وابِصَة بن معبد -رضي اللَّه عنه- "أن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - رأى رجلًا يُصلي خلفَ الصف وحده، فأمره أن يعيد الصلاة". رواه أحمد وأبو داود والترمذي، وحسنه، وصححه ابن حبان (¬2). وله عن طلق: "لا صلاة لمنفرد خلف الصف" (¬3). وزاد الطبراني في حديث وابصة: "ألا دخلت معهم، أو (ب) اجتررت رجلا" (¬4). ¬

_ (أ) بهامش الأصل. (ب) في جـ: و.

هو أبو شداد وابصة -بكسر الباء الموحدة وبالصاد المهملة- وقيل: أبو قِرْصَافة -بالقاف المكسورة والصاد المهملة والفاء- وقيل: أبو سالم بن معبد بن مالك من بني أسد بن خزيمة الأسدي. [وَفَد على النبيّ - صلى الله عليه وسلم - في عشرة من بني أسد سنة تسع فأسلموا، ورده إلى بلاده. فقال أبو راشد: ما أتيته إلا وجدت الصحف بين يديه، ثم] (أ) نزل الكوفة ثم تحول إلى الجزيرة، ومات بالرقة، روى عنه زياد بن أبي الجعد (¬1). في الحديث دلالة على (ب) بطلان صلاة من صلى (جـ) خلف الصف وحده لغير عذر. وقد قال ببطلانها النخعي وحماد بن أبي سليمان وابن أبي ليلى ووكيع وأحمد. (¬2) وكان الشافعي يضعف هذا الحديث. ويقول في القديم: لو ثبت لقلتُ به (د)، وقال البيهقي: الاختيار أن يتوقى ذلك لثبوت الخبر المذكور، وقال: من قال بعدم البطلان عارضه حديث أبي بكرة، ولم يأمره بالإعادة، مع أنه أتى ببعض الصلاة خلف الصف، فيحمل الأمر بالإعادة على جهة الندب مبالغة في المحافظة على الأولى كما تقدم في أمر من بقي فيه لعة في رجله بغير وضوء، أمره بإعادة الوضوء كاملًا والأولى الجمع بين الحديثيْن، بأنَّ حديث أبي بكرة فيما فعل لعذر، وهو خشية الفوات مع انضمامه بقدر الإمكان، وهذا لغير عذر وفي جميع الصلاة، واللَّه أعلم. ¬

_ (أ) في هامش الأصل. وفيه بعض المحو واستدركته من نسخة هـ. (ب) زادت هـ: أن. (جـ) في هـ: يصلي.

وحديث طلق ظاهر في عدم الصحة، ويحتمل أن يتوجه النفي إلى نفي الكمال والفضيلة، وحديث الطبراني فيه السري بن إسماعيل (¬1)، وهو متروك، وأخرجه أبو نعيم في "تاريخ أصبهان" (¬2) من طريق أخرى في ترجمة ابن عبد ربه (أ) البغدادى، وفيه قيس بن الربيع (¬3)، وهو ضعيف، وأخرج أبو داود في "المراسيل" (¬4) من رواية مقاتل بن حيان مرفوعًا: "إن جاء رجل فلم يجد أحد، فليختلج إليه رجلًا من الصف، فليقم معه، فما أعظم أجر المختلج". وأخرج الطبراني في "الأوسط" من حديث ابن عباس: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر الآتي وقد تمت الصفوف بأن يجتذب إليه رجلًا يقيمه إلى جنبه" وإسناده واه (¬5). 320 - وعن أبي هريرة -رضي اللَّه عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إِذا سمعتم الإِقامة فامشوا إِلى الصلاة، وعليكم السكينة والوقار، ولا تسْرِعُوا ¬

_ (أ) في هـ: ابن عبدويه.

فما أدركتم فصلُّوا، وما فاتكم فأتموا". متفق عليه، واللفظ للبخاري (¬1). قوله: "إِذا سمعتم الإِقامة": وقع في حديث [أبي] (أ) قتادة: "إذا أتيتم الصلاة" (¬2)، ولا مخالفة بين الروايتين في المعنى؛ لأنه إذا كان مأمورًا بالمشي مع سماع الإقامة وخشية الفوات فبالأولى أن يؤمر به مع الإتيان إلى الصلاة قبل سماع الإقامة وتجويز الإدراك. وقوله: "وعليكم السكينة": بحذف الباء كذا في رواية الأكثر للبخاري، وفي رواية (¬3) أبي ذر بزيادة الباء، وعلى حذف الباء فقد (ب) ضبط القرطبي (¬4) رواية مسلم بالنصب مفعولًا لعليكم، وضبطها النووي (¬5) بالرفع على أنها مبتدأ، "وعليكم" خبره، وهي جملة حالية. واستشكل بعضُهم دخول الباء لأن "عليكم" يتعدي بنفسه، إذ هو بمعنى خُذْ أو ألزم. ولكنها قد ثبتت زيادة الباء في أحاديث صحيحة ¬

_ (أ) في النسخ: قتادة، والتصحيح من مسلم. (ب) في هـ: فقط.

كحديث: "عليكم برخصة اللَّه" (¬1)، "وعليه بالصوم" (¬2)، و"عليك بالمرأة" (¬3)، وغير ذلك، ولها محمل صحيح في العربية وهي الحمل على الزيادة في مفعول "عليكم"، وهو وإن كان يتعدى بنفسه لكنه لضعفه في العمل فيعمد (أ) بحرف عادته إيصال الفعل اللازم إلى مفعوله. "والسكينة والوقار": قال القاضي عياض: (¬4) هما بمعنى واحد، وذكر الثاني تأكيدًا للأول، وقال النووي (¬5): الظاهر أن بينهما فرقًا وأن السكينة التأني في الحركات واجتناب العَبَث، والوَقَار في الهيئة كغض الطرف وخفض الصوت، وعدم الالتفات. [وقيل: السكينة في القلب، والوقار في الأفعال (ب)] (جـ). وقوله: "ولا تسرعوا": فيه زيادة تأكيد للأمر بالمشي وما تبعه، وفي عدم الإسراع أيضًا فضيلة تكثير الخطا، وهو معنى مقصود لذاته وردت فيه أحاديث كحديث جابر عند مسلم (¬6): "إن بكل خطوة درجة"، ولأبي داود (¬7) من طريق سعيد بن المسيب مرفوعًا: "وإذا توضأ أحدكم فأحسن ¬

_ (أ) في هـ: فَيُعْمَل. (ب) في جـ: القلب. (جـ) في هامش الأصل وفيه بعض المحو واستدركته من نسخة هـ.

الوضوء ثم خرج إلى المسجد، لم يرفع قدمه اليُمْنَى إلا كتب اللَّه له حسنة، ولم يضع قدمه اليسرى إلا حط عنه سيئة، فإن أتى السجد فصلى في جماعة غُفِرَ له، فإن أتى وقد صلوا بعضًا وبقي بعضٌ، فصلى ما أدرك، وأتم ما بقي، كان كذلك، وإن أتى المسجد وقد صلوا فأتم الصلاة، كان كذلك". ويؤخذ من الحديث أنه ينبغي ترك فضيلة إذا كان يحصل في تركها إدراك فضيلة غيرها، وقد نبه في رواية مسلم على الحكمة في شرعية هذا الأدب، قال في آخر حديث أبي هريرة: "فإن أحدكم إذا كان يعمد إلى الصلاة فهو في صلاة" (¬1)، أي أنه في حكم المصلي فينبغي له اعتماد ما ينبغي للمصلي اعتماده، واجتناب ما ينبغي للمصلي اجتنابه. وقوله: "فما أدركتم": جواب شرط محذوف، أي إذا فعلتم ما أمرتم به مِنْ ترك الإسراع ونحوه فما أدركتم فصلوا: فيه دلالة على أنه يدرك فضيلة الجماعة إذا دخل مع الإمام في أي جزء من جزاء الصلاة، ولو دون ركعة، وهو قول الجمهور (¬2)، وذهب جماعة إلى أنه لا يدرك الجماعة بأقل من ركعة، لقوله: "مَنْ أدرك ركعة من الصلاة فقد أدركها"، وفي الجمعة أيضًا كما سيأتي اشتراط إدراك ركعة، فيقاس سائر الصلوات عليها. وقد يجاب عنه بأن ذلك في الأوقات لا في الجماعة، والجمعة مخصوصة، وهذا دليل الخصوص، وهو محتمل. ¬

_ (¬1) مسلم 1/ 421 ح 152 - 602 م. (¬2) المجموع 4/ 104، الفتح 2/ 118.

واستدل بهذا الحديث على صحة الدخول مع الإمام في أي حالة وجده عليها، وقد أخرج ابن أبي شيبة عن رجل من الأنصار مرفوعًا: "من وجدني راكعًا أو قائمًا أو ساجدًا فليكن معي على حالتي التي أنا عليها" (¬1). وقوله: "وما فاتكم فأتموا": أكثر الروايات بـ "أتموا" فإنها الصحيحة في رواية الزهري لحديث أبي هريرة، وكذا في رواية مسلم عن (أ) طريق عبد الرزاق وأقل الروايات بلفظ: "فاقضوا"، فأخرج أحمد (¬2) من حديث أبي هريرة: "فاقضوا"، وأخرج أبو داود كذلك (¬3) قال (¬4): ووقعت في رواية أبي رافع عن أبي هريرة قال: وكذا قال ابن سيرين عن أبي هريرة: "وليقض"، وقد روي من حديث أبي قتادة، كذلك رواية الجمهور: "فأتموا"، ووقع لمعاوية بن هشام عن شيبان: "فاقضوا" (¬5)، وفي رواية ابن سيرين عند مسلم بلفظ: "صل ما أدْرَكْتَ واقْضِ ما سبقك" (¬6) والمعنى من الإتمام: الإكمال، وأما القضاء فقد يطلق على معنى أدى الشيء كقوله: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ} (¬7) فإذا حمل على هذا المعنى فلا مغايرة بين الروايتين، وقد يطلق على أداء (ب الفائت وهو ب) الغالب، ويرد ¬

_ (أ) في جـ، هـ: من (ب - ب) ساقطة من هـ.

أيضًا لمعان أُخَر، والأولى جَعْلهما (أ) بمعنى واحد، لأن مخرج الحديث واحد، فإذا اختلف في بعض ألفاظه وأمكن ردها إلى معنى واحد كان أولى. وقد استدل به من قال: إن ما أدركه مع الإمام آخر صلاته، وهو أبو حنيفة ومالك (¬1) وزيد بن علي وغيرهم، وذهب الجمهور (¬2) إلى أن (ب) ما أدركه أول صلاته، بدليل أن تكبيرة الإحرام إنما تكون في أول الصلاة، وأنه في آخر صلاته يتشهد التشهد الأخير قبل التسليم اتفاقًا، وقول ابن بطال (¬3): إنه ما تشهد إلا لأجل السلام، لأن السلام يحتاج إلى سبق تشهد، ليس بالجواب الناهض. وقال الجمهور من العلماء القائلين بأن ما أدرك هي أول صلاته: إنه يقضي مثل الذي فاته من قراءة السورة مع أم القرآن في الرباعية، لكن لم يستحبوا له إعادة الجهر في الركعتين الباقيتين، والحجة على ذلك ما أخرجه البيهقي: "ما أدركت مع الإمام فهو أول صلاتك واقض ما سبقك به من القرآن" (¬4)، وعن إسحق والمزني: لا تقرأ إلا أم القرآن فقط. وهو القياس. واستدل بالحديث على أن مَنْ أدرَكَ الإمامَ رَاكعًا لم تُحْسَب تلك الركعة للأمر بإتمام ما فاته لأنه فاته القيام والقراءة فيه، وهو قول أبي هريرة ¬

_ (أ) في جـ: جعلها. (ب) في هـ: أنه.

وجماعة، بل حكاه البخاري في "القراءة خلف الإمام" (¬1)، عن كلِّ من ذهب إلى وجوب القراءة خلف الإمام، واختاره ابن خزيمة والصبيعي وغيرهما من محدثي الشافعية، وقواه الشيخ تقي الدين السبكي من المتأخرين (¬2)، وحُجة الجمهور حديث أبي بكرة حيث ركع دون الصف ولم يأمره بقضاء قراءة ولا غيرها (¬3). واللَّه أعلم. 321 - وعن أُبَي بن كعب -رضي اللَّه عنه- قال: قال رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -: "صلاة الرجل مع الرجل أزْكى من صَلاتِهِ وَحْدَهُ، وصلاته مع الرَجُلَيْنِ أزْكَى من صلاته مع الرجك، وما كان أكثر فهو أحب إِلى اللَّه عزَّ وجلَّ". رواه أبو داود والنسائي وصححه ابن حبان. وأخرجه أيضًا ابن ماجه، وصححه ابن السكن والعقيلي والحاكم (¬4)، وذكر الاختلاف فيه، وبسط ذلك، وقال النووي (¬5): أشار ابن المديني إلى ¬

_ (¬1) القراءة خلف الإمام للبخاري 56. (¬2) المجموع 4/ 100. (¬3) وقد ضعف الإمام النووي القول الأول وقال: إنه ضعيف مزيف .. وأن الذي أطبق عليه جماهير الأصحاب وجماهير العلماء أن من أدرك الركوع فقد أدرك الركعة. وقال صاحب التتمة: هذا ليس بصحبح لأن أهل الأعصار اتفقوا على هذا فلا يعتد بخلاف من بعدهم. المجموع 4/ 100. (¬4) أبو داود وأوله (صلى بنا رسول اللَّه الصبح): الصلاة، باب في فضل صلاة الجماعة 1/ 375 ح 554، النسائي: الإمامة، الجماعة إذا كانوا اثنين 2/ 81، ابن ماجه: إقامة الصلاة، باب فضل الصلاة في جماعة 1/ 259 ح 790، ابن حبان (موارد)، باب ما جاء في الصلاة في الجماعة 121 ح 429 - 430، البيهقي: الصلاة، باب الاثنين فما فوقهما جماعة 3/ 67، الطيالسي 75 ح 554، ابن خزيمة، باب ذكر البيان أن ما كثر من العدد في الصلاة جماعة كانت الصلاة أفضل 2/ 336 ح 1476، أحمد 5/ 140، الحاكم 1/ 247 - 248، وقال: حكم أئمة الحديث يحيى بن معين وعلي بن المديني ومحمد بن يحيى الذهلي وغيرهم لهذا الحديث بالصحة 1/ 249. (¬5) المجموع 4/ 82.

صحته، وعبد اللَّه بن أبي بصير (¬1) راويه عن أبي العبدي قيل: لا يُعرف لأنه ما روى عنه غير أبي إسحاق السبيعي، لكن أخرجه الحاكم (¬2) من رواية العيزار بن حريث عنه، فارتفعت جهالة عينه. وأخرجه البزار والطبراني (¬3) ولفظه: "صلاة الرجلين يؤم أحدهما صاحبه أزكى عند اللَّه من صلاة أربعة تترى، وصلاة أربعة يؤم أحدهم هو أزكى عند اللَّه من صلاة ثمانية تترى، وصلاة ثمانية يؤم أحدهم أزكى عند اللَّه من صلاة مائة تترى". قوله "أزكى": أي أفضل، وقد وقع في رواية بلفظ: "أفضل" فهي مفسرة. وفي الحديث دلالة على أن أقل عدد صلاة الجماعة إمام ومأموم، وهو موافق لما أخرجه ابن ماجه من حديث أبي موسى: "اثنان فما فوقهما جماعة" (¬4)، ورواه البيهقي (¬5) أيضًا من حديث أنس وفيهما ضعيف، ¬

_ (¬1) عبد اللَّه بن أبي بصير العبدي الكوفي وثقه العجلي. ثقات العجلي 251، تهذيب التهذيب 5/ 161، الكاشف 2/ 57، أبو بصير العبدي الكوفي الأعمى، يقال: اسمه حفص، مقبول، التهذيب 395. (¬2) الحاكم 1/ 248. (¬3) قال الحافظ في التلخيص: وأخرج له الحاكم شاهدًا من حديث قباث بن أشيم وفي إسناده نظر 3/ 625، وأخرجه البزار والطبراني مجمع الزوائد 2/ 39. قال الهيثمي: ورجال البزار موثقون. (¬4) ابن ماجه 1/ 312 ح 972، الدارقطني 1/ 280، البيهقي 3/ 69، وفيه الربيع ووالده بدر بن عمرو بن جراد السعدي، لقبه عليلة، مجهول، المغني 1/ 101، ابنه الربيع بن بدر السعدي أبو العلاء البصري متروك، التقريب 100. (¬5) البيهقي 3/ 69، وفيه سعيد بن زربي، منكر الحديث، مرَّ في ح 146.

وبَوَّبَ عليه البخاري: باب الاثنين فما فوقهما جماعة (¬1)، واستدل له بحديث مالك بن الحويرث: "إذا حضرت الصلاةُ فأذِّنَا، ثم أقيما ثم ليؤمَّكما أكبركما" (¬2). قال النووي في "الخلاصة": ويستدل فيه أيضًا بالإجماع، وفي دعواه الإجماع نظر، فقد حكى ابن الرفعة في "الكفاية" خلافًا في أن أقل الجماعة ثلاثة هو ضعيف، وحكاه ابن بطال في "شرح البخاري" (¬3) عن الحسن البصري. 322 - وعن أم وَرَقة - رضي اللَّه عنها - "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمَرَهَا أن تؤمَّ أهْلَ دَارِهَا" رواه أبو داود، وصححه ابن خزيمة (¬4). هي: أم ورقة بنت نوفل الأنصارية، وقيل: بنت عبد اللَّه بن الحارث بن عويمر، وكان رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - يزورها، ويسميها "الشهيدة"، وكانت قد جمعت القرآن وكانت تؤم أهل دارها، روى عنها عبد الرحمن بن خلاد، لها ذكر في صلاة الجماعة (¬5). ¬

_ (¬1) البخاري 2/ 142. (¬2) البخاري 2/ 142 ح 658. (¬3) شرح ابن بطال، باب اثنان فما فوقهما جماعة. (¬4) أبو داود: الصلاة، باب إمامة النساء 1/ 397 ح 592، ابن خزيمة، باب إمامة المرأة في النساء، وطرفه "انطلقوا بنا نزور الشهيدة" 3/ 89 ح 1676، الدارقطني، باب في ذكر الجماعة وأهلها وصفة الإمام 1/ 279، والحاكم، الصلاة 1/ 232، أحمد 6/ 45. الحديث فيه عبد الرحمن بن خلاد الأنصاري، مجهول الحال. التقريب 201 وفي رواية الحاكم روى الوليد بن جميع عن عبد الرحمن وليلى بنت مالك، فاعتضد الحديث بليلى بنت مالك فانتفت جهالة الحال. وفيه الوليد بن عبد اللَّه بن جميع الزهري المكي، صدوق يهم. التقريب 370. (¬5) الاستيعاب 13/ 307، الإصابة 13/ 304.

وأخرج الحديث الدارقطني والحاكم، وأصل الحديث أن النبي - صلى اللَّه عليه وسلم - لما غزا بدرًا قالت: يا رسول اللَّه: "أتأذن لي في الغزو معك؟ .. " الحديث وأمرها أن تؤم أهل دارها، وجعل لها مؤذنًا يؤذن لها وكان لها غلام وجارية دبرتهما، قال عبد الرحمن: (أفأنا رأيتُ أ) مؤذنها شيخًا كبيرًا، وفي الحديث، أن الغلام والجارية قاما إليها بالليل، فعماها بقطيفة لها حتى ماتت، وذهبا، فأصبح عمر فقام في الناس فقال: مَنْ عنده منْ عِلْمِ هَذين؟ أو: من رآهما فليجئ بهما، فأمر بهما فصُلِبَا، فكانا أوَل مصلوب بالمدينة. وظاهر الحديث أن المرأة كانت تؤم بالمؤذن والغلام والجارية، فإنهم أهل دارها، ولم يذهب إلى صحة ذلك إلا أبو ثور والمزني والطبري (¬1). واللَّه أعلم. [وقال الدارقطني: إنما أذِنَ لها تؤم نساء أهل دارها] (ب). 323 - وعن أنس - رضي اللَّه عنه - "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - استَخْلَفَ ابن أمِّ ¬

_ (أ - أ) فأريت. (ب) بهامش الأصل.

مكْتومٍ يَؤمّ النَّاس، وهو أعْمَى". رواه أحمد وأبو داود (¬1)، ونحوه لابن حبان عن عائشة (¬2) - رضي اللَّه عنها - استخلفه النبي - صلى الله عليه وسلم -، في رواية لأبي داود: "مرتين" (¬3). واستخلافه في بعض غزوات النبي - صلى الله عليه وسلم - في الصلاة وغيرها، قيل: إلا القضاء، والظاهر العموم، فإن الإمارة خصوصًا في عصر الصحابة شاملة للقضاء، [ويدل عليه ما أخرجه الطبراني من حديث ابن عباس: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - استخلف ابن أم مكتوم على الصلاة وغيرها (¬4) "، وإسناده حسن] (أ)، وقد عد مرات الاستخلاف له فانتهت إلى ثلاثة عشرة. ذكره في "الخلاصة" (¬5). وفي الحديث دلالة على صحة الصلاة خلف الأعمى، وأن (ب) لا كراهة في ذلك. 324 - وعن ابن عمر - رضي اللَّه عنهما - قال: قال رسول اللَّه ¬

_ (أ) بهامش الأصل وفيه بعض المحو واستدركته من نسخة هـ. (ب) في جـ، هـ: وأنه.

- صلى الله عليه وسلم -: "صلُّوا على مَنْ قال: لا إِله إلا اللَّه، وصلُّوا خلف من قال: لا إِله إِلا اللَّه". رواه الدارقطني بإسناد ضعيف (¬1). الحديث في إسناده عثمان بن عبد الرحمن عن عطاء عن ابن عمر (¬2)، كذبه يحيى بن معين، وطريق أخرى عن نافع عن ابن عمر (¬3)، وفي إسناده خالد بن إسماعيل عن العمري به، وخالد متروك، وأخرج أيضًا من طريقين ضعيفين (¬4). قال في "البدر المنير" (¬5): هذا الحديث من جميع طرقه لا يثبت. في الحديث دلالة على أنه تجب الصلاة على مَنْ قال لا إله إلا اللَّه، وظاهره عموم كل قائل وإن لم يأتِ بالواجبات ويجتنب الفواحش، وقد ذهب إلى هذا زيد بن علي وأحمد بن عيسى، وهو قول أبي حنيفة والشافعي، إلا أن أبا حنيفة وصاحبيه استثنوا الباغي وقاطع الطريق، ¬

_ (¬1) الدارقطني، باب صفة من تجوز الصلاة معه والصلاة عليه 2/ 56، الخطيب في التاريخ في ترجمة عثمان بن نصر العاني 10/ 293، حلية الأولياء في ترجمة نصر الصامت 10/ 320. ذكر أخبار أصبهان 2/ 317، الطبراني في الكبير 12/ 447 ح 13622. قال الهيثمي: وفيه محمد بن الفضل بن عطية، كذاب، المجمع 2/ 67. (¬2) عند الدارقطني وأبي نعيم، وفيه عثمان بن عبد الرحمن القرشي الزهري الوقاصي المالكي أبو عمرو، قال البخاري: تركوه. وقال النسائي والدارقطني: متروك، الميزان 3/ 43، المجروحين 2/ 98 - 99. (¬3) عند الدارقطني والخطيب، وفي إسناده خالد بن إسماعيل أبو الوليد المحزومي المدني، قال ابن عدي: يضع الحديث، المغني في الضعفاء 1/ 201، الكامل 2/ 913، الميزان 2/ 372. (¬4) أ) من طريق مجاهد، وهي عند الدارقطني وفيه محمد بن الفضل بن عطية بن عمر العبدي الكوفي مولاهم نزيل بخاري، كذبوه. التقريب 315. ب) من طريق سعيد بن جبير، وهي عند أبي نعيم في "الحلية"، وفيه نصر بن الحرشي الصامت، قال الدارقطني: ضعيف. الإرواء 2/ 307. (¬5) البدر المنير 4/ 141 - 142.

وللشافعي أقوال أحدها الموافقة في قاطعِ الطريق إذا صُلبَ، ودليل وجوب الصلاة عموم هذا الحديث وحديث: "منْ قَتَلَ نفسه بَمشاقص" (¬1)، فإنه قال: "أمَّا أنا فلا أصلي عليه"، ولم ينههم عن الصلاة عليه، وعموم دليل (أ) وجوب صلاة الجنازة، فالمخصص يحتاج إلى دليل، ولعل وجه تخصيص أبي حنيفة والشافعي لمن ذكر. أما أبو حنيفة فيقول: إنهما غير محقوني الدم، فلا حرمة لهما، والصلاة إنما هي لرعاية حرمة الإسلام، فأشبها الكافي الحربي، وبقي ما عداهما على العموم، وأما الشافعي فلعله يقول: شرعت الصلاةُ لحُرمة الذات التي تواري بالدفن إكرامًا لها، ولما كان ذلك مصلوبًا غير مكرم بالدفن خصص من عموم الصلاة. وذهب الهادي وغيره من أتباعه وغيرهم إلى أنه لا يصلى على الفاسق، قالوا: قياسا على الكافر، وتد منع من الصلاة عليه بقوله: {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أحَدٍ منْهُمْ} (ب) (¬2)، والحديث ضعيف، وقد يُجَابُ بأن القياس غير معتبر مع ورود حديث صاحب المشاقص. والحديث المذكور -وإن كان ضعيفًا- فهو متأيد بعموم دليل (جـ) شرعية صلاة الجنازة، ومثل هذا كاف في الشرعية. وقوله: "صلوا خلف من قال لا إله إلا الله": تقدم الكلام عليه (¬3). ¬

_ (أ) ساقطة من جـ. (ب) زاد في هـ: مات. (جـ) ساقطة من جـ.

325 - وعن علي - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "إِذَا أتَى أحدُكم الصَّلاةَ، والإمامُ عَلَى حَالٍ، فَلْيَصْنَعْ كما يصنعُ الإِمام". رواه الترمذي بإسنادٍ ضعيف (¬1). أخرجه الترمذي من حديث على ومعاذ، وفيه ضعف وانقطاع (¬2)، وقال: لا نعلم أحدًا أسنده إلا من هذا الوجه، وأخرجه أيضًا أبو داود وأحمد (¬3) من حديث ابن أبي ليلى عن معاذ، وفي آخره. فقال: -يعني معاذًا- "لا أجده، -يعني النبي - صلى الله عليه وسلم - على حالٍ أبدًا إلا كنت عليها، ثم قضيتُ ما سبقني"، قال: فجاء وقد سبقه (أ) النبي - صلى الله عليه وسلم - ببعضها، قال: فقمت معه، قال: فلما قضى النبي - صلى الله عليه وسلم - صلاته، قام (ب) يقضي، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "قد سَنَّ لكم معاذ فهكذا فاصنعوا". وعبد الرحمن لم يسمع من معاذ (¬4) لأن معاذًا قديم الوفاة، ولكن أبو داود أخرجه من وجه آخر (¬5) ¬

_ (أ) في جـ: سبق. (ب) في جـ: فقام.

عن عبد الرحمن بن أبي ليلى: حدثنا أصحابنا: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -" فذكر الحديث، وفيه: فقال معاذ: "لا أراه على حالٍ إلا كنتُ عليها .. " الحديث .. وبهذا يندفع توهم الانقطاع، إذ الظاهر أن الراوي لعبد الرحمن غيرِ معاذ من سائر الصحابة، وحكى عبد الرحمن ما قاله معاذ كما روى له مَنْ شَهِدَ القصة. وفي الحديث دلالة على صحة دخول اللاحق مع الإمام في أي جُزْءٍ من أجزاء الصلاة، بل على شرعية ذلك، إذ الأمر أقل مراتبه الندب، والظاهر أنه متفق على ذلك إذا كان الإمام قائمًا أو راكعًا. [وأنه يعتد به إلا ما روي عن أبي هريرة وهو موقوف عليه أنه لا يعتد بالركوع، ومن قال بقوله كما تقدم قريبًا (¬1)] (أ)، وإنْ (ب) كان ساجدًا أو قاعدًا (جـ) فذهب إلى هذا أبو حنيفة والشافعي (¬2). ويقعد بقعود الإمام، ويسجد بسجوده، ولا يعتد بذلك. وذهب المؤيد بالله (¬3) إلى أنه يكبر مِنْ قيَامٍ وينتظر الإمام قائمًا، ولا يقرأ، وقال المنصور بالله (¬4): وإن قرأ جاز، وقال الحقيني (¬5): ذكر المؤيد بالله الجائز والأفضل أن يقعد معه كما هو مذهب أبي حنيفة والشافعي، وفي معنى هذا الحديث ما تقدم قريبًا من حديث ابن أبي شيبة: "مَنْ وجدني راكعًا أو قائمًا أو ساجدًا فليكن معي على حالتي التي أنا عليها" (¬6)، وأخرج ابن ¬

_ (أ) في هاش الأصل، وفي جـ: تقديم وتأخير. (ب) في جـ، هـ: فإن. (جـ) زاد في هـ: أو قائمًا.

خزيمة مرفوعًا من حديث أبي هريرة: "إذا جئتم ونحن سجود، فاسجدوا، ولا تَعُدُّوها شيئًا، ومَنْ أدرك الركعة فقد أدرك الصلاة" (¬1). وأخرج أيضًا في "صحيحه" مرفوعًا عن أبي هريرة: "مَنْ أدرك ركعة من الصلاة فقد أدركها قبل أن يقيم الإمام صلبه" (¬2)، وترجم له: ذِكْر الوقت الذي يكون فيه المأموم مدْرِكًا للركعة إذا ركع إمامه، فعرفتَ منْ هذا أنه لا وجه لما ذهب إليه المؤيد، وذهب الهادوية إلى أنه إذا أدركه ساجدًا أو قاعدًا نُدبَ له المتابعة ولا يُحْرِمُ بالصلاة، ومتى قام الإمام ابتدأ معه الصلاة بالتكبير، قالوا: لقوله لمن أدرك السجدة: "ولا تعدوها شيئًا"، ويجاب عن ذلك بأن الحديث إنما يدل على عدم الاعتداد، وأما الدخول بالتكبير وعدم إعادته فصريح في ذلك فلا وجه له، والله أعلم. [اشتمل (أ) الباب على ثلاثة وثلاثين حديثًا] (ب). ¬

_ (أ) زاد في جـ: هذا. (ب) بهامش الأصل.

باب صلاة المسافر والمريض

باب صلاة المسافر والمريض 326 - عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: "أول ما فُرِضَت الصلاةُ ركعتَيْن، فأقرت صلاةُ السَّفَر، وأتمت صلاةُ الحَضَر". متفق عليه (¬1). وللبخاري: "ثم هاجر ففرضت أربعًا وأقرّت صلاة السفر على الأول" (¬2). زاد أحمد: "إِلا المغرب، فإِنها وِتْر النهار، وإِلا الصبح، فإنها تطول فيها القراءة". قوله: "أول ما فُرِضَت .. ". إلخ: فرضت ظاهر في أنَّ المعنى بالفرض هو الإيجاب أي أوجبت، فيكون فيه دلالة على وجوب القَصْر على المسافر، كما ذهب إليه الهادوية والحنفية (¬3). ومن السلف على وعمر رضي الله عنهما (أ) وغيرهم من الأئمة، ويحتمل أن معناه: قدرت، فلا دلالة حينئذ، وقد ذهب إلى عدم الوجوب عائشة وعثمان ورواية عن ابن عباس والشافعي (ب وغيرهم من الأئمة وقالوا: ب) إن القصر رُخصة والتمام كذلك مستويان، وقول للشافعي أن القصر رخصة والتمام أفضل، وهو مذهب ¬

_ (أ) في الأصل: على رضي الله عنه وعمر. (ب- ب) ساقطة من جـ.

الناصر، وقول ثالث (أ) للشافعي (¬1) أن القصر أفضل، وهو الصحيح عند الشافعية (¬2) ويتأولون حديث عائشة بما تقدم، أو أن المراد أنه فرض لمن أراد القَصْر، واستدلوا على ما ذهبوا إليه بما ثبت في "صحيح مسلم" (¬3) وغيره أن الصحابة -رضي الله عنهم- كانوا يسافرون مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فمنهم القاصر، ومنهم المُتِمُّ، ومنهم الصائم، ومنهم المفطر، لا يعيب بعضهم على بعض، وبأنَّ عَثمان كان يتم، وكذلك عائشة، وغيرها (¬4)، وهو ظاهر قول الله تعالى: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ} (¬5). وفي زيادة أحمد: "إِلا المغرب" دلالة على أن المغرب على أصل شرعيتها لا تتغير، وكونها وتر النهار يعني أن صلاة النهار كانت شفعًا، والمغرب آخرها لوقوعها عقيب آخر جزء من النهار، فهي وتر لصلاة النهار، كما أنه شرع لصلاة الليل الوتر، والوتر محبوب لله تعالى كما تقدم في الحديث: "إن الله وتر يحب الوتر". وقوله: "وإِلا الصبح فإِنها تطول فيها القراءة": يعني أنه لا تغيير لصلاة الفجر، بل هي في الحَضَر والسفر ركعتان مشروع فيها تطويل ¬

_ (أ) سقط من جـ لفظ: ثالث.

القراءة، ولذلك عبر عنها بقرآن الفجر لما كانت القراءة فعظم أركانها لطول زمنها فيها (أ). فعمر عنها بها من إطلاق الجزء الأعظم على جميع الشيء. والله أعلم. فائدة: قال الدميري: رُخَصُ السَّفَر أربع يختص بالطويل، وهي المسح على الخف، والقصر، والجمع، والفطر (¬1)، وأربع تجوز في القصير والطويل: أكل الميْتَة، والتنفل على الراحلة، وإسقاط الصلاة بالتيمم، وترك الجمعة. وفي المهمات زيادة على ذلك، والأصل في مطلق الرخصة ما روى مسلم عن عائشة (¬2) قال: "رَخَّصَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أمر فَنَفَرَ عنه ناس، فبلغ ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - فغضب حتى بان الغضبُ في وجهه ثم قال: مَا بَالُ أقْوامٍ يرغَبون عما رُخِّص لهم، فوالله لأنا أعلمُهم بالله، وأشدُّهم له خشية". انتهى. 327 - وعن عائشة - رضي الله عنها - "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقصر في السفر ويتم، ويصوم ويفطر". رواه الدارقطني (¬3) ورواته ثقات إلا أنه معلول. ¬

_ (أ) ساقطة من جـ.

والمحفوظ عن عائشة - رضي الله عنها - من فعلها وقالت (أ): "إنه لا يشق عليّ" أخرجه البيهقي (¬1) [يعني فعلها ذلك مع النبي - صلى الله عليه وسلم - وتقرير النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك كما في رواية عبد الرحمن بن الأسود عن عائشة] (ب). و (جـ) أخرجه الدارقطني من حديث عطاء عن عائشة، ولفظه: "تتم وتصوم" بالمثناة من فَوْق، وقد استنكره أحمد، فإن عروة ذكر أنها كانت تتم، وأنها تأولت ما تأول عثمان. [وتأويلها أنها قالت لعروة: يا ابن أختي (د) إنه لا يشق علي] (5)، كما في "الصحيح" فلو كان (و) عندها عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، رواية لم يَقلْ عروة عنها تأولت (ز)، وقد ثبت في الصحيحين خلاف ذلك، وأخرج أيضًا الدارقطني والنسائي والبيهقي من حديث العلاء بن زهير عن عبد الرحمن بن الأسود عن عائشة: "أنها اعْتَمَرَت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من المدينة إلى مكة حتى إذا قدمت مكة قالت: "يا رسول الله بأبي أنت وأمي، أتممت وقصرت، وأفطرت وصمت، فقال: أحسنتِ يا عائشة"، وما عاب عَلَيّ" (¬2). ¬

_ (أ) في جـ: وقال. (ب) بهامش الأصل، ساقطة من هـ. (جـ) الواو ساقطة من جـ. (د) في جـ، هـ: أخي، والمعروف أنه ابن أختها. (هـ) في هامش الأصل. (و) في جـ: كانت. (ز) زادت هـ: قلت.

وفي رواية الدارقطني: "في عمرة في رمضان" واستنكر ذلك، فإنه - صلى الله عليه وسلم - لم يعتمر في رمضان، وفيه اختلاف في اتصاله. قال الدارقطني (¬1): عبد الرحمن أدرك عائشة ودخل عليها، وهو مراهق. قال المصنف (¬2) -رحمه الله- وهو كما قال ففي "تاريخ البخاري" (¬3) وغيره ما يشهد لذلك، وقال أبو حاتم (¬4): أدخل عليها وهو صغير، ولم يسمع منها، قلتُ: ادعى ابن أبي شيبة والطحاوي ثبوت سماعه منها، وفي رواية الدارقطني عن عبد الرحمن عن أبيه عن عائشة. قال أبو بكر ¬

_ = عائشة ودخل عليها وهو مراهق، قال شيخ الإسلام: عبد الرحمن إنما دخل على عائشة وهو صبي، ولم يضبط ما قالته. الفتاوى 24/ 147 ولكن فيه العلاء بن زهير الأزدي تكلم عليه الشارح. قلت: وقد تكلم شيخ الإسلام ابن تيمية على هذا الحديث فقال: ونفس الحديث المروي في فعلها باطل، ولم تكن عائشة ولا أحد غيرها ممن كان مع النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي إلا كصلاته، ولم يصل معه أحد أربعًا قط لا يعرفة، ولا بمزدلفة. الفتاوى المصرية 2/ 9 - 10، وقال ابن القيم: سمعت شيخ الإسلام يقول: هو كذب على رسول الله. الهدى 1/ 464، وقال صاحب التنقيح: إن هذا المتن منكر. نصب الراية 2/ 191، وقال ابن حجر: وقد استنكره، أحمد وصحته بعيدة فإن عائشة كانت تتم، وذكر عروة أنها تأولت ولو كان عندها عن النبي - صلى الله عليه وسلم - رواية لم يقل إنها تأولت وقد ثبت في الصحيح خلاف ذلك. التلخيص 2/ 46 - 47. وقد عقب ابن القيم على كلام شيخ الإسلام بأن عائشة أتمت بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وقال ابن عباس: إنها تأولت كما تأول عثمان، ولأن النبي كان يقصر دائمًا. فركب بعض الرواة بين الحديثين حديثًا وقال: فكان رسول الله يقصر وتتم هي، فغلط بعض الرواة فقال: كان يقصر ويتم: أي هو. (¬1) السنن 2/ 188 وقال: وسمع منها. (¬2) التلخيص 2/ 46. (¬3) التاريخ الكبير 5/ 815. (¬4) الجرح والتعديل، وليس فيه (ولم يسمع منها) 5/ 209.

النيسابوري: من قال فيه عن أبيه فقد أخطأ، واختلف قول الدارقطني فيه، فقال في "السنن" (¬1): إسناده حسن، وقال في "العلل": المُرْسَلُ أشبه. والعلاء بن زهير، قال الذهبي في "الميزان": (¬2) وثقه ابن معين، وقال ابن حبان (¬3): كان ممن يروي عن الثقات ما لا يشبهه حديث الأثبات (أ) انتهى. فبطل الاحتجاج به فيما لم يوافق الأثبات (أ)، وبطل بهذا ادعاء ابن حزم، جهالة العلاء، فقد عرف عينًا وحالًا. الحديث فيه دلالة على استواء الأمرين، من قصر الصلاة وإتمامها، والإفطار والصوم كما هو (ب) أحد أقوال الشافعي، وقد مر. 328 - وعن ابن عمر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِن الله يحبُّ أن تُؤتَى رُخَصُه، كما يكره أن تُؤتَى معصيته" رواه أحمد، وصححه ابن خزيمة وابن حبان (¬4). ¬

_ (أ) (انتهى مثبتة في هـ بعد قوله (فيما لم يوافق الأثبات). (ب) ساقطة من هـ.

وفي رواية: "كما يحب أن تؤتى عزائمه" (¬1). قوله: "إِن الله يحب": المحبة من الله (¬2) يُرادُ بها رضاه بفعل العبد، والكراهة عدم ذللك، والرخصة، مراد بها ما سهله لعباده ووسعه عند الشدة من ترك بعض الواجبات، أو (أ) إباحة بعض المحرمات، وفي اصطلاح أهل الأصول: ما شرع من الأحكام لعذر، والعزيمة، مقابل بالمعنيين، وجمع بين الرخصة والمعصية هنا لما كان في كل واحد منهما تَرْك طاعة. 329 - وعن أنس - رضي الله عنه - قال: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إِذا خرج مسيرة ثلاثة أميال -أو فراسخ- صلى ركعتيْن". رواه مسلم (¬3). وعنه قال: "خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من المدينة إِلى مكة، وكان يصلي ركعتين ركعتين حتى رجعنا إِلى المدينة". متفق عليه، واللفظ للبخاري (¬4). ¬

_ (أ) في جـ: و.

قوله: "إِذا خرج": ظاهره في أنه إذا كان قصده مسافرة، هذا القدر، لا أنه إذا أراد السفر الطويل، فلا يقصر إلا بعد هذه المسافة. وقوله: "ثلاثة أميال أو فراسخ": الشك من شعبة وليس التخيير في أصل الحديث، والمِيل (¬1): هو المحل المتسع من الأرض، مأخوذ من ميل النظر لأنه يميل عنه على وجه الأرض حتى يفنى إدراكه، وبهذا حده الجوهري، وقيل: حده أن ينظر إلى الشخص في أرض مستويه فلا يدري أهو رجل أم امرأة أو غير ذلك، وقال النووي: هو ستة آلاف ذراع، والذراع أربعة وعشرون إصبعًا معترضة متعادلة، والإصبع ست شعيرات معترضة متعادلة، وتيل: هو اثنا عشر ألف قَدَم بقدم الإنسان، وقيل: هو أربعة آلاف ذراع، وقيل: بل ثلاثة آلاف ذراع، وقيل: وخمسمائة، وبنى على هذا ابن عبد البر، وقيل: هو ألفا ذراع، وقيل: ألف خطوة للجَمل، وقيل: ثلاثة آلاف ذراع بالذراع الهاشمي (¬2)، وهو اثنان وثلاثون إصبعًا وهو ذراع الهادي، وهو الذراع العمري المعمول عليه في صنعاء وبلادها في تاريخ سنة تسعين وألف سنة. والفرسخ: ثلاثة أميال، وهو فارسي معرّب، وقد ذهب إلي العمل بظاهر هذا الحديث أهلُ الظاهر فقالوا: يقصر في ثلاثة أميال، ورُد عليهم بأنه مشكوك فيه فلا يحتج به وهو مستقيم في أنه لا يحتج به في الثلاثة الأميال، ¬

_ (¬1) الميل بالكسر عند العرب، مقدار مدى البصر من الأرض، قاله الأزهري، وعند القدماء من أهل الهيئة: ثلاثة آلاف ذراع، وعند المحدثين أربعة آلاف ذراع، والخلاف لفظي لأنهم اتفقوا على أن مقداره ست وتسعون ألف إصبع، والإصبع ست شعيرات بطن كل واحدة إلى الأخرى، القاموس 4/ 54، المجموع 4/ 190، تهذيب الأسماء واللغات 2/ 146. (¬2) الفتح 2/ 576.

وأما الثلاثة الفراسخ فيصح العمل به فيها، والظاهر أنه لم يذهب إلى ذلك أحد، إذ الأميال داخلة فيها فيؤخذ بالأكثر احتياطًا إذ هو المتيقن، وهذا الحديث أصرح شيء في التحديد، [وأصرح منه (أ) ما روى سعيد بن منصور عن أبي سعيد قال: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا سافر فرسخًا يقصر الصلاة" (¬1)] (ب). واعم أنه انتشر الخلاف بين العلماء في السافة التي يجوز القَصْر فيها، فحكى ابن المنذر وغيره نحوًا من عشرين قولًا، وأقلّ ما قيل في ذلك [ما روى ابنُ أبي شيبة (¬2) عن محارب يقول: سمعت ابن عمر يقول: "لو خرجتُ ميلًا لقصرتُ الصلاة"، وإسناده صحيح، وقد روى هذا في "البحر"، (¬3) عن داود، ويلحق به] (جـ) ما ذهب إليه أهلُ الظاهر، ويلحق به ما ذهب إليه الباقر والصادق وأحمد بن عيسى والهادي والقاسم (¬4) أنه يقصر في مسافة برِيْد فصاعدًا، قالوا: لقوله - صلى الله عليه وسلم - في رواية أبي هريرة: "لا يحل لامرأة تسافر بريدًا إلا ومعها محرم" أخرجه أبو داود (¬5)، وفي رواية ¬

_ (أ) ساقطة من جـ. (ب) بهامش الأصل. (جـ) بهامش الأصل.

البخاري "يومًا وليلة" (¬1) فسمى البريد سفرًا. قال في "البحر" (¬2): ولقصره - صلى الله عليه وسلم - إذا خرج من مكة إلى عرفات وهو بريد، وهذا فيه نظر، إذ مكة ليس (أ) ابتداء سفره فلا حجة فيه. وقال أبو حنيفة (¬3): أربعة وعشرون فرسخًا، لقوله - صلى الله عليه وسلم - في رواية ابن عمر: "لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر فوق ثلاثة أيام إلا مع مَحْرَم" أخرجه البخاري (¬4)، وسير الإبل في كل يوم ثمانية فراسخ، وقال الشافعي (¬5): ستة وأربعون ميلًا، وقدرها أربعة بُرُد لحديث ابن عباس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تقصروا الصلاة في أقل من أربعة بُرد من مكة إلى عسفان" وسيأتي (¬6). وأخرج البيهقي (¬7) بإسناد صحيح أن ابن عمر وابن عباس كانا يصليان ركعتين ويُفْطِران في أربعة بُرد فما فوق، وروى الشافعي (¬8) بإسناد صحيح عن ابن عباس، أنه سُئِلَ أتقصر الصلاة إلى عرفة؟ يعني: من مكة، ¬

_ (أ) في هـ: ليست.

فقال (أ): "لا ولكن إلى عسفان، وإلى جدة وإلى الطائف"، وهذه الأمكنة كل واحد منها بينه وبين مكة أربعة بُرُد فما فوقها، وذكر هذا البخاري (¬1) في "صحيحه" تعليقا بصيغة الجَزْم، والظاهر أنه توقيف. وذهب زيد بن علي (¬2) والناصر والنفس الزكية والداعي والمؤيد وأبو طالب والثوري والنخعي أنَّ القَصْرَ لا يكون إلا في مسافة ثلاثة أيام بسَيْر (ب) الإبل والأقدام، لقوله: "لا يحل .. " الحديث المتقدم، وهو موافق لقول أبي حنيفة، وذهب البخاري على ما تعطيه عبارته في "الصحيح" أنَّ أقلَّ السفر يوم وليلة، قال: وسمى (جـ) النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - السفر يومًا وليلة (¬3)، وهذا إشارة منه إلى ما رواه من حديث أبي هريرة (¬4) في ذلك، ولكنه قد روب في حديث أبي هريرة ثلاثة أيام (¬5)، كما رواه أيضًا من حديث ابن عمر. وقوله: "خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -": هو في حجة الوداع، ولم يَرِدْ عنه - صلى الله عليه وسلم - فيها (د) ما يخالف ذلك. ¬

_ (أ) في جـ: قال. (ب) في هـ: سير. (جـ) في جـ: وسماه. (د) ساقطة من جـ.

وقوله: "ركعتين ركعتين": الثاني منهما تأكيد لفظي، ولكنه تأكيد لازم عند قصد (أ) قسمة شيء على عدد أو نحوه يؤتى (ب) بالمقسوم عليه متكررًا. [تنيبه: اختُلف في معنى الفرسخ: فقيل السكون (¬1) ذكره ابن سيده، وقيل: السعة، وقيل: المكان الذي لا فرجة فيه، وقيل: الشيء الطويل] (جـ). 330 - وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: "أقام النبي - صلى الله عليه وسلم -، تسعة عشر يوما يقصر"، (د) وفي لفظ بمكة تسعة عشر يوما" (د) رواه البخاري (¬2). ¬

_ (أ) في جـ: قسط. (ب) في جـ: ليؤتى. (جـ) بهامش الأصل. (د- د) ساقطة من جـ، ولفظ هـ: سبعة.

وفي رواية لأبي داود: "سبع عشرة"، وفي أخرى: "خمس عشرة" (¬1). وله عن عمران بن حُصَين (¬2): "ثماني عشرة"، وله عن جابر (¬3): "أقام بتبوك عشرين يوما يقصر". ورواته ثقات، إلا أنه اختلف في وصله. قوله: "تسعة عشر يوما"، وقع في لفظ البخاري: "سبعة عشر" بتقديم السين على الباء، وأكثر الرواة بتقديم التاء المنقوطة باثنتين من أعلى، وفي رواية أبي داود: "سبعة عشر" بتقديم السين أيضًا، وقد جمع البيهقي (¬4) بين هذا الاختلاف بأن قال: تسع عشرة عدا يومي الدخول والخروج، ومن قال: "سبع عشرة" حذفهما، ومن قال: "ثماني عشرة" عد أحدهما وأسقط الآخر، ورواية "خمس عشرة" تُحمل على أن ¬

_ (¬1) وعند أبي داود 2/ 240 ح 1230. ولفظ "خمس عشرة" أبو داود 2/ 25 ح 1231، النسائي 3/ 100، ابن ماجه 1/ 342 ح 1076، أبن أبي شيبة 2/ 453. (¬2) عمران بن حصين، أبو داود 2/ 23 ح 1229، الترمذي 2/ 430 ح 545، والحديث فيه عليّ بن زيد بن جدعان، ضعيف مر في ح 62. قال ابن حجر: وإنما حسن الترمذي حديثه بشواهده، ولم يعتبر الاختلاف في المدة كما عرفت من عادة المحدثين من اعتبارهم الاتفاق على الأسانيد دون السياق 2/ 48. (¬3) أبو داود 2/ 27 ح 1235، قال أبو داود: غير معمر يرسله لا يسنده. ابن حبان (موارد) 145 ح 546، الحديث أعله الدارقطني بالإرسال والانقطاع وذلك لأن عليّ بن المبارك، وغيره من الحفاظ رووه عن يحيى بن أبي كثير عن ابن ثوبان مرسلًا. (¬4) السنن 3/ 151 - وليس فيه رواية "خمس عشرة". لكن الحافظ ابن حجر تكلم عليها في الفتح قال: ضعفها النووي في الخلاصة، وليس بجيد لأن رواتها ثقات. وهو كما قال: الفتح 2/ 562، وقال في التلخيص: وتبقى رواية خمسة عشر شاذة لمخالفتها، ورواية عشرين وهي صحيحة الإسناد إلا أنها شاذة أيضًا اللهم إلا أن يحمل على جبر الكسر، التلخيص 2/ 48.

الراوي ظن أن الأصل سبعة عشر وأسقط يوم الدخول والخروج، ولكن رواية "تسعة عشر" بالتاء المنقوطة باثنتين من أعلى أرجح الروايات، وبها أخذ إسحاق بن راهويه (¬1)، وهي أكثر ما وردت به الروايات، وأخذ الثوري (أ) وأهل الكوفة برواية "خمس عشرة" لكونها أقل ما ورد، وأخذ الشافعي برواية عمران بن حصين، فما زاد على العدد المذكور عنده في حق من لم يعزم على الإقامة، فإنه يتم فيه الصلاة، ومن عزم على الإقامة فأربعة أيام يجب فيها التمام عنده، قال لنهيه - صلى الله عليه وسلم - المهاجر من الإقامة في مكة زائدًا على ثلاثة أيام، فما ذاك إلا أنه يسمي مقيمًا فيما زاد عليها، ورجح رواية عمران بن حصين، لسلامتها عن الاختلاف عليه، فإنه لم يرو عنه إلا بلفظ (ب): "ثماني عشرة" وهي وإن كانت من رواية علي بن زيد بن جُدْعان، وهو ضعيف، ولكن الترمذي حسن حديثه هذا لشواهده، ولفظ حديث عمران قال: "غزوتُ مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وشهدتُ معه الفتح، فأقام بمكة ثماني عشرة لا يصلي إلا ركعتين، يقول: يا أهل البلد صلُّو أربعا فإنا قوم سفر"، [وقع في رواية أبي داود: "ثمان عشرة" قال في "شرح ابن رسلان"، بفتح النون والتاء، آخره للتركيب] (جـ). واعلم أن الأئمة اختلفوا في قَدْر مدة الإقامة التي يتم المسافر الصلاة إذا عزم عليها، فذهب ابن عباس والعترة والإمامية (¬2) إلى أن أقل مدة الإقامة ¬

_ (أ) في هـ: النووي. (ب) في جـ: لفظ. (جـ) بهامش الأصل وفيه بعض المحو واستدركته من نسخة هـ.

عشرة أيام، قالوا: لقول علي - رضي الله عنه: "إذا أقمت عشرًا فأتم الصلاة" (¬1) [وهو توقيف، وذهب أبو حنيفة (¬2) إلى أنَّ أقلها خمسة عشر يوما لما] (أ) روى عن ابن عباس وابن عمر -رضي الله عنهم أنهما قالا: "إذا قدمت بلدة، وأنت مسافر وفي نفسك أن تقيم خمس عشرة ليلة فأكمل الصلاة" (¬3). وذهب عثمان بن عفان - رضي الله عنه - والشافعي (¬4) ومالك وأبو ثور إلى أن أقلها أربعة أيام غير يومي الدخول والخروج، قالوا: لمنعه - صلى الله عليه وسلم - المهاجرين بعد قضاء النسك أن يزيدوا على ثلاثة أيام في مكة (¬5)، فدل على أن الأربعة الأيام يصير بها مقيمًا، وذهب النخعي إلى أن أقلها اثنا عشر يومًا، وربيعة زاد ليلة على اليوم، والبصري قال: يصير مقيمًا بدخول البلد، وعائشة بوضع الرحل، وهذه الأقوال الأخيرة لا مستند لها (¬6). وهذا الكلام في حق من عزم على الإقامة، وأما منْ لم يعزم على ¬

_ (أ) بهامش الأصل.

الإقامة وتردد، ففيه الأقوال المتقدمة، وهي مختلفة على حسب اختلاف الروايات في مدة قصره - صلى الله عليه وسلم -، في مكة، وقد عرفت اختلاف الروايات فيها. وذهب الهادي والقاسم والإمامية إلى أنَّ مَنْ لم يعزم علي السفر لا يزال يقصر إلى شهر، قالوا: لقول علي - رضي الله عنه - في رواية جعفر الصادق عنه. أنه قال في الذي يقول: "اليوم أخرج، غدًا أخرج" أنه يقصر الصلاة شهرًا (¬1). وذهب الإمام يحيى (¬2) وهو قول أبي حنيفة وأصحابه و (أ) قول للشافعي: يقصر أبدًا إذ الأصل السفر، ولِفِعْل (ب) ابن عمر فإنه أقام بأذربيجان ستة أشهر يقصر الصلاة مع التردد (¬3)، وروي عن أنس بن مالك أنه أقام بنيسابور سنة أو سنتين يقصر الصلاة (¬4)، وعن جماعة من الصحابة أنهم أقاموا في "رَامَهُرْمُز" (¬5) (جـ) تسعة أشهر يقصرون الصلاة. وللشافعي قول: إنه يتم بعد أربع، وعنه سبعة عشر يومًا وقد تقدم قول له في ثمانية عشر كما في حديث عمران بن حصين، ويرد على كثير من هذه الأقوال إقامته - صلى الله عليه وسلم - بتبوك عشرين يوما يقصر، ولا دليل في المدة ¬

_ (أ) زاد في جـ: هو. (ب) في هـ: ولفظ. (جـ) في جـ: برام هرمز.

التي قصر فيها على نفي القصر فيما زاد عليها، فيظهر رُجحان ما ذهب إليه الإمام يحيى، فإنه لا يسمى مقيما في المدة وإن طالت، وما روى من الآثار عن الصحابة -رضي الله عنهم- فللاجتهاد منها مسرح فلا يحمل على التوقيف إذ يمكن النظر، واختلاف الآراء في أنه مع المدة، هل يسمى في العرف مسافرًا فيجري عليه حكمه أو لا يسمى فيجري عليه حكم المقيم [ويؤيد هذا ما أخرجه البيهقي في "السنن" (¬1) عن ابن عباس: "أن النبي، أقام بخيْبر أربعين يوما يقصر (أ)، ثم قال: تفرد به الحسن بن عمارة (¬2) وهو غير محتج به] (ب)، وحديث جابر وَصَله معمر، فرواه عن يحيى بن أبي كثير عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان عن جابر، قال أبو داود (¬3): غير معمر لا يسنده، وأعله الدارقطني في "العلل" بالإرسال والانقطاع، فإن عليّ بن المبارك وغيره من الحفاظ رووه عن يحيى بن أبي كثير عن ابن ثوبان مرسلًا، ورواه الأوزاعي (¬4) عن يحيى عن أنس فقال: بضع عشرة. قال المصنف (¬5) -رحمه الله-: وقد أخرجه البيهقي (¬6) من حديث جابر بلفظ: "بضع عشرة"، والله أعلم (¬7). ¬

_ (أ) زاد في هـ: الصلاة. (ب) بهامش الأصل.

331 - وعن أنس - رضي الله عنه -: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إِذا ارتحل قبل أن تزيغَ الشمسُ أخَّرَ الظُّهر إِلى وقت العصر، ثم نزل فجمع بينهما، فإِن زاغت الشمسُ قبل أنْ يرتحل صلى الظُّهر ثم ركب" متفق عليه (¬1). وفي رواية الحاكم في "الأربعين" بإسناد الصحيح: "على الظهر والعصر ثم ركب". ولأبي نعيم في "مستخرج مسلم": "كان إِذا كان في سفر فزالت الشمس صلى الظهر والعصر جميعًا، ثم ارتحل". قوله: "إِذا ارتحل": أي سافر، وقوله: "تزيغ": بزاي معجمة وغين معجمة، أي تميل، وذلك بعد أن قام الفيء، وقوله: "ثم نزل فجمع بينهما": فيه دلالة على جواز جمع التأخير للمسافر وفي قوله: "صلى الظهر" هكذا الحديث المتفق عليه: أن الصلاة إنما هي الظهر فقط، وأنه لا يصلي العصر في وقت الظهر، وفي زيادة الحاكم وأبي نعيم ورواية مسلم: "أنه كان يجمع بينهما تقديمًا". واعلم أنه ورد في جمع التقديم عن ابن عباس عند أحمد والدارقطني والبيهقي (¬2) إلا أن في إسناده ضعيفًا (¬3)، والترمذي حسَّنه بكثرة المتابعة، ¬

_ (¬1) البخاري، تقصير الصلاة، باب إذا ارتحل بعد ما زاغت الشمس صلى الظهر ثم ركب 2/ 582 ح 1112، مسلم، صلاة المسافرين وقصرها، باب جواز الجمع بين الصلاتين في السفر 1/ 489 ح 46 - 704، أبو داود الصلاة، باب الجمع بين الصلاتين 2/ 17 ح 1218، النسائي، الصلاة، الوقت الذي يجمع المسافر فيه بين الظهر والعصر 1/ 229. (¬2) أحمد 1/ 367 - 368، الدارقطني 1/ 388، البيهقي 3/ 163. (¬3) لأن فيه حسين بن عبد الله بن عبيد الله بن عباس بن عبد المطلب الهاشمي المدني، ضعيف، التقريب 74. قلت: وذكر ابن حجر في "التلخيص" للحديث طرقًا أخرى أخرجها يحيى بن عبد الحميد الحماني في مسنده، وإسماعيل القاضي في الأحكام. التلخيص 2/ 51.

وعن معاذ (¬1) عند أحمد وأبي داود والترمذي وابن حبان والحاكم والدارقطني والبيهقي في غزوة تبوك في الظهر والعصر والمغرب والعشاء، قال الترمذي: حسنٌ غريب (¬2)، تفرد به قتيبة، والمعروف عند أهل العلم حديث معاذ، ليس فيه جمع التقديم (¬3). وقال أبو سعيد بن يونس: لم يُحَدِّث بهذا الحديث إلا قتيبة، ويُقال: إنه غلط فيه، فغيَّر بعض الأسماء، وإن موضع يزيد بن أبي حبيب، أبو الزبير. وقال ابن أبي حاتم في "العلل" (¬4) عن أبيه: لا أعرفه من حديث يزيد، والذي عندي: أنه دخل له حديث في حديث، وأطنب الحاكم في "علوم الحديث" (¬5) في بيان علة هذا بما حاصله أن البخاري سأل قتيبة: مع مَنْ كتبته؟ فقال: مع (أ) خالد المدائني، قال البخاري: كان خالد ¬

_ (أ) ساقطة من هـ.

المدائني يُدْخِل على الشيوخ، يعني يُدْخِلُ في روايتهم ما ليس منه-. وله طريق أخرى عند أبي داود (¬1) وفيها هشام بن سعد (أ)، وهو لين الحديث، وقد خالف أوثق الناس وهو الليث بن سعد. وعن علي - رضي الله عنه - عند الدارقطني (¬2) عن ابن عقدة بسند له من حديث علي بن الحسن عن آبائه، وفي إسناده المنذر القابوسي (¬3)، وهو ضعيف. وروى عبد الله بن أحمد (¬4) في "زيادات المسند" بإسناد آخر عن علي - رضي الله عنه - أنه كان يفعل ذلك. وعن أنس - رضي الله عنه - عند الإسماعيلي والبيهقي (¬5) من حديث إسحاق بن راهويه، وإسناده صحيح قاله النووي (¬6). قال المصنف (¬7) -رحمه الله-: وفي ذهني أن أبا داود أنكره على إسحاق، ولكن له متابع رواه الحاكم في "الأربعين" له بإسناد الصحيحين وزاد عليهما بتقديم العصر، قال: "فإن زاغت الشمس قبل أن يرتحل صلى الظهر والعصر"، قال المصنف: وهي زيادة غريبة صحيحة ¬

_ (أ) في هـ: سعيد.

الإسناد، وقد صححه المنذري من هذا الوجه، والعلائي، وتعجب من الحاكم كونه لم يورده في "المستدرك" (¬1). وله طريق أخرى رواها الطبراني (¬2) في "الأوسط". وقال بجواز جمع التقديم في السفر: العترة وابن عباس وابن عمر وجمع من الصحابة ومالك وأحمد والشافعي (¬3)، وسواء في ذلك الظُّهر والعصر والمغرب والعشاء وسواء كان مجدا له السير أو نازلًا، وقيل: إنه مختصّ بالسائر دون النازل، وهو قول ابن حبيب. ويرد عليه ما في "الموطأ" (¬4) من حديث معاذ: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - آخَّر الصلاة في غزوة تبوك، ثم خرج فصلى الظهر والعصر جميعا، ثم دخل، ثم خرج". ومثل هذا لا يكون إلا وهو نازل. وإنْ كان قد تأوله بعضهم أنه دخل، أي الطريق مسافرًا، ثم خرج أي عن الطريق للصلاة. وعن الشافعية (¬5): أن ترك الجمع أفضل وعن مالك في رواية أنه مكروه، وقيل: يختص بمن له عذر. حُكي عن الأوزاعي، وقيل: يجوز جمع التأخير دون التقديم، وهو مرويّ عن مالك (¬6) وأحمد واختاره ابن حزم، وذهب النخعي والحسن وأبو حنيفة وصاحباه والناصر وأحد قولي ابن سيرين ¬

_ (¬1) التلخيص 2/ 53. (¬2) مجمع الزوائد 2/ 160. (¬3) المجموع 4/ 226، المغني 2/ 271، ونسبه إلى أكثر أهل العلم، بداية المجتهد 1/ 170 - 171، البحر 1/ 169. (¬4) الموطأ 108 ح 2، مسلم 4/ 1784 ح 10/ 706. قلت: وفي المدونة نص مالك على أنه لا يجمع إلا إذا جد به السير 1/ 111. (¬5) المجموع 4/ 232. (¬6) بداية المجتهد 1/ 172.

إلى أنه لا يجوز الجمع للسفر (¬1)، وأجابوا في الأحاديث الواردة في ذلك بأن المراد بالجمع الذي وقع منه - صلى الله عليه وسلم -هو الجمعُ الصُّوريّ، وهو أنه أخَّرَ المغرب مثلًا إلى آخر وقتها وقَدَّمَ العشاء إلى أول وقتها، وكذلك الظهر والعصر، وهذا وإن تمشى لهم في تأويل جمع التأخير لم يتمشى في تأويل جمع التقديم كما عرفت من ثبوته (¬2). واعلم أنه قد ورد في الجمع في [الحَضَر] (أ) مطلقًا ما أخرجه الشيخان (¬3) من حديث ابن عباس "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جَمَعَ بالمدينة من غير خوف ولا سفر" قال مالك (¬4): أري ذلك في مطر، ولمسلم: "جمع بين الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء بالمدينة من غير خوف ولا مطر"، وقيل لابن عباس: ما أراد إلى ذلك؟ قال: "أراد أن لا يحرج أمته"، وفي رواية للطبراني (¬5): جمع بالمدينة من غير عِلَّة، قيل له: ما أراد بذلك؟ قال: التوسيع على أمته. ¬

_ (أ) بهامش الأصل.

وقد أخذ بهذا الظاهر وجَوّزَ (أ) الجمع بين الصلاتين في الحضر تقديمًا وتأخيرًا لغير عذر الإمامية وأحد قولي الناصر وأحد قولي المنصور بالله والمهدي والمتوكل (¬1)، وهو مرويّ عن علي رضي الله عنه وعن زيد وعن الهادي لم إلا أن المنصوص للهادي في "الأحكام": أنه إنما يجوز الجمع تقديمًا وتأخيرًا لمن كان مسافرًا أو معذورًا أو مشغولًا بطاعة أو بشيء (ب) من أمر الله، أو مرض أو خوف، قال: فله أن يجمع بين الظهر والعصر بعد زوال الشمس إلى غروبها، وبين المغرب والعشاء بعد غروب الشمس إلى طلوع الفجر، وحكي الهادي هذا عن جده القاسم، وخرج له السيد أبو طالب أن المشغول ببعض المباحات له الجمع أيضًا قياسا على المسافر، فإنَّ السفر قد يكون مباحا, وجاز معه الجمع، قال: وكذلك المستحاضة ونحوها [وجوَّزَ أحمد بن حنبل وإسحاق الجمع للمريض (¬2) مطلقًا، واختاره بعض الشافعية، والمشهور عند الشافعي وأصحابه المنع (¬3) وعند الشافعية يجوز الجمع للمطر في وقت الأولى (¬4)، ولا يجوز في وقت الثانية على الأصح لعدم الوثوق بالبقاء بشرط (أ) وجوده (د) عند الإحرام بالأولى، ¬

_ (أ) في هـ: وجواز. (ب) في هـ: شيء. (جـ) في الأصل، جـ: شرط. (د) زاد في هـ: عند الإمام.

والفراغ منها، وافتتاح الثانية، ويجوز ذلك لمن يمشي إلى الجماعة في غير كن بحيث يلحقه بلل المطر. وقال به الجمهور في الظهر والعصر، والمغرب والعشاء، وخصه مالك بالمغرب والعشاء ذكره النووي (¬1)] (أ). واحتج الهادي على ذلك بأدلة منها حديث ابن عباس في جَمْع النبي - صلى الله عليه وسلم - في السفر، لروي عن ابن عمر مثل ذلك إذا جَدَّ به السَّير، ورواه عن فعْل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهذا كلامه في "الأحكام"، وفي "المنتخب" احتج بقوله تعالى: {قم الليل إِلا قليلا ..} (¬2) إلى آخر الآيات، وذكر أن هذه الآيات في صلاة الفريضة، قال: بقرينة اقترانها بالزكاة، وأخرج عن عبد الرزاق (¬3) عن ابن جريج عن عطاء قال: لا تفوت صلاة النهار: الظهر والعصر حتى الليل، ولا تفوت صلاة (ب) المغرب والعشاء حتى النهار، ولا يفوت الصبح حتى تطلع الشمس. قال: وروى عبد الرزاق (¬4) عن ابن جريج قال: كان يقول: لا يفوت وقت الظهر والعصر حتى الليل، ولا يفوت المغرب والعشاء حتى الفجر، ولا يفوت الصبح حتى تطلع الشمس. إلى أن قال: فهذه أخبار صحيحة موافقة لكتاب الله، ثم قال: وهذا قول ثابت وهو قول جدي القاسم، قال: والدليل على ثباته: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جمع بين الظهر والعصر، والمغرب والعشاء الآخرة بالمدينة، من غير سفرٍ ولا خوف ولا مطرٍ"، ثم ¬

_ (أ) بهامش الأصل. (ب) زاد في هامش هـ: الليل.

روى حديث ابن عباس في الجمع بالمدينة من أربع طرُقٍ (¬1)، ورواه (أ) عن ابن عمر من طريق عمرو بن شُعيب عن ابن عمر، وروي من فعل ابن عباس، ومن فعل أهل المدينة الجمع بين المغرب والعشاء في الليلة المطيرة لا يغير ذلك عليهم. وظاهر هذا الاحتجاج جواز الجمع من غير عذر واحتجاج القاسم قريب من هذا إلا أنه قال: إن هذه الأوقات لمن صلى وحده، أو كانت به علة أو شُغل من الأمور والأمراض مشغلة، قال: وأما أوقات المساجد لعامريها واجتماع أهلها فيها فآخره فيما ذُكِرَ للظهر مِنْ أن يصير ظل كل شيء مثله، وللعصر من أن يصير ظل كل شيء مثليه، ذكر هذا في كتاب "صلاة يوم وليلة"، وروي عنه في "الوافي" أنه قال: صلوا كما تصلي العامة في المساجد، فإن أوقاتها مثل ما يصلون وكلما عُجل فهو أفضل، وذكر في الفرائض والسنن ما لفظه: ليس للناس تأخيرها متعمدين، ولسنا لمن فعل ذلك إذا لم يكن معتلًا بحامدين. انتهى. وروي عن الهادي مثل هذا وأنه لما بلغه أن أهل طبرستان لا يصلون العشاءين إلا قرب الصبح أنكر عليهم ولم يرخص في ذلك إلا لِعُذرٍ أو علة، وروي هذا عن جده القاسم، ولا يخفى عليك خصوص الدعوى وعموم الاحتجاج من وجهٍ [وأنَّ جمع التقديم لم يكن في شيء من ذلك له مستروح، وغاية الأمر التأخير، ويحتمل أن يكون ذلك مسقطًا للقضاء ¬

_ (أ) في هـ: وروي.

لخروج الوقت وإن أثم المؤخر] وقريب مما ذهب إليه الهادي ما ذهب إليه ابن سيرين وربيعة وابن المنذر (¬1) والقفال الكبير وحكاه الخطابي عن جماعة من أصحاب الحديث، إلا أنهم قالوا: يجوزُ الجَمَع في الحَضر للحاجة مطلقا. لكن بشرط أن لا يتخذه عادة، وهو أقرب إلى ظاهر حديث ابن عباس فإنه إنما رواه في صلاة يوم واحد ثمانيا جميعا وسبعا جميعا، وذهب أكثر الأمة إلى أنه لا يجوز الجمع في الحضر لما تقدم من الأحاديث المبينة لأوقات الصلاة، ولما تواتر من محافظة النبي - صلى الله عليه وسلم - على أوقاتها حتى قال ابن مسعود: "ما رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلي صلاةً لغير ميقاتها إلا صلاتين، وجمع بين المغرب والعشاء، وصلى الفجر يومئذ قبل ميقاتها (¬2)، وحديث ابن عباس لا يصح الاحتجاج به، إذ الجمع محتمل لثلاثة معان: إما جمع تقديم، أو تأخير، أو صوري، لا يصح حمله على جميعها، إذ هو في صلاة يوم واحد كما هو ظاهر في رواية مسلم، وتعيين واحد منها تحكم فوجب العدول عنه إلى ما هو الواجب من البقاء على عموم حديث الأوقات في حق (أ) المعذور وغيره، وتخصيص المسافر لثبوت المخصص ¬

_ (أ) في هـ: حديث.

بجمع، وهذا هو الجواب الحاسم، وأما ما روي من الآثار عن التابعين والصحابة فغير حجة، إذ للاجتهاد في ذلك مسرح. وقد ذهب العلماء إلى تأويل حديث ابن عباس، فبعضهم قال: يجوز أن يكون ذلك لأجل المرض، وهو مدفوع بأنه لو كان كذلك لما صلى معه، إلا مَنْ كان كذلك، وسياق الرواية أنهم صلوا جميعًا، وقد يجاب عنه بأن ذلك يجوز إذا كان الإمام معذورًا أن يصلي معه مَنْ لا عذر له كما ورد في صلاتهم قعودًا بعده مع عدم العذر. وبعضهم: أنه كان في غيم فصلى الظهر ثم انكشف الغيم مثلًا فبان أن وقت العصر دخل فصلاها، وكذلك في المغرب والعشاء إذا كان وقت المغرب ممتدًا كما هو الصحيح. وبعضهم تأوله بالجمع الصوري بأن يكون أخر الظهر إلى آخر وقتها، وعجَّل العصر في أول وقتها، وكذلك المغرب والعشاء، واستحسن هذا القرطبي (¬1) ورجحه، وجزم به ابن الماجشون (¬2) والطحاوي، وقواه ابن سيد الناس (¬3) بما أخرجه الشيخان عن عمرو بن دينار، فذكر الحديث. قال: فقلتُ: يا أبا الشعثاء أظنه أخر الظهر، وعجل العصر، وأخر المغرب وعجل ¬

_ (¬1) قال القرطبي: إن هذا الجمع يمكن أن يكون المراد به تأخير الأولى إلى أن يفرغ منها في آخر وقتها ثم يبدأ بالثانية في أول وقتها وإلى هذا يشير تأويل أبي الشعثاء ويدل على صحة هذا أنه قد نفى فيه الأعذار المبيحة للجمع التي هي الخوف والسفر والمطر. وإخراج الصلاة عن وقتها المحدد لها بغير عذر لا يجوز باتفاق، فتعين ما ذكرناه ل 150 ب، 151 أ. (¬2) و (¬3) الفتح 2/ 24.

العشاء قال: "وأنا أظنه" (¬1)، قال ابن سيد الناس: وراوي هذا الحديث أدري بالمراد من غيره، وإن كان أبو الشعثاء لم يجزم بذلك، فقد روى عنه أن ذلك لعذر المطر، وأقول: إنه يتعين هذا التأويل، فإنه صَرَّحَ به النسائي (¬2) في أصل حديث ابن عباس ولفظه: قال: "صليتُ مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة ثمانيا جميعًا، وسبعًا جميعًا، وأخر الظهر وعجل العصر وأخر المغرب وعجل العشاء. والعجب من النووي كيف ضَعَّفَ (¬3) هذا التأويل وغفل عن متن الحديث المروي، والمطلق في رواية يحمل (أ) على المقيد إذا كان في قصة واحدة، [والقول بأن قوله: أراد أن لا يحرج أمته يضعف الجمع الصوري لوجود الحرج فيه مدفوع بأن في ذلك تيسير أمر التوقيت، إذ يكفي للصلاتين تأهُّب واحد، وقصْد واحد إلى المسجد، ووضوء واحد، بحسب الأغلب بخلاف الوقتين، فالحرج لا شك فيه أخف (¬4)] (ب). وأما قياس الحاضر على المسافر كما تقدم عن أبي طالب فيخدش فيه ¬

_ (أ) تقدمت في هـ: على قوله "في رواية". (ب) بهامش الأصل.

أن العلة في الأصل هو السفر وهو غير موجود في الفرع. وإلا لزم مثله في القصر والفطر. واعلم أن هذا الذي أوردناه هو معظم ما في الباب، فجمع التقديم فيه خطر عظيم كمن صلى الصلاة قبل دخول وقتهِا، فيكون حاله (أ) كما قال الله سبحانه: {وهُمْ يَحْسَبُونَ أنَّهُمْ يُحْسنُونَ صُنْعًا ..} الآية (¬1) من ابتدائها، وهذه المتقدمة لا دلالة لها عليه بمنطوق، ولا مفهوم عموم، ولا خصوص، ولها دلالة على جواز جمع التأخير، والخطر فيه أهون إذ المصلي فيه إما مؤدٍّ أو قاضٍ فقد سقط عنه الطلب (ب) وإنْ عصى بالتأخير. 332 - وعن معاذ قال: ""خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، وكان يصلي الظُّهر والعصرَ جميعا، والمغرب والعشاء جميعًا". رواه مسلم (¬2). أخرجه مسلم عن معاذ، وأخرج مثله (¬3) عن ابن عباس، وقال فيه: قال سعيد بن جبير فقلت لابن عباس: ما حمله على ذلك؟ قال: "أراد أن لا يحرج أمته". ¬

_ (أ) في هـ: حال الفاعل، وفي الأصل: جعل، فالفاعل فوق كلمة "كما قال". (ب) ساقطة من هـ.

وهذا الحديث حمل فيه الجمع على [جَمْع] (أ) التأخير، وأما رواية جمع التقديم فيه، فقد سبق ما عليه، والله أعلم. 333 - وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تُقصروا الصلاة في أقل من أربعة بُرُد، من مكة إِلى عسفان". رواه الدارقطني (¬1) بإسناد ضعيف، والصحيح أنه موقوف، كذا أخرجه ابن خزيمة. وأخرجه الطبراني أيضًا وهو من رواية عبد الوهاب بن مجاهد (¬2)، وهو متروك، نسبه الثوري إلى الكذب، وقال الأزدي: لا تحل الرواية عنه، وهو منقطع أيضًا، لأنه لم يسمع من أبيه، ورواه أيضًا عنه إسماعيل بن عياش (¬3) وروايته عن الحجازيين ضعيفه. وأما من قول ابن عباس فإسناده صحيح، وقد تقدم، وهذا المذكور في الحديث ذهب إليه الشافعي كما تقدم (¬4). ¬

_ (أ) بهامش الأصل.

334 - وعن جابر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "خيرُ أمَّتي الذين إِذا أساءوا استغفروا، وإِذا سافروا قَصَرُوا وأفْطروا". أخرجه الطبراني في "الأوسط" بإسناد ضعيف، وهو في مرسل سعيد بن المسيب عند البيهقي مختصرًا (¬1). في الحديث دلالة على أنَّ المعصية التي لم يصر عليها العبد لا تخرجه عن الخير وأنَّ القصر والإفطار غير واجبين وأنهما أفضل للمسافر، ولعله يحمل ذلك على امتثال ما شرع وتلقيه بالتسليم والانقياد من دون تعمق وتشديد، والله أعلم. 335 - (أ) وعن عائشة - رضي الله عنها - قالت: "رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي مُتَرَبِّعًا". رواه النسائي، وصححه الحاكم (¬2). الحديث محله في باب صفة الصلاة، ولكن المصنف -رحمه الله- أعاد من ذلك الباب حديث عمران بن حصين وحديث جابر وهما في آخر باب صفة الصلاة، وأتبعهما هذا الحديث ولم يتقدم، والحديث وارد في صفة قُعُود المصلي إذا كان له عُذْر عن القيام. وفيه الخلاف الذي مرَّ في ذلك الباب، فارجع إليه، والله أعلم. [اشتمل (ب) الباب على اثنين وعشرين حديثًا]. ¬

_ (أ) في هـ: أورد حديث عمران بن حصين فقط. (ب) زاد في جـ: هذا.

باب الجمعة

باب الجمعة 336 - عن عبد الله بن عمر وأبي هريرة -رضي الله عنهم- أنهما سمعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول على أعواد منبره: "لَيَنْتَهيَنَّ أقْوَامٌ عن وَدْعِهِمُ الجُمُعَات، أو لَيَخْتِمَنَّ الله على قُلوبهم، ثم لَيكونُنَّ (أ) من الغَافلين". رواه مسلم (¬1). قوله: "على أعواد منبره" عُمل له - صلى الله عليه وسلم - المنبر في سنة سبع، وقيل: في سنة ثمان، وقيل: إنه كان قبل ذلك يخطب على منبر من طين، والمشهور أنه كان يخطب على جِذْع أو يستند إليه، فلما كبرَ فعل له المنبر من طرفاء الغابة، أرسل - صلى الله عليه وسلم - إلى امرأة من الأنصار تأمر غلامها بذلك، ولم يكن نجار في المدينة غيره، واسمه ميمون، وهذا هو الأصحّ، وقيل: اسمه إبراهيم (¬2)، وقيل: باقول -بموحدة وقاف مضمومة ولام- كذا رواه عبد الرزاق وأبو نعيم (¬3) [وقيل: باقوم] (ب) أبدل اللام بالميم- وقيل: صُبَاح -بضم الصاد المهملة بعدها باء (جـ) موحدة بعدها حاء مهملة- وقيل: هو قبيصة ¬

_ (أ) في جـ: يكونن. (ب) بهامش الأصل. وسقط من جـ قوله: (وقيل باقوم). (جـ) في جـ: حاء.

المخزومي مولاهم، وقيل: كلاب مولى العباس، وقيل: تميم الدَّاريّ، وقيل اسم الغلام: مينا، ولكنه يحتمل (أ) أن مينا اسم زوج المرأة، لأنه وقع في الرواية: غلام لامرأة من الأنصار من بني سلمة، أو بني ساعدة، امرأة لرجل منهم يقال له: مينا، وقد روي أن زوج المرأة سعد بن عبادة، وقد روي: أن الصانع رجل رومي (¬1)، ويحتمل أنَّ المُراد به تميم الداري، لأنه كان كثير السفر إلى الروم، فلا يكون قولا مستقلًا. فصنع المنبر ثلاث درج، ولم يزل عليه حتى زاده مَروان في خلافة معاوية ست درجات من أسفله، وسبب ذلك أن معاوية كتب إليه أن يحمله إليه إلى دمشق (¬2)، فأمر به فقلع، فأظلمت المدينة، فخرج مروان فخطب فقال: إنما أمرني أمير المؤمنين أن أرفعه، ففعل ذلك وقال: إنما زدتُ عليه لما كَثُرَ الناسُ (¬3)، واستمر على ذلك إلى أن حرق مسجد المدينة سنة أربع وخمسين وستمائة، فاحترق، ثم جدده المظفر، صاحب اليمن سنة ست وخمسين وستمائة منبرًا، ثم أرسل الظاهر (ب) بعد عشر سنين ¬

_ (أ) في جـ، هـ: محتمل. (ب) ساقطة من هـ.

منبرًا، فأرسل منبر الظفر (¬1)، ولم يزل ذلك إلى سنة ست وعشرين وثمانمائة فأرسل المؤيد صاحب اليمن منبرًا، وكان قد أرسل منبرًا إلى مكة سنة ثمان عشرة. وقوله: "عن وَدْعِهم": أي تركهم، مصدر وَدَعَ، واستعمال ودَع الماضي متروك استغناء عنه بترك، وأما متصرفاته فمستعملة. [والجُمُعَات: جمع جُمُعة بضم الميم وفيها الإسكان والفتح مثل هُمزة، ولُمزة، ووجهه أنها تجمع الناس ويكثرون، وسمي اليوم بذلك لاجتماع الناس فيه، وكان في الجاهلية يسمى "العروبة"] (أ). وقوله: {أَو لَيَخْتِمَنَّ الله على قُلوبِهِمْ} الخَتْم معناه الاستيثاق من الشيء بضرب الخاتم عليه (ب) كتمًا له، وتغطية له، لئلا يتوصل إليه، ولا يطلع عليه، وهو في معنى الطبع والتغشية والإقفال إلا أنَّ الخَتْم أيسر من الطبع، والطبع أيسر من الإقفال، والإقفال أشدها (جـ). ¬

_ (أ) بهامش الأصل. (ب) ساقطة من هـ. (جـ) في هـ: أشرها.

وإسناده إلى الله هنا، وفي قوله تعالى: {خَتَمَ الله على قُلُوبِهِمْ} (¬1) فيه وجوه: فعند المعتزلة هو مَجَاز لأنه لا ختم من الله تعالى على الحقيقة، وإنما شبهت القلوب بسبب إعراضهم (أ) عن الحق واستكبارهم عن قبوله، وعدم نفوذ الحق إليها بالأشياء التي استوثق عليها بالختم فلا ينفذ إلى باطنها شيء، وثمَّ وجوه أخر. وقيل: الختم عبارة عن خلق الكفر في قلوبهم، وهو قول أكثر متكلمي الأشعرية. وقيل: هو الشهادة عليهم. وقيل: علامة جعلها الله تعالى في قلوبهم لتعرف بها الملائكة من تمدح ومن تذم (¬2). والحديث فيه دلالة على وجوب الجمعة، وأنه فرض عين، وهو مجمع على وجوبها على الإطلاق (¬3)، والأكثر أنها فرض عين، وقال في "معالم السُّنَن": (¬4) إنها فرض كفاية عن (ب) أكثر الفقهاء، وفي "البحر" (¬5) ¬

_ (أ) في جـ: اعتراضهم. (ب) في جـ: عند.

نسب القول هذا إلى بعض أصحاب الشافعي قال: وغلطه أصحابه (¬1)، والبعض هو الطبري، [وعن مالك أنها سنة ذكره في "نهاية المجتهد"] (أ) (¬2). 337 - وعن سَلَمَة بن الأكوع - رضي الله عنه - قال: "كنَّا نصلي مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الجُمُعَةَ، ثم نَنْصرفُ، وليس للحِيطان ظِل يُسْتَظَلُ به" متفق عليه، واللفظ للبخاري (¬3). وفي لفظ مسلم: "كنا نجمع معه إِذا زالت الشمس ثم نرجع نتتبع الفيء" (¬4). في الحديث دلالة على المبادرة بالصلاة في أول زوال الشمس بدليل قوله: "وليس للحيطان ظِلّ يُسْتَظَلُّ به" فيتوجه النفي إلى القيد الزائد وهو ¬

_ (أ) في هامش الأصل.

الظل المستظل به، لا نفي أصل الظل، وذلك لأن الجدران كانت في ذلك العصر لا سمو فيها، فلا يستظل بظلها إلا بعد توسط الوقت، فلا يُفهم منه ولا من الحديث المذكور بعده أنهم كانوا يصلون قبل الزوال، وهذا التأويل متعين عند الجمهور القائلين بأن وقت الجمعة هو وقت الظهر، والخلاف في ذلك للإمام أحمد (¬1)، وإسحاق فقالا: تصح إقامة الجمعة قبل الزوال، واختلف أصحاب أحمد فقال بعضهم: أول وقتها وقت صلاة العيد، وقال بعضهم: الساعة السادسة، وجوّز مالك الخطبة قبل الزوال دون الصلاة، وحُجَّتهم ظاهر هذا الحديث وما بعده، وأصرح منه ما أخرجه أحمد ومسلم (¬2) من حديث جابر رضي الله عنه: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي الجمعة، ثم نذهب إلى جِمَالِنَا فنريحها حتى تزول الشمس"، يعني النواضح وعن عبد الله بن سَيدانَ السلمي قال: شهدت الجمعة مع أبي بكر، وكانت خطبته وصلاته قبل نصف النهار، ثم شهدتها مع عمر، فكانت (أ) صلاته وخطبته إلى أن أقول: انتصف النهار، ثم شهدتها مع عثمان فكان (ب) صلاته وخطبته إلى أن أقول: زال النهار، ¬

_ (أ، ب) في جـ: وكانت.

فما رأيت أحدًا عاب ذلك ولا أنكره، رواه الدارقطني (¬1) والإمام أحمد في رواية ابنه عبد الله، قال: وكذلك روي عن ابن مسعود وجابر وسعيد ومعاوية أنهم صلوا قبل الزوال، ودلالة هذا على مذهب الإمام أحمد واضحة، ولا يعارض ذلك الحديث المذكور (أ) المتأول بل هذا يدفع التأويل وأيضًا فيضعف التأويل أن صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - مع قراءة سورة الجمعة والمنافقين، وخِطبته لو كانت بعد الزوال لما انصرفوا، إلا والظل يُستظلّ به، وقد ذهب سورة الشمس وشدة الحر، والله أعلم. [واستدل الإمام أحمد بهذا الحديث على صحة صلاة الظهر قبل الزوال] (ب) (¬2). 338 - وعن سهل بن سعد - رضي الله عنه - قال: "ما كنا نقيل ولا نتغدى إِلا بعد الجُمُعَة". متفق عليه، واللفظ لمسلم (¬3)، وفي رواية: "في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -" (¬4). ¬

_ (أ) ساقطة من هـ. (ب) بهامش الأصل.

هو (أ) أبو العباس سهل بن سعد بن مالك بن خالد الخزرجي الساعدي الأنصاري، قيل: كان اسمه حزنًا، فسماه النبي - صلى الله عليه وسلم - سهلًا. مات النبي - صلى الله عليه وسلم - وله خمس عشرة سنة، ومات بالمدينة سنة إحدى وتسعين (ب)، وقيل: سنة ثمان وثمانين، وهو آخر من مات من الصحابة بالمدينة، روى عنه ابنه العباس والزهْرِيّ وأبو حازم (جـ) سَلَمَة بن دينار (¬1). [قوله: نَقِيلُ بفتح النون مِنْ: قَالَ، يقيل، قيلًا: إذا نام نصف النهار (¬2)] (د). في الحديث دلالة على المبادرة لحضور (هـ) الجمعة في (و) أول وقتها، وأنهم كانوا يؤخرون الغداء والقيلولة خشية الاشتغال بذلك عن إدراكها، وهو ظاهر. 339 - وعن جابر - رضي الله عنه - "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يخطب قائمًا فجاءت عِيْرٌ من الشام، فانفتل الناس إِليها، حتى لم يبق إِلا اثنا عشر رجلًا". رواه مسلم (¬3). ¬

_ (أ) في هـ: و. (ب) في جـ: وسبعين. (جـ) في جـ: وأبو حاتم و. (د) بهامش الأصل. (هـ) في جـ: بحضور. (و) في جـ: من.

وفي رواية (¬1): أنا فيهم، وأبو بكر، وعمر، وفي رواية له (أ "فيهم أبو بكر وعمر" (¬2)، وفي رواية له أ): "فأنزلت هذه الآية التي في الجمعة: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً (ب) ..} إلى آخرها" (¬3)، وفي رواية للبخاري ومسلم: (جـ "بينا نحن نصلي مع النبي - صلى الله عليه وسلم - جـ) إذ أقبلت عير" (¬4). والمراد بالصلاة انتظارها في حال الخطبة، وفي رواية لمسلم: (د "إذ أقبلت سويقة" (¬5)، تصغير: سوق، والمراد بها العير المذكور، لأن العير الإبل التي تحمل د) الطعام أو التجارة وسميت سوقًا لأن البضائع تُسَاقُ إلى الأسواق بذلك لقيام الناس فيها على سوقهم (هـ). وفي قوله: "كان يخطب قائما": دلالة على أن المشروعَ في الخطبة هو القيام للخطيب وقد استدل مالك بقوله: "إلا اثنا عشر رجلًا" بأن أقل ما تنعقد به الجمعة اثني عشر رجلًا (¬6)، ولا دلالة على نفي انعقادها بدون ذلك، وأما أنها تصح بذلك القدر ففيه دلالة، وإن كان لقائل أن يقول: ¬

_ (أ - أ) مثبت بهامش جـ. (ب) زاد في هـ: أو لهوًا. (جـ-جـ) في هامش جـ. (د- د) في هامش هـ. (هـ) في هامش جـ.

فرق بين ابتدائها وطروء ما ينقض العدد وقد دخل فيها، وقال القاضي عياض: ذكر أبو داود في "مراسيله" (¬1) أن خطبة النبي - صلى الله عليه وسلم - التي انفضوا عنها إنما كانت بعد صلاة الجمعة (¬2)، وظنوا أنه لا شيء عليهم في الانفضاض عن الخطبة، وأنه قبل هذه القضية إنما كان يصلي قبل الخطبة. قال القاضي: وهذا أشبه بحال الصحابة، والمظنون بهم ما كانوا يَدَعونَ الصلاةَ مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ولكنهم ظنوا جواز (أالانصراف بعد انقضاء الصلاة، قال: وقد أنكر بعضُ العلماء كَوْنَ النبي - صلى الله عليه وسلم - أ) خطب بعد صلاة الجمعة، والله أعلم، وفي كون جابر والشيخين من الباقين منقبة عظيمة. 340 - وعن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "مَنْ أدركَ ركعة من صلاة الجمعة وغيرها، فليضف إِليها أخرى، وقد تَمَّتْ صلاته" رواه النسائي وابن ماجه والدارقطني، واللفظ له (¬3)، وإسناده صحيح، لكن قوى أبو حاتم (¬4) إرساله. الحديث أخرجوه من حديث بقية: حدثني يونس بن يزيد عن الزهري عن سالم عن أبيه ... الحديث (¬5). ¬

_ (أ - أ) بهامش هـ.

قوله: "وقد تمت صلاته": وفي لفظ (أ): "وقد أدرك الصلاة"، قال ابن (¬1) أبي داود والدارقطني: تفرد به بقية عن يونس، و (ب) قال ابن أبي حاتم في "العلل" عن أبيه: هذا خطأ في المتن والإسناد، وإنما هو عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة مرفوعًا: "من أدرك صلاة ركعة فقد أدركها" (¬2). وأما قوله: "من صلاة الجمعة": فوهم (¬3)، وقد أخرج الحديث من ثلاثة عشر طريقا عن أبي هريرة (¬4) ومن ثلاث طرق عن ابن عمر وفي جميعها مقال. ¬

_ (أ) في جـ: اللفظ. (ب) الواو ساقطة من هـ.

و (أ) في الحديث دلالة على ان الجمعة تصحّ من اللاحق وإن لم يدرك شيئًا من الخطبة، وقد ذهب إلى هذا زيد بن علي والمؤيد بالله وأبو حنيفة والشافعي (¬1)، وذهب الهادوية إلى أن إدراك شيء من الخطبة شرط لا تصح الجمعة بدونه، والحديث هذا حجة عليهم، وإن كان فيه مقال و (ب) لكن كثرة (الطرق) (جـ) بعضها تؤيد بعضًا فتقوى، بل الحاكم أخرجه من ثلاث طرق من حديث أبي هريرة، وقال فيها: على شرط الشيخين (¬2). 341 - وعن جابر بن سَمُرة - رضي الله عنه - "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يخطب قائما، ثم يجلس، ثم يقوم فيخطب قائمًا، فمن أنبأك أنه كان يخطب جالسًا فقد كذب". أخرجه مسلم (¬3). الحديث فيه دلالة على شرعية القيام حال الخطبتين، والفصل بينهما بالقعود وإنكار الراوي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خطب جالسًا، والظاهر أن هذا مُجْمَعٌ عليه، واختلف العلماء في حُكمه، فذهب أبو حنيفة (¬4) إلى أن القيام سنة والقعود بينهما كذلك، وقريب من هذا ما ذهب إليه أبو العباس على ¬

_ (أ) الواو ساقطة من هـ. (ب) الواو ساقطة من جـ. (جـ) في الأصل: الطريق.

أصْل الهادي، وإنْ كان مصرحًا بأنهما مندوبان (أ)، والمندوب دون المسنون في التأكد، واحتجّ على ذلك بحديث أبي سعيد الخدري، أخرجه البخاري: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جلس ذات يوم على المنبر وجلسنا حوله" (¬1) فدل على عدم وجوبه. وذهب مالك (¬2) إلى أن القيام واجب وإنْ تركه أساء وصحت الخطبة، وفي رواية ابن الماجشون عنه: أن الخطبة لا تكون إلا من قيام لمن أطاقه، وإليه ذهب الشافعي (¬3)، وقواه الإمام يحيى، وهو مروي عن زيد بن علي والناصر والمنصور بالله، وروي أيضًا عن الهادي (¬4)، وكذا (ب الكلام في ب) القعود بين الخطبتين واحتجوا على ذلك بمواظبة النبي - صلى الله عليه وسلم - (جـ) على ذلك حتى قال جابر: "فمن أنبأك .. " إلخ، وبما روي "أن كعب بن عُجْرَة لما دخل المسجد وعبد الرحمن بن أم الحكم يخطب قاعدًا فأنكره عليه، وتلا، {وتَرَكوكَ قائِمًا} (¬5)، وفي رواية ابن خزيمة "ما رأيت كاليوم قط، إمام يؤم المسلمين يخطب وهو جالس" يقول ذلك مرتين، وأخرج ابن أبي شيبة (¬6) عن طاوس: "خطب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قائمًا وأبو بكر وعمر ¬

_ (أ) في جـ: مندوبتان. (ب - ب) ساقطة من جـ. (جـ) في جـ: بمواظبته - صلى الله عليه وسلم -.

وعثمان، وأول من جلس على المنبر معاوية"، وأخرج ابن أبي شيبة (¬1) عن الشعبي: "أن معاوية إنما خطب جالسًا لما كثر شحم بطنه ولحمه"، وهذا دلالة على العُذْر، وهو مع العذر في حكم المتفق على جواز القعود في الخطبة، وترك القعود بين الخطبتين. وأجاب الشافعي ومن ذهب إلى مقالته عن حديث أبي سعيد بأن قعود النبي - صلى الله عليه وسلم - على المنبر في غير الجمعة، وعن صلاة كعب بن عُجْرة، وقد أنكر بأن ذلك لخشية الفتنة، ولكنه يُقال: لا كلام في دلالة ذلك على أصل الشرعية وأما الوجوب وكونه شرطًا في صحتها، فلا دلالة من اللفظ إلا أنه قد ينضم إليه دليل وجوب التأسي به - صلى الله عليه وسلم - وقد قال: "صلوا كما رأيتموني أصلي" (¬2) وفعله في الجمعة من الخطبتين بهيئتهما وأقوالهما، وتقديمهما على الصلاة مبين لآية الجمعة فما واظب عليه فهو واجب، وما لم يواظب عليه كان في التّرْك دليل على عدم الوجوب، فإن صَحَّ حديث أبي سعيد في قعوده أنه كان في خطبة الجمعة كان الأقوى القول الأول. وإن لم يثبت ذلك فالقول الثاني، والله أعلم. فائدة: روى سعيد بن منصور عن الحسن قال: "أول من استراح في الخطبة يوم الجمعة عثمان، كان إذا أعيا جلس، ولم يتكلم حتى يقوم، وأول من خطب جالسا معاوية (¬3)، وروى عبد الرزاق عن معمر عن قتادة: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبا بكر وعمر كانوا يخطبون يوم الجمعة قيامًا حتى شَقَّ ¬

_ (¬1) ابن أبي شيبة 2/ 113. (¬2) مرّ في ح 252. (¬3) تاريخ المدينة 3/ 963.

على عثمان القيام فكان يخطب قائما ثم يجلس فلما كان معاوية خطب الأولى جالسًا والأخرى قائمًا" (¬1). 342 - وعن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - قال: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا خطب احمرت عيناه، وعلا صوته، واشتد غَضَبهُ حتى كأنهُ منذر جَيْشٍ يقول: صبَّحكم ومسّاكم، ويقول: أما بعدُ فإن خير الحديث كِتابُ الله، وخيرِ الهدي هديُ محمدٍ، وشرَّ الأمورِ محدثاتها، وكلَّ بدْعةٍ ضلالة". رواه مسلم (¬2). وفي رواية له: "كانت خطبة النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم الجمعة: يَحْمِدُ الله تعالى، ويُثْنِي عَلَيْه، ثمَّ يقول على إِثر ذلك، وقد علا صوته" (¬3). وفي رواية له: "مَنْ يَهْد الله فلا مُضل له، ومنْ يُضلل فلا هادي له" (¬4). وللنسائي: "و (أ) كلَّ ضلالة في النَّار" (¬5). في الحديث دلالة على عظيم (ب) شأن مقام الخطبة، وأن ذلك مما يهول المتكلم، ويعلنه الحال حتي يظهر في خُلُقه وخلْقه، فإن احمرار العينين وعلو الصوت: إنما يكونان عند اشتداد الأمر. ¬

_ (أ) الواو ساقطة من جـ. (ب) في هـ: عظم.

وفي قوله: "يقول": الضمير عائد إلى منذر الجيش، وقوله: "صبّحكم (أ) " الفاعل ضمير العدو المنذر منه أي أتاكم وقت الصباح، ومساكم كذلك. وقوله: "خير الهدي هدي محمد": قال النووي (¬1): ضبطناه في مسلم بضم الهاء وفتح الدال فيهما، وبفتح الهاء وسكون الدال فيهما، وكذا ذكره جماعة، وقال القاضي عياض (¬2): روينا في مسلم بالضم، وفي غيره بالفتح، وبالفتح (ب) ذكره الهروي، وفسره الهروي (¬3) على رواية الفتح بالطريق أي: أحسن الطرق طريق محمد، وأما على رواية الضم فمعناه الدلالة والإرشاد ولفظ: "الهدي" له معنيان مستعملان في القرآن أحدهما: بمعنى الدلالة والإرشاد وهو الذي يضاف إلى الرسل (جـ، وإلى القرآن جـ): قال الله تعالى: {وإنَّكَ لَتَهْدي إِلى صراط} (د) (¬4) {إِنَّ هَذا القُرآنَ يَهْدي للَّتي هي أقومُ} (¬5) وقد يضاف إلى الله تعالى كقوله: {وهديْنَاهُ النَّجدَيْن} (¬6) {وأمَّا ثَمُود فَهدَيْنَاهم} (¬7)، والثاني: بمعنى ¬

_ (أ) زاد في هـ: ومساكم. (ب) ساقطة من هـ. (جـ - جـ) بهامش هـ. (د) زاد في هـ: مستقيم.

الإيصال إلى المَطْلَب، وهو المسند إلى الله تعالى وحده، وهو بمعنى اللطف والتوفيق والعصمة والتأييد كقوله: {إِنَّكَ لا تَهْدي (أمنْ أحْبَبْتَ أ) ولَكِنَّ الله يَهْدِي مَن يَشَاءُ} (¬1). قوله: (ب) شر الأمور محدثاتها": المراد بالمحْدَثَات هو (جـ) ما لم يكن ثابتًا بِشَرْع من الله سبحانه، ولا من رسوله. وقوله: (د) كل بدعة ضلالة": البدعة في اللغة (¬2): هو ما عمل على غير مثالٍ سابق، والمراد به هنا هو ما عمل من دون أن تسبق له شرعية من كتاب أو سنة، وأما ما ثبت بالقياس أو الاجتهاد أو الإجماع. فهو راجع إلى ذلك باعتبار مأخذه فلا يكون بدعة، قال العلماء: البدعة خمسة أقسام (¬3): واجبة كحفظ (هـ) العلوم بالتدوين، والرد على الملاحدة بإقامة الأدلة، ومندوبة كبناء المدارس والربط، ومُبَاحة كالتوسعة في ألوان الأطعمة وفاخر الثياب، ومحرمة ومكروهة وهما ظاهران (*). ¬

_ (أ- أ) ساقطة من جـ. (ب) زاد في هـ: و. (جـ) ساقطة من ب. (د) زاد في هـ: و. (هـ) بهامش هـ.

فقوله (أ) وكل بدعة ضلالة" عام مخصوص كما قال عمر - رضي الله عنه - في التراويح: "نعْمَت البدعة" (¬1). وفي الحديث دلالة أيضًا على أنه يستحب للخطيب أن يفخّم الخطبة ويرفع بها صوته، ويجزل كلامه، ويكون مطابقًا للفصل الذي تكلم به (ب) من ترغيبٍ وترهيب. ويدل على استحباب قول: "أما بعد" في خطب الوَعظ والجمعة والعيد وخطب الكتب المصنفة، وقد عقد البخاري (¬2) بابًا في استحبابه، وذكر فيه جملة من الأحاديث، [وقد جمع الروايات التي ذكر فيها (جـ) "أما بعد" الحافظ عبد القادر الرهاوي (¬3) فأخرجها (د) عن اثنين وثلاثين صحابيا، أخرج منها عن المِسور بن مخرمة: "كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا خطب قال: أما بعد" (¬4)، ورجاله ثقات، و (هـ) ظاهره المواظبة على ذلك] (و). واختلف العلماء في أول من تكلم به، فقيل داود صلى الله على نبينا ¬

_ (أ) في هـ: بقوله. (ب) زاد في هـ: بدعة. (جـ) ساقطة من هـ. (د) في جـ: وأخرجها. (هـ) في جـ: في. (و) بهامش الأصل.

وعليه وسلم (¬1)، وقيل يَعْرُب بن قَحطَان (¬2)، وقيل: قسّ بن ساعدة، وقال كثيرٌ من المفسرين: إنه فصل الخطاب (¬3). وفي قوله: "يحمد الله ويثني عليه": دلالة على شرعية الحمد والثناء، وظاهره أنه كان يلازم ذلك في جميع خطبه، والظاهر أن الأمر كذلك، فإنه لم يكن يخطب خطبة إلا افتتحها بحمد الله، ويتشهد (أ) فيها بكلمتي الشهادة، ويذكر فيه نفسه باسمه العلم، وقد ثبت أنه قال: "كل خطبة ليس فيها تشهد فهي كاليد الجذماء" (¬4)، وفي "دلائل النبوة" للبيهقي من حديث أبي هريرة مرفوعًا حكاه (ب) عن الله" و (جـ) جعلتُ أمتك لا يجوز لهم خطبة حتى يشهدوا أنك عبدي ورسولي" وشرع الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - لأن كل عبادة افتقرت إلى ذكر الله تعالى افتقرت إلى ذكر رسوله كالأذان والصلاة. وروي عنه (¬5) - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يذكر معالم الشرائع في الخطبة، والجنة والنار والمعاد، ويأمر بتقوى الله، ويحذر من موارد غضبه، ويرغّب في موجبات رضاه، وقد ورد قراءة آية في حديث مسلم: "كان لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - خطبتان ¬

_ (أ) في جـ: وتشهد. (ب) في جـ: حكى. (جـ) الواو ساقطة من هـ.

يجلس بينهما يقرأ القرآن ويذّكر الناس" (¬1)، وظاهر (أ) محافظته - صلى الله عليه وسلم - على ما ذكر في الخطبة وجوب ذلك لأن فعله بيان لما أجمل في آية (ب) الجمعة، وقد قال: "صلوا كما رأيتموني أصلي" (¬2)، وقد ذهب إلى هذا الشافعي و (جـ) الإمام يحيى (¬3) وأبو طالب. ويجب الدعاء للإمام أيضًا لعمل المسلمين به (3)، وكذلك الدعاء لنفسه وللمؤمنين [قال الإمام يحيى (¬4): وأقل ما يجب: الحمد لله والصلاة على نبيه، أطيعوا الله يرحمكم الله ويقرأ آية] (د). وقالت الهادوية: لا يجب إلا الحمد والصلاة على النبي وآله صلى الله عليه وآله وسلم في الخطبتين جميعًا. وقال أبو حنيفة: يجزئه: سبحان الله ولا إله إلا الله (¬5). وقال أبو يوسف ورواية عن مالك: لا يجزئ إلا ما يسمى خطبة (¬6). 343 - وعن عَمَّار بن ياسر - رضي الله عنه - قال: سمعت: رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إِنّ طول صلاة الرجل، وقِصر خطبته مَئِنّة من فقهه" رواه ¬

_ (أ) في هـ: وظاهره. (ب) في جـ: من رواية. (جـ) زاد في جـ: قال. (د) في هامش الأصل.

مسلم (¬1). قوله "مَئِنّة" بفتح الميم ثم همزة مكسورة ثم نون مشددة .. أي مما يعرف به فقه الرجل، وكل شيء دل على شيء فهو مئنة له (أ) وحقيقتها أنها مفعلة من معنى أن الشيء للتحقيق غير مشتقة من لفظها، لأن الحروف لا يشتق منها، وإنما ضمنت حروفها دلالة على أن معناها فيها ولو قيل: إنها اشتقت من لفظها بعد ما جعلت اسمًا لكان قولًا (ب)، ومنْ أغرب ما قيل فيها: إن الهمزة بدل من ظاء المظنة كذا في "النهاية" (¬2)، وعلى هذا فالميم زائدة، وقد صرح بزيادتها الأزهري. قال الهروي (¬3): وغلط أبو عبيدة فجعل الميم أصلية. وإنما كان قِصَر الخطبة علامة لفقه الرجل، لأن الفقيه هو المطلع على حقائق المعاني وجوامع الألفاظ، يتمكن من التعبير بالعبارة الجامعة الجزلة المفيدة، ولذلك كان من تمام رواية هذا الحديث: "فأطيلوا الصلاة، وأقصروا الخطبة، وإنَّ من البيان لسحرًا"، فشبه الكلام العامل في القلوب الجاذب للعقول بالسحر لأجل ما اشتمل عليه من الجزالة، وتناسق الدلالة، وإفادته المعاني الكثيرة، ووقوعه في مجازه من الترغيب والترهيب ونحو ذلك، ولا ¬

_ (أ) ساقطة من هـ. (ب) ساقطة من جـ.

يقدر عليه إلا مَنْ فقه بالمعاني وجمع شتاتها، وناسب دلالتها فيتمكن حينئذ من الإتيان بالكلمات الجوامع، ومطالع المعاني السواطع وكان ذلك من خصائصه - صلى الله عليه وسلم - فكان (أ) أفصح منْ نَطَقَ بالضاد، وأبرع منْ أوتي فصل الخطاب. والمراد بطول الصلاة هنا، هو الطول غير المنهي عنه، وهو ما اقتفي فيه بالسنة النبوية، وقد ثبت عنه قراءة (ب) سورة الجمعة والمنافقين في صلاة الجمعة (¬1)، وذلك هو طول بالنسبة إلى الخطبة وكان غير تطويل منهي عنه. والله سبحانه أعلم. 344 - وعن أم هشام بنت حارثة بن النعمان - رضي الله عنها - قالت: "ما أخذت {ق والقرآن المجيد} إِلا عن لسان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرؤها كل جمعة على المنبر إِذا خطب الناس" رواه مسلم (¬2). أم هشام (¬3): صحابية [من الأنصار، لا يعرف اسمها، وفي رواية أبي داود: أم هشام بنت الحارث، ولمسلم: بنت حارثة (¬4) بالحاء المهملة، أخت عمرة بنت عبد الرحمن لأمها، الأنصارية النجّارية، بايعت بيعة الرضوان، ¬

_ (أ) في هـ: وكان. (ب) ساقطة من جـ.

وروت عنها أختها عمرة] (أ) روى عنها عبد الرحمن بن سعد وحبيب بن عبد الرحمن وعمرة بنت عبد الرحمن. في الحديث دلالة على شرعية قراءة السورة في الخطبة في كل جمعة، بل وجوبها، قال العلماء (¬1): سبب اختيار {ق} أنها مشتملة على ذِكر البعث والموت والمواعظ الشديدة والزواجر الأكيدة وفيه دلالة لقراءة شيء من القرآن في الخطبة كما سبق، إلا أنه لا قام الإجماع على عدم وجوب قراءة السورة المذكورة ولا بعضها في الخطبة، فيحمل مواظبته - صلى الله عليه وسلم - عليها (ب) على اختياره لما هو الأحسن في الوعظ والتذكير، ولذلك قال في خطبته: "خير الحديث كتاب الله" (¬2). وفيه دلالة على لزوم الخطبة للوعظ [وقد رَوَى ابن ماجه (¬3) عن أُبَيّ بن كعب، رضي الله عنه: أنه - صلى الله عليه وسلم - قرأ في يوم الجمعة "تبارك" وهو قائم يذكر (جـ) بأيام الله، وفي رواية لسعيد بن منصور والشافعي (¬4) عن عمر - رضي الله عنه - "أنه كان يقرأ في الخطبة {إِذا الشَّمس كورتْ} ويقطع عند قوله: {ما أحضرت}، وفي إسناده (¬5) انقطاع، ولا يعارض هذا حديث أم هشام إذ يمكن حمل قولها: "في كل جمعة" على الجُمَع] (د) ¬

_ (أ) في هامش الأصل. (ب) تأخرت "عليها" في هـ على: "- صلى الله عليه وسلم -". (ب) في جـ: يذكرنا. (د) ما بين القوسين في قصاصة ماحقه بالأصل.

[التي حضرتها، وقراءة {تبارك} فيما لم تحضر، ويحتمل أنه كان - صلى الله عليه وسلم - يجمع بين السورتين، واقتصر الراوي على بعض ما سمع. وقال شارح "المصابيح": أرادت بقاف أول السورة لا جميعها فلم يقرأها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الخطبة، وهذا يحتاج إلى نقل (¬1) والله سبحانه أعلم] (أ). 345 - وعن ابن عباس - رضي الله. عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "مَنْ تكلَّم يومَ الجُمعة والإِمام يَخْطُبُ فهو كمَثَلِ الحِمَارِ يَحْمِلُ أسفَارًا، والذي يقول له: أنْصِتْ ليس له جُمعة" رواه أحمد بإسنادٍ لا بأس به (¬2). وهو تفسير حديث أبي هريرة رضي الله عنه في الصحيحين (¬3) مرفوعًا: "إذا قلت لصاحبك أنصت يوم الجمعة والإمام يخطب فقد لغوت". حديث أحمد له شاهد قوي في "جامع حماد" مرسل عن ابن عمر موقوفًا (¬4). وقوله: "من تكلم يوم الجمعة، والإِمام يخطب": فيه دلالة على أنَّ ¬

_ (أ) ما بين القوسين في قصاصة ماحقه بالأصل.

خطبة غير الجمعة ليست مثلها، وفي قوله: "والإِمام يخطب": دلالة على أن ذلك النهي يختص بحال الخطبة وفيه رد على من قال: إنه منهي عن الكلام (¬1) من حين خروج الإمام، ولا شك في أفضلية ترك الكلام في ذلك الوقت. وأما الكلام عند الجلوس بين الخطبتين (¬2) فقد حكى فيه قولان: أحدهما: أنه غير خاطب فيحمل الكلام، والثاني: أن وقته يسير فهو شبه السكوت للتنفس فهو في حكم الخاطب (¬3). وتشبيهه بالحمار يحمل أسفارًا لما فاته الانتفاع بأبلغ نافع، وقد تكلف وأتعب نفسه في الحضور للجمعة (أ) والمشبه به كذلك فاته الانتفاع بأبلغ نافع مع تحمل التعب في استصحابه. وفي قوله: "والذي يقول له: أنصت ليس له جمعة": متأول بأنه حرم فضيلة الجمعة لا نفيها بالكلية، ويدل على هذا تأويل ما رواه أبو داود وابن خزيمة (¬4) من حديث عبد الله بن عمر: "ومن لغا وتخطى رقاب الناس كانت له ظهرًا". قال ابن وهب أحد رواته: معناه: أجزأته الصلاة وحُرِم فضيلة الجمعة. ¬

_ (أ) في جـ: في حضور الجمعة.

والإجماع أيضًا على (أ) أنه قد سقط (ب) عنه الفرض، وقد احتج بهذا الحديث من ذهب إلى حرمة التكلم (جـ) في حال الخطبة، وهم الهادي والناصر وأبو حنيفة ومالك ورواية عن أحمد ورواية عن الشافعي (¬1). فإن تشبيهه بالمشبه به المستنكر وملاحظة وجه الشبه المذكور (د) يدل على القُبْح، وكذلك نسبته إلى فوات الفضيلة الحاصلة بالجمعة ما زال إلا لما يلحق المتكلم من الوزر الذي يُقَاوم الفضيلة فيصير محيطًا لها. وذهب القاسم بن إبراهيم (¬2) وابنه والمرتضي بن الهادي ومحمد بن الحسن وأحد قولي أحمد وأحد قولي الشافعي، ورواية عن أحمد، وعن الشافعي التفرقة بين مَنْ سَمعَ الخطبة (¬3) ومن لم يسمعها، [وعبارة الشافعي (¬4): فإذا أجاب على أَحدٍ لم أرَ بأسًا إذا لم يفهمه عنه بالإيماء، يدل على أنه يجوز الكلام جوابًا إذا لم يفهم بالإشارة] (هـ)، وبعض الشافعية (¬5) أوجب الإنصات على مَن تنعقد بهم الجمعة، وهم أربعون لا ¬

_ (أ) ساقطة من جـ. (ب) في جـ: أسقط. (جـ) في جـ: الكلام. (د) ساقطة من جـ، وزاد بعدها في هـ: و. (هـ) بهامش الأصل.

على مَنْ زاد على ذلك، فجعله كفرض الكفاية، نقل ابن عبد البر (¬1) الإجماع على وجوب الإنصات على منْ سَمِعَ خُطبة الجمعة إلا عن قليل من التابعين، وروي عن الشعبي، وناس قليل أنهم كانوا يتكلمون إلا في وقت قراءة الإمام في الخطبة خاصة، قال: وفعلهم في ذلك مردود وأحسن ما يُقَالُ: إنه لم يبلغهم الحديث، ودليل منْ جَوَّزَ الخفيف من الكلام تقرير النبي - صلى الله عليه وسلم - السائل له عن الساعة، فأجاب عليه ولم ينكر عليه التكلم، ومن خص ذلك بالسامع لها بقول علي - رضي الله عنه -: "ومن دنا، ولم ينصت، كان عليه كِفْلان من الوزر". وبعضهم قال: إنه يجوز التكلم إذا انتهى الخطيب إلى ما لم يشرع في الخطبة مثل الدعاء للسلطان، بل جزم صاحب "التهذيب" من الشافعية إلى أنه مكروه وقال النووي (¬2): إن ذلك إذا جاوز الحد وأوغل في الثناء وإلا فالدعاء لولاة الأمر مطلوب. انتهى. ونقل صاحب "المغني" من الشافعية الاتفاق على جواز الكلام في الخطبة، الذي يجوز في الصلاة، كتحذير الضرير من الوقوع في بئر و (أ) نحوه. وقوله: "إِذا قلت لصحابك .. " إِلخ: فيه دلالة على تأكيد النهي عن الكلام، لأنه إذا عُدّ من اللغو الأمر بالمعروف فبالأولى (ب) غيره، فعلى هذا ¬

_ (أ) في جـ: أو. (ب) في جـ (فأولى).

يجب عليه أن يأمره بالإشارة إنْ أمكن ذلك والصاحب مراد به المخاطب، وخصه لأنه الأغلب والأمر بالإنصات قيل المراد به السكوت عن مكالمة الناس، فيلزم من هذا جواز الذكر وقراءة القرآن، والظاهر أن النهي شامل للجميع، ومن فرق فعليه الدليل (أويرد عليه أ) مثل جواب التحية، ومثل الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - عند سماع ذكره عند مَن يقول بوجوب ذلك على ما هو الأقوى، فإنه قد تعارض عموم النهي هنا وعموم الوجوب فيهما، وتخصيص أحدهما لعموم الآخر تحكم مِن دون مُرجح. وقوله: "فقد لغوت": اللغوُ الكلام الذي لا أصل له، قال الأخفش: من الباطل وشبْهه، وقال ابن عرفة: اللغو السقط من القول، وقيل: الميل عن الصواب، وقيل: الإثْم، وقال الزين بن المنير: اتفقتْ أقوالُ المفسرين على أنَّ اللغو ما لا يحسن، وقال الهروي: هو في معنى اللغة، والصواب التقييد. وقال النضر بن شميل: معنى لغوت حنثت من الأمر (¬1)، وقيل: بطلت فضيلة جمعتك، وقيل (ب): صارت جمعتك ظُهْرًا، وأقوال أهل اللغة متقاربة في هذا، والقول الآخر أظهر كما تقدم شاهده (¬2)، والله أعلم. 346 - وعن جابر - رضي الله عنه - قال: "دخل رجلٌ يوم الجمعةِ والنبي - صلى الله عليه وسلم - يخطب، فقال: صليت؟ قال: لا، قال: فَقُم، فَصلّ ركعتيْن" متفق عليه (¬3). ¬

_ (أ- أ) ساقطة من جـ. (ب) في جـ: وقد.

قوله: "دخل رجل": هو سليك -بضم السين (أ) المهملة مصغرًا- ابن هدبة، وقيل: ابن عمرو الغَطفاني -بفتح المعجمة ثم الطاء المهملة بعدها فاء من غطفان-، هكذا سماه في رواية لمسلم (¬1)، وفي رواية الطبراني (¬2) من رواية منصور بن الأسود أنه: النعمان بن قوفَل، وقد روى البخاريُّ (¬3) من طريق أبي صالح مثل هذه القصة مع أبي ذر، وفي إسناده ابن لَهيعة (¬4)، ولكن المشهور عن أبي ذر أنه جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو جالس في المسجد، أخرجه ابن حبان (¬5) وغيره. وفي رواية الدارقطني (¬6) رجل من قيس، وهو يحتمل أن يكون هو سليك لأن غطفان من قيس [وسماه ابن بشكوال (ب) في "المبهمات": أبو هدبة، وهو يحتمل أن يكون كنية سليك] (جـ)، ¬

_ (أ) ساقطة من هـ. (ب) في جـ: ابن بشكوان، وهو تصحف. (جـ) في هامش الأصل.

ويحتمل تعدد الواقعة في سليك وغيره (¬1). وقوله: "صليتَ": بحذف الهمزة للأكثر من رواة البخاري، وقد ثبتت في رواية كريمة والمستملي (¬2). وقوله: "صلّ ركعتَيْن": في رواية مسلم: قال له: "أصليت ركعتين؟ " قال: لا. قال: قم فأدْرِكْهُمَا" (¬3)، وفي رواية له: "قم فاركع ركعتين، وتجوِّز فيهما" (¬4)، وقد أخرجه أبو قرة (¬5): "فاركع ركعتين خفيفتين". وترجم البخاري بذلك فقال: باب من جاء والإمام يخطب صلى ركعتين خفيفتين (¬6) (أ). وفي الحديث دلالة على أن ركعتي تحية المسجد تفْعَلان في حال الخطبة، وأن شرعيتهما ثابتة في تلك الحال، وقد ذهب إلى هذا القاسم والمرتضى والشافعي وأحمد وإسحاق وفقهاء المحدثين، وهو محكي عن الحسن البصري وغيره من المتقدمين. ويتجوز المصلي ليتفرغ إلى استماع الخطبة (¬7)، قيل: إلا أنه يخص من ¬

_ (أ) ساقطة من جـ.

ذلك (¬1) إذا كان الإمام في آخر الخطبة بحيث لا يسمع المصلي بعد فراغه شيئًا من الخطبة، وهو متجه من حيث المناسبة وإنْ لم يقُم عليه دليل يخصه، وذهب مالك والليث وأبو حنيفة والثوري وجمهور السلف من الصحابة والتابعين (¬2)، وهو مذهب الهادي، ومرويّ عن علي وعمر وعثمان (¬3) -رضي الله عنهم- إلى أنه لا يصلي في ذلك الوقت، وحجتهم قوله تعالى: {وإِذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا} (¬4)، ولأنه - صلى الله عليه وسلم - نهى عن أن يقول لصاحبه: أنصت مع أنه أمر بمعروف، وما رواه الطبراني من حديث ابن عمر - رضي الله عنهما - رفعه: "إذا دخل أحدكم المسجد، والإمام على المنبر، فلا صلاة ولا كلام حتى يفرغ الإمام (¬5). واحتجت المالكية (¬6) بإطباق أهل المدينة خَلَفًا عن سَلَف عن منع النافلة وقت الخطبة واحتج (أ) الطحاوي بما (ب) روي أن عبد الله بن صفوان دخل ¬

_ (أ) في هـ: فاحتج. (ب) في جـ: لما.

المسجد وابن الزبير يخطب فاستلم الركن وسلم عليه، ثم جلس، ولم ينكر عليه ابن الزبير (¬1)، وكذا يحتج بإنكار عمر على عثمان التأخر وعدم الغسل، ولم ينكر عليه ترك الصلاة (¬2). وقصة سليك (¬3) أجابوا عنها بأجوبة أحد عشر أولها: أنه (أ) يجوز أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - سكت عن الخطبة حتى فرغ من صلاته، وقد أجيب عنه بأن (ب) قطع الخطبة لا يجوز لأجل الداخل. الثاني: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما خاطب سليكًا فهو في تلك الحال غير خطب فجاز له أن يصلي، كذا قاله ابن العربي (¬4). وهو باطل لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد أن أتم خطابه رجع إلى خطبته، فصلاته (جـ) وقت الخطبة. الثالث: أن دخوله والنبي - صلى الله عليه وسلم - قاعد على المنبر قبل أن يخطب، وقد وقع عند مسلم من رواية الليث: "والنبي - صلى الله عليه وسلم - قاعد على المنبر (¬5) ويُجَابُ عنه بأن القعود الذي في الحديث لم يدل على أنه قَبْل الخطبة، وهو يحتمل (د) أن يكون القعود الذي بين الخطبتين وهو يسير لا يفرغ من الصلاة إلا وقد فعل شيئًا من الخطبة، ويحتمل أن الراوي تجوّز بالقعود على الاستقرار، فإن سائر الروايات أن النبي - صلى الله عليه وسلم - في حال الخطبة. ¬

_ (أ) ساقطة من جـ. (ب) في جـ: بأنه. (جـ) في جـ: وصلاته. (د) في هـ: محتمل.

الرابع: أن هذه القصة قبل تحريم الكلام في الصلاة، ويجاب عنه بأن تحريم الكلام متقدم في أول الهجرة أو قبلها كما مضى تحقيقه، وسليك متأخر الإسلام. الخامس: أن الأوقات التي نهى عن الصلاة فيها يستوي في ذلك من كان خارج المسجد وداخله فيقاس عليه التنفل حال الخطبة، فلا يجوز لمن أتى من خارج كما لا يجوز لمن كان داخل المسجد، ويجاب عنه بأنه قياس مصادم للنص فلا يقبل. السادس: أنه لا تحية إذا جاء والإمام يصلي، فكذلك إذا جاء وهو يخطب، ويجاب عنه بمثل ما أجيب به عن الخامس، وأيضًا فليست الخطبة كالصلاة من كل وجه، وأيضًا فإن التحية إنما شرعت لئلا يقعد قبل أن يصلي وإذا كان الإمام في حال الصلاة فهو مستغن عن التحية بالدخول معه في الصلاة. السابع: قيل: اتفقوا على سقوط التحية على الإمام مع كونه يجلس على المنبر فيكون ترك المأموم التحية بطريق الأولى، ويجاب عنه بمثل ما تقدم قبله. الثامن: قيل: يجوز أن يكون المأمور به صلاة فاتت عليه كذا قاله بعض الحنفية قال: ولعله - صلى الله عليه وسلم - كوشف عن ذلك، وإنما استفهمه ملاطفة له. قال: ولو أراد التحية لما استفهمه لأنه قد شاهد دخوله. ويجاب عنه باستبعاد ما ذكر مع أن في رواية مسلم: "أصليت الركعتين" (¬1)، والمتبادر من التعريف العهد ولا عهد إلا للتحية وأما الاستفهام فيحمل أنه أراد أن يقرر عليه ما لم يفعل ليكون الأمر له آكد. ¬

_ (¬1) مسلم 2/ 596 ح 56 - 875 ولفظه: أركعت الركعتين.

التاسع: أن الخطبة التي وقعت في القصة يجوز أن تكون لغير الجمعة، ويجاب عنه بأن الرواية كما عرفت مصرحة بنفي الاحتمال. العاشر: يحتمل الخصوصية لسليك، وذلك أنه لما أراد النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يتصدقوا عليه، فعرفهم في ذلك الوقت بحاله ليشاهدوا ما عليه من أثر الضر، ويجاب عنه بأنا لا نسلم أن ذلك هو العلة بل يجوز أن يكون جزء علة والمؤثر في الحقيقة غيره، إذ ثبت أنه دخل في الجمعة الثانية، وقد كان تصدق عليه بثوبين في الجمعة الأولى فتصدق بأحدهما فأمره النبي - صلى الله عليه وسلم - بالصلاة وفي الجمعة الثالثة (أ) كذلك. أخرجه أحمد وابن حبان (¬1). الحادي عشر: لا نسلم أنهما ركعتا التحية إذ قد جلس وهما يفوتان بالجلوس ويجاب عنه بأن النووي حكى عن المحققين أن فواتها بالجلوس في حق العامد لا الناسي والجاهل (¬2) وهذا محمول في المرة الأولى على الجهل وفي المرتين الأخريين على النسيان، [وقد تقدم زيادة بحث في باب المساجد] (ب). وأجيب عن حُجَّة المانعين: أما عن الآية فإنها واردة في قراءة القرآن لا في الخطبة، وإن سلم فعموم مخصوص بهذا الخاص، والمصلي أيضًا يجوز أن يقال في حقه: إنه ينصت إذا كان المراد بالإنصات هو الإنصات عن ¬

_ (أ) في هـ: الثانية. (ب) بهامش الأصل.

كلام غيره، وأما حديث الطبراني عن ابن عمر فقوله: "لا صلاة" (¬1) عموم مخصوص بالركعتين التحية، والعمل بدليلهما أرجح، لأنه ثبت ذلك في الصحيحين وغيرهما، قال النووي: وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا جاء أحدكم يوم الجمعة والإمام يخطب، فليركع ركعتين، وليتجوز فيهما لا، هذا نصّ لا يتطرق إليه تأويل، ولا أظن عالمًا يبلغه هذا اللفظ صحيحا فيخالفه (¬2). وأما احتجاج المالكية بإجماع أهل المدينة فغير صحيح بما أخرجه الترمذي وابن خزيمة وصححاه (أ) أن أبا سعيد الخُدْرِي أتى ومروان يخطب فصلاهما، فأراد حَرَس مروان أن يمنعوه فأبى حتى صلاهما ثم قال: ما كنت لأدعهما بعد أن سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأمر بهما (¬3). وأما ما روي عن الصحابة من المنع فهو محمول على النافلة لمن كان داخل المسجد. وأما عدم الإنكار على عبد الله بن صفوان فإنما فيه دلالة على جواز تركهما، ولا يدل على الوجوب، وأيضًا فالمسجد الحرام قد قيل: إن تحيته هو استلام الركن فقط، وقد فَعَلَ ذلك. وفي الحديث دلالة على أنه يجوز للخطيب أن يقطع الخطبة باليسير من الكلام، وقد يقال: أما مثل هذا الكلام الذي صدر من النبي - صلى الله عليه وسلم - فهو من جملة الأوامر والدلالة على الفضائل الذي شرعت الخطبة له فلا دلالة، على الوجه العام، والله أعلم. ¬

_ (أ) في جـ: وصححه.

347 - وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقرأ في صلاة الجمعة سورة الجمعة والمنافقين". رواه مسلم (¬1). وله عن النعمان بن بشير - رضي الله عنه - كان "يقرأ في العيدين وفي الجمعة بـ: {سَبِّح اسْمَ رَبِّكَ الأعْلَى} و {هَلْ أتَاكَ حَدِيثُ الغَاشيَة} (¬2). إنما خص القراءة بالسورتين، أما الجمعة فلاشتمالها على وجوب الجمعة وغير ذلك من أحكامها وعلى الحث على التوكل والذكر، وبيان الفضيلة التي تضمنتها بعثة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وغير ذلك، وسورة المنافقين لتوبيخ خاص بهم وتنبيههم على التوبة لأنه أكثر اجتماعهم في ذلك الموقف، وفي قراءة سَبِّح والغاشية تنبيه بأن ذلك غير لازم، والسورتان فيهما من مقاصد السورتين الأوليين، وقد ورد في العيد أيضًا أنه كان يقرأ بقاف، واقتربت. 348 - وعن زيد بن أرقم - رضي الله عنه - قال: "صلى النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - العيد، ثم رخَّص في الجمعة فقال: مَن شاء أن يصلي فليصل". رواه الخمسة إلا الترمذي وصححه ابن خزيمة (¬3). ¬

_ (¬1) مسلم، الجمعة، باب ما يقرأ في يوم الجمعة 2/ 599 ح 64 - 879، أبو داود، الصلاة، باب ما يقرأ في صلاة الصبح يوم الجمعة 2/ 648 ح 1075، النسائي، الجمعة، باب القراءة في صلاة الجمعة بسورة الجمعة والمنافقين 3/ 91. (¬2) مسلم 2/ 598 ح 62 - 878، أبو داود 1/ 670 ح 1122 ابن ماجه 1/ 355 ح 1119. (¬3) أبو داود، الصلاة، باب إذا وافق يوم الجمعة يوم العيد 1/ 646 ح 1070، النسائي، العيدين الرخصة في التخلف عن الجمعة لمن شهد العيد 3/ 158، ابن ماجه، كتاب إقامة الصلاة، ما جاء فيما إذا اجتمع العيدان في يوم 1/ 415 ح 1310، أحمد 4/ 372، الطيالسي 94 ح 685، ابن خزيمة، أبواب العيدين، باب الرخصة لبعض الرعية في التخلف عن الجمعة إذا اجتمع العيد والجمعة 2/ 359 ح 1464، الحاكم، الجمعة 1/ 288، البيهقي، العيدين، باب =

وصححه أيضًا علي بن المديني في الباب عن ابن الزبير من حديث عطاء، أنه فعل ذلك، وأنه سأل ابن عباس عنه فقال: "أصاب السنة". أخرجه أبو داود والنسائي والحاكم (¬1). وعن أبي هريرة أنه قال - صلى الله عليه وسلم -: "قد اجْتَمَعَ في يَوْمكمْ هَذَا عيدَان فَمَنْ شَاءَ أجْزأه عن الجُمْعة وإنا مجمعون". أخرجه أَبو داود، وابن ماجه والحاكم (¬2) من حديث أبي صالح، وفي إسناده بقية (¬3)، وصحح الدارقطني إرساله، وكذا الإمام أحمد (¬4)، رواه البيهقي (¬5) مقيدًا بيا أهل العوالي، وإسناده ضعيف، وقد وقع عند ابن ماجه (¬6) عن ابن عباس وهو وَهْم نبَّه عليه هو (¬7)، ورواه أيضًا من حديث ابن عمر بإسناد ضعيف (¬8) ورواه ¬

_ = اجتماع العيدين 3/ 317، الدارمي، الصلاة، باب إذا اجتمع عيدان في يوم واحد 1/ 378، الحديث من طريق زيد بن أرقم فيه إياس بن أبي رملة الشامي مجهول. التقريب 40، وللحديث شواهد ذكرها المصنف. (¬1) أبو داود 1/ 647 ح 1071، ابن ماجه 1/ 416 ح 1311، النسائي 3/ 158، ابن خزيمة 2/ 359 - 360، البيهقي 3/ 318. (¬2) أبو داود 1/ 647 ح 1073، ابن ماجه 6/ 411 ح 1311 م، الحاكم 1/ 288، 289. (¬3) بقية بن الوليد بن صائد بن كعب الكلاعي الحمصي، أبو محمد، أحد الأعلام، صدوق، كثير التدليس عن الضعفاء، وإذا حدث عن الثقات فلا بأس. مر في ح 12. (¬4) قال الإمام أحمد: إنما رواه الناس عن صالح مرسلًا وتحجب من بقية كيف رفعه. العلل 1/ 473. البدر المنير 3/ 206. (¬5) البيهقي 1/ 318. (¬6) ابن ماجه 1/ 416 ح 1311. (¬7) لأنه ذكر الحديث من حديث ابن عباس ثم أدرك من حديث أبي هريرة. (¬8) ابن ماجه 1/ 416 ح 1312، وفيه جبارة بن المغلس الحماني أبو محمد الكوفي ضعيف .. التقريب 53، ومندل بن علي، بالميم المثلثة العنزي، أبو عبد الله الكوفي، ضعيف. التقريب 347، المغني في الضعفاء 2/ 676.

الطبراني أيضًا عن ابن عمر (¬1)، ورواه البخاري من قول عثمان (¬2)، ورواه الحاكم من قول عمر بن الخطاب. في الحديث دلالة على أن صلاة الجمعة بعد صلاة العيد تصير رخصة يجوز فِعْلُها ويجوز تركها، وهذا مخصوص بمن صلى العيد دون مَن لم يصَلِّ لظاهر الرواية، وقد ذهب إلى هذا الهادي والناصر والمؤيد وأبو طالب إلا الإمام ونصاب الجمعة، وذهب أكثر الفقهاء وأحد قولي الشافعي إلى أنها لا تصير رخصة، قالوا: لأن دليل وجوبها عامّ لجميع الأيام وما ذكر من الأحاديث والآثار فقد عرفت ما في أسانيدها، فلا يقوى على تخصيص الدليل الصحيح إلا أن الشافعي خص من كان خارج المِصْر محتجا بما روي عن عثمان بترخيصه لأهل العوالي (¬3)، وقد عرفت أنه روي في الحديث أيضًا من قول النبي - صلى الله عليه وسلم -. وذهب عطاء إلى أنها يسقط فرضها عن الجميع، وهو ظاهر قوله - صلى الله عليه وسلم -: "من شاء أن يصلي فليصل" (¬4)، وبفعل (أ) ابن الزبير (¬5) فإنه صلى بهم في ¬

_ (أ) في جـ: ولفعل.

يومَ عيد في يوم جمعة أول النهار، قال عطاء: ثم رُحْنا إلى الجمعة فلم يخرج إلينا فصلينا وحدانًا وكان ابن عباس بالطائف، فلما قدم ذكرنا ذلك فقال: "أصاب السنة". وعنده أيضًا يسقط فرض الظهر ولا يصلي إلا العصر، وفي روايته عن ابن الزبير أخرجها أبو داود (¬1) قال (أ): قال ابن الزبير: "عيدان اجتمعا في يوم واحد فجمعهما جميعًا فصلاهما ركعتين بكرة لم يزد عليهما حتى صلى العصر. وعلى القول بأن الجمعة أصل في يومها، والظهر بدل، فهو يقتضي صحة هذا القول، لأنه إذا سقط وجوب الأصل مع إمكان أدائه سقط البدل. وظاهر الحديث أيضًا حيث رخص لهم في الجمعة، ولم يأمرهم بصلاة الظهر مع تقرر إسقاط الجمعة للظهر يدل على صحة هذا القول، والله أعلم. 349 - وعن أبي هريرة - رضيِ الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "إِذَا صَلَّى أحَدكمْ الجُمعة فَلْيصَلِّ بَعْدهَا أربَعًا". رواه مسلم (¬2). في الحديث دلالة على شرعية صلاة أربع ركعات بعد الجمعة، والأمر ¬

_ (أ) ساقطة من هـ.

بذلك دليل على تأكيد الشرعية، ولم يحمل على الوجوب لما وقع في لفظ الحديث في رواية ابن الصباح: "من كان مُصلِّيًا بعد الجمعة فليصلِّ أربعًا" (¬1) أخرجه مسلم وأبو داود، فدلَّ على أن ذلك ليس بواجب، والأربع أفضل من اثنتين لوقوع الأمر بذلك وكثرة فعله - صلى الله عليه وسلم - لذلك، وقد ثبت مِنْ فعله - صلى الله عليه وسلم - صلاة ركعتين بعد الجمعة (¬2). وفيه دلالة على توسعة الأمر وأن الفضيلة تحصل بذلك. 350 - وعن السائب بن يزيد أن معاوية قال له: "إِذا صليتَ الجمعة فلا تصلها بصلاة حتى تتكلم أو تخرج، فإِن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمرنا بذلك ألَّا نوصل صَلاةً بصلاة حتى نتكلم أو نخرج". رواه مسلم (¬3). هو أبو يزيد السائب بن يزيد الكندي (¬4)، وقيل: الليثي، وقيل: الكناني، وقيل: الأزدي وقيل: الهذلي، وقيل: هو حليف بني أمية أو بني عبد شمس، ولد في السنة الثانية من الهجرة، حضر حجة الوداع مع أبيه وهو ابن سبع سنين، روي عنه الزهري ومحمد بن يوسف، ومات سنة ثمانين، وقيل: سنة ست وثمانين، وقيل: سنة إحدى وسبعين. فيه دلالة على شرعية فصل النافلة من الفريضة، وأن الفصل يحصل بالتكلم أو الانتقال إلى موضع آخر، [وقد ورد مصرحًا به في رواية الشافعي: "حتى يتكلم أو يتقدم". قال في "شرح ابن رسلان": يعني إلى مكان] (أ) ¬

_ (أ) بهامش الأصل.

[آخر بحيث يكون انتقاله ثلاث خطوات متواليات] (أ) ولعل الحكمة في ذلك لئلا تشتبه النافلة بالفرض ولذلك أنه قد ورد أن ذلك هلكة، وقد ذكر العلماء في أنه يستحب التحول للنافلة عن موضع الفريضة إلى موضع آخر، وأفضله التحول إلى بيته [لحديث مسلم: "إذا قضى أحدكم صلاته في مسجده فليجعل لبيته من (ب) صلاته" (¬1)] (جـ)، وإلا في موضع آخر من المسجد أو غيره ليكثر مواضع سجوده. 351 - وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَن اغْتسل ثم أتى الجمعة، فصلى ما قُدِّرَ له، ثم أنصت حتى يفرغ الإِمام من خطبته، ثم يصلي معه، غُفِرَ له ما بينه وبين الجمعة الأخرى، وفضل ثلاثة أيام". رواه مسلم (¬2). قوله: "من اغتسل يوم الجمعة": وفي رواية أخرى لمسلم (¬3): "من توضأ فأحسن الوضوء ثم أتى الجمعة"، وهذه الرواية الأخرى مُبَيِّنَة أن غُسْل يوم الجمعة ليس بواجب. وقوله: "فصلى ما قُدِّرَ له" فيه دلالة على أن الصلاة قبل خروج الإمام مستحبة، وهو مذهب الجمهور، وقوله "ما قدر له": فيه دلالة على أن النافلة لا حد لها يقف عليه. ¬

_ (أ) بهامش الأصل. (ب) في جـ: في. (جـ) بهامش الأصل.

وقوله: "ثم أنصت": من الإنصات، هكذا في أكثر نسخ مسلم، وفي بعض النسخ المعتمدة (¬1): "انتصت" (أ) بزيادة تاء فوقانية بعد النون، وهي لغة صحيحة، قال الأزهري: يقال: أنصت، ونصت ثلاث لغات، والإنصات السكوت، وهو غير الاستماع إذ هو الإصغاء، ولذا قال تعالى: {فاستمعوا له وأنصتوا} (¬2) وقد تقدم حكم الإنصات (¬3). وقوله: "حتى يفرغ الإِمام من خطبته": في النسخ لصحيح (ب) مسلم بحذف لفظ "الإمام"، والضمير عائد إليه للعِلْم به وإن لم يكن مذكورًا، وفي "حتى" دلالة في أن الكلام لا يكون بعدَ الخطبة قبل الصلاة. وفي قوله: "غفر له ما بينه وبين الجمعة": والمعنى ما بين صلاة الجمعة، وخطبتها إلى مثل ذلك الوقت من الجمعة الثانية حتى يكون سبعة أيام بلا زيادة ولا نقصان، أي: غفر له الخطايا الكائنة فيما بين .. إلخ فـ "ما" مراد بها صفة للوقت المقدّر حذف الموصوف وأقيم الموصول مقامه. وقوله: "فَضل ثلاثة": معطوف على موصوف "ما" فهو (جـ) منصوب على الظرف، يعني ويضم إلى السبعة الأيام ثلاثة أيام حتى تكون عشرة أيام (¬4). ¬

_ (أ) بهامش هـ. (ب) في جـ: بصحيح. (جـ) في هـ: هو.

352 - وعنه - رضي الله عنه - "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذَكَرَ يومَ الجمعة، فقال: "فيه ساعة لا يوافقها عبدٌ مسلم، وهو قائمٌ يصلِّي، يسأل الله، عزَّ وجل، شيئًا إِلا أعطاه [إِياه] (أ) وأشار بيده يقلّلها". متفق عليه (¬1). وفي رواية لمسلم: "هي ساعة خفيفة" (¬2). قوله: "فيه ساعة": ورد في هذه الرواية إبهام الساعة، وسيأتي تعيينها. وقوله: "وهو قائم": جملة حالية من عند مسلم، أو صفة والواو لتأكيد لصوق الصفة بالموصوف و "يصلي" خبر ثان و "يسأل" ثالث، ومعنى "قائم"، مقيم للصلاة متلبس بأركانها لا بمعنى حالة القيام فقط، وهذه الجملة ثبتت" (ب) في رواية جماعة من الحفاظ وسقطت في رواية جماعة، وحكى أبو محمد بن السيد عن محمد بن وضاح (جـ): أنه كان يأمر بحذفها من الحديث، ولعله استشكل الصلاة إذا كان وقتها (د) من بعد العصر بعد ثبوت كراهة الصلاة في ذلك الوقت، وكذا إذا كان وقتها من جلوس الخطيب على المنبر إلى انصرافه من الصلاة، وقد تؤولت الصلاة (هـ) بالانتظار لها، والمنتظر للصلاة في صلاة كما ورد في الحديث. فارتفع الإشكال. ¬

_ (أ) في الأصل: إياها. (ب) في هـ: تثبت. (جـ) في جـ: الوضاح. (د) ساقطة من هـ. (هـ) ساقطة من جـ.

وقوله: "وأشار بيده يقللها": قد بُيِّن المشير في رواية أبي مصعب (¬1) عن مالك: "فأشار رسول الله - صلى الله عليه وسلم -"، وقيل: المشير (¬2) (سلمة بن علقمة وأنه وضع أنملته على بطن الوسطى والخنصر يبين قلتها، وقيل: إن الواضع هو بشر (أ) بن الفضل راويه عن سلمة (¬3). والسؤال ورد مطلقًا في هذه الرواية ومقيدًا في رواية لمسلم: "يسأل الله خيرًا" (¬4)، وعند ابن ماجه من حديث أبي لبابة (ب): "ما لم يسأل الله إثمًا" (¬5)، وعند أحمد من حديث سعد بن عبادَة (¬6): "ما لم يسأل إثمًا أو قطعة رحم"، وقطيعة الرحم من عطف الخاص على العام. 353 - وعن أبي بردة عن أبيه - رضي الله عنه -: "سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "هي ما بين أنْ يجلس الإِمام إِلى أن يقضي الصلاة". رواه مسلم (¬7). ورجح الدارقطني أنه من قول أبي بردة (¬8). ¬

_ (أ) في النسخ: بشير وفي مسلم بشر والتصحيح من مسلم 2/ 584. (ب) في النسخ: أبو أمامة وعند ابن ماجه لبابة والتصحيح منه.

وفي حديث عبد الله بن سلام عند ابن ماجه (¬1)، وجابر عند أبي داود والنسائي (¬2): "إِنها ما بَيْنَ صلاة العصرِ إِلى غروب الشمس"، وقد اختلف فيها على أكثر من أربعين قولًا أَمليتها في شرح البخاري (¬3). أبو بُرْدَة -بضم الباء الموحدة وسكون الراء المهملة وبالدال المهملة- هو: عامر بن عبد الله بن قيس -وعبد الله هو أبو موسى الأشعري- أحد التابعين المشهورين المكثرين سمع أباه وعليًّا وابن عمر وغيرهم. روي عنه الشّعْبي وأبو إسحاق السِّبِيعي، كان على قضاء الكوفة (¬4) بعد شريح فعزله الحجاج (¬5). وعبد الله بن سلام هو أبو يوسف عبد الله بن سلام بن الحارث من بني قينقاع الإسرائيلي من ولد يوسف بن يعقوب عليهما السلام وكان حليفًا لبني عوف بن الخزرج، وكان اسمه الحصين فسماه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ¬

_ = النعمان بن عبد السلام عن الثوري عن أبي إسحاق عن أبي بردة عن أبيه موقوف ولا يثبت قوله عن أبيه، وقال أحمد بن حنبل عن حماد بن خالد قلت لمخرمة: سمحت من أبيك شيئًا؟ قال: لا. هذا كلام الدارقطني. وهذا الذي استدركه بناء على القاعدة المعروفة له وأكثر المحدثين أنه إذا تعارض في رواية الحديث وقف ورفع أو إرسال واتصال حكموا بالوقف والإرسال وهي قاعدة ضعيفة ممنوعة. والصحيح طريقة الأصوليين والفقهاء البخاري ومسلم ومحققي المحدثين أنه يحكم بالرفع والاتصال لأنها زيادة ثقة. والله أعلم. شرح مسلم 2/ 505. (¬1) ابن ماجه، إقامة الصلاة والسنة فيها، الساعة التي ترجى 1/ 360 ح 1139 قال في الزوائد: إسناده صحيح ررجاله ثقات. (¬2) أبو داود 1/ 636 ح 1048، النسائي، الجمعة، وقت الجمعة 3/ 81. الحاكم، الجمعة 1/ 279، ابن خزيمة 3/ 120 ح 6738، ورجاله ثقات. (¬3) هذا النقل من الحافظ ابن حجر، وإلا فليس للمؤلف شرح على البخاري فليتنبه. (¬4) في السير: كان قاضي الكوفة للحجاج فعزله بأخيه أبي بكر 4/ 344. (¬5) سير أعلام النبلاء 4/ 343 - 346، أخبار القضاة 2/ 408.

عبد الله، وهو أحد الأحبار، وأحد من شهد له النبي - صلى الله عليه وسلم - بالجنة (¬1)، روى عنه ابناه يوسف ومحمد، وأنس بن مالك وغيرهم. مات بالمدينة سنة ثلاث وأربعين (¬2). وسَلام بتخفيف اللام (¬3). قال المبرد: لم يكن في العرب سَلام بالتخفيف غيره، وزاد غيره: سلام بن مشكم، والمعروف فيه بالتشديد. وقَيْنقاع: (¬4) بفتح القافين وسكون الياء تحتها نقطتان من أسفل وضم (أ) النون وبالعين المهملة. قوله: "وقد اختلف فيها" .. إِلخ. ذكر المصنف -رحمه الله- في "فتح الباري" (¬5) ثلاثة وأربعين قولًا، وها أنا أذكرها على وجه الإيجاز مستوفيًا لما في الكتاب: الأول: أنها قد رُفعَتْ وهو محكي عن بعض الصحابة، وأخرج عبد الرزاق (¬6) عن عبد الله بن يحنس مولى معاوية (¬7) قال: قلتُ لأبي هريرة: ¬

_ (أ) في هـ: ويضم.

"إنهم زعموا أن الساعة في يوم الجمعة التي يستجاب فيها الدعاء قد رفعت، فقال: كذب من قال ذلك. قلتُ: فهي في (أ) كل جمعة؟ قال: نعم". إسناد قوي. الثاني: أنها موجودة في جمعة واحدة في كل سنة قاله كعب الأحبار، ورد عليه أبو هريرة، فرجع، رواه (ب) مالك في "الموطأ" وأصحاب السنن (¬1). الثالث: أنها مخفية في جميع اليوم كما أخفيت ليلة القدر في العشر، وهذا القول قاله جَمْعٌ من العلماء كالرافعي وصاحب المغني (¬2) (جـ)، فإنهم قالوا: يستحب إكثار الدعاء في يوم الجمعة رجاء أن يصادف ساعة الإجابة، وأخرج ابن خزيمة (¬3): أن أبا سعيد سأل النبي - صلى الله عليه وسلم -، عنها فقال: "لقد أعلمتها ثم أنسيتها كما أنسيت ليلة القدر". وروى عبد الرزاق (¬4): أن الزهري قال: لم أسمع فيها بشيء، إلا أن كعب الأحبار قال: لو أن إنسانًا دعا في جمعة أول النهار وفي الثانية بعد ذلك الوقت إلى وقت معلوم حتى يأتي على آخر النهار لأتى عليها. ¬

_ (أ) ساقطة من هـ. (ب) في هـ: فرواه. (جـ) في جـ: المعين.

وهذا يدل على عدم التعيين، ويحتج لهذا القول بالقياس على إخفاء ليلة القدر والاسم الأعظم، والحكمة في ذلك بعث العباد على الاجتهاد في الطلب، واستيعاب الوقت بالعبادة. الرابع: أنها تنتقل في يوم الجمعة ولا يلزم ساعة معينة (أ) لا ظاهرة ولا مخفية. قال الغزالي: هذا أشبه الأقوال (¬1)، وجزم به ابن عساكر وغيره، وقال المحب الطبري: إنه الأظهر. الخامس: إذا أذن المؤذن لصلاة الغداة، ذكره أبو الفضل في "شرح الترمذي" وسراج الدين بن الملقن في شرحه على البخاري، وروياه عن ابن أبي شيبة (¬2) عن عائشة، وقد رواه الروياني في "مسنده" عنها، وأطلق الصلاة، ورواه ابن المنذر فقيده بصلاة الجمعة. السادس: مِنْ طُلُوع الفجر إلى طلوع الشمس رواه ابن عساكر عن أبي هريرة وعبارة بعضهم: ما بين طلوع الفجر وطلوع الشمس. السابع: مثله، وزاد من العصر إلى المغرب، أخرجه سعيد بن منصور عن أبي هريرة، وفيه ليث بن أبي سليم (¬3)، وهو ضعيف، واختلف عليه فيه أيضًا. الثامن: مثله، وما بين أن ينزل الإمام من المنبر إلى أن يكبر، رواه [حميد] (ب) بن زنجويه في "الترغيب" له من طريق عطاء عن أبي هريرة ¬

_ (أ) زاد في جـ: و. (ب) في النسخ: أحمد، والصحيح حميد، انظر معجم المؤلفين 4/ 84.

قال: "التمسوا الساعة التي يجاب فيها الدعاء يوم الجمعة في هذه الأوقات الثلاثة". [التاسع: أنها أول ساعة بعد طلوع الشمس، حكاه الجيلي في شرح التنبيه"، وتبعه المحب الطبري في شرحه. العاشر: أنها (أ)] عند طلوع الشمس حكاه الغزالي في "الإحياء" (¬1)، وقال الزين بن المنير في شرحه: هي ما بين أن ترتفع الشمس بشبر إلى ذراع وعزاه لأبي ذر. الحادي عشر: أنها آخر الساعة الثالثة من النهار، حكاه صاحب "المغني" (¬2) (ب) وهو في "مسند الإمام أحمد" من طريق علي بن أبي (جـ) طلحة عن أبي هريرة مرفوعًا: "يوم الجمعة فيه طُبِعَتْ (د) طينة آدم وفي آخر ثلاث ساعات منه، من دعا الله فيه استجيب له" (¬3)، وفي إسناده فرج بن فَضالة (¬4)، وهو ضعيف، وعليّ (¬5) لم يسمع من أبي هريرة، وقال المحب الطبري: هو يحتمل أمرين أحدهما ما ذكره، وثانيهما أنْ يكون في آخر ¬

_ (أ) بهامش الأصل. (ب) في جـ: المعين. (جـ) أبي عليها كشط في هـ. (د) في جـ: صنعت.

كل ساعة من الثلاث ساعة إجابة فيكون (أ) قد تجوز بإطلاق الساعة على بعض الساعة. الثاني عشر: من الزوال إلى أن يصير الظل نصف ذراع حكاه المحب الطبري (ب في "الأحكام" ب). الثالث عشر: مثله إلا أنه قال: "إلى أن يصير الظل ذراعًا" حكاه عياض والقرطبي والنووي) (جـ) (¬1). الرابع عشر: بعد الزوال بشبر إلي ذراع، وقد روي عن أبي ذر بإسناد قويّ. الخامس عشر: إذا زالت الشمس، حكاه ابن المنذر عن أبي العالية، ورووا نحوه في أثناء حديث عن علي، وروي عبد الرزاق (¬2) من طريق الحسن أنه كان يتحراها عند الزوال، وروي ابن عساكر من طريق سعيد بن أبي عروبة عن قتادة قال: "كانوا يرون الساعة المستجاب فيها الدعاء إذا زالت الشمس، وكان مأخذهم أن ذلك وقت اجتماع الملائكة، وابتداء وقت دخول الجمعة وابتداء الأذان، ونحو ذلك. السادس عشر: إذا أذن المؤذن لصلاة الجمعة. وهذا يغاير (د) الذي قبله لتقييده بالأذان وإن تأخر عن الزوال، ويتعين أن يراد به الأذان الذي بين يدي الخطيب. ¬

_ (أ) ساقطة من جـ. (ب - ب) ساقطة من هـ. (جـ) في جـ: والثوري. (د) في هـ: مغاير.

السابع عشر: من الزوال إلى أن يدخل الرجل في الصلاة، ذكره ابن المنذر عن أبي السوار العدوي، وحكاه ابن الصباغ إلى أن يدخل الإمام. الثامن عشر: من الزوال إلى خروج الإمام، حكاه القاضي أبو بكر الطبري. التاسع عشر: من الزوال إلى غروب الشمس، حكاه أبو العباس أحمد بن علي كشاسب (أ) الدزماري (ب) بزاي ساكنة وراء مهملة قبل ياء النسب (جـ)، في نكته على التنبيه (د) عن الحسن، ونقله ابن الملقن، وكان الدزماري (¬1) في عصر ابن الصلاح. العشرون: ما بين خروج الإمام إلى أن تقام الصلاة، رواه ابن المنذر عن الحسن. الحادي والعشرون. عند خروج الإمام، رواه حميد بن زنجويه، في كتاب "الترغيب" عن الحسن أن رجلًا مر به وهو ينعس في ذلك الوقت. الثاني والعشرون: ما بين خروج الإمام إلى أن تنقضي الصلاة، رواه ابن جرير عن الشعبي. الثالث والعشرون: ما بين أن يحرم البيع إلى أن يحل، رواه سعيد بن منصور وابن المنذر عن الشعبي (¬2)، قوله أيضًا. قال ابن المنير: وجهه ¬

_ (أ) في النسخ: كتائب، انظر الترجمة. (ب) في النسخ: الأزماري، وفي الفتح الدزماري 2/ 418، انظر ترجمته. (جـ) في هـ: النسبة. (د) كذا بالنسخ. وفي الفتح: نكته على التنبيه. وفي الطبقات: شرح التنبيه.

أنه أخص أوقات الجمعة بدليل حرمة البيع فيه. الرابع والعشرون: ما بين الأذان إلى انقضاء الصلاة، رواه حميد ابن زنجويه عن ابن عباس (أ) وحكاه في "شرح السنة" عنه (¬1). الخامس والعشرون: "ما بين أن يجلس الإمام على المنبر إلى أن تنقضي الصلاة" رواه مسلم وأبو داود (¬2) عن أبي بردة بن أبي موسى لما سأله ابن عمر فقال: (ب) سمعت أبي يقول (جـ): سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول ... : فذكره، وهذا يمكن أن يتحد بما قبله. السادس والعشرون: عند التأذين، وعند تذكير الإمام وعند الإقامة، رواه حميد بن زنجويه عن عوف بن مالك الأشجعي قوله. السابع والعشرون: مثله لكن قال: إذا أذن، وإذا رقى المنبر، وإذا أقيمت الصلاة، رواه ابن أبي شيبة (¬3) وابن المنذر عن أبي أمامة الصحابي. قوله: ولا شك في وقت النداء. أنه وقت إجابة في سائر الأوقات فيتأكد (د) ذلك في يوم الجمعة. الثامن والعشرون: من حين يفتتح الإمام الخطبة حتى يفرغها، رواه ¬

_ (أ) في النسخ: ابن عياض والتصحيح من الفتح وشرح السنة 2/ 418، 4/ 211. (ب) في جـ: قال. (جـ) زاد في جـ: قال. (د) ساقطة من هـ.

ابن عبد البر عن ابن عمر مرفوعًا وإسناده ضعيف. التاسع والعشرون: إذا بلغ الخطيب المنبر وأخذ في الخطبة، حكاه الغزالى في "الإحياء" (¬1). الثلاثون: عند الجلوس بين الخطبتين، حكاه الطيبي عن بعض شراح "المصابيح". الحادي والثلاثون: عند جلوس الإمام على المنبر، رواه ابن أبي شيبة وحميد بن زنجويه وابن خزيمة (¬2) وابن المنذر بإسناد صحيح إلى أبي إسحاق عن أبي بردة قوله، وحكاه الغزالي (¬3) قولًا بلفظ: "إذا قام الناس إلى الصلاة". الثاني والثلاثون: حين تقوم الصلاة حتى يقوم الإمام في مقامه، حكاه ابن المنذر عن الحسن أيضًا، ورواه الطبراني (¬4) من حديث ميمونة بنت سعد نحوه مرفوعًا بإسناد ضعيف. الثالث والثلاثون: من إقامة الصلاة إلى تمام الصلاة، رواه الترمذي وابن ماجه من طريق كثير بن عبد الله بن عمرو عن أبيه عن جده مرفوعًا وفيه قالوا: أية ساعة يا رسول الله؟ قال - صلى الله عليه وسلم -: "حين تقام الصلاة إلى ¬

_ (¬1) الإحياء 3/ 279. (¬2) ابن خزيمة 3/ 120 ح 1739، عند ابن أبي شيبة هي عند خروج الإمام 2/ 143. (¬3) إحياء علوم الدين 3/ 279. (¬4) وعن ميمونة بنت سعد أنها قالت: أفتنا يا رسول الله عن صلاة الجماعة. قال: "فيها ساعة لا يدعو العبد فيها ربه إلا استجاب له" قلت: أي ساعة هي يا رسول الله؟ قال: "ذلك حين يقوم الإمام"، الطبراني في الكبير 25/ 37 ح 66، قال الهيثمي: وفي إسناده مجاهيل. المجمع 2/ 167.

الانصراف منها" (¬1)، وقد ضعف كثير (¬2)، ورواه البيهقي في "الشعب" (¬3) من هذا الوجه بلفظ: "ما بين أن ينزل الإمام من المنبر إلى أن تنقضي الصلاة"، ورواه ابن أبي شيبة (¬4) من طريق مغيرة عن واصل الأحدب عن أبي بردة قوله، وإسناده قويّ، وفيه (أ) أن ابن عمر استحسن عن ابن سيرين منه، وبارك عليه ومسح على رأسه، ورواه ابن جرير وسعيد بن منصور عن ابن سيرين. الرابع والثلاثون: هي الساعة التي كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي فيها الجمعة، رواه ابن عساكر بإسناد صحيح عن ابن سيرين وخص في هذا الوقت الذي كان يصلي فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - لأن - صلى الله عليه وسلم - لا يختار إلا أفضل الأوقات وأشرف الحالات. الخامس والثلاثون: من صلاة العصر إلى غروب الشمس، رواه ابن جرير من طريق ابن عباس مرفوعًا، ومن طريق أبي سعيد مرفوعًا بلفظ: "والتمسوها بعد العصر" (¬5)، وذكر ابن عبد البر (¬6) أن الزيادة مدرجة من ¬

_ (أ) في جـ: ومنه.

قول أبي سلمة راويه، ورواه ابن منده وزاد: "أغفل ما يكون الناس" ورواه أبو نعيم في "الحلية" (¬1) عن عبد الله مثل حديث ابن عباس، ورواه الترمذي (¬2) عن أنس مرفوعًا بلفظ: "بعد العصر إلى غيبوبة الشمس"، وإسناده ضعيف (¬3). السادس والثلاثون: في صلاة العصر، رواه عبد الرزاق (¬4) عن عمر (أ) بن ذر عن يحيى بن إسحاق بن أبي طلحة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسلًا وفيه قصة. السابع والثلاثون: بعد العصر إلى آخر وقت الاختيار، حكاه الغزالي في "الإحياء" (¬5). الثامن والثلاثون: بعد العصر (¬6) كما تقدم عن أبي سعيد مطلقًا، ورواه أحمد وابن عساكر عن أبي هريرة وأبي سعيد مرفوعًا وهي بعد العصر، وروى ابن المنذر عن مجاهد مثله. ورواه ابن خزيمة (¬7) من طريق إبراهيم بن ميسرة عن رجل (ب) أرسله عمر بن أوس إلى أبي هريرة فذكر مثله، ¬

_ (أ) زاد في جـ: و. (ب) هـ: رجله.

قال: وسمعته عن الحكم عن ابن عباس مثله، ورواه أبو بكر المروزي من طريق الثوري وشعبة جميعًا عن يونس بن حبان. قال الثوري: عن عطاء، وقال الشعبي عن أبيه عن أبي هريرة. مثله، وقال عبد الرزاق (¬1) أخبرنا معمر عن ابن طاوس عن أبيه أنه كان يتحراها بعد العصر، وعن ابن جريج عن بعض أهل العلم قال: لا أعلمه إلا عن ابن عباس مئله، فقيل له: لا صلاة بعد العصر؟ قال: بلى لأن من كان في مصلاه لم يقم منه فهو في صلاة (¬2). التاسع والثلاثون: من وسط النهار إلى قرب آخر النهار كما تقدم أول الباب عن سلمة بن علقمة. الأربعون: من حين تصفر الشمس إلى أن تغيب، رواه عبد الرزاق عن طاوس قوله (¬3). الحادي والأربعون: آخر ساعة بعد العصر، رواه أبو داود والنسائي والحاكم (¬4) بإسناد حسن عن أبي أسامة عن جابر مرفوعًا، وفي أوله: "إن النهار اثنتا عشرة ساعة" رواه مالك وأصحاب السنن وابن خزيمة وابن حبان من طريق محمد بن إبراهيم عن أبي سلمة عن أبي هريرة عن عبد الله بن سلام قوله (¬5)، وفيه مناظرة أبي هريرة له في ذلك. ¬

_ (¬1) المصنف 3/ 261 ح 5574. (¬2) المصنف 3/ 261 ح 5573، عن ابن جريج قال عطاء: عن بعض أهل العلم. (¬3) المصنف 3/ 263 - 264 ح 5582 عن ابن جريج عن إسماعيل بن كيسان. (¬4) أبو داود 1/ 636 ح 1048، النسائي 3/ 81، الحاكم 1/ 279. (¬5) ابن خزيمة 3/ 120 ح 1738، الموطأ 88 ح 17. أبو داود 1/ 634 ح 1046، الترمذي 2/ 362 ح 491، النسائي 3/ 93.

واحتج عبد الله بن سلام أن منتظر الصلاة في صلاة. وروى ابن جريج من طريق العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة عن كعب الأحبار قوله. وقال عبد الرزاق (¬1): أخبرنا ابن جريج أخبرني موسى بن عقبة أنه سمع أبا سلمة يقول: حدثنا عبد الله بن عامر فذكر مثله وروى البزار (¬2) وابن جريج من طريق محمد بن عمر عن أبي سلمة عن أبي هريرة وأبي سعيد، فذكر الحديث، وفيه: قال أبو سلمة: فلقيتُ عبد الله بن سلام فذكرتُ ذلك له (أ) ولم يعرض بذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - بل قال: "النهار اثنتا عشرة ساعة وإنها لفي آخر ساعة من النهار". ولابن ماجه (¬3) من طريق أبي النضر عن أبي سلمة عن عبد الله بن سَلام قال: قلتُ ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - جالس: إنا لنجد في كتاب الله أن في الجمعة ساعة فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أوْ بعض ساعة". الحديث. قلتُ: أي الساعة؟ (ب) فذكرها، وهذا يحتمل أن يكون القائل: "قلتُ": عبد الله بن سلام، فيكون مرفوعًا، ويحتمل أن يكون أبا سلمة فيكون موقوفًا، (جـ) الأرجح لتصريحه في رواية يحيى بن أبي كثير (¬4) بأن عبد الله بن سلام لم يذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - في الجواب. ¬

_ (أ) في جـ: له ذلك. (ب) في جـ، هـ: ساعة. (جـ) في جـ: وهذا.

الثاني والأربعون: مِنْ حين يغرب قرص الشمس -أو من حين يدلي قرص الشمس للغروب- إلى أن يتكامل غروبها، رواه الطبراني في "الأوسط" والدارقطني في "العلل"، والبيهقي في "الشعب" "وفضائل الأوقات" (أ) من طريق (¬1): زيد بن علي بن الحسين بن علي: حدثتني مرجانة مولاة فاطمة بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قالت حدثتني فاطمة - رضي الله عنها - عن أبيها - صلى الله عليه وسلم - وذكر (ب) الحديث وفيه: قلتُ: للنبي - صلى الله عليه وسلم -: أي ساعة هي؟ قال: "إذا تدلى قرص الشمس للغروب"، وكانت فاطمة - رضي الله عنها - إذا كان يوم الجمعة أرسلت غلامًا لها يقال له زيد ينظر لها الشمس، فإذا أخبرها أنها (جـ) تدلت للغروب أقبلت على الدعاء إلى أن يغيب. وفي إسناده اختلاف على زيد بن علي، وفي بعض رواته من لا يعرف حاله، وقد أخرجه ابن راهويه في "مسنده" (¬2) من طريق سعيد بن رشيد عن زيد بن علي عن فاطمة، رضي الله عنها، ولم يذكر مرجانة وقال فيه: "إذا تدلت الشمس للغروب"، فقال فيه: تقول للغلام يقال له زيد اصعد على الضراب إذا تدلت الشمس للغروب فأخبرني، والباقي نحوه، وفي آخره: ثم تصلي، يعني المغرب. [الثالث والأربعون: أنها وقت قراءة الإمام الفاتحة في صلاة] (د) ¬

_ (أ) زاد في هـ: واو. (ب) في جـ: وذكرت. (جـ) في جـ أنه قد. (د) بهامش الأصل.

[الجمعة إلى أن يقول آمين. ذكره ابن الجزري في "عدة الحصن"] (أ). فهذا جميع ما ذكر، وليست كلها متغايرة من كل وجه، بل كثير منها يمكن أن يتحد مع غيره. وقال ابن المنيّر: يحسن جميع الأقوال، وقد ذكر عشرة أقوال من هذه تبعًا لابن بطال (¬1). قال: فتكون ساعة الإجابة واحدة منها، لا يعينها فيصادفها من اجتهد في الدعاء في جميعها. قال المصنف -رحمه الله تعالى - (¬2): وليس المراد مِنْ أكثرها أنه يستوعب جميع الوقت الذي عين، بل المعنى أنها تكون في أثنائه لقوله: "فيما مضى: "يقللها"، وقوله: "وهي ساعة خفيفة" وفائدة ذكر الوقت أنها تنتقل فيه، فيكون ابتداء مظنتها ابتداء الخطبة مثلًا وانتهاء الصلاة، ولا شك أن أرجح الأقوال المذكورة حديث أبي موسى وحديث عبد الله بن سلام. قال المحب الطبري: أصح الأحاديث فيها (ب) حديث أبي موسى، وأشهر الأقوال فيها قول عبد الله بن سلام وما عداهما إما موافق لها أو لأحدهما. أو ضعيف (جـ) الإسناد أو موقوف استند قائله إلى اجتهاد ولا يعارضها حديث أبي سعيد في كونه - صلى الله عليه وسلم - أنسيها بعد أن علمها لاحتمال أن يكون ¬

_ (أ) بهامش الأصل. (ب) في جـ: منها. (جـ) في جـ: وأضعف.

سمعا ذلك قبل أن أنسى، أشار إلى ذلك البيهقي وغيره، ورجح مسلم على ما روى عنه البيهقي (¬1) حديث أبي موسى وقال: هو أجود شيء في هذا الباب وأصحه، وقال به البيهقي وابن العربي (¬2) وجماعة، وقال القرطبي: هو نص في موضع الخلاف فلا يلتفت إلى غيره، وقال النووي (¬3) (أ): هو الصحيح بل الصواب، ورجح أحمد قول عبد الله بن سلام حكاه عنه الترمذي (¬4)، وقال أحمد (4): أكثر الأحاديث على ذلك، وقال ابن عبد البر (¬5): أثبت شيء في هذا الباب. وروى سعيد بن منصور بإسناد صحيح إلى أبي سلمة (ب بن عبد الرحمن ب) أن ناسًا من الصحابة اجتمعوا فتذاكروا ساعة الجمعة ثم افترقوا ولم يختلفوا أنها آخر ساعة من يوم الجمعة (¬6). ورجحه إسحاق، ومن المالكية الطرطوشي، وحكى العلائي أن شيخه الزملكاني -شيخ الشافعية في وقته- كان يختاره، ويحكيه عن نص ¬

_ (أ) في هـ: الثوري. (ب - ب) ساقطة من هـ.

الشافعي (¬1)، وأجابوا عن كونه ليس في الصحيحين بأن الترجيح بما في الصحيحين أو (أ) أحدهما إنما هو حيث لا يكون مما انتقده الحفاظ، كحديث أبي موسى هذا فإنه أعل بالانقطاع والاضطراب، أما الانقطاع فلأن (ب) في إسناده مخرمة بن بكير (¬2)، ولم يسمع من أبيه، وقد صرح أيضًا بأنه لم يسمع من أبيه فلا يكون على شرط مسلم، وأما الاضطراب فإن راوية (جـ) كأبي إسحاق وما قبل الأحدب ومعاوية بن قرة وغيرهم أخرجوه عن أبي بردة من قوله، وهؤلاء من أهل الكوفة، وأبو بردة كوفي، فهم أعلم بحديثه من بكير، فلو كان عند أبي بردة مرفوعًا لم يقفوه عليه، وبهذا جزم الدارقطني بأن الموقوف هو الصواب (¬3)، وجمع ابن ¬

_ (أ) في هـ: أن. (ب) في جـ: فإن. (جـ) في جـ: رواية.

القيم في "الهدْي" (¬1) بين الروايتين بأن الساعة منحصرة في أحد الوقتين، وسبقه إلى تجويز هذا الإمام أحمد، وهو أولى في (أ) طريق الجمع، والحكمة في إبهامها وإبهام ليلة القدر بَعْث الدواعي على الإكثار من الصلاة والدعاء ولو بينت لاتكل الناس على ذلك وتركوا ما عداها. وفي الحديث دلالة على فضل يوم الجمعة لاختصاصه بساعة الإجابة. 354 - وعن جابر - رضي الله عنه - قال: "مضت السّنة أنَّ في كلِّ أربعين فصاعدًا جمعة". رواه الدارقطني بإسناد ضعيف. وأخرجه البيهقي أيضًا ولفظه: "في كلِّ ثلاثة إِمام، وفي كلِّ أربعين فما فَوقهَا جمعَة وأضحى وفطر" (¬2). ووجه الضعف أنه من (ب) رواية عبد العزيز بن عبد الرحمن عن (جـ) خصيف عن عطاء عن جابر وعبد العزيز: قال أحمد (¬3): اضرب على أحاديثه فإنها كَذِب أو موضوعة، وقال النسائي (¬4): ليس بثقة. وقال الدارقطني (¬5): منكر الحديث، وكان ابن حبان لا يجوز أن يحتج به (¬6)، ¬

_ (أ) في جـ: من، وساقطة من هـ. (ب) في جـ: بين. (جـ) في جـ: بن.

وقال البيهقي (¬1): هذا الحديث لا يحتج بمثله، وعبد العزيز قرشي يقال له: البالسي. وفي الباب أحاديث لا أصل لها، منها حديث أبي الدرداء "إذا بلغ أربعين رَجُلا فَعَليْهِم الجُمعَة"، قال في البدر (¬2): لم أر مَنْ خرجه بعد البحث عنه. وحديث أبي أمامة: "لا جُمعَة إلا بأرْبَعِينَ" (¬3) والذي روى البيهقي والطبراني من حديثه: "على خمسين جمعة ليس فيما دون ذلك" (¬4)، زاد الطبراني في "الأوسط": "ولا تجب على مَنْ دون ذلك"، وفي إسناده جعفر بن الزبير (¬5) وهو متروك، قال شعبة: كذب جعفر على النبي ¬

_ (¬1) السنن 3/ 177. (¬2) البدر 3/ 167، وقال في التلخيص: لا أصل له 2/ 59. (¬3) قال في البدر: هذا الحديث لا يحضرني من خرجه من هذا الوجه هكذا، وكان الرافعي استغربه 2/ 167، وقال ابن حجر: لا أصل له التلخيص 2/ 59. قلت في تعيين الأربعين روى أبو داود عن محمد بن أبي أمامة بن سهل عن أبيه عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك عن أبيه كعب بن مالك أنه كان إذا سمع النداء ترحم لأسعد بن زرارة .. وفيه قلت: كم أنتم يومئذ قال: أربعين 1/ 645 ح 1069، البيهقي 3/ 176 - 177، ابن ماجه 1/ 343 ح 1082، الدارقطني 2/ 605، الحاكم 1/ 281. والحديث قال البيهقي: إذا ذكر سماعه في الرواية وكان الراوي ثقة استقام الإسناد وهذا حديث حسن الإسناد صحيح. قلت: عنعنه ابن إسحاق -مر في ح 242، عند البيهقي وأبي داود ولكن صرح بالتحديث في رواية الدارقطني والحاكم وهو صدوق. (¬4) الدارقطني 2/ 4، الطبراني الكبير 8/ 291 ح 7952. (¬5) وفيه جعفر بن الزبير من أهل الشام سكن البصرة، قال البخاري: تركوه. قال أبو حاتم: روى جعفر بن الزبير عن القاسم عن أبي أمامة نسخة موضوعة أكثر من مائة حديث، ومن مناكيره هذا الحديث. الميزان 1/ 406، التقريب 55، المجروحين 1/ 212.

- صلى الله عليه وسلم - أربعمائة حديث. وهياج بن بسطام (¬1) وهو متروك أيضًا، وفي طريق البيهقي (¬2) النقاش المفسر، وهو واه أيضًا (¬3) وحديث أنه - صلى الله عليه وسلم - جمع بالمدينة ولم يجمع بأقل من أربعين هكذا حكاه الرافعي (¬4). والذي رواه البيهقي من حديث ابن مسعود قال: "جمعنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ونحن أربعون رجلًا -وفي رواية: نحوًا من أربعين- فقال: "إنكم منصورون" .. (¬5) الحديث. وهذا غير متعلق بالجمعة، وقد أخرج أبو داود وابن حبان (¬6) وغيرهما في تجميع أسعد بن زرارة قبل قدوم النبي - صلى الله عليه وسلم -، و (أ) كانوا أربعين، وإسناده حسن. وفي الحديث دلالة على وجوب الجمعة على الأربعين فصاعدًا، إذ قوله: "مضت السنةُ" في حكم المرفوع إذ المراد بها سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - وعلى أنها لا تجب فيما دون الأربعين بمفهوم العدد، إذ معنى قوله: "في كل أربعين جمعة" أي ثابتة، وثبوتها يقضي بوجوبها، إذ هو المتبادر، وقد ¬

_ (أ) زاد في جـ: قد.

ذهب إلى هذا عمر بن عبد العزيز والشافعي. وفي كون الإمام أحدهم وجهان للشافعي (¬1)، قال الإمام يحيى: أصحهما أنه أحدهم، وذهب أبو حنيفة والمؤيد وأبو طالب إلى أنَّ أقل ما تنعقد بهم (أ) الجمعة ثلاثة مع الإمام (¬2) فلا تجب إذا (ب) لم يكمل هذا النصاب، قالوا: لقوله تعالى: {فَاسْعَوْا} (¬3) فالخطاب لجماعة بعد النداء للجمعة، وأقل الجمع ثلالة فَدَلَّ على وجوب السعي من الجماعة (جـ) الجمعة بعد النداء لها والنداء لا بد له من (د) مناد، ويصحّ أن يقوم النداء بإمامها، فكانوا ثلاثة مع الإمام ولا دليل على اشتراط ما زاد على ذلك، وأيضًا فإن الجمعة شعار، وهو لا يحصل الشعار إلا بجماعة، وأيضًا التزامه - صلى الله عليه وسلم - لصلاتها مع جماعة يختلف عددهم قلة وكثرة كشف عن عدم وجوب (هـ) اشتراط مرتبة معينة فوجب الاقتصار على ظاهر الآية، [وما روى من حديث أم عبد الله الدوسية مرفوعًا: "الجمعة واجبة على كل قرية فيها إمام وإن لم يكونوا إلا أربعة"، وفي رواية: "وإن لم يكونوا] (و) ¬

_ (أ) في جـ: به. (ب) في هـ: إذ. (جـ) ساقطة من جـ. (د) في جـ: على. (هـ) ساقطة من جـ. (و) بهامش الأصل.

[إلا ثلاثة رابعهم إمامهم". ورواه الدارقطني وابن عدي وضعفاه] (أ) (¬1) وذهب أبو العباس، وهو مذهب أبي ثور و (ب) النخعي وأبي يوسف وأهل الظاهر والحسن بن يحيى وابن السيب، [وقد روي عن الشافعي في القديم] (جـ) أنها تصحّ باثنين مع الإمام (¬2) إذ (د) هم جماعة والإمام داخل في الخطاب بقوله (هـ): {فَاسْعَوْا}، وأجيب بأن النداء قبل السعي والأمر بالسعي بعد النداء إلا لجماعة والاثنان ليسا (و) بجمع حقيقة، ولعلهم يقولون: إنه ليس المراد بترتيب السعي على النداء أنه لا يجب السعي إلا بعد النداء وإلا لزم أن لا يجب على المنادي أن ينادي فلا يجب عليهم السعي، باب المراد إمكان وقوعه، وهو يمكن وقوعه بحضور الثلاثة وينادي أحدهم، وفيها أقوال غير ما تقدم بلغت إلى خمسة عشر قولا: هذه ثلاثة، والرابع: ¬

_ (أ) بهامش الأصل. (ب) الواو ساقطة من هـ. (جـ) بهامش الأصل. (د) في جـ: إذا. (هـ) في جـ: لقوله. (و) في هـ: ليس.

تصح من الواحد نقله ابن حزم (¬1)، الخامس: اثنان كالجماعة (1)، وهو مرويّ عن النخعي وأهل الظاهر، السادس: سبعة، وهو مرويّ عن عكرمة (¬2)، والسابع: ستة (¬3) وهو يروي عن ربيعة (أالثامن: اثنا عشر وهو كذلك مروي عن ربيعة أ) (¬4)، ولعل حُجَّته ما روي "أنهم انفضوا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يبق معه إلا اثنا عشر رجلا" أخرجه البخاري (¬5)، فَدلَّ على انعقادها بهم، إذ لولا ذلك لبطلت الجمعة، وأُجيب عنه بأنه يجوز أن يكون مشترطا أكثر من ذلك في ابتداء الدخول ولا يجب استمراره، [وقد سبق قريبا] (ب)، وقد أخرج أيضًا الدارقطني بإِسناد ضعيف أن الباقين معه أربعون رجلا (¬6)، التاسع: مثله من غير الإمام وهو مروي عن إسحاق (¬7) ولعل حجته مثل ما قبله وهي فيه أظهر، العاشر: عشرون في رواية ابن حبيب عن مالك (¬8)، الحادي عشر ثلاثون كذلك (¬9). الثاني عشر: خمسون عند أحمد (¬10). ¬

_ (أ- أ) ساقط من جـ. (ب) بهامش الأصل.

الثالث عشر: ثمانون حكاه المازري، الرابع عشر: جمع كثير بغير قَيْد. الخامس عشر: أحد قوله الشافعي في الأربعين أنهم من غير الإمام. والذي نقل من حال النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يصليها في جَمْعٍ (أ) كثير غير موقوف على عددٍ، يَدُلُّ على أن المعتبر هو الجمع الذي يحصل به الشعار، ولا يكون إلا في كثرة يغيظ (ب) بها المنافق ويكبت بها الجاحد، ويسر بها المصدق، والآية الكريمة دالة (جـ) على أمر الجماعة (د) بعد حضور مناديها ومقيمها، ومن المعلوم أنه كان في ذلك الزمان المنادي غير مقيمها فلو وقف على أقل ما دلت عليه الآية الكريمة لم يبعد، والله أعلم. 355 - وعن سَمُرة بن جُنْدُب - رضي الله عنه -: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يَستَغْفِر للمؤمنين والمؤمنات كل جمعة" رواه البزار بإسنادٍ لين (¬1). في الحديث دلالة على شرعية الاستغفار للمؤمنين والمؤمنات في الخطبة، وقد قال الإمام يحيى وأبو طالب (¬2) بوجوب الدعاء لنفسه وللمؤمنين، ولعلهم يقولون مواظبته - صلى الله عليه وسلم - على ذلك كما يفهم من قوله: ¬

_ (أ) في هـ: جميع. (ب) في هـ يغتص. (جـ) في هـ: دلالة. (د) في هـ: الجماعة.

"كان يستغفر". . . يدل على ذلك، وقال غيرهم (¬1): يندب ذلك، ولا يجب إذ لا دليل (أ) على الوجوب، والأول أظهر. 356 - وعن جابر بن سمرة - رضي الله عنه -: "أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان في الخطبة يقرأ آيات من القرآن يذكر الناس" رواه أبو داود وأصله في مسلم (¬2). وعن طارق بن شهاب - رضي الله عنه - "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: الجمعةُ حقٌّ واجب على كل مسلم في جماعة إِلا أربعة: مملوك، وامرأة، وصبي، ومريض" رواه أبو داود (¬3) وقال: لم يسمع طارق من النبي - صلى الله عليه وسلم -. و (ب) أخرجه الحاكم من رواية طارق المذكور (جـ) عن أبي موسى. طارق بن شهاب (¬4): هو أبو عبد الله طارق بن شهاب بن عبد شمس ¬

_ (أ) في جـ: دلالة. (ب) الواو ساقطة من هـ وجـ. (جـ) زاد في جـ: و.

الأحْمَسِي البَجَلِيّ الكوفي، أدرك الجاهلية، ورأى النبي - صلى الله عليه وسلم - وليس له منه سماع (¬1) إلا شاذًّا، وغزا في خلافة أبي بكر ثلاثًا وثلاثين أو أربعا وثلاثين بين (أغزوة وسرية، ومات سنة اثنتين وثمانين. روى عنه قيس بن مسلم وعلقمة بن مرثد وإسماعيل بن أبي خالد. والحديث صححه غير واحد (¬2). وفي الباب عن تميم الداري (¬3) ومولى آل الزبير (¬4) رواها البيهقي، وخرج حديث تميم العقيلي والحاكم أيضًا بإسناد ضعيف، وأخرج الطبراني من (ب) حديث أبي هريرة مرفوعًا: "خمسة لا جُمعة عليهم: المرأة والمسافر والعبد والصبي وأهل البادية". وأخرج حديث أبي هريرة في "مجمع الزوائد" (¬5)، وقال فيه إبراهيم بن حماد (¬6) ضعفه الدارقطني، وذكر ¬

_ (أ) ساقطة من جـ. (ب) ساقطة من: جـ.

في "النهاية" (¬1) أن البادية تختص بأهل العمد والخيام دون أهل القرى والمدن، وفي "شرح العمدة": أنَّ حُكْم أهل القرى حكم أهل البادية. ذكره في حديث: "لا يَبِعْ حَاضِرٌ لبَاد" (¬2)، وأخرج الدارقطني والبيهقي من حديث جابر: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فعليه الجمعة إلا امرأة أو مسافرًا أو عبدًا أو مريضًا" (¬3) إسناده ابن لهيعة (¬4) عن معاذ بن محمد الأنصاري (¬5) وهما ضعيفان، وأخرج ابن خزيمة من حديث أم عطية: "نهينا عن اتباع الجنائز ولا جمعة علينا" (¬6). في الحديث دلالة على أن الجمعة فرض عين على كل مسلم، وأنها لا تجب على الأربعة المذكورين في الحديث، أما الصبي فَمُتَّفَقٌ عليه. وأما المملوك (¬7) فكذلك إلا عن داود فقال بوجوبها عليه لعموم التكليف، قلنا: خصه الدليل من السنة كما عرفت، والأحاديث وإن كان في كل منها مقال فهي يقوي بعضها بعضًا وإلا عن الحسن البصري (¬8) فقال: يجب ¬

_ (¬1) النهاية 1/ 109. (¬2) البخاري 4/ 370 ح 2158. (¬3) الدارقطني 2/ 3، الكامل 6/ 2425. (¬4) مر في ح 28. (¬5) معاذ بن محمد الأنصاري، غير معروف، قال العقيلي: في حديثه وهم. الكامل 6/ 2425، اللسان 6/ 55. (¬6) 3/ 112 ح 1722. أحمد 6/ 408 - 409. أبو داود 1/ 676 ح 1139 إسماعيل بن عبد الرحمن بن عطية الأنصاري، مقبول. التقريب 34 وذكر الألباني في تخريج الإرواء أنه ليس له راو غير إسحاق بن عثمان، فهو مجهول 3/ 112، ولم أجد له راو غير إسحاق. تهذيب الكمال 1/ 104، التهذيب 1/ 313. (¬7) المحلى 5/ 49. (¬8) المجموع 4/ 313، البحر 2/ 5.

على المكاتب وعلى ذي الضريبة لشبههما (أ) بالحر، وأجيب عنه بعموم المملوك وهو محتمل للتخصيص (ب) بالقياس المذكور. وأما المرأة فكذلك مُجْمَعٌ على عدم وجوبها عليها (¬1)، وإنما قال الشافعي: إنه مستحب للعجائز حضورها بإذن الزوج لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تمنعوا إماء الله مساجد الله" (¬2) وإن روي عنه في "البحر" (¬3) القول بالوجوب عليهن فهو خلاف ما هو مصرح به في كتب أصحابه. وأما المريض فكذلك لا يجب عليه حضور الجمعة إذا كان يزداد الضرر عليه بالمسير إليها (¬4)، وبالوقوف قدرها، وقال الإمام يحيى وأبو حنيفة (¬5): وفي حُكْمه الأعمى ولو وجد قائدا للحَرَج (جـ)، وقال الشافعي وأبو يوسف (¬6) ومحمد: إن وجد قائدا وجبت (د) لعموم التكليف وعدم العذر، وفي حكمه المُقْعَد إذا وجد منْ يحمله. وقال بعض أصحاب الشافعي (¬7): وإن لم يجد القائد إنْ (هـ) أمكنه بالعصا، وهو قوي. وفي حديث أبي هريرة زيادة المسافر، والمسافر يحتمل أنَّ يُرَاد به مَنْ هو ¬

_ (أ) في جـ: تشبيها لهما. (ب) في جـ: التخصيص. (جـ) في هـ: للخروج. (د) في هـ، وجـ: وجب.

مباشر للسفر في حاله، فيجب على مَنْ نزل بمقدار الصلاة على هذا، وقد ذهب إلى هذا الهادي والقاسم وأبو العباس، وهو مذهب الزهري والنخعي (¬1). ويحتمل أن يراد بالمسافر ما له حكم المسافر فيدخل فيه من كان نازلا وقت إقامتها، فلا تجب عليه الجمعة، وقد ذهب إلى هذا زيد بن علي والناصر والباقر والإمام يحيى (¬2) والفقهاء. قال الإمام المهدي في "البحر" في الاحتجاج للأول والرد على الثاني. قلتُ: شدد (أ) الجمعة في ترك الاشتغال لقوله: {وَذَرُوا الْبَيْعَ} (¬3) فشددنا على الواقف أخْذًا من ذلك دون السائر للحرج. انتهى. والأولى في الاحتجاج أن الحديث خصص المسافر من عموم {فَاسْعَوْا}، ولكن المسافر يرادُ به منْ كان مباشرًا للسفر تخصيصًا له بالعلة المناسبة وهو الحرج. ولا حرج في الأغلب إلا في حق المباشر دون النازل، إذ هو والمقيم سواء في عدم اشتغال السفر. والله أعلم. 357 - وعن ابن عمر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ليس على مسافرٍ جمعة" رواه الطبراني بإسنادٍ ضعيف (¬4). ¬

_ (أ) في جـ: شدو.

تقدم الكلام فيه. 358 - وعن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إِذا استوى على المنبر استقبلناه بوجوهنا". رواه الترمذي (¬1) بإسنادٍ ضعيف. وله شاهد من حديث البَرَاء عند ابن خزيمة. قال الترمذي: لا يصحّ في هذا الباب شيء [وضعفه بمحمد بن الفضل بن (أ) عطية (¬2)، وقد تفرد به، وضعفه الدارقطني وابن عدي وغيرهما (¬3). ورواه ابن ماجه (¬4) من (ب) حديث عدي بن (جـ) ثابت عن أبيه، وقال: أرجو أن يكون متصلًا، كذا قال، ووالد عدي لا صحبة له إلا أن يُرَادَ جده، أبو أبيه فله صُحْبَةٌ على رأي بعض الحفاظ من المتأخرين] (د). ¬

_ (أ) في جـ: عن. (ب) في جـ: في. (جـ) في جـ: عن. (د) بهامش الأصل.

وفي الحديث دلالة على أنَّ استقبال الناس للخطيب مواجهين له عادة مستمرة لا يعرف خلافها، وهو في حكم المجمع عليه، إلا ما روي عن سعيد بن المسيب والحسن شيئًا محتملًا، وقد جزم أبو الطيب الطبري من الشافعية بوجوبه، وعند الهادوية احتمالان فيما إذا تقدم بعض المستمعين على الإمام ولم يواجهوه، يصح أو لا يصح؟ والإمام شرف الدين، نص على أنه يجب على العدد الذي تنعقد بهم الجمعة المواجهة دون غيرهم. قالوا: لإجماع السلف والخلف على ذلك. والله أعلم. 359 - وعن الحَكَم بن حزن - رضي الله عنه -: "شهدنا الجمعة مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فقام متوكِّئًا على عصا أو قوس". رواه أبو داود (¬1). هو الحكم بن حزن الكُلْفي (¬2) -بضم الكاف وسكون اللام وبالفاء- من كُلْفة هوازن (¬3) وقيل: إنه من كلفة تميم (¬4). قال الحازمي: أظنه وهمًا، وحديثه عند أهل الحجاز، وقال ابن عبد البر (¬5): ليس له إلا حديث واحد. روى عنه سعيد بن رزيق -بضم الراء وفتح الزاي، وبالقاف-. الحديث أخرجه أيضًا أحمد، وأول الحديث: "وفدتُ إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سابع سبعة أو تاسع تسعة فدخلنا عليه، فقلنا: يا رسول الله، زرناك، فادع الله لنا بخير، فأمر لنا بشيء من التمر. ." الحديث، وفيه "شهدنا ¬

_ (¬1) أبو داود بلفظ: "شهدنا فيها. . مع رسول الله" الصلاة، باب الرجل يخطب على قوس 1/ 658، 659 ح 1096، أحمد 6/ 212، البيهقي، الجمعة، باب الإمام يعتمد على عصا أو قوس أو ما أشبهها إذا خطب 3/ 206. (¬2) الاستيعاب 3/ 52، الإصابة 2/ 267. (¬3) تجريد أسماء الصحابة 1/ 134. (¬4) التاريخ الكبير 2/ 331. (¬5) الاستيعاب 3/ 52.

الجمعة معه فقام متوكئًا على عصا أو قوس، فحمد الله وأثنى عليه كلمات خفيفات" وإسناده حسن، فيه شهاب بن خراش (¬1). وقد اختلف فيه، والأكثر وثقوه (أ)، وقد صححه ابن السكن وابن خزيمة، وله شاهد من حديث البراء بن عازب رواه أبو داود بلفظ: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أعطي يوم العيد قوسًا فخطب عليه" (¬2) وطوله أحمد والطبراني وصححه ابن السكن. وفي الباب عن ابن عباس (¬3) والزبير رواهما أبو الشيخ ابن حبان (ب) في كتاب "أخلاق النبي - صلى الله عليه وسلم - " له حديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يعتمد على عَنَزتَه (جـ) اعتمادًا. رواه الشافعي (¬4) عن إبراهيم عن (د) ليث بن أبي سليم عن عطاء مرسلًا، وليث ضعيف (¬5). العنزة: مثل نصف الرمح أو أكبر، وفيها سنان مثل سنان الرمح. ¬

_ (أ) في هـ: وقفوه. (ب) في هـ: حثان. (جـ) في جـ: عنزه. (د) في جـ: بن.

في الحديث دلالة على أنه يندب للخطيب الاعتماد على سيف أو نحوه وقت الخطبة وكأن العلة في ذلك أن فيه ربطًا لجأشه، وليشغل يديه عن العَبَث، فإن لم يكن له ما يعتمد عليه أرسل يديه أو وضع اليمين على الشمال أو على جانبي المنبر (¬1) ويكره دق المنبر بالسيف عند الصعود إذ لم يؤثر فهو بدعة (¬2). اشتمل (أ) الباب على اثنين وعشرين حديثًا. ¬

_ (أ) زاد في جـ: هذا.

باب صلاة الخوف

باب صلاة الخوف 360 - عن صالح بن خَوّات عمن صلى مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم ذات الرقاع صلاة الخوف: "أن طائفة صَلَّتْ معَة، وطائفة وجاه العَدُوِّ، فصَلى بالذين معه ركعة، ثم ثبت قائمًا، وأتموا لأنفسهم، ثم انصرفوا، وصفوا وجاه العدو وجاءت الطائفة الأخرى فصلى بهم الركعة التي بقيت، ثم ثبت جالسا وأتموا لأنفسهم ثم سلَّم بهم". متفق عليه (¬1) وهذا لفظ مسلم، ووقع في "المعرفة" لابن منده عن صالح بن خوات عن أبيه. هو صالح بن خوَّات -بفتح الخاء المعجمة وتشديد الواو بالتاء فوقها نقطتان- بن جُبَيْر -بضم الجيم وفتح الباء الموحدة- بن النعمان الأنصاري المدني، تابعي مشهور، عزيز الحديث، سمع أباه وسهل بن أبي حثمة (أ)، روى عنه يزيد بن رومان والقاسم بن محمد، حديثه عند أهل المدينة (¬2). جمهور الأئمة على بقاء شرعية صلاة الخوف كما صلاها النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬3) و (ب نقل عن أبي يوسف (¬4) والمزني أنَّ صلاتهما مخصوصة (جـ) بالنبي - صلى الله عليه وسلم - ب). ¬

_ (أ) في النسخ: خيثمة والصواب المثبت. انظر البخاري 7/ 422 ح 4131. (ب- ب) بهامش هـ. (جـ) في هـ: مخصوص.

ومن صلى معه أخذ بظاهر قوله تعالى: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ} الآية (¬1) (أ)، فالشرط كونه معهم، فإذا انتفى الشرط انتفى المشروط. والجواب عنهم عموم التأسي بصلاته - صلى الله عليه وسلم - وإذ قد فعلها بعده جماعة من الصحابة رضي الله عنهم، كعليّ - رضي الله عنه - ليلة الهرير (¬2)، وحذيفة بطبرستان (¬3)، وأبي موسى الأشعري (¬4). وقوله: "عمن صلى" هو سهل بن أبي حثمة (ب)، وقد صرح به البخاري (¬5). وذات الرقاع (¬6): هي غزوة غزاها النبي - صلى الله عليه وسلم - بنفسه في شهر جمادي الأولى من السنة الرابعة -وقيل: في المحرم- وهي غزوة نجد، وخرج يريد محارب و (جـ) بني ثعلبة بن سعد بن غطفان، واستعمل على المدينة أبا ذر وقيل عثمان -وخرج في أربعمائة من أصحابه- وقيل: سبعمائة - ¬

_ (أ) في هـ: فأقمت لهم الصلاة. (ب) في النسخ: خيثمة. (جـ) الواو ساقطة من جـ.

فلقي جمعًا من غطفان (أ) فتوافقوا، ولم يكن بينهم قتال إلا أنه صلى بهم صلاة الخوف. وسُميت ذات الرقاع لأنها نقبت أقدامهم حتى قال أبو موسى (¬1): إنها سقطت أظفاره فلفوا على أرجلهم الخرق فسميت غزوة (ب) ذات الرقاع لا عصبوه على أرجلهم من الخرق، وقيل: إن في ذلك المحل جبلا مختلف ألوان أحجاره كالرقاع المختلفة. وكانت قبل الخندق على ما ذكره ابن إسحاق (¬2) وغيره من أهل السير، وقد استشكل ذلك بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يصلها بالخندق، فلو كانت قد شرعت لصلاها، وأيضًا (¬3) فإن في السنن ومسند أحمد والشافعي أنهم حبسوه عن صلاة الظهر والعصر والمغرب والعشاء، فصلاهنَّ جميعًا، وذلك قبل نزول صلاة الخوف. والخندق سنة خمس. ¬

_ (أ) في هـ: غطفاني. (ب) ساقطة من جـ.

قال في "الهَدْي النبوي" (¬1): والأظهر أن أول صلاة صلاها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، بعسفان، وهو بعد خيبر فتكون ذات الرقاع بعد ذلك، وفي قصة الصلاة بعسفان ما يدل على ذلك، وقد يُحتج بعدم (أ) صلاته لها في الخندق على فرض تقدم شرعيتها بذات الرقاع من يقول إنها لا تصلي في الحضر، وظاهر ما حكي في هذه الرواية: أن صفتها أن يصلي الإمام في الصلاة الثانية بطائفة ركعة كاملة، ثم يتمون لأنفسهم، وتأتي الطائفة الباقية فيصلون مع الإمام ركعة ثم يتمون لأنفسهم والإمام منتظر، ثم يُسلم بهم، وقد ذهب إلى هذا جماعة من الصحابة: على وابن عباس وابن مسعود وابن عمر (¬2) وزيد وأبو موسي وسهل بن أبي حثمة والهادي والقاسم والمؤيد وأبو العباس والشافعي (¬3) إلا أنه اشترط أن يكون العدو في غير جهة القبلة وإن كانت الصلاة ثلاثية انتظر الإمام في المغرب متشهدًا، ويتم بالطائفة الأخرى الركعة الثالثة، وكذلك في الرباعية على قول الأكثر في أنها تصلي في الحَضَر ينتظر متشهدًا التشهد الأوسط، وفي مذهب مالك قول: إنه ينتظر قائما في الثالثة، وظاهر مذهب مالك في هذه الأطراف أن الإمام يسلم وتتم الطائفة بعد تسليم الإمام، وظاهر القرآن مطابق لما دل عليه الحديث الشريف، فإن قوله: {فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ} أي بقية الصلاة التي بقيت من صلاتك، وظاهره (ب) المصاحبة له في جميع صلاته، ومن جملة الصلاة السلام فإذا سلم قبلهم لم يصلوا معه بقية صلاته إلا أن ¬

_ (أ) في هـ: لعدم. (ب) في هـ: فظاهره.

يقول قائل: إن السلام ليس من أجزاء الصلاة، وهو قول ضعيف، وهذه الكيفية هي أقرب إلى (أ) موافقة المعتاد من الصلاة في تقليل الأفعال المنافية للصلاة والمتابعة للإمام. 361 - وعن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: "غَزَوتُ مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قِبَل نجدْ فوازَينا العدوَّ فَصَافَفْنَاهم، فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فصلى بهم فقامت طائفة معه، وأقبلت طائفة على العدو، وركع بمن ركع معه، وسجد سجدتين ثم انصرفوا فكان الطائفة التي لم تصَلِّ فجاءوا فركع بهم ركعة، وسجد سجدتين". متفق عليه، وهذا لفظ البخاري (¬1). قوله: "قِبَل نجد": هو بكسر القاف وفتح الباء الموحدة أي جهة نجد، ونجد كل ما ارتفع من بلاد العرب (¬2). وقوله: "فَوازينا العدو": وهو بالزاي وبعدها ياء مثناة من تحت أي قابلنا، وقد أنكر الجوهري أن يقال: وازيت، وإنما هو (ب) آزيت بهمزة بعدها ألف ولكنه يحتمل أن يكون وازيت منه ولكنها قلبت الهمزة واوًا. ¬

_ (أ) في هـ: في. (ب) في جـ: يقال.

وقوله: "فصلى بنا": لفظ البخاري "فصلى لنا" (¬1)، قال المصنف في شرحه (¬2): أي لأجلنا. وقوله: "فقامت طائفة": الطائفة: تُطْلَق على القليل والكثير حتى على الواحد حتى لو كانوا ثلاثة، جاز للإمام أن يصلي بواحد، والثالث يحرس ثم يصلي مع الإمام وهذا أقل ما تحصل به جماعة الخوف. وقوله: "مكان الطائفة التي لم تُصَلِّ": "مكان" منصوب على الظرفية بتقدير فعل، أي قاموا في مكان. وفي رواية مالك (¬3): ثم استأخروا مكان الذين لم يصلوا. وقوله: "وركع بهم ركعة وسجد سجدتين": تمام الحديث في البخاري: "ثم سلم فقام كل واحد منهم فركع لنفسه ركعة وسجد سجدتين". وهذا لم تختلف فيه الرواية عن ابن عمر، وظاهره أنهم أتموا في حالة واحدة، ويحتمل أنهم أتموا على التعاقب وهو الراجح من حيث المعنى وإلا استلزم أن تضيع الحراسة ولقاء الإمام وحده. وقد ورد هذا مصرحًا به في حديث ابن مسعود أخرجه أبو داود (¬4) بقوله: "ثم سلَّم وقام هؤلاء -أي الطائفة الثانية- فصلوا (أ) لأنفسهم ركعة، ثم سلموا، ثم ذهبوا ورجع أولئك إلى ¬

_ (أ) في جـ: يصلون.

مقامهم فصلوا (أ) لأنفسهم ركعة ثم سلموا"، وظاهره أن الطائفة الثانية وَالَتْ بين ركعتيها ثم أتمت الطائفة الأولى بعدها، ووقع في الرافعي (¬1) تبعًا لغيره من كتب الفقه، أن في حديث ابن عمر هذا أن الطائفة الثانية تأخرت وجاءت الطائفة الأولى فأتموا ركعة ثم تأخروا وعادت الطائفة الثانية فأتموا، ولم يكن في جميع طرق الحديث ما يدل على هذا (¬2)، وقد ذهب إلى هذه الكيفية المذكورة في هذا الحديث أبو حنيفة ومحمد ورواية عن أبي يوسف (¬3). 362 - وعن جابر - رضي الله عنه - قال: "شهدتُ مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاة الخوف، فصفَّنا صفين، صفٌّ خلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والعدو بيننا وبين القبلة، فكبّر النبي - صلى الله عليه وسلم - وكبَّرْنا جميعًا، ثم رَكَعَ ورَكَعْنَا جميعًا، ثم رفع رأسَه من الركوع ورفعْنَا جميعًا، ثم انْحَدَرَ بالسُّجود والصفُّ الذي يليه، وقام الصفُّ المؤخَّرُ في نَحْر العَدو، فَلَمَّا قَضى السُّجودَ وقَامَ الصفُّ الذي يليه. . .". فذكر الحديث (¬4). وفي رواية: "ثم سجد وسَجَدَ مَعَهُ الصفُّ الأوَّلُ، فلما قاموا سجد الصف الثاني ثم تأخر الصف الأول وتقدم الصف الثاني. .". فذكر ¬

_ (أ) في جـ: يصلوا.

مثله (¬1) وفي آخره: "ثم سلَّم النبي - صلى الله عليه وسلم - وسلمنا جميعًا". رواه مسلم (¬2). ولأبي داود (¬3) عن أبي عياش الزرقي مثله، وزاد: "إنها كانت بعسفان"، وللنسائي من وجهٍ آخر عن جابر (¬4) "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى بطائفة من أصحابه ركعتين ثم سلم، ثم صلى بآخرين ركعتين ثم سلَّم". ومثله لأبي داود عن أبي بكرة (¬5). ¬

_ (¬1) مسلم 1/ 575 ح 308 - 840 م. (¬2) في آخره الرواية الأولى 307 - 840. (¬3) أبو داود، الصلاة، باب صلاة الخوف 2/ 28 ح 1236، النسائي، صلاة الخوف 3/ 144 - 145، أحمد 4/ 59 - 60، الطيالسي 1/ 191 ح 1347، الحاكم في صلاة الخوف 1/ 337، البيهقي 3/ 254، 257. قلت: أعل هذا الحديث بعدم سماع مجاهد من أبي عياش الزرقي قال البخاري: كل الروايات عندي صحيح وكل يستعمل وإنما هو على قدر الخوف إلا حديث مجاهد عن أبي عياش الزرقي فإني أراه مرسلًا. العلل الكبير 1/ 226، وقال الترمذي: لا يعرف سماع مجاهد من أبي عياش الزرقي، جامع التحصيل 337، وقد قال أبو حاتم ابن حبان في صحيحه بعد أن أورد الخبر: ذكر الخبر المدحض قول من زعم أن مجاهدًا لم يسمع هذا الخبر من أبي عياش ولا لأبي عياش الزرقي صحبة مما زعم ثم أخرج من حديث مجاهد ثنا أبو عياش الزرقي. البدر المنير 3/ 88، وصححه أبو حاتم. العلل 1/ 100، والبيهقي فذكر سماع مجاهد من أبي عياش 3/ 257 والله أعلم. (¬4) النسائي 3/ 145، الدارقطني 2/ 60، البيهقي 3/ 259، الشافعي 57، الحديث فيه: قتادة بن دعامة السدوسي البصري ثقة ثبت، مر في ح 112 الحسن بن أبي الحسن بن يسار البصري مولاهم ثقة فقيه فاضل مشهور كان يدلس يرسل كثيرًا وقد احتمل الأئمة تدليسه، مر في ح 96 فعنعنه الحسن وقتادة وكلاهما مدلس وإن كان روى من طريق عنبسة بن سعيد القطان عند الدارقطني فهو ضعيف. التقريب 266، فله علة أخرى متفرعة عن عنعنة الحسن فإنه لم يسمع جابرًا - رضي الله عنه - قاله أبو حاتم، التهذيب 2/ 267 وله شاهد من حديث أبي بكرة. (¬5) أبو داود 2/ 40 ح 1248، أحمد 5/ 149، النسائي 3/ 145. ابن خزيمة 2/ 307 ح 1368، البيهقي 3/ 259، قلت: وهذا الحديث عنعنه الحسن عن أبي بكرة وقد احتمل الأئمة تدليسه وصححه النووي في المجموع 4/ 261.

قوله: "فذكر الحديث": تمامه "انحدر الصف المؤخر بالسجود وقاموا ثم تقدم الصف المؤخر وتأخر الصف المقدم، ثم ركع النبي - صلى الله عليه وسلم - وركعنا معه جميعًا ثم رفع رأسه من الركوع ورفعنا جميعًا ثم انحدر بالسجود والصف الذي يليه الذي كان مؤخرًا في الركعة الأولى، وقام الصف المؤخر في نحر العدو. فلما قضى النبي - صلى الله عليه وسلم - السجود والصف الذي يليه انحدر المؤخر بالسجود فسجدوا ثم سلم النبي - صلى الله عليه وسلم - وسلمنا جميعًا". قال جابر: كما يصنع حرسكم هؤلاء بأمرائكم. ذكره مسلم بتمامه، وذكر البخاري طرفًا منه (¬1). والحديث فيه دلالة على أن العدو إذا كان في جهة القبلة فهو يخالف ما إذا لم يكن كذلك وهو أنه يمكن الحراسة مع دخولهم جميعًا في الصلاة، وذلك أن الحاجة إلى الحراسة إنما تكون في حال السجود فقط فيتابعون الإمام في القيام والركوع ويحرس الصف المؤخر في حال السجدتين بأن يتركوا المتابعة للإمام، ثم يسجدون (أ) عند قيام الصف الأول، ويتقدم الصف (ب) المؤخر إلى مَحلّ الصف المقدّم ويتأخر المقدم ليتابع المؤخر الإمام في السجدتيْن الأخيرتين (جـ) فيصح مع كل من الصفين المتابعة (د) في سجدتين. وقد ذهب إلى هذه الكيفية الشافعي رحمه الله تعالى، إلا أنه نص الشافعي (¬2) إلى أنه يسجد في الركعة الأولى مع الإمام الصف المؤخر وهو ¬

_ (أ) ساقطة من هـ. (ب) ساقطة من جـ. (جـ) في هـ: الآخرتين. (د) كرر في هـ قوله: ليتابع المؤخر الإمام في السجدتين الآخرتين فتصح.

خلاف نص الحديث، فقال بعض أصحابه: لعله سها أو لم يبلغه الحديث، وجماعة من العراقيين بنوا على الصحيح على أن المشهور عن الشافعي أن الحدىث إذا صح يذهب إليه ويترك قوله (¬1)، والغزالى بنى على نص الشافعي، وادعى بعضهم أن في الحديث رواية توافق نص الشافعي، ورجح بعضهم بمناسبة عقلية وهو أن الصف الأول يكون جُنَّة لمن خلفه، وهو أقرب إلى الحراسة، وظاهر الحديث يدل على اشتراك الطائفتين في الحراسة، فلو انفردت بها إحداهما فعند أصحاب الشافعي خلاف في صحة صلاتهم. ويدل الحديث أن الحراسة إنما هي في حال السجود فقط دون حال الركوع، لأن الركوع لا يمتنع معه إدراك أحوال العدو، وعند بعض أصحاب الشافعي أنه يحرس في الركوع أيضًا، وهذه الكيفية لا توافق ظاهر الآية وصلاة جابر مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في غزوة ذات الرقاع كما أشار إليه البخاري (¬2)، وفي رواية أبي عياش (¬3) أن هذه الصلاة كانت بعسفان، ويمكن الجمع بينهما بأنها وقعت كذلك في الموضعين جميعًا ولا يخالف الرواية الأولى عن صالح بن خوات لاختلاف الأحوال فيمكن وقوع الصفتين. وصلاة ابن عمر كذلك في غزوة ذات الرقاع في صلاة العصر أيضًا، نبه عليه البخاري (¬4). ¬

_ (أ) الواو ساقطة من هـ.

و (أ) في رواية النسائي (¬1) عن جابر أنه صلى بكل طائفة ركعتين، وأخرجها أبو داود (¬2) عن جابر أيضًا كانت هذه الصلاة ببَطن نَخْل. وقد ذهب إلى العمل بهذا الحسن البصري، وادعى الطحاوي (¬3) أن هذا منسوخ بناء منه على أنه لا (ب) يصح أن يصلي المفترض خلف المتنفل، ولا دليل على النسخ (جـ). قال أبو داود (¬4): وكذلك في صلاة المغرب يصلي الإمام ست ركعات والقوم ثلاث ثلاث، وقال بهذه الكيفية الشافعي رحمه الله. 363 - وعن حذيفة - رضي الله عنه "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى في الخوف بهؤلاء رَكعَةً وهؤلاء رَكعَةً ولم يقضوا". رواه أحمد وأبو داود والنسائي وصححه ابن حبان (¬5). ¬

_ (أ) ساقطة من جـ. (ب) زاد في جـ: و. (جـ) زاد في جـ: أبي.

ومثله: عن ابن خزيمة (¬1) عن ابن عباس هذه الصلاة صلاها حذيفة بطبرستان، وكان الأمير سعيد بن (أ) العاص قال: أيكم صلى مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاة الخوف؟ فقال (ب) حذيفة: أنا، فصلى بهم هذه الصلاة. وأخرج أبو داود (¬2) هذه عن ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وعن أبي هريرة وعن أبي موسى وعن جابر كلهم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا أن في بعض الروايات عن بعض الرواة أنه قال: "وقضوا ركعة أخرى". وأخرجه أبو داود (¬3) عن ابن عمر وعن زيد بن ثابت، قال زيد: فكانت للقوم ركعة ركعة وللنبي - صلى الله عليه وسلم - ركعتين (¬4). وأخرج عن ابن عباس - رضي الله عنه - قال: "فرض الله الصلاة على لسان نبيكم - عليه السلام - في الحَضَر أربعا وفي السفر ركعتين وفي الخوف ركعة" (¬5)، وهذا قال به عطاء وطاوس والحسن ومجاهد والحكم وقتادة في أنه يصلي هذه الصلاة في شدة الخوف ركعة واحدة يومئ إيماء، وكان ¬

_ (أ) في جـ: قال. (ب) في هـ: عنه.

إسحاق بن راهويه يقول: عند (أ) المسايفة (¬1) تجزئك ركعة واحدة تومئ لها إيماء، فإن لم تقدر فسجدة فإن لم تقدر فتكبيرة لأنها ذكر الله تعالى. وقد تأول هذا سائر العلماء القائلين بأن صلاة الخوف لا ينقص عددها ولكن يصلي على حسب المكان، بأن (ب) المراد [أنها تكون] (جـ) ركعة مع الإمام ولكنه لا يتم هذا التأويل إلا في بعض ألفاظ الحديث دون بعض. 364 - وعن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "صلاةُ الخوف ركعة على أي وجه كان" رواه البزار بإسناد ضعيف (¬2). وعبه مرفوعًا: "ليسَ في صلاة الخوفِ سهو" أخرجه الدارقطني بإسناد ضعيف (¬3). هذه الصلاة روي أنه صلاها - صلى الله عليه وسلم - بذي قَرد أخرجه النسائي (¬4) وقال ¬

_ (أ) في هـ: عنه. (ب) في جـ: فإن. (جـ) بهامش الأصل.

الشافعي (¬1): روى حديث لا يثبت. قال المصنف رحمه الله: (¬2) وقد صححه ابن حبان (¬3) وغيره. وهذا الحديث فيه دلالة على أن المفروض في صلاة الخوف ركعة واحدة في حق الإمام والمؤتم [وقد قال به الثوري وإسحاق ومن تبعهما. وقال به أبو هريرة وأبو موسى وغير واحد من التابعين وقد تقدم مثل هذا (¬4)، وتأويل الجمهور له، ووجه التأويل ما روي من فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - كما تقدم] (أ) أنه صلى ركعتين ولا تتم الجماعة بهم إلا إذا كان على هذه الكيفية. واعلم أن المذكور في هذا الكتاب خمس كيفيات وفي "سنن أبي داود" ثمان كيفيات هذه الخمس وثلاث غيرها (¬5). قال المصنف -رحمه الله تعالى- في "فتح الباري" (¬6): وقد ورد في كيفية صلاة الخوف صفات كثيرة، ورجح ابن عبد البر الكيفية الواردة في حديث ابن عمر لقوة الإسناد وموافقة الأصول في أن المأموم لا تتم صلاته (ب) قبل الإمام، وعن أحمد ثبت في صلاة الخوف ستة أحاديث أو سبعة أيها فعل المرء فهو جائز، ومال إلى ترجيح ما ورد في حديث صالح ¬

_ (أ) بهامش الأصل، وكرر قوله: "ما ورد من فعل النبي - صلى الله عليه وسلم -". (ب) في جـ: صلاة.

ابن خوات، ومال إلى ترجيحه (أ) الشافعي (¬1)، وسَوَّى بينهما إسحاق بن راهويه، وله قال الطبري وغير واحد منهم ابن المنذر، وسرد ثمانية أوجه. وكذا ابن حبان في "صحيحه" وزاد تاسًعا و (ب) قال ابن حزم (¬2): صح فيها أربعة عشر وجهًا وبيَّنها في جزء مفرد، وقال ابن العربي (¬3): فيها روايات كثيرة (جـ) أصحها ستة عشر رواية مختلفة ولم يبينها، وقال النووي (نحوه) في "شرح مسلم" (¬4) ولم يبينها أيضًا، وقد بينها شيخنا الحافظ أبو الفضل في "شرح الترمذي" (¬5)، وزاد وجهًا آخر فصارت سبعة عشر وجهًا لكن يمكن أن تتداخل (د). قال صاحب الهدى (¬6): وبلغها بعضُهم أكثر، وهؤلاء كلما رأوا اختلاف الرواة في قصة جعلوها وجهًا منْ فعْل النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد صلاها عشر مرات، وقال ابن العربي: صلاها أربعًا وعشرين مرة (5)، وقال الخطابي (¬7): صلاها النبي - صلى الله عليه وسلم - في أيام مختلفة بأشكال متباينة يتحرى ما هو الأحوط ¬

_ (أ) في هـ: ترجيح. (ب) الواو ساقطة من جـ. (جـ) في الأصل: كثرة. (د) في جـ: تداخل. (هـ) ساقطة من جـ.

للصلاة والأبلغ للحراسة فهي على اختلاف صورها متفقة المعنى (¬1) انتهى كلامه. وقوله: "ليس في صلاة الخوف سهو": فيه دلالة على أنه لا يشرع سجود سهو في صلاة الخوف. والظاهر أنه لم يذهب إلى هذا أحد من العلماء، والله أعلم. واعلم أنه قد شرط في صلاة الخوف شروطًا منها: السفير فاشترطه جماعة (¬2) قالوا: لقوله تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ} الآية (¬3) ولأنه لم يصلها النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحضر والخلاف في ذلك لزيد بن علي (¬4) والناصر والإمام يحيى والحنفية والشافعية قالوا: لقوله تعالى: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ}. . الآية (¬5)، وظاهره الإطلاق، وهذا مبني على أن قوله تعالى: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ} معطوف على قوله: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ} فهو غير داخل في التقييد بالضرب في الأرض، وأهل القول الأول لعلهم يجعلونه مقيدًا بالشرط فيكون التقدير: "وإذا كنت فيهم مع هذه الحالة التي هي الضرب في الأرض". والقرينة على التقييد هي أنه في سياق الصلاة المقصورة المشروطة بالخوف من الذين كفروا، والمذكور بعد قوله: وإذا كنت فيهم بيان الاحتراز مع الخوف ولذلك قال جماعة من الصحابة: إن القصر في حال الأمن إنما أخذ من السنة لا من الآية، وأما عدم صلاته ¬

_ (¬1) الفتح 2/ 431. (¬2) حكى عن مالك أنها لا تجوز في الحضر وخالفه أصحابه. المغني 2/ 406، وهذه الشروط التي ذكرها نقلها من البحر. (¬3) الآية 101 من سورة النساء. (¬4) البحر 2/ 48 - 49. (¬5) الآية 102 من سورة النساء.

لها - صلى الله عليه وسلم - في حال الإقامة (أ) فلأن المخافة إنما وقعت في الخندق حتى فاتت الصلاة، وهي لم تكن قد شُرعت في ذلك اليوم كما تقدم. ومنها: آخر الوقت، فاشترط ذلك الهادي والقاسم وأبو العباس (¬1) قالوا: لأنها بدل عن صلاة الأمن فلا تجزئ إلا عند اليأس من المبدل وهي قاعدة لهم، وقال الناصر والمؤيد بالله والإمام يحيى والحنفية والشافعية: بل يصح في أول الوقت، قالوا لعموم أدلة الأوقات، وعلى الأول إذا حصل الأمن، وقد (ب) فعلت، وفي الوقت ما يسع الصلاة وجبت الإعادة، وعلى القول الثاني لا تجب الإعادة. ومنها: حمل السلاح حال الصلاة، فاشترطه (جـ) داود الظاهري (¬2) فلا تصح الصلاة إلا بحمله، ولا دلالة في الآية على كونه شرطًا، وأوجبه الناصر والشافعي والإمام يحيى للأمر به في الآية (¬3)، قالوا: وإنما يجب من السلاح ما يحصل به المقصود من الحراسة، وهو ما يمكن به المدافعة للعدو، بشرط أن يكون ظاهرًا يدفع به عن نفسه كالسيف والشفرة، ويستحب ما يدفع به عن الغير كالقوس (د) والنشاب، ويحرم النجس، ¬

_ (أ) في جـ: الأمن. (ب) بهامش هـ. (جـ) زاد في هـ: أبو. (د) في جـ: بالقوس.

ويكره ما يشغل لثقله كالدرع، وأما الرمح والسنان، فإذا لم (أ) يتأذ به غيره فلا كراهة، وإلا كره. وقالت الهادوية وأبو حنيفة (¬1) وأصحابه: أنه يندب. ومنها: أنه (ب) لا يكون القتال محرمًا سواء كان واجبًا عينا أو كفاية، والظاهر أنه مجمع عليه. ومنها: أن يكون مصليها مطلوبًا للعدو لا إذا كان طالبًا، لأنه يمكنه أن يصلي صلاة كاملة مع كونه طالبًا فلا حاجة للحراسة إلا أن يهجم عليه عدوه، صلاها لأنه قد صار مطلوبًا في تلك الحال، وكذا إذا كان طالبًا له لخشية أن (جـ) يكرَّ عليه في المستقبل. فائدة: صلى النبي - صلى الله عليه وسلم - صلاة الخوف في ثلاث غزوات، ببطن نخل وعسفان، وذات الرقاع (د)، وقد جمعها بعضهم بقوله: ببطن نحل وعسفان وقبلهما ... ذات الرقاع صلاة الخوف قد فعلت وأما كيفية الفعل فقد تقدم الخلاف فيها (هـ). آخر الجزء الثالث، ويتلوه إِن شاء الله الجزء الثالث وأوله: باب صلاة العيدين والحمد لله رب العالمين ¬

_ (أ) زاد في جـ: يكن. (ب) في جـ: أن. (جـ) في جـ: أنه. (د) زاد في هـ: وفي رواية النسائي بذي قرد فتكون رابعة. (هـ) زاد في جـ: اشتمل هذا الباب على خمسة أحاديث.

البدرُ التمام شرح بلوغ المرام للإمام القاضي الحسين بن محمد المغربي (1048 هـ- 1119 هـ) تحقيق علي بن عبد الله الزبن عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية قدم له فضيلة الشيخ صالح بن محمد اللحيدان رئيس مجلس القضاء الأعلى الجزء الرابع

البَدْرُ التّمام شرح بُلوغ المرام

حقوق الطبع محفوظة الطبعة الأولى 1424 - هـ = 2003 م

باب صلاة العيدين

باب صلاة العيدين [سمى العيد عيدًا (¬1) لعوده وتكرره وقيل: لعَوْد السُّرور فيه، وقيل: تفاؤلًا بعوده على مَنْ أدْركه كما سُميت القافلة حين خروجها تفاؤلًا بقفولها سالمة وهو رجوعها] (أ). 365 - عن عائشة رضي الله عنها، قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "الفطر يوم يُفطِر الناس، والأَضْحَى يوم يُضْحى الناس". رواه الترمذي (¬2). الحديث فيه دلالة على أنه يعتبر في ثبوت العيد موافقة (ب) الناس، وأَنَّ ¬

_ (أ) في هامش الأصل. (ب) في جـ: بموافقة.

المنفرد بمعرفة يوم العيد بالرؤية يجب عليه موافقة غيره ويلزمه حكمهم في الصلاة والإفطار والتضحية (أ)، وقد أخرج الترمذي (¬1) مثل هذا الحديث عن أبي هريرة، وقال: حسن (¬2)، ويوافقه في المعنى حديث ابن عباس (¬3) لما قال له كريب: إنه صام أهل الشام ومعاوية وهو رأى الهلال ليلة الجمعة بالشام، وقدم المدينة في آخر الشهر، وأخبر ابن عباس بذلك، مقال ابن عباس: لكنا رأيناه ليلة السبت فلا نزال نصوم حتى نكمل ثلاثين أو نراه. قال: فقلت: أو لا تكتفي برؤية معاوية؟ فقال (ب): لا، هكذا أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وقد ذهب إلى هذا محمد بن الحسن الشيباني، وقال. إنه يتعين عليه حكم الناس، وإن خالف ما تيقنه، وكذلك في الحج [وكذا قال الحسن: يصوم مع الناس ويفطر في أول الشهر إذا انفرد بالرؤية، وحكى في نهاية المجتهد مثل هذا عن عطاء (¬4)، (جـ) وقد ورد أيضًا: "وعرفتكم يوم تعرفون" (¬5)، والخلاف في هذا للجمهور وقالوا: إنه يتعين عليه حكم نفسه فيما تيقنه، ¬

_ (أ) في جـ: والضحية. (ب) في جـ: قال. (جـ) بهامش الأصل وهـ، وساقطة من: جـ.

ويحمل الحديث على عدم معرفته لما (أ) يخالف الناس فإنه إذا انكشف من بعد الخطأ فقد أجزأه ما فعل. قالوا: وتتأخر (الأيام) (ب) في حق من التبس عليه وعمل بالأصل، وهو بقاء الأيام في أعمال الحج والأضحية، وحديث ابن عباس يحتمل أن ذلك لاختلاف المطالع في الشام والحجاز، أو أنه لما كان المخبر له واحدًا، لم يكتف بشهادته، أو أن المراد بالحديث أن هذا لا يعتبر فيه حقيقة الأمر وأن اليوم الذي يفطر فيه الناس بالطريق المجوزة له شرعًا من الشهادة أو نحوها يثبت له ذلك الحكم، وإن انكشف الخطأ، وأما من تيقن فهو مخصوص من هذا الحكم إذا فعل بمقتضى علمه وخالفه الناس، فلا يتم الاحتجاج به. والله أعلم. 366 - وعن أبي عمير (جـ) - رضي الله عنه - عن عمومة له من الصحابة: "أن ركبًا جاءوا فشهدوا بأنهم (د) رأوا الهلال بالأمس، فأمرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يفطروا وإِذا أصحوا يغدوا إِلى مصلاهم". رواه أحمد وأبو داود (¬1) وهذا لفظه، وإسناده صحيح. ¬

_ (أ) في جـ: بما. (ب) في الأصل: الإمام. (جـ) زاد في هـ: بن أنس. (د) في جـ: أنهم.

هو أبو عمير بن أنس بن مالك الأنصارى، يقال: إن اسمه عبد الله، وهو معدود في صغار التابعين. روى عنه جعفر بن إياس اليشكري، وعمّر بعد أبيه أنس زمانًا طويلًا (¬1). والحديث أخرجه أيضًا (أ) النسائي وابن ماجه وصححه ابن المنذر وابن السكن وابن حزم (¬2) ورواه ابن حبان (¬3) في صحيحه عن أنس: أن عمومة له. وهو وهم. قاله (ب) أبو حاتم (¬4) في "العلل". وعلق الشافعي (¬5) القول به على صحة الحديث، فقال ابن عبد البر: أبو عمير مجهول. كذا قال. وقد عرفه من صحح له. وترجم الخطابي (¬6) في شرح السنن: باب (جـ) إذا لم يخرج الإمام للعيد يومه. ثم ذكر الحديث بإسناده. وفي الحديث دلالة على أن صلاة العيد تصلى في اليوم الثاني حيث انكشف العيد بعد خروج وقت الصلاة، وقد ذهب إلى هذا من السلف الأوزاعي (¬7) والثوري وأحمد وإسحاق. وظاهر الحديث الإطلاق بالنظر إلى ¬

_ (أ) ساقطة من جـ. (ب) في جـ، وهـ: قالوا. (جـ) في جـ: بيان، هـ: بباب.

وقت الصلاة، وأنه وإن كان وقتها باقيًا حيث لم يكن ذلك معلومًا من أول اليوم، وذهب إلى العمل به، ولكن بني على أنه لم يعلم إلا وقد خرج الوقت، وأن الصلاة تكون قضاء (¬1)، الهادي والقاسم والمؤيد وأبو طالب وأبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وقول للشافعي وأنها تقضى في اليوم الثاني فقط في الوقت الذي تؤدى فيه في يومها. قال أبو طالب: بشرط أن يترك للبس كما ورد في الحديث، وغير أبي طالب يعمم العذر سواء كان اللبس أو غيره كالمطر مثلًا، وهو مصرح به في كتب الحنفية قياسًا لسائر الأعذار على اللبس، وكأن أبا طالب يقول: قضاؤها وارد على خلاف القياس، لأن مثل هذه الصلاة التي شرعت في يوم معين (ألسبب معين أ) حقها أن لا تقضى كصلاة الجمعة والكسوف والاستسقاء وغيرها، إلا أنه ورد هذا الدليل في هذه الصلاة، فلا يقاس عليها غيرها، وهو يذهب إلى أن المعدول (ب) عن سنن القياس لا يقاس عليه وإن ظهرت العلة، والجمهور ¬

_ (أ - أ) ساقطة من: جـ. (ب) في هـ: العدول.

يذهبون إلى صحة القياس، ولذلك صح لهم إطلاق العذر هنا، ولكن الحديث لا (أ) يدل على كونها قضاء، بل الظاهر أنها أداء، ويتأيد (¬1) الظاهر بحديث الباب المتقدم، وذهب مالك وقول للشافعي إلى أنها لا تقضى في يومها، وكالكسوف، وللشافعي قول: أنها تقضى إلى الشهر، وقول آخر أنها تقضى إلى الأبد. وفي "عجالة المنهاج" للشافعية تفصيل، وهو أنه إذا شهدوا يوم الثلاثين قبل الزوال برؤية الهلال الليلة الماضية أفطرنا وصلينا العيد لبقاء الوقت، وقيد الرافعي (¬2) ذلك بما إذا بقي من الوقت ما يمكن جمع الناس فيه، وإقامة الصلاة، وإن شهدوا بعد الغروب لم تقبل الشهادة، أي في صلاة العيد خاصة، أو بين الزوال والغروب أفطرنا وفاتت الصلاة لخروج وقتها بالزوال، وشرع (ب) قضاؤها لمن شاء في الأظهر أي في باقي اليوم، وضحوة العيد (جـ) وبعده متى اتفق، كالفرائض إذا فاتت لا يتيقن وقت قضائها، والثاني: لا يجوز تأخيرها عن الحادي والثلاثين؛ لجواز كونه عيدًا بأن يخرج الشهر كاملًا بخلاف ما بعده من الأيام. وقيل في قول (د): تصلى من الغد أداء؛ لأن الغلط في الهلال كثير فلا يفوت به هذا الشعار العظيم، يؤيده صحة الوقوف في العاشر غلطًا، ثم قال: واعلم أن القضاء واجب إذا قلنا: إنها فرض كفاية ولم تفعل في ¬

_ (أ) زاد في هـ: يكون. (ب) في جـ: وشرع. (جـ) في هـ: الغد. (د) في جـ: قوله.

ذلك الوضع كما نبه عليه ابن عجيل وصاحب المعين (أ). انتهى. وهذا يخالف ما نقله الإمام يحيى عن الشافعي أنه إذا انكشف ليلة الحادي والثاني قضيت فيه قولًا واحدًا للشافعي لقوله: "فطركم يوم تفطرون" بخلاف ما لو انكشف بعد الزوال يوم الثلاثين ففيه الأقوال التي مرت له. وعيد الأضحى كالفطر في ذلك وحكى في شرح (القدوري) (ب) عن الكرخي للحنفية: أنهم إذا تركوها لغير عذر صلوها في اليوم (جـ) الثاني وأساءوا فإن لم يصلوها في اليوم الثاني حتى زالت الشمس صلوها في اليوم الثالث، فإن لم يصلوها فيه حتى زالت الشمس سقطت سواء كان لعذر أو لغير عذر إلا أنه مسئ في التأخير لغير عذر، وإن كان لعذر لم يلحقهم الإساءة، وعن الشافعي يصلي في الغد أو بعد الغد، وعن الناصر يستحب فعلها وأطلق. واعلم: أن الدليل (د) هذا إنما ورد في عيد الإفطار والأضحى مقيس عليه، وورد في تركها لعذر اللبس فقط، وسائر الأعذار مقيس عليها (هـ) وورد في التأدية في اليوم الثاني وظاهره أنها آداء، وإذا بنى على أنها أداء لم يمكن أن يقاس عليها سائر الأعذار لقيام الإجماع (و) أن تارك العبادة المؤقتة حتى يخرج وقتها متعمدًا، وإن كان لعذر غير النوم والسهو ¬

_ (أ) في هـ: العين. (ب) في الأصل: القدروي. (جـ) ساقطة من: جـ. (د) زاد في جـ: على. (هـ) زاد في هـ: قد. (و) زاد في جـ: على.

إذا أداها بعد الوقت أنه قاض وليس بمؤد، وثبوت القضاء لها هنا، وإن احتج عليه بالقياس (أ) على سائر الواجبات المؤقتة إذا تركت عمدًا فهو غير صحيح، لأن ذلك إنما ثبت بالقياس على النائم والساهي، والنائم والساهي محتمل أن يكون وقت تأدية لهما، فإثبات قضاء صلاة العيد لا يخلو عن (ب) نظر. والله أعلم. 367 - وعن أنس - رضي الله عنه - قال: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يغْدُو يومَ الفطر حتى يأكلَ تمراتٍ". أخرجه البخاري (¬1). وفي رواية معلقة، ووصلها أحمد: "يأكلهن أفرادًا" (¬2). (جـ قوله: "لا يغدو يوم الفطر". أي يخرج إلى المصلى وقت الغداة، وقوله في الرواية الأخرى: "يأكلهن أفرادًا" جـ). وقد أخرج البخاري في تاريخه وابن حبان والحاكم من رواية عتبة بن حميد عنه بلفظ: "ما خرج يوم فطر حتى يأكل تمرات ثلاثًا أو خمسًا أو سبعًا أو أقل من ذلك أو أكثر وترًا" (¬3). ¬

_ (أ) في جـ: بأن القياس. (ب) في جـ: من. (جـ - جـ) ساقطة من: جـ.

والحديث يدل على مداومته - صلى الله عليه وسلم - على ذلك. قال (¬1) المهلب: الحكمة في الأكل قبل الصلاة أن لا يظن ظان لزوم الصوم حتى يصلي العيد فكأنه أراد سد هذه الذريعة، وقيل: لما وقع وجوب الفطر عقيب وجوب الصوم استحب تعجيل الفطر مبادرة إلى امتثال أمر الله تعالى. وقيل: لأن الشيطان الذي يحبس في رمضان لا يطلق إلا بعد الصلاة فاستحب الإفطار قبل الصلاة ليكون في ذلك الوقت سالمًا من وسوسته، وقال ابن قدامة (¬2): لا نعلم في استحباب تعجيل الأكل في هذا اليوم قبل الصلاة خلافًا، وقد روى ابن أبي شيبة (¬3) عن ابن مسعود التخيير فيه، وعن النخعي (¬4) أيضًا مثله، والحكمة في استحباب التمر فيه لما في الحلو من تقوية النظر الذي يضعفه الصوم، ولأن الحلو مما يوافق الإيمان ويعبر به المنام ويرق القلب، ولذلك ورد الأمر بالإفطار به دائمًا في حديث سلمان (¬5). أخرجه الترمذي: "إِذا أفطر أحدكم فليفطر على تمر، فإِنه بركة، فإِن لم يجد فليفطر على ماء فإِنه طهو". وأما جعلهن وترًا فللإشارة (أ) إلى الوحدانية، وكذلك كان يفعل - صلى الله عليه وسلم - في جميع أموره. ¬

_ (أ) في جـ: فالإشارة.

368 - وعن ابن بُرَيدة عن أبيه رضي الله عنه قال: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يخرجُ يوم الفِطْر حتي يَطْعَم ولا يطعم يومَ الأضْحَى حتى يُصلِّي". رواه أحمد والترمذي وصححه ابن حبان (¬1). بريدة بضم الباء الموحدة وفتح الراء وسكون الياء تحتها نقطتان وبالدال المهملة -هو بريدة (أ) بن حصيب -بضم الحاء المهملة وفتح الصاد المهملة وبالياء تحتها نقطتان وبعدها الباء الموحدة- ابن عبد الله بن الحارث الأسلمي يكنى أبا عبد الله، وقيل: أبا سهيل، وقيل: أبا الحصيب. وقيل: أبا ساسان والمشهور أبا عبد الله، أسلم قبل بدر ولم يشهدها، وشهد الحديبية وكان ممن بايع بيعة الرضوان، لقي النبي - صلى الله عليه وسلم - في سفر هجرته - صلى الله عليه وسلم - بالغميم، ومعه من قومه زهاء ثمانين بيتًا فأسلموا، ثم رجع إلى بلاد قومه وقد تعلم ¬

_ (أ) ساقطة من: جـ.

من القرآن شيئًا، ثم قدم بعد أحد فشهد المشاهد، وسكن المدينة، ثم تحول إلى البصرة، ثم خرج منها غازيًا في أيام يزيد إلى خراسان فمات بمرو، وبقي ولده بها (أ) (ب) (¬1) روى (جـ) عنه ابناه: عبد الله وسليمان. الحديث أخرجه أيضًا ابن ماجه والدارقطني والحاكم والبيهقي وصححه ابن القطان وفي رواية البيهقي زيادة: "وكان إِذا رجع أكل من كبد أضحيته" (¬2). قال الترمذي (¬3): وفي الباب عن علي وعن أنس، ولكن حديث علي (¬4) إسناده غير محفوظ، وحديث أنس، وقال المصنف -رحمه الله تعالى-: لم أره (¬5) عن أنس، وإنما أخرجه الطبراني (¬6) عن ابن عباس، ورواه الترمذي (¬7) أيضًا عن ابن عمر، وضعفه، ورواه البزار (¬8) عن أبي سعيد ¬

_ (أ) ساقطة من جـ. (ب) بهامش الأصل. (جـ) في جـ: رواه.

وذكره الشافعي (¬1) مرسلًا عن صفوان بن سليم وسعيد بن المسيب وموقوفًا على عروة. والحديث فيه دلالة على شرعية تقديم الأكل في عيد الفطر على الصلاة وتأخيره في عيد الأضحى إلى بعد الصلاة، والحكمة في تأخير الأكل في يوم الأضحى هو أنه لما كان إظهار كرامة الله تعالى للعباد بشرعية نحر الأضاحي، وكان (أ) الأهم أن يبتدئ، بأكلها ويشكر الله تعالى على ما أنعم به (ب) عليه من شرعية النسكية الجامعة لخير (جـ) الدنيا وثواب الآخرة. 369 - وعن أم عطية - رضي الله عنها - قالت: "أُمرْنا أن نُخْرِج العَوَاتِقَ والحُيَّض في العيدَيْنِ، يشهدْنَ الخيْرَ ودَعوةَ المسلمِينَ، ويعْتزل (د) الحُيَّضُ المصلَّى" متفق عليه (¬2). ¬

_ (أ) هـ: فكان. (ب) ساقطة من جـ. (جـ) في جـ: بخير. (د) في جـ: ويعتزلن.

العواتق: البنات الأبكار (أ) البالغات المقاربات للبلوغ (ب)، وسُمِّين عواتق لأنهن أعتقن أنفسهن عن أن يخرجن في مهن أهلهن، وقيل: المقاربات أن يزوجن (جـ) فيملكن أنفسهن عن (د) أهلهن، والحيض أعم من العواتق من وجه. وشهود الخير هو الدخول في فضيلة الصلاة. واعتزال الحيض المصلى لعدم أهليتهن للصلاة فلا يداخلن صفوف الصلاة. وفي الحديث دلالة على الأمر بإخراجهن، والأمر ظاهر في الوجوب: وقد اختلف السلف فيه، فنقل عياض (¬1) وجوبه عن أبي بكرٍ وعليّ وعُمر -رضي الله عنهم- وأخرج ابن أبي شيبة (¬2) عن أبي بكرٍ: والأحق على كل ذات نطاق الخروج إلى العيدين، وقد ورد هذا مرفوعًا بإسناد لا بأس به أخرجه أحمد وأبو يعلى (¬3) وابن المنذر من طريق امرأة منه (هـ) عبد القيس عن أخت عبد الله بن رواحة، والمرأة لم تسم، والأخت اسمها عمرة، صحابية. ¬

_ (أ) زاد في جـ: و. (ب) في جـ: البلوغ. . (جـ) في هـ: يزوجهن. (د) في جـ: من. (هـ) زاد في جـ: بني.

و (أ) قوله هذا يحتمل الوجوب ويحتمل تأكيد الاستحباب، وروى (ب) ابن أبي شيبة (¬1) عن ابن عمر - رضي الله عنه - أنه كان يخرج إلى العيدين من استطاع من أهله، وهذا ليس صريحًا في الوجوب، بل قد روي عن ابن عمر (¬2) المنع، فلعله يحمل على حالين، ويؤيد الوجوب ما أخرجه ابن ماجه والبيهقي من حديث ابن عباس: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يُخرج نساءه وبناته في العيدين" (¬3) فدلالته على استمرار العادة ظاهر في الوجوب، وظاهره شمول من كان لها هيئة من النساء ومن لا هيئة لها، وإذا كان في الشواب فالعجائز بالأولى، ومنهم من حمله على الندب، وجزم بذلك الجرجاني (¬4) من الشافعية وأبو حامد (¬5) من الحنابلة، ونص الشافعي (¬6) في الأم يقضى باستثناء ذوات الهيئات، فإنه قال: "وأحب شهود العجائز وغير ذوات الهيئات من النساء الصلاة، وأنا لشهودهن الأعياد أشد استحبابًا" (¬7)، وقال الطحاوي: إن ذلك كان في صدر الإسلام، ونسخ بعد ذلك، قال: للاحتياج إلى خروجهن لتكثير السواد فيكون فيه إرهاب للعدو، وتعقب بأن ¬

_ (أ) الواو ساقطة من جـ. (ب) في جـ: رواية.

النسخ لا يثبت بمجرد الدعوى والاحتمال، وأيضًا فإن ابن عباس (¬1) روى خروجهن كما في الصحيح، وشهده، وهو صغير، وكان ذلك بعد فتح مكة (¬2)، ولا حاجة إليهن لقوة الإسلام حينئذ، وأيضًا فإن في حديث أم عطية معللًا بشهود الخير ودعوة المسلمين (أ) رجاء لنيلهن بركة ذلك وقد أفتت به أم عطية بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - بمدة كما أخرجه البخاري (¬3)، ولم يثبت عن أحد من الصحابة مخالفتها في ذلك، وما روى عن عائشة: "لو رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - ما أحدث النساء لمنعهن المساجد" (¬4)، لا يدل على تحريم خروجهن ولا على نسخ ذلك بل على بقاء الحكم، وأقول: إن في لفظ حديث أم عطية قرينة على حمل الأمر على الندب وهو قوله: "يشهدن الخير ودعوة المسلمين"، إذ لو كان واجبًا لما علل بذلك، ولكان خروجهن لأداء الواجب عليهن وامتثال الأمر. والله أعلم. 370 - وعن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكرٍ وعُمر يصلون العيدين قبل الخطبة". متفق عليه (¬5). ¬

_ (أ) في جـ: الإسلام.

في الحديث دلالة على أن تأخير الخطبة هو السنة التي داوم (أ) عليها النبي - صلى الله عليه وسلم - واقتدى به فيها الخليفتان واستمرا على ذلك، وظاهر المحافظة على التقديم للصلاة وعلى فعل (ب) الخطبة بعدها وجوب ذلك، ولكن الظاهر أنه إجماع على عدم وجوب الخطبتين، وعلى أنه إذا قدمتا لم يشرع إعادتهما، وإن فعل خلاف السنة، وقد قيل: إن عمر - رضي الله عنه - قد فعل الخطبة قبل الصلاة. واعترض الرواية عياض. و (جـ) قال: لا يصح ولكنه مدفوع بأن عبد الرزاق وابن أبي شيبة (¬1) روياه جميعًا عن ابن عيينة عن يحيى بن سعيد الأنصاري عن يوسف بن عبد الله بن سلام. وهذا إسناد صحيح ولكنه معارض برواية ابن عمر هذه، وبما أخرج أيضًا البخاري عن ابن عباس (¬2)، ويمكن التوفيق بأن ذلك وقع من عمر نادرًا، وقد روى التقديم للخطبة عن عثمان. أخرج ابن المنذر (¬3) بإسناد صحيح إلى الحسن البصري قال: أول من خطب قبل الصلاة عثمان، ثم صلى بعد ذلك قبل الخطبة ثم رأى ناسًا لم يدركوا الصلاة فقدم الخطبة، فكان الحامل له على تقديم الخطبة النظر في مصلحة المسلمين لإدراكهم الصلاة والسبب في ¬

_ (أ) في جـ: دام. (ب) في جـ: فعله. (جـ) الواو ساقطة من جـ.

ذلك: أنه لما اتسع المسلمون في المدينة وتباعدت ديارهم فكان في المبادرة بالصلاة عقيب خروج الإمام تسبيب لفوات الصلاة على من تأخر خروجه عن خروج الإمام فإذا قدم الخطبة حصلت المهلة والانتظار لمن لم يبادر بالخروج، وفي هذا ملمح لعدم وجوب الخطبة إذ لم يبال بعدم إدراكها. [والصريح في ذلك ما أخرجه النسائي وابن ماجه وأبو داود من حديث عبد الله بن السائب قال: "شهدت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - العيد فلما قضى الصلاة قال: إنا نخطب فمن أحب أن يجلس للخطبة فليجلس، ومن أحب أن يذهب فليذهب" (¬1)] (أ). وفي حديث أبي سعيد الخدري كما أخرجه البخاري (¬2) ما يدل على أن أول من خطب قبل الصلاة مروان، فإنه قال بعد أن ساق ما كان (ب) يفعله النبي - صلى الله عليه وسلم -: فلم يزل الناس على ذلك حتى خرجت مع مروان، وهو أمير المدينة، في أضحى أو فطر فلما أتينا المصلى إذا منبر بناه كثير بن الصلت، فإذا مروان يريد أن يرتقيه قبل أن يصلي فجبذت بثوبه فجبذني فارتفع فخطب قبل الصلاة فقلت له: غيرتم والله، فقال: أبا سعيد قد ذهب ما تعلم، فقلت: ما أعلم والله خير، فقال: إن الناس لم يكونوا يجلسون لنا بعد الصلاة فجعلتها (جـ) قبل الصلاة. ¬

_ (أ) بهامش الأصل. (ب) ساقطة من جـ. (جـ) في جـ: فجعلناها.

وقد أخرج الشافعي (¬1) من حديث عبد الله بن يزيد: حتى قدم معاوية فقدم الخطبة، ففيه دلالة على أن معاوية الذي قدم، وروى ابن المنذر (¬2) عن ابن سيرين: أن أول من فعل ذلك زياد بالبصرة، ويمكن التوفيق بينها (أ) بأن عثمان فعل ذلك لا على جهة المداومة، وإنما هو منظور فيه إلى مصلحة المسلمين وأن معاوية فعل ذلك وداوم عليه، واقتدى به أميراه لغرض لهم في ذلك من مدح بعض الناس، وذم بعض وفهموا من الناس، اجتناب الخطبة، وتنزههم عن سماع ما لم ينبغ استماعه مما خولف به السنة. 371 - وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى يوم العيد ركعتين لم يصل قبلها ولا بعدها. أخرجه السبعة (¬3). وعنه: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلَّى العيدَ بلا أذان ولا إِقامة" أخرجه أبو داود (¬4) وأصله في البخاري. ¬

_ (أ) في جـ، وهـ: بينهما.

في الحديث دلالة على أن صلاة العيد ركعتان فقط، وهو إجماع (¬1) لمن صلاها مع الإمام في الجَبانة، وأما إذا فاتته صلاة الإمام وصلى وحده فكذلك على قول الأكثر، وذهب أحمد والثوري إلى أنه يصلي أربعًا (¬2)، وأخرج سعيد بن منصور عن ابن مسعود: "من فاته صلاة العيد مع الإمام فليصل أربعًا" وهو إسناد صحيح، وقال إسحاق: إن صلاها في الجبانة فركعتين وإلا فأربعًا. وقال أبو حنيفة (¬3): إذا قضى صلاة العيد فهم مخير بين اثنين أو (أ) أربعًا، [والقضاء غير لازم، وإنما خيره لأن صلاة العيد قائمة مقام صلاة الضحى إلا أن شرائطها كشرائط الجمعة، فإذا فاتت لعدم الشرائط صلى صلاة الضحى، فخير بين ركعتين أو أربع، ودليل قيامها مقام الضحى أنها لا تصلى الضحى قبلها، والضحى غير واجبة، فكانت (ب) مع فوات الشرائط غير واجبة، وفي حديث ابن مسعود أنه يقرأ في الأولى بسبح (جـ) اسم ربك الأعلى، والثانية والشمس، والثالثة والليل، والرابعة والضحى. رواه في المحيط، كذا (د) في شرح القدوري] (هـ). واعلم أن صلاة العيدين مجمع على شرعيتها، واختلف في حكمها، ¬

_ (أ) في جـ: و. (ب) في جـ: وكانت. (ب) في جـ: سبح. (د) في هـ: كذلك. (هـ) بهامش الأصل.

فذهب الهادي وأبو حنيفة إلى أنها واجبة فرض عين (¬1)، ويدل على ذلك ما ذكر (أ) في هذه الأحاديث من محافظته - صلى الله عليه وسلم - على ذلك، والخلفاء من بعده، ودليل التأسي قائم، وأيضًا فإن في حديث الركب الذي مَرَّ: "وإذا أصبحوا يغدوا إلى مصلاهم" (¬2) بعد ذكر الأمر في أوله، وظاهر الأمر الوجوب وأيضًا فقوله (ب) تعالى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} (¬3) على بعض الوجوه أن المراد صلاة عيد الأضحى وهو أمر وقوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (15)} (¬4) كما هو عند كثير من السلف أن المراد به إخراج زكاة الفطر وصلاة عيد الفطر، وذهب أبو طالب وأحد قولي الشافعي والإصطخري وأحمد (¬5) إلى أنها فرض كفاية، إذ هي شعار وهو يسقط بقيام البعض به كالجهاد، وذهب زيد بن علي والناصر والإمام يحيى والمؤيد وأحد قولي الشافعي وأكثر أصحاب الشافعي (¬6) إلى أنها سنة مؤكدة، ومواظبته - صلى الله عليه وسلم - لتأكيد السنية في ذلك. قالوا: لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "خمس صلوات ¬

_ (أ) في جـ: ذكره. (ب) في جـ: قوله.

كتبهن الله على العباد" (¬1) فهو قرينة على ذلك، ويجاب عنه بأن الاحتجاج بمفهوم العدد، وهو محتمل أن يكون المفهوم خرج مخرج الغالب، وهو أنه لما كان ذلك هو الأغلب في الأوقات، وكان العيد وقوعه في وقت يسير من السنة، فلا يعمل بالمفهوم وهو أنه عارضه ما هو أقوي منه ما (أ) تقدم، وهو يطرح مع ذلك. والله أعلم. و (ب) قوله: (جـ) ولم يصل قبلها ولا بعدها، فيه دلالة على أنها لم تشرع (¬2) النافلة قبل صلاة العيد ولا بعدها؛ لأنه إذا لم يصل - صلى الله عليه وسلم - دل على أنه غير مشروع في حقه إذ لو كان مشروعًا لفعله، ومع قيام دليل التأسي فحكمنا حكمه، ولكنه لم يكن في هذه الرواية ما يدل على مواظبته الترك وإنما حكى صلاة وقع فيها هذه الصورة المذكورة [وفيما سيأتي حديث أبي سعيد يدل على مواظبته على الترك] (د)، (هـ وقد اختلف في حكم هذا، فذكر ابن المنذر عن أحمد (¬3) أنه قال: الكوفيون يصلون بعدها لا قبلها (و) (هـ)، والبصريون يصلون قبلها لا بعدها، والمدنيون لا قبلها ولا بعدها، ¬

_ (أ) في جـ: كما. (ب) الواو ساقطة من: جـ. (جـ) قدم في الأصل "شرح جملة بلا أذان ولا إقامة" على قوله، ولم يصل قبلها ولا بعدها"، وقد أشار إلى ذلك. (د) بهامش الأصل. (هـ- هـ) بهامش هـ. (و) في جـ: قبلها لا بعدها.

وبالأول قال الأوزاعي والثوري والحنفية (¬1)، وبالثاني قال الحسن البصري وجماعة، وبالثالث قال الزهري وابن جريج (¬2)، وأحمد، ومالك (¬3) منع في المصلى، وعنه في المسجد روايتان، وقال الشافعي في الأم، ونقله البيهقي عنه في المعرفة بعد أن روى حديث الباب ما نصه: وأحب للإمام ألا يتنفل قبلها ولا بعدها وأما المأموم فمخالف له (¬4) في ذلك، ثم بسط الكلام في ذلك، وقال الرافعي (¬5): يكره للإمام التنفل قبل العيد وبعدها، وقيده في البويطي في المصلى، وجرى على ذلك الصيمري فقال: لا بأس بالنافلة قبلها وبعدها مطلقًا إلا للإمام في موضع الصلاة، وهذا يؤيده ما أخرجه ابن ماجه (¬6) بإسناد حسن من حديث أبي سعيد الآتي: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان لا يصلي قبل العيد شيئًا، وإذا رجع إلى منزله صلى ركعتين" وقد صححه (أ) الحاكم (¬7)، وفي هذا دليل المواظبة على الترك وبهذا قال إسحاق، ونقل بعض المالكية (¬8) الإجماع على أن الإمام لا يتنفل في المصلى، وهذا جميعه يدل على أن صلاة العيد ليس لها سنة لأنه لم يثبت ¬

_ (أ) في جـ: صححهما.

فعل ذلك لا قبلها ولا بعدها خلافًا لمن قاسها على الجمعة فأثبت لها سنة وبقي الاحتمال إذا صليت في المسجد، وقعد في المسجد قبل أن تقام هل يصلي تحية المسجد لقيام دليلها؟ أو لا يصليها لخصوص كونه قبل صلاة العيد، وحينئذ تعارض الدليلان ويحتاج إلى الترجيح. والله أعلم. [وقوله بلا أذان ولا إقامة، فيه دلالة على عدم شرعيتها، وأن فعل ذلك محدث بدعة، وروى ابن أبي شيبة (¬1) بإسناد صحيح عن سعيد بن المسيب أن أول من أحدث الأذان لصلاة العيد معاوية، وروى الشافعي (¬2) عن الثقة عن الزهري مثله وزاد، وأخذ به الحجاج حين أُمِّرَ على المدينة، وروى ابن (1) المنذر عن حصين بن عبد الرحمن قال: أول من أحدثه زياد بالبصرة، وقال الداودي (¬3): أول من أحدثه مروان، وقال ابن حبيب (1): أول من أحدثه عبد الله بن الزبير، وأقام أيضًا، وفيه ما تقدم، وقد روى الشافعي (¬4) عن الثقة عن الزهري قال: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأمر المؤذن في العيدين فيقول: الصلاة جماعة"، وهذا مرسل يعضد بالقياس على صلاة الكسوف لثبوت ذلك كما سيأتي إن شاء الله، قال الشافعي: أحب أن يقول: الصلاة، أو الصلاة جامعة، وإن قال: هلموا إلى الصلاة لم أكرهه، وإن قال: حي على] (أ) ¬

_ (أ) بهامش الأصل.

[الصلاة أو غيرها من ألفاظ الأذان كرهت (أ) ذلك (¬1). والله أعلم (ب)] (جـ). 372 - وعن أبي سعيد - رضي الله عنه - قال: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يصلِّي قبل العيد شيئًا، فإِذا رجع إِلى منزله صلَّى ركعتيْن". رواه ابن ماجه بإسناد حسن (¬2). وعنه قال: "كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يخرجُ يومَ الفطرِ والأضْحَى إِلى المصلَّى وأولُ شيءٍ يبدأ به الصلاةُ ثم يَنصرفُ، فيقوم مقابلَ الناسِ، والناس على صُفُوفهم فيعظُهم ويأمُرهم". متفق عليه (¬3). حديث أبي سعيد الأول أخرجه الحاكم وأحمد، وروى الترمذي عن ابن عمر (¬4) نحوه وصحه، وهو عند أحمد والحاكم، وله طريق أخرى عند ¬

_ (أ) في جـ: كره. (ب) قدمه المصنف في الشرح على جملة "لم يصل قبلها ولا بعدها"، وقد أشار إلى ذلك. (جـ) بهامش الأصل.

الطبراني في الأوسط لكن فيه جابر الجعفي وهو متروك (¬1)، وأخرج البزار (¬2) من حديث الوليد بن سريع عن عليٍّ في قصة له "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يصل قبلها (أ) ولا بعدها، فمن شاء فعل، ومن شاء ترك". وأخرج أحمد من حديث عبد الله بن عمر (¬3) مرفوعًا: "لا صلاة يوم العيد قبلها ولا بعدها" وهذا الحديث الأخير صريح في منع الصلاة مطلقًا قبل العيد سواء كان في المصلى أو في غيره، وفي حق الإمام وغيره، وقد أخرج البيهقي (¬4) عن جماعة منهم أنس أنهم كانوا يصلون يوم العيد قبل خروج الإمام. والحديث الثاني فيه دلالة على شرعية الخروج إلى المصلى، والمتبادر منه هو الخروج إلى موضع آخر غير مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو كذلك فإن (ب) مصلاه - صلى الله عليه وسلم - معروف، بينه وبين باب المسجد ألف ذراع، قال عمر بن (شبة) (جـ) في أخبار المدينة (¬5). وقوله: "أول شيء يبدأ (د) به الصلاة"، فيه دلالة على تقديم (هـ) الصلاة ¬

_ (أ) في هـ: قبلهما. (ب) في جـ: كان. (جـ) في النسخ: شيبة، وهو تصحيف. (د) في جـ: بدأ. (هـ) في هـ: تقدم.

على الخطبة وعلى أنه لم يشتغل بتقديم نافلة، وقد تقدم ذلك، وقوله: "ثم ينصرف" إلخ وفي رواية ابن حبان "ثم ينصرف إلى الناس قائمًا في مصلاه"، ولابن خزيمة (¬1) في رواية مختصرة: "خطب يوم عيد على رجليه" (أ) هذا كله مشعر بأنه لم يكن في المصلى في زمانه منبر، وفي تمام القصة التي ذكرها البخاري في حديث أبي سعيد أن أول من اتخذ المنبر في المصلى مروان، وقد وقع في المدونة لمالك (¬2)، (ورواه عمر بن شبة (¬3) عن أبي (ب) عساكر عنه قال: أول من خطب الناس في المصلى على منبر عثمان بن عفان كلمهم (جـ) على منبر من طين بناه كثير بن الصلت، وهذا معضل، وما في الصحيحين أصح، ويحتمل أن يكون عثمان فعل ذلك مرة، ثم تركه حتى أعاده مروان، ولم يطلع على ذلك أبو سعيد، وإنما اختص كثير بن الصلت بالبناء له لكون داره كانت مجاورة للمصلى، وهو تابعي كبير (¬4)، ولد في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقدم المدينة هو (د) وإخوته بعده فسكنها وكان اسمه قليلًا فسماه عمر كثيرًا وقد صح سماعه من عمر ¬

_ (أ) في النسخ: جلية، والتصحيح من ابن خزيمة. (ب) في هـ: ابن. (جـ) في جـ، هـ: كلهم. (د) ساقطة من هـ.

وغيره وكان له شرف وذكر، وهو ابن أخي حمد (أ) بفتح الحاء وسكون الميم أو فتحها، أحد ملوك كندة الذين قتلوا (ب) في الردة، وقد ذكر أباه في الصحابة ابن منده وفي صحة ذلك نظر. وقوله: "فيعظهم (ب) ويأمرهم"، تفصيل لحال (د) الخطبة فإنها مشتملة على ذلك. 373 - وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال نبيُّ الله - صلى الله عليه وسلم -: "التكبيرُ في الفطرِ سبْعٌ فِي الأُولى، وخمسٌ في الأخيرة والقراءة بعدهما كلتَيْهما". أخرجه أبو داود (¬1). ونقل الترمذي (¬2) عن البخاري تصحيحه. ¬

_ (أ) في هـ: أحمد. (ب) في هـ: قتلوه. (جـ) في جـ: فيعلمهم. (د) في جـ: بحال.

وهو أبو إبراهيم عمرو بن شعيب بن محمد بن عبد الله بن عمرو بن العاص السهمي، سمع أباه وابن المسيب وطاوسًا، روى عنه الزهري وداود ابن أبي هند وأيوب وابن جريج وعطاء بن أبي رباح ويحيى بن سعيد وعمرو ابن دينار، ولم يخرج البخاري ومسلم حديثه في صحيحيهما (أ)؛ لأن الضمير في أبيه وجده إِنْ كان عائدًا إليه كان المعنى أن أباه شعيبًا روى عن جده محمد أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: كذا، مثلًا فيكون مرسلًا لأن جده محمدًا لم يدرك النبي - صلى الله عليه وسلم - وإن كان الضمير الذي في أبيه عائدًا إلى عمرو والضمير في جده عائدًا إلى شعيب فيراد أن شعيبًا روى عن جده عبد الله فشعيب لم يدرك جده عبد الله، فلهذه العلة لم يخرجاه في صحيحيهما (ب). وقال الذهبي (¬1): قد ثبت سماع شعيب من جده عبد الله وعن (جـ) معاوية وابن عباس وابن عمر ثم قال بعد حكاية اختلاف السلف والخلف في قبول روايته: وقد احتج به أرباب السنن الأربعة وابن خزيمة وابن حبان في بعض الصور والحاكم (¬2). والحديث أخرجه أحمد وعليّ بن ¬

_ (أ) في جـ: صحيحهما. (ب) في جـ: صحيحهما. (جـ) في جـ، هـ: ومن.

المديني وصححاه وقد رووه أيضًا من حديث عائشة (¬1) وفيه ابن لَهِيعَة (¬2) وضعفه البخاري كما حكاه عنه الترمذي وفيه أيضًا اضطراب (¬3) عن ابن لهيعة، وأخرجه ابن ماجه (¬4) من حديث سعد (أ) القرظ وذكره (ب) ابن أبي حاتم في العلل (¬5) عن أبي واقد الليثي، وقال عن أبيه: إنه باطل. ورواه البزار (¬6) من حديث عبد الرحمن بن عوف، وصح الدارقطني (¬7) إرساله ورواه البيهقي (¬8) عن ابن عباس وهو ضعيف، ورواه الدارقطني والبزار من حديث ابن عمر (¬9) مثله، وفيه فرج بن فضالة (¬10) وهو ضعيف، قال أبو ¬

_ (أ) في جـ: سعيد. (ب) في جـ: وذكر.

حاتم: هو خطأ (¬1)، وأخرجه الترمذي وابن ماجه والدارقطني وابن عدي والبيهقي من حديث كثير بن عبد الله بن عمرو (¬2) بن عوف عن أبيه عن جده، وكثير (¬3) ضعيف، قال الشافعي: ركن من أركان الكذب. وقال ابن حبان: له نسخة موضوعة عن أبيه عن جده، وقد قال البخاري والترمذي (¬4): إنه أصح شيء في هذا الباب، وأنكر جماعة تحسينه على الترمذي وروى العَقيلي (¬5) عن أحمد أنه قال: ليس يروى في التكبير في العيدين حديث صحيح، وقال الحاكم (¬6): الطرق إلى عائشة وابن عمرو وعبد الله بن عمر (أ)، طريق عمرو بن شعيب (ب وأبي هريرة هي من طريق ابن لهيعة ب) فاسدة. وفي الباب عن أبي جعفر عن علي (¬7) موقوفًا ورواه عبد الرزاق عن ابن عباس (¬8) موقوفًا، ورواه ابن أبي شيبة (¬9)، وقال ابن رشد (¬10): إنما صاروا إلى ¬

_ (أ) في هـ: وابن عمر. (ب- ب) ساقطة من هـ.

الأخذ بأقاويل الصحابة في هذه المسألة لأنه لم يثبت فيها عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيء (¬1). والحديث فيه في لالة على شرعية التكبير في صلاة العيدين، وأنه في الركعة الأولى يكبر سبعًا، وفي (أ) الثانية يكبر خمسًا، والحديث يحتمل أن السبع بتكبيرة الافتتاح فيكون المختص به العيد ستًّا في الأولى أو من دونها، والظاهر أنها من دون تكبيرة الافتتاح؛ لأن تكبيرة الافتتاح قد علم حالها، وأنها معتبرة في جميع الصلوات، فلا يحتاج إلى التعريف بها، وإنما المحتاج إلى التعريف هو ما عداها، وقد ذهب إلى هذا علي وأبو بكرٍ وعمرُ وابن عمر وأبو هريرة وعائشة وزيد بن علي والهادي والقاسم والشافعي والنخعي وأحمد وإسحاق وأبو يوسف ومحمد، وكلامهم محتمل (ب) في أن تكبيرة الافتتاح منها أو من غيرها (¬2) وقال أبو طالب (¬3) وأبو العباس: من غير تكبيرة الافتتاح، وهو وجه عند أصحاب الشافعي، وفي المنتخب عن الهادي (3) ¬

_ (أ) زاد في جـ: الركعة. (ب) في جـ: يحتمل.

أنها بتكبيرة الافتتاح. كذا رواه في الانتصار، وهو الذي حصله المؤيد لمذهب الهادي، ومثله عن زيد بن علي، والحديث كما عرفت من الاحتمال، وقال المؤيد بالله: خمس في الأولى وأربع في الثانية، قال: لقول علي - رضي الله عنه - في رواية زيد بن عليّ، وذهب الثوري وأبو حنيفة (¬1) إلى أنها ثلاث في الأولى، وثلاث في الثانية، وذهب مالك إلى أنها ست (¬2) في الأولى وخمس في الثانية، وذهب ابن مسعود وسعيد بن العاص إلى أنه كالجنازة أربع تكبيرات. روى سعيد بن العاص قال: سألت أبا موسى وحذيفة: كيف كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يكبر في الأضحى والفطر؟ فقال أبو موسى: كان (أ) يكبر أربعًا كتكبيره على الجنازة، فقال حذيفة: صدق، فقال (ب) أبو موسى: وكذلك كنت أكبر في البصرة حيث كنت عليهم. أخرجه أبو داود (¬3)، والأرجح الصير إلى ما دل عليه الحديث فإنه وإن كان جميع طرقه واهية، ولكنها (جـ) يقوي بعضها بعضًا. ¬

_ (أ) ساقطة من هـ. (ب) في جـ: قال. (جـ) في جـ: ولكنه.

وقوله: "والقراءة بعدهما كلتيهما"، فيه دلالة على أن محل التكبير قبل القراءة في الركعتين جميعًا، وقد ذهب إلى هذا الشافعي ومالك عملًا بهذا الحديث وذهب الهادي والمؤيد وأبو طالب إلى أنه يقدم القراءة على التكبير في الركعتين جميعًا، واحتج له في البحر (¬1). قال: لرواية ابن عمر ولفعل علي - رضي الله عنه - والظاهر أنه وهم، فإنه لم يكن عن أحد منهما ما يدل على ذلك وإنما الرواية عنهما في عدد التكبير كما عرفت، وفي رواية زيد بن علي عن علي - رضي الله عنه - كما في مذهب الشافعي ومالك، وذهب القاسم والناصر وأبو حنيفة (¬2) إلى أنه يقدم التكبير في الركعة الأولى، ويؤخره في الثانية ليوالي بين القراءتين لرواية ابن مسعود لذلك عن (¬3) النبي - صلى الله عليه وسلم - حكاها في الانتصار، والأقوى هو المذهب الأول لما عرفت، وظاهر ما دل عليه الحديث في صفتها من التكبير أنه لا يجوز النقصان عن ذلك لقوله: "التكبير" إلخ. . فإن فيه تعريف صفتها، ومفهوم العدد يقضي أنه لا يزيد على ذلك ولا ينقص، فمن أخل بشيء من ذلك فقد أخل بركن، فيجب عليه الإعادة سواء كان تركه عمدًا أو سهوًا إلا أنه إذا ترك شيئًا من التكبير سهوًا وذكره في الصلاة رجع لتمامه، وألغى ما تخلل على مقتضى (¬4) القواعد، وإن كان بعد تمام الصلاة أعادها في الوقت، وقال الشافعي: إنه لا يعيد الصلاة ولا يسجد للسهو؛ لأن ¬

_ (¬1) البحر 2/ 61. (¬2) الهداية 2/ 74. (¬3) رواه معلقًا الترمذي وقال: روي عن غير واحد من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو قول أهل الكوفة 2/ 416. (¬4) يقطع القراءة ثم يكبر ويستأنف القراءة.

التكبيرات عنده لا فرضًا ولا بعضًا من الفرض (¬1) وإنما يكره أترك التكبير أو ترك بعضه، وكذلك الزيادة، وإن نسي فعله قبل القراءة حتى يشرع (أ) في القراءة فإن فعله في الجديد وفي القديم يكبر ما لم يركع لبقاء القيام، وهو محله، فإن رجع بعد (ب) الركوع لفعل التكبير فجزم الرافعي (¬2) ببطلان صلاته مع العلم لا مع الجهل فيعذر، (جـ) هكذا في عجالة المحتاج إلى المنهاج، (د) وقال أبو حنيفة: لا يعيد ويسجد للسهو وإذا أتى المؤتم، وقد كبر الإمام شيئًا من التكبير، فقالوا: إنه يتحمل ما فعله مما فات اللاحق، ولا يظهر وجه هذا القول، وإذا اختلف مذهب الإمام والمؤتم في التكبير فإنه يفعل المؤتم ما ترك الإمام. وأما العكس لو فعل الإمام زائدًا على ما يعتقد فعله المؤتم متابعته (5) لئلا يخالف إمامه (و) والله أعلم. 374 - وعن أبي واقِدٍ الليثي - رضي الله عنه - قال: "كان النبي - صلى الله عليه وسلم - ¬

_ (أ) في جـ: شرع. (ب) في جـ: قبل. (جـ) زاد في جـ: و. (د) بهامش الأصل. (هـ) في هـ: فيتابعه، وفي جـ: تابعه. (و) في هـ: اتباعه.

يقرأ في الأضْحى والفطر (أ) بقاف، واقتربت". أخرجه مسلم (¬1). هو أبو واقد بكسر القاف والدال (المهملة) (ب)، اسمه الحارث بن عوف الليثي، وقيل: الحارث بن مالك، وقيل: عوف بن الحارث بن أسيد بفتح الهمزة وكسر السين المهملة، وهو قديم الإسلام قيل: إنه شهد بدر، وكان معه لواء بني ليث وضمرة وسعد بني (جـ) بكر يوم الفتح، وقيل: إنه من مسلمة الفتح، والأول أصح. عداده في (د) أهل المدينة، وجاور بمكة سنة ومات بها سنة ثمان وستين، وقيل: خمس وستين، وهو ابن خمس وسبعين سنة، وقيل: ابن خمس وثمانين، ودفن (هـ) بفخ وهو بالفاء والخاء المعجمتين. روى عنه عبيد الله (و) بن عبد الله بن عتبة وأبو مرة مولى عقيل بن أبي طالب (¬2). وفي الحديث دلالة على أن قراءة السورتين في ركعتي العيد سنة، وفي ¬

_ (أ) ساقطة من جـ. (ب) بهامش الأصل. (جـ) في جـ: بن. (د) في جـ: من. (هـ) ساقطة من جـ. (و) في جـ: عبد الله.

رواية أيضًا لمسلم (¬1): "بسبح، والغاشية"، ويجمع بأنه وقع ذلك جميعه فيكون المصلي مخيرًا، وقد ذهب إلى سنية ذلك الشافعي ومالك (¬2)، وقالت الهادوية وأبو حنيفة (¬3) وأصحابه: إن ذلك غير متعين، بل يقرأ ما شاء من السور قياسًا على سائر الصلاة، والرجوع إلى ما فعله - صلى الله عليه وسلم - إن لم يكن واجبًا، فأقل الأحوال الندب، ومع المواظبة السنية [وإنما اختصت قراءته بهما (أ) لما فيهما من ذكر النشور وشبهه بخروج الناس إلى العيد كما يخرجون من الأجداث كأنهم جراد منتشر (¬4)، والخروج إلى المصلى لرجاء الغفران والسرور، فالعيد كالصدر (¬5) بالمحشر إلى الجنة مغفور، لهم وفي سماعه لهما دليل على جهر القراءة فيهما ولا خلاف في ذلك] (ب). 375 - وعن جابر - رضي الله عنه - قال: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إِذا كان يومُ العيد خالفَ الطريق". أخرجه البخاري (¬6). ولأبي داود عن ابن عمر نحوه (¬7). ¬

_ (أ) في جـ: اقتضت فوائد منها. (ب) بهامش الأصل.

قوله: "إِذا كان يوم العيد"، لفظ كان تامة لا تحتاج إلى خبر، أي إذا وقع يوم العيد. وقوله: "خالف الطريق"، يعني أن يعود من مصلاه في طريق غير الطريق التي أتاها عند ذهابه إليه. [وقد ورد تعيين الطريقين عند ابن ماجه من طريق أبي رافع (¬1) عن أبيه عن جده: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا خرج إلى العيدين سلك على دار سعد بن أبي وقاص، ثم على أصحاب الفساطيط ثم انصرف من طريق بني زريق، ثم يخرج على دار عمار بن ياسر ودار أبي هريرة إلى البلاط] (أ) قال الترمذي (¬2): أخذ بهذا بعض أهل العلم، واستحبه للإمام وبه يقول الشافعي انتهى. وقد قال به أكثر أهل العلم، ويكون ذلك مشروعًا للإمام (ب) والمأموم، والذي في "الأم" للشافعي (¬3) رحمه الله: يستحب للإمام والمأموم، وقد اختلف في المعنى المناسب لتعليل المخالفة. قال المصنف (¬4) -رحمه الله-: اجتمع لي منها أكثر من عشرين قولًا ¬

_ (أ) بهامش الأصل. (ب) في جـ، هـ: الإمام.

وها أنا أذكرها ملخصًا لذلك مبينًا لا في بعضها من البعد عن المناسبة. فمن ذلك أنه فعل المخالفة لتشهد له الطريقان، وهو محتمل للحقيقة أو المجاز عن ساكنهما من الجن أو الملك، وقيل: ليسوي بينهما في مزيد الفضل بمروره أو بالتبرك به لشم رائحة المسك من الطريق التي مر بها لأنه كان يعرف بذلك، وقيل: لأن طريقه إلى المصلى كانت على اليمين فلو رجع منها لرجع إلى جهة الشمال فرجع من غيرها وهذا مستقيم إذا (أ) لم يكن في المعدول عنها مرجع آخر، وقيل: لإظهار ذكر الله تعالى فيهما، وقيل: ليغيظ المنافقين واليهود، وقيل: ليرهبهم بكثرة من معه، ورجحه ابن بطال (¬1)، وقيل: حذرًا من كيد الطائفتين أو إحداهما، وفيه بعد إذ لا يستقيم هذا إلا إذا كان لا يعتاد طريقًا معينًا وقد ورد خلاف ذلك كما في رواية الشافعي (¬2) من طريق المطلب بن عبد الله بن حنطب مرسلًا: "أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يغدو يوم العيد إلى المصلى من الطريق الأعظم، ويرجع من الطريق الآخر، وقيل: ليعمهم بالسرور به والتبرك بمروره برؤيته والانتفاع به في قضاء حوائجهم في الاستفتاء أو التعليم أو الاسترشاد أو الصدقة أو السلام عليهم أو غير ذلك وقيل: ليزور أقاربه الأحياء والأموات، وقيل: ليصل رحمه، وقيل: للتفاؤل بتغير الحال إلى المغفرة والرضى، وقيل: كان في ذهابه يتصدق فإذا رجع كره أن يُسأل ولم يبق معه شيء، وهذا لا يستقيم على تعيين الطريق، وقيل: لتخفيف الزحام، وهذا رجحه الشيخ أبو حامد ¬

_ (أ) في هـ: إذ.

وأيده المحب الطبري بما رواه البيهقي من حديث ابن عمر فقال: "ليسع الناس"، وتعقب بأنه ضعيف، وبأن قوله: "ليسع الناس"، يحتمل أنه يسعهم ببركته وفضله فلا يفيد المطلوب، وقيل: كان يمشي في الذهاب في الطريق الأبعد ليكثر له الثواب بتكثير الخطا إلى الجماعة، ويعود في الطريق الأقرب لفوات الحامل على تكثير الخُطَا، وهذا اختيار الرافعي، وتعقب بأن الخطا تكتب في العود أيضًا كما ثبت في حديث أبي بن كعب (¬1) عند الترمذي وغيره، وقيل: إن الملائكة تقف في الطرقات، فأراد أن تشهد له ملائكة الطريقين، وقيل: فعل ذلك اقتداء بقول يعقوب: {لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ} (¬2) حذرًا من العين، وعمم صاحب الهدي (¬3) فقال (أ): إنه فعل ذلك لجميع الاحتمالات القريبة التي يمكن اعتبارها، والله أعلم. 376 - وعن أنس - رضي الله عنه - قال: "قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة، ولهم يومان يلعبون فيهما فقال: "قد أبدلكم الله خيرًا منها يوم الأضحى، ويوم الفطر". أخرجه أبو داود والنسائي بإسناد صحيح (¬4). ¬

_ (أ) في هـ: ويقال.

في الحديث دلالة على أن السرور وإظهار النشاط والحبور في العيدين مندوب، وأن ذلك من الشريعة التي شرعها الله لعباده، إذ في إبدال عيدي الجاهلية بالعيدين المذكورين دلالة على أنه يفعل في العيدين المشروعين مثلما تفعله الجاهلية في أعيادها، وإنما خالفهم في تعيين الوقتين، وأما التوسعة على العيال في أيام الأعياد بما يحصل لهم به من بسط النفس وترويح البدن من كلف العبادة، وأن الإعراض عن ذلك أولى، فهو مشروع، [ولكنه قد شرع للمسلمين فيهما (أ) إظهار تكبير الله وتحميده ظهورًا شائعًا يغيظ المشركين، وقيل: إنهما يقعان شكرًا على ما أنعم به من أداء العبادات التي في وقتهما (ب)، فعيد الفطر يشكر لله (جـ) تعالى على تمام صوم شهر رمضان، وعيد الأضحى شكر له (د) على العبادات الواقعة في العشر، وأعظمها إقامة وظيفة الحج] (5)، وقد استنبط بعضهم كراهة الفرح في أعياد المشركين والتشبه بهم وبالغ الشيخ الكبير أبو حفص النسفي من الحنفية، وقال: من أهدى فيه بيضة (و) إلى مشرك تعظيمًا لليوم فقد كفر بالله تعالى (¬1). ¬

_ (أ) في جـ: فيها. (ب) في جـ: وقتها. (جـ) في هـ: شكر الله، وجـ: يشكر الله. (د) في هـ: شكرًا له، وجـ: يشكر له. (هـ) بهامش الأصل. (و) هـ: قبضة.

377 - وعن عليٍّ - رضي الله عنه - قال: "من السنة أن تخرج إِلى العيد ماشيًا". رواه الترمذي وحسنه (¬1). ورواه الترمذي من حديث الحارث الأعور (¬2)، وروى البيهقي (¬3) وابن حبان في الضعفاء نحوه من حديث ابن عمر مرفوعًا، وللبزاز (¬4) عن سعد نحوه، وروى سعيد بن منصور عن الزهري مرسلًا (¬5) أنه - صلى الله عليه وسلم - ما ركب في عيد ولا جنازة، وقال الشافعي (¬6): بلغنا عن الزهري فذكره، وروى ابن ماجه (¬7) من حديث أبي رافع وسعد القرظ وابن عمر أنه كان يخرج إلى العيد ماشيًا ريرجع ماشيًا. في الحديث دلالة على شرعية المشي في هذا الشعار العظيم، فحديث على - رضي الله عنه - في الخروج فقط وفي هذا حديث ابن ماجه في ¬

_ (¬1) الترمذي، الصلاة، باب ما جاء في المشي يوم العيد 2/ 410 ح 530، ابن ماجه، إقامة الصلاة والسنة فيها، باب ما جاء في الخروج إلى العيد ماشيًا 1/ 411 ح 1296، البيهقي، صلاة العيدين، باب المشي إلى العيدين 3/ 281. (¬2) الحارث الأعور ضعيف، مر في 11 المقدمة. (¬3) السنن 3/ 281. (¬4) كشف الأستار 1/ 313 قال البزار: لا نعلمه عن سعد إلا بهذا الإسناد وخالد ليس بالقوي والمهاجر صالح الحديث مشهور، روى عنه حاتم بن إسماعيل وغيره. (¬5) انظر الكلام على مراسيل الزهري 1199 ح 371. (¬6) الأم 1/ 207. (¬7) ابن ماجه 1/ 411، 412 ح أبي رافع 1300، ح سعد القرظ 1298، ابن عمر 1300 وتكلمنا على ح سعد وابن عمر وعلتهما، وليس فيه إلا أنه يخرج ولم يأت بلفظ "ماشيًا". أما حديث أبي رافع فإنه نص على أنه كان ماشيًا والحديث ضعيف؛ لأن فيه مندل بن علي العنزي الكوفي قيل: مندل لقب واسمه عمرو ضعيف مر في ح 348. محمد بن عبيد الله ابن أبي رافع، قال أبو حاتم: منكر الحديث جدًّا ذاهب. الضعفاء للبخاري 104، الكاشف 3/ 73.

الخروج والعود، والبخاري (¬1) رحمه الله تعالى بوب في الصحيح على (المشي) (أ) والركوب فقال: باب المشي والركوب إلى العيد. فسوى بين الأمرين ولعله لما رأى من عدم صحة الحديث فرجع إلى الأصل من التوسعة، وبعضهم قال: لعل البخاري استنبط من حديث جابر أن النبي، - صلى الله عليه وسلم - توكأ على يد بلال، والاتكاء فيه ارتفاق واستراحة من التعب فقاس الركوب عليه عند الاحتياج إليه للاستراحة (¬2)، والله أعلم. 378 - وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - "أنهم أصابهم مطر في يوم عيد، فصلى بهم النبي - صلى الله عليه وسلم - صلاة العيد في المسجد". رواه أبو داود (¬3) بإسناد لين. الحديث في إسناده رجل من القرويين لم يسم، وقد سماه الربيع بن سليمان المؤذن في رواية عيسى بن عبد الأعلى بن أبي فروة، وأخرجه أيضًا ابن ماجه والحاكم بإسناد ضعيف، وقال الشافعي (¬4) في الأم: بلغنا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يخرج في العيدين إلى المصلى بالمدينة، وكذا من بعده إلا من عذر مطر أو نحوه، وكذا عامة أهل البلدان إلا أهل مكة ثم أشار إلى أن سبب ذلك سعة المسجد، وضيق أطراف مكة، قال: فلو عمر ¬

_ (أ) زاد في جـ: إلى العيد. وفي النسخ المضي، والبخاري المشي.

بلد، وكان مسجد أهله يسعهم في الأعياد لم أر أن يخرجوا، فإن لم يسعهم كرهت الصلاة. فيه، فكلامه يقضي بأن (أ) العلة في الخروج هو أن المطلوب عموم الاجتماع، ولذا أمر - صلى الله عليه وسلم - بإخراج العواتق وذوات الخدور، فإذا حصل في المسجد فهو أفضل، وإن لم يحصل خرج إلى الصحراء، ولذلك إن مسجد مكة لما كان واسعًا لم يخرج منه لسعته، وضيق أطراف مكة، وذهب -إلى مثل ما أشار إليه الشافعي- الإمام يحيى (¬1) وجماعة، وقالوا: الصلاة في المسجد أفضل، وذهب العترة ومالك (¬2) إلى أن الخروج إلى الجبان أفضل، وحجتهم محافظته - صلى الله عليه وسلم - على ذلك وما صلى في المسجد إلا لعذر فدل المحافظة إلى أن ذلك هو الأفضل لأنه لا يحافظ إلا على ما كان أولى، وقول عليٍّ - رضي الله عنه - فإنه روي أنه خرج إلى الجبان في يوم عيد، وقال: "لولا السُّنة لصليت في المسجد" (¬3) واسْتخْلفَ من يصلِّي بضَعَفَةِ الناس في المسجد. قالوا: فإن كان في الجبان مسجد مكشوف فهي فيه أفضل، وإن كان مسقوفًا ففيه تردد هل وافق الأفضل أم لا؟ والله أعلم. فائدة: اشتهر في السير أن أول عيد شرع في الإسلام عيد الفطر، وأنه في السنة الثانية من الهجرة، واستقراء الأحاديث والروايات يدل على أنه لم ¬

_ (أ) في هـ: أن.

يترك - صلى الله عليه وسلم - صلاةَ العيد حتى فارق الدنيا، إلا أن في حديث جابر (¬1) الطويل في ذكر أعمال حجته - صلى الله عليه وسلم - وذكر رمي جمرة العقبة ثم أتى النحر فنحر ولم يذكر الصلاة حتى جزم (¬2) الرافعي (أ) بأنه لم يصل في منى، وقد ذكر ابن حزم (¬3) أنه صلاها في حجة الوداع، واستنكر عليه ذلك. فائدة أخرى: التكبير في العيدين مشروع إجماعًا إلا عن النخعي فالتكبير في يوم الفطر، قال الناصر: إنه واجب لقوله تعالى: {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} (¬4) والأكثر على أنه سُنة (¬5)، وهو من خروج الإمام من بيته للصلاة إلى ابتداء الخطبة عند الأكثر، قال البيهقي (¬6): وقد روي من وجهين مرفوعين ضعيفين أحدهما عن ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يخرج في العيد مع الفضل بن عباس وعبد الله والعباس وعليّ وجعفر والحسن والحسين وأسامة بن زيد وزيد بن حارثة وأيمن ابن أم أيمن، رافعًا صوته بالتكبير والتهليل، فيأخذ طريق الحدادين حتى يأتي ¬

_ (أ) في جـ: الشافعي.

المصلى، وإذا فرغ رجع على الحدادين يعني يأتي منزله (¬1)، والثاني أنه كان يكبر يوم الفطر حين يخرج من بيته حتى يأتي المصلى. قال: وهذه أضعفهما (¬2)، وهذه رواها الحاكم في مستدركه وقال: (¬3) هذا حديث غريب الإسناد والمتن، غير أن الشيخين لم يحتجا بالمؤمري ولا بالبلقاوي. قال: وهذه السنة تداولها أئمة الحديث. قال: وقد صحت به الرواية عن ابن عمر (¬4) وغيره من الصحابة، وأخرج البيهقي (¬5) موقوفًا على ابن عمر أنه كان يكبر ليلة الفطر حتى يغدو إلى المصلى، وقال: ذكر الليلة فيه غريب. قال: وهذا الموقوف صحيح. وذهب الناصر (¬6) إلى أنه من مغرب أول ليلة من شوال إلى عصر يومها خلف كل صلاة، وذهب الشافعي (¬7) إلى أنه من ¬

_ (¬1) سنن البيهقي 3/ 279، وابن خزيمة 2/ 343، وقال: التكبير والتهليل في الغدو إلى المصلى في العيدين، إن صح الخبر فإن في القلب من هذا الخبر وأحسب الحمل فيه على عبد الله بن عمر العمري إن لم يكن الغلط من ابن أخي ابن وهب 2/ 343. قلت: عبد الله بن عمر العمري ضعيف، مر في 618 ح 162 وللحديث شاهد من مراسيل الزهري عند ابن أبي شيبة 2/ 164 وقد تقدم الكلام فيها 1199 ح 371. (¬2) سنن البيهقي 3/ 279 والحاكم 1/ 297 - 298، قال البيهقي بعد أن ساق إسناده: موسى بن محمد بن عطاء منكر الحديث ضعيف والوليد بن محمد المقري ضعيف لا يحتج برواية أمثالهما 3/ 279. قلت: موصى بن محمد بن عطاء الدمياطي البلقاوي المقدسي الواعظ متروك، كذبه أبو زرعة وأبو حاتم، وقال الدارقطني: وقال ابن عدي: يسرق الحديث، الميزان 4/ 219. الوليد بن محمد المؤمري أبو بشر البلغاوي ضعيف واه وليس المقري كما هو في السنن بل المُؤمِّري نسبة إلى حصن المؤمر بالبلقاء. الميزان 4/ 346، التقريب 370. (¬3) الحاكم 1/ 298. (¬4) أحكام العيدين 110، ابن أبي شيبة 2/ 164. (¬5) السنن 3/ 279. (¬6) البحر 2/ 69. (¬7) الأم 1/ 205.

الغروب إلى خروج الإمام للاشتغال بأهبة الصلاة، وعنه حتى يصلي، وعنه حتى يفرغ من الخطبة، ولا يختص فعله بتعدي فعل الصلوات، إذ لا دليل، وقيل: بل عقيب الصلوات. وصفته تكبيرات أربع (أ) يتوسطهما (ب) تهليل ثم لله الحمد والحمد لله، وفي فضائل الأوقات للبيهقي بإسناد إلى أبي عثمان النهدي قال: كان سلمان الفارسي - رضي الله عنه - يعلمنا التكبير يقول: كبروا: الله أكبر الله أكبر الله أكبر كبيرًا، أو قال: كثيرًا. اللهم أنت أعلى وأجل من أن يكون لك صاحبة، أو يكون لك ولد، أو يكون لك شريك في الملك، أو يكون لك ولي من الذل، وكبره تكبيرًا، اللهم اغفر لنا، اللهم ارحمنا. ولا فضل له على تكبير الأضحى لاستواء دليلهما، وأما تكبير عيد الأضحى، فقال بوجوبه الناصر (¬1) كذلك لقوله تعالى: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ} (¬2) وقوله تعالى: {كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} (¬3) وقال بوجوبه المنصور بالله [والمؤيد وأبو حنيفة ويرد عليهم بأن قوله تعالى: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ} إنما يدل على مطلق الذكر وهو يتحقق بأي ذكر صدر، ولكنه يحمل الأمر على الإرشاد لأنه لو كان واجبًا لبينه النبي - صلى الله عليه وسلم - وبين ما يجب منه من الكيفية والكمية كتبيين ¬

_ (أ) في جـ: يكبر أربع. (ب) في هـ: ثم يتوسطها.

سائر المجملات مما أريد به الوجوب، واختلاف المفسرين من الصحابة والتابعين في أنه المراد به الذكر العام في أي ساعة من النهار والليل أو بعد الصلوات أو بعد رمي الجمار وهو أنسب بسياق الآية وكذا قوله {وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} فإن الظاهر من التكبير ها هنا هو التعظيم والثناء ويدل عليه التعدية بعلى أي لتثنوا على ما هداكم والتفسير: تكبير التشريق لكونه مما يتحقق به الثناء، ويجاب عنه بمثل ما أجيب عن الآية الأولى ويدل على شرعية تكبير التشريق بخصوصيته بل وعلى سنيته ما توارثه المسلمون خلفًا عن سلف ووردت به الآثار عن الصحابة ولها حكم الرفع كما نسمعه الآن] (أ). وذهب الجمهور (¬1) إلى أنه سنة مؤكدة، وظاهر الآية الكريمة والآثار الواردة عن الصحابة أن ذلك لا يختص بوقت دون وقت بل عقيب الصلاة وغير ذلك من الأوقات، وفيه اختلاف بين العلماء (¬2) في مواضع فمنهم من خص التكبير على أعقاب الصلوات، وقد ذهب إلى هذا علي وابن عمر والعترة والثوري وأحمد وإسحاق وأبو يوسف ومحمد وقول للشافعي، ومنهم من خص ذلك بالصلوات المكتوبة دون النوافل، ومنهم من خصه بالرجال دون النساء وبالجماعة دون المنفرد، وبالمؤداة دون المقضية، وبالمقيم دون ¬

_ (أ) بهامش الأصل وساقط من جـ.

المسافر، وبالمصر دون القرية. وللعلماء أيضًا اختلاف في ابتدائه وانتهائه. قيل: من صبح يوم عرفة، وقيل: من ظهره، وقيل: من عصره، وقيل: من صبح يوم النحر، وقيل: من ظهره. وقيل: في الانتهاء: إلى ظهر يوم النحر، وقيل: إلى عصره، وقيل إلى ظهر ثانيه، وقيل: إلى آخر أيام التشريق، وقيل: إلى ظهره، وقيل: إلى عصره، وقد (أ) روى البيهقي الثاني في الانتهاء عن أصحاب ابن مسعود، ولم يثبت في ذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم - حديث، وأصح (ب) ما ورد عن الصحابة قول علي وابن مسعود: أنه من صبح يوم عرفة إلى آخر أيام منى. أخرجهما ابن المنذر، وأما صفته فأصح ما ورد فيه ما رواه عبد الرزاق بسند صحيح عن سلمان قال: كبروا: الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر كبيرًا، وأخرجه جعفر الفريابي في كتاب العيدين (¬1) من طريق يزيد (جـ) بن أبي زياد عن سعيد بن جبير ومجاهد وعبد الرحمن بن أبي ليلى، وقول للشافعي (¬2)، وزادوا: ولله الحمد. وقيل: يكبر ثلاثًا ويزيد: لا إله إلا الله وحده لا شريك له إلخ، وقيل: يكبر ثنتين بعدهما: لا إله إلا الله والله أكبر، ولله الحمد، جاء ذلك عن عمر وعن ¬

_ (أ) ساقطة من جـ. (ب) زاد في جـ: و. (جـ) في جـ: زياد.

ابن مسعود، وله قال أحمد (¬1) وإسحاق، وروى هذا الأخير عن ابن عباس، واختاره الهادي في الأحكام، واستحسن (¬2) بعده: والحمد لله كثيرًا، وسبحان الله بكرةً وأصيلًا، وذكر في المنتخب (¬3) واختاره أبو طالب أن يكبر أربع تكبيرات يتوسطهما (أ) تهليل، ثم لله الحمد، والحمد لله، ورواه زيد بن علي (ب عن علي ب) - رضي الله عنه -، وعن المؤيد تكبير واحد بعد التهليل، وعن أبي حنيفة (¬4) بحذف: والحمد لله. واستحسن الهادي أن يزيد: على ما هدانا وأحل لنا من بهيمة الأنعام، وزاد المؤيد: وأولانا. وقال أبو العباس: يجمع بين الاستحسانين. وروي في مهذب الشافعي (¬5) (جـ) أنه يكبر بلا فصل كفعله - صلى الله عليه وسلم - حين صعد الصفا وما زاد من ذكر فحسن، وروي أنه قال - صلى الله عليه وسلم - (¬6) بعد أن كبر ثلاثًا: "الله أكبر كبيرًا، والحمد لله كثيرًا، وسبحان الله بكرة وأصيلًا، لا إله إلا الله ولا نعبد إلا إياه، مخلصين له الدين ولو كره الكافرون، لا إله إلا الله وحده، صدق وعده، ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده، لا إله إلا الله والله أكبر". واعلم أنه ورد الأمر (جـ) بالذكر في الأيام المعلومات والمعدودات، ¬

_ (أ) في هـ: يتوسطها. (ب- ب) ساقطة من هـ. (جـ) في جـ: الأثر.

واختلف العلماء هل هما متحدان أم مختلفان؟ فروي عن ابن عباس أن الأيام المعدودات أيام التشريق، والأيام المعلومات أيام العشر، ذكره البخاري (¬1) تعليقًا، ووصله عبد بن حميد، وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس أن الأيام المعلومات التي قبل أيام التروية، ويوم التروية، ويوم عرفة، والمعدودات أيام التشريق، وإسناده صحيح (¬2)، وظاهره إدخال يوم العيد في أيام التشريق. وقد روي ابن أبي شيبة من وجه آخر عن ابن عباس أن المعلومات يوم النحر وثلاثة أيام بعده، ورجع الطحاوي هذا لقوله تعالى: {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ} (¬3) فإنها تشعر بأن المراد أيام النحر. انتهى. وهذا لا يمنع تسميته أيام العشر معلومات ولا أيام التشريق معدودات، بل تسمية أيام التشريق معدودات متفق عليه لقوله تعالى: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ} (¬4) وقد ذكر البخاري (¬5) عن أبي هريرة وابن عمر تعليقًا أنهما كانا يخرجان إلي السوق في أيام العشر يكبران ويكبر الناس بتكبيرهما، وذكره البيهقي والبغوي (¬6) كذلك. قال الطحاوي: كان مشايخنا يقولون بذلك، أي التكبير في أيام العشر. عدة (أ) أحاديث العيد ستة عشر حديثًا ورواية معلقة. ¬

_ (أ) زاد في جـ.

باب صلاة الكسوف

باب صلاة الكسوف 379 - عن المُغيرة بن شُعْبة - رضي الله عنه - قال: انكسفت الشمسُ على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم مات (أ) إبراهيم، فقال الناس: انْكسفْت الشمس لموت إبراهيم، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن الشمس والقمرَ آيتانِ من آيات الله لَا تنْكسفان لموتِ أحدٍ ولا لحياتِه، فإِذا رأيْتُمُوهُما فادْعوا اللهَ، وصلّوا حتى تَنكَشِف". متفق عليه (¬1). وفي رواية للبخاري (¬2): "تنجلي"، وللبخاري من حديث أبي بكرة (¬3): "فصلوا وادعوا حتى ينكشف ما بكم". قوله: "انكسفت الشمس": (ب يقال: انكسفت ب) وكسفت بفتح الكاف والسين (جـ) وبضم الكاف (د وكسر السين د) نادر وخسفت بفتح الخاء وضمها (هـ وكسر السين هـ) أيضًا وانخسفت (¬4). واختلف العلماء في أن ¬

_ (أ) في جـ: موت. (ب، جـ، د، هـ) ساقطة من جـ.

اللفظين يستعملان جميعًا في الشمس و (أ) القمر أو لا، فقال البخاري (¬1): باب هل يقول كسفت الشمس أو خسفت؟ وقال الله تعالى: {وَخَسَفَ الْقَمَرُ (8)} (¬2) (ب) هذه لفظه فظاهره (جـ) التردد في ذلك في حق الشمس والجزم في حق القمر بالخسوف، والأحاديث التي أوردها في الباب بإطلاق لفظ الكسوف في الشمس على انفراد نسبته إليها، ولفظ خسفت أيضًا إليها (د) في حديث ابن عمر (¬3): "خسفت الشمس" يدل دلالة واضحة على استعمال الكسوف والخسوف في حق الشمس، والخسوف في حق القمر واستعمالهما مقرونًا بينهما في حق الشمس والقمر في قوله: "ينكسفان وينخسفان"، وأما ورود الكسوف منسوبًا إلى القمر على جهة الانفراد فلم أره في شيء من الأحاديث وقد أخرج سعيد بن منصور عن ابن عيينة عن الزهري عن عروة موقوفًا: "لا تقولوا كسفت (هـ) الشمس ¬

_ (أ) في جـ: أو. (ب) زاد في جـ: و. (جـ) في هـ: وظاهره. (د) في جـ: لها. (هـ) في هـ: خسفت.

ولكن قولوا: (حسنت) (أ). وأخرجه أيضًا مسلم (¬1) عن يحيى بن يحيى عنه، ولكنه معارض بما ثبت في الروايات الصحيحة من قوله: "ينخسفان"، والمشهور في استعمال الفقهاء الكسوف للشمس والخسوف للقمر، واختاره ثعلب، وذكر الجوهري أنه (¬2) أفصح، وقيل: يتعين ذلك، وحكى عياض (¬3) عن بعضهم عكسه، وغلط لثبوته في القمر في القرآن، وقيل: يقال بهما في كل منهما، وبه جاءت الأحاديث. ولا شك أن مدلول الكسوف لغة غير مدلول الخسوف فإن الكسوف التغير إلى سواد والخسوف النقصان أو الذل، فإذا قيل: في الشمس كسفت أو خسفت، فقد حصل فيها التغيير والنقصان وكذلك الخسوف فيستقيم ذلك المعنى في حق الشمس والقمر ولا يلزم من صحة الاستعمال لملاحظة المعنى الترادف، وقيل: بالكاف في الابتداء وبالخاء في الانتهاء وقيل: بالكاف لذهاب جميع الضوء، وبالخاء لبعضه، وقيل: بالخاء لذهاب كل اللون وبالكاف (لتغيره) (ب) (¬4). وقوله: "يوم مات إبراهيم"، يعني ابن النبي - صلى الله عليه وسلم -. ذكر جمهور أهل ¬

_ (أ) في النسخ: انخسفت، وهو تصحيف والمثبت هو الصحيح. (ب) في الأصل: لتغييره.

السير (¬1) أنه مات في السنة العاشرة من الهجرة، قال أبو داود: في (أربيع الأول يوم الثلاثاء لعشر خلون منه، وقيل: في أ) رمضان، وقيل: في ذي الحجة، والأكثر أن وفاته في عاشر الشهر، وقيل: في رابعه، وقيل في رابع عشرة (¬2) ولا يصح كونه في ذي الحجة في (ب) السنة العاشرة (جـ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذ ذاك بمكة وقد ثبت أنه شهد وفاته، وكانت جـ) بالمدينة بلا ¬

_ (أ- أ) ساقطة من هـ. (ب) في جـ: من. (جـ-جـ) ساقط من هـ.

خلاف، ثم قيل: إنه مات سنة سبع. فإن ثبت صح ذلك وقد اعترض أيضًا بأنه في سنة تسع كان بالحديبية، وأجيب بأنه رجع منها في آخر ذي القعدة فلعلها كانت في أواخر الشهر، وتوفي وهو في ستة عشر شهر وثمانية أيام، وقيل: سنة وعشرة أشهر وستة أيام وحمل على سرير صغير (أ) وصلى عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - بالبقيع وقال: "ندفنه عند سلفنا عثمان بن مظعون" (¬1)، وروي عن عائشة - رضي الله عنه -: "أنه دفنه (ب ولم يصل عليه" فيحمل أنه ب) لم يصل عليه في جماعة بل صلى عليه وحده، وأمر أصحابه أن يصلوا عليه، وروى (جـ) أن الذي غسله أبو بردة [وروى الفضل بن عباس: ونزل قبره أسامة بن زيد والفضل، والنبي - صلى الله عليه وسلم - واقف على شفير القبر، ورش (¬2) قبره، وعُلِّم بعلامة، وهو (¬3) أول قبر يرش] (¬4) وأخرج ابن ماجه عن ابن عباس: لما مات إبراهيم ابن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه صلى عليه وقال: "إن له مرضعًا في الجنة، ولو عاش لكان صديقا نبيا، ولو عاش لأعتقت أخواله من القبط، وما استرق قبطي" (¬5)، وفي سنده أبو شيبة إبراهيم بن ¬

_ (أ) في جـ: صغيرة. (ب- ب) ساقطة من هـ. (جـ) في جـ: ويروى.

عثمان الواسطي (¬1)، وهو ضعيف، قال: "وكان إبراهيم قد ملأ المهد ولو بقي لكان نبيًّا (¬2) وأخرج البخاري من حديث عبد الله بن أبي أوفى: "ولو قضي بعد محمد بنبي (أ) عاش ابنه إبراهيم ولكن لا نبي بعده" (¬3) وأخرج أحمد (¬4) عنه نحوه، وأخرج الطبراني (¬5) عن أنس نحوه، وقد أنكر النووي (¬6) في تهذيب الأسماء واللغات هذه الجملة الشرطية، وكذا ابن عبد البر (¬7) من حيث تجويز نبوته بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - لأن ذلك يلزم منه أن لا يكون خاتم النبيين، ولا يلزم ما ذكر إذ المحذور إنما هو تجويز كون الشيء واقعًا متحققًا في (نفس) (ب) الأمر، لا فرض الوقوع، والفرق واضح. وقولهم: انكسفت لموت إبراهيم. وذلك لأنه لما كان كسوفها (في العاشر أو في الرابع كما تقدم وكذا يوم قتل الحسين بن علي - رضي الله عنهما - فإنه كما رواه البيهقي (¬8) في يوم (جـ) عاشوراء وكسفت الشمس حتى بدت الكواكب نصف النهار، وهذا) (د) مخالف لا تقررت عليه قاعدة ¬

_ (أ) في هـ: نبي. (ب) في الأصل: النفس. (جـ) ساقطة من جـ. (د) بهامش الأصل.

ذلك عند علماء الهيئة، فإنهم يزعمون أن ذلك لا يكاد يتفق لعدم حصول الأسباب المفضية (أ) إلى كسوفهما عندهم فقالوا: إنما ذلك لأجل هذا (ب) الفادح العظيم، فرد عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - فقوله (ب): "إنهما آيتان"، أي علامتان من العلامات الدالة على وحدانية الله تعالى وقدرته أو على تخويف العباد من بأسه وسطوته، ويؤيده قوله تعالى: {وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إلا تَخْوِيفًا} (¬1) وقوله في رواية: "يخوف الله بهما عباده". وقوله: "ولا لحياته"، فائدته الاحتراس عن توهم من يتوهم أنه إذا لم يكن ذلك سببًا في العدم فيجوز أن يكون سببًا للوجود (د) فعمم الأمرين جميعًا. وقوله: "فإِذا رأيتموهما" بصيغة التثنية في رواية الكشميهني (¬2) للبخاري، وفي رواية الأكثر بصيغة ضمير المؤنث المفرد، فعلى التثنية أي كسوف كل واحد منهما في وقته لاستحالة الاجتماع عادة، وإن جاز ذلك بالنظر إلى القدرة الإلهية وعلى رواية الإفراد أي الآية، وقد وقع في رواية ابن المنذر (¬3): "حتى ينجلي كسوف أيهما انكسف" وهو أصرح. وقوله: "فادعوا الله وصلوا حتى ينكشف"، في الأمر دلالة على ¬

_ (أ) في جـ: المقتضية. (ب) ساقطة من هـ. (جـ) في هـ: بقوله. (د) في جـ: في الوجود.

مشروعية ذلك، وهو مجمع عليه والأمر محمول عند الجمهور على الندب المؤكد، فهي سنة مؤكدة (¬1) عندهم، ولعل القرينة على ذلك ما تقدم مرارًا من حديث: "خمس كتبهن الله" (¬2)، وغير ذلك مما فيه دلالة على حصر الواجبات، فما عداها محمول الأمر على الندب، وصرح أبو عوانة (¬3) في صحيحه بوجوبها، وحكى أيضًا عن مالك أنه أجراها مجرى الجمعة، ونقل الزين بن المنير عن أبي حنيفة أنه أوجبها وكذا نقل بعض مصنفي الحنفية (¬4) أنها واجبة. وقوله: "حتى ينكشف ما بكم" فيه دلالة على استغراق ذلك الوقت جميعه بالصلاة والدعاء (أ)، وأنه تفوت الصلاة بالانجلاء، فعلى هذا إذا انجلت وهو في الصلاة لم يتمها بل يقتصر على ما قد فعل، وفي رواية لمسلم (¬5) "فسلم (ب)، وقد انجلت" فدل على أنه يصح التمام للصلاة، وإن كان قد حصل الانجلاء، ويتأيد هذا بالقياس على سائر الصلوات، فإنه يصح تقييدها بركعة كما تقدم، فإذا قد (جـ) فعل ركعة منها أتمها والله أعلم. [وفي الحديث دلالة على أن فعلها يتقيد بحصول السبب في أي وقت ¬

_ (أ) في جـ: وللدعاء. (ب) في جـ: يسلم. (جـ) ساقطة من هـ

كان من أوقات النهار وذهب إلى هذا الجمهور (¬1)، واستثنى الحنفية أوقات الكراهة، وهو المشهور من مذهب أحمد (¬2) وعن المالكية (¬3) من الوقت الذي تحل فيه النافلة إلى الزوال، وفي رواية إلى صلاة العصر. قال المصنف (¬4) -رحمه الله- ولم أقف على شيء من الطرق أنه - صلى الله عليه وسلم - صلاها وقت الضحى، ولكن ذلك وقع اتفاقًا، فلا يدل على منع ما عداه، واتفقت جميع الروايات إلى أنه - صلى الله عليه وسلم - بادر إليها عقيب وقوع السبب (أ)] ومعنى الرواية الأخرى (ب) للبخاري ظاهر بما ذكرناه (جـ). 380 - وعن عائشة - رضي الله عنها - أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "جهر في صلاة الكسوف بقراءته، فصلَّى أربع ركعات في ركعتين وأربع سجدات" (¬5) متفق عليه (د وهذا لفظ مسلم د). ¬

_ (أ) بهامش الأصل. (ب) ساقطة من هـ. (جـ) في هـ: مما ذكرنا (د- د) ساقط من جـ.

وفي رواية له: "فبعث مناديًا ينادي: الصلاة جامعةً" (¬1). قوله: "جهر في صلاة الكسوف"، فيه دلالة على شرعية الجهر في الكسوف، وهذا يحتمل (أ) أن يكون في القمر أو في الشمس، إلا أنه لم يرد لفظ الكسوف مسندًا إلى القمر على جهة الخصوص، فهو متبادر إلى كسوف الشمس، إلا أن لفظ هذا الحديث في البخاري: "جهر النبي - صلى الله عليه وسلم - في صلاة الخسوف بقراءته، ثم قالت في آخره: ثم يعاود القراءة في صلاة الكسوف" (¬2) فجمع في هذا اللفظ بين لفظ الخسوف والكسوف ولكنه مصرح بإسناده إلى الشمس في رواية الأوزاعي (¬3) وغيره ولفظه: "إن الشمس خسفت على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ". . الحديث، ولكنه لم يذكر فيه الجهر بالقراءة، وقد أخرج أحمد (¬4) الحديث بلفظ "خسفت الشمس"، وقال: "ثم قرأ فجهر بالقراءة". الحديث وكذا في مسند أبي داود الطيالسي (¬5): "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جهر بالقراءة في صلاة الكسوف"، وقد أخرج الجهر أيضًا الترمذي والطحاوي والدارقطني (¬6) وهي طرق يقوي بعضها بعضًا، فيفيد مجموعها الجزم بذلك، وقد ورد الجهر فيها عن ¬

_ (أ) في جـ: يحمل.

علي - رضي الله عنه - مرفوعًا. أخرجه ابن خزيمة (¬1) وغيره، وقد اختلف العلماء في الجهر والإسرار فيهما، فذهب الهادي (¬2) ومالك إلى أنه يخير المصلي بين الجهر والإسرار، قالوا: لثبوت الأمرين عنه - صلى الله عليه وسلم - فأما الجهر فالحديث (أ) عن عائشة وغيرها، وأما الإسرار فلحديث ابن عباس (¬3)، "قام قيامًا طويلًا نحوًا من سورة البقرة" فلو جهر بالقراءة لم يقدره بما ذكر، والاعتراض على ذلك باحتمال أنه كان بعيدًا مدفوع بما رواه الشافعي (¬4) تعليقًا عن ابن عباس أنه صلى بجنب النبي - صلى الله عليه وسلم - في الكسوف فلم يسمع منه حرفًا، ووصله البيهقي (¬5) من ثلاث طرق أسانيدها واهية وكذلك حديث سمرة عند ابن خزيمة، والترمذي (¬6) "ولم يسمع له ¬

_ (أ) في هـ: فلحديث.

صوتًا، وذهب الأئمة الثلاثة إلى أنه يسر في الشمس (¬1)، ويجهر في القمر، وهو متأيد بالقياس على الصلوات الخمس وما تقدم من الدلالة يرد عليهم وذهب صاحبا أبي حنيفة وأحمد وإسحاق وابن خزيمة وابن المنذر وغيرهما (أ) من محدثي الشافعية وابن العربي من المالكية إلى الجهر فيهما جميعًا وهو متأيد بالقياس على الجمعة والعيدين إذ هي صلاة مشروع فيها الجماعة والخطبة والجواب عنهم بما تقدم في المذهب الثاني. وقوله: "فصلى أربع ركعات في ركعتين وأربع سجدات"، يعني أنه ركع في كل ركعة ركوعين، فيه دلالة على الصفة المذكورة، وقد ذهب إليه ابن عباس وعثمان والشافعي وأحمد ومالك، وسيأتي تمام ذكر المذاهب. وقوله: "وبعث مناديًا" فيه دلالة على شرعية الإعلام للاجتماع لها. وقوله: "الصلاةَ جامعةً" بالنصب فالصلاة (ب) مفعولية فعل محذوف أي احضروا الصلاة، وجامعة على الحال، ويجوز رفعها على أن الصلاة ¬

_ (أ) في جـ: وغيرهم. (ب) في هـ: في الصلاة.

مبتدأ وجامعة خبر، أي ذات جماعة، أو أن الإسناد إليها مجاز عقلي، لما كانت سببًا للجمع فنسب (أ) إليها، ويجوز رفع جامعة على الوضعية لكون اللام في الصلاة للجنس، والخبر محذوف أي احضروها، ويجوز أيضًا نصب جامعة على الحال، والخبر مقدر. 381 - وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: "انْخَسَفت الشمسُ على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فصلَّى فقام قيامًا طويلًا نحوًا من قراءة سورة البقرة، ثم ركع ركوعًا طويلًا، ثم رفع فقام قيامًا طويلًا، وهو دون القيام الأول، ثم ركع ركوعًا طويلًا وهو دون الركوع الأول، ثم سجد ثم قام قياما طويلا، وهو دون القيام الأول، ثم ركع ركوعا طويلا وهو دون الركوع الأول، ثم رفع فقام قيامًا طويلًا، وهو دون القيام الأول، ثم ركع ركوعًا طويلًا وهو دون الركوع الأول، ثم سجد ثم انصرف، وقد تجلت الشمس فخطب الناس". متفق عليه (¬1) واللفظ للبخاري. ¬

_ (أ) في جـ: نسب.

وفي رواية لمسلم (¬1): "صلى حين كسفت الشمس ثماني ركعات (أ) في أربع سجدات". [وعن علي -رضي الله عنه- مثل ذلك. وله عن جابر: "صلى ست ركعات (ب) بأربع سجدات" (¬2). ولأبي داود عن أبي بن كعب - رضي الله عنه -: "صلَّى فركع خمس ركعات وسجد سجدتين وفعل في الثانية مثل ذلك] (جـ) (¬3). قوله: "فصلّى": ظاهر الفاء التعقيب من دون تراخ وأنها وقعت الصلاة عقيب الانخساف واستدل بهذا السياق بعضهم على أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يحافظ على الوضوء ولذا وقع منه الصلاة عقيب الانخساف، وهو غير ¬

_ (أ، ب) في جـ: لاكوعات. وهو تصحيف. (جـ) بهامش الأصل.

مستقيم، فإن (أ) في رواية ابن عباس (¬1) لهذا الحديث: "أنها خسفت فخرج إلى المسجد فصف الناس" وهذا يدل على أن في السياق الأول حذفًا، وهو صريح في التراخي، فيجوز أن يكون توضأ بعد الانْخساف في بيته ثم خرج. وقوله: "نحوًا من قراءة سورة البقرة"، فيه دلالة على أنه أسر بالقراءة كما تقدم. وقوله: "ركوعًا طويلًا"، فيه دلالة على شرعية ذلك. قال المصنف (¬2) -رحمه الله تعالى-: لم أر في شيء من الطرق بيان ما قال فيه، إلا أن العلماء اتفقوا على أنه لا قراءة فيه وإنما المشروع فيه الذكر من تسبيح وتكبير ونحوهما. وقوله: "وهو دون الركوع الأول ثم سجد"، فيه دلالة على أن القيام الذي يعقبه السجود لا تطويل فيه، وقد وقع في رواية مسلم (¬3) لحديث جابر: "أنه أطال ذلك"، ولكنه قال النووي (¬4): إنها رواية شاذة تفرد بها أبو الزبير مخالفة، فلا يعمل بها، ونقل القاضي (¬5) إجماع العلماء أنه لا يطول الاعتدال الذي يلي السجود، وقد تؤول هذه الرواية بأنه أراد بالإطالة هو زيادة الطمأنينة لا الإطالة التي تقرب من الإطالة فيما قبله (¬6)، ¬

_ (أ) في جـ: لأن.

وقوله: "ثم سجد"، لم (أ) يذكر في هذه الرواية طول السجود وقد استدل به بعض المالكية على عدم إطالته، وأن الذي شرع فيه التطويل إنما هو ما شرع تكريره، وهو قياس في مقابلة النص وبعضهم ناسب ذلك بأن القيام والركوع مع إطالتهما يمكن المصلي تعرف حال الشمس من الانْخساف والانجلاء، وأما السجود فلا يمكن معه ذلك فلا تشرع فيه الإطالة، وأيضًا فإن في السجود تسترخي الأعضاء فيؤدي إلى النوم، وهذا مردود بثبوت الأحاديث الصحيحة بتطويله، فقد أورده (¬1) مسلم والبخاري (ب (عن أَبي موسى وعبد الله بن عمرو، ومسلم من حديث جابر، وقد ذكره الشافعي فيما حكاه عنه الترمذي (¬2) وكذا في كتاب البويطي، وأخرجه أبو داود والنسائي (¬3) من حديث سمرة: "كأطول ما سجدنا في صلاة قط"، وفي رواية مسلم (¬4) لحديث جابر بلفظ: "وسجوده نحو من ركوعه". وقد ¬

_ (أ) في جـ: فلم. (ب) في هـ: بالتقديم والتأخير.

ذهب إلى هذا أحمد وإسحاق (¬1) وأحد قولي الشافعي، وبه جزم أهل (¬2) العلم بالحديث من أصحابه، واختاره ابن سريج ثم النووي (¬3)، وتعقب صاحب المهذب في قوله: إنه لم ينقل في خبر ولم يقل به الشافعي، ورد عليه في الأمرين، وأن الشافعي نص عليه في البويطي، ولفظه: "ثم سجد سجدتين طويلتين يقيم في كل سجدة نحوًا مما قام في ركوعه" (¬4)، ووقع في رواية مسلم لحديث جابر "إطالة الاعتدال بين السجودين" (¬5) وقد أخرجه أبو داود والنسائي (¬6) وإسناده صحيح، لأنه من رواية شعبة (¬7) عن ¬

_ (¬1) المغني 2/ 422. (¬2) نقل النووي أنه لا يطول وحكى ترجيحه لجماهير الأصحاب. المجموع 5/ 55. (¬3) المجموع 5/ 55. (¬4) اللفظ في المجموع "سجدتين تامتين طويلتين" 5/ 55. (¬5) كلام الشارح تطويل الاعتدال ببن السجودين وليس هذا المراد الذي أراد ابن حجر وتشهد له رواية مسلم، فإن ابن حجر قال: وقع في حديث جابر الذي أشرت إليه عند مسلم تطويل الاعتدال الذي يليه السجود ولفظه: "ثم ركع فأطال ثم رفع فأطال ثم سجد" فالمراد تطويل القيام بعد الركوع حينما يريد أن يهوي إلى السجود، وتبع الصنعاني المغربي في هذا. الفتح 2/ 539، السبل 2/ 133، مسلم 2/ 622 ح 9 - 904. (¬6) كلام ابن حجر: إن النسائي وابن خزيمة خرجا حديث عبد الله بن عمرو وليس تخريجًا لحديث جابر، والشارح وَهِمَ في النقل في ذلك فخلط بين مسألتين: 1) تطويل القيام بعد الركوع وقبل الانحدار إلى السجود. 2) والمسألة الثانية تطويل الجلوس بين السجدتين وابن حجر فصلها في ذلك حيث قال: تنبيه واقع في الحديث الذي أشرت إليه عند مسلم تطويل الاعتدال الذي يليه السجود ولفظه: "ثم ركع فأطال، ثم رفع فأطال ثم سجد" وقال النووي: هي رواية شاذة مخالفة فلا يحمل بها أو المراد زيادة الطمأنينة في الاعتدال لا إطالته نحو الركوع، وتعقب بما رواه النسائي وابن خزيمة وغيرهما من حديث عبد الله بن عمرو أيضًا ففيه "ثم ركع فأطال حتى قيل: لا يرفع ثم رفع فأطال حتى قيل: لا يسجد ثم سجد فأطال حتى قيل: لا يرفع ثم رفع فجلس فأطال الجلوس حتى قيل: لا يسجد ثم سجد" على لفظ ابن خزيمة من طريق الثوري عن عطاء بن السائب عن أبيه عنه والثوري سمع من عطاء قبل الاختلاط فالحديث صحيح ولم أقف على شيء من الطرق على تطويل الجلوس بين السجدتين إلا في هذا. الفتح 2/ 539. (¬7) عند ابن خزيمة: الثوري، وليس شعبة وهما من طبقة واحدة وسمعهما من عطاء قبل =

عطاء بن السائب، وقد سمع منه قبل الاختلاط، قال المصنف (أ) رحمه الله: و (ب) لم أقف على تطويل الجلوس بين السجدتين في شيء من الطرق إلا في هذا، ونقل الغزالي (¬1) الاتفاق على عدم إطالته، وهو مردود بما عرفت. وقوله: "ثم قام قيامًا طويلًا" إلخ، فيه دلالة على إطالة القيام في الركعة الثانية، ولكنه دون القيام في الركعة الأولى، وقد ورد في رواية أبي داود (¬2) عن عروة أنه نحو من آل عمران، وهذا يدل على أن القيام الأول في الركعة الثانية هو دون القيام الأول في الركعة الأولى، وقال ابن بطال: (¬3) لا خلاف أن الركعة الأولى بقيامها وركوعها تكون أطول من الركعة الثانية بقيامها وركوعها، وقال النووي (¬4): اتفقوا على أن القيام الثاني وركوعه أقصر من القيام الأول وركوعه، واختلفوا في القيام الأول من الثانية وركوعه هل هما أقصر من القيام الثاني من الأولى وركوعه أو يكونان (جـ) سواء، قيل: وسبب هذا (د) الخلاف فهم معنى قوله: "وهو دون القيام الأول"، هل المراد به الأول من الثانية؟ أو يرجع إلى الجميع ¬

_ (أ) زاد في هـ: في التلخيص. (ب) الواو ساقطة من هـ. (جـ) في هـ: أو يكونا. (د) في هـ: هذه.

فيكون كل قيام دون الذي قبله. وقوله: "ثم انصرف": أي من الصلاة، "وقد تجلت الشمس" وفي رواية ابن شهاب (¬1): "وانجلت الشمس قبل أن ينصرف"، وللنسائي (¬2): "ثم تشهد وسلم فخطب الناس .. " وقوله: "فخطب الناس" فيه دلالة على شرعية الخطبة، وقد ذهب إلى استحباب الخطبة: الشافعي (¬3) وإسحاق وأكثر أصحاب الحديث، قال ابن قدامة (¬4): لم يبلغنا عن أحمد ذلك. وقال صاحب الهداية (¬5) من الحنفية: ليس في الكسوف خطبة لأنه (أ) لم ينقل، وتعقب بأن الأحاديث مصرحة بالخطبة، والمشهور عند المالكية (¬6) أنه لا خطبة، مع أن مالكًا (¬7) روى الحديث، وفيه ذكر الخطبة، وتأوله بعضهم بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يقصد بها الخطبة بخصوصها وإنما على من اعتقد أن الكسوف يكون بسبب موت أحد، وتعقب هذا بأن في رواية البخاري (¬8): "فحمد الله وأثنى عليه"، وفي رواية (¬9) زيادة: "وشهد أنه ¬

_ (أ) ساقطة من جـ.

عبده ورسوله" وفي سياق البخاري (¬1) زيادة: "لذكر أحوال الجنة والنار وغير ذلك"، وهذه من مقاصد الخطبة، وبعضهم قال: إنه لم يرد أنه صعد المنبر فدل على عدم الخطبة، ويجاب عنه بأن المنبر ليس بشرط، وأيضًا فعدم الذكر لا يدل على عدم الكون. وقوله في رواية مسلم: "ثماني ركعات (أ) في أربع سجدات"، فيه دلالة على أن الركوع أربعة في كل ركعة، وقد ذهب إلى هذا (¬2). وقوله في رواية جابر: "ستة ركوعات بأربع سجدات"، فيه دلالة على أن الركوع ثلاثة في كل ركعة، وقد ذهب إلى هذا (حذيفة، كذا في البحر (¬3)) (ب). وقوله في رواية أُبَيّ بن كعب: "فركع خمس ركعات" إلخ، فيه دلالة على أن الركوع خمسة في كل ركعة وقد ذهب إلى هذا جماعة أهل البيت (¬4) ما عدا الباقر. قال في اللمع: لا يختلفون في هذه الصفة، وقد روي من حديث سمرة والنعمان بن بشير وعبد الله بن عمرو: "أنه - صلى الله عليه وسلم - ¬

_ (أ) في جـ: ركوعات. (ب) في هامش الأصل.

صلاها ركعتين كل ركعة بركوع" (¬1)، وفي حديث قبيصة الهلالي (¬2) عنه - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا رأيتم ذلك فصلوها كأحدث صلاة صليتموها من المكتوبة". وروى هذه الأحاديث أحمد والنسائي، وعن الحسن البصري (¬3) قال: خسف القمر وابن عباس أمير على البصرة، فخرج فصلى بنا ركعتين، في كل ركعة ركعتين (أ) ثم ركع، وقال: إنما صليت كما رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي. رواه الشافعي في مسنده، وهو مروي أيضًا عن ابن ¬

_ (أ) في جـ: ركوعين.

الزبير: أنه صلى كصلاة الفجر، فقيل لعروة بن الزبير: إن أخاك يوم كسفت الشمس بالمدينة لم يزد على ركعتين مثل (أ) الصبح، قال: أجل لأنه أخطأ السنة (¬1). وقد ذهب إلى هذا أبو حنيفة (¬2) والثوري والنخعي، ورواه في شرح الإبانة عن الباقر قال ابن عبد البر: أصح ما في هذا الباب رواية ركوعين في كل ركعة. قال: وما عدا هذا معلل ضعيف. وقد حاول جماعة الجمع بين هذه الروايات المختلفة فقالوا: وقع من النبي - صلى الله عليه وسلم - جميع ذلك باعتبار اختلاف حال الكسوف في سرعة الانجلاء وبطئه وتوسطه، واعترض بأن هذا (ب) لا يعلم في أول الحال، ولا في الركعة الأولى، وقد اتفقت الروايات أن عدد الركوع في الركعتين سواء، وهذا يدل على أنه مقصود في نفسه من أول الأمر، وقال جماعة من العلماء منهم إسحاق بن راهويه وابن جرير وابن المنذر: أن فعله لجميع ذلك يدل على توسعة الأمر وبيان الجواز لذلك وهذا أقرب (¬3) والله أعلم. 382 - وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: "ما هبت ريح قط إِلا جثا النبي - صلى الله عليه وسلم - على ركبتيه، وقال: اللهم اجْعلها رحمة ولا تجعلها عذابًا". رواه الشافعي والطبراني (¬4). ¬

_ (أ) في هـ: قبل. (ب) ساقطة من هـ.

وعنه: "أنه صلى في زلزلة ست ركعات (أ) وأربع سجدات، وقال: هكذا صلاة الآيات". رواه البيهقي (¬1). وذكر الشافعي عن علي - رضي الله عنه - مثله دون آخره. أخرج الشافعي الأول في "الأم" قال: أخبرني من لا أتهم عن العلاء بن راشد (¬2) عن عكرمة عنه به، والطبرانى وأبو يعلى من طريق حسين بن قيس عن عكرمة. والثاني: أخرجه البيهقي من طريق عبد الله بن الحارث عنه: أنه (ب) في زلزلة بالبصرة فأطال، فذكره إلى أن قال: فصارت صلاته ست ركعات (جـ) وأربع سجدات ثم قال هكذا صلاة الآيات، لرواه ابن أبي شيبة (¬3) مختصرًا من هذا الوجه أن ابن عباس صلى بهم في زلزلة كانت أربع سجدات ركع فيها ستا. وقوله: وذكر الشافعي إلخ (د) أخرجه البيهقي في السنن والمعرفة بسنده إلى الشافعي فيما بلغه عن عباد عن (هـ) عاصم الأحول عن قزعة عن علي - رضي الله عنه - أنه صلى في زلزلة ست ركعات في أربع سجدات ¬

_ (أ) في جـ: ركوعات. (ب) زاد في جـ: - صلى الله عليه وسلم -. وفي هـ: صلى. (جـ) في جـ: ركوعات. (د) أوردها المؤلف قبل جملة: "دون آخره .. " وأشار إلى تقدمها. (هـ) في جـ: بن.

خمس ركعات (أ) وسجدتين في الركعة (ب) الأولى، وركعة (جـ) وسجدتين في الركعة (د) الثانية، قال الشافعي: ولو ثبت هذا عن علي لقلت به، وهم يثبتونه ولا يأخذون به. وقول: دون آخره، وهو قوله: "وقال: هكذا صلاة الآيات". قوله: "ما هبت ريح قط"، الريح: اسم جنس صادق على ما يأتي بالرحمة، وما يأتي بالعذاب، وقد ورد هذا مصرحًا به في حديث أبي هريرة مرفوعًا: "الريح من روح الله تأتي بالرحمة وبالعذاب، فلا تسبوها" (¬1)، ويجمع على رياح في الكثرة، وقد يرد على هذا أن في تمام حديث ابن عباس: "اللهم اجعلها رياحًا ولا تجعلها ريحًا"، وهو يدل على المغايرة وأن الريح المفرد يختص بالعذاب، والجمع بالرحمة، قال ابن عباس (¬2): في كتاب الله تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا} (¬3)، و {أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ (هـ)} (¬4)، {وَأَرْسَلْنَا ¬

_ (أ) في جـ: ركوعات. (ب) في جـ: ركعة. (جـ) في جـ: وركوع. (د) في جـ: ركعة. (هـ) زاد في هـ: ما تذر.

الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ} (¬1) وأرسلنا {الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ} (¬2)، رواه الشافعي والبيهقي في الدعوات الكبير (أ)، وقد أجيب عن ذلك بأن المعنى لا تهلكنا بهذه الريح، فإنهم لو أهلكوا بهذه الريح لم تهب بعدها عليهم ريح أخرى فتكون ريحًا لا رياح، وقيل: لأنه يلقح السحاب الرياح الكثيرة فيكثر مطرها، وأما لو كانت واحدة فلا تلقح، ولا تنزل المطر أو ينزل قليلًا وقوله: "قط" مبني على الضم: ظرف زمان ماض يقع بعد النفي كثيرًا. وقوله: "إِلا جثا" الجثي (ب): القعود على الركبتين (¬3) وهي قعدة مخافة لا يفعلها المطمئن (جـ) بالقعود بحسب الأغلب وهو جملة حالية واقعة بعد الاستغناء بها عن الواو وعن قد لتضمنها معنى الجزاء لما قبلها للزومها لما قبلها أي إن هبت ريح جثا. وقوله: "أنه صلى" إلخ، فيه دلالة على شرعية الصلاة والتجميع بها أيضًا لأن الظاهر من اللفظ أنه صلى بهم، وقد ذهب إلى هذا القاسم فقال: يصلي للإفزاع كصلاة الكسوف قياسًا على الكسوف في الفزع، وإن شاء المصلي فركعتان ووافق (د) على ذلك أحمد بن حنبل (¬4) وأبو ثور، ولكن كالكسوف فقط، وذهب الشافعي (¬5) وتبعه الإمام يحيى إلى أنه لا ¬

_ (أ) في جـ: الكثيرة. (ب) في جـ: الجثو. (جـ) في هـ: المطمئنين. (د) في جـ: وأوفق.

يشرع فيها التجميع، وحجته ما مر من عدم الصحة، ولو صح له لقال له به، وأما صلاة المنفرد فحسن، قال الشافعي: وإنما تركنا ذلك لأنه - صلى الله عليه وسلم - لم يأمر بالتجميع في الصلاة إلا في الكسوفين، ولأن عمر (¬1) لم يأمر بالصلاة عند وقوع ذلك، انتهى. وقد روى أبو داود عن ابن عباس مرفوعًا: "إذا رأيتم آية فاسجدوا" (¬2)، وقوله: "فاسجدوا" يحتمل أنه أراد السجود الفرد (أ) أو عبر به عن صلوا (ب). واعلم أن هذا الوارد في هذه الصلوات (جـ) لم يرو (د) مثله في صلاة الكسوف عن أحد فإن جميع ما تقدم في الكسوف أن الركوع في الركعتين على سواء. والله أعلم. [عدة (هـ) أحاديث هذا الباب ثلاثة عشر حديثًا] (و). ¬

_ (أ) في جـ: المفرد. (ب) في جـ: صلاة. (جـ) في جـ: الصلاة. (د) في جـ: يرد. (هـ) في جـ: عدد. (و) بهامش الأصل.

باب صلاة الاستسقاء

باب صلاة الاستسقاء [الاستسقاء مصدر وهو طلب سقي الماء من الغير للنفس أو للغير، وشرعًا (¬1) طلبه من الله تعالى عند حصول الجدب على وجه مخصوص. وله أنواع أدناها مجرد الدعاء وأوسطها الدعاء خلف الصلوات وفي خطبة الجمعة وأفضلها الاستسقاء بصلاة ركعتين] (أ). 383 - وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: "خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - متواضعًا مبتذلا متخشعًا مترسلًا متضرعًا، فصلى ركعتين كما يصلي في العيد ولم يخطب خطبكم (ب) هذه" (¬2). رواه الخمسة وصححه الترمذي وأبو عوانة وابن حبان، وأخرجه أيضًا الحاكم، والدارقطني، والبيهقي، كلهم من حديث هشام بن إسحاق بن كنانة عن أبيه (¬3) عن ابن عباس وبعضهم يزيد على بعض. ¬

_ (أ) بهامش الأصل، وساقط من جـ من قوله: "وله أنواع". (ب) في جـ: خطبتكم وهي في بعض روايات الحديث.

قوله: "خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - "، أي إلى المصلى. وقوله: "مبتذلًا"، أي لابسًا ثياب البذلة والمراد به ترك الزينة والتهيوء بالهيئة الحسنة على وجه التواضع. وقوله: "مترسلًا"، أي متأنيًا، يقال (أ): ترسل الرجل في كلامه ومشيته، إذا لم يعجل. والتضرع، إظهار الضراعة وهو التذلل عند طلب الحاجة. وقوله: "فصلى ركعتين"، ظاهره أن الصلاة عقيب الخروج، وأنه لم يتقدم الصلاة خطبة ولا دعاء، وسيأتي ما يخالف هذا وهو يدل على أنه مشروع في الاستسقاء صلاة ركعتين، وهو مروي عن علي - رضي الله عنه - وقال به الناصر والمؤيد والإمام يحيى ومالك وأبو يوسف ومحمد والزهري والنخعي (¬1). وأنه لا صفة لهما زائدة على ذلك، قالوا (ب): لما روي في خبر عباد بن تميم، أخرجه البخاري (¬2) "أنه صلى بهم ركعتين"، وكذا في خبر عائشة (¬3) الآتي وذهب الشافعي وجماعة (¬4) من السلف ورواية عن أبي يوسف ومحمد: بل ركعتان كصلاة العيد في تكبيرها وقراءتها وهو المنصوص (¬5) للشافعي، وقيل: يقرأ في الثانية: {إِنَّا أَرْسَلْنَا ¬

_ (أ) ساقطة من جـ. (ب) في هـ: قال.

نُوحًا} لمناسبتها، وفي الأولى: ق، والوجه في ذلك حديث ابن عباس كما يصلي في (أ) العيد، والظاهر منه الموافقة في العدد والصفة، والأولون يتأولون هذا بأن المراد التشبيه في العدد لا في الصفة بقرينة ما ورد من إطلاق الركعتين، ولا دلالة على ذلك فتنبه إذ ذلك مطلق ومقيد، فالعمل بهما صحيح، (بل قد أخرج الدارقطني (¬1) من حديث ابن عباس "أنه يكبر فيهما (ب) سبعًا وخمسًا كالعيد، ويقرأ فيها بسبح، وهل أتاك" وفي إسناده (¬2) مقال، ولكنه متأيد برواية ابن عباس: كما يصلي في العيد) (جـ)، وقال أبو حنيفة (¬3): أنه لا يصلي في الاستسقاء، وإنما هو بالدعاء فقط إذ ثبت عند ذلك كما أخرجه أبو داود والترمذي (¬4) من حديث آبى اللحم ¬

_ (أ) ساقطة من جـ. (ب) في جـ، هـ: فيها. (جـ) بهامش الأصل.

"أنه رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - يستسقي عند أحجار الزيت قريبًا من الزوراء فرآه قائمًا يدعو يستسقي رافعًا يديه قبل وجهه لا يجاوز بهما رأسه" وأخرج أبو عوانة في صحيحه من زياداته عن عامر بن خارجة "أن قومًا شكوا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - قحط المطر فقال: "اجثوا على الركب ثم قولوا: يا رب يا رب" الحديث (¬1) .. والجواب عليه بأنه قد ثبت صلاة الركعتين، وتركها في بعض الأحوال (أ) لبيان عدم الوجوب، وقد ثبت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الاستسقاء ثلاث كيفيات: الأولى: الدعاء المجرد كما في حديث (ب آبى اللحم، وهي أدناها، الثانية: وهي أوسطها، الدعاء خلف الصلوات كما سيأتي من حديث ب) أنس (¬2) خلف الجمعة، والثالثة: وهي أعلاه، الصلاة كما في حديث ابن عباس وغيره. وقوله: "ولم يخطب خطبكم (جـ) هذه"، احتج بهذا من لم يثبت الخطبة في الاستسقاء وهو الهادي والمؤيد (¬3) وذهب الناصر وأبو يوسف ومحمد (¬4) إلى أنه يخطب قبلها كالجمعة، لحديث عائشة الآتي (¬5)، وكذا عن ابن عباس (¬6) في رواية أبي داود، وذهب الشافعي (¬7) والجماهير من ¬

_ (أ) في جـ: الأحيان. (ب- ب) ساقط من جـ. (جـ) في جـ: خطبتكم، وهي موجودة في بعض الروايات.

العلماء: أن الخطبة بعد الصلاة، وقد ثبت هذا في حديث أَبى هريرة "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج إلى الاستسقاء فصلى ركعتين ثم خطب" أخرجه أحمد وابن ماجه وأبو عوانة والبيهقي بأتم من (¬1) هذا. قال البيهقي: تفرد به النعمان بن راشد (¬2)، وقال في الخلافيات (¬3): رواته ثقات، ويؤخذ أيضًا من تشبيهها بصلاة العيد، ويجاب عن ظاهر حديث عائشة رضي الله عنها وغيره أن الذي بدأ به هو الدعاء فعبر بعضهم عن الدعاء بالخطبة، واقتصر على الرواية، ولم يرد الخطبة بعدها، والراوي لتقديم الصلاة على الخطبة اقتصر على ذلك، ولم يرد الدعاء قبلها وهذا جمع بين الروايات ويحمل إنكار ابن عباس للخطبة بأنه لعله أنكر زيادة في الخطبة لم تكن في خطبته - صلى الله عليه وسلم - وهو متبادر من قوله: "ولم يخطب خطبكم (أ) هذه" فالمنكر هو تعيين المفعول لا نفس الفعل، إذ لو أراد ذلك لقال: ولم يخطب، (وقد ذهب إلى تقديم الصلاة الجمهور (¬4)، والخلاف في ذلك لجماعة من الصحابة (¬5)، ونسب أيضًا إلى ابن الزبير بتقديم الخطبة، وقال ابن (ب) المنذر: وصرح ¬

_ (أ) في جـ: خطبتكم. (ب) زادت هـ: به.

الشيخ أبو حامد (¬1) الاختلاف في الاستحباب (أ) لا في الجواز (ب) (والمشهور عند الأكثر خطبتان كالعيد (جـ)، ويستفتح الخطبة الأولى بالاستغفار على قول الشافعي (¬2)، وقول آخر بالتكبير كالعيد (¬3) ثم يحمد الله سبحانه، ويصلي على النبي - صلى الله عليه وسلم - ويوصي بتقوى الله ويكثر الاسغفار، ويدعو بالمأثور وهو: "اللهم اسقنا غيثًا مغيثًا هنيئًا مريئًا مريعًا غدقًا مجللًا سحًّا طبقًا دائمًا، اللهم اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم إنا نستغفرك إنك كنت غفارًا، فأرسل السماء علينا مدرارًا" (¬4) ويستقبل القبلة بعد صدر الخطبة الثانية، ويدعو، فإذا فرغ من الدعاء استقبل الناس في باقي الخطبة، وقال أستغفر الله لي ولكم ويبالغ في الدعاء سرًّا وجهرًا (د). قوله "غيثًا" الغيث المطر ويسمي النبات غيثًا تسمية له باسم سببه. مغيثًا بضم الميم وهو المنقذ من الشدة، المريئًا بفتح الميم وبالمد والهمزة المحمود العاقبة وقيل المنمي للحيوان بغير ضرر "مريئا" وفتحها فمن ضم الميم كسر الراء وياء بنقطتين من تحت وهو الذي يأتي بالريع وهو الزيادة مأخوذ من المراعة وهو الخصب ومن فتح الميم كان اسم مفعول أصله ¬

_ (أ) في جـ: الاستحقاق. (ب) بهامش الأصل. (جـ) زاد في جـ: وقال البيدنجي: تكفي واحدة. (د) ما بين القوسين بالأصل بعد جملة: "واعلم أن هذه .... "، إلى نهاية "ست من الهجرة". وقد أشار إلى ذلك التقديم والتأخير.

مربوع كمهيب ومعناه يخصب نافع "ويروى" بضم الميم وسكون الراء وكسر الموحدة. من قولهم: أربع الربيع يربع إذا أكل الربيع ويروى بضم الميم مع كسر المثناة من فوق من قولهم أرتع المطر إذا أنبت ما يرتع فيه الماشية. واعلم أن هذه الصلاة لا وقت لها معين، وقد حكى ابن المنذر الخلاف في وقتها وأنها عند البعض تفعل في وقت صلاة العيد فقط وقد فهمه من قوله: كالعيد فعم بالتشبيه جميع أحكامها، والأرجح الأول، إذ قد خالفتها بأنها لا تختص بيوم معين، ونقل ابن قدامة الإجماع (¬1) بأنها لا تصلى في وقت الكراهة، وأفاد ابن حبان بأن خروج النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى المصلى للاستسقاء كان في شهر رمضان سنة ست من الهجرة. 384 - وعن عائشة - رضي الله عنها - قالت: "شكا الناس إِلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قُحوط المطرِ، فأمر بِمنْبر فوضِعَ له في المصلى، ووعد الناس يومًا يخرجون فيه، فخرج حين بدا حاجبُ الشمس فقعد على المِنبر، فكبر وحمد الله، ثم قال: "إِنكم شكوتم جدْب دياركم، وقد أمركم الله أن تدعوه، ووعدكم أن يستجيب لكم"، ثم قال: الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، لا إِله إِلا الله يفعل ما يريد، اللهم أنت الله لا إِله إِلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء. أنزل علينا الغَيْث، واجْعلْ ما أنزلت قوة وبلاغًا إِلى حين، ثم رفع يديه فلم يزلْ حتى رُئِي بياضُ إِبطَيْه ثم حوَّل إِلى الناس ظهره، وقلبَ رِداءه، وهو ¬

_ (¬1) لفظ ابن قدامة: أنها لا تفعل في وقت النهي بغير خلاف. المغني 2/ 432.

رافع يديه، ثم أقبل على الناس، ونزل فصلّى ركعتين، فأنشأ الله سبحانه سحابة، فرَعدَت وبرَقَتْ ثم أمْطَرتْ". رواه أبو داود (¬1) وقال: غريب، وإسناده جيد. وقصة التحويل في الصحيح من حديث عبد الله بن زيد: "فتوجه إِلى القبلة يدعو، ثم صلى ركعتين جهر فيهما بالقراءة" (¬2). وللدارقطني من مرسل أبي جعفر الباقر: "وحول رداءه ليتحول القحط" (¬3). وأخرج حديث عائشة أيضًا أبو عوانة وابن حبان والحاكم وقال: على شرط البخاري وصححه أبو علي بن السكن. قوله: "قحوط المطر"، مصدر كالقحط، وقوله: "فأمر بمنبر" فيه دلالة ¬

_ (¬1) أبو داود ولفظه (يخرجون فيه فقالت عائشة فخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين .. فكبر - صلى الله عليه وسلم - وحمد الله عزَّ وجلَّ .. دياركم واستئخار المطر عن أبان زمانه عنكم .. الله عزَّ وجلَّ .. الرحمن الرحيم ملك يوم الدين ... ما أنزلت لنا قوة .. فلم يزل في الرفع حتى بدا بياض إبطيه ... فأنشأ الله سبحانه.) الصلاة، باب رفع اليدين في الاستسقاء 1/ 692 - 693، ح 1173، ابن حبان موارد. الاستسقاء 160 ح 604، الحاكم 1/ 328، الحديث فيه: خالد بن نذار الغساني، صدوق يخطئ. التقريب 91، القاسم بن مبرور الأيلي صدوق فقيه. التقريب 279، هشام بن عروة بن الزبير ثقة فقيه ربما دلس واحتمل تدليسه، مر في 298 ح 66. (¬2) البخاري: بلفظ الاستسقاء باب الجهر بالقراءة في الاستستقاء 2/ 514 ح 1224، مسلم: بدون لفظ "الجهر"، الاستسقاء 2/ 611 ح 4 - 894 م، أبو داود: نحوه، جماع أبواب صلاة الاستسقاء وتفريعها 1/ 686 ح 1161، الترمذي: نحوه، أبواب الصلاة، باب ما جاء في صلاة الاستسقاء 2/ 442 ح 556، النسائي: نحوه، الاستسقاء، تحويل الإمام ظهره إلى الناس عند الدعاء في الاستسقاء 3/ 117، ابن ماجه ولم يذكر الجهر: إقامة الصلاة والسنة فيها، باب ما جاء في صلاة الاستسقاء 1/ 403 ح 1267. (¬3) الدارقطني الاستسقاء 2/ 66 ح 2، الحاكم موصولًا، بالعيدين 1/ 326.

على أنه يستحب صعود المنبر للدعاء. وقوله: "ووعد الناس يومًا يخرجون فيه"، فيه دلالة على استحباب مواعدة الإمام للناس بالخروج، قالوا: ندب (أ) تقديم الأمر برد الظلامات في المال والدم والاستحلال في العرض، والصلح بين المتهاجرين، والصدقة والعتق، وصيام ثلاثة أيام متوالية (¬1) ثم يخرجون في اليوم الرابع (صباحًا) (ب)، والخروج بلا زينة ولا طيب إلا الغسل والسواك، وتقديم مَنْ حضر من فُضَلاء أهل البيت ثم من غيرهم، وإخراج المشايخ والصبيان لآثار وردت في جميع ذلك على الانفراد، ولم يرد في خصوص الخروج إلى الاستسقاء، وتخرج البهائم، لقصة قوم يونس، والنملة مع سليمان - عليه السلام -، ويخرج أهل الذمة (¬2)، ويعتزلون مجتمع المسلمين إذ هم من المرتزقين، [وهم مقررون على العصيان بخلاف عصاة المسلمين] (جـ) ومتى حضروا للصلاة نودي لها بالصلاة جامعة من غير أذان ولا إقامة. وقوله: (د) "فخرج حين بدا حاجب الشمس"، المراد به حين بدا شعاعها سمي حاجبًا لأنه يحجب جرم الشمس عن الإدراك. ¬

_ (أ) في هـ: يندب. (ب) في الأصل وهـ صيامًا. (جـ) بهامش الأصل. (د) في هامش هـ: وقوله.

(وقوله: "وقد أمركم الله أن تدعوه" إلخ، في قوله: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} (¬1) قال الشافعي (¬2): ينبغي أن يكون من دعائه في هذه الحالة (أ): "اللهم أنت أمرتنا بدعائك ووعدتنا إجابتك وقد دعوناك كما أمرتنا فأجبنا كما وعدتنا اللهم فامنن علينا بمغفرة ما قارفنا وإجابتك لسقيانا (ب) سعة في أرزاقنا". وقوله: "مالك يوم الدين"، في رواية أبي داود لهذا الحديث بحذف الألف، قال: قال ابن رسلان في شرحه: هذه قراءة أهل المدينة بحذف الألف، وهذا الحديث حجة لهم، وهي قراءة الجمهور، ولأنه أمدح وليوافق الابتداء الاختتام (جـ). وقوله في آخر الدعاء "وبلاغًا إلى حين"، البلاغ ما يبلغ به ويتوصل به إلى الشيء المطلوب (¬3)، بمعنى اجعل الخير المنزل سببًا لقوتنا، ومده لنا مدًّا طويلًا، وهذا يؤيد (د) ما تقدم أن الذي بدأ به إنما هو الدعاء، وإنما سماه بعض الرواة خطبة. وقوله: "ورفع يديه"، فيه دلالة على شرعية الرفع لليدين عند الدعاء، ولكنه في الاستسقاء رفعًا بليغًا حتى يساوي بهما وجهه لا يجاوز ¬

_ (أ) في هـ: الحال. (ب) زاد في جـ: و. (جـ) بهامش الأصل. (د) في هـ: يود.

بهما رأسه كما أخرجه أبو داود في حديث آبى اللحم فقد (أ) ثبت الرفع لليدين في غير الاستسقاء (¬1) في عدة أحاديث، وقد ذكر جملة منها البخاري (ب)، في كتاب الدعوات (¬2)، وصنف المنذري في ذلك جزءًا. (قال النووي: وقد جمعت فيها (جـ) نحوًا من ثلاثين حديثًا من الصحيحين أو أحدهما، وذكرتها في أواخر باب صفة الصلاة في شرح المهذب) (¬3) (د). وهذا جمع بين نفى أنس لرفع اليدين في غير الاستسقاء، وهذه الأحاديث المثبتة فلا تعارض. وقوله: "حتى رئي بياض إبطيه"، فيعد دلالة على المبالغة في الرفع، وقد تقدم الكلام في بياض الإبط. وقوله: "ثم حول إلى الناس ظهره"، يعني استقبل القبلة. وقوله: "وقلب رداءه"، وقع في هذه الرواية بلفظ (هـ) "القلب" وفي غيرها بلفظ ¬

_ (أ) في هـ: وقد. (ب) ساقطة من جـ. (جـ) في جـ: منها. (د) بهامش الأصل. (هـ) في جـ: في لفظ.

"التحويل"، والمعنى واحد منهما، وقد ورد في صفة القلب أخرجه البخاري (¬1) عن المسعودي، وإن لم يكن (¬2) على شرطه جعل اليمين على الشمال وزاد فيه ابن ماجه وابن خزيمة (¬3) "والشمال على اليمين"، وفي رواية أَبي (أ) داود (¬4): فجعل (ب) عطافه الأيمن على عاتقه الأيسر، وعطافه الأيسر على عاتقه الأيمن وفي رواية لأبي داود "استسقى وعليه خيمصة ¬

_ (أ) في جـ: لأبي. (ب) في جـ: وجعل.

سوداء فأراد أن يأخذ بأسفلها، فيجعله (أ) أعلاها، فلما ثقلت عليه قلبها على عاتقه" (¬1) واختار الشافعي في الجديد (ب) تنكيس (¬2) الرداء وهو الذي هم به النبي - صلى الله عليه وسلم - وذهب الهادي والناصر والمؤيد إلى أنه يفعل ما فعله النبي - صلى الله عليه وسلم - من التحويل دون ما هم به. وقال الغزالي: أو (ح) الظاهر باطنًا، وذهب أبو حنيفة (¬3) وبعض المالكية إلى أنه لا يستحب، وهو محجوج بما ثبت، ويحول الناس مع الإمام (¬4) عند الجمهور، ويشهد له ما رواه أحمد (¬5) من طريق عن عباد بن (د) تميم بلفظ: وحول الناس معه، وقال الليث وأبو يوسف (هـ): إن التحويل يختص بالإمام، واستثنى ابن الماجشون النساء فقال: لا يستحب في حقهن. وهو حسن، ثم الظاهر أن قلب الرداء حين استقبل القبلة. ولمسلم (¬6) "أنه لما أراد أن يدعو استقبل القبلة، وحول رداءه"، ومثله في البخاري، وللبخاري (¬7) أيضًا في خبر عباد: "فقام فدعا الله قائمًا، ثم توجه قبل القبلة وحول رداءه". ¬

_ (أ) في جـ: ويجعله. (ب) في جـ: الحديث، وهو تصحيف. (جـ) في جـ: إذ. (د) في جـ: بني. (هـ) في جـ: أبو ثور.

وقوله: "وصلى ركعتين"، فيه دلالة على أنها ركعتان فقط كالحديث الأول، وهو قول الجمهور والخلاف للهادي (¬1) فقال: هي أربع بتسليمتين، وعن القاسم متصلات بتسليمة واحدة ووجهه أنه ثبت أنه - صلى الله عليه وسلم - استسقى في صلاة الجمعة في قصة الأعرابي كما سيأتي (¬2) والجمعة مُنَزَّلة منزلة أربع ركعات بالخطبتين ولا يخفى ما في هذا مع ما ثبت من فعل النبي - صلى الله عليه وسلم -. وقوله: "وقصة التحويل، في الصحيح من حديث عبد الله بن زيد" وقد سبقت إشارة إليه إذ هو رواية عباد عن عمه عبد الله بن زيد المازني، وليس هو صاحب الأذان كما (¬3) وهم ابن عيينة، إذ قد سبق أنه (¬4) لم يكن له إلا حديث الأذان فقط. وقوله: "جهر فيهما بالقراءة" استنبط من هذا بعضهم أنها لا تصلى إلا في النهار إذ لو كانت تصلى في الليل لأسر فيها نهارًا وجهر فيها ليلًا. وقوله: "وللدارقطني من مرسل جعفر بن محمد وقد وصله أيضًا الدارقطني والحاكم، فأخرجاه عن جعفر بن محمد" عن أبيه محمد، وهو لقي جابرًا وروى عنه ولكن الدارقطني خرج إرساله: "وحول رداءه ليتحول القحط"، المراد أنه فعل ذلك تفاؤلًا بتحول القحط، وذكره أيضًا إسحاق بن راهويه في مسنده من قول وكيع، وفي (أ) الطوالات للطبراني من ¬

_ (أ) ساقطة من هـ.

حديث أنس (أ) بلفظ: "وقلب رداءه لكي ينقلب القحط إلى الخصب"، واعترض ذلك ابن العربي (¬1) وقال: إن من شرط الفأل أن لا يقصد (ب) إليه، قال: وإنما التحويل أمارة بينه وبين ربه، قيل له: حول رداءك ليتحول حالك، وتعقب بأن هذا يحتاج أيضًا إلى نقل، وبعضهم علل التحويل قال: ليكون أثبت على عاتقه عند رفع يديه، وهذا ضعيف جدًّا. فائدة: ذكر الواقدي (¬2) أن طول ردائه - صلى الله عليه وسلم - ستة أذرع في ثلاثة أذرع وطول إزاره أربعة أذرع وشبر في ذارعين وشبر، وكان يلبسهما في الجمعة والعيدين (¬3) (جـ). 385 - وعن أنس - رضي الله عنه -: "أنّ رجلًا دخل المسجد يوم الجمعة والنبي - صلى الله عليه وسلم - قائم، يخطب، فقال: يا رسول الله هَلَكتْ الأموالُ وانْقَطَعَتْ السُّبُلُ، فادْعُ الله يُغِيثُنا، فرفع يديه، ثم قال: "اللهم أغثنا" (د). وذكر (5) الحديث، وفيه الدعاء بإِمساكها". متفق عليه (¬4). ¬

_ (أ) ساقطة من هـ. (ب) في جـ: يقسط. (جـ) في هـ: في العيدين والجمعة. (د) زاد في هـ: اللهم أغثنا. (هـ) في هـ: فذكر.

قوله: "أن رجلًا دخل المسجد"، قال المصنف (¬1) -رحمه الله-: لم أقف على تسميته في حديث أنس، وقد وقع في رواية (أ) سؤال أبي سفيان (¬2) الأموي لذلك، وكعب (¬3) بن مرة، وخارجة بن حصين بن حذيفة (¬4) وقد وقع في (ب) هذه القصة من قول أنس أعرابيًّا من البدو، والظاهر أن ذلك جميعه واقع في قصص مختلفة فإن قوله: "يا رسول الله" يدل على أنه كان مسلمًا، فيبعد (جـ) أن يكون أبو سفيان ذلك إذ (د) لم يكن قد أسلم حين سأل من النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك. وقوله: "هلكت الأموال"، أراد به الحيوان من الخيل ونحوه (هـ)، وقد ورد في رواية البخاري (¬5): "هلك الكُراع" بضم الكاف، وهو الخيل وغيرها وفي رواية (¬6) أيضًا: "هلكت الماشية .. هلكت العيال، هلكت (و) الناس" والمراد بالهلاك هنا عدم وجود ما يعيشون به من الأقوات المقصودة بحبس المطر. ¬

_ (أ) في الأصل، وجـ: روايات. (ب) في جـ: من. (جـ) في جـ: فبعيد. (د) في جـ: أو. (هـ) ساقطة من جـ. (و) في جـ: هلك.

وقوله: "وانقطعت السبل"، وفي رواية: "وتقطعت السبل" (¬1)، وفي رواية: (¬2) "واحمرت الشجر"، وفي رواية لأحمد (¬3): "ومحلت الأرض"، وهذه الألفاظ يحتمل أن يكون قالها جميعًا (أ)، فاقتصر البعض من الرواة على البعض، ويحتمل أن ذلك من الرواية بالمعنى، والمراد بانقطاع السبل (ب) هو عدم السفر لضعف الإبل بسبب عدم القوت، أو أنه لما نفد ما عند الناس من الطعام أو قل فلا يجدون ما يحملونه إلى الأسواق. واحمرار الشجر كناية عن يبس ورقها لعدم الماء أو عدم الورق فيبقي العود محمرًا. وقوله: "فادع الله يغيثنا" يحتمل فتح حرف المضارعة على أنه من غاث، وهو إما من الغيث أو الغوث. قال ابن القطاع: غاث الله عباده غيثًا وغياثًا سقاهم المطر، وأغاثهم أجاب دعاءهم، ويقال: غاث وأغاث بمعنى، والرباعي أعلى. قال ابن دريد: الأصل غاثه الله يغوثه غوثًا واستعمل إغاثة، ويحتمل ضمه على أنه من الإغاثة، ويرجح هذا (¬4) قوله: "اللهم أغثنا"، وقوله: "يغيثنا"، ورد في رواية بإثبات حرف العلة على أنه مرفوع استئنافًا أي فهو يغيثنا ووقع في رواية "أن يغيثنا" منصوب بأن، ¬

_ (أ) في جـ: جميعها. (ب) في جـ: بالانقطاع.

وفي رواية "يغثنا" مجزوم جواب الأمر، وجميع هذا من ألفاظ (أ) البخاري (¬1). وقوله: "فرفع يديه" تقدم الكلام في كيفية الرفع، ووقع في بعض روايات البخاري (¬2)، ورفع الناس أيديهم. وقوله: "فقال اللهم أغثنا"، وفي لفظ للبخاري (¬3) (ب) اسقنا. ووقع في بعض رواياته إعادته (جـ) مرتين (¬4)، وفي بعضها (¬5) ثلاثًا، والأخذ بالزيادة أولى، وقد ثبت في البخاري "أنه كان إذا دعا دعا ثلاثًا". وقوله: "وفيه الدعاء بإمساكها"، وهو في الصحيحين (¬6)، فيه دلالة على أنه يدعى لرفع المطر إذا كثر كما يدعى لحصوله إذا قل. 386 - وعن أنس - رضي الله عنه -: "أن عمر - رضي الله عنه - "كان إِذا قُحِطُوا اسْتَسْقَىَ بالعباس بن عبد الطلب، وقال: اللهم إِنا كُنا نَسْتَسْقي إِليك نبينا فَتَسْقِينا، وإِنا نَتوسَّلُ إِليك بعمِّ نبيِّنا فاسْقِنا فَيُسْقَون". رواه البخاري (¬7). ¬

_ (أ) في جـ: من لفظ. (ب) في جـ: البخاري. (جـ) في جـ: إعادة.

قوله: إذا قُحِطوا -بضم القاف وكسر المهملة- أي أصابهم القحط، وقد بيّن الزبير بن بكار في الأنساب صفة ما دعا به العباس في هذه، والوقت الذي وقع فيه ذلك فأخرج بإسناده: "أن العباس لما استسقى به عمر قال: اللهم إنه لا ينزل بلاء إلا بذنب ولم (أ) يكشف إلا بتوبة، وقد توجه بي القوم إليك لمكاني من نبيك، وهذه أيدينا إليك بالذنوب ونواصينا إليك بالتوبة، فاسقنا الغيث، فأرخت السماء مثل الجبال حتى أخصبت الأرض وعاش الناس". وأخرج أيضًا من طريق داود بن عطاء عن زيد بن أسلم عن ابن عمر قال: "استسقى عمر بن الخطاب عام الرمادة بالعباس بن عبد المطلب، وذكر الحديث وفيه، فخطب الناس عمر، فقال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يرى للعباس ما يرى الولد للوالد فاقتدوا أيها الناس برسول الله - صلى الله عليه وسلم - في عمه عباس واتخذوه وسيلة إلى الله تعالى، وفيه "فما برحوا حتى سقاهم الله" (¬1). وأخرج البارزي من طريق هشام أن عام الرمادة كان سنة ثمان عشرة، وكان ابتداؤه مصدر الحاج منها ودام تسعة أشهر، والرمادة بفتح الراء وتخفيف الميم سمي العام بها لما حصل من شدة الجدب، فاغبرت الأرض جدا من عدم (ب) المطر، وفي هذه القصة دلالة على استحباب الاستشفاع ¬

_ (أ) في جـ: ولا. (ب) زاد في جـ: من غير.

بأهل الخير والصلاح وأهل بيت (أ) النبوة، وفيه إظهار فضيلة العباس وفضيلة عمر وتواضعه ومعرفته بحق أهل بيت النبي صلى الله عليه وعليهم وسلم. 387 - وعن أنس - رضي الله عنه - قال: "أصابنا ونحن مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مطرٌ، قال: فحَسَر ثوبَه حتى أصابه من المطر، وقال: إِنه حديث عهد بربه". رواه مسلم (¬1). قوله: "حسر": أي كشف بعض بدنه، ومعنى "حديث عهد بربه" أي بتكوين ربه إياه. يعني أن المطر رحمة، وهي قريبة العهد بخلق الله تعالى فيتبرك بها، فيه دلالة على أن ذلك يستحب عند نزول المطر، وفيه دلالة على أنه ينبغي لمن رأى شيئًا لا يعرفه ممن يؤخذ منه الخير والحكمة أن يسأل عنه؛ ليعلمه فيعمل به. 388 - وعن عائشة - رضي الله عنها - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا رأى المطر قال: "اللهم صيبًا نافعًا" أخرجاه (¬2). أخرج الحديث البخاري ومسلم فالضمير في أخرجاه (ب لهما وذكرهما متكرر في الكتاب فالعود (جـ) إليه متقدم وإن كان دأب المصنف فيما هذا حاله ب) أن يقول: متفق عليه. ¬

_ (أ) في جـ: بيوت. (ب- ب) بهامش هـ. (جـ) في هـ: فالموعود.

وقوله: "صيبًا" منصوب بفعل مقدر أي اجعله صيبًا. وهو من صاب المطر إذا وقع. وقوله: "نافعًا"، صفة للصيب (أ) تحرز به عن الصيب الضار. 389 - وعن سعد - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دعا في الاستسقاء: "اللهم جَلِّلْنَا سَحابًا كثيفًا قَصيفًا دُلُوقًا ضَحُوكًا، تُمطِرنا منه رَذَاذًا قِطْقِطًا سَجْلًا، يا ذَا الجلالِ والإِكرام". رواه أبو عَوانة في صحيحه (¬1). قوله: "جللنا" بالجيم بصيغة الأمر من التجليل، والمراد به تعميم الأرض بالمطر والسحاب المجلل هو الذي يعم الأرض بالمطر، والكثيف هو السحاب المتكاثف المتراكم، والقصيف هو ما كان رعده شديد الصوت وهو من أمارات قوة المطر يقال: ريح قاصف أي شديد. (ب ورعد قاصف أي شديد الصوت، والدلوق بالدال المهملة والقاف- شديد الدفعة ب) مفاجئة المطر، يقال: دلق السيل على القوم أي هجم، و (جـ) اندلقت الخيل وعارد دلق، والضحوك فعول مفتوح الفاء أي سحاب ذات برق (¬2)، قال ابن الأعرابي: الضاحك من السحاب مثل العارض إلا أنه إذا برق قيل: ¬

_ (أ) ساقطة من جـ. (ب- ب) مثبت بالهامش في جـ. (جـ) الواو ساقطة من جـ.

ضَحِك، والرذاذ ما كان قطره دون الطش وفوق القطقط وما كان أكبر من الطش يقال له: البغش والقطقط بكسر القافين، والسجل مصدر سجلت الماء سجلًا إذا صببته صبا، وصف به السحاب، مبالغة في كثرة ما يصب منها الماء حتى صارت نفس المصدر ويحتمل أنها وصفت بالسجل الذي هو الدلو الملأى من الماء كأنه قال: سحابة ملأى من الماء كالسجل. 390 - وعن أبي هريرة - رضي الله عنه -: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "خرج سليمان - عليه السلام -، ليسْتَسقِيَ، فرأى نملةً مستلقيةً على ظَهرها رافعة قوائمَها إِلى السماء، تقول: اللهمَّ إِنا خَلْقٌ مِن خَلْقِكَ، لَيسَ بَنَا (أ) غِنى عن سُقياك، فقال: ارْجعوا فَقَدْ سُقِيتُمْ بِدَعْوةِ غَيْرِكُم". رواه أحمد وصححه الحاكم (¬1). لفظ الحاكم: "خرج نبي من الأنبياء يسْتسقي .. " الحديث و (ب) رواه الطحاوي من طريق منها من حديث أَبي الصديق الناجي، وأخرجه ابن ¬

_ (أ) في جـ: لنا. (ب) الواو ساقطة من جـ.

ماجه (¬1) من حديث ابن عمر في أثناء حديث: "لولا البهائم لم تمطروا". فيه دلالة على إخراج البهائم في الاستسقاء، وفيه دلالة أن لها إدراكًا فيما يتعلق بمعرفة الله سبحانه، وأنها ملهمة إلى ذكر الله، وقد روي في ذلك أحاديث كثيرة وقصص صحيحة، وظواهر في (أ) كتاب الله منيرة ولا ملجئ إلى التأويل، ولا يهتدي إلى ذلك إلا ذو بصيرة بالأسرار خبير. 391 - وعن أنس - رضي الله عنه - أن "النبي - صلى الله عليه وسلم - اسْتسقى، فأشار بظهر كفيه إِلى السماء". أخرجه مسلم (¬2). فيه دلالة لما ذكره جماعة من العلماءأن السنة في كل دعاء لرفع بلاء كالقحط وغيره وإن يرفع يديه ويجعل ظهر كفيه إلى السماء، وإذا دعا لسؤال شيء وتحصيله جعل بطن كفيه إلى السماء، وقد صرح بها (ب) في الحديث (جـ)، أخَرج أحمد (¬3) من حديث خلاد بن السائب عن أبيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا سأل جعل باطن كفيه إليه وإذا اسْتعاذ جعل ظاهرهما ¬

_ (أ) في هـ: من. (ب) هـ: بهذا. (جـ) ساقطة من هـ.

إليه وفيه ابن لهيعة (¬1)، ويجمع بين هذا وبين حديث ابن عباس، وإن كان ضعيفًا: "سلوا الله ببطون أكفكم، ولا تسألوه بظهورها" (¬2)، بأن هذا مخصوص بما كان لسؤال شيء لا لدفع بلاء. وقد فسر قوله تعالى: {وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا} (¬3) أن الرغب بالبطون والرهب بالظهور، والله أعلم. [عدة (أ) أحاديث الاستسقاء أحد عشر حديثًا] (ب). ¬

_ (أ) في جـ: عدد. (ب) بهامش الأصل.

باب اللباس

باب اللباس 392 - عن أبي عامر (أ) الأشعري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لَيَكونَنَّ مِن أُمَتي أقوامٌ يَسْتَحِلُّون الخَزَّ والحرَيرَ". رواه أبو داود وأصله في البخاري (وفي (ب) تمامه قال: "يُمْسَخُ مِنْهم آخرون قِردةً وخنَازيرَ إِلَى يَوْم القِيامةِ". لفظ أبي داود) (جـ) (¬1). قوله: "ليكونن من أمتي" فيه دلالة على أن استحلال المحرمات لا يخرجه عن كونه من الأمة ولكنه يحتمل أن يريد به أمة الدعوة (د) دون الإجابة، فلا يدل على ذلك، ولكن الظاهر الأول. وقوله: "يستحلون الخَزَّ" هو بالخاء المعجمة والزاي كذلك وهو الذي نص عليه الحميدي وابن الأثير (¬2) في هذا الحديث، وهو ضرب من ثياب الإبريسم معروف وذكره أبو موسى (¬3) في باب الحاء المهملة والراء المهملة، وقال: الحر -بتخفيف الراء- الفرج، وأصله حِرْح بكسر الحاء وسكون الراء وجمعه أحراح، ومنهم من شدد الراء (يعني في حر لا في حرح فهي ساكنة) (هـ) وليس بجيد. قال في النهاية (¬4): والمشهور في هذا الحديث ¬

_ (أ) ساقطة من جـ. (ب) في جـ: ومن. (جـ) بهامش الأصل. (د) زاد في جـ: من. (هـ) بهامش الأصل، وساقطة من هـ.

على اختلاف طرقه هو الأول (¬1) ولعل ما ذكره أبو موسى جاء في حديث آخر. (ولعله قوله - صلى الله عليه وسلم -: "أول دينكم نبوة ورحمة، ثم ملك أعفر، ثم ملك وجبروت، فيستحل فيه الحِر (¬2) والحرير". قال البيهقي (أ): الحر بكسر الحاء وهو الزنا (ب) قال الأسيري: هكذا رواه الثقات الحفاظ بالراء) (جـ) وهو حافظ عارف بما روى وشرح ولا يتهم، والله أعلم. وقوله: "والحرير" من عطف العام على الخاص إذا كان الخز (¬3) المراد به الخالص من الحرير كما عرفت وإن كان ثياب الخز (د) مرادًا بها المنسوج من الخز والصوف كما فسر به بعضهم هذا الحديث فهما متغايران، لأن الخز المراد به ما كان مخلوطًا من الحرير والصوف، والحرير يراد به الخالص منه، وهذا عام في التحريم ولا بد من تخصيصه بما يحل منه، وهو ما ¬

_ (أ) في جـ: الباهلي. (ب) زاد في هـ: و (جـ) بهامش الأصل، وهـ. (د) في جـ: الحرير.

سيأتي في حديث عمر (¬1)، وكذا غير الخالص إذا كان الحرير هو الأقل. والحديث فيه دلالة على تحريم ما ذكر -وهو مذهب الجماهير- على الرجال دون النساء. وحكى (أ) القاضي عياض عن قوم إباحته، وصرح الإمام المهدي بالخلاف في إباحته ونسبه إلى ابن علية، وقال: إنه انعقد الإجماع بعده على التحريم، (وقال أبو داود: عشرون نفسًا من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أقل أو أكثر لبسوا الحرير منهم أنس والبراء بن عازب) (ب) (¬2) وعن ابن الزبير تحريمه (¬3) على الرجال والنساء وكأنه لم يبلغه الحديث المخصص للنساء الآتي، وأخرج مسلم عنه أنه خطب فقال: لا تلبسوا نساءكم الحرير، فإني سمعت عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تلبسوا الحرير". فدل على أنه أخذ بالعموم ولم يبلغه الخصوص، وانعقد الإجماع (¬4) بعد ابن الزبير على الحل للنساء، (وكذلك الصبيان من الذكور يحرم إلباسهم الحرير كالرجال عند الأكثر قالوا: لعموم قوله - صلى الله عليه وسلم -: "حرام على ذكور أمتي" (¬5) ولشق (¬6) عمر قميص إسماعيل بن عبد الرحمن (جـ) لما دخل عليه وعليه قميص من حرير ¬

_ (أ) في هـ: وذكر. (ب) في هامش الأصل. (جـ) زاد في جـ: بن عوف.

وسواران من ذهب فشق القميص وفك السوارين وقال: اذهب إلى أمك. وقال محمد بن الحسن: يجوز ذلك. وقال أصحاب (¬1) الشافعي: يجوز لباسهم الحل والحرير في يوم العيد؛ لأنه لا تكليف عليهم، وفي جواز لباسهم ذلك في باقي السنة ثلاثة أوجه: أصحها جوازه، والثاني: تحريمه، والثالث: يحرم بعد سن التمييز) (أ). 393 - وعن حذيفة - رضي الله عنه - قال: "نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نشْربَ في آنية الذَّهب والفضّة، وأن نَأكُلَ فيها، وعن لُبْس الحَريرِ والدِّيباج (ب)، وأن نَجْلِسَ عليه" (جـ. رواه البخاري (¬2). في الحديث دلالة على تحريم الشرب فيما ذكر، وقد تقدم الكلام في باب الآنية. وقوله: "والديباج" ما غلظ من ثياب: الحرير، وقوله: "أن نجلس عليه" جـ) فيه دلالة على تحريم الجلوس على الحرير، وهو قول (د) الجمهور، وقال به عمر وأبو عبيدة وسعد بن أَبي وقاص، وهذ الحديث حجة واضحة، وهو متفق على صحته، والخلاف في ذلك للقاسم وأبي طالب والمنصور وأبي حنيفة وأصحابه (¬3)، فقالوا (هـ) يجوز افتراشه إذ هو موضع إهانة، وقياسًا ¬

_ (أ) في هامش الأصل. (ب) بالهامش في هـ. (جـ - جـ) في هامش جـ. (د) ساقطة من جـ. (هـ) في جـ: وقالوا.

على الوسائد المحشوة قزا، وقال به ابن عباس وأنس وهذا التعليل لا يعارض النهي المذكور. والله أعلم. 394 - وعن عمر - رضي الله عنه - قال: "نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن لُبْسِ الحَرِيرِ إِلا موْضعَ إِصْبَعيْن (أ) أوْ ثلاثٍ أوْ أربعٍ". متفق عليه واللفظ لمسلم (¬1). قوله: "إِلا موضع إِصبعين" (ب) إلخ، فيه دلالة على أن ذلك معفو، (وهذا مذهب الجمهور، وعن مالك في رواية (¬2) منعه، وعن بعض أصحابه رواية بإباحة العلم في الثوب بقدر أربع أصابع بل قالوا: يجوز العلم ولو كثر) (جـ) وسواء كان منسوجًا في الثوب أو ملصقًا، ويقاس عليه الاستعمال والجلوس وفي كلام الهادوية مقصور على الثلاث الأصابع، وهذا الحديث صريح في الأربع (د)، والعمل به هو الواجب. والله أعلم. 395 - وعن أنس - رضي الله عنه - "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رخص لعبد الرحمن بن عوف والزبير في قميصِ الحرِير في سفرٍ من حِكَّة كانتْ ¬

_ (أ، ب) في جـ: أصبع، وبهامش هـ في نسخة المؤلف التي شرح عليها إلا موضع إصبع بالإفراد. قلت: وفي الأصل الذي لدي كذلك، ولكنها عدلت إلى التثنية. والله أعلم. (جـ) بهامش الأصل. (د) زاد في جـ: الأصابع.

بِهِمَا". متفق عليه (¬1). وفي رواية "أنهما شكوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - القمل فرخص لهما في (قميص) (أ) الحرير في غزاة لهما". في الحديث دلالة على أنه يجوز لبس الحرير للضرورة المذكورة (ب) وهو مذهب الجمهور (¬2)، ويقاس عليها غيرها من الحاجات كعدم وجود اللباس، والخلاف في ذلك لمالك، فقال: لا يجوز، والحديث حجة عليه. وقوله: "في سفرٍ"، هو لبيان الحال الذي كانا عليه لا للتقييد فيجوز ذلك وإن كان في الحضر وقد فهم بعض الشافعية (¬3) أن ذلك قيد في الترخيص فقال: لا يجوز إلا في السفر، وهو ضعيف. وقوله: "لحكة" هو بكسر المهملة وتشديد الكاف وهو الجرب ونحوه، وناسب الحرير لما فيه من البرودة. 396 - وعن علي - رضي الله عنه - قال: "كساني النبّي - صلى الله عليه وسلم - حُلّة سِيَراء، فخرجْت فيها فرأيت الغضبَ في وجهه فشقَقْتها بين نسائي". ¬

_ (أ) في الأصل: قمص. (ب) ساقطة من جـ.

متفق عليه. وهذا (اللفظ) (أ) لمسلم (¬1). قوله: "حلة"، الحلة (ب) بضم المهملة، قال أهل اللغة (¬2): لا تكون إلا ثوبان وتكون غالبًا إزارًا ورداء، والسيراء فعلاء بكسر المهملة ثم ياء مثناة من تحت مفتوحة ثم راء مهملة ثم ألف ممدودة، وهو صفة الحلة فتكون الحلة بالتنوين، وقد روي بإضافة الحلة إلى السيراء وهما وجهان مشهوران، المحققون ومتقنو العربية يختارون الإضافة، قال سيبويه (¬3): (ب) لم يأت فعلاء (صفة، وإنما أتى اسمًا) (د) وأكثر المحدثين يقولون: حلة. قال الخطابي (¬4): في حلة سيراء، كما قالوا: ناقة عشراء، وهي برود مضلعة بالقز، كذا فسرها في سنن أَبي داود، وكذا قالها الخليل، والأصمعي وآخرون، قالوا كأنها شبهت خطوطها بالسيور، وقيل: في مختلفة الألوان، وقيل: هي وشي من حرير، وقيل: إنها حرير محض، وهذا هو الأنسب بالحديث المتعين هنا، لأن المختلط من حرير وغيره، لا يحرم إلا أن يكون الحرير أكثر ¬

_ (أ) بالأصل وهـ: لفظ. (ب) في هـ: كتب فوق "الحلة" محلة، ولا معنى لها. (جـ) في هـ: س. (د) بهامش الأصل.

وزنًا، ويدل عليه ما أخرجه أبو داود (¬1) عن ابن عباس قال: "إنما نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الثوب المصمت من الحرير، فأما العلم من الحرير، وسدى الثوب فلا بأس به". وقوله: "فشققتها بين نسائي"، في رواية لمسلم (¬2) فقال: شقه خمرًا بين الفواطم وهو تفسير "نسائي" في هذه الرواية، وهو كما قال الجمهور ثلاث: فاطمة بنت (¬3) النبي - صلى الله عليه وسلم - وفاطمة بنت (¬4) أسد أم علي - رضي الله عنها - وهي أول هاشمية ولدت هاشميًّا، وفاطمة بنت حمزة (¬5) - رضي الله عنها - وذكر الحافظ (¬6) عبد الغني أنهن أربع، قال القاضي عياض (¬7): يشبه أن تكون الرابعة فاطمة (¬8) بنت شيبة بن ربيعة امرأة عَقيل بن أبي طالب لاختصاصها بعلي - رضي الله عنه - وقربها إليه بالمصَاهرة، وهي من المبايعات شهدت حنينًا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفاطمة بنت أسد كذلك. الصحيح أنها من المهاجرات خلافًا لمن زعم أنها ماتت قبل الهجرة. وفي هذا الحديث دلالة على التحريم، إذ لا يرى الغضب في وجهه - صلى الله عليه وسلم - لأجل ذلك إلا وهو منكر. ¬

_ (¬1) أبو داود 3/ 329 ح 4055، أحمد 1/ 313، رواية أبي داود فيها "خصيف" وهو ضعيف مر في 968 ح 293. ولكن تابعه عكرمة بن خالد عن سعيد بن جبير وهو ثقة. التقريب 242. (¬2) مسلم 3/ 1645 ح 18 - 2071 ولفظه "شققه خمرًا". (¬3) و (¬4) الإصابة 13/ 71، 13/ 77. (¬5) الإصابة 13/ 79. (¬6) و (¬7) شرح مسلم 4/ 784. (¬8) الإصابة 13/ 81.

397 - وعن أبي موسى - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "أُحل الذهبُ والحرير لإِناث أمَّتي، وحُرم على ذُكوُرِهِمْ". رواه أحمد والنسائي والترمذي وصححه (¬1). أخرجه الترمذي من طريق سعيد بن أبي هند (¬2) عن أبي موسى الأشعري وأعله أبو حاتم بأنه لم يلقه، وكذا ابن حبان في صحيحه (¬3) قال: سعيد بن أبي هند عن أبي موسى معلول لا يصح، وأما ابن حزم (أ) فصححه، وقد روي من ثمان طرق غير هذه الطريق عن علي وعن عقبة بن عامر وعن عمر وعن ابن عمرو (ب) وعن زيد بن أرقم وعن واثلة وعن ابن عباس، وجميع طرقه (¬4) فيها مقال، ولكن بعضها يتأيد بالبعض. و (جـ) الحديث فيه دلالة على تحريم ذلك على الذكور، والحل للإناث، ¬

_ (أ) في جـ: ابن خزيمة. (ب) في هـ وجـ: وعن ابن عمر، قلت: وفي الباب عنه أيضًا انظر نصب الراية 4/ 223. (جـ) الواو ساقطة من جـ.

وفيه رد على ما ذهب إليه ابن الزبير من التحريم مطلقًا والتخصيص لعمومه بما تقدم. والله أعلم. 398 - وعن عمران بن حصين - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إِن الله يُحبُّ إِذا أنْعَمَ على عبدٍ نِعْمةً أنْ يَرىَ أثرَ نِعْمَتِهِ علَيْه". رواه البيهقي (¬1) وأخرج الترمذي (¬2) نحوه عن عمرو بن شعيب (أ) عن أبيه عن جده، وأخرج النسائي (¬3) عن أبي الأحوص عن أبيه، وفيه: "فإذَا آتاك اللهُ مالًا فلير أثر نعمة الله عليْكَ وكرامته (ب) "، والمعنى أن الله تعالى إذا أنعم على العبد ينبغي له أن يظهر نعمه في حقه فيلبس ما يناسب حاله فإنه شكر فِعْلي وأيضًا فإن المحتاج إذا رأى عليه آثار الغنى قصده. 399 - عن علي - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "نهى عن لبس القسي والمعَصْفَر". رواه مسلم (¬4). ¬

_ (أ) في جـ: سعيد، وصحت: لعله شعيب. (ب) بهامش هـ.

قوله: "القَسيّ" هي (أ) ثياب مضلعة يؤتى بها من مصر (ب والشام فيها شية، هكذا رواية مسلم، وأما رواية البخاري (¬1) فيها حرير أمثال الأترج. قال أهل اللغة (¬2) وغريب الحديث: هي ثياب مضلعة بالحرير تعمل بالقَسّ بفتح القاف وهو موضع من بلاد مصر ب) على جانب البحر قريب من تنيس. وقيل: هي ثياب كتان مخلوطة بحرير، وقيل: هي ثياب من القز وأصله القزي بالزاي منسوب إلى القز وهو رديء الحرير فأبدل من الزاي سين. وفيه دليل على تحريمه إذ النهي حقيقة في التحريم إلا أنه إن كان حريره أكثر أو جميعه، فالنهي (جـ) على حقيقته، وإلا فالنهي للكراهة للتنزيه، للقرينة. وقوله: "والمعصفر" وهو المصبوغ بالعصفر، فيه دلالة على تحريم لبس الثوب المصبوغ بالعصفر (د)، وقد ذهب إلى هذا العترة على ما حكاه في البحر (¬3). ودليله واضح وذهب جمهور العلماء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم إلى إباحة المعصفر، وبه قال الشافعي (¬4) وأبو حنيفة ومالك لكنه ¬

_ (أ) في هـ: هو. (ب- ب) بهامش جـ. (جـ) زاد في هـ: معلول. (د) في جـ: بالمعصفر.

قال: غيرها أفضل منها. وفي رواية عنه أنه أجاز لباسها (أ) في البيوت وأفنية الدور، وكرهه في المحافل والأسواق وغيرها، وقال جماعة من العلماء: هو مكروه كراهة تنزيه قالوا: لأنه - صلى الله عليه وسلم - "لبس حلة حمراء" (¬1). وفي الصحيحين عن ابن عمر (¬2): "رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصبغ بالصفرة"، وقال الخطابي (¬3): النهي (ب) إنما هو عما صبغ من الثياب بعد النسج، فأما ما صبغ غزله ثم نسج فلا، وبعضهم على أن النهي إنما هو في حق المحرم، والبيهقي قال في كتابه معرفة السنن: نهى الشافعي الرجل عن المزعفر وأباح المعصفر، قال الشافعي: وإنما رخصت في المعصفر لأن أحدًا لم يحك عن النبي - صلى الله عليه وسلم - النهي عنه إلا ما قال علي رضي الله عنه: نهانى ولا أقول نهاكم (¬4)، قال البيهقي: وقد جاءت أحاديث تدل على أن النهي على العموم ثم ذكر حديث عبد الله بن عمرو بن العاص الآتي ثم أحاديث ثم قال: ولو بلغت هذه الأحاديث الشافعي -رحمه الله تعالى- لقال بها إن شاء الله تعالى. ثم ذكر بإسناده ما صح عن الشافعي أنه قال: إذا صح حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - خلاف قولي فاعملوا بالحديث ودعوا قولي، وفي رواية: ¬

_ (أ) في هـ: لبسها. (ب) ساقطة من جـ.

فهو مذهبى. قال البيهقي: قال الشافعي: وأنهى الرجل الحلال بكل حال أن يتزعفر قال: وآمره إذا تزعفر أن يغسله. 400 - وعن عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما - قال: "رأى عليّ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - ثوبين مُعَصْفرَيْن فقال: أُمُّكَ أمَرَتْكَ بهذا؟ ". رواه مسلم (¬1). الحديث أخرجه مسلم بهذا اللفظ، وتمامه قلت: (أأغْسِلُهُما) (أ) يا رسول الله؟ قال: "بل احرقهما". وفي رواية: "إنَّ هذه من ثياب الكفار فلا تلبسهما" وأخرجه النسائي وأبو داود (¬2). قوله: "أمك أمرتك بهذا" معناه: أن هذا من لباس النساء وزينتهن وأخلاقهن. وأما الأمر بإحراقهما، فقيل: هو عقوبة، وتغليظ لزجره وزجر غيره عن مثل هذا الفعل، ولهذا نظائر في السنة مثل أمر المرأة التي ¬

_ (أ) في الأصل: أغسلها، هـ: أغسلهما.

لعنت الناقة بإرسالها. وأمر (عائشة بشراء بريرة مع شرطهم للولاء) (أ) ثم (ب) أنكر اشتراط الولاء، ونحو ذلك. 401 - عن أسماء بنت أبي بكر - رضي الله عنها - "أنها أخْرجت جُبَّة رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - مَكفُوفَةَ الجَيْبِ والكُمينِ والفَرْجَيْنِ بالدِّيباج". رواه أبو داود (¬1). وأصله في مسلم، وزاد: "كانت عند عائشة رضي الله عنها حتى قُبِضَتْ فَقَبَضَتْهَا أسْماء، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يلبسها، فنحن نغْسِلُها لَلمَرْضَى يُسْتَشْفَى بها". وزاد البخاري في الأدب المفرد: "وكان يلبَسُهَا للوفْدِ والجُمُعَة". قوله: "إِنها أخرجت" إلخ، في مسلم إنها فعلت ذلك لابن عمر لما بلغها أنه يحرم العلم في الثوب، وقال: إنه سمع عمر يقول: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إنما يلبس الحرير من لا خلاق له" (¬2) قال: فخفت أن يكون العلم منه فأخرجت له جبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وقوله: "مكفوفة الجيب" إلخ يعني أنه جعل لجيبها كفة بضم الكاف، وهي ما يكف به جوانبها ويعطف عليها. ويكون ذلك في الذيل وفي الفرجين وفي الكمين والجيب، والكفة من الديباج وهي محمولة ¬

_ (أ) بهامش الأصل. (ب) في جـ: و.

على أنه أربع أصابع أو دونها (أو فوقها إذا لم يكن مصمتًا) (أ) جمعًا بين الأدلة. وفيه دلالة على جواز مثل ذلك من الحرير، وجواز لباس الجبة وما له فرجان وأن لا كراهة في ذلك. وقولها: (ب) "يستشفى بها" فيه دلالة على أنه لا كراهة في الاستشفاء، بآثار النبي - صلى الله عليه وسلم - وما لامس جسمه الشريف. وقوله: "وكان يلبسها للوفد والجمعة"، فيه دلالة على استحباب لباس الزينة الجائز عند اجتماع الناس ووفود من لم يكن قد عرف من قبل ذلك. والله أعلم. فائدة: ذكر في المواهب اللدنية أنه كان للنبي - صلى الله عليه وسلم - ثلاث جباب يلبسهن، جبة في الحرب، وجبة سندس أخضر، وجبة طيالسة (جـ) وعمامة يقال لها: السحاب وأخرى سوداء، ورداء، وكان له منطقة من أديم فيها ثلاث حلق من فضة والإبزيم من فضة (د والطرف من فضة د). فائدة أخرى: ذكر في الهداية شرح الإرشاد أنه يستثنى من لبس الحرير ما عمت به البلوى من خلع الملوك الحرير أو ما أكبره (هـ) وزنًا منه على العلماء والقضاة، فقد نقل الماوردي جوازه لأن زمنه يسير، وخرج على أن أمر الإمام إكراه، ويشهد للجواز إلباس عمر - رضي الله عنه - سراقة ¬

_ (أ) بهامش الأصل، وساقط من جـ. (ب) في جـ: وقوله. (جـ) في جـ: كاليالسة، وهو تصحيف. (د- د) ساقطة من جـ. (هـ) في جـ: ما أكثره.

سواري كسرى، وقد يمنع بأن فعل عمر لإظهار معجزة من معجزات النبي - صلى الله عليه وسلم - لأنه قال له حين فتح مكة، وكان أشعر وقد حسر عن ذراعيه: "كأني بك وقد سورت سوار كسرى" ويجوز للرجل والخنثى الجلوس على حرير بسط عليه ثوب قطن، ويجوز خياط الثوب بالحرير ولبس (¬1) ما خيط به، ويحل منه خيط السبحة قاله في المجموع (¬2). قال الزركشي: ويقاس به لبقة الدواة، قال الفوران: ويجوز منه كيس المصحف للرجل والخنثى قال: ويكره لباس الثياب الحسنة (أ) لغير غرض شرعي، نقله النووي عن المتولي والروياني واختار في المجموع (¬3) ما اقتضاه كلام غيرهما من أنه خلاف السنة، ويحرم على الرجل إطالة العدبة طولًا فاحشًا، وإرسال الثوب على الكعبين للخيلاء (¬4)، ويكره ذلك لغير الخيلاء، وله لبس العمامة بعدبة ودونها ويسن (ب) أن تكون العدبة بين الكتفين ويستحب (¬5) تقصير الكم لحديث أسماء بنت زيد "كان كم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الرسغ". رواه أبو داود والترمذي (¬6) وحسنه، قال الزركشي: وينبغي طي الثياب. وفيه أحاديث لكن بأسانيد ضعيفة رواها الطبراني وغيره. ¬

_ (أ) هـ: الخشنة. (ب) في جـ: وليس.

ويجوز بلا كراهة لبس القميص والقباء والفرجية مزرورًا وغير مزرور إذا لم تبد العورة، ذكره في المجموع (¬1)، قال ابن عبد السلام (¬2): وإفراط توسعة الثياب والأكمام بدعة وسرف، ولا بأس بلبس العلماء شعار، ليعرفوا بذلك فيسألوا ويأمروا فيطاعوا. انتهى. (عدة (أ) أحاديث اللباس اثنا عشر حديثًا) (ب). ¬

_ (أ) جـ: عدد. (ب) بهامش الأصل.

كتاب الجنائز

كتاب الجنائز الجنائز بفتح الجيم جمع جَنازة بالفتح والكسر، (أقال ابن قتيبة: الكسر أفصح أ) مشتقة من جنز إذا ستر، ذكره ابن فارس وغيره، والمضارع (ب) يجنز بكسر النون ويقال للميت جنازة بالفتح، وبالكسر للنعش إذا كان عليه ميت، ويقال عكسه، ذكره صاحب المطالع (¬1). 402 - عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "أكْثِروا مِنْ ذِكْر هَاذمِ اللَّذَّات، الموت" (¬2). رواه الترمذي والنسائي (صححه ابن حبان) (جـ)، وأخرجه أحمد وابن ماجه (د) والحاكم وابن السكن وابن طاهر كلهم عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة وأعله الدارقطني بالإرسال (¬3). ¬

_ (أ - أ) بهامش هـ. (ب) في جـ: فالمضارع. (جـ) بهامش الأصل. (د) زاد في ب: وصححه ابن حبان.

وفي الباب عن أنس عند البزار (¬1) بزيادة، وصححه ابن السكن. وقال أبو حاتم في العلل (¬2): لا أصل له، وعن عمر ذكره ابن (¬3) طاهر في تخريج أحاديث الشهاب، وفيه من لا يعرف، وهو (أ) في الحلية (¬4) (ب) في ترجمة مالك، وذكره البغوي (¬5) عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه مرسلًا. وقوله: "هاذم" ذكر (جـ) السهيلي (¬6) في الروض أن الرواية فيه بالذال المعجمة. قال في البدر (¬7): ليس إلا، ومعناه القاطع، وأما بالمهملة فمعناه المزيل للشيء، وليس ذلك مرادًا هنا، هذا كلامه، وهو محتمل (د) الصحة كما لا يخفى. وفي الحديث دلالة على أنه ينبغي للإنسان أن لا يخلي عن ذكره (هـ) أعظم المواعظ وهو الموت. وقد نبه على فائدة ذلك في تمام الحديث وهو ¬

_ (أ) في جـ: وهي. (ب) زاد في جـ: لأبي نعيم. (جـ) في جـ: ذكره. (د) في جـ: يحتمل. (هـ) في جـ: ذكر.

قوله: "فإنكم لا تذكرونه في كثير إلا قلله ولا قليل إلا كثره" (¬1)، وفي رواية الديلمي عن أبي هريرة: "أكثروا ذكر الموت فما من عبد أكثر ذكره إلا أحيا الله قلبه وهون عليه الموت"، وفي لفظ ابن حبان والبيهقي في شعب الإيمان (¬2) "أكْثِروا ذكْرَ هَاذمِ اللذاتِ، فإنّه مَا ذَكَرهُ عبد قَطُّ وَهُو في ضِيق إلَّا وَسَّعَه عَليه، ولَا ذَكرهَ وَهوَ (أ)، في سَعَةٍ إلّا ضيَّقَه" (¬3)، وفي حديث أنس عند ابن لال في مكارم الأخلاق: "أكثرُوا ذكْرَ المَوْتِ، فإنّ ذلك تَمحْيصٌ للذّنوب وتَزْهيدٌ في الدنيا" (¬4) الموت: القيامة، وعند البزار (¬5): "أكثروا ذكرَ هَاذِمِ اللَّذات، فإنه مَا ذَكَره أحدٌ في ضيقٍ منَ العيش إلَّا وسَّعه عَلْيه، ولا في سعة إلَّا ضَيَّقَه"، وعند ابن أَبي الدنيا (¬6): "أكثِروا ذكْرَ المَوْت، فإنه يَمْحو الذنوبَ ويزهد في الدُّنيا فإنْ ذَكَرتموهُ عند الغَني هَدمه وإن ذَكرتموه عند الفَقْرِ أرضاكم بِعيشِكُم". 403 - وعن أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يتمنين أحَدُكمُ الموتَ لِضُرٍّ يَنْزِلُ بِه، فإِنْ كانَ لا بُدَّ مَتَمَنِّيًا فَلْيَقُلْ: اللَّهُمَّ ¬

_ (أ) ساقطة من جـ.

أحْيني مَا كَانَت الحياةُ خَيْرًا لِي، وتوفني مَا كَانت الوفاةُ خَيْرًا لِي". متفق عليه (¬1). في الحديث دلالة على النهي عن تمني الموت لأجل الضر النازل من مرض أو محنة من عدو أو فاقة أو نحو ذلك من مشاق الدنيا، لما في ذلك من الجزع، وعدم الصبر على القضاء وفيه إظهار عدم الرضى، وظاهر التقييد بقوله: "لضر نزل به"، وأما إذا كان المتمني لغير ذلك فليس بداخل في النهي بأن يخاف على نفسه الفتنة في الدين أو محبة إدراك فضيلة كتمني الشهادة كما وقع مثل ذلك من عبد الله بن رواحة وغيره من السلف وكما في قصة مريم عليها السلام، وقولها: {يَالَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا} (¬2)، فإن التمني منها -صلوات الله وسلامه عليها- إنما هو لمثل هذا الأمر الخوف مِن كفر من كفَر وشقاوة من شقي بسببها (أ). وقوله: "فإن كان لا بد متمنيًا" (ب)، يعني أنه إذا ضاق ذرعه وعظم جزعه حتى عظم عليه مجاهدة نفسه بالتصبير لها فليقل: اللهم إلخ .. وفي (جـ) هذا القول رجوع إلى التفويض لأمر الله سبحانه وسؤاله له ما كان ¬

_ (أ) هـ: بسبها. (ب) زاد في جـ: إلخ. (جـ) ساقطة من جـ.

أحمد عاقبة لدينه ودنياه من الموت والحياة والأفضل هو الصبر، وكان هذا رخصة في حقه والظاهر أن النهي للتحريم إذا كان ذلك لعدم الرضى بالقضاء. والله أعلم. 404 - وعن بريدة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "المؤمن يموتُ بعَرَق الجَبينِ". رواه الثلاثة وصححه ابن حبان (¬1). وأخرجه أحمد وابن ماجه والروياني ومالك والباورديّ (أ) وأبو نعيم في الحلية والبيهقي في شعب الإيمان والضياء المقدسي، وأخرجه من حديث ابن مسعود الطبراني في الأوسط (¬2). قوله: "بعرق"، بفتح العين والراء المهملتين، وفيه وجهان أحدهما ما يكابده من شدة السياق التي يعرق دونها جبينه أي يشدد عليه تمحيصًا لبقية ذنوبه. والثاني أنه كناية عن كد المؤمن في طلب الحلال، وتضييقه على نفسه بالصوم والصلاة حتى يلقى الله تعالى فيكون الجار والمجرور في محل النصب على الحال، (والمعنى على الأول أن حالة الموت وخروج ¬

_ (أ) في الأصل، هـ: البارودي.

الروح شديدة عليه، فهو صفة لكيفية الموت وشدته على المؤمن) (أ)، والمعنى على الثاني أنه يدركه الموت في حال كونه على هذه الحال الشديدة التي يعرق منها الجبين فهو صفة للحال الذي يفاجئه الموت عليها (¬1) والله أعلم. 405 - وعن أبي سعيد - رضي الله عنه - وأبي هريرة - رضي الله عنه - قالا: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لقنوا موتاكم: لا إِله إِلا الله". رواه مسلم (¬2) والأربعة، وهذا لفظ مسلم، وفي لفظ أبي داود زيادة قول: "لَا إله إلا الله"، وأخرجه ابن (¬3) حبان بزيادة: "فمن كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة يومًا من الدهر وإن أصابه ما أصابه قبل ذلك"، وعزاه ابن الجوزي في جامع المسانيد إلى البخاري وغلط في ذلك، والمحب الطبري جعله من المتفق عليه، وليس كذلك. وأخرجه أبو القاسم القشيري في أماليه من طريق ابن سيرين عن أبي هريرة مرفوعًا بلفظ: "إذا ثقلت مرضاكم فلا تُملُّوهم قول لا إله إلا الله، ولكن لقنوهم فإنه لم يختم به لمنافق قط"، وقال: غريب، وفيه محمد بن الفضل بن عطية (¬4) وهو متروك، وفي الباب ¬

_ (أ) بهامش الأصل.

عن عائشة أخرجه النسائي (¬1) بلفظ: "هلكاكم" بدل "موتاكم"، وعن عبد الله بن جعفر بلفظ: "لا إله إلا الله الحليم الكريم سبحان الله رب العرش العظيم، الحمد لله رب العالمين" قالوا: يا رسول الله كيف للأحياء؟ قال: "أجود وأجود" رواه ابن ماجه (¬2)، وعن جابر في الدعاء (¬3) للطبراني والضعفاء للعقيلي وعن عروة بن مسعود الثقفي رواه العقيلي (¬4) بإسناد ضعيف، ثم قال: روي في الباب أحاديث (أصحاح من غير واحد من الصحابة ورواه ابن أبي الدنيا عن حذيفة بلفظ: "لقنوا موتاكم أ) لا إله إلا الله فإنها تهدم ما قبلها من الخطايا"، وروي فيه أيضًا عن عمر وعثمان وابن مسعود وأنس وغيرهم وعن ابن عباس (¬5) وابن مسعود (¬6) رواهما الطبراني وروي فيه أيضًا من حديث (¬7) عطاء بن السائب عن أبيه عن جده بلفظ: "من لقن عند الموت شهادة أن لا إله إلا الله دخل الجنة" (¬8). ¬

_ (أ - أ) بهامش هـ.

قوله: "لقنوا موتاكم"، المراد بالتلقين هو تذكيره هذا اللفظ الجليل، والمراد بالموتى من حضره الموت وأشرف عليه تسمية له بما يصير إليه مع قرب المصير إليه والحِكمة في التلقين ليقولها فيكون آخر كلامه ليدركه فضيلة قوله: - صلى الله عليه وسلم - "مَنْ كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة" (¬1)، والأمر بهذا التلقين للندب، كذا ذكر (أ) العلماء وأجمعوا على هذا التلقين، وكرهوا الإكثار عليه، والموالاة لئلا يضجر وتضيق حاله ويشتد كربه فيكره ذلك بقلبه ويتكلم بما لا يليق، قالوا: وإذا تكلم مرة أخرى فيعاد التعريض له ليكون آخر كلامه. وفي الحديث دلالة على أنه يندب الحضور عند المحتضر لتذكيره وتأنيسه وإغماض عينيه والقيام بحقوقه، وهذا مجمع عليه. 406 - وعن معقل بن يسار - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "اقرءوا علَى موتاكُم يَس". رواه أبو داود والنسائي وصححه ابن حبان وأخرجه ابن ماجه والحاكم (¬2)، وأعله ابن القطان بالاضطراب (¬3) وبالوقف ¬

_ (أ) في جـ: ذكره.

وبجهالة حال أبي عثمان وأبيه راويه عن معقل بن يسار، ونقل أبو بكر بن العربي عن الدارقطني أنه قال: هذا حديث ضعيف، الإسناد، مجهول المتن ولا يصح في الباب حديث، وقال أحمد في مسنده (¬1): حدثنا صفوان قال: كانت المشيخة يقولون: إذا قرأت يعني: يس عند الميت خفف عنه بها، وأسنده صاحب الفردوس عن أبي الدرداء وأبي ذر قالا: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما من ميت يموت فيقرأ عنده يس إلا هون الله عليه"، وفي الباب عن أبي ذر (أ) أخرجه أبو الشيخ في فضائل القرآن، وأخرج أبو بكر المروزي في كتاب الجنائز عن أبي الشعثاء صاحب ابن عباس أنه يستحب قراءة سورة الرعد (¬2)، وزاد فإن ذلك تخفيف عن الميت، وفيه أيضًا عن الشعبي قال: كانت الأنصار يستحبون أن يقرءوا عند الميت سورة البقرة، وأخرج المستغفري في فضائل القرآن أثر أبي الشعثاء (¬3). وقوله: "فاقرءوا على موتاكم"، أراد به من حضرته الوفاة كذا ذكر (ب) ابن حبان (¬4) في صحيحه، فقال: أراد به من حضرته المنية، لا أن الميت (جـ) يقرأ عليه كذلك. ورده المحب الطبري في الأحكام وغيره. وقال: إن قراءة يس تنفع المحتضر والميت .. 407 - وعن أم سلمة - رضي الله عنها - قالت: دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أبي سلمة، وقد شَقَّ بصرُه، فأغْمضهُ، ثم قال: "إِنّ الرُّوحَ إِذا ¬

_ (أ) زاد في جـ: و. (ب) في جـ، هـ: ذكره. (جـ) في جـ: الميتة لان.

قُبِضَ تَبِعَه البصرُ، فَضَجَّ ناس من أهله فقال: لا تدعوا علَى أنْفُسِكُم إِلّا بخيرٍ، فإِنّ الملائكة تؤمّنُ علَى ما تَقُولُونَ، ثم قال: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لأبِي سلمة، وارْفَعْ دَرَجَتَهُ فِي المهديين، وأفْسحْ له في قبرِه ونوِّر لَه فِيه، واخلفه في عَقبه". رواه مسلم (¬1). قوله: "وقد شق بصره" بفتح الشين المعجمة مبني للمعلوم بلا خلاف وبصره مرفوع فاعل شق هكذا ضبط الحديث، قال النووي (¬2): وهو المشهور، قال وضبطه بعضهم بالفتح وهو صحيح أيضًا، قال صاحب الأفعال: يقال: شق بصر الميت، ومعناه شخص و (أ) قال ابن السكيت في الإصلاح والجوهري حكاية عن ابن السكيت: يقال شق بصر الميت ولا يقال: شق الميت بصره، وهو الذي حضره الموت، وصار ينظر إلى الشيء لا يرتد إليه طرفه (¬3). وقوله: "فاغمضه"، دليل على استحباب إغماض الميت وأجمع المسلمون (¬4) على ذلك قالوا: والحكمة فيه أن لا يقبح منظره لو ترك إغماضه. وقوله: "تبعه البصر"، معناه إذا خرج الروح من الجسد تبعه البصر ¬

_ (أ) الواو ساقطة من جـ.

ناظرًا أين يذهب وفي الروح لغتان: التذكير والتأنيث. وهذا الحديث دليل للتذكير، وفيه دليل لقول من قال: إن الروح أجسام لطيفة متحللة في البدن وتذهب الحياة من الجسد بذهابها، وليس عرضًا كما قاله آخرون (ولا دمًا كما قاله آخرون، وفيه كلام متشعب للمتكلمين قال (أ) القاضي عياض: وفيه أن الموت ليس نافيا (ب) وإعدام تام، وإنما هو انتقال وتغير حال وإعدام للجسد دون الروح إلا ما استثنى من عَجْبِ الذَّنَبِ، قال: وفيه حجة لمن يقول: الروح والنفس بمعنى (¬1)) (جـ). وقوله: "ثم قال اللهم اغفر" إلخ فيه استحباب الدعاء للميت عند موته ولأهله وورثته بأمور الآخرة والدنيا، وفيه دلالة على المذهب المختار من إثبات حالة (¬2) الميت في القبر من تنعيم أو تعذيب. 408 - وعن عائشة - رضي الله عنها -: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين توفِّيَ سُجِّيَ ببُرد حِبَرَةٍ". متفق عليه (¬3). وعنها: أن أَبا بكر الصديق - رضي الله عنه - قَبَّلَ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - بعدَ موته. رواه البخاري (¬4). ¬

_ (أ) زاد في جـ: و (ب) هـ: بإفناء. (جـ) بهامش الأصل.

قوله: "سجي": أي غُطي، "البرد" (¬1) يجوز إضافته إلى الحبرة ووصفه بها والحبرة ما كان له أعلام، وهي أحب اللباس كانت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -. وقولها: إنه قبل النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد موته، فيه دلالة على أنه يجوز تقبيل الميت، وفي دخوله بعد التسجية، فيه مناسبة أيضًا لما قالوا. وهو مروي عن النخعي، ينبغي أن لا يطلع عليه إلا الغاسل له ومن يليه لئلا يطلع على ما يكره الاطلاع عليه من حال الميت. 409 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه - عن (أ) النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "نَفْسُ المؤمنِ مُعلَّقةٌ بِدَيْنِهِ حتى يُقْضَى عَنْه". رواه أحمد والترمذي وحسنه (¬2). في الحديث دلالة على الاهتمام بقضاء الدين، وأن الميت لا يخلو عن الامتحان به حتى يقضي عنه، وظاهره: ولو أوصى. والله أعلم. 410 - وعن ابن عباس - رضيِ الله عنهما - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في الذي سقَط عن راحِلَتِهِ، أو قال: وقَصَتْه فمات: "اغْسلُوه بماءٍ وسدرٍ، ¬

_ (أ) في هـ: أن.

وكفنوه في ثَوْبَيْن". متفق عليه (¬1). لفظ البخاري قال: بينما رجل واقف بعرفة إذ وقع عن راحلته فوقصته أو قال: فأوقصته. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "اغْسلُوه بماء وسدر، وكفِّنوه في ثَوْبين ولا تحنطوه ولا تخَمِّروا رأَسَه فإنه يبْعثُ يومَ القيامة مُلبيًا" (¬2) وله ألفاظ أخر ولم يقع في البخاري التردد في سقط أو قال: وَقصته في جميع ألفاظه، وإنما الشك في وقصته أو أوقصته، وفي لفظ (¬3): "أقصعته أو أقعصته"، وفي لفظ (¬4): قال أيوب: "فوقصته" وقال عمرو: "فأقصعته". قوله: "وقصته": الوقص (¬5) كسر العنق، وفاعل وقصته ضمير يعود إلى مصدر أسقطته وهو السقطة مؤنث، ويجوز أن يعود إلى الراحلة (¬6) فإن كانت الراحلة أصابته بعد سقوطه فالإسناد إليها حقيقة، وإلى السقطة مجاز وإن لم يكن كذلك، كان الأمر بالعكس ووقصته هو المعروف عند أهل اللغة وأوقص شاذ، وأما أقصعته (أ) فهو من القصع (ب) الذي هو ¬

_ (أ) زاد في جـ: بتقديم. (ب) في جـ: القطع.

الهشم مع قصع (أ) القملة إذا هشمها (¬1)، وقيل: هو خاص بكسر العظم فيكون مستعارًا هنا لكسر العنق، إن لم يكن الكسر لها كسرًا للعظم وإلا فحقيقة، وأما أقعصته بتقديم العين على الصاد فهو القتل في الحال ومنه قعاص الغنم، وهو موتها. وقوله: "اغسلوه بماء وسدر" فيه دلالة على وجوب غسل الميت، وأن الماء والسدر كاف في مطلق الغسل، ولم يذكر في هذا اللفظ ترك الحنوط وهو ثابت في رواية للبخاري (ب) (¬2) لهذا الحديث بلفظ: "ولا تحنطوه، ولا تخمروا رأسه فإنه يبعث ملبيًا" فيه دلالة على أن حكم الإحرام باق في حقه بدليل ترك الطيب وتخمير الرأس والتعليل بأنه يبعث ملبيًا، والخلاف في ذلك للحنفية، وبعض المالكية (¬3) فقالوا: إنه ينقطع حكم الإحرام بالموت، والحديث ورد في قضية معينة (شهادة له) (جـ) بأن (د) حجته مقبولة حتى بعث ملبيا وإلا فلو كان لأجل بقاء الإحرام لقال بعد قوله: إنه يبعث ملبيا لأنه محرم. وأيضًا فإنه سبحانه وتعالى يقول: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إلا مَا سَعَى (39)} (¬4)، وقد انقطع سعيه وعمله بموته، لقوله - صلى الله عليه وسلم - إِذَا مَاتَ الإِنسان ¬

_ (أ) في جـ: قطع. (ب) في جـ: البخاري. (جـ) بهامش الأصل. (د) في جـ: أنه.

انْقَطَعَ عَمَلُه إِلّا من ثَلاث .. ". الحديث (¬1)، وليس هذا منها. وأجيب عن ذلك: بأنه حُكْم تعبدي ورد النص به، وكونه في قضية معينة لا يمنع الإلحاق (أ) بعد إظهار التعليل، وهو كونه يبعث ملبيًا، وبعثه ملبيًا ملازم للإحرام إذ التلبية بن خواصه والإحرام موجود في غيره من سائر من مات محرمًا فيكون حكمة حكمه في البعث ملبيًا. وأما كونه شهادة بأن حجته مقبولة فذاك غير مسلم، إذ الإحرام ونحوه من الأفعال المتعلقة بالإنسان المفضية إلى تحصيل الفضيلة نظرًا إلى ظاهر الاتصاف بها وكونها مشروطة بالقبول أمر آخر غير الحكم التكليفي بدليل قوله - صلى الله عليه وسلم -: "زملوهم بدمائهم وكلومهم فإنهم يبعثون" (¬2) الحديث، وهذا بالنظر إلى ظاهر الأسباب، وإلا فليس كل شهيد له هذه الفضيلة كما ذلك واضح، واستدل بعضهم بأنه لو كان إحرامه باقيًا لوجب أن تكمل له المناسك، ولا قائل به، وأجيب بأن ذلك ورد على خلاف الأصل، فيقتصر به على مورد النص، وقد يجاب عنه بأن ذلك ملتزم وهو صحة التكميل، ولكنه يشترط الوصية، ولعله لم يوص كما هو ظاهر القصة، وأما الداودي فاعتذر عن مالك بأنه لم يبلغه هذا الحديث. وقوله: "وكفنوه في ثوبين"، ظاهر هذا اللفظ: عدم لزوم تكفين المحرم في ثيابه التي مات بها، ولكن البخاري أورد الحديث في الحج ¬

_ (¬1) مسلم 3/ 1255 ح 14 - 1631، وأبو داود 3/ 300 ح 2880. (¬2) أحمد 5/ 431، النسائي 4/ 64.

بلفظ: "في ثوبيه" (¬1)، و (أ) للنسائي (¬2) "في ثوبيه اللذين أحرم فيهما"، والظاهر أنه لا قائل (ب) بتعيين ثياب المحرم، ولعله يفرق بينه وبين الشهيد أن في ثياب الشهيد أثر الدم فتركت (جـ) عليه بخلاف المحرم، و (د) قال المحب الطبري: إنما لم يزده ثوبًا ثالثا تكرمة له كما في الشهيد، (وفيه دلالة على أن الكفن من رأس المال لعدم استفصاله - صلى الله عليه وسلم - هل عليه دين يستغرق ماله أم لا) (هـ). وفي تمام الحديث، وهو "أنه يبعث ملبيًا" دلالة على أن من شرع في عمل طاعة ثم حال بينه وبين إتمامها الموت رجي له أن يكتبه الله تعالى في الآخرة من أهل ذلك العمل. 411 - وعن عائشة - رضي الله عنها - قالت: "لما أرادُوا غَسْلَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالوا: والله مَا نَدْرِي نُجَرِّدُ رسولَ - صلى الله عليه وسلم - كما نجَرِّدُ مَوتَانَا أمْ لَا". الحديث رواه أحمد وأبو داود (¬3). ¬

_ (أ) الواو ساقطة من هـ. (ب) في جـ: لا يقابل. (جـ) في جـ: فترك. (د) الواو ساقطة من هـ. (هـ) بهامش الأصل.

تمام الحديث: "فلمَّا اخْتلفُوا ألقَى اللهُ عليْهم النَّومَ، ثم كلمهم مُكَلِّمٌ مِنْ نَاحِية البيت لَا يْدرونَ مَنْ هُوَ، اغْسِلُوا النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - وعَلَيْه ثِيابُه". وفي رواية لابن حبان: (وكان) (أ) "الذي أجلسه في حجره عليُّ بن أبي طالب (¬1) رضي الله عنه". وروى الحاكم: عن عبد الله بن الحارث قال: "غسّلَ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - على وعلَى يد عليٍّ خِرقةٌ فَغسلَه، فأدْخَلَ يَده تحتَ القميصِ فَغَسلَه، والقميص عليه". وروي ذَلك الشافعي (¬2) عن مالك عن جعفر بن محمد عن أبيه، وفي هذه القصة علم من أعلامِ النبوة ودلالة على أنه - صلى الله عليه وسلم - ليس كغيره من الموتى فِي التلبُّس بالنجاسةِ وإلا لتَنَجَّس القميصُ - صلى الله عليه وسلم - (ب). 412 - وعن أم عطية - رضي الله عنها - قالت (جـ): دخل علينا النبي - صلى الله عليه وسلم - ونحن نغَسّلُ ابنته، فقال: "اغْسلْنَها ثلاثًا، أو خمسًا، أو أكثرَ مِن ذلك، إِن رَأيْتُنَّ ذلكَ بماء وسدْر، واجْعَلْنَ في الأخيرة كَافُورًا، أو شيئًا من كَافوُرٍ (فإِذا فَرَغْتُنَّ فآذنَّني) (د)، فلمَّا فرغنا آذَنَّاهُ، فألْقى إِليْنَا حَقْوَه، فقال (هـ) أشْعِرْنَهَا إِياهُ" (¬3). متفق عليه. ¬

_ (أ) في الأصل وهـ: فكان، ولفظ ابن حبان بالواو. (ب) ساقطة من هـ. (جـ) في هـ: قال. (د) بهامش الأصل. (هـ) في جـ: وقال.

وفي رواية: "أبْدَأنَ بميامِنهَا ومواضعَ الوُضُوء منها" (¬1). وفي لفظ البخاري: "فَضفرْنَا شَعْرَهَا ثَلاثَةَ قرُونٍ، فَألْقيْناهُ خَلْفَهَا" (¬2). قوله: ونحن نغسل ابنته، ظاهره أنه دخل وقد شرعن في الغسل، وفي رواية للبخاري حين توفيت ابنته، وفي رواية للنسائي بلفظ: فأرسل إلينا فقال: اغسلنها، ويجمع بين الروايات (أنه) دخل حين شرع النسوة في الغسل ولا ينافي الإرسال لهن وأما لفظ: "حين توفيت" فهو غير مناف للروايتين جميعًا، والبنت لم يقع في البخاري تسميتها، وقد سماها مسلم (¬3) بلفظ: لما ماتت زينب (أ) وهي زوج أبي العاص بن الربيع والدة أمامة، وحكى الطبري (¬4) في الذيل أن وفاتها كانت سنة ثمان، ولكنه جزم الداودي بأن البنت المذكورة إنما هي أم كلثوم زوج عثمان، وقد أخرج مثل ذلك ابن ماجه (¬5) عن أبي بكر بن أبي شيبة بلفظ: دخل علينا، ¬

_ (أ) زاد في هـ: بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.

ونحن نغسل ابنته أم كلثوم وإسناده على شرط الشيخين، وقد أيد (بروايات) (أ) فمنها لابن بشكوال من طريق الأوزاعي عن محمد بن سيرين عن أم عطية قالت: كنت فيمن غسل أم كلثوم، وروى الدولابي (¬1) في الذرية الطاهرة بإسناده: أن أم عطية كانت ممن غسل أم كلثوم، ويمكن الجمع بأن أم عطية حضرتهما جميعًا لأنها كانت غاسلة (¬2) الميتات، وحضر (ب) معها في الغسل غيرها، قال المصنف (¬3) -رحمه الله تعالى- منهن: أسماء بنت عميس، رواه في الذرية الطاهرة (¬4)، قالت: ومعنا صفية بنت عبد المطلب، وروي أبو داود (¬5) من حديث ليلى بنت قانف بقاف ونون. قالت: كنت ممن غسلها وروى الطبراني من حديث أم سليم أنها ممن حضر. وقوله: "اغسلنها ثلاثًا أو خمسًا أو أكثر" إلخ، ظاهر الأمر بالغسل ثلاثًا إلخ أنه يجب ذلك العدد والظاهر الإجماع من العلماء على إجزاء الغسلة الواحدة المستكملة لجميع البدن كما هو المشهور فلعله يحمل الأمر ¬

_ (أ) في جـ: روايات. (ب) في جـ: وحضره.

على الندب، وأما وجوب أصل الغسل (أفهو معلوم بدليل آخر، فإن (ب) غسل ابنته كان بعد ثمان من الهجرة، وقد علم وجوب (ب) أصل الغسل أ) فلا يرد الإشكال بأنه يلزم في اللفظ الجمع بين الحقيقة والمجاز، وقد روي عن الكوفيين (¬1) وأهل الظاهر والمزني إيجاب الثلاث، وقالوا: إن خرج منه شيء بعد ذلك يغسل موضعه، ولا يعاد غسل الميت، وهو مخالف لظاهر (د) الحديث، وأخرج عبد الرزاق (¬2) عن الحسن قال: يغسل ثلاثًا، فإن خرج منه شيء غسل ما خرج، ولم يزد على الثلاث. وقوله: "أو خمسًا"، أو هنا للترتيب لا للتخيير، قال النووي (¬3) معناه: اغسلنها وترًا وليكن ثلاثًا، والواجب واحدة فقط، والثلاث مندوب، ولا تشرع الزيادة على الثلاث إذا لم يحتج إلى ذلك، وهو حيث لم يخرج (هـ) من فرجه بول أو غائط قبل التكفين فإن احتجتن (و) إلى زيادة فخمسًا. وقوله: "أو أكثر من ذلك" هو بكسر الكاف من ذلك إذ الخطاب لمؤنث ظاهره إطلاق الأكثر وقد فسر في روايات فقوله: (ز) أو "سبعًا" بدل ¬

_ (أ - أ) بالهامش في ب. (ب) في جـ: وأن. (جـ) في هـ: الوجوب. (د) بالهامش في هـ. (هـ) زاد في جـ: شيء. (و) في هـ: احتجن. (ز) في هـ: بقوله.

"أو أكثر من ذلك" وبه قال أحمد (¬1): وكره الزيادة على السبع، وقال ابن (¬2) عبد البر: لا أعلم أحدًا قال بمجاوزة (أ) السبع، قال (¬3) عن ابن سيرين فرأينا (ب) أن أكثر من ذلك سبع، وقال الماوردي (¬4): إن الزيادة على السبع سرف، وقال ابن المنذر: بلغني أن جسد الميت يسترخي بالماء فلا أحب الزيادة على ذلك، ولكنه مشكل بما وقع في رواية لأبي داود (¬5) بقوله: "أو سبعًا أو أكثر من ذلك" فإن ظاهر هذه الرواية وجوب ما زاد على السبع إذا احتيج إلى ذلك. وقوله: "إِن رأيتن" ذلك تفويض إلى اجتهادهن بحسب الحاجة لا التشهي، وقال ابن المنذر حكاية عن بعضهم: يحتمل أن يرجع (جـ) الشرط إلى الأعداد المذكورة، ويحتمل أن يكون معناه: إن رأيتن أن تفعلن ذلك وإلا فالأنقى يكفى (د). وقوله: "بماء وسدر"، فيه دلالة على أن الماء لا يضره ما اختلط به ¬

_ (أ) في هـ: لمجاوزة. (ب) في ب: قريبًا. (جـ) زاد في هـ: إلى. (د) بالهامش في جـ.

من المغيرات الطاهرة مما لم يسلب اسم الماء المطلق، وهذا مبني على أن غسل الميت للتطهير، وأن السدر يوضع مع الماء كما هو ظاهر الحديث، وأما إذا كان صفته أن يطلى جسد الميت بالسدر، ثم يغسل بعد ذلك بالماء القراح فلا يرد عليه شيء قالوا: والفائدة في السدر أنه يلين جسد الميت. و (أ) قوله: واجعلن في الأخيرة كافورًا أو شيئًا من كافور، هو شك من الراوي في أي اللفظتين واللفظ الأول هو في معنى الثاني لكونه نكرة فهو يصدق بأقل شيء وقد وقع في رواية للبخاري (¬1) (ب) بالجزم بالشق الأول و (جـ) ظاهره أنه يجعل الكافور أيضًا في الماء، ولا يضر الماء تغيره به، وبه قال الجمهور، وقال النخعي والكوفيون (¬2): إنما يجعل الكافور في الحنوط بعد انتهاء الغسل والتجفيف، وهو خلاف الظاهر، قيل: والحكمة في الكافور أنه يطيب رائحة الموضع لأجل من حضر من الملائكة، وخاصيته في تصليب جسد الميت، وطرد الهوام عنه (د) وردع ما يتحلل من الفضلات، ومنع إسراع الفساد إليه، وهو أقوى الروائح الطيبة في ذلك، والظاهر أنه لا يقوم غيره مقامه في مجموع هذه الخاصية، فإن عدم فعل غيره إحراز البعض ما يفعل له. وقوله: "فآذنني"، أي أعلمنني. ¬

_ (أ) الواو ساقطة من جـ. (ب) في جـ: البخاري. (جـ) الواو ساقطة من هـ. (د) في جـ: منه.

وقوله: "فلما فرغنا" بصيغة المتكلم، وقد وقع للأصيلي (¬1) فلما فرغن (أ) بضمير الغائبات. وقوله: "فأعطانا حقوه" بفتح المهملة، ويجوز الكسر لغة (ب) هذيل بعدها قاف ساكنة والمراد به (جـ) الإزار هنا مجاز، تسمية للحال باسم المحل إذ معناه الحقيقي معقد الإزار. وقولة: "أشعرنها إِياه" أي اجعلنه شعارها، والشعار هو الثوب الذي يلي الجسد، والغرض مباشرة جسدها لما باشر جسده الكريم من غير فاصل، وفيه دلالة على التبرك بآثار الصالحين (¬2)، وإن كان بين الآثار وأثره (د) بون بعيد، وفيه دلالة على جواز تكفين المرأة بثوب الرجل. وقوله: "ابدأن" من البداية والميامن مراد بها ما يلي الجانب الأيمن أعم من أعضاء الوضوء وغيرها. وقوله: "ومواضع الوضوء" المراد به أن يقدم في غسل الميت غسل أعضاء الوضوء منه (هـ) كما يندب ذلك للمغتسل، وفي هذا رد على أبي قلابة حيث قال: يبدأ بالرأس ثم باللحية، والمناسبة بتقديم أعضاء الوضوء ليكون على الميت أثر تجديد سمية (و) المؤمنين في ظهور أثر الغرة والتحجيل. ¬

_ (أ) في جـ: فرغ. (ب) في جـ: بلغة. (جـ) في جـ: بها. (د) زاد في هـ: - صلى الله عليه وسلم -. (هـ) ساقطة من: هـ. (و) في جـ: تسمية.

وظاهر قوله: "ومواضع الوضوء" أنه يستكمل الأعضاء ومن جملتها المضمضة والاستنشاق (¬1)، وفيه رد على الحنفية حيث قالوا: لا يستحب ذلك حتى وضوؤه غير مستحب عندهم، والظاهر أنه إذا غسلت هذه الأعضاء على هيئة الوضوء لا يعاد غسلها مع غسل سائر البدن كما هو ظاهر الحديث. وقوله: "فضفرنا شعرها ثلاثة قرون"، ظاهر السياق أن الضفر لم يكن بأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - ولكنه من البعيد أن يفعل ذلك بغير تعريف لها، مع تعليم النبي - صلى الله عليه وسلم - كيفية الغسل. (قال المصنف (¬2) وقد رواه سعيد بن منصور بلفظ الأمر قالت: قال: (أ) "اغْسلْنَها وِتْرًا"، واجعلن شعرها ضفائر"، وفي صحيح ابن حبان (¬3) "اغْسِلنَهَا ثلاثًا أو خمسًا أو سبعًا واجعلن لها ثلاثة قرون") (ب)، والقرون المراد بها هنا الضفائر (وقال ابن القاسم: لا أعرف الظفر (جـ)، بل يلف، وعن الأوزاعي والحنفية (¬4): يرسل شعر المرأة خلفها وعلى وجهها مفرقًا، والحجة عليهم ما عرفت) (د). ¬

_ (أ) ساقطة من جـ. (ب) بهامش الأصل. (جـ) في جـ: الضفائر. (د) بهامش الأصل.

والقرن هو الجانب وقد صرح في بعض ألفاظ البخاري ناصيتها وقرنيها فقوله (أ) في الرواية الأخرى: "ثلاثة قرون" من تغليب القرنين على الناحية فسمي ذلك ثلاثة قرون، والظفر هذا بعد نقض شعر الرأس وغسله، ثم ظفره من بعد، وهو مصرح به في البخاري (¬1) وقوله وألقيناه (ب) خلفها، فيه دلالة على جعل الضفائر خلف المرأة وقد أغرب ابن دقيق العيد (¬2) حيث قال: وزاد بعض الشافعية أن يجعل الثلاثة القرون خلف ظهرها، وأورد فيه حديثًا غريبًا، ولم يتنبه على أن ذلك في البخاري، وقد توبع راويها عليها. قال المصنف (¬3) -رحمه الله- في الفتح: وفي حديث أم عطية من الفوائد: تعليم الإمام من لا علم له بالأمر الذي يقع وتفويضه إليه إذا كان أهلًا لذلك بعد أن ينبهه على علة الحكم. قال: واستدل به على أن الغسل من غسل الميت ليس بواجب لأنه لم يعلم أم عطية بذلك، وفيه نظر لاحتمال أن يكون شرع بعد هذه الوقعة. وقال الخطابي (¬4): لا أعلم أحد، قال بوجوبه، وكأنه ما درى أن الشافعي علق القول به على صحة الحديث، والخلاف فيه ثابت عند المالكية (¬5)، وصار إليه بعض الشافعية (¬6) أيضًا. ¬

_ (أ) في جـ: بقوله. (ب) في جـ: وألقياه.

وقال ابن بريدة: الظاهر أنه مستحب (أ) والحكمة فيه تتعلق (ب) بالميت، لأن الغاسل إذا علم أنه سيغتسل لم يتحفظ من شيء يصيبه من أثر الغسل، فيبالغ في تنظيف الميت، وهو مطمئن (ب)، ويحتمل أن يتعلق بالغاسل ليكون عند فراغه على يقين من طهارة جسده، والعلة أن يكون أصابه من رشاش ونحوه، انتهى. 413 - وعن عائشة - رضي الله عنها - قالت: "كُفِّنَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - في ثلاثة أثواب بيضٍ سُحُوليّة من كُرْسُفٍ، ليس فيها قميص ولا عِمامة". متفق عليه (¬1). قوله: كفن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ثلاثة أثواب، فيه دلالة على شرعية الثلاثة الأثواب، وأنها أفضل، إذ لا يختار لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا ما هو الأفضل، قال الترمذي (¬2): وتكفينه - صلى الله عليه وسلم - في ثلاثة أثواب بيض أصبح ما ورد في كفنه، وقد أخرج أبو داود (¬3): "أنه كفن في ثوبين وبرد حبرة" من حديث جابر ¬

_ (أ) في جـ: يستحب. (ب) في هـ: تعلق. (جـ) في جـ: يطهر.

وإسناده حسن، ولكنه معارض بما أخرجه مسلم والترمذي من حديث عائشة (¬1) أنهم نزعوها عنه، وأخرج عبد الرزاق (¬2) أنه لف في برد حبرة جفف فيه ثم نزع عنه. (أوذهب الحنفية (¬3) إلى أنه الأفضل (ب) احتجاجًا بما روى، وقد عرفت الجواب عنه أ). وقد أخرج ابن أبي شيبة وأحمد والبزار (¬4) عن عليّ: أنه كفن في سبعة أثواب، وهو من رواية عبد الله بن محمد بن عقيل (¬5) عن ابن الحنفية عن علي، وابن عقيل سئ الحفظ يصلح حديثه للمتابعات، وأما إذا انفرد فلا (يحسن) (ب)، وأما إذا خالف فلا يقبل (¬6). قال المصنف (¬7) رحمه الله -: وقد روى الحاكم (¬8) من حديث أيوب عن نافع عن ابن عمر ما يعضد رواية ابن عقيل، وقد ذهب إلى هذا ¬

_ (أ- أ) بهامش هـ. (ب) في جـ: أفضل. (جـ) بهامش الأصل وفي جـ: يتحسن.

الهادي (¬1) فقال: إن الكفن المشروع ينتهي إلى سبعة محتجًا بهذا ولكنه إن صح عن علي فالمرجع إليه لأنه المباشر لتكفين النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا لمعارضة (أ) له أيضًا من حديث (ب) عائشة إذ يجوز أن تكون عائشة اطلعت على الثلاثة السحولية، ثم زيد عليها بعد ذلك من غير أن تطلع عليه، وقد ردت عائشة (¬2) على من قال: إنه (جـ) كفن في برد حبرة فقالت: قد أتي بالبرد ولكنهم ردوه، وعلى من قال: إن من جملة أكفانه حلة فقالت، إنما اشتبه على الناس وإنما اشتريت ليكفن فيها فتركت (¬3)، والحلة ثوبان. واعلم أن الواجب من الكفن أن يستر جميع جسد الميت، فإن قصر عن ستر الجميع، قدم الصورة فما فاض على ذلك ستر به من ناحية الرأس، وجعل على الرجلين حشيش كفعله - صلى الله عليه وسلم - في عمه (¬4) حمزة. ومصعب بن عمير (¬5) - رضي الله عنهما -، فإن أريد الزيادة على الكفن الواحد فالمندوب أن يكون وترًا، ويجوز التكفين باثنين كما أمر به - صلى الله عليه وسلم - في حق المحرم، ويحتمل الاقتصار عليهما، بأن يكون لعدم غيرهما، أو لكونهما ثوبي إحرامه، والثلاثة أفضل، كما روي في كفنه - صلى الله عليه وسلم - والثلاثة ¬

_ (أ) في جـ: ولا معارض. (ب) في جـ: طريق. (جـ) ساقطة من جـ.

الأكفان هي: مئزر ودرجان، (وفي طبقات ابن سعد (¬1) عن الشعبي إزار ورداء ولفافة) (أ) ولا عمامة فيها (ب) اتفاقًا، ولا قميص فيها كما روت عائشة، وذهب إلى هذا الهادي (¬2) والشافعي، وقال زيد بن علي والمؤيد وأبو حنيفة: بل قميص غير مخيط لرواية زيد بن علي في كفنه - صلى الله عليه وسلم - إنه كُفن في ثلاثة أثواب قميص غير مخيط، وإزار يبلغ من سرته إلى ركبتيه، ولفافة لف بها من قرنه إلى قدمه، فإن زيد على ذلك فالخمسة مستحبة أيضًا عند الهادي، لأمره - صلى الله عليه وسلم - بتكفين ابنته، وهي قميص وعمامة وثلاثة دروج، وللمرأة: إزار وخمار وثلاثة دروج لتكفين ابنته - صلى الله عليه وسلم -. وقال الهادي في المنتخب: بل قميص ومئزر وثلاثة دروج، وقال الإمام يحيى والمؤيد: لا استحباب في الخمسة وإنما أمر بها - صلى الله عليه وسلم - بيانًا للجواز، (جـ) قال الإمام الهدي: والظاهر خلافه، وإلا لزم فيما زاد على الواحد أن يكون بيانًا للجواز، و (د) قال الإمام يحيى: وأما السبعة فغير مشروعة إجماعًا، وفي جوازها خلاف، قال هو وغيره، ويكره للسرف (هـ)، وإذا لم يؤثر. قال الإمام المهدي: وهو قوي (¬3) انتهى. ¬

_ (أ) بهامش الأصل. (ب) ساقطة من جـ، في هـ: فيهما. (جـ) زاد في جـ: و. (د) الواو ساقطة من جـ. (هـ) في جـ: السرف.

وقد عرفت الرواية في تكفينه - صلى الله عليه وسلم - وكيفية السبعة، قميص وعمامة ومئزر وأربعة دروج إذ لا تكرار إلا فيها، وفي حق المرأة خمار عوض العمامة وتكفين الخنثى كالمرأة. وقوله: "بيض"، فيه دلالة على استحباب التكفين في الأبيض، وسيأتي الأمر به وسيأتي الخلاف للحنفية، فإنهم قالوا: يستحب أن يكون فيها ثوب حبرة. لما روي في تكفينه - صلى الله عليه وسلم - وقد عرفت الجواب عنه، أو (أ) لأنها كانت أحب اللباس إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما أخرجه الشيخان (¬1)، (ولما أخرجه أبو داود (¬2) من حديث جابر (ب) بإسناد حسن: "إذا توفي أحدكم فوجد شيئًا، فليكفن في ثوب حبرة") (جـ)، ولا معارضة لذلك بالأمر الذي سيأتي، إذ يجوز (د) أن يقال: إنها من الثياب البيض؛ لأنه الغالب فيها، فإنها ثوب أبيض فيه خطوط. وقوله: سحولية بضم المهملتين، وآخره لام نسبة إلى سحول (هـ) قرية باليمن (¬3) قال الأزهري: بالفتح المدينة، وبالضم الثياب، وقيل النسب (و) ¬

_ (أ) في جـ: و. (ب) زاد في جـ: وسيأتي. (جـ) بهامش الأصل. (د) في جـ: ويجوز. (هـ) في جـ: السحول. (و) في هـ: النسبة.

إلى القرية بالضم وأما بالفتح فنسبة إلى القصار لأنه يسحل الثياب أي ينقيها (¬1). وقوله: من كرسف بضم الكاف والمهملة بينهما راء ساكنة، هو القطن، ووقع في رواية البيهقي: (¬2) "سحولية جدد". وقوله: ليس (أ) فيها قميص ولا عمامة. حجة لمن قال: لا يجعل في الثلاثة قميص، والقائلون بالقميص (ب) في الثلاثة أجابوا عن ذلك بوجوه، المراد نفي وجود الأمرين معًا لا القميص وحده، أو أن الثلاثة خارجة عن القميص والعمامة، فالمعنى أن (جـ) الثلاثة هي مما عداهما وإن كانا موجودين وهذا بعيد جدًّا، أو ليس فيها قميص جديد مجتلب للتكفين وأما قميصه الملبوس فهو موجود أو ليس فيها القميص الذي غسل فيه (د) أو ليس فيها مكفوف الأطراف، ولا يخفى بعد هذه الوجوه والأولى أن يقال: إن التكفين بالقميص وعدمه كلاهما سواء مستحبان (¬3)، "فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - كفن عبد الله بن أبي المنافق في قميصه" أخرجه البخاري (¬4) وهو لا يفعل - صلى الله عليه وسلم - إلا ¬

_ (أ) زاد في جـ: و. (ب) في جـ: في القميص. (جـ) ساقطة من جـ. (د) في جـ: به.

ما هو أحسن (أ) لا سيما في مثل هذا الحال، ولذا بوب البخاري (¬1) للأمرين جميعًا وظاهر لباس النبي - صلى الله عليه وسلم - قميصه أن قميص الميت كقميص الحي مكفوفًا مزرورًا، وقد استحب هذا محمد بن سيرين (¬2)، أخرجه البيهقي في الخلافيات وفي هذا رد على من قال: إنه لا يسوغ القميص إلا إذا كان أطرافه غير مكفوفة، (ب والله أعلم ب). 414 - وعن ابن عمر - رضي الله عنه - قال: "لما تُوفِّي عبدُ الله بن أُبَيّ جاء ابنُهُ إِلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: أَعِطِني قميصك أكفنه فيه فأعْطاه". متفق عليه (¬3). فيه دلالة على أن القميص المكفوف مشروع التكفين فيه وظاهر هذا أنه طلب من النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك قبل أن يكفن، وفي حديث جابر أخرجه البخاري (¬4) أيضًا "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أتى بعد ما دفن عبد الله بن أبي فأخرجه (ب) من حفرته ووضعه على ركبتيه فنفث في فيه من ريقه وألبسه قميصه" أن ذلك من بعد وقد جمع بينهما أن معنى قوله: "فأعطاه" في حديث ابن ¬

_ (أ) في جـ: يحسن. (ب- ب) ساقطة من هـ. (جـ) في جـ وهـ: فأخرج.

عمر أي أجابه إلى ما سأل عدة له فأطلق عليها اسم العطية لما آل إليه ليحقق صدق الوعد، وفي قول جابر بعدما دفن أي دليل في حفرته أو أن المراد في حديث جابر الواقع بعد إخراجه من حفرته هو النفث وأما القميص فقد كان ألبس، والجمع بينهما لا يدل على وقوعهما معا وفي مثل هذه القصة أعطى النبي - صلى الله عليه وسلم - قميصه لتكفين عبد الله بن أبي أعظم دلالة على تحقيق ما وصفه الله تعالى من الخلق الكريم، وسجاحة (أ) أخلاقه وتلطفه وبره بالخلق أجمعين - صلى الله عليه وسلم - (ب) ما ذكره الذاكرون وغفل عن ذكره الغافلون. 415 - وعن ابن عباس - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - (ب) قال "البَسوا مِن ثِياِبكم البَيَاضَ فإِنَّها مِنْ (د) خير ثيابكم وكفنوا فيها مَوْتاكم". رواه الخمسة إلا النسائي، وصححه الترمذي (¬1). الحديث هذا لم يخرجه البخاري وكأنه لم يثبت على شرطه وإنما أورد في هذا حديث عائشة في تكفينه - صلى الله عليه وسلم - الذي قد مر ولهذا الحديث شاهد ¬

_ (أ) في جـ: وسماحة. (ب) زاد في جـ: عدد. (جـ) زاد في جـ: أنه. (د) ساقطة من جـ.

قوي من حديث سمرة بن جندب أخرجوه وإسناده صحيح (¬1). في الحديث دلالة على استحباب أن يكون الكفن بالثياب البيض، وقد عرفت فيما تقدم خلاف الحنفية في استحباب الحبرة، والجواب عنه تقدم، وما أخرجه ابن عدي من حديث ابن عباس "أنه - صلى الله عليه وسلم - كفن في قطيفة حمراء" (¬2)، ففي إسناده قيس بن الربيع، وهو ضعيف (¬3)، وكأنه اشتبه عليه بحديث "جعل في قبره قطيفة حمراء" (¬4) فإنه روي بالإسناد المذكور بعينه (أ) كذا ذكر المصنف في التلخيص (¬5). 416 - وعن جابر - رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذَا كَفَّنَ أحَدُكمْ أخاهُ فَلْيحْسِّنْ كفَنَه". رواه مسلم (¬6). ¬

_ (أ) زاد في جـ: و.

وعنه: "كان النبيّ - صلى الله عليه وسلم - يجمع الرَّجُليْنِ من قَتلَى أحُدٍ في ثوبٍ واحد ثم يقول: "أيّهمْ أكثرُ أخْذًا للقرآن فيقدِّمه في اللَّحدِ، وَلمْ يُغَسَّلوَا ولَمْ يُصلَّ عليْهم". رواه البخاري (¬1). في الأمر بإحسان الكفن دلالة على اختيار ما كان أحسن في الذات وفي صفة الثوب، وفي كيفية وضع الثياب على الميت. فأما حسن الذات فينبغي أن يكون على وجه لا يعد من المغالاة كما سيأتي النهي عنها وأما صفة الثوب فقد بين ذلك حديث ابن العباس المتقدم قبل هذا، وأما كيفية التكفين، فإذا وضع على الكيفية التي مرت فهو من إحسان الكفن، وقد ورد في الباب أحاديث منها ما أخرجه الديلمي عن جابر قوله - صلى الله عليه وسلم -: "أحْسنُوا كَفَنَ موْتَاكُمْ فإنهمْ يَتَبَاهونَ ويَتَزَاورونَ بِها في قبورِهم" (¬2) وأخرج أيضًا من حديث أم سلمة قوله - صلى الله عليه وسلم -: "أحسنوا الكفن ولا تؤذوا موتاكم بعويل ولا بتزكية ولا بتأخير وصية، ولا بقطيعة، وعجلوا بقضاء دينه واعدلوا عن جيران السوء وإذا حفرتم فأعمقوا وأوسعوا" (¬3). وقوله: "في ثوب واحد" فيه دلالة على أنه يجوز مثل ذلك عند ¬

_ (¬1) البخاري، ولفظه: "يجمع بين الرجلين .. فإذا أشير إلى أحدهما قدمه في اللحد وقال: أنا شهيد على هؤلاء يوم القيامة وأمر بدفنهم في دمائهم ولم يغسلوا .... " 3/ 209 ح 1343، أبو داود، الجنائز، باب في الشهيد يغسل 3/ 501 ح 3138، الجنائز، باب ما جاء في ترك الصلاة على الشهيد 3/ 354 ح 1036، ابن ماجه، الجنائز، باب ما جاء في الصلاة على الشهداء ودفنهم 1/ 485 ح 1514، أحمد 5/ 431. (¬2) و (¬3) اللآليء المصنوعة 2/ 235، تنزيه الشريعة 2/ 373، جمع الجوامع ح 705 - 703 وأخرجه ابن عدي في الكامل من حديث أبي هريرة وفيه سلمان بن أرقم قال عنه أحمد: ليس بشيء، لا يروى عنه الحديث 3/ 1100 - 1105، وأخرج عبد الرزاق عن ابن سيرين قال: كان يقال 3/ 431.

الضرورة، وهو إما (أ) يجمعهما في ثوب أو يقطع (ب) الثوب الواحد بينهما، والظاهر أن الأول لم يقل به أحد من العلماء أنه يجوز مثل ذلك على وجه تلتقي بشرتا الميتين حتى إن جماعة من شراح الحديث تأولوا الثوب بالقبر، وقالوا: هو مجاز عن القبر بجامع الستر وهو مدفوع بما في تمام الحديث من قول جابر: فكفن أبي وعمي في نمرة واحدة، فهذا صريح بأن الثوب في معناه الحقيقي ويدفع أيضًا الاعتراض بأن هذا من المكاتعة المنهي عنها، فإن (جـ) المكاتعة إنما تنهى عنها لمظنة الشهوة في الحي، وهي منتفية في الميت، إلا أن الظاهر أن الاحتمال الثاني أولى فإن في تقطيع الثوب بينهما وتقديم ستر العورة وأينما بلغ فيما (د) زاد عليها غنية، كما فعل في حمزة -رضي الله عنه-. وقوله: "أيهم أكثر أخذًا" إلخ، فيه دلالة على استحباب تقديم من كثر حفظه للقرآن لكونه أفضل، (ويقاس أيضًا (هـ) سائر جهات الفضل عليه، وفيه دلالة على جواز (و) جمع جماعة في قبر للضرورة) (ز) وقد صرح (ح) البخاري (¬1) بالجمع بين الرجلين، وبوب في الرجلين والثلاثة ¬

_ (أ) في هـ: ما. (ب) في جـ: أو يقطع. (جـ) في هـ: بأن. (د) في جـ: فما. (هـ، و) ساقطة من جـ. (ز) بهامش الأصل. (ح) في هـ: وضرح، وفي جـ: خرج.

وكأنه لم يكن على شرطه ذكر الثلاثة، وقد وقع في رواية عبد الرزاق (¬1): وكان يدفن الرجلين والثلاثة في قبر واحد، وروى مثله أصحاب السنن (¬2)، قالوا: ويحجز بين الاثنين بتراب أو نحوه وكذا المرأتين، وأما الرجل والمرأة فروى عبد الرزاق عن واثلة بن الأسقع "أنه كان يدفن بالرجل (أ) والمرأة في القبر الواحد، فيقدم الرجل، وتجعل المرأة وراءه (¬3)، وكأنه كان يجعل بينهما حائلًا من تراب لا سيما إذا كانا أجنبيين. والله أعلم (ب). وفي قوله: "ولم يغسلوا ولم يصل عليهم" فيه دلالة على أنه لا يغسل الشهيد، وقد ذهب إلى هذا أبو طالب (¬4) وتحصيله لمذهب الهادي، وقال: إن جرح في المعركة بما يقتله يقينًا أو قتل في المصر ظلمًا أو مدافعًا عن نفس أو مال أو غرق لهرب أو نحوه فإنه لا يغسل، وذهب إلى ذلك الشافعي ومالك وأبو حنيفة (¬5) وصاحباه إلى أنه لا يغسل الشهيد، وفي مذهب الشافعي (¬6) تفصيل في ذلك فقالوا: الشهيد هو من مات في قتال الكفار بسببه أي بسبب القتال، أو وجد قتيلًا عند انكشاف الحرب ولم ¬

_ (أ) في هـ: الرجل. (ب) بهامش الأصل.

يعلم سبب موته، سواء كان عليه أثر (أ) أم لم يكن، وخالف القفال في هذا الطرف وهو أنه إذا لم يدر أقتل أو مات حتف أنفه، فليس بشهيد (ب)، قالوا: فإن مات بعد انقضائه وقطع بموته من تلك الجراحة، وبقي فيه بعد انقضاء الحرب حياة مستقرة أو في قتال البغاة فغير شهيد في الأظهر، أما في الأولى فلأنه عاش بعد انقضاء الحرب فأشبه ما لو مات حتف أنفه، وأما في الثانية فلأنه قتيل مسلم فأشبه ما لو قتله في غير القتال، والثاني أنه شهيد فيهما، أما في الأولى فلأنه مات بجرح وجد فيه فأشبه ما لو مات قبل انقضائه، وأما في الثانية فكان (ب) لقتول في معترك الكفار. انتهى تفصيلهم، وفي مذهب الحنفية تفصيل غير هذا، فقالوا (د): الشهيد من قتله المشركون سواء كان قتل مباشرة أو تسبيبًا (هـ) بحديد أو غيره بعد أن يكون القتل منسوبًا إليهم، وذلك بأن يشاهد قتله أو يكون فيه جراحه أو خروج دم من موضع غير معتاد (و) لخروجه كالعين والأذن، أو قتله أهل البغي وقطاع الطريق وسواء كان قتله بالمباشرة أو التسبيب (¬1) وأما إذا نفر فرس المسلم من دابة العدو من غير تنفير منهم أو من رايات العدو أو المسلمون إذا ألقو أنفسهم في الخندق (ز) أو في السور هربًا من الكفار حتي ماتوا لم يكونوا شهداء، وهذا أصله محمد بن الحسن (ح) الشيباني وقال ¬

_ (أ) زاد في جـ: دم. (ب) في هـ: شهيد. (جـ) في هـ: فكالمقتول. (د) في جـ: قالوا. (هـ) في جـ: تسببا. (و) زادت هـ: لجروحه. (ز) في جـ: بالخندق. (ح) في جـ: حسن.

أبو يوسف (¬1): بل يكون شهيدًا وإن لم ينسب إليهم، كما إذا نقب الجدار فسقط عليه أو سقط عن دابته في الحمل عليهم فإنه يكون شهيدًا، ولو انفلتت دابة المشرك وليس عليها، ولا لها سائق ولا قائد فأوطأت مسلمًا في القتال فقتلته غسل عند أبي حنيفة ومحمد لأن قتله غير مضاف إلى العدو، ولا يغسل عند أبي يوسف لأنه صار قتيلًا في قتال أهل (أ) الحرب. وحجة القائلين بأنه (ب) لا يغسل واضحة، وهو عدم غسله - صلى الله عليه وسلم - لقتلى أحد، ولأن الشهيد حي عند ربه بنص الكتاب العزيز، ولذلك سمي شهيدًا لأنه حي عند الله حاضر، وقد قيل في التسمية غير هذا وهو أن الملائكة يشهدون موته فهو فعيل بمعنى مفعول أو أنه مشهود له بالجنة (جـ) لأنه صبر لنصرة دين الله حتى قتل، والخلاف في ذلك لابن المسيّب (¬2) حكاه عنه ابن المنذر قال: لأن كل ميت نجس فيجب غسله. وبه قال الحسن البصري (¬3) ورواه ابن أبي شيبة (¬4) عنهما، وحكى أيضًا عن ابن سريج من الشافعية (¬5). وقوله: "ولم يصل عليهم" في رواية للبخاري (د) بفتح اللام (¬6) على ¬

_ (أ) ساقطة من هـ. (ب) في جـ: أنه. (جـ) في جـ: في الجنة. (د) في جـ: البخاري.

صيغة المجهول والمعنى: أنه لم يفعل ذلك بنفسه، ولا أمر غيره بذلك، وفي رواية أخرى له بكسر اللام على صيغة المعلوم فيه دلالة على أنه لا يصلي على شهيد كما لا يغسل، وقد ذهب إلى هذا الشافعي ومالك وأحمد وإسحاق (¬1) لأنه - صلى الله عليه وسلم - لم يصل على شهداء أحد، كما أخرجه البخاري. وأخرجه أحمد وأبو داود والترمذي وطوله والحاكم عن أنس بن مالك (¬2)، وقد أعله البخاري (¬3) وقال: إنه غلط، فيه أسامة بن زيد فقال: عن الزهري عن أنس حكاه الترمذي، (ولأن الصلاة دعاء واستغفار للميت والشهيد حي مغفور له لما ثبت "أن السيف محاء للذنوب" (¬4)، فهو مستغن عن الدعاء له) (أ)، وذهب غيرهم إلى أن الشهيد يصلى عليه، واحتجوا على ذلك بجملة أحاديث فمنها (ب) ما أخرجه الحاكم (¬5) من حديث جابر ¬

_ (أ) بهامش الأصل. (ب) في جـ: منها.

"أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى على حمزة بعد أن فقده فأخبره رجل أنه رآه عند شجيرات" وفي إسناده أبو حماد (¬1) الحنفي وهو متروك، وأخرج النسائي (¬2) عن شداد بن الهاد "أن رجلًا من الأعراب جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فآمن به واتبعه"، وفي الحديث "أنه استشهد فصلى عليه - صلى الله عليه وسلم -" وأخرج البخاري (¬3) وغيره (عن عقبة بن عامر أنه - صلى الله عليه وسلم -) (أ) صلى على قتلى أحد بعد ثمان سنين، وفي رواية ابن حبان (¬4) "ثم دخل بيته ولم يخرج حتى قبضه الله" وروى ابن إسحاق (¬5) من حديث ابن عباس قال: "أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بحمزة فسجي ببردة ثم صلى عليه وكبر سبع تكبيرات ثم أتى بالقتلى فيوضعون إلى حمزة فيصلي عليهم وعليه معهم حتى صلى عليه ثنتين وسبعين صلاة"، وفي إسناده مبهم، قال السهيلي (¬6): إن كان الذي (ب) أبهمه ابن إسحاق هو الحسن بن عمارة فهو ضعيف (¬7)، وإلا فهو مجهول لا (جـ) حجة فيه، انتهى. ¬

_ (أ) في الأصل تقديم وتأخير وأشار إليه. (ب) ساقطة من جـ. (جـ) في جـ: فلا.

وأخرج أبو داود في المراسيل (¬1) عن أبي مالك الغطفاني "أنه صلى على قتلى أحد عشرة عشرة في كل عشرة حمزة حتى صلى عليه سبعين صلاة" ورجاله ثقات، وقد أعله الشافعي (¬2) بأنه متدافع لأن الشهداء كانوا سبعين فإذا أتى بهم عشرة عشرة يكون قد صلى سبع صلوات فكيف تكون سبعين قال: وإن أراد التكبير فتكون ثمانية وعشرين تكبيرة لا سبعين، وأجيب بأن المراد أنه - صلى الله عليه وسلم - صلى على سبعين نفسًا وحمزة معهم كلهم، قال أبو نعيم الأصبهاني: يحتمل أن يكون حديث أنه صلى على أهل أحد بعد ثمان سنين ناسخًا لحديث جابر، وأجاب المانعون للصلاة بأن حديث ترك الصلاة أصح من الإثبات، وقد أطنب الشافعي في الرد، فقال في الأم: (¬3) جاءت الأخبار كأنها عيان من وجوه متواترة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه لم يصل على قتلى أحد، وما روي أنه صلى وكبر على حمزة سبعين تكبيرة لا يصح، وقد كان (أ) ينبغي لمن عارض هذه الأحاديث الصحيحة أن يستحى على نفسه، وحديث عقبة بن عامر وقع في نفس الحديث أن ذلك كان بعد ثمان سنين، يعني والخالف يقول: لا يصلى على القبر إذا طالت المدة، قال: فكأنه - صلى الله عليه وسلم - دعا لهم واستغفر لهم حين علم قرب أجله، ودعا لهم بذلك، ولا يدل ذلك على نسخ الحكم الثابت. انتهى. واعلم أن الخلاف في منع الصلاة الأظهر أنه على جهة الحتم (¬4) وفيه ¬

_ (أ) في جـ: قال.

وجه أن ذلك على جهة الاستحباب، وهو المنقول عن الحنابلة (¬1)، قال بعض الحنابلة (¬2) عن أحمد: الصلاة على الشهيد أجود، وإن لم يصلوا عليه أجزأ. واعلم أن الشهيد الذي لا يصلى عليه عند الشافعية (¬3) هو شامل للمرأة والرجل الصغير والكبير، الحر والعبد، وهو خلاف ما عند الهادوية في الغسل فقالوا: لا يثبت الحكم إلا لشهيد مكلف ذكر حر، وكأنهم نظروا إلى أن الدليل إنما ورد في حق شهداء (أ) أحد وهم بهذه الصفة، ومن عدا المتصف بالصفة فالجهاد في حقه غير واجب فلا يقاس عليهم لوجود الفارق، وهو وجوب القتال وشرعيته، وعدم ذلك (وبعضهم قال: يغسل العبد، ولا تغسل المرأة، وبعضهم قال: تغسل المرأة والعبد إذا احتيج إليهما في الجهاد) (ب) والله أعلم. 417 - وعن علي - رضي الله عنه - (جـ) -: "سمعت رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: لا تغَالُوا في الكَفَن فإِنّه يُسْلَبُ سَريعًا". رواه أبو داود (¬4). ¬

_ (أ) في جـ: شهيد. (ب) بهامش الأصل. (جـ) زاد في هـ وجـ: قال.

الحديث من رواية الشعبي عن علي، وفي إسناده عمرو بن (هاشم) (أ) (¬1) الجنبي مختلف فيه، وفيه انقطاع بين الشعبي (¬2) وعلي لأن الدارقطني قال: إنه لم يسمع منه (ب) سوى حديث واحد. في الحديث دلالة على المنع من المغالاة، وهي (جـ) مأخوذة من الغلاء وهو (د) زيادة ثمن الكفن وذلك إنما يكون لرفعته وعظم الجودة، وقد عرفت الجمع بين هذا وبين الأمر بإحسان الكفن. والله أعلم. 418 - وعن عائشة - رضي الله عنها - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لها: "لَوْ مِتِّ قَبْلِي لَغَسَّلْتُكِ" الحديث رواه أحمد وابن ماجه وصححه ابن حبان (¬3). ¬

_ (أ) في النسخ: هشام وصححناها إلى هاشم، انظر الترجمة. (ب) في جـ: عنه. (جـ) ساقطة من جـ. (د) في جـ: وهي.

فيه دلالة على أن للرجل أن يغسل (أ) زوجته، وهو قول الجمهور، والخلاف في ذلك لأبي حنيفة وأصحابه (¬1)، فقالوا: لا يغسلها بخلاف العكس لارتفاع النكاح ولا عدة عليه. والحديث يرد عليهم. 419 - عن أسماء بنت عميس - رضي الله عنها -: "أن فاطمة - رضي الله عنها - أوْصَتْ أنْ يغَسِّلَهَا علي رضي الله عنه". رواه الدارقطني (¬2). هذا مثل الأول، وأما غسل المرأة زوجها فكذلك ويحتج عليه بقول عائشة (¬3): "لو استقبلنا من أمرنا ما اسْتدبرنا ما غَسّلَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غير نسائه". أخرجه أبو داود وصححه الحاكم (ووصية أبي بكر لزوجته أسماء بنت عميس أن تغسله (¬4) واستعانت بعبد الرحمن بن عوف لضعفها عن ¬

_ (أ) في جـ: الرجل يغسل.

ذلك. رواه البيهقي، ولم يذكر أحد ذلك (أ) وقد قال بهذا الجمهور، والخلاف في ذلك للإمام أحمد (¬1) فقال: لا تغسله لبطلان النكاح بينهما والجواب عنه ما ذكر. 420 - وعن بريدة "في قصة الغَامدية التي أمر النبيّ - صلى الله عليه وسلم - برَجْمها في الزنا قال: ثم (ب) أمرَ بها فَصُلِّي عليها ودُفِنَتْ". رواه مَسلم (¬2). في الحديث دلالة على أن المقتول بحد يصلى عليه ولم يصرح في الرواية أن النبي - صلى الله عليه وسلم - هو الذي صلى عليها (¬3)، ولعله أمر غيره، ولذلك قال مالك (¬4) وغيره: إن الإمام يجتنب الصلاة على مقتول في حد، وإن الفضلاء لا يصلون على الفساق زجرًا لهم وعن الزهري (¬5) لا يصلى على المرجوم، ويصلى على المقتول في قصاص، وقال أبو حنيفة (¬6): لا يصلى ¬

_ (أ) بهامش الأصل. (ب) ساقطة من جـ.

على محارب ولا على (أ) قتلى الفئة الباغية وقال قتادة (¬1): لا يصلى على ولد الزنا وعن الحسن (¬2): لا يصلى على النفساء تموت من زنا ولا على ولدها، وقال القاضي أبو بكر بن العربي: مذهب العلماء كافة الصلاة على كل مسلم ومحدود ومرجوم وقاتل نفسه وولد الزنا. والله أعلم. 421 - وعن جابر بن سمرة قال: "أُتِي النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - بِرَجُلٍ قَتَلَ نَفْسَهُ بِمشَاقِصَ فلَمْ يُصَلِّ عليه"، رواه مسلم (¬3). في الحديث دلالة على أن من قتل نفسه فإنه لا يصلى عليه، وهذا نص، وهو حجة لقول من (ب) قال: لا يصلى على الفاسق لأنه من أهل النار، وقد ذهب إلى هذا عمر بن عبد العزيز (¬4) والأوزاعي، وقال الحسن والنخعي وقتادة ومالك والشافعي وأبو حنيفة وجماهير العلماء (¬5) إنه يصلى عليه، وأجابوا عن هذا الحديث بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يصل عليه بنفسه زجرًا للناس عن مثلة فعله، وصلت عليه الصحابة وهذا كما ترك النبي - صلى الله عليه وسلم - الصلاة على من مات وعليه دين في أول الأمر وأمرهم بالصلاة على صاحبهم. ¬

_ (أ) ساقطة من جـ. (ب) في جـ: لمن.

والمشاقص جمع مِشقص بكسر الميم وفتح القاف (¬1). 422 - وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - "في قصة المرأة التي كانت تَقُمُّ المسجدَ، فسأل عنها النبيّ - صلى الله عليه وسلم - فقال: دُلُّوني على قَبْرها، فَدَلُّوة فصلَّى عليها". متفق عليه وزاد مسلم: ثم قال: "إِنّ هذه القبورَ مَملوءةٌ ظُلْمَةً على أهلِهَا وإِنَّ الله يُنَورُها لَهُمْ بِصَلاتِي علَيْهم" (¬2). قوله: "في قصة المرأة" جزم المصنف -رحمه الله تعالى- أن القصة هذه مع امرأة وفي البخاري (¬3) أن رجلًا أسود أو امرأة سوداء، الشك من ثابت في الرواية، وصرح البخاري (¬4) عنه في رواية قال: ولا أراه إلا امرأة، وجزم ابن خزيمة من طريق أخري عن أبي هريرة فقال: امرأة سوداء، ورواه أيضًا البيهقي (¬5) بإسناد حسن وسماها أم محجن، وأفاد أن الذي أجاب النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - عن سؤاله عنها هو أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - وذكر ابن منده في الصحابة خرقاء اسم امرأة سوداء كانت تقم المسجد وقع ذكرها في حديث حماد بن زيد عن ثابت عن أنس وذكرها ابن حبان في ¬

_ (¬1) المشقص: نصل السهم إذا كان طويلا غير عريض، فإن كان عريضًا فهو المقبلة. النهاية 2/ 490. (¬2) البخاري، الصلاة، باب كنس المسجد والتقاط الخرق والقذى والعيدان 1/ 552، 553 ح 458، مسلم، الجنائز، باب الصلاة على القبر 2/ 659 ح 71 - 956، أبو داود، الجنائز، باب الصلاة على القبر 3/ 541 ح 3203، ابن ماجه، الجنائز، باب ما جاء في الصلاة علي القبر 1/ 489 ح 1527، أحمد 2/ 388. (¬3) البخاري 1/ 552 - 553 ح 458. (¬4) البخاري 1/ 554 ح 460. (¬5) البيهقي، من طريق بريدة 4/ 48.

الصحابة بدون ذكر السند فإن كان محفوظًا فهذا اسمها وكنيتها أم محجن (¬1). وقوله: (أ) "تقم" بقاف مضمومة أي تجمع القمامة وهي الكناسة، وفي البخاري بدل قوله "فسأل عنها النبيّ - صلى الله عليه وسلم -" فقال: "ما فعل ذلك الإنسان؟ فقالوا مات يا رسول الله، قال (ب): أفلا أذنتموني؟ فقالوا: إنه كان كذا وكذا، قال (جـ): فحقروا شأنه، قال: فدلوني على قبره، فأتى قبره، فصلى عليه" (¬2)، ولم يخرج البخاري زيادة مسلم لأنها مدرجة في هذا الإسناد، وهي من مراسيل ثابت، بين ذلك غير واحد من أصحاب حماد بن زيد. قال المصنف (¬3) -رحمه الله-: وقد أوضحت ذلك بدلائل في كتاب بيان المدرج. قال البيهقي (¬4): يغلب على الظن أن هذه الزيادة من مراسيل ثابت كما قال أحمد. ¬

_ (أ) في جـ: وبقوله. (ب، جـ) في جـ: فقال.

والحديث فيه دلالة على أن الصلاة تصح بعد الدفن للميت، وظاهره ولو قد وقعت الصلاة، إلا أن هذا يمكن الأخذ منه أنه حيث صلى من ليس أولى بالصلاة، مع إمكان صلاة الأولى، كما في صلاة النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - لا سيما مع قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يصلي أحد على موتاكم ما دمت فيكم" (¬1) إلا أنه يعكر عليه صلاته - صلى الله عليه وسلم - على البراء بن معرور (¬2) مع أنه مات، والنبي - صلى الله عليه وسلم - في مكة قبل الهجرة، وكان بعد موته بشهر، وقد ذهب إلى صحة الصلاة بعد الدفن: الناصر والنخعي والشافعي وأحمد وأبو حنيفة ومالك وابن سيرين إلا أن كلامهم حيث لم يكن قد صلي عليه (¬3) قالوا: لأنها فرض فلا تسقط بالدفن، ولما ورد، وظاهر مذهب الشافعي مطلقا سواء (أ) قد صلى عليه أم لا في أن الصلاة مشروعة لأنه - صلى الله عليه وسلم - لما أتى القبر المذكور صفهم خلفه وكبر عليه أربعًا. قال ابن حبان (¬4) في ترك إنكاره - صلى الله عليه وسلم - (ب) على من صلى معه على القبر بيان جواز ذلك لغيره، وأنه ليس من خصائصه، وتعقب بأن الذي يقع ¬

_ (أ) زاد في هـ: كان. (ب) زاد في جـ: الصلاة.

بالتبعية لا ينتهض (أ) دليلًا، وفي المدة التي شرع فيها الصلاة بعد الدفن (ب) أربعة أوجه ذكرها في المهذب (¬1)، قيل: إلى شهر كصلاته - صلى الله عليه وسلم - على أم سعد (¬2) وعلى البراء، وقيل: إلى أن يبلى الميت، لأنه إذا بلي لم يبق ما يصلى عليه، وقيل: يصلى عليه من كان من أهل الصلاة عند موته لا من ولد أو بلغ بعد ذلك، وقيل: يصلى عليه أبدا لأن القصد الدعاء وهو جائز في كل وقت (¬3)، وقال أبو طالب (¬4): وهو تحصيله لمذهب الهادي أنه لا صلاة بعد الدفن لقوله - صلى الله عليه وسلم -: لا صلاة إلىبها (¬5) ويجاب عنه بأن هذا لا يقوى على معارضة الأحاديث الله من صلاته - صلى الله عليه وسلم - فمنها ما مر، ومنها صلاته على الغلام الأنصاري لما دفن ليلا، ولم يشعر - صلى الله عليه وسلم - بموته أخرجه في الصحيحين، وأنه صلى عليه في البارحة، وفي الدارقطني بعد ما دفن بثلاث ليال (¬6)، وفي الطبراني بليلتين، وقد أخرج هذه القصة من حديث ابن عباس، قال: وصلى معهم، وفي الباب عن أنس أخرجه البزار وفي الموطأ (¬7) عن سهل نحو حديث أبي هريرة، وعند أحمد والنَّسائي من ¬

_ (أ) في جـ وهـ: لا ينهض. (ب) زاد في جـ: فيه.

حديث زيد (¬1) بن ثابت نحوه، وعن أبي سعيد (¬2) عن ابن ماجه، وفيه ابن لهيعة (¬3)، وعن عقبة بن عامر عند البخاري (¬4) وعن عمران بن الحصين عند الطبراني في الأوسط، وعنده أيضًا عن ابن عمر وعن عمر وابن عوف وعن عبد الله بن عامر (¬5) بن ربيعة عند النَّسائي، وما احتج به منقوض بالصلاة (على) (أ) الميت قبل الدفن، ومتأول أيضًا بأن المراد استقبال الميت فيما عدا صلاة الجنازة كما نهى من (ب) الصلاة على القبر والله أعلم. وفي الحديث دلالة على ما كان عليه - صلى الله عليه وسلم - من مكارم الأخلاق وحسن معاملته ورأفته على المؤمنين الجميع، الشريف منهم والوضيع، وأنه ينبغي للإنسان السؤال عن من قد عرفه وصحبه، وأن الدعاء وسائر القرب تنفع الميت. 423 - وعن حذيفة - رضي الله عنه - "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يَنْهَى عَنِ النَّعْي" رواه أحمد والترمذي وحسنه (¬6). ¬

_ (أ) في الأصل وهـ: إلى. (ب) في جـ: عن.

قوله: "كان ينهى عن النعي" (¬1) وهو فعيل يراد به المصدر هنا، وقد يقال على الميت نعي وفيه دلالة على تحريم النعي، لأن النهي ظاهر فيه، والمراد به ما كان الجاهلية تصنعه، كانوا يرسلون من يعلن بخبر موت الميت على أبواب الدور والأسواق، قال سعيد بن منصور (¬2): أخبرنا ابن عُليَّة عن ابن عون قال: قلت لإبراهيم: أكانوا يكرهون النعي؟ (أ) قال: نعم. قال ابن عون: كانوا إذا توفي الرجل ركب رجل دابته ثم صالح في الناس أنعي فلانًا، وبه - (ب أي الإسناد ب) - إلى ابن عون قال: قال (جـ) ابن سيرين (¬3): لا أعلم بأسًا أن يؤذن الرجل صديقه وحميمه، وحاصله: أن محض الإعلام بذلك لا يكره، فإن زاد على ذلك فلا، وقد كان بعض السلف شدد في ذلك حتى كان حذيفة إذا مات له الميت يقول: "لا تؤذنوا به أحدًا إني أخاف أن يكون نعيا، إني سمعت (د) رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأذني هاتين ينهى عن النعي". أخرجه الترمذي وابن ماجه. قال ابن العربي (¬4): يؤخذ من مجموع الأحاديث ثلاث حالات: الأولى: إعلام الأصحاب وأهل الصلاح، فهذا سنة. الثانية: دعوة الجمع الكبير ¬

_ (أ) زاد في جـ: يعني الصحابة. (ب- ب)، (جـ) ساقطة من جـ، هـ. (د) زاد في جـ: من.

للمفاخرة، فهذا يكره. الثالثة: الإعلام بنوع آخر كالنياحة ونحو ذلك فهذا يحرم. 424 - وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - "أنّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - نَعَى النَّجَاشِيَّ في اليوم الذي مَاتَ فيه، وخرج بهم إِلى المصلى فَصَفَّ بهم وكبَّر عليه أربعًا". متفق عليه (¬1). النجاشي (¬2) بفتح النون وتخفيف الجيم وبعد الألف شين معجمة ثم ياء كياء النسب مشددة وقيل: مخففة، ورجحه الصنعاني، وهو علم لمن ملك الحبشة، وحكى المطرزي تشديد الجيم عن بعضهم، وهو خطأ، (واسمه أصْحَمة (¬3) بفتح الهمزة وسكون الصاد المهملة وفتح الحاء المهملة، وقع هكذا في رواية المستملي (¬4) للبخاري وقال يزيد عن سليم أصحمة (أ)، وتابعه عبد الصمد وقال المصنف (4) -رحمه الله تعالى-: وهكذا وقع في جميع الطرق التي اتصلت لنا من البخاري، يعني: أصحمة بتقديم الحاء على الميم وقع في مصنف ابن أبي شيبة (¬5) عن يزيد: صحمة بغير ألف ¬

_ (أ) في هـ: أصمحة.

بالمهملتين وسكون الحاء (¬1)، وحكى الإسماعيليّ أن في رواية عبد الصمد أنه أصخمة (1) بخاء معجمة وإثبات الألف. قال: وهو (أ) غلط، وحكى (¬2) الكرمانيّ أصحبة بالباء الموحدة عن بعض النسخ) (ب). وقوله: "في اليوم الذي مات فيه". هذا علم من أعلام النبوة ومعجزة واضحة، لبعد ما بين المدينة والحبشة (جـ). وقوله: " (د) خرج بهم إلى (هـ) المصلى"، يحتمل أنه يريد مصلى العيد ويحتمل أن (و) يريد موضعًا معدًا لصلاة (ز) الجنازة ببقيع الغرقد غير مصلى العيد، والأول أظهر وفي خروجه إلى (ح) المصلى احتج به الحنفية على كراهة (صلاة) (ط) الجنازة في المسجد، ولا يصح الاحتجاج به لأنه لم يكن فيه صيغة نهي، ولأن الذي كرهوه إنما هو دخول الميت إلى المسجد، والظاهر أنه إنما خرج قصد، لتكثير الجمع الذين يصلون عليه، ولإشاعة كونه مات على الإسلام. ¬

_ (أ) في جـ: وهذا. (ب) بهامش الأصل. (جـ) في جـ: قدم الحبشة علي المدينة، وقد أشار إلى التقديم والتأخير. (د) زاد في جـ و. (هـ) ساقطة من هـ. (و) في جـ: وهو يحتمل أنه. (ز) في جـ: للصلاة. (ح) ساقطة من جـ. (ط) ساقطة من الأصل.

وقوله: "فصف بهم" في رواية عن جابر ذكرها البخاري (¬1) تعليقًا ووصلها النَّسائي (¬2) أنه كان في الصف الثاني. وفيه دلالة على أن تكثير الصفوف في الجماعة على الجنازة مشروع وإن أمكن الصف الواحد كما في القضاء. وفي هذه القصة دلالة على شرعية صلاة الجنازة على الغائب مطلقًا، وقد قال بذلك الشافعي وأحمد وجمهور السلف (¬3)، حتى قال ابن حزم (¬4): لم يأت عن أحد من الصحابة منعه، وذهب إلي منع الصلاة على الغائب العترة وأبو حنيفة وأصحابه (¬5) ومالك مطلقًا، وعن بعض أهل العلم: يجوز في اليوم الذي يموت (أ) فيه الميت أو ما قرب منه، لا إذا طالت المدة، وحكاه ابن عبد البر، وقال ابن حبان (¬6): إنما يجوز ذلك إذا كان الميت في جهة القبلة، قال المحب الطبري: لم أر ذلك لغيره ووجه التفصيل في القولين جميعًا الجمود على قصة النجاشي (ب)، واحتج في البحر للمانعين مطلقًا بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يصلي أحد على موتاكم ما دمت فيكم" (¬7) وقال (جـ): ¬

_ (أ) في جـ: مات. (ب) في جـ: البخاري. (جـ) في جـ: قالوا.

فلو أجيزت على الغائب لم يصل عنه غيره - صلى الله عليه وسلم - يعني أنه لم يصل على أحد من الغائبين غير النجاشي، فلو كانت تصح على الغائب لصلى على غيره من الغائبين. يعني: والمراد أن ذلك خاص في قصة النجاشي، والجواب عنه بأن هذه الحكاية مثبتة للصلاة على الغائب، وغاية الأمر أنه لم يرو غيرها بأن لكونه لم يجمع بهم إلا فيها، ويحتمل أنه كان يصلي منفردًا أو أن ذلك في حق من قد صلي عليه إنما هو على وجه الندب لسقوط الواجب ومن أين أن غير النجاشي من الغائبين لم يكن قد صلى عليهم، وخص النبيّ - صلى الله عليه وسلم - بإظهار هذه (أ) الشرعية في هذه القصة تعظيمًا وتنويهًا لشأنه. والحديث محمول في نهي الغير عن الصلاة على الميت في حق من كان حاضرا في المدينة كما هو الظاهر المتبادر، وبعض المانعين قال: إنه كشف للنبي - صلى الله عليه وسلم - حتى رآه فيكون حاضرًا عنده ويكفي المؤتمين حضوره بين يدي الإمام، وقد روى هذا الواحدي في أسباب النزول (¬1) عن ابن عباس بغير، إسناد، ولابن حبان (¬2) من حديث عمران بن حصين: فقاموا وصفوا خلفه وهم لا يظنون إلا أن جنازة بين يديه، أخرجه من طريق الأوزاعي، ولأبي عوانة (ب) من طريق أبان وغيره، فصلينا خلفه ونحن لا نرى إلا أن الجنازة قدامنا. ويجاب عنه بأن هذا على جهة التظنن، وهو لا يدفع ¬

_ (أ) في جـ: بهذه. (ب) زاد في جـ: أنه.

ما هو الظاهر المحسوس، وقد ورد مثل هذه القصة في حق معاوية بن معاوية الليثي، مات بالمدينة، والنبي - صلى الله عليه وسلم - في تبوك. فأخبره جبريل، فصلى عليه، أخرجه ابن عبد البر في الاستيعاب (¬1) وأخرج أيضًا من حديث أبي أمامة الباهلي (¬2) مثل هذه القصة في حق معاوية بن مقرن و (أ) أخرج أيضًا عن أنس في ترجمة معاوية بن معاوية المزني، ثم قال بعد ذلك: أسانيد هذه الأحاديث ليست بالقوية، ولو أنها في الأحكام لم يكن في شيء منها حجة، ومعاوية بن مقرن المزني وإخوته النعمان وسويد ومعقل وسائرهم كانوا سبعة معروفين في الصحابة مذكورين في كبارهم وأما معاوية بن معاوية فلا أعرفه بغير ما ذكر في هذه الترجمة (¬3). وقال المصنف (¬4) -رحمه الله- في الفتح: وقد ذكرت في ترجمة الصحابة أن خبر معاوية بن معاوية الليثي قوي بالنظر إلى مجموع طرقه (¬5). وقوله "وكبر عليه أربعًا"، فيه دلالة (ب) على شرعية التكبير على هذا العدد وهو مذهب الجمهور من العلماء وسيأتي مزيد كلام على هذه المسألة. ¬

_ (أ) الواو ساقطة من جـ. (ب) زاد في جـ: ليس.

425 - وعن ابن عباس - رضي الله عنه - (أ): سمعت رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "مَا مِن رجلٍ يموت يموت فيقومُ على جنَازته أربعون رجلًا لا يُشْركون بالله شيئًا، إِلا شفعهم الله فيه". رواه مسلم (¬1). في الحديث دلالة على فضيلة تكثير الجماعة على الميت وأن شفاعة المؤمن نافعة مقبولة عند الله تعالى. (وفي رواية: "ما من ميت يصلي عليه أمة من المسلمين يبلغون كلهم مائة (يشفعون) (ب) له (جـ) إلا شفعوا فيه " (¬2)) (د). وفي رواية: "ثلاثة صفوف" (¬3)، رواه أصحاب السنن. قال القاضي: قيل هذه الأحاديث خرجت أجوبة لسائلين سألوا عن ذلك فأجاب كل واحد عن سؤاله. هذا كلام القاضي (¬4)، ويحتمل أن يكون أخبر بقبول شفاعة كل واحد من هذه الأعداد، ولا تنافي بينها (هـ)، إذ مفهوم (و) العدد مطرح به مع وجود النص فحينئذ جميع الأحاديث معمول بها وتحصل الشفاعة بأقلها (¬5)، والله أعلم. ¬

_ (أ) زاد في جـ: قال. (ب) في الأصل: فيشفعون. (جـ) له: ساقط من هـ. (د) بهامش الأصل. (هـ) في هـ: بينهما. (و) في جـ: مفهومة.

426 - وعن سمرة بن جندب قال: "صليت وراء النبي - صلى الله عليه وسلم - على امرأة ماتت في نِفاسِها فقام وسَطَها". متفق عليه (¬1). قوله "على امرأة ماتت في نفاسها"، يحتمل قوله "في نفاسها" أنها ماتت مدة النفاس أو أنها ماتت بسبب النفاس، فيحتمل على (أ) الأخير أنها ماتت من (ب) النفاس، وقد خرج الجنين، أو ماتت، والجنين في بطنها لما (جـ) يخرج، وقد وقع في بعض طرق الحديث أنها ماتت وهي حامل فيكون مفسرًا لما أبهم في هذه الرواية، ووصف كونها نفاسًا لا مدخل له في الحكم المذكور من القيام (د) وسطها، وإن كان ابن رشيد حكى عن ابن المرابط أن ذلك لينال جنينها حظًّا من استقبال النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - بناء على أنها ماتت حاملًا (¬2). وفيه دلالة على أنَّ النفاس وإن كان لها حكم الشهادة، والشهيد لا يصلى عليه فهي يصلى عليها لأن لها حكم الشهادة في أحكام الآخرة فقط. وقوله "فقام وسطها"، فيه دلالة على أن ذلك المقام مشروع ولكن ¬

_ (أ) ساقطة من جـ. (ب) في جـ: في. (جـ) في هـ: لم. (د) زاد في جـ: في.

هذا على جهة الاستحباب، وأما الوجوب، فالواجب استقبال جزء من الميت رجلًا كان أم امرأة. واختلف العلماء في حكم الاستقبال في حق الرجل والمرأة، فذهب أبو حنيفة (¬1) أنهما سواء ففي رواية عنه أنه يستقبل ووسطها لهذا الحديث، وفي رواية عنه حذاء صدرها وعنه عند رأس الرجل ووسطها، وذهب الهادي (¬2) إلى أنه يستقبل الإمام سرة الرجل، وثدي المرأة لفعل علي (¬3) - رضي الله عنه - وهو توقيف. قال أبو طالب (¬4): وهو رأي (أ) أهل البيت لا يختلفون فيه، وقال القاسم (¬5): صدرها وبينه وبين السرة من الرجل، إذْ روي قيامه - صلى الله عليه وسلم - عند وسطها (ب) ولا بد من المخالفة (جـ) بين الرجل والمرأة، وذهب الشافعي (¬6) إلى أنه يقف حذاء رأس الرجل وعجيزتها لما أخرجه أبو داود والترمذي (¬7) عن أنس بن مالك أنه صلى على رجل فقام عند رأسه وصلى على امرأة فقام عند عجيزتها، فقال (د) له العلاء بن زياد: أهكذا كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يفعل؟ قال: نعم. وذهب مالك (¬8) إلى أنه يستقبل الرأس من الرجل والمرأة من غير تفرقة. ¬

_ (أ) في جـ: رواية. (ب) في جـ: صدرها. وفي الأصل تحليق صدرها وهي عبارة سبل السلام. (جـ) في جـ: مخالفة. (د) في جـ: وقال.

427 - وعن عائشة - رضي الله عنها - قالت: "والله لقد صلَّى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - على ابْنَيْ بَيضَاء في السجد". رواه مسلم (¬1). قالت عائشة - رضي الله عنها - جوابًا لما أنكر عليها صلاتها علي سعد بن أبي وقاص في المسجد، فقالت: "ما أسرع ما نسي الناس، والله لقد صلى رسول الله ... " الحديث. ففيه (أ) دلالة على ما ذهب إليه الجمهور، ومنهم الشافعي (¬2) (ب) وأحمد وإسحاق أنه: لا كراهة ولا منع لصحة الصلاة في المسجد، وذهب أبو حنيفة ومالك (¬3) على المشهور عنه إلى أنها لا تصح في المسجد، واحتجا على ذلك بخروجه - صلى الله عليه وسلم - إلى المصلى في الصلاة على النجاشي، وبما (جـ) أخرجه أبو داود: "من صلى على جنازة في المسجد فلا شيء له" (¬4) ¬

_ (أ) في جـ: فيه. (ب) في هـ: الشافعية. (جـ) في جـ: ومما.

وأجيب عن ذلك بأن خروجه - صلى الله عليه وسلم - يحتمل أن يكون لإظهار فضيلة المصلى عليه بتكثير الجماعة عليه، وإشاعة موته، ولما في ذلك من المعجزة الواضحة التي يغيظ بها الجاحدين، ويكبت بها الحاسدين والمنافقين، ويزيد المؤمنين بها إيمانًا، وأيضًا فإن الظاهر أن الممنوع إنما هو إدخال الميت المسجد (أ) لا مجرد الصلاة، ولم يكن في الصلاة على النجاشي ذلك، وعلة ذلك إما خشية تنجيس المسجد، أو لكون الميت نجسًا لا يطهر بالغسل، وذلك منتف، وعن الحديث بأنه ضعيف نص أحمد على ضعفه لتفرد صالح مولي التوأمة به وهو ضعيف، وبأنه (ب) في رواية النسخ المشهورة (جـ) من نسخ أبي داود: "فلا شيء عليه". وعلى رواية اللام (د) فهي قد جاءت بمعنى "على" (¬1) مثل قوله تعالى: {وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ} (¬2)، {وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} (¬3)، وذهبت (هـ) الهادوية (¬4) إلى كراهة إدخال الميت للعلتين المذكورتين، والكراهة للتنزيه. ويمكن الاحتجاج على طهارة الميت بحديث عائشة إذ لو كان الميت نجسًا لجنب المسجد. وادعى بعضهم بأن (و) عمل الصحابة استمر على ترك الإنكار لإدخال ¬

_ (أ) بهامش هـ. (ب) ساقطة من جـ. (جـ) في جـ: المشهور (د) في جـ: الأم. (هـ) في جـ: وذهب. (و) في جـ: أن.

الميت المسجد، ولأن عائشة لما ردت على المنكرين من الصحابة سلموا (أ) لها ذلك، فدل على أنها حفظت ما نسوه, وقد روى ابن أبي شيبة (¬1) وغيره أن عمر صلى على أبي بكر في المسجد، وأن صهيبًا صلى على عمر في المسجد (¬2)، زاد في رواية: "ووضعت الجنازة تجاه المنبر"، وهذا يقتضي الإجماع على جواز ذلك (¬3). وأيضًا فإن في ظاهر رواية ابن عمر لصلاته - صلى الله عليه وسلم - على النجاشي في المصلى أن "المصلى" موضع مخصوص يصلى فيه كما كان للعيد، وقد ثبت أن ذلك المصلى يمنع منه ما يمنع من المسجد كما تقدم في اعتزال الحيض المصلى في العيد، فالظاهر ما ذهب إليه الشافعي والجمهور، وأما ردهم لحديث عائشة بأنه يجوز أن تكون جنازة سهل وسهيل خارج المسجد، وصلى النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - من داخل، فهو بعيد لا سيما مع رد عائشة على من أنكر إدخالها جنازة سعد، والله أعلم. فائدة: ابنا البيضاء اسمهما سهل (¬4) وسهيل (¬5) أبوهما وهب بن ربيعة بن هلال قرشي، كنية سهيل: أبو موسى، وقيل: أبو أمية، أسلم سهيل قديمًا وهاجر إلى الحبشة الهجرتين، وشهد بدرًا والمشاهد كلها، روى عنه ¬

_ (أ) في جـ: فسلموا.

عبد الله بن أنيس وأنس بن مالك، مات في حياة النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - بعد رجوعه من تبوك سنة تسع ولا عقب له. وسهل ممن كان أظهر إسلامه بمكة وقيل: إنه كان يكتم إسلامه بمكة وخرج مع المشركين إلى بدر، فأُسِر يومئذ فشهد له عبد الله بن مسعود أنه رآه في مكة يصلي فخلى عنه، مات بالمدينة وصلى عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - في المسجد، وأمهما البيضاء واسمها دعد، والله أعلم. 428 - وعن عبد الرحمن بن أبي ليلي: قال: "كان زيدُ بن أَرْقَم يكبر علَى جنَائِزنا أربعًا، وأنه كبر علَى جنَازةٍ خمسًا، فسأله فقال: كان رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يُكَبِّرها". رواه مسلم والأَربعة (¬1). وعن علي - رضي الله عنه - "أنه كبر على سهل بن حنيْف ستًّا، وقال: إنه بَدْرِيٌّ" رواه سعيد بن منصور، وأصله في البخاري (¬2). عن جابر: "كان رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يكبّر علَى جَنائِزنا أرْبعًا ويقرأ بفاتحة (أ) الكتابِ في التَّكْبِيرَة (ب) الأولى". رواه الشافعي بإسناد ضعيف (¬3). ¬

_ (أ) في جـ: فاتحة. (ب) في جـ: التكبير.

عبد الرحمن بن أبي ليلى (¬1): كنيته أبو عيسى، أبو ليلى اسمه: يسار ويقال: داود بن بلال الأنصاري، ويَسَار بفتح الياء تحتها نقطتان، وتخفيف السين المهملة، ولد عبد الرحمن لست سنين بقيت من خلافة عمر وقتل بدجيل، وقيل: غرق بنهر البصرة، وقيل: فقد بدير الجماجم سنة ثلاث وثمانين في وقعة ابن الأشعث وقيل سنة إحدى وثمانين، وقيل: سنة اثنتين وثمانين، حديثه في الكوفيين، سمع أباه وعلي بن أبي طالب وعثمان بن عفان وسهل بن حنيف وأبا أيوب الأنصاري وزيد بن أرقم والبراء بن عازب، وحذيفة بن اليمان وكعب (أ) بن عُجْرَة وأبا الدرداء وغيرهم، سمع منه الشعبي ومجاهد وعبد الملك بن عمير وعمرو بن مرة وابن سيرين وعمرو بن ميمون ويزيد بن أبي زياد وخلق سواهم كثير، وهم في الطبقة الأولى من تابعي الكوفيين. وقوله في حديث علي: "على سَهْلِ بن حُنَيْف" (¬2) هو بالسين المهملة المفتوحة وإسكان الهاء، وحنيف بضم الحاء المهملة وفتح النون وسكون الياء وبالفاء، كنيته سهل أبو سعد، وقيل: أبو سعيد، وقيل: أبو عبد الله، وقيل: أبو الوليد، وقيل: أبو ثابت، أوسي أنصاري، شهد بدرًا وأحُدًا والمشاهد كلها، وثبت مع النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - يوم أحد، وصحب عليا بعد النبيِّ واستخلفه علي على المدينة ثم (ب) ولاه فارس، روى عنه ابنه أبو أمامة وعبيد ¬

_ (أ) ساقطة من جـ. (ب) في جـ: و.

ابن السياف، مات بالكوفة سنة ثمان وثلاثين، وصلى عليه علي - رضي الله عنه. (أ) علم أنها وردت أحاديث مختلفة في عدد تكبير الجنازة، فحديث زيد بن أرقم هذا المذكور هنا في تكبير الأربع، وأخرج عنه ابن عبد البر أنه كبر على أبي شريحة الغفاري أربعًا، وأخرج الحاكم في المستدرك (¬1) عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف أنه أخبره رجال من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن السنة في الجنازة أن يكبر الإمام ثم (ب) يصلى على النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ويخلص الدعاء في التكبيرات الثلاث ثم يسلم تسليمًا خفيفًا، والسنة أن يفعل من وراءه مثله، قال الزهريّ: سمعه ابن المسيب منه فلم ينكره لمحمد بن سويد فقال: وأنا سمعت الضحاك بن قيس يحدث عن حبيب بن سلمة في صلاة صلاها على الميت مثل الذي حدثنا أبو أمامة، وروى الحاكم (¬2) من حديث أنس: "كبرت الملائكة على آدم أربعًا" وأخرج الحاكم (¬3) من حديث ابن عباس "آخر ما كبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الجنائز أربعًا" وقال الحاكم: ليس هذا من شرط الكتاب، ورواه البيهقي، وقال: تفرد (جـ) به ¬

_ (أ) زاد في جـ: و. (ب) في جـ: و (جـ) في ب: انفرد.

النضر بن عبد الرحمن، وهو ضعيف (¬1). وروي هذا اللفظ من وجوه أخر كلها ضعيفة (¬2)، عن ابن عباس (¬3) من طريق محمد بن معاوية النيسابوري (¬4)، وقد قال فيه أحمد: روى أحاديث موضوعة هذا منها، ومن طريق محمد بن زياد الطحان (¬5)، وقال فيه أحمد: كان يضع الحديث، وعن ابن عمر من طريق ابن شاهين (¬6) وفيها زافر بن سليمان عن أبي العلاء وقد خالفه غيره (¬7)، ومن طريق الحارث بن أبي أسامة، وأخرج البيهقي (¬8) عن (أ) سعيد بن المسيب أن عمر قال: كل ذلك قد كان (ب) أربعًا أو خمسًا، فاجتمعنا على أربع، ورواه أيضًا ابن (جـ) المنذر من طريق أخرى، وروى البيهقي (¬9) أيضًا (د) عن أبي وائل قال: "كانوا يكبرون على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أربعًا وخمسًا وستًّا وسبعًا، فجمع عمر أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبر كل رجل منهم بما رأى فجمعهم عمر على أربع تكبيرات. ¬

_ (أ) في جـ: و. (ب) في هـ: ذلك قد كان، وفي جـ: كل ذلك كان. (جـ) في جـ: عن. (د) ساقطة من جـ.

ومن طريق إبراهيم النخعي (¬1): اجتمع أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بيت ابن مسعود، فاجتمعوا على أن (أ) التكبير على الجنازة أربع، روي بسنده إلى الشعبيّ (¬2) صلى ابن عمر على زيد بن عمر وأمه أم كلثوم بنت علي فكبر أربعا، وخلفه ابن عباس والحسين بن علي وابن الحنفية بن علي، قال: وممن (¬3) روينا عنه الأربع ابن مسعود وأبو هريرة وعقبة بن عامر والبراء بن عازب وزيد بن ثابت وغيرهم، وأخرج ابن عبد البر عن علي خيثمة "كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يكبر على الجنائز أربعًا وخمسًا وسبعًا وثمانيًا حتى جاء موت النجاشي، فخرج إلى المصلى وصف الناس وراءه وكبر عليه أربعا، ثم ثبت النبي - صلى الله عليه وسلم - على أربع حتى توفاه الله عزَّ وجلَّ"، وأخرج ابن أبي شيبة والطحاوي والدارقطني (¬4) من طريق عبد خير قال: كان على يكبر على أهل بدر ستا وعلى الصحابة خمسًا وعلى سائر المسلمين أربعًا. وحديث جابر المذكور هنا في الأصل أخرجه الشافعي، وفي إسناده محمد بن عقيل (¬5)، وروى الطبراني في الأوسط (¬6) من طريق ابن لهيعة عن جابر مرفوعًا: "صلوا على موتاكم بالليل والنهار والصغير والكبير ¬

_ (أ) ساقطة من هـ.

والدنئ والأمير أربعا" تفرد (أ) به عمرو بن هشام عن ابن (ب) لهيعة (¬1). وفي الصحيحين عن ابن عباس (¬2) بلفظ "صلى على قبر وكبر أربعا". وأخرج ابن ماجه (¬3) عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى على الجنازة فكبر أربعا، قال ابن أبي داود (¬4): ليس في الباب أصح منه. وورد في الخمس التكبيرات ما تضمنه (جـ) الأحاديث التي مرت، فذهب إلي الاقتصار على الأربع الجمهور من السلف والخلف و (د) منهم: الفقهاء الأربعة (¬5) ورواية عن زيد بن علي، وذهب إلى زيادة التكبيرة الخامسة العترة جميعا كما رواه في البحر (¬6)، وهو منقوض بالرواية عن على - رضي الله عنه - (هـ) وزيد بن علي، ورواه أيضًا عن أبي ذر وزيد بن أرقم وقد عرفت حديث زيد بن أرقم أنه فعل الأمرين جميعا وظاهره التخيير والسعة في الأمر، وروي فيه أيضًا عن محمد ابن الحنفية وابن أبي ليلى، ورواه في المبسوط للحنفية عن أبي يوسف محتجين بحديث زيد بن أرقم، ولا حجة فيه كما عرفت، وبما (و) روي عن علي أنه كبر على فاطمة ¬

_ (أ) في جـ: انفرد. (ب) في جـ: أبي: وهو تصحيف. (جـ) في جـ: ما تضمنته. (د) الواو ساقطة من جـ. (هـ) زاد في هـ: ورواية. (و) في جـ: ولما.

رضي الله عنها خمسًا (¬1)، وعن الحسن أنه كبر على أبيه - رضي الله عنهما - خمسًا، وعن ابن الحنفية أنه كبر على ابن عباس - رضي الله عنهم - خمسًا، ورواية أربع متأولة بأنها ما عدا تكبيرة الافتتاح، وهو بعيد. (وقد روي مثل هذا التأويل عن أنس لما كبر ثلاثًا قال: أو ليس التكبير ثلاثًا؟ فقيل له: يا أبا حمزة التكبير أربع، قال: أجل غير أن واحدة هي افتتاح الصلاة (¬2) رواه ابن عليه مسندًا) (أ) وروي في البحر (¬3) عن ابن مسعود أن التكبير تسع وسبع وخمس وأربع، قال: فكبروا ما كبر الإمام، ورفعه (¬4) إلى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وروي عن أنس وابن عباس أن التكبير ثلاث، وأجاب عن ذلك بأنه اجتهاد (ب) لهما، وقد أخرج عبد الرزاق (¬5) أن أنسًا انصرف ناسيا فقيل له: فعاد وصف بهم وكبر الرابعة. ويمكن الجمع بين الروايتين بأن الراوي للثلاث لعله اختصر في الرواية أو لم يطلع على التتميم المذكور. وأقول: لو قيل بتوسعة الأمر فيما صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه فعله لكان أولى، وهذا يفهم من حديث زيد بن أرقم. والله أعلم. ¬

_ (أ) بهامش الأصل. (ب) زاد في جـ: و.

429 - وعن طلحة بن عبد الله قال: "صلَّيتُ خلفَ ابن عباس - رضي الله عنه - على جنازة فقرأ فاتحة الكتاب، فقالَ: لتَعلَمُوا أنَّها سُنّةٌ". رواه البخاري (¬1)، وَأخرجه ابن خزيمة في صحيحه والنَّسائي جميعًا بلفظ: فأخذت بيده فسألته عن ذلك فقال: نعم يا ابن أخي إنه حق وسنة، وللحاكم بلفظ: "فسألته، فقلت: يقرأ (أ) فقال: نعم إنه حق وسنة". وأخرج الترمذي بلفظ: فقال: إنه من السنة أو من تمام السنة. وأخرج النَّسائي (¬2) أيضًا من طريق أخرى بلفظ: فقرأ بفاتحة الكتاب وسورة وجهر حتى أسمعنا، فلما فرغ أخذت بيده، فسألته فقال: سنة وحق. وللحاكم من طريق ابن عجلان، أنه سمع سعيد بن أبي سعيد يقول: صلى ابن عباس على جنازة فجهر بالحمد ثم قال: إنما جهرت لتعلموا أنها (ب) سنة (¬3). وأخرج الحاكم (¬4) أيضًا من طريق شرحبيل بن [سعد] (جـ) عن ابن ¬

_ (أ) في جـ: فقرأ. (ب) في جـ: بأنها. (جـ) في النسخ سعيد والتصحيح من الحاكم، انظر ترجمة شرحبيل.

عباس أنه صلَّى على جنازة بالأبواء فكبر ثم قرأ الفاتحة رافعًا صوته، ثم صلى على النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم قال: اللهم عبدك وابن عبدك، أصبح فقيرًا إلى رحمتك وأنت غني عن عذابه، إنّ كان زاكيًا فزكه، وإن كان مخطئًا فاغفر له، اللهم لا تحرمنا أجره ولا تضلنا بعده، ثم كبر ثلاث تكبيرات (أ) ثم انصرف فقال: أيها الناس: إني لم أقرأ عليها جهرًا إلا لتعلموا أنها سنة، ثم قال الحاكم: شرحبيل لم يحتج به الشيخان، وإنما أخرجه لأنه مفسر للطريق المتقدمة (ب) انتهى. وشرحبيل (¬1) مختلف في توثيقه، وقد روى الترمذي (¬2) عن ابن عباس "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قرأ على الجنازة بفاتحة الكتاب" قال: ولا يصح هذا، والصحيح عن ابن عباس، قوله من السنة، ولكنه في حكم المرفوع عند المحققين من أهل الأصول، وقد تقدم رفع القراءة من حديث جابر. وروى ابن ماجه (¬3) من حديث أم شريك قالت: أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نقرأ على الجنازة بفاتحة الكتاب، وفي إسناده ضعف (¬4) يسير. ¬

_ (أ) في هـ: تكبيرات ثلاث. (ب) في جـ: المتقدم.

والحديث يدل على مشروعية قراءة الفاتحة في صلاة الجنازة بل على الوجوب، فإن (أ) في قول ابن عباس: من السنة، يدل على الوجوب إذ السنة المراد بها الطريقة المألوفة عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في وقوعها في غير الواجب إنما هو في عرف الفقهاء. وقوله: "حق" أي ثابت يؤكد ذلك، وأما حديث أم شريك فظاهر في الوجوب، إذ قولها: أمرنا حقيقة في الوجوب، وقد ذهب إلى وجوبها الشافعي (¬1) وأحمد وغيرهما من السلف والخلف، وذهب أبو حنيفة وأصحابه ومالك وجماعة الكوفيين إلى عدم مشروعية (¬2) القراءة، قالوا: لقول ابن مسعود (¬3): لم يؤقت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قراءة في صلاة الجنازة، بل قال: كبر إذا كبر الإمام واختر من أطيب الكلام ما شئت. رواه في الانتصار (¬4)، وذهب الهادي (¬5) والقاسم والمؤيد إلى أن القراءة سنة، قالوا: لقول ابن عباس: سنة، وقد عرفت الجواب عنه، وأيضًا فإنهم متفقون على أنها صلاة، وصحة حديث: "لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب" (¬6) فهي مندرجة تحت ذلك العموم، وإخراجها يحتاج إلى دليل، وأما حديث ابن ¬

_ (أ) في جـ: وأن.

مسعود إذا ثبت (¬1)، فهو نَافٍ، وما تقدم مثبت، والمثبت أولى كما عرفت. وفي حديث شرحبيل دلالة على صحة الجمع بين القراءة (¬2) والدعاء وقد ذهب إلى هذا الهادي والقاسم، وذهب (أ) الشافعي وأحمد (¬3) وإسحاق وداود ومن الصحابة ابن الزبير أنه لا يجمع بين القراءة والدعاء، وإنما يقرأ الفاتحة حتما بعد التكبيرة الأولى، ثم يكبر ويصلى على النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - حتما لقوله: "لا صلاة لمن لم (ب) يصلّ على نبيه" (¬4)، ثم يدعو، ثم يكبر، ثم يدعو للميت حتما لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "فأخلصوا له الدعاء" (¬5) والله أعلم. 430 - وعن عَوف بن مالك - رضي الله عنه - قال: "صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على جنازة فحفظت من دعائه: اللهم اغفر له، وارحمه، وعافه، واعف عنه، وأكرم نزله، ووسع مدخله، واغسله بالماء والثلج والبرد، ونقه من الخطايا كما نقيت الثوب الأبيض من الدنس، وأبدله دارًا خيرًا من داره، وأهلا خيرًا من أهله، وأدخله الجنة وقهِ فتنة القبر، ¬

_ (أ) في جـ: ومذهب. (ب) في جـ: لا.

وعذاب النار". رواه مسلم (¬1). وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: "كان رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إِذا صلَّى على جنازة يقول: اللهم اغفر لحينا وميتنا، وشاهدنا وغائبنا، وصغيرنا وكبيرنا، وذكرنا وأنثانا، اللهم من أحييته منا فأحيه على الإِسلام ومن توفيته منا فتوفه على الإِيمان، اللهم لا تحرمنا أجره، ولا تفتنا بعده". (¬2) رواه مسلم والأربعة. وعنه: أن النبيَّ (أ) - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا صليتُم على الميت فأخلصوا له الدعاءَ" رواه أبو داود، وصححه ابن حبان (2). ¬

_ (أ) في جـ: أنه.

قوله: "فحفظت من دعائه" يحتمل أنه مسألة فأخبره بما دعا، فلا ينافي ما صرح به الفقهاء من أنه يندب الإسرار به، وبعضهم فَصَّل فقال: يسر في النهار ويجهر في الليل، ويحتمل أنه جهر بذلك ليعلمهم الدعاء كما فعل ابن عباس، ويحتمل أن يقال بتوسعة الأمر وأنه يسوغ الجهر والإسرار، ولعل هذا أولى. واعلم أنه لا يتعين في الدعاء لفظ مخصوص، وقد نبه عليه في قوله (أ): فأخلصوا (ب) له (جـ) الدعاء، واتباع ما ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم -أولى، وأصح الوارد حديث (د) عوف بن مالك (¬1) وكذا حديث أبي هريرة، قال الحاكم أبو عبد الله (¬2): حديث صحيح على شرط البخاري ومسلم، وقد وقع في ألفاظ الوارد بعض اختلاف، ففي رواية (¬3) لمسلم: "وقه فتنة القبر وعذاب القبر"، وكذا وقع في رواية أبي داود (¬4) " فأحيه على الإيمان وتوفه على الإسلام"، والمشهور في معظم كتب الحديث كما في الأصل، وفي سنن أبي داود (¬5) عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في الصلاة على ¬

_ (أ) في جـ: بقوله. (ب) في هـ: وأخلصوا. (جـ) زاد في جـ: في. (د) زاد في جـ: ابن.

الجنازة: "اللهم أنت ربها، وأنت خلقتها، وأنت هديتها للإسلام وأنت قبضت روحها، وأنت أعلم بسرها وعلانيتها، جئنا شفعاء له فاغفر له". وفي سنن أبي داود (¬1) وابن ماجه عن واثلة بن الأسقع - رضي الله عنه - قال: "صلى بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على رجل من المسلمين، فسمعته يقول: اللهم إن فلان ابن فلان في ذمتك، وحبل جوارك، فقه فتنة القبر (أ) وعذاب النار، وأنت أهل الوفاء والحمد، اللهم فأغفر له، وارحمه، فإنك أنت الغفور الرحيم". واختار الشافعي (¬2) -رحمه الله تعالى- من مجموع هذه الأحاديث وغيرها فقال: يقول: اللهم هذا عبدك وابن عبدك خرج من روح الدنيا وسعتها، ومحبوبها وأحباؤه (ب) فيها إلى ظلمة القبر، وما هو لاقيه، كان يشهد أن لا إله إلا أنت وأن محمدًا عبدك ورسولك، وأنت أعلم به، اللهم (جـ) نزل بك وأنت خير منزول به، وأصبح فقيرًا إلى رحمتك، وأنت غني عن عذابه، وقد جئناك راغبين إليك شفعاء له، اللهم إن كان محسنا فزد في إحسانه، وإن كان مسيئًا فتجاوز عنه، ولقه برحمتك ورضاك، وقه فتنة القبر وعذابه، وأفسح له في قبره، وجاف الأرض عن جنبيه، ولقه برحمتك (د) الأمن من عذابك حتى تبعثه ¬

_ (أ) زاد في جـ: وعذاب القبر. (ب) في هـ: وأحبائه. (جـ) زاد في جـ: إنه. (د) ساقطة من جـ.

إلى جنتك برحمتك (أ) يا أرحم الراحمين، هذا نص الشافعي في مختصر (¬1) المزني، وبعد التكبيرة الرابعة لا يجب فيها ذكر عنده ولكن يستحب ما نص عليه في كتاب (¬2) البويطي قال: ويقول بعد الرابعة: اللهم لا تحرمنا أجره، ولا تفتنا بعده. وقال أبو علي بن (ب) أبي (¬3) هريرة من أصحاب الشافعي: كان المتقدمون يقولون في الرابعة: اللهم ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار. قال (¬4): وليس ذلك محكيًا عن الشافعي. قال النووي (¬5) في الأذكار: ويحتج للدعاء في الرابعة بما رويناه في السنن الكبير للبيهقي عن عبد الله بن (¬6) أبي أوفى - رضي الله عنه - أنه كبر على جنازة ابنة له أربع تكبيرات، فقام (ب) بعد الرابعة بقدر ما بين التكبيرتين يستغفر لها ويدعو، ثم قال: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصنع هذا"، وفي رواية كبر أربعًا فسكت (د) ساعة حتى ظننت أنه سيكبر خمسًا ثم سلم عن يمينه وعن شماله، فلما انصرف قلنا له: ما هذا؟ فقال: إني لا أزيدكم على ما رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصنع، وهكذا صنع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ¬

_ (أ) مثبتة بالهامش في جـ. (ب) في جـ: عن. (جـ) زاد في جـ: فقال. (د) في جـ: ثم سكت.

قال الحاكم أبو عبد الله: هذا حديث (¬1) صحيح. انتهى، وعند الهادي (¬2) والقاسم -رحمة الله عليهما- يندب (أ) الجمع بين القراءة والذكر فيكبر الأولى ثم يقول: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت، وهو حي لا يموت، بيده الخير، وهو على كل شيء قدير، ثم يقرأ الفاتحة، ثم يكبر الثانية فيقول: اللهم صل على محمد عبدك ورسولك وخيرتك من خلقك وعلى آل بيته الطيبين الأطهار، الصادقين الأبرار الذين أذهب الله عنهم الرجس، وطهرهم تطهيرًا. كما صليت على إبراهيم و (ب) آل إبراهيم إنك حميد مجيد، ثم يقرأ الإخلاص، ثم يكبر الثالثة فيقول: اللهم صل على ملائكتك المقربين، اللهم شرف بنيانهم وعظم أمرهم، اللهم صل على أنبيائك المرسلين اللهم أحسن (جـ) جزاءهم، وارفع عندك درجاتهم، اللهم شفع محمدًا في أمته واجعلنا ممن تشفعه فيه، اللهم اجعلنا في زمرته، وأدخلنا في شفاعته، واجعل مأوانا الجنة، ثم يقرأ سورة العلق ثم يكبر الرابعة فيقول: سبحان من سبحت له السماوات والأرضون، سبحان ربنا الأعلى، سبحانه وتعالى، اللهم هذا عبدك وابن عبديك، وقد صار إليك، وقد أتيناك مستشفعين له سائلين له المغفرة فاغفر له ذنوبه وتجاوز عن سيئاته وألحقه بنبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - اللهم وسع ¬

_ (أ) في جـ: فيندب. (ب) زاد في جـ: على. (جـ) في جـ: حسن.

عليه قبره وأفسح (أ) له أمره، وأذقه عفوك ورحمتك، يا أكرم الأكرمين (ب)، اللهم ارزقنا حسن الاستعداد لمثل يومه ولا تفتنا بعده واجعل خير أعمالنا خواتيمها، وخير أيامنا يوم نلقاك (جـ)، ثم يكبر الخامسة ثم يسلم (¬1). قال الهادي (¬2): وإذا اضطر المصلي بالصلاة على فاسق لعنه فيها، وإذا صلي علي ملتبس الحال قال في الدعاء: اللهم إن كان محسنًا فزده إحسانا (د)، وإن كان مسيئا فأنت (هـ) أولى بالعفو عنه. وإن كان الميت طفلا صغيرًا قال (و) اللهم اجعله لنا، ولوالديه ذخرًا وسلفًا وفرطًا وأجرًا. 431 - وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "أسرعوا بالجنازة، فإِن تكن صالحة تقدمونها إِليه، وإِن تك (ز) سوى ذلك فشر تضعونه عن رقابكم". متفق عليه (¬3). ¬

_ (أ) في جـ: وفسح. (ب) في جـ: يا أرحم الراحمين، وفي هـ: يا أرحم كرم الأكرمين. (جـ) في جـ: لقائك. (د) في جـ: فزد في إحسانه. (هـ) في جـ: أنت. (و) ساقطة من جـ. (ز) في الأصل وهـ: يكن.

قوله: "أسرعوا بالجنازة" (أ)، يحتمل الإسراع بتجهيزها ولا يناسبه قوله "فإن تكن .. " إلخ ويحتمل الإسراع عند الحمل لها، وهو الأنسب، إلا أن الوجه الأول يناسبه حديث ابن عمر: "إذا مات أحدكم فلا تحبسوه، وأسرعوا به إلى قبره" (¬1)، أخرجه الطبراني بإسناد حسن، وحديث حصين بن وحوج مرفوعًا: "لا ينبغي لجيفة مسلم أن تبقى بين ظهراني أهلها" أخرجه أبو داود (¬2) إلا أنه لا تنافي بين الأمر (ب) بالشيئين، وإن كان أحدهما أخص، والأمر هنا للندب بلا خلاف بين العلماء (¬3) إلا ابن حزم (¬4) فقال بوجوبه، والمراد بالإسراع هنا المشي الشديد، وهو دون الخبب، كذا قالت (جـ) الحنفية (¬5)، وعن الشافعي (¬6) المراد به ما فوق المشي المعتاد، والحاصل، أنه يستحب الإسراع بحيث لا ينتهى إلى شدة يخاف معها حدوث مفسدة بالميت أو مشقة على الحامل (د). والضمير في قوله: "فإن تكن صالحة" (عائد) (هـ) إلى الجثة المحمولة، ¬

_ (أ) زاد في جـ: و. (ب) في جـ: الأخذ. (جـ) في هـ: قاله. (د) بهامش الأصل. (هـ) في جـ: عائدة.

إذا كانت الجنازة مرادًا بها النعش، وإن كانت مرادًا بها الميت فالضمير إليها، وهو الظاهر لعدم الحاجة إلى ارتكاب التجوز في الخير، وخير خبر مبتدأ محذوف أي فهو خير، أو مبتدأ محذوف الخبر، أي فلها (أ) خير. و (ب) قوله: "تقدمونها إليه"، وفي رواية: "تقدمونه (¬1) إليها"، فعلى الوجه الأول الظاهر عود ضمير (جـ) تقدمونها إلى الجنازة، والضمير في إليه إلى الخير، ويحتمل أن يكون الضمير المؤنث عائدًا إلى الخير بتأويل الحسنة، فتطابق الروايتان حينئذ (¬2). والحديت فيه دلالة على شرعية المسارعة إلى تجهيز الميت ودفنه وهو مخصوص بمن لم يتحقق موتهم، كالمفلوج والمطعون والمسبوق (د) فينبغي التثبت في أمرهم وعدم الإسراع، ويتركوا حتى يمضي يومًا وليلة (¬3)، ويتحقق موتهم، ويؤخذ من الحديث ترك مصاحبة أهل البطالة وغير الصالحين. 432 - وعنه - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ شَهِدَ الجِنَازَةَ حتى يُصلَّى عليها فلَه قِيراطٌ ومَنْ شَهِدَها حتى تُدْفَنَ فلَهُ قِيرَاطان". قيل: وما القيراطان؟ قال: "مثلُ الجبلَيْن العظِيميْن". متفق ¬

_ (أ) في جـ: فيها. (ب) الواو ساقطة من جـ. (جـ) في هـ وجـ: الضمير. (د) في جـ: والمسكوت.

عليه (¬1). ولمسلم: "حتى توضع في اللَّحد" (¬2). وللبخاري: "من تبع جنازة مسلم إيمانا واحتسابا، وكان معه حتى يصلى عليها ويفرغ من دفنها فإنه يرجع بقيراطين، كل قيراط مثل (أ) أحد" (¬3). قوله: "من شهد الجنازة"، المراد بالشهود هو الحضور معها، وظاهر الحضور معها من ابتداء الخروج بها، وهذا مصرح به في رواية لمسلم (¬4) بلفظ: "من خرج مع جنازة من بيتها، ثم تبعها حتى تدفن كان له قيراطان من أجر، كل قيراط مثل أحد ومن صلى عليها ثم رجع كان له (ب) قيراط". وقوله: "حتى يصلى عليها"، لفظ عليها ثابت في رواية (¬5) الكشميهنيّ للبخاري، وهو كذلك عند مسلم (¬6)، وللبيهقي (¬7) أيضًا بإسناده ¬

_ (أ) زاد في جـ: جبل. (ب) ساقطة من جـ.

عن أحمد بن شبيب شيخ البخاري، وفي سائر الرواية للبخاري بحذف "عليها" وفتح اللام في "يصلى"، ووقع في رواية البعض بكسر اللام والظاهر أن هذه تفسر إطلاق صيغة المجهول، وأنه لا يستحق الأجر من شهد ولم يصل، وإن صلى غيره أو صلى ولم يتبع. قال المصنف (¬1) -رحمه الله تعالى-: والذي يظهر لي أنه يحصل الأجر لمن صلى وإن لم يتبع لأن ذلك وسيلة إلى الصلاة، لكن يكون قيراط من صلى فقط دون قيراط من شيع مثلًا وصلى، ويدل عليه ما علقه البخاري (¬2) عن زيد بن ثابت: "إذا صليت فقد (قضيت) (أ) الذي عليك. ووصله (ب سعيد بن (¬3) منصور من طريق عروة عنه بلفظ: "إذا صليت على جنازة فقد قضيت ما عليك" ووصله ب) ابن أبي (¬4) شيبة من هذا الوجه بلفظ: "إذا صليتم على الجنازة فقد قضيتم ما عليكم، فخلوا بينها وبين أهلها"، وكذا أخرجه عبد الرزاق (¬5) بلفظ الإفراد ومعناه: فقد قضيت حق الميت، فإن أردت الاتباع فلك زيادة أجر، وعلق البخاري (¬6) قول حميد بن هلال: ما علمنا على الجنازة إذنًا، ولكن من صلى ثم رجع فله قيراط، ولم يرو هذا موصولًا، وفي هذا رد على ما ذهب إليه مالك (¬7) ¬

_ (أ) في الأصل وهـ: وصليت. (ب- ب) بالهامش في هـ.

كما حكي عنه أنه لا ينصرف التابع للجنازة حتى يستأذن أهل الميت، محتجًا بما أخرجه عبد الرزاق (1) من طريق عمرو بن شعيب عن أبي هريرة قال: أميران وليسا بأميرين: الرجل يكون مع الجنازة يصلي عليها فليس له أن يرجع حتى يستأذن وليها (أ) ... الحديث، وهو منقطع موقوف، وروى عبد الرزاق (2) مثله من قول إبراهيم، وأخرجه ابن أبي (¬3) شيبة عن المسور مِنْ فعْلِه أيضًا، وقد ورد مثله مرفوعًا من حديث جابر، أخرجه البزار بإسناد فيه مقال، وأخرجه العقيلي (¬4) في الضعفاء من حديث أبي هريرة مرفوعًا بإسناد ضعيف، وروى أحمد من طريق عبد الله بن هرمز عن أبي هريرة مرفوعًا "من تبع جنازة فحمل وحَثَا في قبرها وقعد حتى يؤذن له رجع بقيراطين"، وإسناده (¬5) ضعيف، والذي عليه معظم أهل الفتوى أنه لا يحتاج إلى إذن. وقوله: "فله قيراط ": القيراط بكسر القاف، قال الجوهري (¬6): أصله قراط بتشديد الراء لأن جمعه قراريط، فأبدل من أحد حرفي المضعف ياء، وقال: والقيراط نصف دانق، والدانق سدس درهم، فعلى هذا القيراط ¬

_ (أ) في جـ: أهلها.

جزء من اثني عشر جزءًا من الدرهم (أ). وأما صاحب النهاية (¬1) فقال: القيراط جزء من أجزاء الدينار، وهو نصف عشره في أكثر البلاد، وفي الشام جزء من أربعة وعشرين جزءًا، ونقل ابن الجوزي (¬2) عن ابن عقيل أنه كان يقول: القيراط نصف سدس درهم أو نصف عشر دينار. وذكر القيراط هنا على جهة التمثيل بما يعرف من أحوال تقدير الموزونات، ولما كان وزن الأعمال في الآخرة بما لا يعلم حقيقته (ب) إلا الله تعالى، ولم يمكن (جـ) تعريفنا ذلك إلا بتشبيهه ما (د) نعرفه من أحوال المقادير فشبه بالقيراط، وكان القيراط حقيرًا قدره فنبه على تعظيم الأمر بقوله في رواية: "أصغرهما مثل أحد"، وكان جبل أحد من أعظم جبال المدينة المشرفة ومن الجبال المحبوبة إليهم، فشبه به، فعرف من ذلك تعظيم الأمر وأن مقدار الثواب والزلفى في الآخرة لا طريق لنا إلى معرفتهما (هـ) بحقيقته كما قال تعالى: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} (¬3) وقال تعالى: {وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا} (¬4). ¬

_ (أ) في هـ: الدراهم. (ب) في جـ: بما لا يعلمه حقيقة. (جـ) في هـ: يكن. (د) في هـ: بتشبيه بما، وفي جـ: بتشبيهه لما. (هـ) في جـ: معرفتها، وفي هـ: معرفته.

وقوله: "حتى يدفن"، ظاهره وقوع مطلق الدفن، وإن لم يفرغ من جميع الأعمال وفي رواية مسلم (¬1): "حتى يوضع في اللَّحْدِ"، ظاهره مثل هذا، ولكنه في الرواية الأخرى لمسلم (¬2): "حتى يفرغ من دفنها"، ففيها تفسير لما أطلق في غيرها. وقوله: "قيل وما القيراطان؟ " لم يبين في هذه الرواية القائل من هو؟ وقد بين (أ) القائل (ب) أبو عوانة (¬3) من طريق أبي مزاحم عن أبي هريرة، ولفظه: قلت: يا رسول الله، وما القيراط؟ ووقع عند مسلم (¬4) أيضًا أن أبا حازم أيضًا سأل أبا هريرة عن ذلك. وقوله: "مثل الجبلين العظيمين"، قد بين عِظَم الجبل بتشبيهه في الرواية الأخيرة بأحُدٍ، كأنها رواية بالمعنى، ووقع في رواية النَّسائي (¬5) "فله قيراطان من الأجر كل واحد منهما أعظم من أحد". وفي رواية لمسلم (¬6): "أصغرهما مثل أحد" وفي رواية ابن ماجه (¬7) عن أبَي بن كَعْب: القيرَاط أعظم من أحُدٍ. هذا كأنه أشار إلى الجبل عند ذكر الحديث، وعند ابن ¬

_ (أ) في جـ: ذكر. (ب) زاد في هـ: من هو.

عدي عن (¬1) واثلة: "كتب له قيراطان من أجر أخفهما في يوم القيامة ميزانه أثقل من جبل أحد". والحديث من فوائده الترغيب في شهود الميت، والقيام بأمره، والحض على الاجتماع له، والتنبيه على عظيم فضل الله وتكريمه للمسلم في تكثير ثواب من يتولاه بعد موته، وفيه تقدير الأعمال بالميزان، وهو إما تقريب للأفهام وإما على حقيقته. واعلم أن ظاهر قوله: "فله قيراطان" يقضي بأن أحدهما هو الذي كان لمن انصرف قبل الدفن، وأن المنتظر للدفن يزاد له قيراط مع ذلك القيراط الأول، وهذا هو المفهوم من سائر الروايات، وإن كان بعض القدماء جزم بأن القيراطين من غير القيراط الأول وحكاه ابن الزين عن القاضي أبي الوليد. فائدة: رَوَى هذا الحديث اثنا عشر صحابيًّا، وهم عائشة وأبو هريرة وحديثهما في البخاري (¬2) وثوبان عند مسلم (¬3) والبراء وعبد الله بن مغفل عند النَّسائيِّ (¬4)، وأبو سعيد عند أحمد (¬5)، وابن مسعود عند أبي عوانة، وأسانيد هؤلاء صحاح، وأُبي بن كعب عند ابن ماجه (¬6)، وابن عباس عند البيهقي في الشعب وأنس عند الطبراني (¬7) في الأوسط وواثلة ابن ¬

_ (¬1) الكامل 6/ 2327، أخرجه في ترجمة معروف بن عبد الله الخياط الدمشقي أبي الخطاب. (¬2) البخاري 3/ 192 ح 1324 - 1323. (¬3) مسلم 2/ 954 ح 57 - 946. (¬4) النَّسائيُّ من حديث البراء 4/ 44، وابن المغفل 4/ 45. (¬5) أحمد 3/ 85. (¬6) ابن ماجه 1/ 492 ح 1541. (¬7) مجمع الزوائد 3/ 30.

الأسقع عند ابن عدي (¬1) وحفصة عند حميد بن زنجويه في فضائل الأعمال وفي كل من أسانيد هؤلاء الخمسة ضعف. 433 - وعن سالم عن أبيه "أنه رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبا بكر وعمر وهُم (أ) يَمْشُونَ أمَامَ الجنازَة". رواه الخمسة، وصححه ابن حبان، وأعله النَّسائي وطائفة بالإرسال (¬2). هو أبو عبد الله، ويقال: أبو عمرو، سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب القرشيّ العدوي المدني أحد فقهاء المدينة، من سادات التابعين وعلمائهم وثقاتهم. روى عن أبيه وغيره، (ب) روى عنه الزهريّ ونافع، مات سنة ست ومائة. الحديث أخرجه الخمسة وابن حبان والبيهقي من حديث ابن عيينة عن الزهريّ عن سالم عن أبيه به (جـ)، قال أحمد: إنما هو عن الزهريّ مرسل، وحديث سالم إنما هو موقوف على ابن عمر من فعله، وحديث ابن عيينة وهم. قال الترمذي (¬3): أهل الحديث يرون المرسل أصح، قاله ابن ¬

_ (أ) ساقطة من جـ. (ب) زاد في جـ: و. (جـ) ساقطة من جـ.

المبارك. قال: وروى معمر ويونس ومالك عن الزهريّ: "أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كان يمشي أمام الجنازة" (¬1)، قال الزهريّ: وأخبرني سالم أن أباه كان يمشي أمام الجنازة (¬2)، وكذا أخرجه (أ) أحمد (¬3) عن ابن شهاب عن سالم عن ابن عمر من فعله، وقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر وعمر يمشون أمامها، وقال عبد الله بن أحمد: قال أبي ما معناه: القائل -وقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو الزهريّ، وأخرجه (¬4) ابن حبان في صحيحه عن الزهريّ عن سالم أن عبد الله بن عمر كان يمشي بين يديها، وأبو بكر وعمر (ب) وعثمان، قال الزهريّ وكذلك السنة، وقد ذكر الدارقطني (¬5) في "العلل" اختلافا كبيرا فيه عن الزهريّ، قال: والصحيح قول من قال: عن الزهريّ عن سالم عن أبيه أنه كان يمشي، قال: وقد مشى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر وعمر، واختار البيهقي (¬6) ترجيح الموصول لأنه من رواية ابن عيينة وهو ثقة حافظ، وعن علي بن (¬7) المديني قال: قلت لابن عيينة: يا أبا محمد خالفك الناس في هذا الحديث، فقال: استيقن الزهريّ حديثه مرارا، لست أحصيه، يعِيده ويُبْديه من فيه عن سالم عن أبيه. ¬

_ (أ) في هـ: أخرج. (ب) ساقطة من جـ.

قال المصنف (¬1) -رحمه الله-: وهذا لا ينفي عنه الوهم لأنه ضبط أنه سمعه منه عن سالم عن أبيه، والأمر كذلك إلا أن فيه إدراجًا، ولعل الزهريّ أدمجه إذ حدث به ابن عيينة، وفصله (أ) لغيره، وقد أوضحته في المدرج بأتم من هذا، وجزم أيضًا بصحته (ب) ابن المنذر وابن حزم (¬2)، وقد ر وي عن يونس عن الزهريّ عن أنس مثله، أخرجه الترمذي (¬3) وقال: سألت عنه البخاري، وقال: هذا خطأ أخطأ فيه محمد بن بكر. والحديث فيه دلالة على أن المشي أمام الجنازة أفضل لأنه الذي ورد (جـ) من فعله - صلى الله عليه وسلم - وفعل الشيخين من بعده، وقد ذهب إليه الجمهور (¬4) والشافعي وذهب أنس (¬5) بن مالك إلى أنه يمشي بين يديها، وخلفها وعن يمينها وعن شمالها علقه البخاري (¬6) وقد وصله عبد الوهاب بن عطاء (¬7) الخفاف في كتاب الجنائز. قال المصنف (¬8) -رحمه الله-: ورويناه عاليا في رباعيات أبي بكر الشافعي وأخرجه ابن أبي شيبة (¬9) موصولا وكذا عبد الرزاق، وظاهر (د) أثر ¬

_ (أ) في جـ وهـ: ووصله. (ب) في جـ: لصحته. (جـ) زاد في جـ: فيه. (د) في هـ: فظاهر.

أنس التوسعة في الأمر على المشيعين، وعدم التزامهم جهة معينة، وذلك لما علم من تفاوت أحوالهم في المشي، وقضية الإسراع بالجنائز أن لا يلزموا بمكان واحد يمشون فيه لئلا يشق على بعضهم، وذهب العترة (¬1) وأبو حنيفة وأصحابه إلى أن المشي خلفها أفضل لما رواه محمد بن طاوس عن أبيه أنه قال: "مَا مَشَى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتّى ماتَ إلَّا خَلْفَ الجِنَازة" (¬2) وروى سعيد بن منصور وغيره من طريق عبد الرحمن بن أبزى عن علي قال: المشي خلفها أفضل من المشي أمامها كفضل صلاة الجماعة على صلاة الفذ (¬3). إسناده حسن (¬4) وهو موقوف له حكم المرفوع، لكن حكى الأثرم عن أحمد أنه تكلم في إسناده وذهب الثَّوريُّ إلى أن الماشي حيث يشاء، والراكب خلفها لما أخرجه أصحاب السنن وصححه ابن حبان والحاكم من حديث المُغيرة (¬5) بن شعبة مرفوعًا: الراكب خلف الجنازة والماشي حيث شاء منها. ¬

_ (¬1) شرح العناية على الهداية 2/ 135. (¬2) المصنف 3/ 445 ح 6262، وقال الحافظ: مرسل صحيح. (¬3) المصنف 3/ 447 - 448 ح 6267، الكامل 6/ 2440، 2441. (¬4) لكن ذكره ابن عدي في ترجمة مطرح بن يزيد الكناني أبو المهلب وقال يحيى بن معين: ضعيف. وقال ابن عدي: والضعف على روايته بيَّن 4/ 2440 - 2441، تهذيب التهذيب 10/ 171، وقال ابن الجوزي: عبيد الله بن زجر وعلي بن يزيد والقاسم كلهم ضعفاء فإذا اجتمع هؤلاء في حديث فهو مما عملته أيديهم. العلل المتناهية 2/ 417 ح 1502. (¬5) أبو داود 3/ 522، 523 ح 3180، الترمذي 3/ 349 - 350 ح 1031، النَّسائي 4/ 45، ابن ماجه 1/ 475 ح 1481، ابن حبان (موارد) 195 ح 765، الحاكم 1/ 355 وقال: على شرط البخاري. ووافقه الذهبي.

وعن النخعي (¬1): إن كان في الجنازة نساء مشى أمامها وإلا فخلفها. والله أعلم. 434 - وعن أم عطية قالت: "نُهِينا عن اتِّباع الجنَائِز، ولَمْ يُعْزَم عَلَينا". متفق عليه (¬2). قوله: "نهينا" بعدم ذكر الفاعل، ذهب الشيخان وجمهور المحدثين وجمهور أهل الأصول إلى أن قول الصحابي: أمرنا بكذا أو (أ) نهينا عن كذا له حكم المرفوع، إذ الظاهر من ذلك أن الآمر والناهي هو النبي - صلى الله عليه وسلم - وفي هذا المحل بخصوصه متعين ذلك إذ قد أخرجه البخاري (¬3) في باب الحيض عنها: "نهانا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -" وهذا من أم عطية مرسل لعدم سماعها ذلك من النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - لما رواه الطبراني (¬4) عنها قالت: "لما دخل النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - المدينة جمع النساء في بيت، ثم بعث إلينا عمر فقال: إن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - إليكن بعثني (ب) لأبَايِعكن علَى أن لا تَسْرِقْنَ .. " الحديث. وفي آخره: "وأمرنا ¬

_ (أ) في جـ: و. (ب) في هـ: بعثني إليكن.

أن (أ) نخرج في العيدين العواتق ونهانا أن نخرج في جنازة"، وظاهر هذا النهي أنها فهمت منه الكراهة دون التحريم، وله قال جمهور أهل العلم، وقال به (¬1) مالك وأهل المدينة، وقال المهلب: في حديث أم عطية دلالة على أن النهي من النبي - صلى الله عليه وسلم - على درجات، ويدل على الجواز ما أخرجه ابن أبي (¬2) شيبة عن أبي هريرة: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان في جنازة فرأى عمر امرأة فصاح بها. فقال: "دعها يا عمر" .. الحديث وأخرجه ابن (¬3) ماجه والنسائي من طريق ابن أبي شيبة. وأخرجاه من طريق أخرى، ورجالها ثقات، وتأوله الداودي (¬4) وقال: نهينا عن اتباع الجنائز أي (ب) إلى المقابر ولم يعزم علينا أي أن لا (جـ) نأتي أهل الميت فنعزيهم ونترحم على ميتهم من غير أن نتبع جنازته. انتهى. وفي آخر هذا التفصيل من سياق هذا الحديث بعد، وإن كان مثل هذا في حديث عبد الله بن عمر (¬5): أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى فاطمة مقبلة، فقال: "من أين جئت؟ " ¬

_ (أ) في جـ: أن لا. (ب) ساقطة من هـ. (جـ) ساقطة من هـ.

فقالت: ترحمت على أهل هذا الميت بميتهم، فقال: "و (أ) لعلك بلغت معهم الكُدَى"، قالت لا .. الحديث، وفي (آخر الحديث) (ب) الوعيد على ذلك، أخرجه أحمد والحاكم وغيرهما فأنكر عليه, بلوغ الكدَى، وهو بضم الكاف وتخفيف (المهملة) وبالمقصورة (جـ) وهي القابر، ولم ينكر عليها التعزية. وقال المحب الطبري: يحتمل أن يكون المراد بقولها: ولم يعْزم علينا (د). أي كما عزم على الرجال بترغيبهم في اتباعها بحصول (هـ) القيراط، ونحو ذلك، والأول أظهر. 435 - وعن أبي سعيد - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا رأيتُمُ الجِنازةَ فَقُومُوا، فَمَنْ تَبِعَهَا فَلا يَجلِسُ حتّى توضع". متفق عليه (¬1). الحديث فيه دلالة علي الأمر بالقيام للجنازة إذا مرت بالمكلف، وإن لم يكن قاصدًا لتشييعها، وظاهره العموم لجنازة المؤمن وغيره، وقد أخرج البخاري (¬2) قيامه - صلى الله عليه وسلم - لجنازة يهودي مرت به، وتعليله ذلك بالموت (و) فزع (¬3)، ¬

_ (أ) الواو ساقطة من جـ. (ب) في هـ: آخره. (جـ) في جـ: الدال المقصورة، ولفظ "المهملة" بهامش الأصل. (د) في جـ: عليها. (هـ) في جـ: لحصول. (و) في هـ: بأن الموت.

وفي رواية: "أليست نفسًا" وأخرج الحاكم (¬1) قوله: "إنما قمنا للملائكة"، وأخرج أحمد والحاكم (¬2) وابن حبان: "إنما يقومون إعظامًا للذي يقبض النفوس"، وفي لفظ ابن حبان: "إعظامًا للذي يقبض الأرواح" (¬3)، وهذا لا ينافي التعليل الأول بأن الموت فزع، فإن تعظيم القائمين بأمر الموت إعظام للموت. وقد اختلف العلماء في القيام للجنازة فذهب الشافعي (¬4) وغيره إلى أنه غير واجب، وقال: هذا الأمر إما أنْ يكون منسوخًا أو أنه قام لعلة، وأيهما كان فقد ثبت أنه تركه بعد فعله، والحجة في الآخر من أمره والقعود أحب إلى. انتهى. وأشار بالترك إلى حديث على رضي الله عنه: "أنه - صلى الله عليه وسلم - قامَ للجنازة ثم قعد". أخرجه مسلم (¬5)، قال البيضاوي (¬6): وهذا محتمل (أ) أن يكون قام للجنازة ثم قعد بعد أن جَاوزتهُ وبَعُدَت عنه، ويحتمل أن يكون المراد أنه كان يقوم في وقت ثم ترك القيام أصلًا، فيكون الترك قرينة على أن الأمر للندب فلا يحمل (ب) على النسخ. ¬

_ (أ) في جـ: يحتمل. (ب) في جـ: ولا يحمل.

وقد يتأيد احتمال النسخ (أبما رواه البيهقي (¬1) في حديث علي: أنه أشار إلى قوم قاموا أن يجلسوا، ثم حدثهم أ) فالحديث (ب). قال عياض (¬2): ذهب جمع من السلف إلى أن الأمر بالقيام منسوخ بحديث علي، وتعقبه النووي (¬3) بأن النسخ لا يصار إليه إلا إذا تعذر الجمع، وهو هنا ممكن، قال: والمختار أنه مستحب، وبه قال المتولي. انتهى. وأما حديث عبادة بن الصامت قال (ب): "كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقومُ لِجنَازَة فمرَّ به حبر من اليهود فقال: هكذا نفعل. فقال: اجلسوا وخالفوهم" (¬4) أخرجه أحمد وأصحاب السنن إلا النسائي وابن ماجه والبزار والبيهقي، فلا يعارض هذا الحديث الصحيح، فهو ضعيف، في إسناده بشر بن رافع (¬5) وهو ليس بالقوي، وقال البزار: تفرد به بشر، وهو بين الحديث، وذهب ابن حبيب وابن الماجشون (¬6) من المالكية إلى أن جلوسه لبيان الجواز، فمن جلس (د) في سعة، ومن قام فله أجر. ¬

_ (أ - أ) ساقطة من هـ. (ب) في هـ وجـ: بالحديث. (جـ) في جـ: فقال. (د) زادت هـ: فهو.

و (أ) قوله: "ومن (ب) تبعها فلا يجلس حتى توضع"، في هذه الرواية إطلاق الوضع، وقد روي هذا الحديث من حديث عامر (¬1) بن ربيعة، ووقع الاختلاف على سهيل بن أبي صالح في روايته، فرواه الثوري بلفظ: "حتى توضع بالأرض" (جـ) ورواه أبو (د) معاوية عن سهيل قال فيه: "حتى توضع في اللحد". قال أبو داود: وسفيان الثوري أحفظ من أبي معاوية (¬2)، وجنح (¬3) البخاري إلى ترجيح رواية أبي سفيان، فبوب عليه: باب من تبع جنازة فلا يقعد حتى توضع عن مناكب الرجال، فإن قعد أمر بالقيام، وقد اختلف العلماء الفقهاء (¬4) في ذلك فقال أكثر الصحابة والتابعين باستحبابه كما نقله ابن المنذر، وهو قول الأوزاعي وإسحاق وأحمد ومحمد بن الحسن ورواه البيهقي من طريق ابن حازم الأشجعي عن أبي هريرة وغيرهما: أن القائم مثل الحامل في الأجر. قال الشعبيّ والنخعي: يكره القعود قبل أن توضع، وقال بعض السلف: يجب القيام، واحتج له برواية سعيد عن أبي هريرة وأبي سعيد. قال: "ما رأينا رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - شهد جنازة قط فجلس حتى توضع". أخرجه النسائي (¬5). ¬

_ (أ) الواو ساقطة من جـ. (ب) في جـ: فمن. (جـ) في جـ: في الأرض. (د) ساقطة من جـ.

436 - وعن أبي إسحاق: "أنّ عبدَ الله بن يزيدَ (أ) أدخَلَ الميِّتَ مِنْ قبل رِجْلي الْقَبْرِ، وقال: هذا مِنَ السُّنَّة". أخرجه أبو داود (¬1). هو أبو إسحاق عمرو بن (ب) عبد الله السَّبيعي، بفتح السين المهملة وكسر الباء الموحدة وبالعين المهملة، الهمدانيّ، الكوفي، رأى عليا وابن عباس وأسامة بن زيد وابن عمر وسمع البراء بن عازب وزيد بن أرقم، روى عنه منصور والأعمش وشعبة والثوري، وهو تابعي مشهور كثير الرواية، ولد لسنتين من خلافة عثمان ومات سنة تسع وعشرين ومائة، وقيل: سنة سبع وعشرين (¬2). الحديث فيه دلالة على أن المشروع سل الميت من مؤخر القبر، بأن يوضع رأس الميت في ناحية مؤخر القبر، وهو محل الرجل، ولذلك قال: "من قبل رجلي القبر" أي موضع الرجلين فأطلق الحال على المحل، وقد ذهب إلى هذا الهادي (¬3) والناصر والمؤيد والشافعي وأحمد، لهذا، ولما روي عن علي - رضي الله عنه قال: "صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على جنازة رجل من ولد عبد المطلب فأمر بالسرير فوضع من قبل رجلي اللحد أمر به ¬

_ (أ) في جـ: بن زيد. (ب) ساقطة من جـ.

فسُل سلا، ثم قال - صلى الله عليه وسلم -: "ضعوه في حفرته لجنبه الأيمن مستقبل القبلة، وقولوا بالله وعلى ملة رسول الله (أ) لا تكبوه لوجهه ولا تلقوه لقفاه، ثم قولوا: اللهمّ لقنه حجته، وأصعدَ (ب) بروحه، ولقه منك رضْوانًا" (¬1)، وقد روى الشافعي (¬2) عن الثقة مرفوعًا إلى ابن عباس "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سُل مِنْ قبَلِ رأُسه"، وكذا في شرح الهداية من حديث ابن عمر، [وقال أبو حنيفة (¬3): بل من جهة القبلة معرضًا، إذ هو أيسر والجواب عنه أن إيثارَ السنة أوْلى] (ب). 437 - وعن ابن عمر - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: قال: "إِذا وَضَعتُم مَوْتاكم في القبور فقولوا: بسم الله، وعلى ملة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -". أخرجه أحمد وأبو داود والنسائي وصححه ابن حبان وأعله الدارقطني بالوقف (¬4). ¬

_ (أ) زاد في جـ: و. (ب) في هـ: صعد. (جـ) في نسخة الأصل: قدم ما بين القوسين على جملة: وقد روى الشافعي ... إلخ وقد أشار إلى ذلك.

الحديث رجع الدارقطني وقبله النسائي وقفه على ابن عمر، وقد رواه ابن حبان من حديث قتادة مرفوعًا، وقد أخرجه من حديث بن عمر ابن ماجه بإسناد (¬1) ضعيف وعن عبد الرحمن بن العلاء (أ) بن اللجلاج عن أبيه قال: قال: قال لي اللجلاج: يا بني إذا مت فألحدني، فإذا وضعتني في لحدي، فقل: بسم الله، وعلى ملة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم شن (ب) عليَّ التراب شنًّا، ثم اقرأ عند رأسي بفاتحة البقرة وخاتمتها، فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول ذلك (¬2). وأخرج الطبراني من (جـ) حديث البياض رفعه، الميت إذا وضح في قبره فليقل الذين يضعونه حين يوضع في اللحد بسم الله وبالله، وعلى ملة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. رواه الحاكم (¬3)، وأخرج عن أبي (¬4) أمامة أيضًا ¬

_ (أ) ساقطة من جـ. (ب) في جـ: تشن. (جـ) في جـ: في.

والبيهقي وسنده ضعيف (¬1)، ولفظه: لما وضعت أم كلثوم بنت رسول الله في القبر قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى} بسم الله، وفي سبيل الله، وعلى ملة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -" واستحسن الشافعي (¬2) رحمه الله أن يقول الذين يدخلون الميت القبر: إللهم سلَّمه إليك الأشحاء من ولده وأهله وقرابته وإخوانه وفارق ما كان يحب قُربه وجرج من سعة الدنيا والحياة إلى ظلمة القبر وضيقه ونزلَ بكَ وأنتَ خير منزولٍ به فإنْ عاقَبْتَه فَبذنبه، وإنْ عفوْت عنه فأنت أهلُ العفوِ، وأنتَ غَني عن عذَابه، وهو فقير إلى رحمتك، اللهم اشْكُر حسنته واغْفر سيئَتَه، وأَعِذْهُ من عذاب القبْر، واجْمع له برحمتكَ (أ) الغابرِينَ، وارْفَعْهُ في عليينَ، وعُد علَيه بفَضل رحمتِك يا أرحمَ الراحمين. 438 - وعن عائشة - رضي الله عنها - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "كَسْر عَظْمِ المَيِّتِ كَكَسْرِه حَيًّا". رواه أبو داود بإسناد على شرط مسلم (¬3) ¬

_ (أ) في جـ: من رحمتك.

وزاد ابن ماجه من حديث أم سلمة: "في الإثْم" (¬1) فيه دلالة على وجوب احترام الميت كما يحترم الحي. وفي زيادة قوله: "من الإثم" رافع (أ) لما يفهم من عموم التشبيه من وجوب الضمان، وأن ذلك الحكم إنما هو لأجل ما يتضمن من إهانة الميت وعدم المبالاة به، فاستحق الإثم دون الضمان، والله أعلم. 439 - وعن سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - قال: "الحدوا لي لحدًا، وانصبوا على اللبن نصبًا كما صنع برسولِ (ب) الله - صلى الله عليه وسلم -". رواه (¬2) مسلم وللبيهقي (¬3) عن جابر نحوه وزاد: "ورفع قبره على الأض قدر شبر". وصحه ابن حبان. ولمسلم عنه: "نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يجصص القبر وأن يقعد عليه، وأن يبنى عليه" (¬4). حديث سعد قاله لما قيل له: ألا نتخذ لك شيئًا كأنه الصندوق من الخشب؟ فقال: بل اصنعوا. فذكره. وحديث جابر أخرجه البيهقي من حديث جعفر بن محمد عن أبيه عنه (جـ) وفيه "ورفع قبره ... " لخ. ¬

_ (أ) في هـ: رفع. (ب) في جـ: رسول. (جـ) ساقطة من جـ.

وقوله: "الحدوا" هو بوصل الهمزة وفتح الحاء، ويجوز القطع وكسر الحاء يقال: لحد يلحد كذهب يذهب، وألحد يلحد إذا حفر اللحد، واللحد بفتح اللام وضمها وهو الحفر تحت الجانب القبلي من القبر. وقوله: "كما صنع برسول الله (أ) - صلى الله عليه وسلم -" فيه دلالة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ألحد له، وقد ورد أيضًا من حديث ابن عمر عند أحمد (¬1)، وفيه عبد الله (¬2) العمرى، وعند ابن أبي شيبة (¬3) من طريق مالك وزيادة (ب) ولأبي بكر وعمر، ومن حديث جابر عند ابن شاهين في الناسخ، ومن حديث بريدة عند ابن عدي (¬4) في الكامل، ومن حديث أنس (¬5) عند أحمد وابن ماجه، وإسناده حسن، أنه كان بالمدينة رجلان، رجل يلحد ورجل يشق، فبعث الصحابة في طلبهما، وقالوا: أيهما جاء أولًا عمل عمله لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فجاء الذي يلحد فلحد لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومثله من حديث ابن عباس (¬6) عند أحمد والترمذي، وبيَّن أن الذي كان يضرح هو أبو عبيدة وأن (جـ) الذي كان يلحد هو أبو طلحة الأنصاري، وفي إسناده ضعف، وفي حديثه ¬

_ (أ) في جـ: الرسول. (ب) في جـ: وزياد. (جـ) ساقطة من: جـ.

أيضًا أن أبا عبيدة كان يضرح لأهل مكة وأبو طلحة (أ) يلحد لأهل المدينة، والضرح هو الشق في وسط القبر، وقد روي من حديث عائشة أيضًا قبل مثل حديث (¬1) أنس عند ابن ماجه، وإسناده ضعيف (¬2). وفيه دلالة على أن اللحد أفضل إلا إذا دعت إليه الحاجة كأن يكون في الأرض رخاوة فلا بأس بالشق. [أو كان عدد اللبن التي نُصبت عليه في قبره تسع لبنات كذا ذكره السهيلي] (¬3) (ب). وقوله: "ورفع قبره على الأرض قدر شبر" أخرجه (¬4) البيهقي وابن حبان من حديث جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر، ورواه البيهقي (¬5) من وجه آخر مرسلًا ليس فيه جابر. وفي الباب من حديث القاسم بن محمد قال: دخلت على عائشة - رضي الله عنها - فقلت: يا أماه، اكشفي لي عن قبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصاحبيه، فكشفت عن ثلاثة قبور لا مشرفة، ولا لاطية مبطوحة ببطحاء العرصة الحمراء أخرجه أبو داود (¬6) والحاكم. وزاد: ورأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مقدمًا، وأبو بكر رأسه بين كتفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعمر ¬

_ (أ) زاد في جـ: كان. (ب) بهامش الأصل وساقطة من جـ.

رأسه عند رجل (أ) رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأخرج أبو داود (¬1) في المراسيل من حديث صالح بن أبي صالح قال: رأيت قبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شبرا أو نحو شبر. ولا يعارض هذا ما (ب) أخرجه البخاري (¬2) من حديث سفيان التمار: أنه رأى قبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مسنمًا أي مرتفعًا بأن يجعل كهيئة السنام، ورواه ابن أبي شيبة (¬3)، وزاد: وكذا قبر أبي بكر وقبر عمر، لإمكان الجمع بما قال البيهقي (¬4): إنه كان أولًا سطحًا كما قال القاسم ثم لما سقط الجدار في زمن الوليد بن عبد الملك أصلح فجعل مسنمًا. فائدة: روي أنه - صلى الله عليه وسلم - دَفَنه عليّ والعباسُ وأسامةُ وغسَّلوه. كذلك أخرجه أبو داود من حديث الشعبيّ قال: وحدثني مرحب أنهم أدخلوا معهم عبد الرحمن بن عوف كأني أنظر إليهم أربعة، وفي رواية البيهقي (¬5) عن علي - رضي الله عنه - أربعة: علي والعباس والفضل وصالح، وهو شقران، وفي رواية ابن حبان في صحيحه عن ابن عباس: العباس وعلي والفضل وسوّى لحدَه رجلٌ من الأنصار، وهو الذي سوى لحودَ الأنصار يوم بدرٍ (¬6). وفي رواية ابن ماجه (¬7) والبيهقي من حديث ابن عباس، علي والفضل وقثم ¬

_ (أ) في ب: رجلي. (ب) في جـ: بما.

وشقران، ونزل معهم خَوْلي، ويجمع بين الروايات بأن كل واحد روى ما رأى، فمن نقص أراد به أول الأمر ومن زاد أراد به آخر الأمر. وكان وفاته - صلى الله عليه وسلم - يوم الاثنين (¬1) عند أن زاغت الشمس لاثنتي عشرة ليلة خلت من ربيع الأول، ودفن يوم الثلاثاء، كما أخرجه مالك في الموطأ (¬2)، وقال جماعة: ليلة الأربعاء. وقوله: "نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنْ يُجَصصَ القبرُ .. " إلخ، التجصيص هو التقصيص بالقاف، والقصة (¬3) بفتح القاف والصاد المهملة المشددة، والحديث فيه دلالة على النهي عن التجصيص للقبر والبناء عليه (أ) والقعود عليه، وهذا مذهب جمهور (ب) العلماء ومنهم الشافعي (¬4)، إلا أنهم حملوا ¬

_ (أ) في جـ: على التنزيه، والنهي عن. (ب) ساقطة من جـ.

النهي عن التجصيص والبناء، على التنزيه، والنهي عن القعود على التحريم، وفيه جمع بين الحقيقة والمجازه وحمل مالك (¬1) القعود هنا على قضاء الحدث وهو مردود بالرواية الأخرى في قوله: "لا تجلسوا على القبور": رواها مسلم (¬2)، وكذا قوله: "لأن يجلس أحدكم على جمرة فتحرق ثيابه فتخلص إلى جلده خير من أن يجلس على قبر" (¬3) فهذا ظاهر في الجلوس ولا يكنى بالجلوس عن قضاء الحاجة كما يكنى بالقعود، ويقاس على الجلوس الاستناد إليه والاتكاء عليه، والعلة في ذلك هو احترام قبر المسلم. والتجصيص للقبر مكروه صرح بذلك أصحاب الشافعي (¬4) وغيرهم، وأما البناء على القبر فإن كان في مقبرة مسبلة، وشغلت العمارة فوق ما يشغل محل الدفن فلا كلام في تحريم ذلك، وإن لم تشغل أو كان في الملك أو المباح فقال الإمام (¬5) يحيى: إنه لا بأس بذلك. وباتخاذ القباب على الفضلاء لإجماع المسلمين (¬6) على وضع ذلك، وقال الشافعي في الأم (¬7): رأيت الأئمة بمكة يأمرون بهدم ما يبنى، وقال أيضًا (¬8): أكره أن يعظم ¬

_ = يتعرض لمسألة القعود 5/ 250، وذكر مسألة القعود 5/ 268 بلفظ (يكره) وقال: إن عبارة الشافعي وجمهور الأصحاب في الطرق كلها أنه يكره الجلوس، وأرادوا به كراهة التنزيه وقال بعض الشافعية بالتحريم. (¬1) المنتقى 2/ 24. (¬2) مسلم 2/ 668 ح 97 - 972. (¬3) مسلم 2/ 667 ح 96 - 971. (¬4) المجموع 5/ 250. (¬5) البحر 2/ 132. (¬6) وأي إجماع على ذلك، قلت: بل لا يجوز ويحرم ذلك، وهذه وسيلة من وسائل الشرك، فإن أول الأمر التذكير للاقتداء بهم، ثم آل الأمر إلى عبادة، وما كان وسيلة إلى محرم فهو حرام. (¬7) الأم 1/ 246. (¬8) الأم 1/ 246.

مخلوق حتى يجعل قبره مسجدًا مخافة الفتنةِ، وفي الباب أحاديث عن أبي هريرة (¬1) أن (أ) النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "قاتلَ الله اليهود اتخذوا قبورِ أنْبيائهم مساجد" متفق عليه، وعن ابن عباس (¬2) -رضي الله عنه- قال: "لعَنَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زائرات القبورِ والمتخذين عليها المساجدَ والسُّرج". رواه أبو داود والترمذي والنسائي، وفي لفظ للترمذي (¬3) (ب): "نهي أن تجصص القبور، وأن يكتب عليها، وأن يبنى عليها وأن توطأ"، وفي لفظ للنسائي (¬4): "نهى أن يبنى على القبر أو يزاد عليه أو يجصص أو يكتب عليه"، وعن عائشة - رضي الله عنها - قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مرضه الذي لم يقم منه: "لعن الله اليهود والنصاري اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد". لولا ذلك أبرز قبره غير أنه خشي أو خشى أن يتخذ مسجدا. أخرجه (¬5) البخاري. وظاهر هذه الأخبار المقترنة باللعن والتشبيه بالوثن في قوله: "لا تتخذوا قبري وثنًا يعبد من دون الله"، التحريم للعمارة والتزيين (جـ) والتجصيص ووضع الصندوق المزخرف ووضع الستائر على القبر وعلى سمائه، والتمسح (د) بجدار القبر، وأن ذلك قد يفضي مع بعد العهد وفشو الجهل إلى ما كان عليه الأم السابقة من عبادة الأوثان، فكان (هـ) في المنع من ذلك بالكلية قطع لهذه ¬

_ (أ) في جـ: بأن. (ب) في جـ: الترمذي. (جـ) في جـ: والتزين. (د) في جـ: والتسمح. (هـ) في هـ: وكان.

الذريعة المفضية إلى الفساد، وهو المناسب للحكم المعتبر في شرع الأحكام، من جلب المصالح ودفع المفاسد سواء كانت بنفسها، أو باعتبار ما تفضي إليه، والله أعلم. 440 - وعن عامر بن ربيعة: "أن النبي، - صلى الله عليه وسلم - صلّى على عثمانَ بن مظعون وأتى القبر فحثى عليه ثلاث حثيات وهو قائم". رواه الدارقطني (¬1) وأخرجه البزار أيضًا ولفظه: "رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - حين دفن عثمان بن مظعون صلّى عليه، وكبر عليه أربعًا، وحثى على قبره بيديه ثلاث حثيات من التراب وهو قائم عند رأسه (¬2) "، وزاد البزار: "فأمر فرش عليه الماء"، وقد روي الشافعي (¬3) من حديث إبراهيم بن محمد عن جعفر بن محمد عن أبيه مرسلًا، وروى أبو داود في المراسيل (¬4): أن النبي - صلى الله عليه وسلم - "حثى في (أ) قبر ثلاثًا"، وهو من طريق أبي المنذر قال أبو حاتم (¬5) فيه: هو مجهول، وقد ورد في الحثْي على القبر أيضًا عن أبي أمامة قال: توفي رجل فلم يصب له حسنة إلّا ثلاث حَثيات حثَاها على قبر فغفرت (ب) له ذنوبه (¬6)، وروى أبو ¬

_ (أ) في جـ: على. (ب) في جـ: حثات حتى على قبر فغفر.

الشيخ في مكارم الأخلاق عن أبي هريرة مرفوعًا: "مَنْ حَثَى عَلَى مُسلم احتِسابًا كتبَ له بكلِّ ثَراةٍ حسنة" (¬1)، إسناده ضعيف، وروى ابن ماجه من حديث أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حثى من قبل الرأس ثلاثا (¬2) " وقال أبو حاتم في العلل (¬3): هذا حديث باطل. في الحديث دلالة على شرعية الحثي على القبر وهو يكون باليدين جميعًا، ويستحب أن يقول عند ذلك: منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى ذكره أصحاب الشافعي (¬4). وروي عن علي (¬5) - رضي الله عنه - أنه يقول: "اللهم إيمانًا بكَ وتصديقا برسلك، وإيقانًا ببَعْثك، هذَا ما وعد الله ورسولُهُ وصدق الله ورسوله". 441 - وعن عثمان - رضي الله عنه - قال: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، إِذَا فَرغَ مِن دَفْنِ المَيَّت، وقَفَ عليه، وقال: استغفروا لأخيكم، وسَلوُا (أ) له التثبيت فإِنه الآن يسأل". رواه أبو داود وصحه الحاكم (¬6). ¬

_ (أ) في جـ: واسألوا.

في الحديث دلالة على أن الميت ينفعه الاستغفار والدعاء (أ) له، وأنه ينتفع بما فعله (ب) الحي له، وأن له في القبر حياة يدرك بها ما يفعله الحي، وقد ورد بهذا أحاديث صحيحة. وقوله: "وسلوا (جـ) له التثبيت فإنه الآن يسأل"، فيه دلالة على ثبوت سؤال منكر ونكير (د) في القبر، وقد وردت به صحاح الأحاديث، واتفقت على قدر مشترك، وإن اختلف في تفصيل السؤال والجواب وأخرجه البخاري في عدة مواضع في كتابه بأسانيد متعددة، فمنها من (هـ) حديث أنس (¬1) أنه حدثهم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن العَبْدَ إذا وضِعَ في قَبْره، وتولَّى عنْه أصحَابه إنه ليسْمع قَرع نعَالِهم" زاد مسلم (¬2): "إذا انصرفوا أتاه (و) مَلَكَان" زاد ابن حبان والترمذي (¬3) من حديث أبي هريرة "أزرقَان أسْوَدَان، يقال لأحدهما: المنْكر والآخر النكير" زاد الطبراني (¬4) في الأوسط: "أعينهما (ز) مثل قدور النحاس، وأنيابهما مثل صياصي البقر (¬5) وأصواتهما مثل الرعدِ"، زاد عبد الرزاق (¬6): "يحفران بأنيابهما ويطآن في أشْعَارهما، معهما مرزبة لو اجْتَمَعَ عليْها أهْل أمتي لم يُقِلُّوها"، وزادَ ابن الجوَزي في ¬

_ (أ) مكررة في هـ. (ب) في جـ يفعله. (جـ) في جـ: واسألوا. (د) فيها تقديم وتأخير بـ (جـ)، وأشار إلى ذلك. (هـ) ساقطة من جـ. (و) في جـ: أتى. (ز) في جـ: عينهما.

الموضوعات (¬1): "أن فيهم درومان وهو كبيرهم، وذكر بعض الفقهاء (¬2) أن اسم اللذين يسألان المُذْنب مُنْكرٌ ونَكِيرٌ، وأن اسم اللَّذين لا يَسْألان المُطِيع بشْرٌ وبَشيرٌ فيُقْعدانه"، زاد البخاري في حديث البراء "فتُعادُ رُوحُه في جَسده" (¬3)، وزادَ ابن حبان (¬4): "فإذا كان مؤمنًا كانت الصلاة عند رأسه، والزكاة عند (أ) يمينه، والصوم عن شماله، وفعل المعروف من قبل رجليه، فيقال: له اجْلسْ فيجْلسُ، وقد مُثلتْ لهُ الشمس عند الغروبِ" (ب) زاد ابن ماجه: "فيجلسُ وَيمسحُ عَيْنيه، ويقول: دعُوني أصَلي فيقولان: مَا كُنت تقول في هذا الرَّجل لمحمدٍ" زاد أبو داود (¬5): "ما كنت تَعبد؟ فإن الله هدَاهُ قالَ: كنت أعبد الله، فيقال له: ما كنت تقول (جـ) في هذا الرجل؟ ولأحمد من حديث عائشة (¬6): مَا هذَا الرجل الذي كان فِيكُم؟ (فأمَّا المُؤمنُ فيقول: أشْهدُ أنهُ عَبْدُ الله وَرَسُولُه" (د) ولأحمد من حديث أبي سعيد (¬7): "فإنْ كان مؤمنا قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ¬

_ (أ) في جـ: عن. (ب) زاد في جـ: و. (جـ) بهامش هـ. (د) بهامش الأصل.

ورسوله، فيُقَالُ له: صدقت، فلا يُسألُ عنْ شيءٍ غيرَها". وفي حديث أسماء (¬1) بنت أبي بكر عند البخاري: "فأما المُؤمنُ أو المُوقِنُ فيقول: محمدٌ رسولُ الله جاءنا بالبيِّنات والهُدَى فأجبنا، وآمنا، واتبَعناه، فيقالُ له. نم صَالحا" وفي حديث أبي (¬2) سعيد عند سعيد بن منصور" فيقال له: نم نومة عَرُوسٍ، فيكون في أحلى نَوْمة نَامَها أحدٌ حتى يبعث" وللترمذي (¬3) في حديث أبي هريرة: "ويقال له: نم فينامُ نوْمةَ العَروُس الذي لا يُوقِظُه إلَّا أحبُّ أهْله حتى يبعَثَهُ الله مِنْ مَضْجعِهِ ذَلكَ" ولابن ماجه، وابن حبان من حديث أبي هريرة (¬4) وأحمد من حديث عائشة (¬5): "ويقال له: على اليقين كُنْتَ، وعليْه متَّ، وعليه تبْعَثُ إنْ شاءَ الله، فيقال له: انظر إلى مَقْعَدكَ من النار قد (أ) أبْدَلَكَ الله مَقْعَدًا منَ الجنة فَيَرَاهما جَميعًا" وفي رواية أَبي داود: (¬6) "فيقال له: هذا بيتكَ كان في النارِ، ولكِن اللَّه عزّ وجل عَصَمِكِ ورحمَكَ، فأبْدلَكَ به بيتًا في الجنةِ، فيقول: دعُوني حتى أذهبَ فأبشر أهْلي، فيقال له: اسِكن". وفي حديث أبي سعيد عند أحمد (¬7): "كان هذا منزِلَكَ لوْ كَفَرت بِرِبكَ". ولابن ماجه كان حديث أبي هريرة (¬8) بإسناد ¬

_ (أ) في جـ: و.

صحِيح: "فيقال له: هلْ رأيتَ الله؟ فيقول: مَا ينبَغي لأحد أنْ يرَى الله، فَتُفْرج له فُرْجَةً قبَلَ النارِ فينظر إليها يحطم بعضها بعضًا، فيقول: انْظر إلى مَا وَقاكَ الله". وللبخاري عن (¬1) أبي هريرة - رضي الله عنه -: "لا يدخل الجنةَ أحدٌ إلا أري مَقْعَدَه مِنَ النارِ لوْ أساءَ ليَزْدَادَ شكْرًا"، وذكر عكسه قال قتادة (¬2) وذكر لنا أنه يُفْسحُ له في قِبره. زادَ (¬3) مسلم من طريق شيبان عن قتادة: "سبعون ذراعًا ويُملأ عليه خضِرًا إلى يومِ يبعثُون". وفي حديث أبي سعيد عند أحمَد (¬4): "وَيُفْسَحُ لهُ في قبره". ومن حديث أبي هريرة عند الترمذي وابن حبان (¬5) فيُفْسَحُ له في قبرِه سبعون ذراعًا زاد ابن حبان "في سبعين ذاراعًا"، وزاد من وجه آخر عن أبي هريرة (¬6): "ويرحب له في قبره سبعون ذراعًا، وينور له كالقمر ليلة البدرِ" وفي حديث البراء (¬7) الطويل: "فيُنادي مناد (أ) من السماء: أنْ صدق عبدي، فأفرشوه من الجنة، وافْتَحُوا له بابًا في الجنة، وألْبسُوهُ من الجنة قال: فيأتيه من رُوحها وطيبها، ويفسح له فيها مد بصَره" زَاد ابن حبان (¬8) من وجه آخر عن أبي هريرة "فيزداد غِبْطَةً وسرورًا، فَيعادُ الجلد إلى ما بدئ منه، ويُجعلُ روحه في نسيمِ طائرٍ ¬

_ (أ) في جـ: فنادى مناديًا.

تعلق في شَجرِ الجنة، وأما المنافق والكافرُ (أ) " وفي رواية للبخاري (¬1): وأما الكافر، أو المنافق بالشك. وفي رواية أبي داود: "إن الكافرَ إذا وضع"، وكذا لابن حبان (¬2) من حديث أبي هريرة، وكذا في حديث البراء (¬3) الطويل، وفي حديث أبي سعيد (¬4) عند أحمد: "وإن كان كافرًا، أو منافقًا" بالشك. وله من حديث أسماء (¬5): "فإن كان فاجرًا أو كافرًا". وفي الصحيحين (¬6) من حديثها: "وأما المنافق والمرتاب". ومن حديث جابر عن عبد الرزاق وحديث أبي هريرة عند الترمذي (¬7): "وأما المنافق". وفي حديث عائشة عند أحمد وأبي هريرة (¬8) عند ابن ماجه (ب): "وأما الرجل السوء"، وللطبراني من حديث أبي هريرة (¬9) "وإن كان من أهل الشك"، فاختلفت هذه الروايات، وهي مجتمعة على أن كلا من الكافر والمنافق يسأل. وفيه رد على من زعم أن السؤال إنما يقع على من يدعى الإيمان إن (جـ) محقا وإنْ ¬

_ (أ) الواو ساقطة من جـ. (ب) في جـ: ابن حبان. (جـ) زاد في جـ: هو.

مبطلًا ومستندهم في ذلك ما رواه عبد الرزاق (¬1) من طريق عبيد بن عمير أحد كبار التابعين -قال: إنما يفتن رجلان- مؤمن ومنافق، وأما الكافر فلا يسأل عن محمد ولا يعرفه، وهو موقوف، والأحاديث الماضية على أن الكافر يسأل مرفوعة مع كثرة طرقها الصحيحة، فهي أولى بالقبول، وجزم الحكيم الترمذي (¬2) بأن الكافر يسأل، واختلف في الطفل غير الخير، فجزم القرطبي في التذكرة (¬3) بأنه يسأل، وهو منقول عن الحنفية، وجزم غير واحد من الشافعية بأنه لا يسأل، ولذلك (أ) قالوا: لا يستحب أن يلقن (¬4)، واختلف أيضًا في النبي - صلى الله عليه وسلم - هل يسأل؟، وأما الملك فلا نعرف أن أحدًا قال: إنه يسأل، والذي يظهر أنه لا يسأل؛ لأن السؤال إنما يكون لمن يفتن، قال ابن عبد البر (¬5): الآثار تدل على أن الفتنة لمن كان من أهل القبلة، ورد عليه ابن القيم في كتاب الروح (¬6) بقوله تعالى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ} (¬7) الآية، وفي حديث أنس (¬8) في البخاري" ¬

_ (أ) في جـ: ولذا.

"وأما المنافق والكافرُ" بواو العطف وفي حديث أبي سعيد (¬1): "فإن كان مؤمنًا" فذكره (أ) وفيه: "وإن كان كافرًا"، وفي حديث البراء "وإن الكافر إذا كان في انقطاع من الدنيا" فذكره فيه "فيأتيه منكر ونكير .. " الحديث، أخرجه (¬2) أحمد: "فيقول: لا أدري"، وفي حديث البراء (¬3) زيادة: "فيقول: هاه هاه لا أدري، فيقولان له: من ربك؟ فيقول: هاه هاه لا أدري، فيقولون له: ما دينك؟ فيقول: هاه هاه لا أدري، فيقولان له: ما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول: هاه هاه لا أدري"، وهو أتم الأحاديث سياقا (¬4). "كنت أقول ما يقول الناس"، وفي حديث أسماء (¬5): "سمعت الناس يقولون شيئًا فقلته". وكذا في أكثر الأحاديث. "فيقال: لا دريت ولا تليت" (¬6)، ومعنى تليت: تلوت مِنْ تلوت القرآن فأبدلت الواو ياء تباعًا (ب)، والمعنى: لا فهمت ولا اتبعت من يفهم، ووقع عند أحمد (¬7) من حديث أبي سعيد: "لا دريث ولا اهتديت" وفي مرسل عبيد بن عمير عند عبد الرزاق (¬8): "لا دريت ولا أفلحت، ويضرب بمطارق من حديد ضربة"، ¬

_ (أ) في جـ: فذكر. (ب) في جـ: تبعا.

وقع في رواية للبخاري (¬1) بلفظ الإفراد، ويمكن الجمع بأنه عبر عن المفرد بالجمع، إيْذانًا بأن كلا من أجزائِها مطرقة من المطارق، مبالغة. وفي حديث (¬2) البراء زيادة: "لو ضُرِب بها جَبَلٌ لصار تُرابًا، فيصيح صيحة يسمعها من يليه غير الثقلين". وفي حديث (أ) البراء (¬3): "يسمعها ما بين المشرق والمغرب"، وفي حديث أبي سعيد (¬4) عند أحمد: "يسمعه خلق الله كلهم غير الثقَلين"، وظاهر هذا شمول الحيوان والجماد، إلا أنه ورد في حديث أبي هريرة (¬5) عند البزار (ب): "يسمعه كل دابة إلا الثقلين" ففيه التقييد لما أطلق ويسمى الجن والإنس بالثقل لثقلهم على الأرض، والحكمة في عدم إسماعهما: إخفاء الله أحوال الآخرة عن المكلفين إلا من شاء إبقاء عليهم ولسر (جـ) التكليف. واعلم أنه (د) قد وردت أحاديث تدل على اختصاص هذه الأمة بالمسألة، وأن أم الأنبياء المتقدمين لا يكون لهم هذا الامتحان، وهو ما في حديث زيد بن ثابت أن هذه (هـ) تبتلى في قبورها، أخرجه مسلم (¬6)، ومثله عند ¬

_ (أ) في جـ: رواية. (ب) في جـ: البراء. (جـ) في جـ: وليس. (د) في هـ: أن، وفي جـ: إنها. (هـ) ساقطة من جـ.

أحمد (¬1) من حديث أبي سعيد ومن حديث عائشة (¬2): "و (أ) أما فتْنَة القبر، فبي يفْتَنون، وعنِّي يسألون" وجزم بهذا الحكيم الترمذي (¬3) وقَال: السر فيه أن الأم السالفة كانت تأتيهم الرسل، فإن أطاعوا فذاك، وإن أبوا (ب) اعتزلوهم، وعوجلوا بالعذاب، فلما أرسل الله محمدًا رحمة للعالمين أمسك عنهم العذاب وقبل الإسلام ممن أظهره سواء أخلصه أم لا، فلما ماتوا قيَّض الله لهم فتَّانَي القبور لتستخرج سرهم بالسؤال، وليميز الله الخبيث من الطيب ويثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ويضل الله الظالمين. وجنح ابن القيم (¬4) إلى عموم المسألة، وقال: ليس في الأحاديث ما يدل على الاختصاص، وإنما أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - بكيفية (جـ) امتحانهم لا باختصاصهم، قال: والذي يظهر أن كل نبي مع أمته كذلك، فيعذب كفارهم في قبورهم بعد سؤالهم كما يعذبون في الآخرة بعد سؤالهم وإقامة الحجة عليهم وحكى في مسألة الأطفال (¬5) احتمالا، والظاهر أن ذلك لايمتنع في حق الخير (د) دون غيره وقد ¬

_ (أ) ساقطة من جـ. (ب) بهامش هـ. (جـ) في هـ: بكفيه. (د) في هـ: المميز وهو الأولى للسياق.

خالف في إثبات المسألة في القبر بعض العلماء، وقال: إنه يلزم من ذلك الحياة في القبر، فيكون الإنسان قد أحيي ثلاث مرات، وأميت ثلاث مرات، وهو خلاف قوله تعالى: {قَالُوا (أ) رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ} (¬1) والجواب: بأن (ب) الحياة في القبر ليست حياة مستقرة تقوم فيها الروح بالبدن بالتصرف والتدبير ويحتاج فيها إلى ما يحتاج إليه الحي فلم يعد حينئذ، وأريد بما في الآية الحياة المعتد بها الكاملة المقصودة، وهذه إنما قصدت لمجرد الامتحان، (كما أحيي خلق لكثير (جـ) من الأنبياء لمساءلتهم لهم عن أشياء ثم عادوا موتى) (د). وفي الحديث الذي ذكرناه (هـ) في كيفية المسألة دلالة على إثبات عذاب القبر فهذا (و) في حق الكافر وحديث: "وما يعذبان في كبير" (¬2) يدل أيضًا علي تعذيب من شاء الله تعالى ذلك في حقه من الموحدين، وقد ثبت ذلك في أحاديث كثيرة، منها عن أبي هريرة وابن عباس وأبي أيوب وسعد وزيد بن الأرقم وأم خالد في الصحيحين أو أحدهما، وعن جابر عند ابن ماجه وأبي سعيد عند ابن مردويه، وعمر وعبد الرحمن وعبد الله بن عمرو عند أبي داود، وابن مسعود عند الطحاوي، وأبي بكرة عند النسائي، ¬

_ (أ) ساقطة من جـ. (ب) في جـ: أن. (جـ) في هـ: كثير، وفي جـ: كثير لكثير. (د) بهامش الأصل. (هـ) في جـ: ذكرنا. (و) عليها آثار كشط في جـ.

وأسماء بنت زيد عند النسائي أيضًا و (أ) أم ميسرة عند ابن أبي شيبة وغيرهم. 442 - وعن ضمرة بن حبيب -أحد التابعين- قال: "كانوا يَسْتَحِبّونَ إِذَا سُوِّيَ علَى الميت قبرُه، وانْصرف الناسُ عنه، أنْ يُقالُ عندَ قبرِه: يا فلان قلْ: لَا إِله إِلَّا الله، ثلاث مرات. يا فلانُ قُلْ: ربِّيَ الله، ودِيني الإِسلام، ونَبِيِّيَ مُحمَّدٌ". رواه سعيد بن منصور موقوفًا. وللطبراني نحوه من حديث أبي أمامة مرفوعًا موصولًا (¬1). ضمرة بن حبيب الحمْصِيّ (ب) تابعي ثقة، روي عن شداد بن أوس وأبي أمامة وجماعة. قوله: كانوا يستحبون، ظاهره أن المستحب لذلك الصحابة الذين أدرك عصرهم وأن ذلك سُنة مألوفة غير متحتمة، بل مختار موسع في تركه (¬2). وحديث أبي أمامة رواه سعيد الأزدي وقد بيض له أبو حاتم، ولكن له شواهد ولفظه: قال أبو أمامة: إذا أنا مت فاصنعوا بي كما أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نصنع بموتانا، أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "إذا مات أحدُ من إخوانكم فسويتم التراب على قبره، فليقم أحدكم على رأس قبره، ثم ليقل: يا فلان ابن فلانة فإنه يسمعه، ولا يجيب، ثم يقول: يا فلان ابن فلانة، فإنه يستوي قاعدًا، ثم يقول: يا فلان ابن فلانة فإنه يقول: أرشدنا يرحمك الله، ولكن لا تشعرون، فليقل: اذكر ما خرجت عليه من ¬

_ (أ) الواو ساقطة من هـ. (ب) في ب: الحصمي، وهو تصحيف.

الدنيا، شهادة أن لا (أ) إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله، وأنك رضيت بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد نبيًّا، وبالقرآن إمامًا، فإن منكرًا ونكيرًا يأخذ كل واحد منهما بيد صاحبه، ويقول: انطلق بنا، ما يقعدنا عند من قد لقن حجته؟ فقال رجل: يا رسول الله! فإن لم يعرف أمه؟ قال (ب) ينسبه إلى أمه حواء (جـ يا فلان ابن حواء جـ) " وهذا الحديث إسناده صالح، وقد قواه (¬1) الضياء في أحكامه وأخرجه عبد العزيز من الحنابلة في الشافعي، وهو أيضًا متأيد بحديث عثمان الذي، فإن قوله: "سلوا (د) له التثبيت"، إشارة إلى هذا المعنى، وأخرج (هـ) أيضًا الطبراني (¬2) من حديث الحكم بن الحارث السلمي أنه قال لهم: إذا دفنتموني، ورششتم على قبري الماء فقوموا على قبري واستقبلوا القبلة وادعوا لي، وقد تقدم في دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد الدفن (¬3)، أنه قام إلى (و) جانب القبر، ثم قال: "اللهم جاف الأرض عن جنبيها، وصعد روحها، ولقها منك رضوانًا". وفي صحيح مسلم (¬4) أن عمرو بن العاص قال لهم: إذا دفنتموني ¬

_ (أ) ساقطة من جـ. (ب) في جـ: فقال. (جـ- جـ) ساقط من جـ. (د) في جـ: فاسألوا. (هـ) في جـ: وأخرجه. (و) في جـ: على.

أقيموا حول قبري قدر ما تنحر جزور ويقسم لحمها حتى أستأنس بكم، وأعلم ماذا أراجع رسل (أ) ربي. و (ب) قال الأثرم: قلت لأحمد: هذا الذي يصنعونه إذا دفن (ب) الميت، يقف الرجل ويقول (د): يا فلان ابن فلانة .. قال (هـ): ما رأيت أحدًا يفعله إلا أهل الشام حين مات أبو المغيرة يروي فيه عن أبي بكر بن أبي مريم عن أشياخهم أنهم كانوا يفعلونه، وكان إسماعيل بن عياش يشير (و) إلى حديث أبي أمامة (¬1)، وقد ذهب إلى العمل بهذا أصحاب الشافعي (¬2)، فصرح في عجالة المنهاج بقوله: ويسن أن يقف جماعة بعد دفنه عند قبره ساعة يسألون له التثبيت للاتباع ويستحب تلقينه عند دفنه أيضًا. والظاهر أن الوقوف مجمع على شرعيته، والتلقين فيه خلاف. 443 - وعن بُريدة بن الحصيب الأسلمي قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "نَهيتُكم عن زيارة القبور، فَزُوروها". رواه مسلم (¬3). ¬

_ (أ) في هـ: رسول. (ب) الواو ساقطة من جـ. (جـ): دفنتم. (د) في جـ: فيقول. (هـ) ساقطة من جـ. (و) في هـ: مشيرا.

زاد الترمذي: "فإِنَّها تُذَكِّرُ الآخرة". زاد ابن ماجه من حديث ابن مسعود: "وتزهد في الدنيا" (¬1). وفي الباب أيضًا عن أبي هريرة (¬2) رواه مسلم بلفظ: "اسْتأذنتُ ربي أنْ أزورَ قبر أمِّي فأذن لي، فزورُوا القبُورَ، فإنها تُذَكِّرُكُم الموت". ورواه الحاكم وابن ماجه مختصرًا وعن ابن مسعود رواه ابن ماجه، والحاكم، وعن أبي سعيد (¬3) رواه الشافعي وأحمد، والحاكم ولفظه "فإنها عبرة"، ولفظ الحاكم: "كُنت نَهيْتكم عن زيارة القبور، ثم بدا لي أنها ترق القلب، وتُدمِعُ العينَ، وتُذَكِّر الآخرة فزُورُوها، ولا تقولوا: هُجْرًا"، وعن علي بن أبي طالب رواه أحمد (¬4)، وعن عائشة: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رخص في زيارة القبور" رواه ابن ماجه (¬5). الحديث فيه دلالة على استحباب زيارة القبور للرجال، لأن الخطاب لهم، والظاهر أنه مجمع عليه (¬6)، وأن الأمر ليس للوجوب، وهذا الحديث من الأحاديث التي جمعت بين الناسخ والمنسوخ، وفي قصة زيارته - صلى الله عليه وسلم - ¬

_ (¬1) ابن ماجه، الجنائز، باب ما جاء في زيارة القبور 1/ 501 ح 1571، الحاكم 1/ 375 وفيه: أيوب بن هانئ مختلف فيه، وثقه ابن حبان، ضعفه ابن معين، قال ابن عدي: لا أعرفه ذكره الذهبي في المغني قال ابن حجر: صدوق قيم، لين، التقريب 42، المغني 1/ 98، الكامل 1/ 351، تهذيب التهذبب 1/ 405، الميزان 1/ 294، ولأيوب بن هانئ متابع فإنه تابعه جابر بن يزيد، وهو ضعيف رافضي، ولكن ليس فيه تزهد في الدنيا، أحمد 1/ 452، التقريب 53، لكن له شاهد من حديث بريدة وحديث أبي هريرة. (¬2) مسلم 2/ 672 ح 105 - 976 م، ابن ماجه 1/ 500 ح 1569، الحاكم 1/ 375. (¬3) مسند الشافعي 361، أحمد 3/ 63، الحاكم 1/ 374 - 375. (¬4) أحمد (الفتح الرباني) 8/ 157. (¬5) ابن ماجه 1/ 50 ح 1570. (¬6) حكى النووي استحبابه لكافة أهل العلماء، ونقل عن العبدري الإجماع. المجموع 5/ 267.

لقبر أمه دلالة على تأكيد (أ) زيارة الوالدين في الحياة وبعد الوفاة، ولو كانا كافرين، وأن ذلك من المصاحبة لهما في الدنيا معروفًا، ولذلك منع (ب) الاستغفار لهما. وفي قوله: "فإنها (جـ) تذكر الآخرة" إشعار بأن الحكمة في شرعية الزيارة إنما هو الاعتبار والاستبصار بمثل من خلا قبله. وقوله: "وتزهد في الدنيا كذلك"، فإن من علم بحقيقة الأمر استقرب مفاجأة الرحلة عن الدنيا فرفضها، ولم يطمئن إلى شيء من زينتها ومتاعها الحقير. 444 - وعن أبي هريرة - رضي الله عنه -: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لَعَنَ زائرات القُبور". أخرجه الترمذي، وصححه ابن حبان، وأخرجه أحمد وابن ماجه (¬1). وفي الباب أيضًا من حديث حسان (¬2) رواه أحمد وابن ماجه (د والحاكم، ومن (هـ) حديث ابن عباس (¬3) رواه أحمد وأصحاب السنن والبزار وابن حبان د) والحاكم. ¬

_ (أ) في جـ: تأكيد. (ب) زادت هـ: من. (جـ) في جـ: إنها. (د- د) بهامش جـ. (هـ) في هـ: والحاكم من بدون الواو.

والحديث يدل على تحريم زيارة النساء للقبور، وفي ذلك ثلاثة أقوال: التحريم عليهن لهذا، والإباحة، والكراهة، ولعله يحمل هذا (أ) على صحة زيارتها المتعرض (ب) لفعل محرم، كمن تبرجت بالزينة، أو ناحت على القبر، أو أنه منسوخ، ويدل على ذلك ما أخرجه مسلم عن عائشة (¬1) قالت: كيف أقول يا رسول؟ تعني إذا زارت القبور، قال: "قولي: السلام على أهل الديار (من المؤمنين والمسلمين) (جـ) ويرحم الله المتقدمين منا والمتأخرين، وإنا إن شاء الله بكم للاحقون"، وما أخرجه الحاكم (¬2) من حديث علي بن الحسين - رضي الله عنه -: أن فاطمة - رضي الله عنها - بنت النبي - صلى الله عليه وسلم - كانت تزورُ قبرَ عمها حمزة كل جمعة، فتصلي وتبكي عنده وعموم قوله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ زار قَبْرَ أبَويه أو أحدَهما في كل جمعة غفر له، وكتب برًّا" رواه البيهقي في شعب الإيمان (¬3) مرسلًا، وكذا الحديث الأول، "كنت نهيتكم"، فإنه كان كان الخطاب لمذكرين فهو كثير ما يغلب على الإناث بقرينة، والله أعلم. ¬

_ (أ) ساقطة من جـ. (ب) في هـ: على من صحب زيارتها التعرض. (جـ) الأصل تقديم وتأخير، وقد أشار إلى ذلك.

445 - وعن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: "لَعَنَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - النَّائحةَ والمسْتَمِعَةَ" أخرجه أبو داود (¬1). وعن أم عطية قالت: "أخَذ علينا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أن لا ننوحَ" متفق عليه (¬2). النوح: هو رفع الصوت بتعديد شمائل الميت ومعاظم أفعاله. وقول أم عطية: أخذ علينا .. إلخ (أ) كان الأخذ في وقت المبايعة للإسلام. وفي الحديث دلالة على تحريم النياحة والاستماع لها، إذ اللعن إنما يكون على فعل محرم، وفي الباب أحاديث عن ابن مسعود قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لَيس منا منْ ضربَ الخُدودَ، وشق الجُيوب، ودَعَا بِدعْوَى الجاهلية" متفق عليه (¬3). وفي أبي بردة قال: أغمى على أبي موسى، فأقْبَلت امرأته أم عبد الله تصيح برنة، ثم أفاق فقال. ألم تعلمي -وكان يحدِّثها-: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "أنا بَرِيء مِمن حَلقَ وصلقَ وخَرَقَ" ¬

_ (أ) زاد في هـ: و.

متفق عليه (¬1). وعن أبي مالك الأشعري (¬2) قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أربع في أمتي من الجاهلية لا يتركونهن: الفخر في الأحساب، والطعن في الأنساب، والاستسقاء بالنجوم، والنياحة" (أوقال: النائحة إذا لَمْ تتبْ قَبْل موتها تُقَام يومَ القيامةِ وعليْها سِرْبَالٌ مَنْ قطِرَانٍ، ودِرْع أ) مِنْ جرب (ب أي عصب ب)، وقد عورض هذا النَّهي بما أخرجه أحمد وابن ماجه وصححه الحاكم من طريق أسامة بن زيد عن نافع عن ابن عمر (¬3): أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مر بنساء بني عبد الأشهل يبكين هلكاهن يوم أحد فقال: "لكن حمزة لا بواكي له" فجاء نساء الأنصار يبكين حمزة فاستيقظ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم قال: "مروهن فَلْيَنْتَقِلْنَ ولا يبكين علَى هالكٍ بعد اليوم"، وله شاهد أخرجه عبد الرزاق (¬4) من طريق عكرمة، وأخرج النسائي (¬5) عن أبي هريرة قال: مات ميت من آل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاجتمع النساء يبكين عليه، فقام عمر ينهاهن ويطردهن، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "دعهن يا عمر فإن العين دامعة، والقلب مصاب، والعهد قريب" والميت هي زينب صرح به ¬

_ (أ - أ) بهامش جـ. (ب- ب) بهامش هـ وساقطة من جـ.

في حديث ابن عباس قال (أ): ماتت زينب بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فبكت النساء فجعل عمر يضربهن بسوطه، فأخره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيده وقال: "مهلًا يا عمر" ثم قال (ب): "إيَّاكُنَّ ونَعِيقَ الشَّيطان"، ثم قال: "إنه مهما كان من العين ومن القلب فمن الله عزَّ وجلَّ، ومن الرحمة، وما كان من اليد ومن اللسان فمن الشيطان" رواه أحمد (¬1)، والنعيق في الأصل: من نعق الراعي بالغنم إذا دعاها لتعود إليه. فهذا فيه دليل على جواز البكاء، وظاهره ولو كان على جهة النياحة، وهو ظاهر في قصة حمزة رضي الله عنه ولكن فيه دلالة على الخصوص فلا معارضة، وحديث أبي هريرة منسوخ بالنهي عنه، كما في حديث عائشة (¬2) - رضي الله عنها - قالت: لما جاء النبي - صلى الله عليه وسلم - قتل ابن حارثة وجعفر وابن رواحة جلس يعرف فيه الحزن، وأنا أنظر من صاير (جـ) الباب -يعني شق الباب- فأتاه رجل فقال: إن نساء جعفر -وذكر بكاءهن- فأمره أن ينهاهن فذهب، ثم أتاه (د) الثانية لم يطعنه (هـ فقال: إنهضنْ هـ)، فأتاه الثالثة (و) قال: والله غلبتنا يا رسول الله فزعمت أنه قال: "فأحث (ز) في أفواههن التراب"، فقلت: أرغم الله أنفك إن لم تفعل ما أمرك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم تترك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من العناء. متفق عليه. وهذا ¬

_ (أ) في هـ: قالت خطأ. (ب) في جـ: فقال. (جـ) في جـ: خصاص. (د) في جـ: فزتاه. (هـ- هـ) ساقطة من جـ. (و) زاد في هـ: ثم. (ز) في جـ: احث.

في قصة موته، وهي في شهر جمادي سنة ثمان وهو متأخر، فيكون ناسخًا، ولكن موت زينب أيضًا في أول سنة ثمان، ولعله يقال: إن النهي هذا ظاهره الكراهة؛ إذ لو كان للتحريم لبادر النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى إزالة (ذلك المنكر) (أ)، ولم يرخص له في الثلاث المرات، ولكن الكراهة شديدة حسمًا لذريعة (ب) إظهار الجزع، وعدم الرضا بالقضاء، والله سبحانه أعلم. وقد أشار إلى ذلك البخاري (¬1) فقال: باب ما يكره من النياحة، وظاهر "مَنْ" التبعيض وأورد بعده: وقال عمر (1): دعهن يبكين على أبي سليمان -يعني خالدًا- ما لم يكن نقع أو لقلقة. والنقع: التراب على الرأس، واللقلقة: الصوت. وأخرج أيضًا من حديث عبد الله بن عمر (¬2): "إن الله (جـ) لا يعذب بدمع العين، ولا بحزن القلب، ولكن يعذب بهذا، وأشار إلى لسانه، أو يرحم (¬3)، فقوله: يعذب أو يرحم" يحتمل أنه للتنويع بمعنى يعذب ببعض ويرحم بنوع فلا يعذب به، ونقل ابن قدامة (¬4) عن أحمد أن بعض النياحة لا يحرم، ويزيده (د) بيانًا قوله - صلى الله عليه وسلم -: "ليس منا من ضرب الخدود، وشق الجيوب، ودعا بدعوى الجاهلية"، وهي النياحة بالويل ونحوه، ولا يكون منهم ذلك إلا سخطًا بالقضاء. ¬

_ (أ) بالأصل تقديم وتأخير، وأشار إلى ذلك. (ب) في هـ: للذريعة. (جـ) كررها في جـ. (د) في جـ: ويزيد.

446 - وعن عمر - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "الميتُ يُعذَّبُ في قَبْرِهِ بما نِيحَ عليه" متفق عليه (¬1). ولهما نحوه عن المغيرة بن شعبة (¬2). الحديث أخرجه أيضًا (أ) الشيخان من حديث ابن عمر (¬3) بلفظ: "إن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه" ولمسلم أن ابن عمر قال لحفصة: أما علمت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "المعول عليه يعذب في القبر" زاد ابن حبان (¬4): وقالت بلى، والمعول -بضم الميم وسكون العين وكسر الواو- اسم فاعل من أعول يعول: إذا رفع صوته بالبكاء، وهو العويل، ومن شدده أخطأ. وحديث المغيرة بلفظ: "مَنْ نيحَ عليه فإنه يعَذب بمَا نيحَ عليه (ب يوم القيامة" لفظ مسلم (¬5). ولفظ البخاري (¬6): "من نيح عليه يعذب بما نيح عليه ب)، وأخرج البزار (¬7) من حديث عائشة عن أبي بكر: سمعت ¬

_ (أ) في جـ: أيضًا أخرجه. (ب- ب) ساقط من جـ.

رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "الميتُ ينْضَخ عليه بالحميم ببكاء الحي عليه"، وفي إسناده ابن زبالة (¬1)، قال البزار: لين الحديث وكذبه غيره. وأخرج (أ) أحمد (¬2) من طريق موسى بن أبي موسى الأشعري عن أبيه مرفوعًا: "الميت يعذب ببكاء الحي إذا (ب) قالت الجماعة. واعضداه، وأناصراه وأكاسياه .. جبذ الميت وقيل له: أنت كذلك؟ " ولابن ماجه (¬3) نحوه، ورواه الترمذي بلفظ: "ما منْ ميت يموت فيقوم (جـ) باكيهم: في الترمذي فيقون باكيه فيقول: وَاجَبَلاهْ! واسَنَدَاه! ونحوه -إلَّا ويلزمه ملكان يلهزانه أهكذا أنت؟ " (¬4) ورواه الحاكم وصححه، وشاهده في الصحيحين (¬5) عن النعمان بن بشير قال: أغمى على عبد الله بن رواحة، فجعلت أخته تبكي وتقول: وَاجَبَلاهْ، واكذِا، واكذ فلما أفاق قال: مَا قلْتِ شيئًا إلَّا قيلَ لي: أنْتَ كذا؟ فلما مَات لم تبكِ عليه. ¬

_ (أ) زاد في جـ من طريق. (ب) في هـ: إذ. (جـ) في جـ: فيقول.

في الحديث دلالة على أن الميت يلحقه العذاب في القبر بسبب النياحة، وقد استشكل هذا (أالحكم جماعة من السلف والخلف حتى قال عمران بن الحصين (¬1) في جواب من اعترض وقال كيف يعذب ببكاء الحي؟ فقال عمران: قد قاله رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. أخرجه ابن عبد البر من طريق ابن سيرين، ومعناه أنه قد صح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فوجب الإيمان به، وصح عن عائشة (¬2) إنكار ذلك على عمر وابنه عبد الله محتجة بقوله تعالى: {وَلَا تَزر وَازِرَة وزر أخرى} (¬3)، وكذلك ابن عباس، وقال بعد الإنكار على ابن عمر: {وأنه هوَ أضْحَكَ وأبْكَى} (¬4)، وقال أبو هريرة: "تالله لئن انطلق (رجل) (ب) مجاهد في سبيل الله فاستشهد: فعمدت امرأته سفهًا وجهلا، فبكت عليه ليعذبن هذا الشهيد بذنب هذه السفيهة"؟ (¬5) فتأول هذا الحديث جماعة بتأويلات أولها: قال البخاري (¬6) قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "يُعذبُ الميتُ ببعض بكاء أهله عليه. إذا كان النَّوْح من سنته (ب) لقول الله تعالى: {قوا أنْفسَكم وأهلِيكم نَارًا} (¬7) وقال ¬

_ (أ) في جـ: لهذا. (ب) في الأصل: نجل. (جـ) في جـ: سبته.

النبي - صلى الله عليه وسلم -: "كلكْم رِاع مَسئولٌ عن رعيته" (¬1) فإذا لم يكن من سنته فهو كما قالت عائشة: {ولا تزرُ وازِرَة وزرَ أخرى} (¬2) وهو كقوله تعالى: {وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ} (¬3) ثم اسْتَشْهدَ يقول النبِي (أ) - صلى الله عليه وسلم -: "لا تقتل نفس ظلما إلَّا كان على ابن آدم الأول كفل (ب) منْ دمها، وذلك أنه أول من سن القتلَ (¬4). انتهى. وأراد البخاري إثباتَ أن الإنسان قد يعذب بفعل (جـ) غيره إذا كان له فيه تسبيب فمن أثبات فهو ناظر إلى التسبيب، ومن نفى فمراده حيث لم يكن منه تسبيب، فمراده فيما نحن فيه أن الميت إذا كان من عادته النياحة بأن يكون آمرًا لغيره بأن يفعل ذلك أو فاهمًا من الغير أنه يفعل ذلك ولم ينهه فقد تسبب في ذلك، وهو تأويل حسن. ثانيها: أن المعنى أنه يعذب مقارنًا لابتداء بكاء أهله عليه، وذلك عقيب دفنه وهذا في حق من يستحق العذاب، وهو تأويل عائشة، أن الحديث ورد في حق يهودية وأخرج مسلم (¬5) من حديث عائشة: إنما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنه ليعذب بمعصيته أو بذنبه، كان أهله ليبكون عليه الآن"، فالأول مبني على أن الحديث ورد في شخص معين، والثاني في سبب (د) معين، وفي رواية ابن عباس عن عائشة "إن الله ليزيد الكافر عذابًا ببكاء ¬

_ (أ) في هـ: واستشهد بقول تعالى النبي - صلى الله عليه وسلم - وفي جـ: بقوله - صلى الله عليه وسلم -. (ب) زاد في هـ منها. (جـ) في ب: بذنب. (د) في جـ: بسبب.

أهله عليه"، والإشكال وارد أيضًا على هذه الرواية ولا يصح الجواب، بأن البكاء لا يكون سببًا في ابتداء العذاب، ويكون سببًا في زيادته إذ لا فرق بينهما من حيث إنه عذب بذنب غيره والآية واردة عليه. ثالثها: بأنه متأول بما إذا أوصى أهله بذلك وهو أخص من جواب البخاري وقد قال به المزني وإبراهيم الحربي وجماعة من الشافعية وغيرهم حتى قال أبو الليث (¬1) السمرقندي: إنه قول عامة أهل العلم، وكذا نقله النووي (¬2) (أ) عن الجمهور، قالوا: وكان معروفًا للقدماء الوصية به حتى قال طرفة بن العبد: إذا مت فانعيني بما أنا أهله ... وشُقي على الجيب يا ابنة (ب) معبد (¬3) ويعترض هذا بأن التعذيب يكون لأجل الوصية كان لم يبكوا عليه، وظاهر الحديث أنه لا يكون التعذيب إلا عند الامتثال، ويجاب عنه بأنه ليس في الحديث حصر وإنما ذكر حالة الامتثال التي هي أغلب أحوال الوصية. رابعًا: أنه يلحقه العذاب إذا لم ينه أهله ويزجرهم عن البكاء وهو قول داود وطائفة، وذهب إليه ابن المرابط (¬4) قال: لأنه إذا لم يوص بترك البكاء ويزجرهم عنه وقد علم من حالهم أنهم يفعلون ذلك، فقد قصر في ترك ¬

_ (أ) زاد في جـ: و. (ب) في جـ: يا أم.

الإنكار فاستحق العقاب (أ) على فعله. (ب) خامسها: أنه يعذب بالأفعال التي يناح بها لأنهم يمدحونه لرئاسته التي جاد (جـ) فيها، وشجاعته التي صرفها في غير طاعة الله، وجوده الذي لم يضعه في الحق، فأهله يبكون عليه بهذه المفاخر وهي سبب لعقابه، وذهب إلي هذا ابن حزم واستقواه (د) الإسماعيلي. سادسها: أن المراد (د) بالتعذيب هو توبيخ الملائكة له إذا قيل: واعضداه ونحوه كما تقدم في حديث أبي موسى ومن قصة النعمان بن بشير. سابعها: أن المراد بالتعذيب تألم الميت بما يقع، ومن قصة النعمان أهله من النياحة وغيرها، وأن ذلك يعرض على الميت، كما أخرج الطبراني من حديث أبي هريرة أن أعمال العباد تعرض على أقربائهم من موتاهم، ثم ساقه بإسناد صحيح، ويسشتهد لهذا بحديث قيلة -بفتح القاف وسكون الياء منقوطة باثنتين من أسفل- بنت مخرمة -بفتح الميم وسكون الخاء المعجمة- قالت: قلت يا رسول الله قد ولدته فقاتل معك يوم الردة ثم أصابته الحمى فمات وترك عليَّ البكاء. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أيغلب أحدكم أن يصاحب صويحباه في الدنيا معروفًا فإذا مات استرجع؟! فوالذي نفس محمد بيده إنَّ أحدكم ليبكي فيستعبر إليه صويحبه، فيا عباد الله لا تعذبوا موتاكم". ¬

_ (أ) في جـ: العذاب. (ب) زاد في جـ: و. (جـ) في جـ: جاز. (د) كرر في هـ: إلى هذا ابن حزم واستقواه.

وهذا طرف من حديث حسن الإسناد أخرجه ابن أبي خيثمة وابن أبي شيبة والطبراني وغيرهم، وأخرج أبو داود أطرافًا منه، وذهب إلى هذا أبو جعفر الطبري من المتقدمين، ورجحه ابن المرابط وعياض، ونصره ابن تيمية وجماعة من المتأخرين. قال المصنف -رحمه الله تعالى:- ويحتمل أن يجمع بين هذه التوجيهات بأنها على اختلاف الأشخاص بأن يقال مثلًا من كانت طريقته النوح فمشي أهله على طريقته أو بالغ فأوصاهم بذلك عذب بصنيعه، ومن كان ظالمًا فذكرت أفعاله الجائرة في (أ) النياحة عذب بها، ومن كان يعرف من أهله النياحة وأهمل نهيهم عنها، فإن كان راضيًا بذلك التحق (ب) بالأول، كان كان غير راض عذب بالتوبيخ كيف أهمل النهي، ومن سلم من ذلك كله واحتاط فنهى أهله عن ذلك ثم فعلوه وخالفوه كان تعذيبه مرادًا به تألمه (جـ) لما يراه منهم من مخالفة أمره، وإقدامهم على معصية ربهم. انتهى. وحكى الكرمانيّ (¬1) تفصيلًا آخر وحسنه، وهو التفرقة بين حال البرزخ وحال يوم القيامة، فيحمل قوله تعالى: {ولا تزر وازرةٌ وزْرَ أخرى} (¬2) على يوم القيامة. وهذا الحديث وما أشبهه على البرزخ وأن أعمال البرزخ ¬

_ (أ) في جـ: من. (ب) في هـ: ألحق. (جـ) في جـ: تأليمه بما.

تلحق بأعمال الدنيا، وقد جرى التعذيب في (أ) الدنيا بذنب الغير، وإليه الإشارة (ب) بقوله تعالى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} (¬1) فإنها دالة على جواز وقوع التعذيب بالدنيا بسبب ذنب الغير. انتهى. وأقول: إن هذا هو الذي ينبغي ترجيحه، فإن الأحاديث الواردة في انتفاع الميت بعمل غيره في البرزخ متواترة من حيث المعنى وندب الله سبحانه وتعالى الاستغفار لمن سلف من المؤمنين: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا} " (¬2) (جـ) وقال نوح: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ} (¬3) {وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا} (¬4) وما شرع ذلك إلا لنفعه، وإلا كان عبثًا. وأيضًا للقبر حالة يتألم بها المؤمن كما ثبت في ضمة القبر في حق سعد بن معاذ (¬5)، وابنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬6) وروعة نكير ومنكر، وغير ذلك مما ¬

_ (أ) في جـ: با. (ب) في جـ: أشار. (جـ) زاد في جـ: الذين سبقونا، ومثبتة بهامش هـ. وزاد فيها: بالإيمان.

نسأل الله تعالى الملاطفة منها برحمته، مع قوله تعالى في مواضع كثيرة من القرآن {لا خوف عَلَيْهم ولا هم يَحْزنُونَ} (¬1) وفي ذلك دلالة على أن حال البرزخ يتمم للمرء ما فاته من أعمال الخير فيه، إذا كان له سبب كما في الثلاث التي لا تنقطع من عمل ابن آدم ويجوز أن يكون ما أصاب المؤمن فيه من الامتحان مكفرًا عنه من السيئات، وزيادة في الدرجات كما في حالة الأمراض والأعراض والقحط والشدائد فإن أصابها (أ) بسبب الفساد بما كسبت أيدي الناس وهي زيادة في حسنة المؤمن، والله أعلم بحقيقة الحال ونسأله التجاوز عما لا يطابق مراده من المقال. 447 - وعن أنس - رضي الله عنه - قال: "شَهِدتُ بِنْتًا لِرَسولِ الله (ب) - صلى الله عليه وسلم - تُدفَنُ، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - جَالسٌ عندَ القبرُ، فرأيت عَيْنَيْهِ تَدمَعَانِ". رواه البخاري (¬2). تمام الحديث: قال: فقال: "هلْ منْكم رَجُلٌ لَمْ يقَارف اللَّيلَة"، فقال أبو طلحة: أنا، قال (جـ): "فأنْزِل"، قال: فنزل في قبرِها. البنت هي أم كلثوم (د زوج عثمان، رواه الواقدي بالإسناد (هـ) (د) الذي ¬

_ (أ) في جـ: أصابتها. (ب) في جـ: شاهدت بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. (جـ) في جـ: فقال. (د- د) بهامش جـ. (هـ) ساقطة من الأصل وب.

(أفي البخاري أخرجه ابن سعد في الطبقات (¬1) في ترجمة أم كلثوم أ)، وكذا الدولابي في الذرية الطاهرة وكذا رواه الطبري والطحاوي (¬2) وأخرج (ب) البخاري في التاريخ، والحاكم (¬3) في المستدرك من رواية حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس أنها رقية، قال البخاري: ما أدري ما هذا؟ فإن رُقَيَّة ماتت، والنبي - صلى الله عليه وسلم - ببدرٍ لَمْ يشهدها، وأغرب الخطابي فقال: هذه البنت كانت لبعض بنات النبي - صلى الله عليه وسلم - فنسبت إليه. الحديث فيه دلالة على جواز البكاء بعد الموت على الميت، (وحكي عن الشافعي (¬4) كراهته لحديث (جـ) الموطأ (¬5): "فإذا وجبت فلا تبكين باكية" (د يعني إذا ماتت د)، وهو محمول على الأولوية، أو المراد رفع الصوت، أو ذلك مخصوص بالنساء، لأنه قد يفضي بكاؤهن إلى النياحة المنهي عنها والله أعلم (هـ). وفي تمام الحديث: " (وهل منكم رجل و) لم يقارف"، وهو بقاف ¬

_ (أ- أ) بهامش جـ. (ب) في جـ أخرجه. (جـ) في جـ: كراهيته بحديث. (د- د) ساقط من جـ. (هـ) بهامش الأصل. (و- و) في جـ: هل رجل منكم.

وفاء، زاد ابن المبارك عن فليح أراد يعني الذنب، وذكره البخاري (¬1) في باب من يدخل قبر المرأة تعليقًا، ووصله الإسماعيلي (¬2)، وكذا أخرجه أحمد عنه (¬3)، وقيل: معناه لم يجامع تلك الليلة، وله جزم ابن حزم (¬4)، وقال: معاذ الله أن يتبجح أبو طلحة عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأنه (أ) لم يذنب تلك الليلة انتهى، ويقويه أن في رواية ثابت المذكورة بلفظ: "لا يدخل القبر أحد قارف أهله البارحة"، فتنحى عثمان، وحكي عن الطحاوي (¬5) أنه قال: "لم أقارف" تصحيف، والصواب "لم يقاول"، أي لم ينازع غيره الكلام، لأنهم كانوا يكرهون الحديث بعد العشاء، وتعقب بأنه تغليظ للثقة بغير مستند، وكأنه استبعد أن يقع من عثمان ذلك لحرصه على موافقة المخاطر الشريف، وأجيب عنه باحتمال أن مرض المرأة طال، واحتاج عثمان إلى المواقعة، ولم يكن مجوزًا لموتها في تلك الليلة، فإن كثيرًا من المرضى يفاجئهم الموت مع ظهور قرائن العافية، وليس في الخبر ما يدل على أنه واقع بعد الموت ولا حين احتضارها، والله أعلم بحقيقة الحال. وفي هذا دلالة على صدق لهجة عثمان وتحريه مواقع الصدق وعلى اختيار من كان بعيدًا من اللذة لمثل هذه الأمور، وحكي عن (ب) ابن حبيب (¬6): أن السر في ذلك أن عثمان قد كان جامع بعض جواريه في ¬

_ (أ) في جـ: أنه. (ب) ساقطة من هـ.

تلك الليلة، فتلطف النبي - صلى الله عليه وسلم - في منعه من (أ) نزول القبر تأديبًا له. انتهى، ولعله يقال: إن في ذلك من الحكمة (ب) لما في ذلك من عدم الوفاء بما خص (جـ) به من التكريم بزواجه السيدتين الطاهرتين المطهرتين، ومن (د) حق من خص بذلك إمحاضهما بالمودة وعدم الالتفات إلى من سواهما شكر، (هـ) منه (للنعمة) (و) وهذا ما فهمته، والله أعلم، ويدل الحديث على جواز مباشرة الأجانب للمرأة في القبر بحائل الكفن وإن لم تدع إلى ذلك ضرورة وقد صرح بذلك المنصور بالله عبد الله بن حمزة. وفيه دلالة على الوقوف على شفير القبر عند الدفن. 448 - وعن جابر - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تدفنوا موتاكم بالليل إِلا أن تضطروا". أخرجه ابن ماجه (¬1) وأصله في مسلم لكن قال: "زجر أن يقبر الرجل بالليل حتّى يُصلّي عليه" (¬2) وأخرج الحديث ابن حبان. وفيه دلالة على كراهة الدفن ليلًا، وظاهره الإطلاق، وقد ذهب إلى ¬

_ (أ) ساقطة من هـ (ب) زاد في جـ: كما في منع علي - رضي الله عنه - من التزوج بابنة أبي جهل مع فاطمة. (جـ) في جـ: لما خصا. (د) في جـ: وفي. (هـ) في هـ: من سواهم وشكرا. (و) غير واضحة بالأصل.

هذا الحسن البصري، وعلل بأن ملائكة (¬1) النهار أرأف من ملائكة الليل وروي في ذلك حديث والله أعلم بصحته. وقوله: "إلا أنْ تُضْطروا"، وذلك كمن خاف على الميت أن يتغير جسده أو من سبع أو خاف على نفسه، وذلك يقع من أسباب كثيرة. وحديث مسلم بالتقييد المذكور يشعر بأن العلة في النهي هو عدم الصلاة، ولفظ مسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خطب يومًا فذكر رجلًا من أصحابه قبض وكفن في كفن غير طائل وقبر ليلًا، وزجر أن يقبر الرجل بالليل حتى يصلى عليه، إلا أن يضطر إنسان (أ) إلى ذلك، فظاهره أن النهي إنما هو حيث كان مظنة حصول التقصير في حق الميت من ترك (ب) الصلاة أو عدم إحسان الكفن، وفي قوله: "حتى يصلى عليه" هو بضم الياء وكسر اللام مسند إلى الضمير المستكن العائد إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يفهم أنه إذا كان يحصل في ترك الميت إلى النهار كثرة المصلين أو حضور من يرجى استجابة دعائه للميت حسن تأخيره، وعلى هذا فيؤخر، ولو في النهار، ولا يعجل الدفن مع ذلك، ويدل على ذلك دفن الصحابة لأبي بكر كما أخرجه البخاري (¬2) عن عكانشة، لابن أبي شيبة (¬3) من حديث القاسم بن محمد قال: دفن أبو بكر ليلًا، ومن حديث عبيد بن السباق (¬4) أن عمر دفن أبا بكر بعد العشاء الآخرة، وصح أن عليًّا دفن فاطمة (¬5) ليلًا. 449 - وعن عبد الله بن جعفر - رضي الله عنه - قال: "لما جاء بني ¬

_ (أ) في جـ: الإنسان. (ب) في جـ: بترك.

جعفر حين قُتِلَ، قال النبي - صلى الله عليه وسلم - اصنَعوا لأهلِ جعفر طعامًا، فقد أتاهم ما يشغلهم". أخرجه الخمسة إلا النسائي (¬1). في الحديث دلالة على شرعية إيناس أهل الميت، والقيام بما يمونهم مدة اشتغال خواطرهم، وشدة (أ) موجدتهم على ميتهم، وعلى كراهة ما يعتاد الناس من إطعام أهل الميت لغيرهم الطعام، وتحمل ثقيل (ب) الأغرام، وروي أن جابر (جـ) بن عبد الله البجلي قال: كنا نعد الاجتماع إلى (د) أهل الميت، وصنيعة (هـ) الطعام بعد دفنه من النياحة. أخرجه أحمد وابن ماجه (¬2)، وكذلك (و) يحرم ما يعتاد من عقر الحيوان ¬

_ (أ) في جـ: ومدة. (ب) في جـ: ثقل. (جـ) في جـ: جابر. (د) في هـ: على. (هـ) في جـ: وصناعة. (و) في جـ: وكذا.

عند القبر لورود النهي عنه أخرج (أ) أبو داود وأحمد من حديث أنس (¬1) - رضي الله عنه - أنّ النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا عَقْر في الإسلام" قال عبد الرزّاق (¬2): كانوا يعقرون عند القبر بقرة أو شاة، قال الخطابي (¬3): كان أهل الجاهلية يعقرون الإبل على قبر الرَّجل الجواد (ب) يقولون: نخازيه على فعله لأنه كان يعقرها في حياته، فيطعمها الأضياف، فنحن نعقرها عند قبره حتّى تأكلها السِّباع والطير فيكون مطعمًا بعد مماته كما كان مطعمًا في حياته. قال: ومنهم من كان يذهب في ذلك إلى أنه إذا عقرت راحلة عند قبره حشر في القيامة راكبًا، ومن لم يعقر عنده (جـ) حشر راجلًا، وكان هذا على مذهب من يرى منهم المبعث بعد الموت (¬4). 450 - وعن سليمان بن بريدة عن أبيه قال: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعلمهم إِذا خرجوا إلى المقابر: السّلام على أهل الدِّيار مِنَ المؤمنين والمسلمين وإِنا إِن شاء الله بكم للاحقون، أسأل الله لنا ولكم العافية". رواه مسلم (¬5). ¬

_ (أ) في جـ: أخرجه. (ب) زاد في جـ: و. (جـ) في جـ: عنه.

هو سليمان بن بريدة الأسلمي (¬1)، روي عن أبيه وعمران بن حصين، وعنه علقمة وغيره مات سنة خمس عشرة ومائة، وبريدة بضم الباء الموحدة - مصغرًا. وأخرجه مسلم (¬2) أيضًا من حديث عائشة بلفظ: قالت: كيف أقول يا رسول الله، تعني، في زيارة القبور؟ قال: "قولي: السّلام على أهل الديار .. إلخ" .. وفيه زيادة: "ويرحم الله المستقدمين منا والمستأخرين (أ) وإنا إن شاء الله ... " وفي رواية أيضًا (ب) عنها: قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كلما كان ليلتها من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخرج من آخر اللّيل إلى البقيع، فيقول: "السّلام عليكم دار قوم مؤمنين وأتاكم ما توعدون غدًا مؤجلون، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، اللَّهُمَّ اغفر لأهل بقيع الغرقد". في الحديث دلالة على استحباب زيارة القبور، وفي حديث عائشة (¬3) خصوصًا (جـ) أنه لا كراهة في حق النِّساء، وفي ذلك خلاف للعلّماء (د)، ولأصحاب الشافعي (¬4) ثلاثة أوجه أحدها التّحريم، لحديث "لعن الله زوارات (هـ) القبور" الّذي قد مر، والثاني يكره والثّالث يباح. ¬

_ (أ) في جـ: المتقدمين منا والمتأخرين. (ب) ساقطة من جـ. (جـ) زاد في جـ: إلا. (د) في جـ: العلماء. (هـ) في هـ: زائرات.

وقوله: "السّلام" بالتعريف والتقديم على الخبر دلالة على استواء الحال (أ) في السّلام على الأحياء والأموات، وهو خلاف ما كان عليه الجاهلية من قولهم. عليك سلام الله قيس بن عاصم ... ورحمته ما شاء أن يترحما (¬1) وقوله: "على أهل الديار" أراد أهل (ب) المقابر وتسميتها بالديار صحيح، إذ الدَّار (جـ) في اللُّغة تقع على الربع المسكون وعلى الخراب غير (د) المأهول. وقوله "من المؤمنين والمسلمين" من عطف بعض الصفات على بعض، والموصوف واحد، وفيه من الفائدة التنبيه، على فضيلة الوصفين اللذين استوجبوا بهما المودة والدعاء، والتقييد بالمشيئة على سبيل التبرك، امتثال قول الله تعالى: {ولا تَقولَنَّ لشَيءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلكَ غَدًا إلا أن يَشَاءَ الله} (¬2). وقيل: المشيئة عائدة إلى مثل تلك المنزلة التي نالوها بسبب الإيمان. وفي سؤاله - صلى الله عليه وسلم - العافية دلالة على أنّ العافية هي أعظم المسائل التي تفرد بالسؤال، ويهتم بشأنها، والعافية للميت هي سلامته عن ألم العقاب، وما يخشى عليه من مناقشة الحساب. ¬

_ (أ) في جـ: الحديث. (ب) ساقطة من ب. (جـ) في هـ: الديار. (د) ساقطة من جـ.

وفي الرِّواية الأخرى من حديث عائشة في قوله: "وأتاكم ما توعدون" ظاهره مشكل فإن الواو لا تصلح أن تكون عاطفة؛ لأن ما قبلها هو السّلام وهو جملة إنشائية دعائية لا يصلح عطف الأخبار عليه، فهي حالية بتقدير "قد". والذي وعدوا به هو الموت وما بعده. وقوله: "غدًا مؤجلون"، لفظ مؤجلون بصيغة (أ) اسم المفعول كما هو الظّاهر وهو مرفوع خبر لمبتدأ محذوف، والمعنى: (ب) أنتم مؤجلون غدًا، والغد (جـ) هو يوم القيامة، يعني أنّ يوم القيامة لما قد أتاهم، وأن الّذي أتاهم ما (د) تقدمه من أهوال الموت وبقي التأجيل ليوم القيامة، وهي جملة حالية أيضًا حذف منه الواو الحالية لكونه قد صار في صورة المفرد (هـ) لما حذف المبتدأ، هذا ما ظهر لي في توجيهه والله أعلم. وفي دعائه لأهل بقيع الغرقد، بالمغفرة دلالة على شرعية الدُّعاء لعموم الموتى من غير اشتراط استحقاق للدعاء (و) واستثنى من كان ظالمًا من الدُّعاء. 451 - وعن ابن عبّاس - رضي الله عنه - قال: مر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقبور المدينة، فأقبل عليهم بوجهه، فقال: "السّلام عليكم يا أهل القبور، يغفر (ز) الله لنا ولكم، وأنتم سلَفنا ونحنُ بالأثرِ" (¬1). رواه التّرمذيّ وقال: حسن. ¬

_ (أ) في جـ: صيغة. (ب، جـ) زاد في جـ: و. (د) زاد في جـ: بما. (هـ) زاد في جـ: و. (و) زاد في ب: والله أعلم. (ز) في جـ: غفر.

هذا الحدّيث قد علم ما يتعلّق به ممّا قبله. 452 - وعن عائشة - رضي الله عنها - قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تَسُبُّوا الأمواتَ، فإِنّهم قد أفضوا إِلى ما قَدَّموا" رواه البخاريّ (¬1). وروي التّرمذيّ عن المغيرة نحوه، لكن قال: "فتؤذوا الأحياء" (¬2). الحديث فيه دلالة على تحريم سب الأموات، وظاهره العموم في حق المسلم والكافر، والظاهر أنّ ذلك مخصوص بمن عدا الكافر، وبعض المؤمنين، فأمّا الكافر فيدلُّ على ذلك ما حكاه الله سبحانه وتعالى من قصص عاد وثمود وفرعون وأضرابهم، وأما بعض المسلمين فمخصوص بما ثبت (أ) في حق من أثنى عليه شرًّا، ومن أثنى عليه خيرًا، وقال - صلى الله عليه وسلم - في ذلك: "أنتم شهداء الله" (¬3) والظاهر أنّ ذلك في حق مسلم، (وقد أخرج الحاكم (¬4) أنهم قالوا: كان يحب الله ورسوله ويعمل بطاعة الله، ويسعى فيها وللآخر بئس (ب) المرء كان، لقد كان فظًّا غليظًا، وهذا ظاهر أنه في حق مسلم (جـ)) (د) وقال القرطبي (¬5): في (هـ) الكلام على حديث "وجبت" ¬

_ (أ) في جـ: بما يثبت. (ب) في جـ: فبئس. (جـ) في جـ: المسلم. (د) بهامش الأصل. (هـ) في جـ: إن.

يحتمل أجوبة: الأوّل: أنّ الّذي كان يحدث عنه بالشر كان مستظهرًا به، فيكون من باب لا غيبة لفاسق أو كان منافقًا. ثانيهما: يحمل النهي على ما بعد الدفن، والجواز على ما قبله ليتعظ به من يسمعه. ثالثها: يكون النهي العام متأخرًا، فيكون ناسخًا وهذا مبني على أنّ العام المتأخر ناسخ للخاص المتقدم، وهي مسألة خلاف بين أهل الأصول. وقال ابن رشيد (¬1): إن سب الكافر يحرم إذا تأذي به الحي المسلم، وهذا التقييد كما في رواية التّرمذيّ، ويحل إذا لم يحصل به الأذية، وأما المسلم فيحرم إلا إذا دعت الضّرورة كأن يكون فيه مصلحة للميت، إذا أريد تخليصه من مظلمة وقعت منه فإنّه يحسن بل يجب، ولو اقتضى ذلك سبه، وقال ابن بطّال (¬2): إن سب الميِّت كالغيبة، فإن كان معلنًا جاز، وإن كان مستترًا لم يجز. وقد روي عن عائشة (¬3) رضي الله عنها أنها كانت تلعن يزيد بن قيس الأرجي فلما قيل لها: إنّه قد مات استغفرت، وهو قد كان أرسله إليها، علي - رضي الله عنه - يوم الجمل برسالة (أ) فلم ترد عليه، فبلغها أنه عاب عليها ذلك فكانت تلعنه. ¬

_ (أ) في جـ: رسالة.

و (أ) قد أشار البخاري (¬1) إلى أنّ (ب) هو سب بعض (جـ) الأموات، بقوله (د) في التّرجمة: باب ما ينهى (هـ) من سب الأموات، فأتى بمن التي هي ظاهرة في التبعيض. وأقول: الحكم بالعموم أولى، وهو محمول على مجرد جري السب على اللسان انتقاصًا للمسبوب، وحطأ من قدره، وترفعًا بنفسه (لغير مقصد جائز) (ر)، وما ورد في القرآن فإنّما هو للاتعاظ والتحذير، أنّ يصيب السامعين مثل ما (ز) أصاب من مضى وفي التعليل بقوله: "فإنهم قد أفضوا"؛ أي وصلوا إلى ما عملوا من خير وشر دلالة على ذلك، فإن مفهومه أنه لا فائدة في مجرد إجراء ذلك على اللسان، والاشتغال بما لا يغني كمن فضول الكلام، وما فعل لمقصد صحيح فهو بخلاف ذلك. فائدة: اختلف العلماء في وصول ثواب قراءة القرآن وغيرها إلى الميِّت، فالمشهور من مذهب الشافعي -رحمه الله - (ح وجماعة من أصحابه ح) إلى (ط أنه لا يصل، وذهب أحمد بن حنبل (¬2) وجماعة من العلماء ومن أصحاب الشّافعيّ ط) إلى أنه يصل كذا ذكره النووي في الأذكار. ¬

_ (أ) ساقطة من جـ. (ب) زادت هـ: المنهي عنه إنّما. (جـ) في جـ: بعض سب. (د) في جـ: لقوله. (هـ) زاد في جـ: عنه. (و) بهامش الأصل. (ز) في جـ: من. (ح - ح) بهامش هـ. (ط - ط) ساقطة من جـ.

وفي رمز الحقائق شرح الكنز أنّ للإنسان أنّ يجعل ثواب عمله لغيره صلاة كان أو صوما أو حجًّا أو صدقة أو قراءة القرآن أو ذكر (أ) إلى غير ذلك من جميع أنواع البرّ، وكذلك يصل إلى الميِّت وينفعه عند أهل السنة. وقالت المعتزلة: ليس له ذلك، ولا يصل إليه، لقوله تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إلا مَا سَعَى} (¬1). وقال مالك والشّافعيّ (¬2): يجوز ذلك في الصَّدقة والعبادة المالية وفي الحج، ولا يجوز في غيره من الطاعات كالصلاة والصوم وقراءة القرآن وغيره، ولنا ما روي: أنّ رجلًا سأل النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: يا رسول الله إنّه كان لي أبوان أبرهما في حال حياتهما، فكيف لي ببرهما بعد موتهما؟ فقال النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم -: "إن من البرّ بعد البرّ أنّ تصلّي لهما مع صلاتك، وأن تصوم لهما مع صيامك" رواه الدارقطني (¬3) وما رواه معقل بن يسار أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "اقرءوا على موتاكم سورة يس" (¬4) رواه أبو داود، وحديث تضحيته عن نفسه بكبش وعن أمته بكبش متفق عليه (¬5). وفي هذا إشارة منه - صلى الله عليه وسلم - إلى أنّ الإنسان ينفعه (ب) عمل غيره، والآية منسوخة بقوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ} (¬6) الآية. ¬

_ (أ) كذا والحكم الإعرابي يقتضي ذكرا. (ب) في هـ: يتبعه.

وقيل: الإنسان أريد به الكافر، وأما المؤمن فله ما سعى آخره وقيل: (أ) ليس له من طريق العدل، وله من طريق الفضل، وقيل: اللام بمعنى على كما في قوله تعالى: {وَلَهُمْ اللَّعَنَةُ} (¬1) أي: وعليهم. انتهى كلامه. قال النووي في الأذكار (¬2): و (ب) الاختيار أنّ يقول القارئ بعد قراءته: اللَّهُمَّ أوصل ثواب ما قرأته إلى فلان انتهى. و (جـ) قال ابن الصلاح: أنها إهداء (د) القرآن للميت ففيه خلاف بين الفقهاء، والذي عليه عمل أكثر النَّاس تجويز ذلك وينبغي أنّ يقول إذا أراد ذلك: اللَّهُمَّ أوصل ثواب ما قرأته لفلان ولمن يريد، فيجعله دعاء، ولا يختلف في ذلك القريب والبعيد، وفي شرح المنهاج لابن البجوي: إلى الميِّت عندنا ثواب القراءة على المشهور و (هـ) المختار الوصول إذا سأل الله تعالى إيصال ثواب قراءته للميت، وينبغي الجزم به لأنه دعاء، فإذا جاز الدُّعاء للميت بما ليس للداعي فلأن يجوز بما هو له أولى، ويبقى الأمر فيه موقوفًا علي استجابة (و) الدُّعاء، وهذا المعنى لا يختص بالقراءة بل يجري في سائر الأعمال، والظاهر أنّ الدُّعاء متفق عليه أنه ينفع الميِّت والحي، القريب والبعيد، بوصية وغيرها، وعلى ذلك أحاديث كثيرة، بل كان أفضل الدُّعاء أنّ ¬

_ (أ) زاد في جـ: و. (ب) الواو ساقطة من جـ. (جـ) الواو ساقطة من هـ. (د) في جـ: هذا، وهو تصحيف. (هـ) ساقطة من جـ. (و) في هـ: استحبابه.

يدعو لأخيه بظهر الغيب، وأما سائر أنواع القرب فقد دلت على أكثرها أحاديث صحيحة، وظاهرها من دون وصية بل صريح في بعضها كحديث أم سعد (¬1) وسقايته عنها وكحديث (أ) المحرم عن أخيه شبرمة، ولم يستفصل - صلى الله عليه وسلم -: وهل قد حج شبرمة؟ وهل أوصى؟ وهل هو ميت؟. وفي الإعتاق وقراءة القرآن، وفي ذلك الكثير الطيب ويقاس ما (ب) لم يردّ فيه نصّ على ما ورد، إذ الجامع موجود ولا وجه للاقتصار، والله سبحانه أعلم. (جـ عدة أحاديث كتاب الجنائز أحد وسبعون حديثًا جـ). ¬

_ (أ) في جـ: وحديث. (ب) في جـ: فيما. (جـ - جـ) لفظ جـ: تم كتاب الجنائز وعدة أحاديثه أحد وسبعون حديثًا.

كتاب الزكاة

كتاب الزكاة الزَّكاة في اللُّغة (¬1) بمعنى النماء، يقال: زكي الزّرع إذا نمي، وبمعنى. التطهر (أ) كقوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى} (¬2). (ب وهي في الشّرع ب): إعطاء جُزء مالي معين من النصاب الحولي إلى فقير ونحوه، وهو غير منعكس لعدم شموله زكاة ما أَخرَجَت الأرض، فحدها حينئذٍ: إعطاء جزء مالي معين عند حصول موجبه (¬3)، والمناسبة بين المعنى اللغوي والشرعي: أنَّ إخراج ذلك الجزء سبب للنماء في المال، أو (جـ) أن الأجر ينمو بسبب إخراجها، أو أنّ متعلّقها الأموال ذوات النماء كالتجارة والزراعة، وفيها طهارة للنفس من رذيلة البُخْل، وتطهير من الذنوب. وهي الركن الثّالث من أركان الإسلام التي بُنِيَ عليها، ووجوبها معلوم من الدين ضرورة، فيكفر منكرها ويحارب كما فعل الصديق - رضي الله عنه -، وقد تُطلق الزكاةُ على الصَّدقة الواجبة والمندوبة والنفقة والعفو والحق. واعلم أنه اختلف في أي سَنَة فُرِضَت الزَّكاة وقد ذهب الأكثر إلى أنها فُرضت بعد الهجرة، فقيل: كان في السنة الثّانية قبل فرض رمضان، أشار إليه النووي في باب السِّيَر من "الروضة"، وجزم ابن الأثير في "التاريخ" ¬

_ (أ) جـ: الطّهارة. (ب، ب) لحق بحاشية. (جـ) وأن.

بأن ذلك كان في التّاسعة (¬1)، وفيه نَظرَ، فإن الزَّكاة ذُكِرَتْ في حديث ضِمَام بن ثعلبة في قوله: أنشدك آلله أمرك أن تأخذ هذه الزكاة الصَّدقة (أ) من أغنيائنا فتقسمها على فقرائنا (¬2)؟، وكان قدومه في سنة خمس، وفِي حديث وَفْد عبد القيس، وفي عدة أحاديث متقدمة على ذلك التاريخ، وقوي بعضهم ما ذهب إليه ابن الأثير بما وقع في قصة ثعلبة بن حاطب المُطَوَّلَة، فإن فيها: لما أنزلت آية الصَّدقة، بعث النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - عاملًا، فقال: ما هذه إلا جزية أو أخت الجزية (¬3)، والجزية إنّما وجبت في التّاسعة فتكون الزَّكاة في التّاسعة، لكنه حديث ضعيف لا يحتج به (¬4). وذهب ابن خزيمة في صحيحه (¬5) أنّ فرضها كان قبل الهجرة، واحتج بما أخرجه من حديث أم سلمة في قصة هجرتهم إلى الحبشة، وفيها أنّ جعفر بن أبي طالب قال للنجاشي في جملة ما أخبره به عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: "ويأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام (¬6) " انتهى. ولكنه يعترض عليه بأن هذا الإخبار يحتمل أن يكون في وقت متأخر، ¬

_ (أ) جـ: أن تأخذ هذه من أغنيائنا. هـ: أن تأخذ هذه الصَّدقة، والمثبت ما في الأصل.

لأن جعفر بن أبي طالب أقام بالحبشة إلى سنة ست، والظاهر أنه بلغه فرضية ما ذكر لأن الأخبار كانت تتصل بهم، وقوله: "يأمرنا" بصيغة المتكلم صادق باعتبار أنه بعض الأمة المأمورين، ويدلُّ على ذلك أنّ الصلوات الخمس لم تكن فُرِضَت في وقت هجرتهم ولا صيام رمضان، فإنَّ (أ) آية الصِّيام مَدَنيَّة بلا خلاف، وهو متقدم على فرض الزَّكاة يدل عليه ما ثبت عند أحَمد وابن خزيمة أيضًا والنَّسائيُّ وابن ماجة والحاكم من حديث قيس بن سعد بن عُبَادة قال: "وأمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، بصدقة الفطر، قبل أن تنزل الزَّكاة ثمّ نزلت فريضة الزَّكاة فلم يأمرنا ولم ينهنا، ونحن نفعله" (¬1). إسناده صحيح، ورجاله رجال الصّحيح، إلا أبا عمار الراوي له عن قيس بن سعد، وهو كوفي اسمه: عَرِيب -بالمهملة المفتوحة- ابن حميد، وقد وثقه أحمد وابن معين (¬2). 453 - عن (ب) ابن عبّاس - رضي الله عنه - أنّ النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - بعث معاذًا إِلى اليمن، فذكر الحديث وفيه أنّ الله افترض عليهم صدقة في أموالهم تؤخذ من أغنيائهم وترَدُّ في فقرائهم. متفق عليه واللفظ للبخاري (¬3). ¬

_ (أ) جـ: وإن. (ب) جـ: وعن.

الحديث أخرجه البخاريّ ولفطه: "إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما بعث معاذًا إلى (أ) اليمن قال: إنك تَقْدُمُ على قومٍ أهل كتاب فليكن أول ما تدعوهم إليه عبادة الله، فإذا عرفوا الله عَزَّ وَجَلَّ، فأخبرهم أنّ الله قد فرض عليهم خمس صلوات في يومهم وليلتهم، فإذا فعلوا فأخبرهم أنَّ الله قد فرض عليهم زكاة من أموالهم وتُرَدُّ على فقرائهم، فإذا أطاعوا بها فخذ منهم وتوق كرائم أموال النَّاس". الحديث فيه دلالة علي فرضية الزَّكاة، وأنها حق واجب في المال، وفي قوله: "تؤخذ من الأغنياء" دلالة على أنّ أمر الأخذ إلى العامل من قبل الإمام أو الإمام نفسه، إذ لا خصوصية لأخذ آحاد النَّاس لها، وقد بين المراد ببعث السعاة، وخص الفقراء بالذكر؛ لأن الفقير معتبر في أكثر مصارف الزَّكاة، ولأن العامل ليس الصّرف إليه مقصودًا بالشرعية لها، وإنّما كان بالعَرْض والمؤلِّف ليس يلازم في جميع الأحوال، وإنّما هو علي فرض الحاجة إلى التأليف، ومن عداهما فالفقر معتبر فيه (¬1)، ولعلّه يراد بالفقير هنا من يحل الصّرف إليه، فيدخل فيه المسكين عند من يقول المسكين أعلى حالًا من الفقير، وأما من قال بالعكس أو قال بالاستواء فالأمر في ذلك واضح، وبَعْث معاذ إلى اليمن كان في سنة ثمان بعد الفتح (¬2)، وأقام معاذ باليمن إلى خلافة أبي بكر الصديق - رضي الله عنه -. 454 - وعن أنس - رضي الله عنه - أنّ أبا بكر الصديق - رضي الله عنه - كتب له "هذه فريضة الصَّدقة التي فرضها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على ¬

_ (أ) جـ: على.

المسلمين، فالتي أمر الله بها رسوله: في أربع وعشرين في (أ) الإِبل فما دونها الغنم (¬1) في كلّ خمس شاة، فإِذا بلغت خمسًا وعشرين إِلى خمس وثلاثين" ففيها بنت مخاض أنثى، فإِن لم يكن فابن لَبُون ذكَر، فإِذا بَلَغت ستًّا وثلاثين إِلى خمس وأربعين ففيها بنت لَبُون أنثى، فإِذا بلغَتْ ستًّا وأربعين إِلى ستين ففيها حِقة طروقه الجمل، فإِذا بلغَتْ واحدا (¬2) وستين إِلى خمس وسبعين ففيها جَذعة، فإِذا بلغت ستًّا وسبعين إِلى تسعين ففيها بنتا لَبُون، فإِذا بلغت إِحدى وتسعين إِلي عشرين ومائة ففيها حِقَّتَان طَروقتا الجمل، فإِذا زادَتْ على عشرين ومائة (ب) ففي كلّ أربعينَ بنت لَبُون، وفي كلّ خمسين حِقَّة، ومنْ لم يكن معه إِلا أربعٌ من الإِبل فليسَ فيها صدقة إِلا أنّ يشاء رَبُّهَا. وفي صدقة الغنم في سائمتها إِذا كانت أربعين إِلى عشرين ومائة شاةٍ شاةٌ، فإِذا زادت على عشرين ومائة إِلى مائتين ففيها شاتان، فإِذا زادت على مائتين إِلى ثلاثمائة ففيها ثلاث شياه، فإِذا زادت على ثلاثمائة ففي كلّ مائةٍ شاة، فإِذا كانت سائمة الرَّجل ناقصة من أربعين شاة شاة فليس فيها صدقة إِلا أنّ يشاء ربها، ولا يجمع بين مفترق، ولا يُفَرّق بين مجتمع خشية الصَّدقة، وما كان من (جـ) خليطَيْن فإِنهما يتراجعان بينهما بالسوية، ولا يخرج في الصَّدقة هرمة ولا ذات عوار ¬

_ (أ) جـ: من. (ب) في جـ: سقطت (ومائة). (جـ) سقط من جـ: من.

ولا تيس إِلا أنّ يشاء المصدق. وفي الرِّقة ربع العشر، فإِن لم يكن إِلا تسعين ومائة فليس فيها صدقة إِلا أنّ يشاء ربها، ومن بلغت عنده من الإِبل صدقة الجذعة وليس عنده جذعة وعنده حِقَّة فإِنها تقبل منه الحقة ويجعل معها شاتين إِن استيسرتا له، أو عشرين درهمًا، ومن بلغت عنده صدقة الحِقة وعنده الجذعة فإِنها تقبل منه الجذعة ويعطيه المصدق عشرين درهمًا أو شاتين". رواه البخاريّ (¬1). هذا الكتاب كتبه أبو بكر (أ) لأنس لما وجهه إلى البحرين عاملًا عليها (ب)، وهي اسم لإقليم مشهور (¬2) يشتَمل على مدن معروفة قاعدتها "هَجَر"، وهو علم مفرد بلفظ المثنى، والنسبة إليه بحراني، وافتتح الكتاب ببِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، وهو يستدل به على إثبات البسملة في أول الكتب، وعلى أنه يكفي ذلك من دون ذِكْر الحَمْد. وقوله: "هذه فريضة الصَّدقة": أي نسخة فريضة حذف المضاف للعِلْم به، فيه اسم الصَّدقة تطلق على الزَّكاة، وقد منع ذلك بعض الحنفية. وقوله: "التي فرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم -" فيه دلالة على أنّ الحديث مرفوع غير موقوف، ومعني "فرض" أوجب أو شَرَع، والمعنى أنه فعل ذلك بأمر الله له، وقيل معناه: قَدَّرَه لأن وجوب الزَّكاة بنصّ القرآن، ¬

_ (أ) سقط من جـ: (أبو بكر). (ب) سقط من جـ: (عليها).

وتقدير النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - لبيان الأنواع والأجناس والقَدْر الخرج بيان لما أجمل في القرآن. ومعنى الفَرْض في الأصل: قَطْع الشيء الصُّلْب، ثم استعمل في التقدير لكونه مقتطعًا من الشيء الّذي يقدر منه، وقد يَرِدُ بمعنى البيان كقوله تعالى: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} (¬1)، وبمعنى الإنزال كقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ} (¬2) أي أَنْزَلَ، وبمعنى الحل كقوله تعالى: {مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ} (¬3)، ومعنى التقدير لازم في ذلك جميعه، وقال الراغب (¬4): كلّ شيء ورد في القرآن فرض على فلان فهو بمعنى الإلزام (¬5) وما عدي باللام فهو بمعنى لم يحرم عليه، وذكر أنّ الإلزام معنى قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ} أي: أَوْجَبَ عليك العمل، وهذا يؤيد قول الجمهور أنّ الفرض مرادف للوجوب (¬6). وفي قوله "على المسلمين": استدل به علي أنّ الكافر ليس مخاطبًا بذلك، ويُرد بأن (أ) المراد بذلك كونها لا تصح منه، لا أنه لا يُعَاقَب عليها ¬

_ (أ) جـ: أنّ.

وهو محل النزاع. وقوله: "والتي أمر الله بها رسوله" وقع هكذا في كثير من نسخ البخاريّ، ووقع في بعضٍ منها بحذف "بها"، وفي لفظ البخاريّ زيادة "فَمَنْ سُئِلها على وجهها فليُعْطها، ومن سئل فوقها فلا يعطه" (¬1) أي من سئل عَليّ هذه الكيفية المثبتة في هذا الحديث فليعطها العامل، ومن سئل أكثر منها فلا يعطى العامل، وذلك لأن حق العامل أنّ يكون أمينًا، والسائل للزائد قد خان، وفي هذا دلالة على أنّ ولاية القبض إلى العامل إلا أنه إذا خان لم يجب على رب المال التسليم إليه فيتولى إخراجه (أ)، وهذا ظاهر في أنه طلب الزيادة من غير تأويل له في أخذها، فأمّا (ب) مع التّأويل فلا يفهم منه المنع، فلا يعارضه ما أخرجه مسلم من حديث جرير مرفوعًا: "أرضوا مصدقيكم" (¬2) قاله مجيبًا لمن قال له من الإعراب: إن ناسًا من المصدقين يأتوننا فيظلموننا، وأخرج أبو داود عن جابر بن عُتَيك مرفوعًا: "سيأتيكم ركب (¬3) مبغضون، فإذا أتوكم فرحبوا بهم وخلوا بينهم وبين ما يبتغون، فإن عدلوا فلأنفسهم، وإن ظلموا فعليها، وأرضوهم فإن تمام زكاتكم رضاهم، وليدعوا لكم" (¬4). وعند الطَّبرانيُّ في الأوسط من حديث سعد بن أبي وقّاص مرفوعًا: "ادفعوا إليهم ما ¬

_ (أ) جـ: إخراجها. (ب) جـ: وأن.

صَلَّوا الخَمْس" (¬1). وعند أحمد والحارث وابن (¬2) وهب من حديث أنس قال: "أتى رجل من بني تميم فقال: يا رسول الله: إذا أديتُ الزكاةَ إلى رسولك فقد برئت منها إلى الله ورسوله؟ قال: نعم ولك أجرها، وإثمها على من بدلها" (¬3). فهو محمول على أنّ العامل له تأويل في أخذ ذلك، أو مع خشية وقوع منكر أعظم من ذلك، والله أعلم. وقوله: "في أربع وعشرين من الإِبل فما دونها" خبر مقدم، و"الغنم" مبتدأ مؤخر، وقَدَّم الخبر هنا لأن الغرض بيان المقادير التي يجب فيها الزَّكاة، والزكاة إنّما تجب بعد وجود النصاب فَحَسُنَ التقديم، وفي رواية الأكثر بزيادة "منْ" في "الغنم"، وفي توجيه إعرابه خفاء، ووجهه أنّ المبتدأ محذوف، والتقدير الزَّكاة في أربع وعشرين، حذف المبتدأ وبقي متعلّقه دالا عليه لقرينة المقام، و "من الغنم" بيان للزكاة. وقوله: "في كلّ خمس شاة" الجملة خبر المبتدأ الأوّل، والعائد مستغني عنه لاتحاد جزء الخبر وهو "شاة" بالمبتدأ وهو "الزَّكاة"، وظاهره أنّ هذا هو (¬4) الواجب متعين فلا يجزئ إخراج بنت مخاض عن أربع وعشرين، وهو قول مالك وأحمد، وقال الشّافعيّ والجمهور يجزئه (¬5) ¬

_ (¬1) عزاه الهيثمي للطبراني في "المعجم الأوسط" وقال عقبة: "فيه هانئ بن المتوكل وهو ضعيف". (مجمع الزوائد 3: 80). (¬2) كذا بغير واو، وفي التلخيص 2: 164 بواو، وهو الصواب. (¬3) المسند 3: 136. (¬4) "هو" زائدة، والعبارة قلقة، والمناسب حذف ضمير الفصل. (¬5) في النسخ "يحرم" وهو خطأ والتصويب من الفتح.

لأنه يجزئ عن خمس وعشرين. فما دونها أولى، ولأن (أ) الأصل أنّ يجب من جِنْس المال، وإنّما عدل عثه رفقًا بالمالك، فإذا أحبَّ الأصل أجزأه، فإن (ب) كانت قيمة البعير مثلًا دون قيمة أربع شياه ففيه خلاف عند الشّافعيّة وغيرهم، والأقيس أنه لا يجزئ. وفي قوله: "في أربع وعشرين ونحوه" يدلُّ على أنّ الوَقَص (¬1) متعلّق به الوجوب، وهو قول للشافعي في البويطي (جـ)، وبه قال محمّد وزفر، وذهب أبو حنيفة، وهو على أصل مذهب الهادي، وقول للشافعي أنه لا يتعلّق به الوجوب، (د وسيأتي قريبًا حديث معاذ أنه لا يتعلّق بها الوجوب د). وفائدة الخلاف: لو تلفت واحدة من ستِّ إبل بعد أن حال الحول قبل إمكان الأداء فإنّه تجب واحدة كاملة على القول بعدم تعلّق الوجوب بها، وعلى القول الثّاني تجب خمسة أسداس، وهذا بناء على أنّ إمكان الأداء شرط في الضمان لا في الوجوب. وقوله: "فإِذا بلغت خمسًا وعشرين" إلخ: ذهب إلى هذا الجمهور، وقد رُوِيَ عن عليٍّ - رضي الله عنه - أنه يجب في الخمس (هـ) والعشرين خمس شياه، فإذا (و) صارت ستًّا وعشرين كان فيها بنت مخاض أخرجه ¬

_ (أ) جـ: بدون الواو. (ب) حـ: وإن. (جـ) جـ: والبويطي. (د، د) ما بينهما، ساقط من جـ. (هـ) جـ: خمسة. (و) جـ: وإذا.

ابن أبي شيبة وغيره (أموقوفًا ومرفوعًا أ) والبيهقي أخرج الموقوف (¬1) (ب)، وإسناد المرفوع ضعيف (¬2). وأخرج المرفوع ابن جُرَيج وصححه (2). وقوله: "إِلى ستٍّ وثلاثين" ظاهره أنه لا يجب شيء في الوقص (¬3) خلافًا للحنفية، فقالت: يستأنف الفريضة فيجب في كلّ خمس من الإبل شاة مضافة إلى بنت الخاض. وقوله: "بنت مخاض أنثى" زاد حماد بن سلمة في روايته: "فإن لم يكن بنت مخاض فابن لبون ذكر"، ولفظ "أنثى" و "ذكر" للتأكيد، أو لتنبيه رب المال ليطيب نفسًا بالزيادة، وقيل احترز بذلك عن الخنثى وفيه بُعْد (جـ). ولفظ "إِلى" في قوله: "إِلي خمس وثلاثين" ونحوها داخل ما بعدها في حكم ما قبلها لقرينة ما بعده (د). ¬

_ (أ، أ) ما بينهما ساقط من جـ. (ب) زادت جـ هنا: مرفوعًا. (جـ) زادت جـ: وبنت المخاض بفتح الميم والمعجمة الخفيفة وآخره معجمة هي التي مر عليها حول ودخلت في الثاني وحملت، والخماض الحامل، أي: دخل وقت حملها وإن لم تحمل، وابن اللبون الذي دخل في الثّالثة وصارت أمه لبونا بوضع الحَمْل. وسيأتي نحو هذه العبارة. (د) زادت جـ: وقوله: حقة ضروبة العجل، الحقة بكسر الحاء وتشديد القاف، والجمع: حِقَاق بكسر الخفيف، وسميت حقة لأنها استحقت أن يُحمَل عليها، وطروقة: بفتح أوله، أَي: مطروقة، وهي فعولة بمعنى مفعولة، كحلوبة بمعنى محلوبة، والمراد أنها بلغت أوان أن يطرفها العجل، وهي التي دخلت في السنة الرّابعة. والجَذَعَةَ بفتح الجيم والذال المعجمة: التي دخلت في السنة الخامسة والسابق أيضًا ساقط من هـ عدا عبارة: وسميت حقة لأنها استحقت أن يُحْمَلَ عليها.

وقوله: "إِذا بلغت يعني ستًّا وأربعين" (أ) بزيادة يعني وزادها البخاريّ للتنبيه على أنه مزيد، أو شك أحد رواته فيه، فلم يجزم بأنها من لفظ الحديث. وقوله: "فإِذا زادت على عشرين ومائة" أي واحدة فصاعدًا ففي كلّ أربعين بنت لَبُون، وفي كلّ خمسين حقَّة، ذهب إلى هذا الجمهور من أهل الحجاز والقاسم في "الأحكام" (¬1) فيجب حينئذ في مائة وإحدى وعشرين ثلاث بنات لبون، وذهب ابن مسعود والنخعي وحماد والمؤيد وأبو طالب وأبو العباس (¬2) إلى أنّ الفريضة تستأنف إذا زادت واحدة على مائة وعشرين فيجب في الخمس شاة، وعلى ما تقدّم (ب يعني في كلّ خمس شاة إلى خمس وعشرين ب) لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "وما زاد على ذلك (جـ) استؤنفت الفريضة" (¬3) أخرجه التّرمذيّ (د)، والعمل به أرجح لأنه موجب للزكاة، "وفي حديث أنس إسقاط لزكاة ما زاد (هـ) على ذلك حتّى يبلغ الزائد (¬4) ¬

_ (أ) زادت جـ، هـ: كذا وقع في رواية الإسماعيلي من طريق أخرى عن الأنصارى شيخ البخاري، وأما في رواية البخاري فهو بلفظ: "فإذا بلغت" يعني: ستًّا وأربعين. (ب - ب) ساقط من هـ. (جـ) سقط من جـ (على ذلك). (د) في جـ، هـ (بياض الأم) بدلا من (الترمذي). (هـ) جـ: (إسقاط لما زاد ...).

أربعين أو خمسين، والموجب إذا عارضه مسقط فهو راجح (أ)، وذهب أبو حنيفة إلى مثل القول الثاني إلى مائة وخمس وأربعين ثمّ فيما زاد روايتان كالقول الثاني وكالقول الأوّل، وذهب مالك إلى أنَّ في إحدى وعشرين ومائة ثلاث بنات لبون إلى ثلاثين ومائة، وفيها ابنتا لبون وحقة كالقول الأوّل لخبر سالم بن عبد الله بن عمر عن نسخة الكتاب الّذي كتبه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الصَّدقة وكان عند آل عمر (¬1) وانتسخه منهم عمر بن عبد العزيز، أخرجه أبو داود (¬2)، ولا يخفى عليك أنّ الأرجح هو الأوّل لأن ذلك ممّا أخرجه البخاريّ، وعمل به أبو بكر الصديق في أيّام وفرة (ب) الصّحابة واجتماعهم، وهذا جهة ترجيح. وفي قوله: "إِلا أنّ يشاء ربها" المعنى في ذلك أنه ليس على صاحبها صدقة واجبة مع إيكاله إلى مشيئته، فليست من الصَّدقة الواجبة، لأن الواجب ليس واقعًا على الاختيار والمشيئة، فيكون ذلك استثناء منقطعًا لأن الصَّدقة المسوق التفصيل فيها هي الواجبة، ولعلّ ذِكْر ذلك لدفع وهم ينشأ من قوله: "فليس فيها صدقة" أنّ المنفي مطلَق الصَّدقة لاحتمال اللّفظ له، وإن كان غير مقصود. وقوله: "فإِذا زادت على ثلاثمائة ففي كلّ مائة شاة" مقتضاه أنه لا تجب الشاة الرّابعة حتّى تفي أربعمائة، وهذا قول الجمهور، قالوا: وفائدة ذكر الثلاثمائة لبيان النصاب الّذي بعده لكون ما قبله مختلفًا فيه، وعن ¬

_ (أ) جـ، هـ: أرجح. (ب) هـ، جـ: وفور.

بعض الكوفيين كالحسن بن صالح، ورواية عن أحمد: إذا زادت عن الثلاثمائة واحدة وجب الأربع. وقوله: "لا (أ) يجمع بين مفترق"، وفي لفظ "متفرق" الجمع بين المفترق قال مالك في "الموطَّأ": معناه أنّ يكون ثلاثة لكل واحد منهم أربعون شاة يجب على كلّ واحد منهم الزَّكاة فيجمعونها حتّى لا تجب عليهم كلهم إلا شاة (¬1) انتهى. والتفريق بين المجتمع أنّ الخليطين يكون لكل واحد منهما مائة شاة (ب وإحدى وعشرون ب) شاة (¬2) فيكون عليهما فيها ثلاث شياه، فإذا طلبهما المصدق فرقا غنمهما فلم يكن على كلّ واحد منهما إلا شاة واحدة، فنهوا عن ذلك (¬3). قال ابن الأثير (¬4): فهذا الذي سمعتُ في ذلك، وقال الخطابي: قال الشّافعيّ (¬5): الخِطَاب في هذا للمصدق ولرب المال، قال: والخشية خشيتان، خشية الساعي أن تقل الصَّدقة، وخشية رب المال أنّ يقل ماله، فأمر كلّ واحد منهما أنّ لا يحدث في المال شيئًا من الجمع والتفرقة خشية الصَّدقة. ¬

_ (أ) جـ، هـ: ولا. (ب - ب) ساقط من جـ، هـ.

وقوله: "وما كان من خليطين" إلخ: اختلف في تفسير الخليط فعند أبي حنيفة والعترة (¬1) ومالك هما الشريكان ولا يجب عليهما إلا إذا كان ملك كلّ واحد منهما نصابًا، وفي البخاريّ تعليقًا (¬2) ما لفظه وقال سفيان: "لا يجب عليه حتّى يتم لهذا أربعون شاةً ولهذا أربعون شاةً"، ورد هذا ابن جرير بأنه إذا كان لا يجب في حال الاجتماع إلا ما يجب في حال الانفراد تَخَلَّوا. فائدة بيان هذا الحكم بقوله "وما كان من خليطين" إلخ، وأن المتبادر أنّ الواجب حينئذٍ غير ما يجب على تقدير (أ) الانفراد، وقال الشافعي وأحمد وأصحاب الحديث: إن الخليط هو المجتمع ماشيتهما في المسرح (ب) والمبيت والحوض والفحل فيجب الزَّكاة فيها (¬3)، ولو كان مال أحدهما دون النصاب (جـ) ويؤيد ذلك ما في "جامع سفيان الثّوريّ" عن نافع عن عبد الله بن عمر عن عمر: "ما كان من خليطين فإنهما يتراجعان" (¬4). ¬

_ (أ) جـ: قدر. (ب) هـ: السرح. (جـ) بحاشية هـ: "في حاشية الأصل ما لفظه: لفظ الخليط يدخل تحته أمران: أحدهما: خليط والآخر بدونها، وهي في الشركة أحق، والصنو في كلّ جزء من الشاة مثلًا مشترك فهو أولًا يتعلّق الحكم به، وإذا تحقق به فائدة للحديث نفي الآخر مشكوكًا فيه والأصل براءة الذِّمَّة واقعة بصدق الخلطة بخلطه من اختلاط الماء، ثمّ لا حَدّ للمكان كاتحاد المراح والراعى والفحل ونحو ذلك، ولا حد يوقف عليه لعرف شائع أو غيره، والشارع لا يحيل على غير معلوم رائدًا، خلطه له يقول بها أحد، وخلطه الشركة يحصل لمجرد الاشتراك حسب فهي معلومة محدودة. انتهى".

قلت: ما معنى الخليطين؟ قال: إذا كان المراح والراعي واحدًا، والدلو واحدًا، وهذا هو الظّاهر من الحديث ولا مدفع له، ولا ينافيه (أ) حديث: "ليس فيما دون خمس ذَوْد صدقة" (¬1) ونحوه، فإن اعتبار النصاب حاصل، ولكن في هذا الحديث دلالة على أنَّ النِّصَاب في هذه الحال لا يشترط أنّ تكون لمالك واحد، واعتذر بعضهم عن الحنفية بأن هذا الحديث لم يبلغهم (¬2) والله أعلم. ومعنى قوله: "يتراجعان بالسوية" هو أنه لو كان لواحد مثلًا عشرون متميزة ولآخر مثلها فأخذ المصدق واحدة من مال أحد (ب) الشريكَيْن فإنّه يرجع على خليطه بقيمة نصف شاة، وعلى هذا القياس. وقوله: "ولا يخرج في الصَّدقة هَرِمةً" بفتح الهاء وكسر الراء: الكبيرة التي سقطت أسنانها (¬3). وقوله: "ولا ذات عوار" (¬4) بفتح العين المهملة، و (جـ) بضمها وقيل ¬

_ (أ) بحاشية جـ: بل ينافيه، وحديث الخليطين يحتمل ما أرادوه، ويحتمل أن يكون نهيا للمال كأن يفرق النصاب لئلا يكل للساعي ونهى الساعي أنّ يجمع المفترق لأن الافتراق لا يكون في العادة إلا لافتراق الملك فنهي الساعي أنّ يكل مال مكلف لمال مكلف آخر، أو نَهَى الساعي أنّ يحشر السوائم إليه لأن السنة أن يقصد إلى محلها، وهذه الإحتمالات تصادق الأحاديث الأخر كحديث ليس فيما دون خمس ... الحديث، وحديث: مَنْ لم يكن معه إلا أربع من الإبل فليس فيها شيء، وحديث أنس وابن عمرو بن حزم والحارث الأعور ..... ". (ب) ساقط من جـ (أحد). (جـ) جـ: أو.

بالفتح للعين المهملة أي: معيبة العين، وبضمها عور العين. واختلف في تحقيق القَدْر الذي يمنع إخراجها، والأكثر على أنه ما ثبت به الرَّدّ في البيع، وقيل ما يمنع الإخراج في الأضحية، ويدخل في العيب المرض، وكذا الذكورة بالنسبة للأنوثة، والصغير سنًّا بالنسبة إلى ما هو أكبر منه. وقوله: "إِلا أن يشاء المصدق" اختلف في ضبطه، والأكثر على أنه بالتشديد، وأصله المتصدق فأدغمت التاء بعد قلبها صادًا، والمراد به المالك، وهو اختيار أبي عُبَيدة، والاستثناء راجع إلى الآخر وهو التيس، وذلك أنه إذا لم يكن مُعدًا للإنزاء فهو من الخيار، وللمالك أن يخرج الأفضل، ويحتمل عَوْده إلى الجميع، ويفهم منه أنّ للمالك إذا رأى الصلاح في إخراج الهرمة أو ذات العوار (أبأن تكون سمينة قيمتها أكثر من الوسط الواجب إخراجها، وقد قال بهذا أ) بعض المفرعين على أصل الهادي، وبعضهم قال: لا يخرجها وإن زادت قيمتها فيتعين الاستثناء إلى الأخير، ومنهم من ضبطه بالتخفيف، والمراد به الساعي، فيدلُّ على أنّ له الاجتهاد ونظر الأصلح للفقراء، وأنه كالوكيل لهم فتقيد مشيئته بالمصلحة، وهذا قول الشّافعيّ في البويطي، فيعود الاستثناء إلى الجميع كما هو الواجب في مثله، ولفظ الشافعي (¬1): ولا يؤخذ ذات عور ولا تيس ولا هرمة إلا أنّ يرى المصدق أنّ ذلك أفضل للمساكين فيأخذه على النظر، انتهى، وهذا إذا كانت الغنم مختلفة، فلو كانت معيبة أو تيوسًا أجزأه أن يخرج واحدة منها، وعن المالكية يلزمه أنّ يشتري شاة مجزئة ¬

_ (أ - أ) ما بينهما ساقط من هـ.

تمسكًا بظاهر الحديث، وفي رواية عنهم كالأول. وقوله: "وفي الرِّقَة" هي بكسر الراء وتخفيف القاف هي الفضة الخالصة سواء كانت مضروبة أولًا، وقيل أصلها وَرِق فحذفت الواو وعوضت الهاء (¬1) وأطلق على الجميع بخلاف الورق (¬2)، وقد قيل إن هذا الدّليل إنّما ورد في زكاة الفضة، والذهب مقيس عليها مقوم بالفضة، وهذا قول الزُّهْرِيّ، وخالفه الجمهور، وسيأتي في حديث علي - رضي الله عنه - النص على الذهب أيضًا. وقوله "وإِن لم (أ) أي الرقة - إِلا تسعين ومائة" يوهم أنها زادت على التسعين ومائة قبل بلوغ المائتين (¬3) أنّ فيها صدقة، وليس كذلك، وإنّما ذكر التسعين لأنه آخر عقد قبل المائة، والحِسَاب إذا جاوز الآحاد كان تركيبه العقود كالعشرات. والمئين والألوف، فذكر التسعين لذلك. وقوله: "إِلا أنّ تتطوع" يعني متبرعًا. وقوله: "فإِنها تقْبل منه الحقّة ويجعل معها شاتين إِن استيسرتا أو عشرين درهمًا" إلخ: فيه دلالَة على أنّ ذلك القَدْر هو جبر التفاوت ما بين السنين المذكورين، وفي العكس كذلك، وكذلك الحُكْم في سائر الأسنان، وقد ذهب إلى هذا الشافعي فقال، التفاوت بين كلّ سنين كما ذكر في الحديث، وذهبت الهادوية إلى أنّ الواجب إنّما هو زيادة فضل القيمة من رب المال، أو رد الفضل من المصدق، ويرجع في ذلك إلى ¬

_ (أ) زادت جـ، وهـ: يكن.

التقويم، قالوا: بدليل أنه قد ورد في رواية: عشرة دراهم أو شاة ما ذلك إلا لأن التقويم يختلف باختلاف الزّمان والمكان فور ما ذكرنا بالتقويم ما بينهما فيجب الرجوع إلى التقويم في ذلك، وقد أشار إلى مثل هذا البخاريّ (¬1) فإنّه أورد حديث أبي بكر في باب أخذ العَرْض (¬2) في الزَّكاة، وذكر في ذلك قول معاذ لأهل اليمن: "إيتوني بعرض ثياب خميص أو لبيس في الصَّدقة مكان الشعير والذرة أهون عليكم وخير لأصحاب النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة (¬3)، ورد الجمهور ذلك بأنه لو كان القصد ما ذكرتم لم ننظر إلى ما بين السّنّيْن في القيمة، وتقدير القيمة يزيد تارة وينقص أخرى في الأمكنة والأزمنة، وما ذكره الشارع ظاهر في أنّ ذلك لا يزيد ولا ينقص، قال الخطابي (¬4): يشبه أنّ يكون الشارع جعل الشاتَيْن والعشرين درهمًا تقديرًا في الجبران لئلا يكل الأمر إلى اجتهاد الساعي لأنه يأخذها على المياه (أ) حيث لا حاكم ولا مقوم غالبًا، وضبطه بقياس يرفع التنازع كالصاع في المُصَرَّاة والغرة في الجنين، والله أعلم. وذهب زيد بن عليّ إلى أنّ ما بين كلّ سنَّين شاة أو عشرة دراهم، وذهب أبو حنيفة إلى أنه إذا تعذر الواجب رجعَ إلى القيمة فقط. فائدة: بنت المَخَاض من الإبل وابن المَخَاض -بفتح الميم والمعجمة المخففة وآخره معجمة-: ما استكمل السَّنَة الأولى ودخل في الثّانية إلى ¬

_ (أ) جـ: المائة.

آخرها، سمي بذلك لأن أمه من المَخَاض أي الحوامل، و "المخاض" اسم للحوامل لا واحد له من لفظه. وبنت اللَّبون وابن اللَّبُون: "ما استكمل السنة الثّانية ودخل في الثّالثة إلى تمامها، سمى بذلك لأن أمه ذات لَبَن. والحقَّة والحِقّ بكسر الحاء وتشديد القاف، والجمع الحِقَاق بالكسر والتخفيف. وطَروقة الفحل: -بفتح أوله- أي: مطروقة، وهي فعولة بمعنى مفعولة كحَلُوبَة بمعنى مَحْلُوبة، وذلك ما استكمل السنة الثّالثة ودخل في الرّابعة إلى تمامها، سمي بذلك لاستحقاقه أنّ يحمل عليه أو تركبه الفحل، ولذلك قيل طَرُوقة الفحل أي يطرقها. والجَذَعَة والجَذَع -بفتح الجيم والذال-: ما استكمل الرّابعة ودخل في الخامسة إلى آخرها. والثني من الإبل: ما دخل في السّادسة وألقى ثنيته فإذا دخل في السابعة فربع، وفي الثامنة سدس، وفي التّاسعة بازل، وفي العاشرة مُخْلِف بضم الميم والخاء المعجمة الساكنة وكسر اللام. 445 - وعن معاذ بن جبل - رضي الله عنه - أنّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - بعثه إِلى اليمن فأمره أنّ يأخذ من كل ثلاثين بقرة تبيعًا أو تبيعة، ومِنْ كُلّ أربعين مسنة، ومن كلِّ حالم دينارًا أو عدله معافر. رواه الخمسة واللفظ لأحمد، وحسنه التّرمذيّ وأشار إلى اختلاف في وصله، وصححه ابن حبّان والحاكم (¬1). ¬

_ (¬1) أبو داود الزَّكاة، باب في زكاة السائمة 2: 234 ح 6715، التّرمذيّ الزَّكاة، باب ما جاء في زكاة البقر 3: 20 ح 623، النَّسائيُّ الزَّكاة، باب زكاة البقر 5: 18، ابن ماجة الزَّكاة، باب الصدقة 1: 576 ح 1803 (بدون قوله: ومن كلّ حالم دينار أو عدله معافر) الحاكم الزَّكاة 1: 398، الدارقطني 2: 102 ح 31.

حديث معاذ أخرجه أبو داود والنَّسائيُّ عن أبي وائل عن معاذ، وأخرجه باقي أصحاب السنن وابن حبّان والدارقطني والحاكم من رواية أبي وائل عن مسروق عنه، ورجح الترمذي (¬1) والدارقطني في العلل الرِّواية المرسلة، وقد اعترضت رواية الاتصال بأن مسروقًا لم يلق معاذًا كذا قال ابن عبد الحق (¬2)، وأجيب عنه بأن ابن عبد البر (¬3) قال: إن الإسناد متصل، وذلك لأن مسروقًا همداني النسب من وادعة يماني الدَّار (¬4) وقد كان في أيّام معاذ باليمن واللقاء ممكن بينهما، فهو محكوم له بالاتصال على رأي الجمهور، وقد أخرجه مالك عن طاوس عن معاذ (¬5)، وقد قال الشّافعيّ: إن طاوسًا عالم بأمر معاذ وإن لم يلقه لكثرة من لقيه ممّن أدرك معاذًا، وهذا ممّا لا أعلم مَنْ أحد فيه خلافًا (¬6)، انتهى. وقد رواه الدارقطني من طريق طاوس عن ابن عبّاس (¬7) وهو موصول، إلا أنّ في طريقه المسعودي وقد اختلط (¬8)، وتفرد بوصله عنه بقية بن الوليد (¬9)، وقال ابن عبد الحق (¬10) ليس في زكاة البقر حديث متفق على صحته، يعني في النصب، وقال ابن جرير الطّبريّ (¬11): صح الإجماع المتيقن المقطوع به الذي لا اختلاف ¬

_ (¬1) التّرمذيّ 3: 20. (¬2) و (¬3) نصب الراية 2: 347. (¬4) تهذيب التهذيب 10: 110. (¬5) الموطأ الزَّكاة، باب ما جاء في صدقة البقر ص 176 ح 24. (¬6) الأم: 7 - 8. (¬7) الدارقطني 2: 99 ح 22، البزار (كشف الأستار 1: 422 ح 892). (¬8) ميزان الاعتدال 2: 574 رقم 4907، التقريب 1: 487 رقم 1008. (¬9) قال البزار: "إنّما يرويه الحفاظ عن الحكم عن طاوس مرسلًا، ولم يتابع بقية على هذا أحدٌ، ورواه الحسن بن عمارة عن الحكم عن طاوس عن ابن عبّاس، والحسن لا يحتج بحديثه إذا تفرد به". (كشف الأستار 1: 423). (¬10) نصب الراية 2: 347، التلخيص 2: 160. (¬11) نصب الراية 2: 743، التلخيص 2: 160.

فيه أنّ في كلِّ خمسين بقرة بقرةً، فوجب الأخذ بهذا وما دون ذلك مختَلَفٌ فيه، ولا نصَّ في إيجابه، وتعقبه صاحب "الإمام" (¬1) بحديث عمرو بن حزم الطَّويل في الديات وغيرها، فإن فيه: "في كلّ ثلاثين باقورة (¬2) تبيع جذع أو جذعة، وفي كلّ أربعين باقورة بقرة" (¬3)، وقال ابن عبد البرّ في "الاستذكار" (¬4): لا خلاف بين العلماء أنّ السنة في زكاة البقر على ما في حديث معاذ هذا، وأنه النصاب مُجْمَع عليه فيها. والحديث فيه دلالة على وجوب الزَّكاة في البقر، وهو مُجْمَعٌ عليه. وفي قوله: "من كلّ ثلاثين بقرة" إلخ: دلالة على أنه لا يجب شيء فيما دون الثلاثين، وهو قول العترة (¬5) والفقهاء، وروى في ذلك عن ابن مسعود أنه قال - صلى الله عليه وسلم -: "ليس فيما دون ثلاثين من البقر شيء" ذكره في الشفاء (¬6)، وهو متأيد بمفهوم العدد في حديث معاذ، والخلاف في ذلك للزهري (¬7) فقال: يجب في الخمس شاة كالإبل، وأجيب بأن النصب لا تثبت بالقياس، سَلَّمْنَا فالنصُّ مانع (¬8). ¬

_ (¬1) الإمام شرح الإلمام لابن دقيق العيد. (¬2) باقورة اسم للجمع، وأهل اليمن يسمون البقر باقورة. لسان العرب 6: 139 - 140 (مادة بقر). وانظر التلخيص 2: 160. (¬3) الحاكم 1: 395. (¬4) لم يطبع فيما بين أيدينا من "التلخيص". (راجع التلخيص 2/ 160). (¬5) البحر الزخار 2: 163. (¬6) لم أقف عليه في كتب السنة، وعزاه في جواهر الأخبار والآثار إلى أصول الأحكام، والشفاء 2: 164. (¬7) قال الزّهريُّ: فرائض البقر قبل فرائض الإبل مصنف عبد الرزّاق 4: 25 ح 6854. (¬8) لو سلمنا أنّ النصب تثبت بالقياس فالنص -مفهوم حديث معاذ- يمنع من قياس البقر على الإبل.

وفي قوله: "تَبيع أو تَبيعَة" فيه دليل على التخيير في ذلك، وفي المسنة ظاهره أنه لا (أ) يجزئ المسن، وهو كذلك لأن النصَّ ورد به (ب) إلا أنه أخرج الطَّبرانيُّ عن ابن عبّاس مرفوعًا "ليس في البقر العوامل صدقة" (¬1)، لكن في ثلاثين تبيع أو تبيعة، وفي كلّ أربعين مسنة أو مسنًا" (جـ) وصرح بذكر المسن صاحب "المحيط" وصاحب "مصباح الشّريعة" (د)، ولا شيء في الأوقاص لما روي أنّ معاذًا لما أتى بما دون النصب فيها فأبى أنّ يأخذ منه شيئًا وقال: "لم نسمع فيه من النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - شيئًا حتّى ألقاه"، فتوفى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل أنّ يقدم معاذ، أخرجه مالك في الموطأ (¬2) وهو الصّحيح، وإن كان البزار قد روي أنّ معاذًا لما قدم من اليمن سأل النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - عن الأوقاص، فقال: "ليس فيها شيء" (¬3). وعن أبي حنيفة أنّ فيما بين الأربعين والستين يجب ربع مسنة، وفي "ملتقى الأبحر" عن أبي حنيفة: أنه يجب في ذلك. قسطة من المسنة، والجواب عنه الحديث. وفي (هـ) قوله: "وعن كلّ حَالِم" يعني محتلم، هكذا أخرجه أبو ¬

_ (أ) جـ: سقط (لا). (ب) من هنا ساقط في جـ. (جـ) هـ: مسنٌ. (د) آخر السقط من جـ. (هـ) سقط من جـ: (وفي).

داود مفسرًا في رواية، "أو عدله (*) من المعافر" هي ثياب تكون باليمن (1)، هذا لفظ أبي داود من رواية أبي وائل عن معاذ (2)، وفي رواية مسروق عنه من دون تفسير فيهما (¬3)، والمراد به الجزية ممّن لم يسلم، كما يدلُّ عليه سياق الحديث. والمعافر (¬4): بالعين المهملة حيٌّ من همدان، لا ينصرف في معروف ولا نكرة لأنه جاء على مثال ما لا ينصرف من الجمع، وإليهم تنسب (أ) الثِّياب المعافرية، يقولون "ثوب معافري". وفي قوله "وأشار إِلى اختلاف في وصلة": هو كما عرفت، من عدم لقاء طاووس ومسروق لمعاذ، فهو غير موصول، وبروايته عن ابن عبّاس يكون موصولًا، والله أعلم. 456 - وعن عمرو بن شُعَيْب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "تؤخذ صدقات المسلمين على مياههم" رواه أحمد (¬5). ولأبي داود: "ولا تؤخذ صدقاتهم إِلا في دورهم" (¬6). في الحديث دلالة على أنّ المصدق هو الذي يأتي إلى رَبِّ المال، فيأخذ صدقته من المحل الّذي يكون فيه المال، ورواية أحمد خاصّة بالأنعام، ورواية أبي داود عامة لجميع الصدقات. ¬

_ (أ) زادت هـ: (في معروقة).

وحديث عَمرو بن شعيب في رواية أبي داود والنَّسائيِّ بلفظ: "لا جلب ولا جنب، ولا تؤخذ صدقاتهم إلا في دورهم" (¬1). قال ابن إسحاق: معنى "لا جلب": أن تصدق الماشية في موضعها، ولا تجلب إلى المصدق، ومعنى "لا جنب": أنّ يكون المصدق بأقصى مواضع أصحاب الصَّدقة فيجنب إليه، فَنُهوا عن ذلك. وفسره مالك (¬2) بالسباق في خيل الحلبة فقال: معنى "الجلب" أنّ يجلب الفرس في السباق فيحرك وراءه الشيء يستحث به فيسبق، و"الجنب" أن يجنب مع الفرس الذي سابق به فرسًا آخر حتّى إذا دنا تحول الراكب على الفرس المجنوب فيسبق، ويدلُّ على هذا التفسير أنّ في رواية عمران بن حصين: "لا جلب ولا جنب في الرهان" (¬3)، وهذا التفسير أقرب لأنه على الوجه الأوّل يكون من عطف العام على الخاص، وهو وإن كان له من وجه فهو بعيد لخفاء النكتة المقتضية للإجناب، والله أعلم. 457 - وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ليس على المسلم في عبده ولا فرسه صدقة". رواه البخاريّ، ولمسلم: "ليس في العبد إِلّا صدقة الفِطْر" (¬4). في الحديث دلالة على عدم وجوب الصَّدقة في العَبْد والفَرس، وهو مجمع عليه في العبد المُعَدّ للخدمة، والفرس المعدة للرُّكوب، وأما الخيل المعدة للنتاج فالخلاف فيها لأبي حنيفة وزفر إذا كانت لغير الغزو وكانت ¬

_ (¬1) لم يروه النَّسائيُّ من طريق عمرو بن شعيب. (¬2) التلخيص 171:2. (¬3) أبو داود الجهاد، باب في الجلب على الخيل في السباق 3: 67: 68 ح 2581. (¬4) البخاريّ الزَّكاة، باب ليس على المسلم في عبده صدقة 3: 327 ح 1464، مسلم الزَّكاة، باب لا زكاة على المسلم في عبده وفرسه 2: 675 ح 982 - 8.

إناثًا وذكورًا سائمة، وفي الإناث المنفردة روايتان (¬1) أيضًا، الأصح عدم الوجوب لعدم التناسل بخلاف السوائم الثلاث فإن ذكورها وإن لم يكن فيها التناسل إلا أنه يحصل فيها نمو بالسمن للأكل، بخلاف الخيل عند أبي حنيفة، فهي لا تحل عنده، والقائل بحلها أبو يوسف ومحمد، وهما لا يوجبان الزَّكاة، وهذا هو الأصح من مذهب أبي حنيفة (¬2)، وإن روي في القدوريّ اشتراط اختلاطها بالذكور والإناث، والواجب في عينها، ويؤخذ من قيمتها (أ) أربعون دينارًا كما كان في عصرهم، واحتج أبو حنيفة بقوله عليه الصّلاة والسلام "في كلّ فرس سائمة دينار أو عشرة دراهم" أخرجه الدارقطني والبيهقي وضعفاه والخطيب عن جابر (¬3)، وتأول حديث أبي هريرة بأن المراد بالفرس التي لا صدقة فيها هي المعدة للرُّكوب، وهي لا يجب فيها بالإجماع، قال: بقرينة اقترانها بالعبد المعد للخدمة، بدليل استثناء صدقة الفطر في حقه، وأجاب الجمهور بضعف الحديث الذي احتج به وقوة حديث النفي، فلا يعارضه ولو كان عمومًا، وله أن يجيب بأن الحديث متأيد بما روي أنّ عمر - رضي الله عنه - كتب إلى أبي عُبَيْدة يأمره أنّ يأخذ من الخيل السائمة من كلّ فَرَس دينارًا أو عشرة ¬

_ (أ) هـ، جـ: فإذ كانت أربعين أخرج واحدة منها أو ربع عشر قيمتها أو دينارًا عن كلّ فرس، وهذا بناء على أنّ الفرس قيمتها.

دراهم، ووقعت هذه الحادثة في زمن مروان فشاور الصّحابة في ذلك فروى أبو هريرة الحديث: "ليس على الرَّجُل في عبده ولا فرسه صدقة" (¬1)، فقال مروان لزيد بن ثابث: ما تقول يا أبا سعيد؟ فقال أبو هريرة: عجبًا من مروان أحدثه بحديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يقول: ما تقول يا أبا سعيد؟ فقال زيد: صدق رسول الله، - صلى الله عليه وسلم -، إنّما أراد به فرس الغازي (¬2)، فأمّا من تاجر يطلب نسلها ففيها الصَّدقة، فقال: كم؟ قال: في كلّ فرس دينار أو عشرة دراهم. فهذا يدلُّ على شيوع ذلك في أيّام الصّحابة، وعلى صحة تأويل أبي حنيفة لحديث أبي هريرة. واعلم أنّ ظاهر هذا الاحتجاج أنه يجب في الفرس ولو كانت واحدة، وأنه لا يشترط منها أنّ يبلغ إلى أربعين، ولعلّ اعتبار الأربعين إنّما هو لإخراج واحدة منها (واعلم أيضًا أنّ أبا حنيفة يقول: إنّه لا يأخذ الإمام زكاتها قهرًا لأن زكاتها لا تجب في عينها) (أ) بخلاف زكاة السائمة فإنها جزء من عينها وللإمام فيه حق الأخذ، وذهب أهلُ الظّاهر إلى العمل بظاهر حديث أبي هريرة، وأنها لا تجب الزَّكاة في الخيل ولو كانت للتجارة، وأجيب بأن زكاة التجارة واجبة بالإجماع كما نقله ابن المنذر وغيره (¬3)، فهو مخصوص (ب) لعموم النفي الّذي في الحديث، والله أعلم. ¬

_ (أ) زيادة في النسخ الثلاث. (ب) جـ، هـ: مخصص.

458 - وعن بَهْز بن حكيم عن أبيه عن جده قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "في كلّ سائمة إِبل في أربعين بنت لَبُون، لا تفرق إِبل عن حسابها، من أعطاها مؤتجرًا بها فله أجرها، ومن منعها فإِنا آخذوها وشطر ماله؛ عزمة من عزمات رَبّنَا، لا يحل لآل محمّد منها شيء" رواه أحمد، وأبو داود، والنَّسائيُّ، وصححه الحاكم (¬1)، وعلق الشّافعي القول به على ثبوته (¬2). بَهْز -بفتح الباء الموحدة وسكون الهاء وبالزاي- ابن حكيم بن معاوية بن حَيْدَة -بفتح الحاء المهملة وسكون الياء تحتها نقطتان وفتح الدال- القشَيرِيّ -بضم القاف وفتح الشين المعجمة-، وقد اختلف العلماء فيه، فقال يحيى بن معين في هذه التّرجمة: إسناد صحيح إذا كان من دون بهز، وقال أبو حاتم: هو شيخ يكتب حديثه ولا يحتج به (¬3)، وقال الشّافعي (¬4): ليس حجة، وهذا الحديث لا يثبته أهل العلم بالحديث، ولو ثبت لقلنا به، وكان قال به في القديم -يعني تجوز العقوبة بالمال- ثمّ رجع، ورأى العقوبة فيه بغير أخذ المال. وسئل عنه أحمد فقال: ما أدري وجهه، فسئل عن إسناده فقال: صالح الإسناد (¬5)، وقال ابن حبّان (¬6): كان يخطئ كثيرًا يعني بهز ولولا ¬

_ (¬1) أبو داود الزَّكاة، باب في زكاة السائمة 2: 233 ح 1575 (بنحوه)، النسائي الزَّكاة، باب عقوبة مانع الزَّكاة 5: 11 (بلفظ: "شطر إبله")، أحمد 2: 4، الحاكم 1: 397 - 398 (بلفظ: "شطر إبله"). (¬2) التلخيص الحبير 2: 170. (¬3) الجرح والتعديل 3: 257 - 258. (¬4) و (¬5) التلخيص الحبير 2: 170. (¬6) المجروحين 1: 194.

هذا الحديث لأدخلته في الثقات، وهو ممّن أستخير الله (أ) فيه، وقال ابن عَدِي (¬1): لم أر له حديثًا منكرًا، وقال ابن الطلاع في أوائل الأحكام: بهز مجهول، وقال ابن حزم: غير مشهور بالعدالة، وهو خطأ منهما، وقد وثقه خلق من الأئمة. قال المصنِّف -رحمه الله تعالى (¬2) -: وقد استوفيتُ الكلامَ فيه في "تلخيص التهذيب"، وقال الذهبي (¬3): ما تركه عالم قط، وقد تكلم فيه بأنه كان يلعب بالشطرنج، قال ابن القطان: وليس ذلك بضائر له فإن استباحته مسألة فقهية مشتهرة. قوله "لا تفرق إِبل عن حسابها": معناه أنّ المالك لا يفرق ملكه عن ملك غيره حيث كانا خليطين كما تقدّم في الحديث الأوّل، كأن يكون خمس من الإبل بين شريكَيْن فاقتسماها لئلا يجب عليهما الزَّكاة. وقوله "مؤتجرًا": أي طالبًا للأجر. وقوله "فإِنا آخذوها" إلى آخره: فيه دلالة على أنّ الزكاة يأخذها الإمام قهرًا إذا منعها رب المال، والظاهر أنه مجمع عليه (¬4) وأن نيّة الإمام تكفي في أخذ الزَّكاة وإن فات رَبّهَا الأجر فقد سقط عنه الفرض الواجب. وقوله "وشَطْر ماله": معطوف على الضمير المنكوب في قوله "آخذوها" والشطر مراد به البعض، ظاهره أنّ الإمام يعاقبه بأخذ جزء من ¬

_ (أ) سقط لفظ الجلالة من جـ.

المال عقوبةً له، وفيه دلالة على جواز العقوبة بالمال، وقد ذهب إلى ذلك الشافعي في القديم ثمّ رجع عنه (¬1)، وقال: إنّه منسوخ وإن ذلك كان في صدر الإسلام العقوبة بالمال جائزة، وقال: إن الناسخ له حديث ناقة البراء أنّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - حكم عليه بضمان ما أفسدت من دون عقوبة، ورد عليه النووي (¬2) بأن الذي ادعوه بأن العقوبة بالمال في صدر الإسلام غير ثابت ولا معروف، ودعوى النسخ على فرض صحته غير مقبولة مع الجهل بالتاريخ. قال المصنف -رحمه الله تعالى (¬3) -: والجواب عن الاحتجاج بالحديث ما أجاب به إبراهيم الحَربْيُّ، فإنّه قال في سياق هذا المتن: وَهم الراوي في قوله: "وشَطْر ماله"، وإنّما هو فإنا آخذوها من شطر ماله، أي: يجعل ماله شطرين ويتخير عليه المصدق ويأخذ الصَّدقة من خير الشطرَيْن عقوبة لمنعه الزَّكاة، فأمّا ما لا يلزمه فلا، نقله ابن الجوزي في "جامع المسانيد" عن الحربي، والله الموفق. انتهى. وأنا أقول هذا الجواب لا يجدي، فإنّه إذا تخير المصدق وأخذ من خير الشطرين فقد أخذ زيادة على الواجب، وهي عقوبة مالية، فقد حصل العقوبة بالمال الّتي فر منها. وقد ورد العقوبة بالمال في قضايا متعددة منها قصة المَدَديّ الذي أغلظ الكلام لأجله عوف بن مالك على خالد بن الوليد لما أخذَ سلبه، فقال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "لا يردّ عليه" أخرجه مسلم (¬4)، وكذا من سرق من ¬

_ (¬1) المجموع مع المهذب 5: 284، 288. (¬2) المجموع 288:5. (¬3) التلخيص الحبير 2: 170. (¬4) مسلم الجهاد، باب استحقاق القاتل سلب القتيل 3: 1373 - 1374 ح 43، 44 - 1753.

التّمر المعلق على الشجر وخرج به فيما لا يوجب القطع فإنّه أوجب عليه الغرامة والعقوبة (¬1)، وفُسرت العقوبة بمضاعفة الغرامة، أخرجه أبو داود والنَّسائيّ وصححه الحاكم، وكذلك تحريقه، - صلى الله عليه وسلم -، متاع الغال عقوبة له، وجرى على ذلك الخليفتان أبو بكر وعمر، رضي الله عنهما (¬2)، وهو ممّا يدلُّ على عدم النسخ. وقوله "عزمة": يجوز فيه الرفع خبر لمبتدأ محذوف، والنصب على المصدر، وهو مصدر مؤكد لنفسه مثل: له عليَّ ألف درهم، اعترافًا بفعل يدلُّ عليه الجملة التي قبله، وهي: فإنا آخذوها ألقائمة مقام الفعل المحذوف وجوبًا، ومعنى العزيمة في اللُّغة: الجد في الأمر، يعني أنّ أخذ ذلك واجب مفروض من الأحكام التي حكم بها الله على عباده كالجهاد ونحوه، لم يوسع في ذلك على الأئمة في التَّرك والمساهلة، أو لم يوسَّع على المكلفين وسهل لهم ذلك حتّى يتوقف أخذها على اختيارهم، وعزائم الله فرائضه على العباد كذا في "القاموس" (¬3). وقوله "لا يحل" إلخ: سيأتي الكلام في ذلك إن شاء الله تعالى قريبًا. 459 - وعن عليٍّ - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِذا كانت لك مائتا درهم وحال عليها الحَوْل ففيها خمسة دراهم، وليس عليك شيء حتّى تكون لك عشرون دينارًا وحال عليها الحول ¬

_ (¬1) أبو داود اللقطة، باب التعريف باللقطة 2: 335 - 336 ح 1710، التّرمذيّ البيوع، باب ما جاء في الرُّخصة في أكل الثمرة للماء بها 3: 575 ح 1289 (مختصرًا)، النسائي قطع السارق، باب الثمر يسرق بعد أنّ يؤويه الجرين 8: 77، الحاكم 4: 381. (¬2) أبو داود الجهاد، باب في عقوبة الغال 3: 158 ح 1573. (¬3) القاموس باب الميم فصل العين (4: 150).

ففيها نصف دينار، فما زاد فبحساب ذلكِ، وليس في المال زكاة حتّى يحول عليه الحول" رواه أبو داود (¬1)، وهو حَسَن، وقَد اختُلف في رفعه. وللترمذي عن ابن عمر - رضي الله عنه -: "من استفاد مالًا فلا زكاة عليه حتّى يحول عليه الحول" (¬2) والراجح وقفه. أخرج حديث عليّ: أبو داود عن الحارث الأَعْوَر وعاصم بن ضمرة كلاهما مرفوعًا إلا قوله: "فما زاد فبحساب ذلك" قال: فلا أدري أعليّ يقول "فبحساب ذلك" أو يرفعه إلى النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وإلا قوله "وليس في مال زكاة" إلخ، فقال أبو داود: إلا أنّ جريرًا قال ابن وهب يزيد في الحديث عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: "ليس في مالٍ زكاة حتّى يحول عليه الحَوْل"، وظاهره أنه اختلف فيه (أ). الحديث فيه دلالة على اعتبار النصاب في وجوب الزَّكاة، وأن نصاب الفضة ما ذكر في مائتي درهم (¬3)، وهو مجمع عليه، وظاهره أنه لا بد أنّ يكون ذلك القدر خالصًا من الفضة، فما كمل بالغش لم يجب فيه الزَّكاة ¬

_ (أ) في جـ وحاشية الأصل: وعاصم بن ضمرة السلولي وثقه ابن المديني، وقال النَّسائيُّ: ليس به بأس. وأما الحارث الأعور فكذبه ابن المديني وغيره. وروى سعيد بن منصور عن ابن معين توثيقه.

ولو كان الغش يسيرًا، وهو قول الأكثر، وذهب المؤيد بالله (¬1) والإمام يحيى إلى أنه إذا كان الغش يسيرًا يتعامل به فلا يضره، وفسره الإمام يحيى بالعشر فما دون، قال لأنه لا تخلو الفضة في الأغلب عن ذلك، وفي "البحر" (¬2) رواية عن أبي حنيفة أنه يعفي في الغش عن النّصف فما دون، وعن السرخسي من الشّافعيّة (¬3) حكاية وجه في مذهبهم: أنّ الدراهم المغشوشة إذا بلغت قدرًا لو ضم إليه قيمة الغش من النحاس مثلًا لبلغ نصابًا فإن الزَّكاة تجب فيه، وهو منقول عن الحنفية، وظاهر مفهوم العدد وهو متأيد بحديث النفي الّذي سيأتي وغيره أنه إذا نقص عن ذلك القدر وإن قل النقص أنه لا يجب فيه الزَّكاة، ونقل عن بعض المالكية، وفي البحر (¬4) نسبه إلى مالك أنه يعفى عن النقص اليسير كالحبة والحبتين فتجب الزَّكاة حينئذٍ، والمراد بالدرهم ما بلغ قدر الدرهم من الفضة سواء كان مضروبًا أو غير مضروب، وحصل الإجماع أنّ العشرة الدراهم مقدار سبعة مثاقيل، فالدرهم سبعة أعشار المثقال. قال أبو عُبَيد: إن الدرهم لم يكن معلوم القدر حتّى جاء عبد الملك بن مَرْوَان فجمع العلماء فجعلوا كلّ عشرة دراهم سبعة مثاقيل، قال عياض (¬5): وهذا يلزم منه أن يكون - صلى الله عليه وسلم - أحال نصاب الزَّكاة على أمرٍ مجهول، وهو مشكِل، والصواب أنّ معنى ذلك أنه لم يكن شيء منها من ضرب الإسلام وكانت مختلفة في الوزن بالنسبة إلى العدد، فعشرة مثلًا وزن ¬

_ (¬1) البحر 2: 150. (¬2) البحر 2: 150. (¬3) المجموع 5: 467 وقال: "وهذا الوجه الّذي تفرد به السرخسي غلط مردود بقوله "وليس فيما دون خمسة أواق من الوَرق صدقة". (¬4) البحر 1: 150. (¬5) شرح مسلم للنووي 6:3.

عشرة، وعشرة وزن ثمانية، فاتفق الرأيُ على نقش الكتابة العربيّة ويصير وزنها وزنًا واحدًا، وفي البحر (¬1): كانت الدراهم بعضها عشرة وزن خمسة دنانير، وبعضها عشرة وزن ستة، وبعضها عشرة وزن عشرة، فأخذوا من كلّ عشرة ثلثها فصارت العشرة الدراهم وَزْن سبعة مثاقيل، أو وزن ثلث مجموع العَشَرَات أربعمائة وعشرون شعيرة وذلك وزن سبعة مثاقيل، قال: ولا ضربة للإسلام في عهده - صلى الله عليه وسلم - بل ضرب الجاهلية وهي المقصودة في الخطاب بالدرهم والدينار، وكان المسلمون يردونها إلى التبر وهو غير المضروب ويتعاملون بها وكان لهم نصف الأُوقِية معيارًا وهو عشرون درهمًا ويسمي نَشًّا كما في حديث عائشة (¬2)، وكذلك النواة وهي ثُمُن الأُوقِية خمسة دراهم، فيردون ما وصلهم من الضرب الكسروية والقيصرية إلى هذا الوزن، وأول من ضرب الدّينار في الإسلام عبد الله بن الزُّبَيْر، والدرهم عبد الملك برأي عليّ بن الحُسَين -رضي الله عنهم-، انتهى (¬3). قال المصنِّف -رحمه الله تعالى (¬4): ولم يخالف في أنّ نصاب الفضة مائتا درهم تبلغ مائة وأربعين مثقالًا من الفضة الخالصة إلا ابن حبيب الأندلسي فإنّه قال: إن أهل كلّ بلد يتعاملون بدراهمهم، وذكر ابن عبد البرّ اختلافًا في الوزن بالنسبة لدراهم الأندلس وغيرها من دراهم البلدان، وبعضهم اعتبر النصاب بالعدد لا بالوزن، قال: وهو خارق للإجماع، وأقول: إن صح الإجماع فهو دليل على ما ذكر من اعتبار الوزن وإلا فكان الظّاهر ما ذكره مع ثبوت اختلاف قدرها في زمنه - صلى الله عليه وسلم - وإطلاقه لذلك مع علمه بالاختلاف وأن كثيرًا من الإعراب من أهل البوادي لم ¬

_ (¬1) البحر 2: 150 - 151. (¬2) مسلم النِّكاح، باب الصداق وجواز كونه تعليم قرآن .... ، 2: 1042 ح 78 - 1426. (¬3) البحر 2: 150. (¬4) الفتح 3: 311.

يعرف الوزن ولا يهتدي عند الإطلاق إلى ذلك والله أعلم. وقوله: "حتّى يكون ذلك عشرون دينارًا" المراد بالدينار (¬1): المثقال وهو ستون شعيرة من الشعير الموافق للعادة أي لا يخالف المعتاد في الخفة والثقل، وهذا بناء على أنّ المراد به الشعير المتبادر عند الإطلاق، وقال ابن الخليل وأبو مضر: المراد به وزنات عند أهل الصوغ يسمى شعائر قيل: وهي حب الشكلم، وكان عهده - صلى الله عليه وسلم - المثقال عشرين قيراطًا عراقيا، والقيراط ثلاث شعيرات، وهذا مخالف لاصطلاح أهل الفرائض في القيراط، فهو عندهم ربع السدس جزء من أربعة وعشرين، واعتبار نصاب الذهب بالعشرين الدّينار هو قول الأكثر، وقد روى عن الحسن البصري (¬2) أنّ نصاب الذهب أربعون، قال: لأنه إذا كان عشرين استفتح المال المزكى بالكسر، فيكون زكاته نصف دينار بخلاف ما إذا كان أربعين كان زكاته دينارًا، وقد روي عنه مثل قول الأكثر (¬3)، ونصابه معتبر في نفسه، فإن نقص عن ذلك ولو قل النقص لم يجب فيه شيء، وذهب طاوس (¬4) إلى أنه يعتبر في نصابه التقويم بالفضة، فما بلغ منه ما يقوم بمائتي درهم وجب فيه الزَّكاة، وهو بناء على أنه لم يثبت له نصاب في عينه، ولكنه قد ثبت فالنَّصُّ أولى، وعن مالك أنه لا يضر النقصان اليسير كما تقدّم في الفضة، وقدر ذلك بالحبة والحبتين، وعنه أنّ ذلك لا يضر إذا نقص في بعض الموازين دون بعض، فإن نقص في جميعها ضره (أ). وفي قوله: "حتّى يحول عليه الحول" وحديث ابن عمر [وكذلك ¬

_ (أ) هـ: ضر.

أخرج الدارقطني من حديث أنس مرفوعًا "ليس في المال زكاة حتّى يحول عليه الحول" وحديث ابن عمر] رفعه أيضًا الدارقطني (¬1) والحاكم فيه دلالة على أنّ الزَّكاة لا تجب حتّى يمضي على المال في ملك المالك الحَوْل، وهو قول الأكثر، وذهب ابن عبّاس وابن مسعود والناصر وداود والصادق والباقر أنه يجب على المالك إذا استفاد المال أنْ يزكيه في الحال لعموم قوله: "في الرقة ربع العشر"، والجواب أنه مقيد بهذه الأحاديث والضعف فيها منجبر بكثرتها وبالآثار الواردة عن أبي بكر وعمر وعثمان وعليّ، والله أعلم. 460 - وعن عليّ - رضي الله عنه - قال: "ليس في البَقَر العوامل صدقة" رواه أبو داود والدارقطني والراجح وقفه أيضًا (¬2). الحديث قال البيهقي (¬3): رواه النّفيلي عن زهير بالشك في وقفه أو رفعه، ورواه أبو بدر عن زُهَيْر مرفوعًا، ورواه غير زهير عن أبي إسحاق موقوفًا. انتهى. وهو عند أبي داود وابن حبّان عن عاصم عن عليّ، وصححه ابن القطان بناء على توثيق عاصم بن ضمرة (¬4) عدم التعليل بالرفع والوقف. وقد روي مثله من حديث عمر، أخرجه البيهقي وابن عدي، ومن حديث ابن عبّاس أخرجه الدارقطني (¬5) بإسناد ضعيف (¬6) ومن حديث جابر ¬

_ (¬1) الدارقطني 2: 91 وأخرجه ابن عدي في الكامل 2: 779 وفيه حسان بن سياه ضعيف وتقدمت له شواهد. (¬2) أبو داود بمعناه الزكاة، باب في زكاة السائمة 2: 228 ح 1572، الدارقطني الزَّكاة، باب ليس في العوامل صدقة 2: 103. (¬3) البيهقي الزكاة، باب ما يسقط الصدقة عن الماشية 4: 116. (¬4) عاصم بن ضمرة السلولي صدوق، التقريب 159. الميزان 2: 352 رقم 4052. (¬5) الدارقطني 2: 103. (¬6) فيه سوار بن مُصْعَب، متروك، الميزان 2: 246، الضعفاء 2: 168.

بلفظ "ليس في المثيرة صدقة"، وفي رواية: "مثيرة الأرض" (¬1)، وضعف البيهقي (¬2) إسناده، وصححه من طريق عَمرو بن شُعَيب عن أبيه عن جده (¬3)، إلا أنه قال "الإبل" بدل "البقر"، وإسناده ضعيف (¬4). والحديث فيه دلالة على أنه لا يجب في البقر العوامل شيء، وظاهره سواء أسمت أو لم تسم إذا كانت عاملة، وقد ذهب إلى هذا الشّافعيّ في أحد قولَيْه، وهو الصّحيح لمذهبه (¬5)، والقاضي زيد وصاحب اللمع، وذهب الإمام يحيى وحكاه لمذهب الهادي والشّافعيّ في أحد قوليه، والجويني (¬6) إلى أنه تجب الزَّكاة [في العاملة السائمة لقول عليّ - رضي الله عنه - فإذا رعت وجبت (¬7)، وذهب مالك (¬8) وربيعة إلى وجوب الزَّكاة] في المواشي، وإن لم تكن سائمة بأن تكون معلوقة لعموم قوله: "في كلّ أربعين من الغنم" الحديث، "وفي ثلاثين من البقر" الحديث (¬9)، "وفي خمس من الإبل" الحديث (9)، والجواب بأن ذلك عموم، وهذا خصوص، والعمل بالخاص فيما تناوله هو الواجب. وإذا اختلف في العلّف والسوم فمذهب الهادي والشّافعي (¬10) أنّ العبرة بالأغلب، إذْ هو كالكل في أكثر الأحكام، واعتبر الإمام المهدي معه ذلك طرفي الحول، فلا بد أنّ يسام في أكثر الوسط مع طرفي الحول قياسًا ¬

_ (¬1) الدارقطني 2: 104، البيهقي 4: 116. (¬2) و (¬3) البيهقي 4: 116. (¬4) فيه محمّد بن حمزة الرقي منكر الحديث، الميزان 3: 529، لسان الميزان 5: 148. (¬5) المجموع 5: 304. (¬6) البحر 2: 157. (¬7) لم أقف عليه في كتب السنن وفي المجموع: زيد بن عليّ. جواهر الأخبار 2: 155. (¬8) البحر 2: 157. (¬9) تقدّم. (¬10) البحر 2: 157.

على كمال النصاب، وللشافعي (¬1) قولان؛ أحدهما يسقط بعلف ثلاثة أيّام إذ لا تصبر في مثلها، والثاني إن نوى جعلها معلوفة سقطت بمرة كنية القنية. 461 - وعن عَمرو بن شُعَيْب عن أبيه عن جده عبد الله بن عمرو أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من ولي يتيمًا له مال فليتجر له ولا يتركه حتّى تأكله الصَّدقة" رواه التّرمذيّ والدارقطني (¬2)، وإسناده ضعيف وله شاهد مرسل عند الشّافعيّ، في إسناد الحديث المثنى بن الصباح وهو ضعيف (¬3)، وقد قال التّرمذيّ (¬4): إنّما يروى من هذا الوجه. وقد رُوي عن عمرو بن شعيب عن عمر بن الخطّاب موقوفًا عليه، انتهى. وقال مهنا (¬5): سألتُ أحمد عنه فقال: ليس بصحيح يرويه المثنى عن عمرو، ورواه الدارقطني (¬6) من حديا أبي إسحاق الشيياني أيضًا عن عمرو بن شُعَيْب، لكن رواية مندل بن عليّ وهو ضعيف (¬7)، ومن حديث العرزمي عن عمرو (¬8)، والعرزمي ضعيف متروك (¬9)، ورواه ابن عدي (¬10) ¬

_ (¬1) البحر 2: 157. (¬2) التّرمذيّ (وأوله ألا مَنْ) الزَّكاة في باب ما جاء في زكاة مال اليتيم 3: 32 ح 641، الدارقطني، الزَّكاة باب وجوب الزَّكاة في مال الغني واليتيم 2: 110، الأم 2: 23. (¬3) المثنى بن صباح اليماني الأنباري ضعيف، اختلط بآخره. التقريب 328. (¬4) التّرمذيّ 3: 32، 33. (¬5) التلخيص 2: 166. (¬6) الدارقطني 2: 110. (¬7) مر في حديث 348. (¬8) الدارقطني 2: 11. (¬9) محمّد بن عبيد الله العرزمي متروك، الميزان 3: 635، التقريب 309. (¬10) الكامل 7: 2604.

من طريق عبد الله بن عليّ، وهو الإفريقي وهو ضعيف (¬1)، وقال الدارقطني في "العلل" رواه حسين المُعَلِّم عن مكحول عن عمرو بن شعيب عن سعيد بن المسيَّب عن عمر، ورواه ابن عيينة عن عمرو بن دينار عن عمرو بن شعيب عن عمر، ولم يذكر ابن المسيَّب، وهو الّذي عناه التّرمذيّ، والمرسل الّذي رواه الشّافعيّ (أ)، وهو قوله - صلى الله عليه وسلم -: "ابتغوا في أموال اليتامى لا تأكلها الزَّكاة" (¬2)، وقد أخرجه الشافعي عن عبد المجيد بن أبي رواد عن ابن جُريج عن يوسف بن مَاهَك به مرسلًا، وقد أكده الشافعي بعموم الأحاديث الصحيحة في إيجاب الزَّكاة مطلقًا (¬3)، وقد روى مثله عن أنس مرفوعًا، أخرجه الطَّبرانيُّ في "الأوسط" (¬4)، وقد روى مثله الشّافعيّ عن ابن عمر موقوفًا (¬5)، وأخرج أيضًا مالك في الموطَّأ عن القاسم بن محمّد قاسم: "كانت عائشة تليني وأخًا لي يتيمًا في حجرها، وكانت تخرج من أموالها الزَّكاة" (¬6)، وهو مروي أيضًا عن عليّ - رضي الله عنه - من طرق، أخرجها البيهقي وابن عبد البر (¬7). ¬

_ (أ) بحاشية الأصل وهـ: وأخرج عبد الرزّاق والدارقطني والبيهقي ذلك موقوفًا على عمر، وصححه البيهقي.

والحديث فيه دلالة على وجوب الزَّكاة في مال الصبي، وأنه كمال المكلَّف، ولكن الواجب على وليه الإخراج لهذا ولعموم أدلة الزَّكاة، كقوله "في الرقة ربعِ العشر" (¬1) ونحوه، وقد ذهب إلى هذا طوائف من الصّحابة كعلي وعمر وابن عمر وعائشة (¬2)، ومن التابعين كابن أبي ليلى، ومن بعدهم كالثوري والنخغي، ومن الأئمة كالهادي والمؤيد والشّافعيّ وغيرهم (2)، وذهب ابن عبّاس وزيد بن علي والناصر والصادق وأبو حنيفة وأصحابه وابن شبرمة إلى أنه يلزمهم العشر (¬3) لعموم دليله لا غيره لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "رفع القلم ... " الحديث (¬4)، وذهب ابن مسعود (¬5) إلى أنه لا يخرج الولي بنفسه من مال الصبي، قال فيما أخرجه البيهقي عنه: "من ولي مال يتيم فليحص عليه السنين، فإذا دفع إليه ماله أخبره بما فيه من الزَّكاة، فإن شاء زكي وإن شاء ترك" (¬6) وأعله الشّافعي بالانقطاع (¬7)، وبأن راويه ليث بن أبي سليم، وهو ليس بحافظ، وقد روي مثله عن ابن عبّاس (¬8)، وفي إسناده ابن لهيعة (¬9). ¬

_ (¬1) تقدّم. (¬2) المغني 2: 622 وذكر النووي في المجموع أنّ رأي ابن أبي ليلى فيما ملكه زكاة لكن إن أداها الوصي ضمن. 5: 283 ويحكى عن النووي تجب الزَّكاة ولا تخرج حتّى يبلغ الصبي. المغني 2: 622. (¬3) المغني 2: 622، المجموع 5: 282. (¬4) أبو داود الحدود، باب في المجنون يسرق أو يصيب حدًّا 4: 558 ح 4398، ابن ماجة الطّلاق، باب طلاق المعتوه والصغير والنائم 1: 658 ح 2041، أحمد 6: 100. (¬5) المغني 2: 622. (¬6) البيهقي 4: 108. (¬7) الانقطاع بين مجاهد وبين ابن مسعود 4: 108. (¬8) البيهقي 4: 108. (¬9) تقدّم في ح 28.

وفي قوله "حتى تأكله الصدقة": دلالة على أن الزكاة لا تتعلق بالعين حتى تمنع وجوب الزكاة بنقصان النصاب، وإن كان ذلك يحتمل التأويل بأنه يصدق بأكل البعض منه مجازًا، والله أعلم. 462 - وعن عبد الله بن أبي أوفى قال: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أتاه قوم بصدقتهم قال: "اللهم صَلِّ عليهم". متفق عليه (¬1)، لفظ البخاري قال: "اللهم صلِّ على آل فلان، فأتاه أبي بصدقته فقال: اللهم صل على آل أبي أوفى" (¬2). في الحديث دلالة على أنه مشروع من قابض الزكاة الدعاء لمؤتيها، وظاهر هذا أن عادة النبي - صلى الله عليه وسلم - كانت بذكر لفظ الصلاة، وهو مؤيد بقوله تعالى: {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} (¬3) ولكنه غير متعين ذلك اللفظ لما أخرجه النسائي من حديث وائل بن حجر (¬4) أنه - صلى الله عليه وسلم - قال في رجل بعثه ساعيا في الزكاة: "اللهم بارك فيه وفي إبله" وترجم البخاري في ذلك باب صلاة الإمام ودعائه لصاحب الصدقة (¬5)، وكأنه أراد الإشارة إلى ما ورد في الحديث. وقد استدل بعض أهل الظاهر بهذا على وجوب الدعاء من الإمام، وآخذ الصدقة، وحكى وجهًا لبعض الشافعية، وأجيب بأنه لو كان واجبًا لعلمه النبي - صلى الله عليه وسلم - السعاة، ولأن سائر ما يأخذه الإمام من الكفارات وغيرها لا يجب عليه فيها الدعاء، وكذلك الزكاة، وأما الأمر في الآية ¬

_ (¬1) البخاري المغازي باب غزوة الحديبية 7: 448 ح 4166، مسلم الزكاة، باب الدعاء لمن أتى بصدقته 2: 756 ح 176 - 1078. (¬2) البخاري كتاب الزكاة، باب صلاة الإمام ودعائه لصاحب الصدقة 3: 361 ح 1497. (¬3) سورة التوبة الآية 103. (¬4) النسائي الزكاة، باب الجمع بين المتفرق، والتفريق بين المجتمع 5: 21. (¬5) البخاري 3: 361.

الكريمة فيحتمل أن يكون إيجابًا على الرسول - صلى الله عليه وسلم - خاصًّا به لكون صلاته سَكَنٌ لهم. واستدل أيضًا بجواز الصلاة على غير الأنبياء، وكرهه مالك والجمهور، وقال جماعة من العلماء: يدعو آخذ الصدقة للمتصدق بهذا الدعاء لهذا الحديث، وأجاب الخطابي (¬1) بأن أصل الصلاة الدعاء إلا أنه يختلف بحسب المدعوِّ له، فصلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - على أمته دعاء لهم بالمغفرة، وصلاة أمته عليه دعاء له بزيادة القربة والزلفى، ولذلك كان لا يليق بغيره، انتهى. وفي قوله "اللهم صل على آل أبي أوفى": مراد بالآل النفس، لأن الآل يطلق على ذات الشيء كقوله "لقد أوتي مزمارًا من مزامير آل داود" (¬2)، وقيل: لا يقال ذلك إلا في حق الرجل الجليل القدر. 463 - وعن عليّ - رضي الله عنه - أن العباس - رضي الله عنه - سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - "في تعجيل صدقته قبل أن تحل، فرخص له في ذلك" رواه الترمذي والحاكم (¬3). الحديث أخرجه أحمد وأصحاب السنن والحاكم والدارقطني والبيهقي من حديث الحجاج بن دينار عن الحكم بن عيينه عن جُحَيَّة بن عدي عن ¬

_ (¬1) معالم السنن 2: 203. (¬2) البخاري فضائل القرآن، باب حُسْن الصوت بالقراءة للقرآن 9: 92 ح 5048، مسلم صلاة المسافرين، باب استحباب تحسين الصوت بالقرآن 1: 546 ح 236 - 793 م. (¬3) أبو داود الزكاة، باب في تعجيل الزكاة 2: 275 ح 1624، الترمذي الزكاة، باب في تعجيل الزكاة 3: 63 ح 678، ابن ماجه الزكاة، باب تعجيل الزكاة قبل محلها 1: 572 ح 1795، الحاكم معرفة الصحابة 3: 332، الدارقطني الزكاة، باب تعجيل الصدقة قبل الحول 2: 123 ح 3، البيهقي الزكاة، باب تعجيل الصدقة 4: 111.

علي، وذكر الدارقطني الاختلاف فيه على الحكم، ورجح رواية منصور عن الحسن بن مسلم بن يناق عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسلًا، وكذا رجحه أبو داود (¬1)، وقال البيهقي (¬2): قال الشافعي: روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه تسلف صدقة مال العباس قبل أن يحل، ولا أدري أثبت أم لا، قال البيهقي: عنى بذلك هذا الحديث، وهو معتضد بحديث أبي البختري عن على - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنا كنا احتجنا فأسلفنا العباس صدقة عامين" (¬3)، رجاله ثقات إلا أن فيه انقطاعًا (¬4). وقد ورد هذا المعنى بألفاظ مختلفة، ومجموعها يدل على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قبض من العباس زكاة عامَيْن، واختلفت الرواية هل هو استسلاف من النبي - صلى الله عليه وسلم - أو تقديم من العباس ابتداء، ولعلهما واقعتان جميعًا. والحديث فيه دلالة على صحة تعجيل الزكاة قبل أن يحل وقت وجوبها، وقد ذهب إلى هذا الهادي والقاسم والمؤيد بالله والحنفية والشافعية (¬5)، إلا أن ذلك مخصوص بالمالك، ولا يصح التعجيل من المتصرف بالوصاية أو الولاية، ولعل وجه ذلك أن فيه تبرعًا بالإخراج قبل وجوبه، وذلك إنما هو للمالك، ولأنه يجوز ذهاب المال قبل وجوب الإخراج. قال المؤيد بالله (¬6): والتعجيل أفضل، وقد صح عن أبي هريرة أنه كان يقبض زكاة الفطر في رمضان (¬7) مع أن وقت وجوبها هو يوم ¬

_ (¬1) أبو داود 2: 276. (¬2) السنن 4: 111. (¬3) البيهقي 4: 111. (¬4) الانقطاع بين أبي البختري وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهم. سنن البيهقي 4: 111، التهذيب 4: 72. (¬5) البحر 2: 188، المجموع 6: 86، المغني 2: 630. (¬6) البحر 2: 188. (¬7) البخاري الوكالة، باب إذا وكل رجلا فترك الوكيل شيئًا ..... ، 4: 487 ح 2311.

العيد، وكذا صح عن ابن عمر أنهم كانوا يخرجونها قبل يوم العيد باليوم واليومين (¬1)، وذهب الناصر ومالك وربيعة وداود وأبو عبيد بن الحارث إلى أنه لا يجزئ التعجيل لا تقدم من حديث الترمذي حتى يحول عليه الحول (¬2). والجواب عنه بأن المراد به أنه لا وجوب حتى يحول عليه الحول، وهو لا ينفي جواز التعجيل، قالوا: ولأن ذلك كالعبادة قبل الوقت، والجواب عنه بأن العبادة قبل الوقت لا يحصل سبب وجوبها، وهنا قد حصل سبب الوجوب وهو ملك النصاب، وحول الحول إنما هو شرط للوجوب، وفرق بين التقديم على السبب والتقديم على الشرط كالحج، فإن وجوبه مشروط بالاستطاعة، وهو يصح فعله قبلها، وفرق أيضًا حديث العباس، وقال الإسفرائيني (¬3): لا يصح لعامين، وهو مردود بحديث العباس، ولا يصح التعجيل قبل ملك النّصاب لعدمِ حصول سبب الوجوب، واعتبر الحنفية والشافعية كمالَ النصاب آخر الحَوْل الذي وقع فيه التعجيل، ولو كان وقت التعجيل ناقصا ولا يكمل النصاب بالمعجل إلى الفقر أو لا يزكي إذ هو تمليك لهم، وذهب الشافعي وأصحابه إلى أنه يحتسب به، قال: لأن التعجيل رفق بالمساكين، وهذا ينافيه لتفويتها عليهم فلزم الاحتساب به، وأما المصدق فاتفاق أن التعجيل إليه ليس بتمليك. 464 - وعن جابر - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "ليس فيما دون خمس أواقي من الورق صدقة، وليس فيما دون خمس ذود من الإِبل صدقة، وليس فيما دون خمسة أَوْسُق من التمر صدقة" ¬

_ (¬1) البخاري الزكاة، باب صدقة الفطر على الحر والمملوك 3: 375 ح 1511. (¬2) البحر 2: 188، المغني 2: 630. (¬3) البحر 1: 188.

رواه مسلم (¬1)، وله من حديث أبي سعيد "ليس فيما دون خمسة أو ساق من تمر ولا من حبٍّ صدقة" (¬2). وأصل حديث أبي سعيد متفق عليه (¬3). قوله: "ليس فيما دون خمس أواقي" هكذا وقع في رواية لمسلم بإثبات الياء، وفي باقي روايته "أواق" بحذفها، وكلاهما صحيح، قال أهل اللغة: الأوقيَّةَ بضم الهمزة وتشديد الياء وجمعها أواقيّ بتشديد الياء وتخفيفها (أ (وأواق بحذفها. قال ابن السكيت في "الإصلاح": كل ما كان من هذا النوع واحده مشدد خافي جمعه التشديد التخفيف) أ) كالأوقية والأواقي والسري والسراوي والتحتية والعلية والأثفبة ونظائرها، وأنكر جمهورهم أن يقال في الواحدة، وفيه بحذف الهمزة، وحكى اللحياني جوازها بفتح الواو، وجمعها وقايا. والأوقية: أربعون درهمًا كما تقدم. الورق: بفتح الواو وكسرها وكسر الراء وإسكانها والمراد به الفضة مطلقًا، وقيل هو حقيقة في المضروب، ولا يطلق على غيره إلا مجازًا، وقد تقدم ما يتعلق بذلك من الفقه. والذَّوْد (¬4): بفتح الذال المعجمة وسكون الواو ما بين الثلاث إلى العشر [من الإبل لا واحد له من لفظه، وإنما يقال في الواحد بعير، وقال الجمهور: هو من الثلاث إلى العشر]، قال أبو عبيد (¬5): ما بين ثلاث إلى ¬

_ (أ - أ) في الأصل وغيره.

تسع مختص بالإناث، وأنكر ابن قتيبة أن يُقَال خمس ذود كما لا يقال خمس ثوب وغُلِّطَ بأن هذا اللفظ شائع في الحديث الصحيح، مسموع من العرب، موجود في كتب اللغة، وليس هو جمع لمفرد بخلاف الأثواب، وقال أبو حاتم السجستاني: تركوا القياس في الجَمْع فقالوا: خمس ذود لخمس من الإبل، وثلاث ذود لثلاث من الإبل، وأربع ذود وعشر ذود على غير قياس، كما قالوا ثلاثمائة ونحوه (¬1)، وقد روي في الحديث بتنوين خمس وإتباع ذود على الصفة، ورواية الجمهور بالإضافة، وهو المشهور. ولفظ ذود مؤنث ولذلك أنث له اسم العدد، نص عليه سيبويه وقال: وليس باسم كسر عليه مؤنث. فائدة: قال الأصمعي: الذود ما بين الثلاث إلى العشر، والصبه خمس أو ست، وفي القاموس (¬2) بالضم وهي السرية من الخيل والإبل والغنم أو ما بين العشرة إلى الأربعين، إذ هي من الإبل ما دون المائة، والصِّرمة ما بين العشر إلى العشرين، وفي القاموس (¬3): الصرمة بالكسر ما ما بين العشرين إلى الثلاثين، والعكرة: ما بين العشرين إلى الثلاثين، وفي القاموس (¬4)، العكرة: القطعة من الإبل، والهجمة: ما بين الستين إلى السبعين، وفي القاموس (¬5): الهجمة من الإبل: ما لها أربعون إلى ما زاد أو ما بين السبعين إلى المائة أو إلى دونها، والهنيدة مائة، وفي القاموس (¬6): الهنيدة اسم للمائة من الإبل أو لما فوقها ودونها أو للمائتين ¬

_ (¬1) الفتح 3: 323. (¬2) القاموس 1: 94. (¬3) القاموس 4: 140 - 141. (¬4) القاموس 2: 98. (¬5) القاموس 4: 190. (¬6) القاموس 1: 362.

كهيدة، والخِطرْ نحو مائتين، وفي القاموس (¬1): الخِطرْ بكسر الخاء: الإبل الكثير أو أربعون أو مائتان أو ألف منها، والعرج: من خمسمائة إلى ألف، وفي القاموس (¬2): العرج القطيع من الإبل نحو الثمانين أو منها إلى التسعين أو مائة وخمسون وفوقها، أو من خمسمائة إلى ألف، والجمع أعراج وعروج، وقال أبو عبيدة وغيره: الصرمة من العشر إلى الأربعين (¬3). وقوله "أوساق": جمع وَسْق بكسر الواو وفتحها، والمراد به ستون صاعًا كل صاع خمسة أرطال وثُلُث بالبغدادي، وفي رطْل بغداد أقوال أظهرها أنه مائة درهم وثمانية وعشرون درهمًا وأربعة أسباع درهم، وقيل: مائة وثمانية وعشرون درهمًا، وقيل مائة وثلاثون، والخمسة الأوسق ألف وستمائة رِطْل بالبغدادي (¬4)، وقد ذهب إلى تقديره بالوزن زيد بن علي والناصر والمؤيد وأبو حنيفة والشافعي ومالك (¬5)، قالوا لاتفاق أهل المدينة على تقديره به، وهم أعرف. وذهب الهادي والقاسم إلى أنه يقدر بالكيل لظاهر الخبر، والوزن في المدينة إنما أمر به هارون حين تناظر أبو يوسف ومالك وأحضروا صيعانهم التي روي أنها عهده، - صلى الله عليه وسلم -، فالصاع حينئذ أربعة أمداد بمده - صلى الله عليه وسلم -، والجمهور على أنَّ مُدَّه - صلى الله عليه وسلم - رِطْل وثُلُث وزيادة يسيرة بالبغدادي، وهو ¬

_ (¬1) القاموس 2: 22. (¬2) القاموس 1: 206. (¬3) انظر شرح صحيح مسلم للنووي 3: 4، 5. (¬4) تقدم في حديث القلتين. (¬5) قال الإمام النووي: "هذا الذي صححه الرافعي من الاعتبار بالكيل هو الصحيح، وقال أيضًا: إن الاعتماد في ذلك على الكيل لا الوزن". 5: 416 - 6: 69 - البحر 2: 170. وقال الإمام ابن قدامة: "والنصاب معتبر بالكيل، فإن الأوساق مكيلة وإنما نقلت إلى الوزن لتضبط وتحفظ وتنقل، ولذلك تعلق وجوب الزكاة بالمكيلات دون الموزونات". المغني 2: 701.

الذي رجع إليه أبو يوسف حين ناظره مالك بشهادة أهل المدينة، وكان أبو حنيفة يقول: إن المُدَّ رِطْلَان والصاع ثمانية أرطال. واختُلف هل هذا التقدير تقريب أو تحديد؟ فيه وجهان لأصحاب الشافعي، وفائدة الخلاف أنه على وجه التقريب تجب الزكاة وإنْ نقص قليلًا، وعلى وجه التحديد لا تجب، وهذا الحديث مخصص لعموم: "فيما سَقَت السماءُ العُشْر" (¬1) فلا تجب الزكاة فيما دون ذلك، وقد ذهب إلى هذا الجمهور منهم على وابن عمر وجابر والهادي والقاسم والمؤيد والشافعي وأبو يوسف ومحمد والثَّوْريُّ (¬2)، وذهب زيد بن علي والنخعي وابن عباس وأبو حنيفة إلى العمل (¬3) لعموم قوله: "فيما سقت السماءُ العُشْر" فتجب الزكاة فيما قَلَّ وكُثَر وتخصيصه بحديث الأوساق ممنوع، وذلك أن حديث العموم مشهور، له حكم المعلوم عندهم، وحديث الأوساق ظني فلا يقوى على تخصيصه. وقد حكى أبو الحسين والرازي عن الشيخ أبي الحسن الكرخي أن المبين إذا كان لفظًا معلومًا وجب كون بيانه مثله وإلا لم يقبل، ولهذا لم يقبل خبر الأوساق مع قوله لا فيما سقت السماء العشر". انتهى. وهذا بناء منهم على أن دلالة العموم على ما تحته من الأفراد قطعية، وهو ممنوع، ولكن لا يتم العمل بالتخصيص إلا إذا كان خبر الأوساق متأخرًا، وأما إذا كان متقدمًا فيستقيم ذلك على أصل الشافعي ومن قال بقوله مِنْ بِنَاء العام على الخاص مطلقًا، وأما على قول الجمهور منْ أنَّ العامَّ المَتأخر ناسخ للخاص المتقدم فلا ينم العمل به، بل العمل بالعام على تقدير تأخره أو التوقف مع جهل التاريخ والرجوع إلى غيره إنْ وُجِدَ. ¬

_ (¬1) انظر تخريجه في الحديث التالي. (¬2) و (¬3) البحر 2: 170.

وذهب الناصر إلى العمل بحديث الأوساق في التمر والزبيب والبُر والشعير والعمل بعموم: "فيما سقت السماء العُشر" في غير ذلك جمعًا بين الأدلة، ويُجَابُ عنه بأن النَّصَّ على ما ذكر لا يقتضي الوقوف عليه مع إثبات حجية القياس، فلا وجه لذلك، والله أعلم. 465 - وعن سالم بن عبد الله عن أبيه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "فيما سقت السماء والعيون أو كان عَثريَّا العُشْر، وفيما سُقِي بالنَّضح نصف العُشْر" رواه البخاري (¬1)، ولأبي داود أيضًا "العشر، وفيما سُقي بالسواني أو النضح نصف العشر" (¬2). المراد بما سقت السماء هو ما كان من المطر أو الثلج أو البرد أو الطل والعيون، وهي الأنهار الجارية التي يسقى منها بإساحة الماء من غير اغتراف منه بآلة، والعثَرِيُّ بفتح العين المهملة وفتح الثاء وكسر الراء المهملة وتشديد الياء المنقوطة من أسفل بنقطتين (¬3)، وحكى ابن الأعرابي تشديد الثاء المثلثة، ورده ثعلب، وحكى ابن عديس في "المثلث" منه ضم أوله وإسكان ثانيه (¬4)، واختُلِف في معناه، فقيل هو الذي يشرب بعروقه لأنه عثر على الماء قاله الخطابي، وهو ما كان الماء قريبًا من وجه الأرض فيغرس فتصل العروق إلى الماء فتستغني عن السقي. وقيل العَثَرِيُّ هو الماء المستنقع في بركة ونحوها يصب إليه ماء المطر في ¬

_ (¬1) البخاري الزكاة، باب العشر فيما يسقى من ماء السماء بالماء الجاري 3: 347 ح 1483، أحمد 3: 341. (¬2) لفظ أبي داود "فيما سقت السماء والأنهار والعيون أو كان بعلًا العشر، وفيما سقي بالسواني أو النضح نصف العشر". الزكاة، صدقة الزرع 2: 252 ح 1596. (¬3) مشارق الأنوار 2: 67. (¬4) الفتح 3: 349.

وقيل العَثَرِيُّ هو الماء المستنقع في بركة ونحوها يصب إليه ماء المطر في ساق تساق إليه، وسمى بذلك لأن الماء تتغير فيها، وقال أبو عبيد (¬1): إن العثري ما سقت السماء، والظاهر هو الأول بقرينة مغايرة العطف، وقال بعضهم: العشري هو الذي لا حمل له، ولا يصح هذا لأن ما لا حمل له لا زكاة فيه. والنَّضْح بفتح النون وسكون الضاد المعجمة بعدها مهملة، والمراد به ما سقي بالسانية، وهي رواية مسلم، والمراد بها الإبل التي يستقى عليها، والبقر وغيرها مثلها في الحُكْم، وعطف النضح على السواني في رواية أبي داود يدل على أنَّ النَّضْحَ ما كان بآلة غير السواني، والحكم في ذلك واحد لأن المقصود الاحتياج إلى تعب، ومن أوله في السقي. والبعُل بفتح الباء الموحدة وضم المهملة: وهو النخل الذي يشرب بعروقه (¬2)، وظاهر الحديث أنه يجب العشر فيما يسقي بما ذكر، ونصف العُشْر فبالنضح حيث كان جميعه، وأما إذا كان بعض السقي من السني وبعضه من غيره وجب الزكاة بالتقسيط، وقال المؤيد وأبو طالب وأحمد بن حنبل: العبرة بالأكثر، وهو قول الثوري وأبي حنيفة وأحد قولي الشافعي (¬3)، والقول الثاني يؤخذ بالتقسيط (¬4)، وعن ابن القاسم صاحب مالك العبرة بما تم به الزرع وانتهى ولو كان أقل، وعلى القول بالتقسيط إذا استوى أو التبس فنصفان إذ لا مخصص، واختلف في التقسيط فقيل حسب العرامة، وهو ظاهر اللمع، وقيل يعتبر بالأوراد وهو أحد قولي الشافعي. ¬

_ (¬1) مشارق الأنوار 2: 16. (¬2) النهاية 1: 141. (¬3) المغني 2: 699، البحر 2: 170، المجموع 5: 224. (¬4) المغني 2: 700، المجموع 5: 422.

466 - وعن أبي موسى الأشعري ومعاذ بن جبل - رضي الله عنهما - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لهما: "لا تأخذا في الصدقة إِلا من هذه الأصناف الأربعة: الشعير والحنطة والزبيب والتمر" رواه الطبراني والحاكم (¬1). وللدارقطني عن معاذ: "فأما القثاء والبطيخ والرمان والقصب فقد عفا عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -" وإسناده ضعيف. الحديث الأول: أخرجه الحاكم من حديث أبي بُرْدَة عن أبي موسى ومعاذ حين بعثهما النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى اليمن يُعَلِّمَان الناس أمر دينهم، قال البيهقي (¬2): رواته ثقات وهو متصل، وروى الطبراني من حديث موسى بن طلحة عن عمر: "إنما سن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الزكاة في هذه الأربعة" فذكرها وهو مرسل (¬3) رواية موسى عن عمر كذا قال أبو زرعة، وروي ابن ماجه والدارقطني (¬4) من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: "إنما سن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الزكاة في الحنطة والشعير والتمر والزبيب" زاد ابن ماجه: "والذرة"، وفي إسنادهما محمد بن عبد الله ¬

_ (¬1) الحاكم الزكاة 1: 401 بلفظ: "لا تأخذوا .... "، والدارقطني الزكاة، باب ليس في الخضراوات صدقة 2: 98، بلفظ: "لا تأخذوا"، ومجمع الزوائد في باب زكاة الحبوب وعزاه إلى الطبراني في الكبير، وقال: رجاله رجال الصحيح والبيهقي الزكاة، باب لا تؤخذ صدقة شيء من الشجر غير النخل والعنب 4: 125 بلفظ: "لا تأخذا". (¬2) البيهقي 4: 126. (¬3) لم أقف عليه في الطبراني وقد ذكر في التلخيص أنه عند الدارقطني، فلعله من المؤلف سبق قلم، التلخيص 2: 176، وعند الدارقطني 2: 196 وهو مرسل؛ لأن موسى بن طلحة لم يدرك عمر. (¬4) ابن ماجه: 1: 580 ح 1815، الدارقطني 2: 96.

العرزمي، وهو متروك (¬1)، وروى البيهقي (¬2) من طريق مجاهد قال: "لم تكن الصدقة في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا في خمسة" فذكرها، ومن طريق الحسن قال: "لم يفرض النبي - صلى الله عليه وسلم - الصدقة إلا في عشرة" (¬3) فذكر الخمسة المذكورة والإبل والبقر والغنم والذهب والفضة. وعن الشعبي (¬4): "كتب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى أهل اليمن إنما الصدقة في الحنطة والشعير والتمر والزبيب" قال البيهقي (¬5): هذه المراسيل طرقها مختلفة، هي تؤكد بعضها بعضا. والحديث الثاني: أخرجه الدارقطني والبيهقي (¬6) من حديث إسحاق بن يحيى بن طلحة عن عمه موسى بن طلحة عن معاذ، وفيه انقطاع لأن موسى لم يسمع من معاذ، كذا قال أبو زرعة (¬7)، وكذا قال ابن عبد البر: إنه لم يدرك معاذًا ولا لقيه، وفي هذا رد على الحاكم حيث قال (¬8): موسى تابعي كبير لا ينكر أنه لقي معاذًا. والحديث فيه دلالة على أنه لا تجب الزكاة فيما عدا الأربعة المذكورة، وقد ذهب إلى هذا الحسن البصري والحسن بن صالح والثوري والشعبي وابن سيرين ورواية أيضًا عن أحمد (¬9)، وذهب الشافعي (¬10) إلى أنها تجب الزكاة في هذه وما شابهها في الاقتيات اختيارًا كالذرة والحمص لورود النص فيما ذكر، وشمول العلة لغيرها، وهي الاقتيات والادخار وعظم المنافع فيها، واحترزنا بالاختيار عما كان يقتات في الاضطرار كحب ¬

_ (¬1) التقريب 309. (¬2) و (¬3) و (¬4) و (¬5) سنن البيهقي 4: 129. (¬6) الدارقطني 2: 59 - البيهقي 4: 129. (¬7) نصب الراية 2: 386. (¬8) الحاكم 1: 401. (¬9) المغني 2: 691. (¬10) المجموع 445:2 - 446.

الغاسول (¬1) ونحوه فإنه ليس في معنى ما ورد به النص، وقال في القديم: تجب الزكاة في الرسون والزعفران والورس والقرطم والعلس لآثار وردت في ذلك، وحكى الرافعي قولين في اللوز والبلوط، وقال أبو يوسف: تجب فيما جرى فيه النقير والرطل فقط، وقال محمد كذلك إلا الحناء، وذهب الهادي والقاسم إلى أنها تجب في كل خارج لعموم الآية، وهي قوله تعالى: {وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ} (¬2)، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "فيما سقت السماء العُشْر" (¬3)، ونحوه إلا الحشيش والحطب (¬4) لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "الناس شركاء في ثلاث" (¬5)، والحطب مقيس على الكلأ. وقال أبو حنيفة بمثله إلا أنه استثنى السعف والتين، والحديث وارد على الجميع، والظاهر مع مَنْ قال به، والمخالفون دفعوا ذلك، والشافعي رجع إلى القياس وحَكَمَ بتخصيصه لعموم حديث معاذ وأبي موسى وهو صحيح، وقريب منه أبو يوسف ومحمد ولكنهما يجعلان العلة كثرة الاحتياج إلى ذلك فكان مظنة التبادر من لفظ العموم لا القياس، والهادي والقاسم رجحا العمل بعموم الآية والحديث، والحديث المخصص ضعيف، قال الإمام المهدي في "البحر" (¬6): لنا عموم الأدلة وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "ليس في الخضروات صدقة" (¬7) ضعيف السند فأسقطه البخاري وضعفه ¬

_ (¬1) هو الأشنان، وقيل حب أسود يابس، يدفن حتى يلين قشره، ثم يزال قشره ويطحن ويخبز، ويقتاته أعراب طيء، ومثلوه بحب الحنظل وسائر بذور البراري. المجموع 5: 446. (¬2) البقرة: الآية 267. (¬3) تقدم من حديث ابن عمر. (¬4) البحر 2: 168. (¬5) أبو داود البيوع، باب في منع الماء 3: 750 ح 3477، أحمد 5: 364 (بلفظ: "المسلمون شركاء .... "). (¬6) البحر 2: 169. (¬7) أخرجه الترمذي في السنن كتاب الزكاة، باب ما جاء في زكاة الخضراوات 3: 21 ح 638 (ط. بيروت) عن معاذ أنه كتب إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - يسأله عن الخضراوات - وهي =

الترمذي، سلمنا فأراد ما لم يبلغ النصاب. انتهى. وقد يُجَابُ عن تضعيف الحديث بأن إسقاط البخاري له لا يقتضي ضعفه، وتضعيف الترمذي له إنما هو سبب إرسال موسى بن طلحة، فإنه رواه عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو تابعي ولكن الإرسال غير قادح عند كثير من الأئمة منهم الإمام المهدي إذا عرف من حال الراوي أنه لا يرسل إلا عن عدل، وقد رواه البيهقي من حديث موسى بن طلحة قال: عندنا كتاب معاذ (¬1)، مع أنه وصله الدارقطني (¬2) فرواه عن موسى بن طلحة عن أبيه مرفوعًا، وقد روي من حديث على مرفوعًا أخرجه الدارقطني بسند ضعيف (¬3)، وعن محمد بن جحش أخرجه الدارقطني (¬4) وفيه عبد الله بن شبيب، قيل: إنه يسرق الحديث (¬5)، وعن عائشة أخرجه الدارقطني (¬6) وفيه صالح بن موسى وفيه ضعف (¬7)، وعن علي وعمر موقوفًا أخرجها البيهقي (¬8)، فهذه الروايات تقوي بعضها بعضًا فيصلح للاحتجاج. ¬

_ = البقول - فقال: "ليس فيها شيء". وقال الترمذي عقبه: "إسناد هذا الحديث ليس بصحيح، وليس يصح في هذا الباب عن النبي - صلى الله عليه وسلم - شيء، وإنما يروي هذا عن موسى بن طلحة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسلًا، والعمل علي هذا عند أهل العلم أن ليس في الخضراوات صدقة". (¬1) بلفظ: "أنه إنما أخذ الصدقة من الحنطة والشعير؛ والزبيب والتمر (4: 128، 129). (¬2) الدارقطني 2: 69. (¬3) الدارقطني 2: 94، 95. وفيه العفر بن حبيب؛ قال ابن حبان: يأتي عن الأثبات بالمقلوبات 2: 317 وقال الذهبي لا يكاد يعرف. الميزان 2: 317، قال في اللسان: "أحمد بن الحارث عن العفر بن حبيب يحدث عن علي: ليس في العوامل صدقة". رواه الدارقطني في السنن. قال ابن القطان: "أحمد مجهول كشيخه". (¬4) الدارقطني 2: 95، 96. (¬5) الميزان 2: 438. (¬6) الدارقطني 2: 95. (¬7) صالح بن موسى بن عبد الله بن إسحاق بن طلحة بن عبيد الله متروك. التقريب 150. (¬8) البيهقي 4: 129، 130.

467 - وعن سهل بن أبي حثمة قال: "أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إِذا خرصتم فخذوا ودعوا الثلث، فإِن لم تدعوا الثلث فدعوا الربع" رواه الخمسة إلا ابن ماجه، وصححه ابن حبان والحاكم (¬1). الحديث في إسناده عبد الرحمن بن مسعود بن نيار (¬2) (أ) الراوي عن سهل، وقد قال البزار (¬3): إنه تفرد به، وقال ابن القطان (¬4): لا يعرف حاله. قال الحاكم (¬5): "وله شاهد متفق على صحته أن عمر بن الخطاب أمر به" انتهى. عن عمر أنه كان يقول للخراص: "دع لهم قدر ما يأكلون وقدر ما يقع" أخرجه عبد الرزاق وابن أبي شيبة وأبو عُبَيْد في "الأموال" والبيهقي (¬6). وأخرج ابن عبد البر (¬7) عن جابر مرفوعًا: "خففوا في الخَرص فإن في المال العرية والواطئة والآكلة" (¬8) الحديث. وفي النهاية (¬9) أنه قال للخراص: "احتاطوا لأهل الأموال في النائية والواطئة" (¬10) الواطئة المارة والسابلة ¬

_ (أ) الأصل وهـ: دينار - خطأ.

سموا بذلك لوطئهم الطريق، يقول استظهروا لهم في الخرص لما ينوبهم وينزل بهم من الضيفان، وقيل: الواطئة سقاطة التمر تقع فتوطأ بالأقدام فهي فاعلة بمعنى مفعولة، وقيل هي من الوطايا جمع وطيئة وهي تجري مجرى العريَّة سميت بذلك لأن صاحبها وطأها لأهله أي ذللها ومهدها فهي لا تدخل في الخرص، ومنه حديث القَدَر وآثار موطوءة أي مسلوك عليها بما سبق من خير أو شر. انتهى. وقد اختلف في معنى هذا فقال ابن حبان: له معنيان أحدهما أن يترك الثلث أو الربع من العشر، وثانيهما أن يترك ذلك من نَفْس الثمر قبل أن يعشر، وقال الشافعي: معناه أن يَدَعَ ثُلُثَ الزكاة أو رُبُعَهَا ليفرِّقها هو بنفسه على أقاربه وجيرانه، وقيل: يَدَعُ له ولأهله قَدْرَ ما يأكلون ولا يخرص، ومقتضى هذا أنه إذا احتاج وأهله إلى الجميع أنْ يترك الجميع، وقد حكاه المنذري كذلك في حواشيه. والأولى الرجوع في تفسير الحديث إلى ما صرحت به رواية جابر، وهو التخفيف في الخرص فيترك من العشر بقدر الربع أو الثلث، فإن الأمور المذكورة قد لا تدرك الحصاد، فلا تجب فيها الزكاة، والأثمار لا تخلو في الأغلب عن ذلك. 468 - وعن عتاب بن أسيد قال: "أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يخرص العنب كما يخرص النخل وتؤخذ زكاته زبيبًا" رواه الخمسة وفيه انقطاع (¬1). ¬

_ (¬1) أبو داود الزكاة، باب في خرص العنب 2: 257 ح 1603، الترمذي، (بنحوه) الزكاة، باب ما جاء في الخرص 3: 36 ح 644، النسائي الزكاة، باب شراء الصدقة 5: 82، ابن ماجه، (بنحوه) الزكاة، باب خرص النخل والعنب 1: 582 ح 1819، الدارقطني الزكاة 2: 132، ابن حبان الزكاة، ذكر الأخبار عما يعمل الخارص في العنب كما يعمله في النخل 5: 118 ح 2368.

وأخرج الحديث الدارقطني وابن حبان أيضًا، والانقطاع من حيث إنه رواية سعيد بن السيب عن عتاب، وقد قال أبو داود: إنه لم يسمع منه (¬1)، وقال ابن قانع: لم يدركه، وقال المنذري: إن مولد سعيد في خلافة عمر، وعتاب مات في اليوم الذي مات فيه أبو بكر، وقال بمثله ابن عبد البر (¬2)، وقد رواه الدارقطني بسند فيه الواقدي عن سعيد بن المسيب عن المسور بن مخرمة عن عتاب بن أسيد (¬3)، وقال أبو حاتم: الصحيح عن سعيد بن المسيب أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر عتابًا مرسل، وهذه رواية عن الزهري (¬4)، قال النووي: هو وإن كان مرسلًا فهو معتضد بقول الأئمة (¬5). والحديث فيه دلالة على وجوب خرص العنب والتمر لأن قول الراوي "أمر" مفهم لوقوع ما يدلّ على الأمر من النبي - صلى الله عليه وسلم -، والأمر ظاهر في الوجوب، وقد ذهب إلى الوجوب الشافعي في أحد قولَيْه (¬6)، قال الإمام المهدي: لا دليل على الوجوب (¬7)، ويجاب عنه بأن الدليل ما عرفت، وذهب الهادوية والشافعي في أحد قوليه إلى أنه مندوب (¬8) قالوا: للمصلحة في ذلك، وقال أبو حنيفة: لا يجوز لأنه رجم بالغيب، ويجاب عنه بأنه عمل بالظن، ورد الأمر به، قال القاسم والهادي والمؤيد وأبو ¬

_ (¬1) سنن أبي داود 2: 258. (¬2) الاستيعاب 8. (¬3) الدارقطني 2: 132. (¬4) العلل 213:1. (¬5) المجموع 5: 407. (¬6) قال النووي: خرص الرطب والعنب اللذين تجب فيهما الزكاة سنة، هذا هو نص الشافعي رحمه الله في جميع كتبه ..... وحكى وجهًا، أنه واجب وهو شاذ ضعيف. (المجموع 5: 435). (¬7) البحر 171:2. (¬8) المجموع 5: 435، البحر 2: 171.

طالب (1): وثمرته أمن الخيانة من رب المال، ولذلك يجب البينة في دعوى النقص بعد الخرص، ومطالبة المصدق بقدر ما خرصه للفقر أو جواز انتفاع المالك بالأكل والانتفاع. وقال المنصور والشافعي: ومن فوائده التضمين لرب المال قدر الزكاة فيضمنه ولو تلف بغالب، كما لو تلف بعد إمكان الأداء (2)، قال الإمام المهدي (3): لا دليل على التضمين، ويجاب عنه بأن في قصة عبد الله بن رَوَاحَة أنه ضمن أهل خيبر بعد أن خرص عليهم (¬4) ولم ينكر عليه النبي - صلى الله عليه وسلم -. ولا بد من لفظ التضمين وقبول المضمن لذلك، وإلا لم يضمن. وقال ابن المنذر (¬5): أجمع من يحفظ عنه العلم أن الخروص إذا أصابته جائحة قبل الجذاذ فلا ضمان (أ). ويكفي خارص واحد عند العترة وأحد قولي الشافعي كعبد الله بن رواحة وعتاب بن أسيد وأحد قولي الشافعي لا بد من عدلين كتقويم جزاء الصيد (¬6)، والجواب أنه لا قياس مع النص. (ولا بد أن يكون عدلًا، لأن الفاسق غير مأمون، عارفًا بالخرص) (ب). والحديث وارد في العنب والتمر ويقاس عليه غيره، وهو ما كان يمكن ضبطه وإحاطة النظر به. ¬

_ (ا) بحاشية الأصل. (ب) بحاشية الأصل.

وعن أبي جعفر وابن (أ) أبي الفوارس أن ذلك يقصر على ورود النص، وقد قال به شريح وبعض أهل الظاهر، ومذهب الهادوية والشافعية (¬1) أنه لا خرص في الزرع لتعذر ضبطه لاستتاره بالقشر، وذهب الإمام يحيى إلى أنه يجوز للمصلحة كالعنب، قال الإمام المهدي (¬2): العنب ممكن الضبط لظهوره فافترقا، وإذا ادعى المالكُ أنه نقص المخروص، فإن كان ذلك بسبب يمكن إقامة البينة عليه وجبت عليه البينة، وإلا صدق مع يمينه وفي عجالة المنهاج ما لفظه: "ولو ادعى هلاك الخروص بسبب خفيٍّ كسرقة أو ظاهر كالنهب والبرد عرف صدقه بيمينه" أي في دعوى التلف بذلك السبب (¬3)، واليمين مستحبة على الأصح (¬4)، فإنْ لم يعرف الظاهر طولب ببينة على الصحيح لإمكانها ثم يصدق بيمينه في الهلاك له أي بذلك السبب والثاني: لا يطالب بها بل القول قوله بيمينه لأنه مؤتمن شرعًا، فإن اقتصر على دعوى الهلاك من غير تعرض لسبب فالمفهوم من كلامهم قبوله مع اليمين، ولو ادعى حَيْف الخارص أو غلطه بما يبعد لم يقبل. أو محتمَل -بفتح الميم- قُبِلَ في الأصح لما نبه عليه من التعليل، والثاني: لا يعدم تحققه. وقوله: "وتؤخذ زكاته زبيبًا" هذا فيما كان يعتبر فيه الترتيب، وأما ما كان لا يعتبر فيه ذلك وإنما يؤخذ رطبًا فالظاهر أن له حكم الخضراوات، والله أعلم. ¬

_ (أ) (ابن) ساقطة من هـ.

469 - وعن عَمرو بن شُعَيْب عن أبيه عن جده: "أن امرأة أتت النبي - صلى الله عليه وسلم - ومعها ابنة لها، وفي يد ابنتها مسكتان من ذهب، فقال لها: أتعطين زكاة هذا؟ قالت: لا، قال: أيسرك أن يسورك الله بهما يوم القيامة بسوارَيْن من نار؟ فألقتهما". رواه الثلاثة (¬1) وإسناده قَويّ، وصححه الحاكم من حديث عائشة - رضي الله عنها - (¬2). 470 - وعن أم سلمة: "أنها كانت تلبس أوْضَاحًا من ذهب فقالت: يا رسول الله أكَنْزٌ هو؟ قال: إِذا أدَّيْتِ زكاته فليس بكنز" رواه أبو داود والدارقطني وصححه الحاكم (¬3). الحديث أخرجه أبو داود من حديث حسين المُعلِّم وهو ثقة عن عمرو، فَجَزْم الترمذي بأنه لا يُعْرَف إلا من حديث ابن لَهْيعَة غير صحيح (¬4). وحديث عائشة أخرجه الحاكم والدارقطني والبيهقي: "أنها دخلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرأى في يدي فتخات من ورق فقال: ما هذا يا عائشة؟ فقالت صغتهن أتزين بهن لك يا رسول الله قال: أتؤدين زكاتهن؟ قالت: لا قال: هو حسبك من النار .. " وإسناده على شرط الصحيح. وفي الباب (أ) عن عمر أخرج ابن أبي شيبة والبيهقي " أنه كتب عمر ¬

_ (أ) بحاشية الأصل.

إلى أبي موسى أنْ مُر (أ) مَنْ قِبَلَك من نساء المسلمين أن يصدقن من حليهنّ" (¬1) وهو مرسل قاله البخاري (¬2)، وقد أنكر الحسن ذلك فيما رواه ابن أبي شيبة قال: لا نعلم أحدًا من الخلفاء قال في الحلي زكاة (¬3). وعن ابن عباس أخرجه ابن المنذر والبيهقي، وقال الشافى: لا أدري أثبت عنه أم لا. وعن ابن مسعود أخرجه ابن المنذر والطبراني والبيهقي أن امرأته سألته على حلي لها، فقال: إذا بلغ مائتي درهم ففيه الزكاة، قالت: أضعها في بني أخ لي في حِجرِي؟ قال: نعم (¬4). والحديث فيه دلالة على وجوب الزكاة في الحلي من ذهب أو فضَّة، وقد ذهب إلى هذا العترة والثوري والنخعي والزهري وأبو حنيفة وأصحابه وأحد قولي الشافعي (¬5)، لهذه الأحاديث وعموم قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ ...} (¬6) الآية. وذهب الحسن البصري والشَّعْبِيّ ومالك وأحمد وإسحاق والشافعي (¬7) إلى أنها لا تَجِب الزكاة في الحلي لما أخرجه الدارقطني من حديث جابر: "ليس في الحُليّ زكاة" (¬8) وفي إسناده أبو حمزة وهو ضعيف، وهو ¬

_ (أ) جـ: أو اؤمر.

متقوي بآثارٍ: أخرج مالك عن ابن عمر أنه كان يحلي بناته وجواريه بالذهب فلا يُخْرجُ منه الزكاة (¬1). وأخرج مالك والشافعي عنه عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه عن عائشة "أنها كانت تلي بنات أخيها يتامى في حجرها لهن الحلي فلا تخرج منه الزكاة" (¬2). وعن جابر أخرج الشافعي أنه سأله رجل عن زكاته فقال: "زكاته عاريته" (¬3) ورواه البيهقي أيضًا، وروى الدارقطني عن أنس وأسماء بنت أبي بكر مثل ذلك (¬4). وقوله: في الحديث "مِسكتان" بكسر الميم وتحريك السين بالفتح مثنى مسكة، وهي أسورة من ذبل أو عاج، فإذا كانت من غير ذلك أضيفت إلى ما هي منه، فيقال من ذهب أو فضة أو نحوهما. والأوضاح: حلي مِن الدراهمِ الصحاح أو الفضة. 471 - وعن سمرة بن جُنْدب - رضي الله عنه - قال: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأمرنا أن نخرج الصدقة من الذي نعده للبيع" رواه أبو داود (¬5)، وإسناده لين، وأخرجه الدارقطني والبزار، وهو من حديث سليمان بن سمرة، وفي إسناده جهالة (¬6). ¬

_ (¬1) مالك 171، الأم 2: 35. (¬2) مالك 170، الأم 2: 34. (¬3) الأم 2: 35 عن عمرو بن دينار: سمعت رجلًا يسال جابر بن عبد الله عن الحلي أفيه زكاة؟ فقال جابر: .... (¬4) الدارقطني 2: 109. (¬5) أبو داود الزكاة، باب العروض إذا كانت للتجارة 2: 211 ح 1562، الدارقطني الزكاة، باب سقوط زكاة مال التجارة، وسقوطها عن الخيل والرقيق 2: 127. (¬6) قال الذهبي في الميزان: "جعفر بن سعد بن سمرة عن أبيه، وعمه سليمان بن موسى له حديث في الزكاة عن ابن عم له .... "، قال الذهبي: "ولكل حال هذا إسناد مظلم لا ينهض بحكم". 407:1 - 408.

والحديث يدل على أنه إذا نوى المالكُ بشيءٍ من ماله البيع أو كان من ابتدائه معدودًا لذلك صار للتجارة، فتجب فيه الزكاة، وهو المتبادر من قوله "نعدّه للبيع"، وقد ذهب إلى هذا الأخير العترة وأكثر الفقهاء (¬1)، واشترطوا أن يكون ابتداء الملك بالاختيار، وهو يتبادر من قوله "نعده"، وذهب أحمد وإسحاق والكرابيسي إلى أنه يصير للتجارة إذا نوى به البيع (¬2)، وإن لم يكن كذلك قالوا لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لكل امرئ ما نوى" ولكنه عام والحديث المذكور خاص، والله أعلم. 472 - وعن أبي هريرة - رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "وفي الركاز الخمس" متفق عليه (¬3). الركاز: عند أهل الحجاز كنوز الجاهلية المدفونة في الأرض، وعند أهل العراق المَعَادِن، والقولان تحتملهما اللغة لأن كلا منهما مركوز في الأرض أي: ثابت، يُقَالُ: ركزه يركزه ركزًا إذا دفنه، وأركز الرجل إذا وجد الركاز، والركاز وهو بكسر الراء وتخفيف الكاف وبعده زاي (¬4)، وصرح مالك كما رواه عنه أبو عبيد في كتاب "الأموال" (¬5)، وهو دفين الجاهلية بكسر الدال وسكون الفاء، قال: وأما المعدن فإنه بمنزلة الزرع تؤخذ منه الزكاة كما تؤخذ من الزرع حين يُحْصَدُ، ومثله قال الشافعي كما أخرج البيهقي في "المعرفة" من طريق الربيع قال الشافعي (¬6): ¬

_ (¬1) البحر 2: 155. (¬2) وحال عليه الحول وبلغ النصاب مالكًا له (الكافي 1: 423). (¬3) البخاري الزكاة، باب في الركاز الخمس 3: 364، مسلم الحدود، باب جرح العجماء والمعدن والبئر جبار 3: 1334 ح 45 - 1710. (¬4) النهاية في غريب الحديث 2: 258. (¬5) الأموال: 424. (¬6) الأم 2: 37.

والركاز الذي فيه الخمس دفن الجاهلية ما وجد في غير مِلْك لأحد. وقال الحسن البصري: "ما كان من رِكَاز في أرض الحرب ففيه الخمس، وما كان في أرض المسلم ففيه الزكاة" أخرجه البخاري تعليقًا (¬1)، قال ابن المنذر: لا أعلم أحدًا فرق هذه التفرقة غير الحسن، وقال أبو حنيفة: الركاز المعدن، وإليه ذهب الثوري، واختاره المهدي، واحتج له بقول العرب: أركز الرجلُ إذا أصاب ركازًا، وهي قِطعَ من الذهب تخرج من المعادن، وقول مالك والشافعي هو الأولى هنا بقرينة العَطْف على المعدن، وهو قوله - صلى الله عليه وسلم -: "العجماء جُبَار، والمَعْدِن جُبَار، وفي الركاز الخمس". واعلم أن في الرِكاز على القولين الخلاف في قدر ما يؤخذ واعتبار الحَوْل والنِّصَاب وعَيْن ما تجب فيه ذلك، فعلى القول بأنه المعادن ذهب القاسم والهادي وأحد قولي الشافعي إلى وجوب الخمس في كل معدن (¬2)، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "الركاز ما نَبَتَ مع الأرض" أخرجه البيهقي عن أبي هريرة (¬3)، واستثنى المؤيد بالله الملح والنفط، والقار (¬4)، لقوله، - صلى الله عليه وسلم -: "الركاز الذهب والفضة". [جوابًا لسؤال مَنْ قال: ما الركاز يا رسول الله (أ)؟] فخرجت الثلاثة، ولأنها ماء منعقد ولا خمس في الماء. ويرد عليه أن قوله: "ما نبت مع الأرض" تعمها، وأحد قولي ¬

_ (أ) بحاشية الأصل.

الشافعي لا تجب فيما عدا الذهب والفضة للحديث، ويجاب عنه بأن الحديث أخرجه البيهقي. [وفي إسناده عبد الله بن سعيد (¬1)، وتابعه حبان بن علي، وعبد الله متروك، وحبان ضعيف] (أ). وقال أبو حنيفة (¬2): لا يجب إلا في المنطبع فيخرج الكحل ونحوه لتخصيصه الذهب والفضة فقِيْسَ المنطبع، وذهب العترة وأبو حنيفة وأصحابه (2) إلى أنه لا يعْتَبَرُ النِّصَاب لعموم الدليل، وذهب الشافعي وأصحابه، ومالك، وأحمد، وإسحاق إِلِى اعتبار النصاب قالوا: لقوله، - صلى الله عليه وسلم -،: "ليس فيما دُوْنَ خمس أوَاق صَدَقَة" ولم يفصل. والجواب بأن الظاهر من الصدقة هو الزكاة فلا يتناول الخمس، وهو محل احتمال إذ الخُمْس له حُكم الزكاة في كونه واجبًا لمصرف مخصوص فلا تعد في تناول الصدقة له، وذهب العترة وأبو حنيفة وأصحابه والزهري وقول للشافعي إلى أن الواجب في المعدنِ الخمس لقوله: "وفي الركاز الخمس"، وذهب أحمد وإسحاق وقول للشافعي إلى وجوب ربع العشر قالوا: لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "وفي الرقة ربع العشر" ولم يفصل، ويقاس غيرها عليها، [ولحديث بلال بن الحارث الآتي قريبًا، والجواب] (ب) مثل الطرف الأول ولا يعتبر الحول عند العترة وأبي حنيفة وأحد قولي الشافعي إذ ¬

_ (أ) بحاشية الأصل. (ب) حاشية الأصل.

لم يفصل الدليل، مالك وأحد قولي الشافعي يعتبر لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول" والجواب مثل ما مر ولا يعتبر إسلام الواجد عند العترة وأبي حنيفة وأصحابه وأحد قولي الشافعي وذهب مالك وأحد قولي الشافعي والعراقيون والثوري والأوزاعي بل حكمه حكم الزكاة، فيشترط الإسلام إذ هو واجب في نام كالزرع والجواب بأنه لم يزرع فكان غنيمة كالفيء. وعلى كون المُرَاد بالركاز الدفين ففيه تفصيل وخلاف، فذهَبتْ الهادوية إلى أنه إنْ وُجِدَ في دار الإسلام فلُقَطَة، وقال أبو حنيفة: إنْ وجد في دار فلصاحبها ولا خُمس إذ هو أحق حيث لم يكن ضربه الإسلام بل جهل حالها، أو كان ضربه كفر وملكه الإمام عقيب الفتح، وإنْ كان في دار الحرب فغنيمة. وعند أبي حنيفة لا خمس فيه لأنه وجده في موضع لم يظهر عليه المسلمون ولم يزحفوا عليه بخيل ولا ركاب. وعند الشافعي إنْ كان في موات دار الحرب فغنيمة ولا خمس، وعنه يخمس والباقي له ولجيش الإمام، وعند الهادوية وعن الشافعي أن آلة الذهب والفضة إن وجدت فكالركاز، وعنه بل لُقَطَة، وأما المنبوذ على وجه الأرض فله حكم الدار مطلقًا. 473 - وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال في كنز وَجَدَه رجل في خربة: "إِنْ وجدته في قرية مسكونة فعرِّفْه، وإن وجدته في قرية غير مسكونة ففيه وفي الركاز الخمس" أخرجه ابن ماجه بإسنادٍ حسن (¬1). ¬

_ (¬1) الشافعي في الأم 2: 37، وأخرجه أبو داود اللقطة، باب اللقطة ح ا 17، وأبو عبيد في =

وأخرج نحوه الشافعي عن عمرو بن شعيب بلفظِ إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في كَنْزٍ وجده رجل في خربة جاهلية: "إن وجدته في قرية مسكونة أو طريق ميتاء فعرِّفه، فإن وجدته في خربة جاهلية أو قرية غير مسكونة ففيه وفي الركاز الخمس". وأخرجه أبو داود أيضًا، وأخرجه النسائي والحاكم والبيهقي، وأخرج سعيد بن منصور عن علي "أن رجلًا وجد ركازًا، فأداه به فأخذ علي منه الخمس وأعطى بقيته للذي وجده". رواه من وجه آخر عن الشعبي وكذلك ابن أبي شيبة. الحديث فيه دلالة على بعض ما تقدم في التفصيل، والظاهر في الخربة في عصر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن المالك في الأصل كافر، والقرية المسكونة الظاهر فيها إسلام أهلها أو دخولهم في الذمة فيحمل على ذلك، والقرية غير المسكونة محمولة على أنها من مساكن الحربيين، والله أعلم، والطريق الْمِيتاء: بكسر الميم هي المسلوكة بالاستطراق (¬1). 474 - وعن بلال بن الحارث أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "أخذ من المعادن القبلية الصدقة" رواه أبو داود (¬2). هو أبو عبد الرحمن: بلال بن الحارث بن عُصْم -بضم العين وسكون الصاد المهملتين- المزني، وفد على النبي - صلى الله عليه وسلم - في وفد مُزَيْنَة ¬

_ = في الأموال ح 858، 860، وأحمد ح 6683، 6936، والبيهقي 4: 155، والنسائي في الكبرى (كما في تحفة الأشراف 6/ 330). وصححه الحاكم 2: 56 ووافقه الذهبي، وانظر التلخيص الحبير 2: 182. (¬1) النهاية 4: 378. (¬2) أبو داود كتاب الخراج، باب في إقطاع الأرضين 3: 444 ح 3062 من حديث كثير بن عبد الله عن أبيه، عن جده، ولفظه: "أقطع بلال بن الحارث المزني معادن القبيلة ورواه مرسلًا ح 3061، البيهقي 4: 151 - 152، مالك الزكاة 169، الحاكم البيوع 2: 65.

سنة خمس من الهجرة وسكن بالأشعر وراء المدينة، وكان أحد من يحمل ألوية مزينة يوم الفتح، روى عنه ابنه الحارث وعلقمة بن وقاص، مات سنة ستين، وله ثمانون سنة (¬1). الحديث رواه أبو داود، والطبراني، والحاكم، والبيهقي موصولًا، ورواه مالك في "الموطأ" عن ربيعة عن غير واحد من علمائهم أنه - صلى الله عليه وسلم - أقطع بلال بن الحارث المزني المعادن القبلية، وأخذ منها الزكاة دون الخمس، وهي من ناحية الفرع، فتلك المعادن لا تؤخذ منها إلا الزكاة إلى اليوم. قال الشافعي بعد أن روى حديث مالك (¬2): "ليس هذا مما يثبته أهل الحديث، ولم تكن فيه رواية عن النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا إقطاعه، وأما الزكاة في المعادن دون الخمس فليست مروية عن النبي - صلى الله عليه وسلم -". قال البيهقي: هو كما قال الشافعي في رواية مالك، وقد روي عن الدراوردي عن ربيعة موصولًا (¬3)، ثم أخرجه عن الحاكم، والحاكم أخرجه في المستدرك (¬4)، وكذا ذكره ابن عبد البر من رواية الدراوردي. قال: ورواه أبو سبرة المديني عن مطرف عن مالك عن محمد بن عمرو عن علقمة عن أبيه عن بلال موصولًا، لكن لم يتابَع عليه، قال: وقد رواه أبو أوَيْس عن كثير بن عبد الله عن أبيه عن جده، وعن ثَوْر بن يزيد بن عكرمة عن ابن عباس، وقد أخرجه أبو داود أيضًا (¬5) عن أبي أويس من الطريقَيْن بلفظ: "أقطع بلال بن الحارث المعادن القبلية جليسها وغورتها"، ¬

_ (¬1) الإصابة 1: 273 رقم 73. (¬2) الأم 2: 36. (¬3) البيهقي 4: 152. (¬4) المستدرك 2: 65. (¬5) أبو داود 3: 444.

وفي لفظ: "جلسها وغورها"، وحيث يصلح الزرع من قدس، ولم يعطه حق مسلم، وكتب له بذلك كتابًا، انتهى. والقبليَّة منسوبة إلى "قَبَل" -بفتح القاف والباء- وهو موضع من ناحية الفُرْع -بضم الفاء وسكون الراء وبالعين المهملة- قرية بين مكة والمدينة على نحو من أربع مراحل من المدينة (¬1). وجلسها منسوب إلى "جَلْس" -بفتح الجيمِ وسكون اللام- وهو ما ارتفع من الأرض، والغوريّ منسوب إلى "الغوْر" -بفتح الغين المعجمة وسكون الواو وهو ما انخفض (¬2). والحديث يدل على وجوب الصَّدَقَة في المعادن، فعلى رواية الصدقة يحتمل أن يريد بها الزكاة كما هو المتبادر من لفظ الصدقة، وتفسره الرواية الأخرى في لفظ مالك، ويحتمل أن يريد به الخُمْس، وقد ذهب إلى الأول أحمد وإسحاق وقول الشافعي كما تقدم، وذهب غيرهم إلى وجوب الخمس (ألقوله: "وفي الركاز الخصم" أ)، وهو محتمل الدفين كما تقدم فلا يكون حجة، والله أعلم. [عدة أحاديث كتاب الزكاة سبعة وعشرون حديثًا] (ب). ¬

_ (أ - أ) ساقط من هـ. (ب) بحاشية الأصل.

باب صدقة الفطر

باب صَدَقة الفِطر إضافة الصدقة [إلى الفِطرْ (أ)]، لأن الفطر بمعنى الإفطار وهو سببها، ويدل عليه أنه قد وقع في بعض ألفاظ البخاري "زكاة الفطْر" من رمضان (¬1)، وقال ابن قتيبة: المراد بصدقة الفطر صدقة النفوس مأخوذة من الفِطْرة التي هي أصل الخلقة، والأول أظهر. 475 - عن ابن عمرِ - رضي الله عنه - قال: "فرَضَ رسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - زكاة الفطر صاعًا من تمر أو صاعًا من شعير على العبد والحُرِّ والذَّكَرِ والأنثى والصغير والكبير من المسلمين، وأمر بها أن تؤدي قبل خروج الناس إِلى الصلاة" متفق عليه (¬2). ولابن عدي والدارقطني بإسناد ضعيف (¬3): "اغنوهم عن الطواف في هذا اليوم" (¬4). الحديث فيه دلالة على وجوب الفِطْر، فإن "فَرَضَ" عند جمهور السلف والخلف معناه أَلْزَم وأوجب، وهو غالب في استعمال الشرع لهذا المعنى، قال إسحاق بن راهويه: "هي واجبة بالإجماع" (¬5)، وقال بعض أهل العراق وبعض أصحاب مالك وبعض أصحاب الشافعي وداود في آخر ¬

_ (أ) بحاشية الأصل.

أمره: إنها سُنَّةٌ وليسب بواجبة (¬1)، وقالوا: معنى "فَرَضَ" قَدّر، فلا يدل على الوجوب، ويُجَاب بأن الظاهر منه الوجوب لا سيما مع قوله: "على العبد ... " إلخ، وقوله: "زكاة الفطر". وقال أبو حنيفة: هي واجبة غير فرض بناء على التفرقة بينهما عنده، وقال إبراهيم بن عُلَيّة والأصم أن وجوبها منسوخ، واستدل لهما بما رواه النسائي وغيره عن قيس بن عُبَادة بن الصَّامت - رضي الله عنه - قال: "أمَرنَا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بصدقة الفطرْ قبلَ أن تنزل الزكاةُ، فلما نزلت الزكاة لم يأمرنا ولم ينهنا ونحن نفعله" (¬2)، وأجيب بأن في إسناده راويًا مجهولًا (¬3) كما تقدم في أول الزكاة، ولا دلالة فيه على النسخ؛ لأن قوله: "لم يأمرنا ولم ينهنا" لا يدل على ذلك، فإنه ربما ترك ذلك اعتمادًا على الأمر الأول، ولأنه قد علم أن شرعيته فريضة مستقلة لا يلزم منه نسخ ما تقدمها من الفرائض، وأيضَا فهي داخلة في عموم قوله تعالى: {وَآتُوا الزَّكَاةَ} (¬4) ومن جملتها زكاة الفِطرْ، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - سماها كذلك، وقال الله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى} (¬5) فإن كثيرًا من السلف فسر التزكية بزكاة الفطر وإن كانت السورة مكية ولم يكن في مكة بفروض لا زكاة ولا غيرها فهو قد يتقدم نزول الحكم على سببه، [وقد فرض صوم رمضان بعد ما حولت الكعبة بشهر على رأس ثمانية عشر شهرًا ¬

_ (¬1) المجموع 6: 48 المغني 4: 281 شرح مسلم 7: 58. (¬2) النسائي الزكاة، باب فرض صدقة الفطر قبل نزول الزكاة 5: 49 (ط. بيروت)، ابن ماجه الزكاة، باب صدقة الفطر 1: 585 ح 1828. (¬3) عريب بن حميد أبو عمار: ثقة (التقريب 238، الخلاصة 305، تهذيب التهذيب 7: 191) وذكر النووي في المجموع أن في سنده أبي عمار ولا يعلم حاله في الجرح والتعديل لكن وثق كما تقدم وكذلك أشار الحافظ في الفتح 3: 368. (¬4) النساء الآية 77. (¬5) الشمس الآية 14.

من الهجرة، وأمر في هذه السنة بزكاة الفطر، وذلك قبل أن تفْرَضَ الزكاةُ في الأموال، أخرجه ابن سعد في "الطبقات" (¬1) (أ). وقوله: "صاعًا من تمر أو صاعًا من شعير": انتصب الصاع على التمييز، أو بَدَل من "زكاة" بيان لها، ولم تختلف الطرق عن ابن عمر في الاقتصار على هذَيْن الشيئين إلا ما أخرجه أبو داود والنسائي من حديثه فزاد فيه: "السلت والزبيب" (¬2). والسلْت بضم السين وسكون اللام بعدها تاء (ب) مثناة وهو نوع من الشعير (¬3)، ولكن حكم مسلم على عبد العزيز بن أبي رواد بالوهم فيه (¬4). وقوله: "على العبد والحر ... " إلخ: ظاهره وجوبها على من ذكر، وأن الوجوب يتعلق بالعبد نفسه، وقد جنح إلى هذا البخاري (¬5)، وإليه ذهب داود الظاهري (¬6) وقال: إنه يجب على السيد أن يُمَكِّنَ عبده من الاكتساب لها، كما يجب عليه أن يمكنه من الصلاة، وخالفه أصحابه والناس، وللشافعية وجهان (¬7) هل يتعلق أصل الوجوب بالعبد ويتحملها عنه السيد أو يجب ابتداءً على السيد؟، وكذلك المرأة إذا كانت مزوجة، فقال النووي وأبو حنيفة وابن المنذر: إنها تجب عليها، وقال مالك والشافعي والليث وأحمد وإسحاق أنها تجب على الزوج إلحاقًا لها بالنفقة. ¬

_ (أ) بحاشية الأصل. (ب) ساقط من جـ.

ويرد عليهم أنهم قالوا إن أعسر وجبت عليها، وكذلك إذا كانت الزوجة أَمَة كانت على سيدها بخلاف النفقة. وقالوا: لا يخرج عن زوجته الكافرة مع أن النفقة عليه. وذهبت الهَادَوِيَّة إلى أن أصل الوجوب على الزوجة، وإنما تحملها الزوج فإذا أخرجت عن نفسها أجزأ أو أعسر أو تمرد وجبت عليها، قالوا: وكذلك القريب الذي يلزم نفقته، والإمام يحيى ظاهر قَوْله مثل قول مالك والشافعي، وحُجّتُهُم قوله - صلى الله عليه وسلم -: "أدوا صدقة الفطْر عمن تمونون" أخرجه الدارقطني والبيهقي من طريق الضحاك عن ابن عمر (¬1)، ورواه الدارقطني من حديث علي (¬2)، وإسناده ضعيف وفيه إرسال، ورواه الشافعي عن إبراهيم بن محمد عن جعفر بن محمد عن أبيه مرسلًا (¬3). وقوله: "والصغير والكبير": ظاهره وجوبها على هذا في مال الصغير وإلّا فعلي منْ تلزمه نفقته، وهذا قول الجمهور، وعند الهادوية وهو قول محمد بن الحسن أنها على الأب مطلقًا فإن كان الأب معسرًا [لا يمكنه التكسب] (أ) والولد الصغير موسرًا أخرج عن نفسه من مال ابنه الصغير، وفي إخراجه عن ولده الصغير احتمالان، وأما عند محمد بن الحسن فهي ساقطة عن الصغير، وعن الحسن البصري وسعيد بن المسيب لا تجب الفطرة إلا على صائم، ويستدل لها بما سيأتي من حديث ابن عباس أنها طهرة للصائم. ¬

_ (أ) بحاشية الأصل.

وأجيب بأن ذكر التطهير خرج مخرج الغالب، ونقل ابن المنذر الاجماع على أنها لا تجب في حق الجنين (¬1)، قال: وكان أحمد يستحبه. ونقل بعضُ الحنابلة عنه رواية بالإيجاب، وبه قال ابن حزم (¬2)، لكن قَيَّده بمائة وعشرين يومًا من يوم حمل أمه به، وظاهر الحديث أنها تجب على الفقير والغني وهو مصرح به فيما أخرجه البيهقي (¬3) عن ثعلبة بن عبد الله -أو عبد الله بن ثعلبة- مرفوعًا: "أدوا صاعًا من قمح عن كل إنسان ذكر أو أنثى أو صغير أو كبير أو غني أو فقير حر أو مملوك" فأما الغني فيزكيه الله، (أوأما الفقير أ) فيرد عليه أكثر مما أعطى. وعن الحنفية -وإليه ذهب المنصور بِالله- أنها لا تجب إلا على مَنْ مَلَك نصابًا، ويحتج لذلك بقوله: "لا صدقة إلا عن ظهر غنى" (¬4)، وقال الشافعي (¬5): تجب على مَنْ مَلَك فاضلا عن قوت يومه ومن تلزمه نفقته. وذهب الهادي والمؤيد بالله إلى أنها لا تجب إلا إذا مَلَكَ قوت عشرة أيام والفطرة فاضلة عن ذلك، قالوا: لأن العشرة الأيام قد اعتبرت في أحكام كثيرة وفي عدم اعتبارها حرج ومشقة فصَحَّ ذلك (¬6). وقوله: "من المسلمين": اتفقت الرواة عن مالك من حديث ابن عمر على زيادة هذه الكلمة إلا قتيبة بن سعيد فرواه عن مالك بدونها، وقال ابن ¬

_ (أ - أ) بحاشية هـ.

الصلاح وغيره: إن مالكًا تفرد بها، وليس كذلك فقد رواها عمر بن نافع عن أبيه، وكذا أخرجه مسلم من طريق الضحاك بن عثمان عن نافع بها (¬1)، وأخرجه أبو داود عن عبد الله العمري عن نافع بلفظ "على كل مسلم" (¬2)، وقد بسط الكلام في "فتح الباري" في اختلاف الرواة في إثباتها، فارجع إليه (¬3). وزيادة التقييد بالإسلام فيها دلالة على أنها لا تجب على الكافر أَنْ يُخْرجهَا عن نفسه، وهو إجماع، وأما إذا كان الخرج عنه كافرًا والخرج مسَلمًا مثل الزوج المسلم عن الكافرة أو الأب الكافر والولد مسلم، أو كان العكس، نقل ابن النذر الإجماع على اشتراط إسلام المخرِج والمخرَج عنه، وظاهر الحديث يقضي بهذا، فإنه جَمَعَ فيه بين منْ يخرج ومن يخرج عنه، ووصفهم بالإسلإم، [وتأويل الطحاوي بأنه صفة للسادة الخرجين بعيد (أ)]، وقد روى ابن إسحاق عن نافع أنَّ ابنَ عمر كان يخرج عن أهل بيته حرِّهم وعبدهم صغيرهم وكبيرهم مسلمهم وكافرهم من الرقيق، قال ابن المنذر: وابن عمر راوي الحديث، وقد كان يخرج عن عبده الكافر، وهو أعرف بمراد الحديث (¬4). وتعقب بأنه يحتمل أنه كان يخرجها تطوعًا ولا مانع منه، [وذهب الكوفيون وإسحاق وبعض السلف إلى أنه يجب على المسلم إخراجها عن عبده الكافر، ومستنده فعل ابن عمر] (ب)، والحديث عام لأهل الحَضَر والبدو، وإليه ذهب الجمهور، وخالف في ذلك الزهري وربيعة والليث في ¬

_ (أ) بحاشية الأصل. (ب) بحاشية الأصل.

قولهم إن زكاة الفطر تختص بالحاضر دون البادي. وقوله: "وأمرهم .. " إلخ: يدل على أن المبادرة بها هو الأولى، وأنه يكره تأخيرها عن الصلاة، وذهب ابن حزم (¬1) إلى ظاهر الحديث وأنه لا يجوز تأخيرها إلى بعد الصلاة، وأجيب عنه بقوله: "ومن أخرها فهي صدقة من الصدقات" ولا صحة للجواب. وقوله: "فهي صدقة"! يدل على فوات زكاة الفطر وأنها قد خرجت على ماهيتها، وكذلك الجواب بقوله: "اغنوهم عن الطواف في هذا اليوم" لا يدل على ذلك إذ بملكهم لها في أول اليوم مغنٍ عن الطلب في سائر اليوم، ولزومها مؤقت إجماعًا، فذهب القاسم والهادي والناصر والمؤيد بالله وأبو حنيفة وأصحابه وأحد قولي الشافعي وعن مالك أنه منْ فجر أول شوال لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "اغنوهم عن الطواف في هذا اليوم"، وذهب الثوري وأحمد وإسحاق والشافعي. وعن مالك بل من غروب آخر يوم رمضان لقوله: "طهرة للصائم" (¬2) وقوله: "زكاة الفطر" فأضافها إلى الفِطْر، والفطر حصل بذلك، والأولى أن ذلك محتمل مبني على تفسير الفطر، فإن أريد به المعتاد وهو عدم الصوم فهو من الغروب، وإن أريد به الفطر الطارئ به (أ) وهو وجوب الإفطار فهو من عند طلوع الفجر. وقال ابن دقيق العيد: إضافة الزكاة إلى الفطر لا يدل على تعيين وقت الوجوب، بل يطلب من دليل آخر (¬3). [وذهب المسعودي إلى أنها لا تجب إلا بمضي الوقَتْين جميعًا أخذا ¬

_ (أ) (به) ساقط من جـ.

بالدليلين. وفائدة الخلاف فيمن ولد أو مات] (أ)، واختلف العلماء في تقديمها على يوم الفطر، فذهب القاسم والهادي وأبو طالب إلى جواز التعجيل عن البدن الموجود ولو إلى عامين كزكاة المال، وقال الشافعي: بل يجوز في رمضان لا قبله لأن لها سببين هما الصوم والإفطار، فلا يتقدمها كالنصاب والحَوْل، والجواب بأن وجود البدن كالنصاب، والمال كالحَوْل. وذهب أحمد إلى أنها لا تتقدم على وقت وجوبها إلا ما يغتفر كيوم أو يومين إذ لا يعد تقديمًا في العادة، وهو مروي أيضًا عن ابن عمر. وذهب الحسن بن زياد والناصر ومالك إلى أنه (ب) لا يجوز مطلقًا كالصلاة قبل الوقت ولا التأخير عنه كالصلاة. والجواب بأن ردَّها إلى الزكاة أقرب من ردها إلى الصلاة، قال الإمام يحيى: ولإجماع السلف على جواز التقديم، [وقد أخرج ابن خزيمة عن ابن عمر أنه كان يقدم على الفطر بيومين أو ثلاثة (¬1)، وأخرجه الشافعي عنه، وقال: هذا حسن وأنا أستحبه، وفي قصة أبي هريرة، وإمساكه الشيطان ثلاث ليال لسرقته منها دلالة (جـ) على التقديم. وقد أخرجه البخاري في الوكالة] (د) (¬2) وإن اختلفوا في مقداره. وقوله: "أغنوهم" الحديث: أخرجه الدارقطني والبيهقي من رواية أبي معشر عن نافع عن ابن عمر، وأبو معشر ضعيف (¬3) وهو متأيد بما ¬

_ (أ) بحاشية الأصل. (ب) هـ: أنها. (جـ) جـ: دليل. (د) بحاشية الأصل.

أخرجه ابن سعد في "الطبقات" من حديث أبي سعيد، وقال في آخره: "أغنوهم -يعني المساكين- عن طواف هذا اليوم" (¬1). 476 - وعن أبي سعيد الخُدْريِّ - رضي الله عنه - قال: "كنا نعطيها في زمان النبي - صلى الله عليه وسلم - صاعًا من طعام أو صاعًا من تمر أو صاعًا من شعير أو صاعًا من زبيب" متفق عليه (¬2). وفي رواية "أو صاعًا من أقط" (¬3) قال أبو سعيد: "أما أنا فلا أزال أخرجه كما كنت أخرجه في زمن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -" ولأبي داود: "لا أخرج أبدًا إِلا صاعًا" (¬4). قوله: "كنا نعطيها" إلخ: هذا له حكم المرفوع لأضافته إلى زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - ففيه إشعَار باطلاعه على ذلك وتقريره له في مثل هذه الصورة التي كانت توضع عنده وتجمع بأمره وتفرق بأمره، والطعام قيل المراد به هنا بعض أنواعه وهو الحنطة، فهو عام أريد به خاص بقرينة عطف ما ذكر عليه، وتعينت الحنطة لأنها أشهر أنواع الطعام وأفضلها، فلو لم تكن المرادة لذكرها عند التفصيل ذكره الخطابي (¬5)، وقال هو وغيره: إن لفظ الطعام يستعمل في الحنطة عند الإطلاق حتى إذا قيل: اذهب إلى سوق الطعام فهم منه القمح، وإذا غلب العرف على معنى نزل اللفظ عليه. وقال ابن المنذر: إنما أجمل أولًا ثم فصل ثم احتج عليه باللفظ الآخر الذي روي به حديث أبي سعيد، وقد أخرجه البخاري أيضًا ولفظه: "كنا ¬

_ (¬1) نقدم تخريجه. (¬2) البخاري الزكاة، باب صاع من زبيب 3: 372 ح 1508، مسلم الزكاة، باب زكاة الفطر على المسلمين من التمر والشعير 2: 678 ح 17 - 985 (بنحوه). (¬3) مسلم (السابق). (¬4) أبو داود الزكاة، باب كم يؤدي في صدقة الفطر 2: 269 ح 1618. (¬5) معالم السنن 2: 267، والنقل بلفظه ص الفتح 3: 373.

خرج صاعًا من طعام، وكان طعامنا الشعير والزبيب والأقط والتمر" (¬1). فدل على أنَّ الحنطة غير مذكورة. وأخرج البخاري نحوه من طريق أخرى عن عياض، وقال فيه: "ولا يخرج غيره"، وقال: وفي قوله: "ولما جاء معاوية وجاء بالسمرا ... " (¬2) دليل على أنها لم تكن قوتًا لهم قبل هذا، فدل على أنها لم تكن كثيرة ولا قوتًا فكيف يتوهم أنهم أخرجوا ما لم يكن موجودًا، انتهى كلامه. وقد ذُكِرَتْ الحنطة في حديثه عند ابن خزيمة والحاكم في صحيحيهما بلفظ: "صاع تمر أو صاع حنطة أو صاع شعير أو صاع أقط، فقال له رجل أو مُدَّيْن من قمح؟ فقال: لا، تلك قيمة معاوية لا أقبلها ولا أعمل بها" (¬3)، قال ابن خزيمة: ذِكْر الحنطة وَهْم، ولا أدري ممن هو، وكذا قال أبو داود (¬4): "ذكر الحنطة غير محفوظ، وذكر أن معاوية بن هشام روى في هذا الحديث عن سفيان نصف صاع من بُرٍّ وهو وَهْم (¬5)، وأن ابن عِيَاض حدث به عن ابن عجلان عن عياض فزاد فيه: "أو صَاعٍ من دَقيق" وأنهم أنكروا عليه فتركه، قال: وذِكْر الدقيق وَهْم من ابن عيينة (¬6). وقال ابن المنذر (¬7): لا تعلم في القمح خبرا ثابتًا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - يعتمد عليه، ولم يكن البُر بالمدينة في ذلك الوقت إلا الشيء اليسير منه، فلما كَثُرَ في أيام الصحابة رأوا أنَّ نصف صاع منه يقوم مقام صاع من ¬

_ (¬1) البخاري الزكاة، باب الصدقة قبل العيد 3: 375 ح 1510. (¬2) البخاري الزكاة، باب صاع من زبيب 3: 372 ح 1508. (¬3) ابن خزيمة 4: 90 ح 2419 الحاكم 1: 411. (¬4) سنن أبي داود 2: 269. (¬5) سننن أبي داود 2: 269 ح 1617. (¬6) سنن أبي داود 2: 269 ح 1618. (¬7) الفتح 3: 374.

الشعير وهم الأئمة فغير جائز أن يعدل عن قولهم إلا إلى قول مثلهم، ثم أسند عن عثمان وعلى وأبي هريرة وجابر وابن عباس وابن الزبير وأمه أسماء بنت أبي بكر بأسانيد صحيحة أنهم رأوا أن في زكاة الفِطْر نصف صاع من قمح (¬1) انتهى. وقد أفهمتْ عبارته دعوى الإجماع على ذلك، وقد عرفت خلاف أبي سعيد وكذلك ابن عمر، فلا إجماع في المسألة خلافًا للطحاوي، ولعل أبا سعيد اجتهد فرأى أَنَّ المقصود إخراج مقدار الصاع من تلك الأشياء أو من غيرها فلم يسوغ أن يكون المُخَّرج أقل منه وغيره وإلى أن الحنطة لما كانت قيمتها غالية وأن النصف منها يقوم مقام الكامل من غيرها اجتهد في ذلك، فاعتبر النصف بناء على التقويم ولكنه غير منضبط، لأنه يلزم أن يختلف ذلك باختلاف الأزمان، وفعل ابن عباس في البصرة وأمره بنصف صاع من تمر إلى أن أتى عليّ - رضي الله عنه - ورأى رخص أسعارهم قال: اجعلوها صاعًا من كل (¬2)، فدل على أنه كان ينظر إلى القيمة في ذلك. [وقد أخرج الحاكم من حديث ابن عباس أو مُدَّان منْ قمح] (أ) (¬3) والحديث فيه دلالة على أنها صاع كامل نصًّا في المذكوراتَ وقياسًا فيما عداها مما يقتات، وهو إجماع إلا في البر، وأما البرُ فذهب جماعة من الصحابة والتابعين والفقهاء إلى أنه مِثْل غيره، وذهب جَمَاعة من الصحابة والتابعين والفقهاء إلى أنها نصف صاع، وقد عرفت ما فيه كفاية، ¬

_ (أ) بحاشية على الأصل.

ويجزئ الدقيق عند زيد بن علي والهادي والحنفية لعموم قوله: "صاعًا من شعير" ونحوه فإنه يصدق عليه ذلك، وذهب الناصر والشافعي إلى أنه لا يجزئ إلا تقويمًا إذ الأمر إنما هو بأصله، وأيضًا فالدقيق ينقص، وأجيب بأنه قد أمر - صلى الله عليه وسلم - بالدقيق كما تقدم، وأجيب بأن ابن عُيَيْنَة نُسِب إلى الوَهْم بذكره. وقوله. "أو أقط": فيه دلالة على إجزائه، وظاهره العموم في حق مَنْ يعتاده ومنْ لا يعتاد كغيره أولًا، وجنح البخاري إلى أنه غير مجزئ مع وجدان غيره (¬1)، كما ذهب إليه أحمد، وحملوا الحديث على أنَّ مَنْ أخرجه كأن يعتاده ولم يجد غيره، وفيه خلاف عند الشافعية، وزعم الماوردي أنه يختص بأهل البادية، وأما الحاضر فلا يجزئ عنه بلا خلاف، وتعقبه النووي في "شرح المُهَذَّب" بأن الخلاف في الجميع (¬2)، واختار الإمام المهدي (¬3) لمذهب الهادوية أجزأ الأقط والحليب لا المخيض والسمن إلا تقويمًا. 477 - وعن ابن عباس - رضي الله عنه - قال: "فَرضَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زكاة الفطر طهرة للصائم من اللغو والرَّفَث وطُعْمَة للمساكين، فَمَنْ أداها قبل الصلاة فهي زكاة مقبولة، ومن أداها بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات" رواه أبو داود وابن ماجه وصحه الحاكم (¬4). وأخرج الحديث الدارقطني، وقد تقدم الكلام على ما يتضمنه. ¬

_ (¬1) الفتح 3: 372. (¬2) الفتح 3: 372، 373 - المجموع 6: 71 - 72. (¬3) البحر 203:2. (¬4) أبو داود الزكاة، باب زكاة الفطر 2: 262 ح 1609، ابن ماجه الزكاة، باب صدقة الفطر 1: 585 ح 1827، الحاكم الزكاة 1: 409، الدارقطني الزكاة 1: 138 وقال: ليس فيهم مجروح.

وفي قوله: "طعمة للمساكين": فيه دلالة على أن مصرفها مختص بالمساكين دون سائر الأصناف الثمانية، وقد ذهب إلى هذا الهادي والقاسم وأبو طالب (¬1)، وفي الحقيقة أن الخارج منها إنما هو التأليف لأنهم يعتبرون في ما عدا العامل الفقر، والظاهر أن العالم يجوز أن يعطى منها لأن ذلك في مقابلة عمل لا لأجل سد الخلة، فالظاهر الإجماع عليه، وقال المنصور بالله (¬2): إنها كالزكاة في الثمانية، قال الإمام المهدي (¬3): وهو قوي لعموم قوله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ} (¬4). الآية، وهي من جملتها وذِكْر البعض لا يلزم منه التخصيص، وقد ورد مثله في الزكاة في حديث معاذ: "أمرتُ أن آخذها من أغنيائكم وأردها في فقرائكم" (¬5). وفي قوله: "طهرة الصائم" إلخ: دلالة على أن بعض المعاصي تكفرها الأعمال الصالحة من دون احتياج إلى تَوْبَة، وقد ورد في الحديث شطر صالح في أمور متفرقة يدل على هذا، والله أعلم. [عدة أحاديث صدقة الفطر ستة أحاديث]. ¬

_ (¬1) البحر 203:2. (¬2) و (¬3) البحر 203:2. (¬4) التوبة الآية 60. (¬5) تقدم في أول حديث في باب الزكاة.

باب صدقة التطوع

باب صدقة التطوع 478 - عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "سبعة يظلهم الله في ظِلِّهِ يوم لا ظِلَّ إِلا ظله ... " فذكر الحديث، وفيه: "ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه". متفق عليه (¬1). الحديث لفظه في البخاري: "سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: الإمام العادل، وشاب نشأ في عبادة ربه، ورجل قلبه مُعَلَّق (أ) بالمساجد، ورجلان تحابَّا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه، ورجل طلبته ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله ورجل تصدق أخفى حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه ورجل ذكر الله -عزَّ وجلَّ- خاليًا ففاضت عيناه". قوله: "سبعة ... " إلخ: ظاهر مفهوم العدد أن الحُكْمَ وهو الإظلال يختص بمن ذكر، ولكنه غير مراد لورود غيرهم فأبلغها المصنف (¬2) - رحمه الله تعالى - بتتبع الأحاديث إلى ثمانية وعشرين. قال الأسيوطي: وزدت عليه بالتتبع إلى أن بلغت سبعين وقد أفردتها بتأليف بأسانيدها وشواهدها، ثم لخصته في كراسة سميتها "بُزُوغ الخِلال في الخصال المقتضية للظلال" وقد أوردتها منظومة في "شرح الموطأ" ¬

_ (أ) في الأصل، جـ، هـ: متعلق. (ب) كذا في الأصل، وفي هـ: خفي، جـ: فأخفى.

انتهى كلامه. وقد نظم الإمام أبو شامة السبعة بقوله: أتانا حديثٌ في الصحيحين سبعة ... يظلهم الله الكريم بظله محب، عفيف، ناشيء، متصدق ... مصلّ، وباكٍ، والإمام بعدله وذيل ذلك المصنف سبعة (أ) فقال: وِزدْ سبعة إظلال: غاز، وعونه ... وإنظار ذي عُسر، وتخفيف حمله وإرفاد ذي غرم، وعون مكاتب ... وتاجر صدق في المقال وفعله وقد زاد على ذلك في تضمين لسبعة وسبعة، قال: وقد أفردته في جزء "معرفة الخصال الموصلة إلى الظلال". أضاف الظل إلى الله -سبحانه- إضافة تشريف كما قيل بيت الله. والظل هو حقيقة في المانع من وصول الشمس، وقيل: المراد بالظل الحماية والكَنَف، كما يقال في ظل فلان، وذهب إلى هذا عيسى بن دينار. وقيل: المراد بالظل عرشه، ويدل عليه حديث سلمان عند سعيد بن منصور بإسناده: "سبعة يظلهم الله في ظل عرشه .. " فذكر الحديث، وهو مستلزم كونهم في كف الله وحمايته وكرامته، وهذا مستلزم كونها في كنف وكرامته، وهذا أرجح، وله جزم القرطبي، وقيل: المراد به الجنة وهو غير صحيح، فإنه قد ورد في رواية ابن المبارك تقييد ذلك بيوم القيامة، وظل الجنة إنما يحصل بعد الاستقرار فيها، وظل الجنة يشترك فيه كل من دخلها .. فلا اختصاص بالسبعة، والسياق يدل على الاستئثار بذلك لأجل الخلال المذكورة. وبدأ بالإمام العادل لعموم النفع به، والعادل اسم فاعل من العدل، وبعض الرواة عن مالك رواه (¬1) بلفظ "العدل" وهو أبلغ، والمراد بالإِمام ¬

_ (أ) سقط من هـ.

صاحب الولاية العُظْمَى، ويلتحق به كل من ولي شيئًا من أمور المسلمين فعدل فيه ويدل على هذا حديث مسلم: "المُقْسطُون عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن، الذين يعدلون في حكمهم وأهلهم وما ولوا عليه" (¬1). وفسر العادل بأنه الذي يتبع أمر الله تعالى بوضع كل شيء في موضعه بغير إفراط ولا تفريط، وخص الشاب لكونه مظنة غلبة الشهوة لما فيه من قوة الباعث على متابعة الهوى، وأن ملازمة العبادة مع ذلك أشد وأدل على غَلَبة التقوى، وزاد حماد: "حتى توفي على ذلك" (¬2)، وفي حديث سَلْمَان: "أفنى شبابه ونشاطه في عبادة الله تعالى" (¬3)، والمعلق في المساجد كذا في لفظٍ من التعليق شبه بالقنديل ونحوه الكائن في المسجد مجاز عن طول الملازمة، وفي قوله: "متعلق" من العلاقة وهي شدة المحبة، وفي رواية سلمان زيادة "من حبها" وقوله: "تحابا" بتشديد الباء، وأصله تحاببا أي: اشتركا في جنس المحبة، أحب كل منهما صاحبه حقيقة لا إظهارًا فقط، ومعنى اجتمعا عليه وتفرقا، أنهما داما على المحبة الدينية ولم يغيرها عارض دنيوي، وسواء اجتمعت أبدانهما حقيقة أم لا، وقوله: "ورجل طلبته ذات منصب وجمال" الظاهر أن المراد دعته إلى الفاحشة، وبه جزم القرطبي، وقال بعضهم: يحتمل أنها دعته إلى التزويج فخاف أن يشتغل عن العبادة بالافتتان بها، أو خاف أن لا يقوم بحقها لشغله بالعبادة عن التكسب بما يليق بها، والأول أظهر بدليل الكناية بقوله: "إِلى نفسها" فإنه يكنى به عن الفاحشة، ولو كان المراد ¬

_ (¬1) مسلم الإمارة، باب فضيلة الإمام العادل ... ، 3: 1458 ح 18 - 1827. (¬2) أخرجه الجوزقي، الفتح 2: 145. (¬3) سنن سعيد بن منصور، الفتح 2: 144، 145.

بالتزويج لصرح به ولم يُكَنّ عنه. وقوله "إِني أخاف الله": الظاهر أنه قال ذلك بلسان حاله، ويحتمل القول الحقيقي اعتذارًا إلى المرأة، أو أنه قاله بقلبه. وقوله: "تصدق أخفى": بلفظ الماضى حالًا بتقدير "قد"، والرواية لمالك، وقد وقع في رواية الأصيلي "إِخفاءً": بلفظ المصدر بكسر الهمزة ممدودًا على أنه مصدر أو نعت لمصدر محذوف، ويحتمل أن يكون حالًا بمعنى مخفيًّا. وقوله: "لا تعلم شماله" الخ: المراد بذلك المبالغة في التشبيه، استعارة عن الإخفاء وكتمان الصدقة وتبعيدها عن مظان الرياء، وقد صرح بذلك في رواية حماد: "تصدق بصدقة فكأنما أخفى يمينه عن شِماله"، ويحتمل أن يكون من مجاز الحَذْف، والتقدير: حتى لا يعلم مَنْ على شماله من الناس، ولا وجه لجعل الشمال مجازًا عن النفس، إطلاقًا للجزء على الكل كما فسر به بعضهم. وقوله: "ذَكَرَ الله خاليًا" يحتمل أن يواد به الذكْرُ اللسانيّ أو الذكر القلبي أي: يتذكر الله يقلبه خاليًا عن الخَلقْ، لأنه يكون (أ) أبعد عن الرياء، والمراد خاليًا عن الالتفات إلى غير الله تعالى ولو كان في خلاء، ويؤيده رواية البيهقي. "ذكر الله بين يديه"، ويؤيد الأول رواية ابن المبارك وحماد بن زيد: "ذكر الله في خلاء" أي في أيّ موضع خالٍ، وهو الظاهر. وقوله: "ففاضت عيناه": أي: فاضت الدموع من عينيه، وأسند (ب) الفيض إلى العين مبالغة، كأنما هي التي فاضت. ¬

_ (أ) جـ: ليكون. (ب) غير واضحة في: جـ، هـ.

وذكْر الرجال هنا لا مفهوم له بل النساء تشارك (أ) فيما يصح اعتباره في حقهن، فالإمام العادل إذا أريد الإمامة الكبرى لا يصح في حق النساء، وإن أريد ما هو أعمّ صح في حقهن بعض الاعتبارات، وملازمة المسجد كذلك لا تعتبر في حق النساء لأن صلاتها في بيتها أفضل، ويصح اعتبار دعاء الرجل ذو المنصب والجمال للمرأة وامتناعها منه للخشية، وقد استوفيتُ الكلام على السبعة، وإنْ كان المذكور في الأصل إنما هو البعض لما في ذلك من الفوائد. 479 - وعن عُقبة بن عَامِر قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "كل امرئ في ظل صدقته حتى يُفْصَلَ بين الناس" رواه ابن حبان والحاكم (¬1). الحديث فيه دلالة على فَضْل الصدقة وكون المَرْء في ظلها، إما مجاز عن (ب) مدافعتها عنه أهوال القيامة، أو أن ذلك على حقيقته، وإن الصدقة تأتي أعيانها يوم القيامة فيظله عن حر الموقف، والله أعلم. 480 - وعن أبي سعيد الخُدريّ - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "أيما مسلم كسا مسلمًا ثوبًا على عري كساه الله من خضر الجنة، وأيما مسلم أطعم مسلمًا على جوعٍ أطعمه الله من ثمار الجنة، وأيما مسلم سقى مسلمًا على ظمأ سقاه الله من الرحيق المختوم" رواه أبو ¬

_ (أ) جـ، هـ: مشارك. (ب) غير واضح في هـ.

داود، وفي إسناده لين (¬1). قوله: "من خضر الجنة" من إقامة الصفة وهو الخفر مقام الموصوف وهو الثياب أي من ثيابها الخضر. وقوله: "من الرَّحِيق" أي من الشراب الخالص الذي لا غِشَّ فيه، والمختوم الذي يُخْتَم أوانيه، وهو عبارة عن نفاستها، وقيل: إن المرَاد منه أن آخر ما يجدون منه في الطَّعْم رائحة المسك من قولهم: ختمتُ الكتابَ أي: انتهيتُ إلى آخره. وفي الحديث دلالة على أن الجزاء من جنس الابتداء. 481 - وعن حكيم بن حِزَام في النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "اليد العليا خير من اليد السفلى، وابدأ بِمَنْ تعول، وخير الصدقة عن ظهر غنى، ومن يستعفف يعفه الله، ومن يستغن يغنه الله" متفق عليه واللفظ للبخاري (¬2). اختلف في تفسير (أ) اليد العليا فقال أبو داود: قال الأكثر عن حماد بن زيد: هي المنفقة (¬3)، وعند النسائي من حديث طارق المحاربي: "يد المعطي العليا" (¬4)، ومثله عن ثعلبة بن زهدم لابن أبي شيبة والبزار (¬5)، ¬

_ (أ) ساقط من جـ.

وللطبراني بإسنادٍ صحيح عن حكيم بن حزام مرفوعًا: "يد الله فوق يد المعطي، ويد المعطي فوق المعطى، ويد المعطى أسفل الأيدي" (¬1)، وله من حديث عدي الجذامي مرفوعًا مثله (¬2)، ولابن خزيمة من حديث أبي الأحوص عوف بن مالك عن أبيه مرفوعًا: "الأيدي ثلاثة، فيد الله العليا، ويد المعطي التي تليها، ويد السائل السفلى" (¬3). ولأحمد والبزار من حديث عطية السعدي: "اليد المعطية هي العليا، والسائلة هي السفلى" (¬4). فهذه الأحاديث متظافرة على التفسير المذكور، وهو قول الجمهور، وقد روى مسدد (أ) في "مسنده" عن حماد بلفظ: "المتعففة" بالعين وفاءين وقد تابعه على ذلك أبو الربيع الزهراني، وقد اختلف على نافع في ذلك، فقال موسى بن عقبة: "المتعففة"، ورواية مالك: "المنفقة"، قال ابن عبد البر: رواية مالك أولى، واليد السفلى قيل: هي الآخذة سواء كان بسؤال أو بغير سؤال، وقد أباه قوم وقالوا: إن الصَّدَقَة تقع في يد الله أولًا قبل يد المتصدق عليه، قال ابن العربي: التحقيق أن السفلى يد السائل، وأما يد الآخذ فلا، لأن يد الله هي المعطية ويد الله هي الآخذة وكلتاهما (ب) عليا وكلتاهما يمين، انتهى. ¬

_ (أ) هـ: وعن مسدد. (ب) جـ: وكلاهما.

وفيه نظر لأن الكلام إنما هو في يد المعطي، والمعطي من الآدميين، والنسبة إلى الله تعالى وكون يده المعطية إنما هو مجاز (¬1) لكونه المالك لكل شيء المسخر للمعطي، وكون يده الآخذة باعتبار القبُول، وفسر بعضهم اليد العليا بيد المتعفف ولو بعد أن تمد إليه يد المعطي مثلًا، وعلوها معنويّ، وبعضهم هي يد الآخذ بغير سؤال. قال ابن حبان (¬2): اليد المتصدقة أفضل من السائلة لا الآخذة بغير سؤال، وقال الحسن البصري: "اليد العليا المعطية والسفلى المانعة"، وآخرون من المتصوفة قالوا (أ): إن اليد الآخذة أفضل من المعطية مطلقًا، وقال ابن قتيبة: وقد حُكي ذلك عن قوم، ثم قال: "وما أرى هؤلاء إلا قومًا استطابوا السؤال فهم يحتجون للدناءة". قال المصنف -رحمه الله تعالى (¬3) -: "وقرأت في مطلع الفوائد للعلامة جمال الدين بن نباتة قال: "اليد العليا هي النعمة"، والمعنى أن العطية الجزيلة خير من العطية القليلة، قال: وهذا حث على التكارم بأوجز لفظ فلو أراد إعطاء ألف فصرفه في واحد لظهر عليه أثر العطية خير من صرفه في ألف واحد". وقد عرفت في تفسير الحديث من الروايات الصحيحة ما تضمحل عنده هذه التمحلات، ويؤيد ذلك ما أخرج إسحاق في "مسنده" أن حكيم بن حِزَام قال: يا رسول الله ما اليد العليا؟، قال: التي تعطي ولا تأخذ" فقوله: "ولا تأخذ" صريح في أن الآخِذَة ليست بعليا، والله أعلم. وقوله: "وابدأ بمَنْ تعول": فيه دلالة على تقديمه نفقة نفسه ¬

_ (أ) ساقطة من جـ.

وعياله لأنها منحصرة فيه بخلاف نفقة غيرهم، وفيه الابتداء بالأهم فالأهم. وقوله: "وخير الصدقة" إلخ: يعني أن أفضل الصدقة ما بقي صاحبها بعدها مستغنيًا بما بقي معه، وتقديره: أفضل الصدقة ما أبقي المتصدق من ماله ما يستظهر به على مصالحه وحوائجه لأن المتصدق بجميع ماله يندم غالبًا ويود إذا احتاج أنه لم يتصدق بخلاف من بقي بعدها مستغنيًا، فإنه لا يندم عليها، بل يسر بها، [والظهر قال الخطابي: ورد في مثل هذا اتساعًا في الكلام، وقال البغوي: المراد به ما يستظهر به على النوائب تنوبه، ونحوه قولهم: ركب متن السلامة، وقيل بمن للسبية والظهر زائد أي خير الصدقة ما كان سببها غنى] (أ)، وقد اختلف العلماء في الصدقة بجميع ماله، وقيل إن زاد على النصف ترد جميعها، وهو مروي عن عمر بن الخطاب (¬1) - رضي الله عنه - فإنه رد على غيلان الثقفي قسمة ماله، وقيل: ينفذ من الثلث، وهو مذهب أهل الشام، وقيل: إن زاد على النصف رُدَّت الزيادة، وهو محكيّ من مكحول، قال أبو جعفر الطبري (ب): ومع جوازه فالمستحب أن لا يفعله وأن يقتصر على الثلث، وقد أخرج أبو داود وصححه الحاكم عن عمر قال: "أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نتصدق فوافق ذلك مالًا عندي، فقلت: اليوم أسبق أبا بكر إن سبقته يومًا، فجئت بنصف مالي، وأبو بكر بكل ما عنده، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: يا أبا بكر ما أبقيت لأهلك؟ قال: أبقيت الله ورسوله (¬2)، ¬

_ (أ) بحاشية الأصل. (ب) هـ: والطبري - خطأ.

ويجمع بين الأحاديث بأن من تصدق بماله كله وكان صبورًا على الإضافة ولا عيال له أو له عيال يصبرون فلا كلام في حُسْن ذلك، ويدل عليه قوله تعالى: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} (¬1) {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ} (¬2)، ومن لم يكن بهذه المثابة فهو مكروه له. وقوله: "ومن يستعفف": يعني عن المسألة، ومن يستغن بما عنده من المال وإن كان دون ما يسد خلته والله أعلم. 482 - وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: "قيل: يا رسول الله، أي الصدقة أفضل؟ قال: جهد المُقِلّ وابدأ بمن تعول" أخرجه أحمد وأبو داود وصححه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم (¬3). قوله: "جُهد: هو بالضم والفتح، فالضم: الوسع والطاقة، وبالفتح: المشقة وقيل: المبالغة والغاية، وقيل هما لغتان لمعنى، وهو مرفوع على أنه خبر مبتدأ محذوف، وقد عرف الجمع بين هذا وبين ما تقدم. 483 - وعنه - رضي الله عنه - قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "تصدقوا" فقال رجل يا رسول الله: عندي دينار، قال: "تصدق به على نفسك"، قال: عندي آخر، قال: "تصدق به على ولدك"، [قال: عندي آخر، قال: "تصدق به على زوجَتك" [(أ)، قال: عندي آخر، قال: ¬

_ (أ) بحاشية الأصل.

"تصدق به على خادمك"، قال: عندي آخر، قال: "أنت أبصر" رواه أبو داود والنسائي وصححه ابن حبان والحاكم وأخرجه الشافعي وأحمد (¬1). قال ابن حَزْم: اختلف يحيى القطان والثوري، فقدم يحيى الزوجة على الولد، وقدم سفيان الولد على الزوجة، فينبغي أن لا يقدم أحدهما على الآخر بل يكونان سواء، لأنه قد صح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا تكلم تكلم ثلاثًا، فيحتمل أن يكون في إعادته إياه قدم الولد مرة، ومرة قدم الزوجة فصارا سواء. قال المصنف -رحمه الله تعالى-: وفي صحيح مسلم (¬2) من رواية جابر تقدم الأهل على الولد من غير تردد، فيمكن أن ترجح إحدى الروايتين. والحديث يدل على تقديم النفس بالقيام ثم من ذكر بعد، وذكر مثل هذا الترتيب في مهذب الشافعي (¬3)، وبنى عليه الإمام المهدي في "الأزهار" في باب الفطرة، وذكر في "الانتصار" والفقيه أحسن (أ) في "التذكرة " تقديم الزوجة ثم العبد ثم الولد الصغير، وروى في "الانتصار" الحديث في النفقة على هذا الترتيب. قال الإمام المهدي في "الغيث": فأخذ أهل المذهب من ترتيب النفقة في هذا الحديث ترتيب الفطرة، قال: وفي المأخذ ضعف عندي والأقرب ¬

_ (أ) هـ: حسن.

ما قاله المنصور بالله أنه إذا لم يملك له ولعوله جميعًا قوت عشرة أيام سقطت الفطرة عنه وعنهم لأنه ولو قدر أنه يكفيه وحده فليس له أن يستبد به دونهم فكأنه لم يملك نفسه قوت عشرة أيام، انتهى كلامه. وأقول: إن الحديث لا دلالة له (أ) على النفقة الواجبة وأنما ذلك فيما زاد عليها من البر والصلة، وإلا فلو (ب) كان كما ذكر لما أمره أن ينفق الدينار على نفسه، وظاهره وأن يكفيه أيامًا، وليس كذلك فإنه يجب المشاركة في ذلك، وقد قال تعالى: {وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ} (¬1). والله أعلم. 484 - وعن عائشة - رضي الله عنها - قالت: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إِذا أنفقت المرأة من طعام بيتها غير مُفْسِدة، كان لها أجرها بما أنفقت، ولزوجها أجره بما كسب، وللخازن مثل ذلك، لا ينقص بعضهم أجر بعض شيئًا" متفق عليه (¬2). والحديث فيه دلالة على أن للمرأة أن تتصدق من الطعام الذي قد صار لها فيه تصرف بصنعته اللزوج، ومن تعلق به بشرط أن لا يكون ذلك مضرًا بنفقتهم. قال ابن العربي (¬3): وقد اختلف السلف في ذلك فمنهم من أجازه ¬

_ (أ) هـ: فيه، جـ (فيه لا دلالة على). (ب) هـ: فلولا.

لكن في الشيء اليسير الذي لا يؤبه له ولا يظهر به النُّقْصان، ومنهم مَنْ حَمَلَهُ على ما إذا أذِن الزوج ولو بطريق الإجمال، وهو اختيار البخاري، ولذلك ترجم الباب الذي أورد فيه هذا الحديث "باب مَنْ أمر خادمه بالصدقة ولم يناول بنفسه" (¬1)، وحصل الترجمة في حكم التقييد الحديث المذكور، [ويدل عليه ما أخرجه الترمذي عن أبي أمامة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تنفق المرأة من بيت زوجها إلا بإذنه، قيل: يا رسول الله، ولا الطعام؟ قال: ذلك أفضل أموالنا"] (أ) (¬2). ومنهم مَنْ قال: المراد بنفقة المرأة والعبد والخازن النفقة على عيال صاحب المال في مصالحه، وهو بعيد من لفظ الحديث، ومنهم منْ فَرَّق بين المرأة والخادم، فقال: المرأة لها حق في مال الزوج والنظر في بيتها فجاز لها أن تتصدق بخلاف الخادم، فليس له تصرف في متاع مولاه، فيشترط الإذن فيه، ويرد عليه بأنَّ المرأة ليس لها التصرف إلا في القدر الذي تستحقه، وظاهره أنهم سواء في الأجر، ويحتمل أن يكون المراد بالمثل حصول الأجر في الجملة، وإن كان الكاسب أوفر إلا أنه في حديث أبي هريرة بلفظ: "فلها نصف أجره" يشعر بالتساوي. 485 - وعن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: "جاءت زينب امرأة ابن مسعود قالت: يا رسول الله إنك أمرت اليوم بالصدقة، وكان عندى حلي لي فأردت أن أتصدق به فزعم ابن مسعود أنه وولده أحق من تصدقت به عليهم، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: صدَقَ ابن مسعود، ¬

_ (أ) بحاشية الأصل.

زوجك وولدك أحق من تصدقتِ به عليهم" رواه البخاري (¬1). قوله: "جاءَتْ زينب": هي بنت معاوية، ويقال: بنت عبد الله بن معاوية بن عتاب الثقفية، ويقال لها أيضًا رائطة، ووقع ذلك في صحيح ابن حبان (¬2) في نحو هذه القصة، ويقال: هما ثنتان عند الأكثر، وجزم به ابن سعد (¬3)، وقال الكلاباذي: بل هي زينب، وجزم به الطحاوي أيضًا وقال: لا نعلم أن لابن مسعود امرأة في عصر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غيرها (¬4). الحديث فيه دلالة على أن الصدقة على من كان أقرب إلى المتصدق أفضل وأولى، وظاهر هذا الحديث أن الصدقة هنا هي صدقة تطوع لا وجوب، وساقه البخاري من حديث عمرو بن الحارث في ترجمة باب الزكاة على الزوج والأيتام في الحجر (¬5)، فيدل سياقه على أنه في الصدقة الواجبة، واحتمل أن يكون ذلك في قصة واحدة، وأن يكون قصتان، واستدل بهذا على جواز دفع المرأة زكاتها إلى زوجها، وهو قول الجمهور، وعن أبي حنيفة أنه لا يجزئ لقوله تعالى: {مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} (¬6)، فأشبهت الأب، والجواب النص، وفي قوله "وولده" ظاهره أنه يجري صرفها إلى الولد، وقد ادعى في "البحر" وابن المنذر الإجماع بأنه لا يجوز صرفها إلى الولد، وأجيب عن الحديث بأن ذلك في غير الصدقة الواجبة أو أن الصرف إنما هو إلى الزوج وهو المُنْفِق على أولاده، أو أن ¬

_ (¬1) البخاري الزكاة، باب الزكاة على الأقارب 3: 325 ح 1462. (¬2) الإحسان بترتيب ابن حبان 6: 221 ح 4233. (¬3) طبقات ابن سعد 3: 159. (¬4) الفتح 3: 328: 329. (¬5) البخاري الزكاة 3: 328 ح 1466. (¬6) الروم الآية 21.

الأولاد للزوج ولم يكونوا لها، ووقع في غير هذه الرواية: "على زوجها وأيتام في حجرها" (¬1) وهم أولاد أخيها والله أعلم. 486 - وعن ابن عمر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما يزال الرجل يسأل الناس حتى يأتي يوم القيامة وليس في وجهه مُزْعة لحم" متفق عليه (¬2). الحديث فيه دلالة على قُبْح المسألة. وفي قوله: "ما يزال": [إشارة] (أ) إلى كثرة السؤال، وأنَّ المسألة تؤثِّر في الوجه فلا يزال اللحم ينقص مع المسألة حتى ينتهي إلى ذهابه بالكلية، وظاهر الحديث أن السؤال مطلقًا على هذه الكيفية، وقد ورد التخصيص للبعض كما سيأتي ولذا إن البخاري ترجم الباب بباب "من سأل (ب) مكثرًا" (¬3) يعني: مَنْ سأل (ب) وهو غني لأجل تكثُّر ماله وأما من سأل (ب) وهو مضطر فهو مباح فلا يعاقب عليه. والمزعة (¬4) -بضم الميم وحكي كسرها وسكون الزاي ثم مهملة- أي قطعة، وقد ضبطه بعضهم بفتح الميم والزاي. ¬

_ (أ) بهامش الأصل. (ب) جـ، هـ: يسأل.

قال المصنف -رحمه الله (¬1) - "والذي أحفظه عن المحدثين الضم، قال الخطابي (¬2): يحتمل أن يكون المراد أنه يأتي ساقطًا أي لا قَدْر له ولا جاه أو يعذب في وجهه حتى يسقط لحمه لمشاكلة العقوبة في مواضع الجناية من الأعضاء لكونه أذل وجهه بالسؤال، وأنه يبعث ووجهه عظم فيكون ذلك شعاره الذي يعرف به". ويؤيد الأول ما أخرجه الطبراني والبزار من حديث مسعود بن عمرو مرفوعًا: "لا يزال العبد يسأل وهو غني حتى يجلو وجهه، فلا يكون له عند الله وجه" (¬3). وقال ابن أبي جَمْرَة: معناه أنه ليس في وجهه من الحُسْن شيء، لأن حُسْن الوجه هو بما فيه من اللحم، ومال المُهَلَّب إلى حمله على ظاهره، وإلى أن السر فيه أن الشمس تدنو يوم القيامة فإذا جاء لا لحم بوجهه كانت أذية الشمس له أكثر من غيره. 487 - وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ سأل الناس أموالهم تكثرًا فإِنما يسأل جمرًا فليستقل أو ليستكثر" رواه مسلم (¬4). قوله: "فإِنما يسأل جمرًا": قال القاضي ابن العربي: معناه أنه يعاقب بالنار، ويحتمل أن يكون على ظاهره، وأن الذي يأخذه يصير جمرًا يكوى به كما ثبت في مانع الزكاة. 488 - وعن الزبير بن العَوَّام - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ¬

_ (¬1) الفتح 3: 339. (¬2) غريب الحديث 1: 142. (¬3) عزاه لهما الهيثمي في مجمع الزوائد 3/ 96 وقال: "وفيه محمد بن أبي ليلى وفيه كلام". (¬4) مسلم الزكاة، باب كراهة المسألة للناس 2: 720 ح 105 - 1041 أحمد 2: 231.

قال: "لأن يأخذ أحدكم حبله فيأتي بحزمة الحَطَب على ظهره فيبيعها، فيكف بها وجهه خير له من أن يسأل الناس أعطوه أو منعوه" رواه البخاري (¬1). الحديث فيه دلالة على قُبْح السؤال وحُسْن الاكتساب، ولو امتهن نفسه في طلب الرزق وارتكب المشقة، وذلك لما يدخل على السائل مِنْ ذُل السؤال، ومن ذل الرد إذا لم يعطوه، ولما يدخل على صاحب المال من الضيق في ماله إن أعطي كل سائل، وقد اختلفت الشافعية في القادر على الكسب على وجهين أصحهما أنه حرام لظاهر الأحاديث، والثاني أنه حلال مع الكراهة بثلاثة شروط: أن لا يذل نفسه، ولا يلح في السؤال، ولا يؤذي المسئول، فإن فقد أحدها فهو حرام بالاتفاق. 489 - وعن سمرة بن جُنْدب - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "المسألة كد يكد بها الرجل وجهه إِلا أن يسأل الرجل سلطانًا أو في أمر لا بد منه" رواه الترمذي، وصححه (¬2). والمسألة: أي السؤال من الناس أموالهم. والكد: هو الخدش وهو الأثر، وفي رواية "كُدُوح" (¬3) بضم الكاف جمع كدح، وكل أمر من خدش أو عض فهو كدح. وقوله: "إِلا أن يسأل الرجل ذا سلطان": يعني يعطيه ما يستحقه من بيت المال فهو خارج عن مذمة السؤال لأن السائل لم يسأل إلا ما يستحقه، والسلطان ليس له مِنَّة عليه. ¬

_ (¬1) البخاري الزكاة، باب الاستعفاف عن المسألة 3: 335 ح 1471. (¬2) الترمذي الزكاة، باب ما جاء في النهي عن المسألة 3: 65 ح 681. (¬3) أبو داود (نحوه) الزكاة، باب ما تجوز فيه المسألة 2: 289 ح 1639 النسائي (نحوه) الزكاة، مسألة الرجل ذا سلطان 5: 75.

وقوله: "لا بد منه": وذلك كالسؤال في الأمور التي أبيح السؤال فيها. (أ) [عدة أحاديث صدقة التطوع أحد عشر حديثًا] (أ). ¬

_ (أ-أ) زيادة من جـ، هـ.

باب قسمة الصدقات

باب قسمة الصدقات 490 - عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:- "لا تحل الصدقة لغني إِلا لخمسة، لعامل عليها، أو رجل اشتراها بماله، أو غارم، أو غاز في سبيل الله، أو مسكين تُصُدِّق عليه منها فأهدى منها لغنيّ". رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه وصححه الحاكم، وأعلّ بالإرسال (¬1). أخرجوه عن عطاء بن يسار عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في رواية الحاكم وأبي داود ومالك، وفي رواية أحمد وأبي داود وابن ماجه والبزار وعَبْد بن حُمَيْد وأبي يَعْلَى والبيهقي عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد. قوله: "لا تحل الصدقة لغني" اختلف في تحقيق الغنى المانع من أخذ الصدقة فأشار البخاري إلى أن ذلك هو الكافي لصاحبه القائم بمصالحه وقال بعد إيراده لقوله تعالى: {لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا} (¬2)، "وكم الغني" (¬3)، وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ولا يجد غنًى يغنيه" (¬4)، لقول الله تعالى: {لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ} (¬5) فأشار إلى ذلك لأن ذلك غني يغنيه أي يقوم بحاجته، وفي ¬

_ (¬1) أحمد 3: 56، أبو داود الزكاة، باب من يجوز له أخذ الصدقة وهو غني 2: 286: 287 ح 1635، ابن ماجه الزكاة، باب من تحل له الصدقة 1: 590 ح 1841، الحاكم 1: 407: 408 وقال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه لإرسال مالك بن أنس إياه عن زيد بن أسلم، البيهقي الصدقات، باب العامل على الصدقة يأخذ منها بقدر عمله 7: 15. (¬2) من سورة البقرة الآية 273. (¬3) البخاري الزكاة، باب قوله تعالى: {لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا} 3: 340 (معلقا). (¬4) جزء من حديث أبي هريرة عن البخاري وطرفه: "ليس المسكين .... ". الزكاة، باب قوله تعالى: {لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا} 3: 343 ح 1479. (¬5) سورة البقرة الآية 273.

قوله: {لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ} لأنهم إذا استطاعوا ضربًا في الأرض لتحصيل ما يقوم بهم فقد ملكوا نوعًا من الغنى، وقد أخرج الترمذي من حديث ابن مسعود: "قيل يا رسول الله: وما يغنيه؟ قال خمسون درهمًا أو قيمتها من الذهب" (¬1). وفي إسناده حكيم بن جبير وهو ضعيف (¬2)، وقد روي من حديث شيخه زبيد أبو عبد الرحمن، ولكن أحمد جزم بأن رواية زبيد موقوفة (¬3)، وفي حديث أبي سعيد عند النسائي: "مَنْ سأل وله أوقية فقد أَلْحَفَ" (¬4). وأخرج أبو داود: "مَنْ سأل منكم وله أوقية أو عدلها فقد سأل إِلحافًا" (¬5). وأخرج من حديث سهل بن الحنظلية قال: قال رسول الله: "مَنْ سأل -وعنده ما يغنيه- فإِنما يستكثر من النار، فقالوا: يا رسول الله وما يغنيه؟ قال: قَدْر ما يغديه ويعشيه" (¬6)، وصححه ابن حبان (¬7). قال الترمذي (¬8) في حديث ابن مسعود: والعمل على هذا عند بعض أصحابنا كالثوري وابن المبارك وأحمد وإسحاق، قال: ووسع قَوْمٌ في ذلك فقالوا: إذا كان عنده خمسون درهمًا أو أكثر وهو محتاج، فله أن يأخذ ¬

_ (¬1) الترمذي الزكاة، باب ما جاء من تحل له الزكاة 3: 40 ح 650، وقال عقبه: "حديث ابن مسعود حديث حسن وقد تكلم شعبة في حكيم بن جبير من أجل هذا الحديث". (¬2) حكيم بن جبير ضعيف، (التقريب 80). (¬3) الفتح 3: 41، والرواية التي أشار إليها في الترمذي الزكاة، باب ما جاء مَنْ تحل له الزكاة 3: 41 ح 651. (¬4) النسائي الزكاة، باب من الملحف 5: 73. (¬5) أبو داود الزكاة، باب من يعطى من الصدقة .... ، 2: 278 - 279 ح 1627. (¬6) أبو داود الزكاة، باب من يعطى من الصدقة .... ، 2: 280 - 281 ح 1629. (¬7) ابن حبان، الإحسان 1: 378. (¬8) الترمذي 3: 41.

من الزكاة، وهو قول الشافعي وغيره من أهل العلم، قال الشافعي: فيكون الرجل غنيًّا بالدرهم مع الكسب، ولا يغنيه الألف مع ضعفه في نفسه وكثرة عياله، والظاهر أن التحديد بالخمسين إنما هو باعتبار حال الوقت، وأن الخمسين يجد صاحبها بها سدادًا مِنْ عِوَز، وإلا فإنها قد تكون الخمسين باعتبار كثرة المؤنة وغلاء السعر في حق صاحب ذلك في حكم الدرهم الواحد، ولا شك أن جانب المناسبة والحكمة في شرعية الزكاة تقضي بعدم الوقوف على قدر معين، وإنما ذلك باعتبار الكفاية، ويفسر هذا المعنى حديث أبي هريرة وغيره، وذهب الهادي والمؤيد والأزرقي والإمام يحيى وأبو حنيفة إلى أن الغنى هو ملك النصاب، وسواء كان النصاب من الذهب أو الفضة أو ما يقوم بذلك، وذهب الحقيني والأزرقي (1) -تخريجًا على أصل الهادي- وأبو طالب بأن من كان معه من العروض ما يساوي النصاب فإنه لا يصير بذلك غنيا لا سيما ذا العول، قال الإمام المهدي (2): بل هو غني لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "أوقية أو عدلها" فجعل العرض في تحريم المسألة كالنقد، وذهب المرتضي وأبو طالب إلى أن: مَنْ كان لا يكفيه غلة أرضه للسنة وإن قومت نصابًا فإنه فقير تحل له الزكاة، وذهب بعضهم على ما حكاه الخطابي (¬3) أن حد الغنى من وجد ما يغديه ويعشيه على ظاهر حديث سهل بن الحنظلية، وقد تأوله بعضهم بأن الغنى ما يغديه ويعشيه على الدوام، وذهب أبو عبيد بن سَلَّام (¬4) إلى أن حد الغنى أربعون درهمًا لقوله: "منْ سأل وله أوقية" وهي أربعون درهمًا، والظاهر أن ذلك إنما هو في حِلِّ السؤال لا في حِلّ الصدقة من ¬

_ (1، 2) البحر 2: 186. (¬3) معالم السنن 2: 277، 278. (¬4) الفتح 3: 342.

غير سؤال، فالظاهر قَوْل الشافعي، ويقرب منه قول الهادي وأبي حنيفة. وفي قوله: "أو غازٍ في سبيل الله" يفهم منه أن الغازي له أن يتجهز في غزوه من الزكاة وإن كان غنيًّا، لأنه ساعٍ في سبيل الله، ويلحق به من كان قائمًا بمصلحة عامة من مصالح المسلمين؛ كالقضاء والإفتاء والتدريس أي أنه له الأخذ من الزكاة فيما يقوم به مدة القيام بالمصلحة وإن كان غنيًّا، والله أعلم. قال الطبري (¬1): في حديث عمر - رضي الله عنه - الآتي دليل واضح على أن مَنْ شُغِلَ بشيءٍ من أعمال المسلمين أخذ الرزق على عمله، انتهى. وذكر ابن المنذر (¬2) أنَّ زيد بن ثابت كان يأخذ الأجر على القضاء، واحتج أبو عُبَيْد في جَوَاز ذلك بما فرض اللهُ للعاملين على الصدقة وجعل لهم منها حقًّا لقيامهم وسعيهم فيها، وهذا الذي ذكره هو الذي أشار إليه البخاري حيث قال: "باب رزق الحاكم والعاملين عليها" (¬3). والمراد بالرزق: ما يرتبه الإمام من بيت المال لمن يقوم بمصالح المسلمين. وقال المطرزيُّ (¬4): الرزق ما يخرجه الإمام كل شهر للمرتزقة من بيت المال، والعطاء ما يخرجه كل عام. وقول البخاري: "والعاملين عليها": يحتمل أن يريد العاملين على الصدقات، وعطفه على أجر الحاكم فيكون المراد أن الحاكم يرزقه مثل رزق العامل من الصدقة بقدر عمله، ويحتمل أن يريد العاملين على ¬

_ (¬1) الفتح 13: 154. (¬2) الفتح 31: 154. (¬3) صحيح البخاري، كتاب الأحكام 13: 149. (¬4) الفتح 13: 150.

الحكومات وإنْ لم يَجْرِ لها ذكر؛ لأن ذلك مدلول عليه بذكر الحاكم ويؤيد الاستدلال على جواز أخذ الرزق بآية الصدقات، وهُم من جملة المستحقين لها لعطفهم على الفقراء والمساكين بعد قوله: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ} (¬1). قال الطبري: ذهب الجمهور على جواز أخذ القاضي الأجرة على الحكم لكونه يشغله الحُكْم عن القيام بمصالحه، غير أن طائفة من السلف كرهت ذلك ولم يحرموه مع ذلك، وقال أبو علي الكرابيسي: لا بأس للقاضِي أن يأخذ الرزق على القضاء عند أهل العلم قاطبة من الصحابة ومنْ بعدهم، وهو قول فقهاء الأمصار، لا أعلم بينهم خلافًا، وقد كره ذلك قومٌ منهم مَسْرُوق، ولا أعلم أحدًا منهم حرمه. قال المُهَلِّب: وَجْه الكراهة أنه في الأصل محمول على الاحتساب لقوله تعالى: {قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا} (¬2) فأرادوا أن يجري الأمر فيه على الأصل الذي وضعه الله لِنَبِيِّهِ، ولئلا يدخل فيه مَنْ لا يستحقه فيتحيل على أموال الناس. وقال غيره: أخذُ الرزق على القضاء إذا كانت جهة الآخذ من الحلال جائز إجماعًا، ومن تركه إنما تركه تورعًا، وأما إذا كانت هناك شبهة فالأولى الترك جزمًا، يحرم إذا كان المال يؤخذ لبيت المال من غير وجهه، واختلف إذا كان الغالب حرامًا. وأما مِنْ غير بيت المال ففي جواز الأخذ من المتحاكمين خلاف، ومن أجازه شرط فيه شروطًا، وقد حسن القول بالجواز إلى إلغاء الشروط، وفَشَا ذلك في هذه الأعصار بحيث لا يبالي من أي جهة كان، والله المستعان. ¬

_ (¬1) التوبة الآية: 60. (¬2) سورة الشورى الآية: 23.

واستشْهَدَ البخاريُّ على ذلك فقال: "وكان شريح يأخذ على القضاء أجرًا". وهو شُرِيْح بن الحارث بن قيس النخعي الكوفي قاضي الكوفة، ولّاه عمر ثم قضى لمن بعده بالكوفة دهرًا طويلًا، وله مع عليٍّ أخبار في ذلك، وهو ثقة مخضرم؛ أدرك الجاهلية والإسلام، ويقال: إن له صحبة، مات قبل الثمانية وقد جاوز المائة (¬1). وقد وصله عبد الرزاق وسعيد بن منصور من طريق مجالد عن الشعبي بلفظ: "كان مسروق لا يأخذ على القضاء أجرًا، وكان شريح يأخذ"، وقال: وقالت عائشة - رضي الله عنها -: يأكل الوصي بقدر عمله، ووصله ابن أبي شيبة عن عائشة في قوله تعالى: {وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} (¬2)، ثم قال: "وأكل أبو بكر وعمر". أما أثر أبي بكر فوصله ابن أبي شيبة عن عائشة قالت: "لما استخلف أبو بكر قال: قد علم قومي أن حرفتي لم تكن تعجز عن مؤنة أهلي، وقد شغلتُ بأمر المسلمين .... " الحديث، إلى أن قال: "فسيأكل آل أبي بكر من هذا المال، ويحترف للمسلمين فيه". ومنه أن عمر - رضي الله عنه - لما ولي أَكَلَ هو وأهله من المال، واحترف في مال نفسه. ¬

_ (¬1) انظر الفتح 13: 150 وانظر ترجمته وأخباره في: طبقات ابن سعد 6: 347 (طبعة صادر)، الكامل لابن الأثير 4: 270، وصايا العلماء 87، المحبر لابن حبيب 305 - 387، جمهرة النسب لابن الكلبي 121، جمهرة أنساب العرب لابن حزم 425، طبقات خليفة 145، حلية الأولياء 4: 132 - 141، تذكرة الحفاظ 1: 59. (¬2) النساء الآية: 6.

وأما أثر عمر فوصله ابن أبي شيبة وابن سعد (¬1) من طريق حارثة بن مُضَرّب -بضم الميم وفتح الضاد المعجمة وتشديد الراء بعدها موحدة- قال: قال عمر: "إني أنزلتُ نفسي من مال الله منزلة قيم اليتيم إن استغنيت عنه تركت، وإن افتقرت إليه أكلت بالمعروف"، وسنده صحيح. وأخرج بسند صحيح (¬2) عن الأحنف قال: "كنا بباب عمر ... " .. فذكر قصة وفيها: فقال عمر: "أنا أخبركم بما أستحل ما أحج عليه وأعتمر وحلتي الشتاء والقيظ وقُوتي وقُوت عيالي كرجل من قريش ليس بأعلاهم ولا أسفلهم". ورخص الشافعي وأكثر أهل العلم في ذلك، وعن أحمد: لا يعجبني، وإن كان فيقدر عمله مثل ولي اليتيم، واتفقوا على أنه لا يجوز الاستئجار عليه، وهذا يؤيد ما ذكرناه أن قوله: "أو غازٍ في سبيل الله" باعتبار المعنى المناسب لذلك، أنه يشمل من كان فيه مصلحة عامة، والله أعلم. 491 - وعن عبيد الله بن عَديّ بن الخِيَار أن رجلَيْن حدثاه أنهما أتيا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسألانه الصدَقة، فقلبَ فيهما النظر فرآهما جلدين فقال: "إِن شئتما أعطيتكما، ولا حَظَّ فيها لغني ولا لقوي مكتسب" رواه أحمد وقواه أبو داود والنسائي (¬3). هو عبيد الله بن عدي بن الخيار بن عدي القرشي النوفلي (¬4)، يقال ¬

_ (¬1) طبقات ابن سعد 3: 276. (¬2) طبقات ابن سعد 3: 275: 276. (¬3) أحمد 4: 224، 5: 362، أبو داود الزكاة، باب من يعطى من الصدقة وحد الغنى 2: 285 ح 1633، النسائي الزكاة، مسألة القوي المكتسب 5: 74، الدارقطني الزكاة، باب لا تحل الصدقة لغني 2: 119. (¬4) الإصابة 7: 223 ت 6234.

إنه ولد على عهد رسول الله، - صلى الله عليه وسلم -، ويُعَدُّ في التابعين، وروى عن عمر وعثمان وعبد الله بن عدي الأنصاري، روى عنه عروة بن الزبير وحميد ابن عبد الرحمن وعطاء بن يزيد، مات في زمن الوليد بن عبد الملك، والخيار بكسر الخاء المعجمة وتخفيف الياء تحتها نقطتان وبالراء. والحديث أخرجه الدارقطني، وزاد الطحاوي في "بيان المشكل" أن رجلين من قومه، قال أحمد بن حنبل: ما أجوده من حديث. والآتيان إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو في حجة الوداع وهو يقسم الصدقة فسألاه منها، وتقليب البصر مفسر في الرواية، وهو قوله: "فرفع فينا النظر وخفضه". وقوله: "إِن شئتما" إلخ: تناول الحرام أعطيتكما قاله توبيخًا وتغليظًا. والحديث فيه دلالة على تحريم الصدقة على الغني وهو إجماع، وإن اختلفوا في تحقيق الغنى. وقوله: "ولا لقوي مكتسب": يدل على أنه يصير بالحرفة في حكم الغني يحرم عليه الصدقة، وأجاب عنه الإمام المهدي في "البحر" بأنه أراد بالقوي المكتسب من كان له كسب حاصل فيصير به غنيًّا، ونظرًا أنه قد دخل في الغنى ولا وجه للعطف، وقد ذهب الهادوية وأبو حنيفة ومالك إلى أنه لا يصير بذلك في حكم الغنى لتسميته فقيرًا والجواب عنه النص. 492 - وعن قَبيصة بن مُخَارق الهلالي قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِن المسألة لا تحل إِلا لأحد ثلاثة: رجل تحَمَّل حَمَالة فحَلَّتْ له المسألة حتى يصيبها ثم يُمسِكُ، ورجل أصابته جائحة اجتاحت ماله فحلت له المسألة حتى يصيب قوامًا من عيش، ورجل أصابته فاقة حتى يقول ثلاثة من ذوي الحِجَا من قومه: لقد أصابت فلانًا فاقة فحلت له

المسألة حتى يصيب قوامًا من عيش، فما سواهن من المسألة يا قبيصة سُحْتٌ يأكلها سُحتًا" رواه مسلم وأبو داود وابن خزيمة وابن حبان (¬1). هو أبو بشر -بكسر الباء الموحدة وسكون الشين المعجمة والراء قَبيْصة -بفتح القاف وكسر الباء الموحدة وبالصاد المهملة- ابن مُخَارِق -بضَمِ الميم وبالخاء المعجمة وبالراء والقاف. وفَدَ على النبي، - صلى الله عليه وسلم -، عداده في أهل البصرة، وروى عنه ابنه قطن وأبو عثمان النهدي وكنانة بن نعيم وأبو قلابة (¬2). قوله: "تحمل حَمَالة" -بفتح الحاء المهملة- وهي المال الذي يتحمله الإنسان عن غيره، أي يستدينه ويدفعه في إصلاح ذات البَيْن، كالإصلاح بين قبيلتَيْن. وقوله: "جائحة" أي آفة أهلكت ماله. والقِوَام -بكسر القاف-: هو ما يقوم بحاله ويَسُدٌّ خلته، وفي رواية "سِدَاد". وهو أيضًا بكسر السين-: وهو ما يسد به الحاجة، وكل شيء سددت به فهو سداد، ومنه سداد الثغر وسداد القارورة، وقولهم سداد من عوز. وقوله: "أصابته فَاقَة" وهي الحاجة، "والحجا" -بالقصر- هو العَقْل، واعتبر كونهم من قومه لأنهم الأعرف بحاله، وكونهم من أهل الحجا دلالة على اشتراط تبصر الشاهد فيما شهد فيه، فلا تقبل شهادة مَنْ قصر تمييزه وغلب عليه الغباوة والغفلة. ¬

_ (¬1) مسلم الزكاة، باب من تحل له المسألة 2: 722 ح 109 - 1044، أبو داود الزكاة، باب ما تجوز فيه المسألة 2: 290: 291 ح 1640، ابن خزيمة الزكاة، باب الدليل على أن شهادة ذوي الحجا .... 4: 65 ح 2360، ابن حبان الزكاة، ذكر الخصال المعدودة التي أبيح للمرء المسألة من أجلها 5: 168 ح 3387. (¬2) أسد الغابة 4: 383 الترجمة 4259.

واشتراط الثلاثة ذهب إلى ظاهره بعض الشافعية، وأنه لا يقبل في الاعتبار أقل من ذلك، والجمهور على أنه يكفي الاثنان قياسًا على سائر الشهادات، وحملوا هذا على الندب، وهذا محمول على مَنْ كان له مال من قبل وادعى الفقر، وأما من لم يكن كذلك فإنه يُقْبَلُ قوله. وقوله: "سُحْت" -بضم السين المهملة وسكون الحاء المهملة-: هو الحرام الذي لا يحل كسبه، لأنه يسحت البَرَكَة أي يُذْهبُهَا. وقوله: "يأكلها سُحْتًا": صفة سحت، والضمير الراجع إلى الموصوف مؤنث على تأويل الصدقة، وفائدة الصفة أنَّ آكِلَ السحت لا يجد للسحت الذي يأكله شبهة يجعله مباحًا على نفسه بَل يأكلها من جهة السحت. والحديث فيه دلالة على تحريم المسألة في غير ما ذَكَرَ، وأن ما أعطي بالمسألة فهو حرام. وقد ذهب إلى تحريم السؤال مطلقًا ابن أبي ليلى وتسقط به العدالة لهذا، ولقوله - صلى الله عليه وسلم -: "المسألة كدوح" (¬1) وغيره. وأجيب بأن ذلك مع الغنى، والتخصيص لمن ذكر بدليله، وقال الإمام يحيى: يجوز سؤال الإمام لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إلا أن يسأل الرجل ذا سلطان" لا غيره فيكره إلا عن ضرورة كما في حق الثلاثة المذكورين في الحديث. وذهب العترة والحنفية والشافعية والإمام يحيى أنه يجوز للفقير السؤال لقوله تعالى: {وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ} (¬2) حيث أريد بأحدهما السائل على بعض ما فسر به السلف {وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ} (¬3)، وإذ هو حقه ¬

_ (¬1) مَرّ من حديث سمرة بن جندب رقم 479. (¬2) الآية 36 من سورة الحج. (¬3) الآية 10 من سورة الضحى.

كالدَّيْن. وقال مالك: يجوز سؤال الحقير للتسامح به لا الكثير لقوله - صلى الله عليه وسلم - "فإنما يستكثر من الجمر" (¬1) وأجيب بأن ذلك مع الغِنَى، والظاهر من الأحاديث النهي عن السؤال مطلقًا إلا لمن ورد الاستثناء في حقهم، والله أعلم. 493 - وعن عبد المطلب بن ربيعة بن الحارث قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "وإِنها الصدقة لا تنبغي لآل محمد إِنما هي أوساخ الناس"، وفي رواية: "وإِنها لا تحل لمحمد ولا لآل محمد" رواه مسلم (¬2). هو عبد المطلب بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب بن هاشم الهاشمي القرشي، سكن المدينة ثم تحول عنها إلى دمشق، ومات بها سنة اثنتين وستين. روى عنه عبد الله بن الحارث، وقيل: كان رجلًا على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وليس له في الكتب الستة سوى هذا الحديث (¬3). وفي الباب من حديث نوفل بن الحارث: "إن لكم في خُمس الخُمس ما يكفيكم أو يغنيكم" أخرجه أبو نعيم في معرفة الصحابة. وفي الطبراني من حديث ابن عباس قال: "بعث نوفل بن الحارث ابنته إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " فذكر نحوه. الحديث فيه دلالة على تحريم الزكاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - وعلى آله، فأما على النبي - صلى الله عليه وسلم - فذلك إجماع، وأما على آله فادعى أبو طالب أنه إجماع أيضًا، وكذا ابن قدامة (¬4)، ونقل الطبري الجواز عن أبي حنيفة مطلقًا، وقيل عنه: يجوز ¬

_ (¬1) تقدم من حديث أبي هرورة. (¬2) مسلم الزكاة، باب ترك استعمال آل النبي على الصدقة 2: 752: 753 ح 167 - 1072. (¬3) سير أعلام النبلاء 3: 112، 113، طبقات ابن سعد 4: 57 - 59. (¬4) المغني 2: 655.

لهم إذا حرموا سهم ذوي القربى، حكاه الطحاوي، ورواه الرافعي عن الإصطخري، ونقل بعض المالكية في ذلك أربعة أقوال: الجواز مطلقًا، أو مع المَنْع من الخُمْس، والمنع مطلقًا، وجواز التطوع دون الفرض. واختلف في الآل المحرم عليهم الزكاة (¬1)، فذهب الزيدية وأبو حنيفة ومالك إلى أنهم بنو هاشم فقط، وذهب الشافعي إلى ذلك مع دخول بني المطلب في ذلك الحُكْم، ولأحمد روايتان في بني المطلب، وعن المالكية فيما بين هاشم وفهر بن غالب (أ) قولان، وذهب أصبغ إلى أنهم بنو قُصَيّ، والظاهر أن المراد به هنا بنو هاشم؛ لأنهم هم الذين وردت فيهم أسباب الأحاديث في المنع. واحتج الشافعي بقوله - صلى الله عليه وسلم - في بني المطلب "إنا لم نفترق في جاهلية ولا إسلام" (¬2)، وأجيب بأن المراد الموالاة. وقوله: "إِنما هي أوساخ الناس" فِعلَّة التحريم أن ذلك لكونهم يتنزهون عن أوساخ الناس، وسميت أوساخ الناس لأنها تطهير لأموالهم ونفوسهم، كما قال الله - تعالى -: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} (¬3) فذلك من التشبيه البليغ، وفيه دلالة على أن المُحَرَّم من الصدقة إنما هو المطهر، وهو ما كان ىن واجب، وأما صدقة التطوع فيحرم على النبي - صلى الله عليه وسلم -، ونقل الخطابي وغيره الإجماع على ذلك، وللشافعي قول: أنها تحل له، وأما آله فالأكثر على حلها لهم، وللشافعي قول ¬

_ (أ) هـ: غالب بن فِهْر.

بتحريمها عليهم، وأبو العباس، وأبو يوسف لعموم الصدقة، والجواب أن ذلك في الصدقة الواجبة، والله أعلم. 494 - وعن جُبَيْر بن مُطْعِم قال: مشيت أنا وعثمان بن عفان إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقلنا: يا رسول الله أعطيت بني المطلب من خُمس خيبر وتركتنا، ونحن وهم بمنزلة واحدة، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنما بنو المطلب وبنو هاشم شيءٌ واحد" رواه البخاري (¬1). هو أبو محمد جُبَيْر (¬2) -بضم الجيم وفتح الباء الموحدة وسكون الياء- ابن مُطْعِم -بضم الميم وسكون الطاء وكسر العين- ابن عدي بن نوفل ابن عبد مناف القرشي النوفلي، ويقال كنيته أبو أمية، ويقال أبو عدي، أسلم قبل الفتح، ونزل المدينة، ومات بها سنة أربع وخمسين، وقيل: سنة سبع وخمسين، وقيل: سنة تسع وخمسين، [وفي "الرياض المستطابة" سنة ثمان أو تسع بالشك (أ)] روى عنه نافع ومحمد. الحديث فيه دلالة على أنَّ بني المطلب يشاركون بني هاشم في سهم ذوي القربي دون من عداهم، وإن كانوا في النسب سواء، وعلله النبي - صلى الله عليه وسلم - باستمرارهم على الولاء فصاروا كالشيء الواحد في الأحكام، وهو دليل واضح، وقد ذهب إليه الشافعي، والخلاف في ذلك للجمهور، قالوا: وإعطاؤه لبني المطلب على وَجْه التفضيل لا الاستحقاق، ولا يخفى أن هذا خلاف الظاهر، والمراد ببني هاشم هم آل علي وآل جعفر وآل عَقِيْل وآل العباس وآل الحارث، ولم يدخل آل أبي لهب في ذلك الخط ¬

_ (أ) بحاشية الأصل.

لأنه لم يسلم منهم أحد في وقته - صلى الله عليه وسلم -، كذا نُقِلَ عن زيد بن علي، وفي "الجواهر والدرر" أن عتبة ومعتب ابني أبي لهب ثبتا معه - صلى الله عليه وسلم - في حنين (¬1)، [وفي "جامع الأصول": أسلم عتبة وأخوه معتب عام الفتح، وكانا قد هربا فبعث العباس فأتى بهما فأسلما فسُرَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بإسلامهما ودعا لهم وشهدا معه حُنَيْنًا والطائف، ولم يخرجا من مكة ولم يأتيا المدينة، ولهما عقب عند أهل النسب، وهذا عتبة له ذِكْر في كتاب الفرائض، وقيل: إنه أخوه عتيبة، وكان عتبة وعتيبة زوجي بنتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رقية وأم كلثوم، فلما نزلت: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} (¬2) أمرهما أبوهما بفراقهما ففعلا (أ)]. 495 - وعن أبي رافع أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعث رجلًا على الصدقة من بني مخزوم فقال لأبي رافع: اصحبني، فإنك تصيب منها. قال: حتى آتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فأسأله، فأتاه فسأله، فقال: "مولى القوم من أَنفسهم، وإِنا لا تحل لنا الصدقة". رواه أحمد والثلاثة وابن خُزَيْمَة وابن حبان (¬3). وأخرج الحديث الطبراني عن ابن عباس (¬4)، والرجل اسمه كما صرح ¬

_ (أ) بحاشية الأصل.

به النسائي والطبراني الأرقم بن الأرقم (¬1). والحديث فيه دلالة على أنَّ حُكْمَ مولى بني هاشم حكمهم في تحريم الزكاة عليه، وقد ذهب إلى هذا المؤيد وأبو طالب، وعن أبي حنيفة وأصحابه وقول للشافعي، وذهب الناصر والإمام يحيي ومالك وقول للشافعي إلى حلها لهم لأن علة التحريم مفقودة وهو قُرْبُ النَّسَب، والجواب أن الحديث صريح في التحريم، ويدل على تحريمها على الآل ومواليهم ولو كان على جهة الأخذ بالعمالة، وذهب الناصر، وأبو حنيفة إلى أنه يجوز أخذ العمالة من الزكاة، وذهب إليه بعض الشافعية أيضًا، قالوا: لأنها إجارة، والجواب أن السهم المذكور وإن كان أخذه على وجه الأجرة، ولكن هذا الحديث يرده. 496 - وعن سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يعطي عمر العَطَاءَ فيقول: أعْطه أفقر مني، فيقول: "خُذْه فتموله أو تصدق به، وما جاءك من هذا المال وأنت غير مُشْرفٍ ولا سائل فخُذْهُ، وما لا فلا تتبعه نفسك" رواه مسلم (¬2). قوله: "كان يعطي عمر العطاء" في رواية لمسلم أيضًا زيادة حسبت العُمالة وهي بضم العين المهملة، ولذا قال الطحاوي: ليس معنى الحديث في الصدقات وإنما هو في الأموال التي يقسمها الإمام، وليست هي من جهة الفقر ولكن من الحقوق، ولذلك لم يقبل من عمر قوله: "أعطه أفقر مني"، لأنه إنما أعطاه لمعنى غير الفقر، ويدل عليه قوله: ¬

_ (¬1) انظر: طبقات ابن سعد 3: 505. (¬2) البخاري الزكاة، باب مَنْ أعطاه الله شيئًا من غير مسألة ولا إشراف نفس 3: 337، ح 1473، ومسلم الزكاة، باب إباحة الأخذ لمن أعطي من غير مسألة ولا إشراف 2: 723 ح 111 - 1045 (واللفظ له).

"خذه فتموله". قال الطبري: اختلفوا في قوله: "خذه" بعد إجماعهم بأنه أمر ندب فقيل: هو مندوب لكل من أُعْطِيَ عطية أن يقبلها كائنًا من كان بالشرطين المذكورين في آخر الحديث، وقيل ذلك مخصوص بعطية السلطان، وقال بعضهم: يكره عطية السلطان وهو محمول على السلطان الجائر، والكراهة لأجل الوَرَع والتحرز من الوقوع في الحرام، وهو المشهور من تصرف السلف، والله أعلم. والتحقيق أنَّ مَنْ عَلِمَ كون ماله حلالًا فلا يرد عليه، ومن عَلمَ كَوْن ماله حرامًا فيحرم عطيته، ومن شك فيه فالاحتياط رده وهو الورع، ومَنْ أباحه أخذ بالأصل. قال ابن المنذر: واحتج مَنْ رَخَّصَ فيه بأن الله تعالى قال في اليهود: {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ} (¬1)، وقد رهن النبي - صلى الله عليه وسلم - درعه (¬2) عند يهودي مع علمه بذلك، وكذلك أخذ الجزية منهم مع علمه بذلك، وأن كثيرًا من أموالهم مِنْ ثَمَن الخمر والخنزير والمعاملات الباطلة، انتهى. وقد ذكر في "الجامع الكافي مختصر جامع آل محمد" ما معناه أن عطية السلطان الجائر لا ترد، قال: لأنه إنْ علم أن ذلك عين مال مسلم وجب قبوله وتسليمه لمالكه، وإن كان ذلك ملتبسًا فهو مَظْلَمَة مصرفها إلى من يستحقها، وإن كان ذلك عين مال الجائر، ففيه تقليل لباطله وأخذ ما يستعين بإنفاقه على معصية. هذا معنى كلامه وهو كلامٌ حَسَن، موافق لقواعد الشريعة إلا أنه شرط ¬

_ (¬1) المائدة الآية: 42. (¬2) البخاري كناب الرهن، باب مَنْ رهن درعه 5: 142 ح 2509.

في ذلك أن يأمن القابض على نفسه من محبة المحسن التي جُبِلَتْ النفوسُ على حب من أحسن إليها، وعلى غيره الاغترار بأنه على حق, والله أعلم. وفي الحديث دلالة على أن للإمام أن يعطي بعض رعيته إذا رأى لذلك وجهًا، وإنْ كان غيره أحوج إليه منه، وإنَّ رد عطية الإمام ولا سيما الرسول - صلى الله عليه وسلم - ليس من الأدب. وقوله: "وأنت غير مشْرف" هو -بالشين المعجمة- من الإشراف، وهو التعرض للشيء والحرص عليهم من قولهم "أشرف على كذا" إذا تطاول له، وقيل للمكان المرتفع "مشرِف" لذلك. قال أبو داود (¬1): سألتُ أحمد عن إشراف النفس، فقال: بالقلب، وقال يعقوب بن محمد: سألت أحمد (¬2) عنه فقال: هو أن يقول مع نفسه يبعث إلَيَّ فلانٌ بكذا، وقال الأثرم: هو أن يضيق عليه أن يرد ما إذا كان كذلك. وقوله: "وما لا" يعني ما لم يوجد فيه هذين الشرطَيْن فلا تتبعه نفسك أي لا تعلقها به. وفي الحديث منقبة ظاهرة لعمر مبينة لفضله وزهده، وإيثاره لحب الله ورسوله وتجرده من العلائق الدنيوية، رضي الله عنه. [عدة أحاديث قسمة الصدقات ستة (أ)]. آخر الجزء الرابع، ويتلوه إِن شاء الله الجزء الخامس وأوله: كتاب الصيام والحمد لله رب العالمين ¬

_ (أ) بحاشية الأصل.

البَدْرُ التمام شرح بُلوغ المرام للإمَامِ القاضي الحُسين بن محمد المغربي (1048 هـ - 1119 هـ) تحقيق علي بن عبد الله الزبن عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية قدم له فضيلة الشيخ صالح بن محمد اللحيدان رئيس مجلس القضاء الأعلى الجزء الخامس

البَدْرُ التمام شرح بُلوغ المرام

حقوق الطبع محفوظة الطبعة الأولى 1424 - هـ= 2003 م

كتاب الصيام

كتاب الصيام الصيام والصوم في اللغة بمعنى الإمساك، وفي الشرع: إمساك مخصوص في زمن مخصوص بشرائط مخصوصة (¬1)، وقال صاحب المحكم: الصوم ترك الطعام والشراب والنكاح والكلام، يقال صام صومًا وصيامًا، ورجل صائم وصوم. وقال الراغب (¬2): الصوم في الأصل الإمساك عن الفِعْلِ، ولذلك قيل للفرس الممسك عن السير "صائم". وفي الشرع: إمساك المكلف بالنية عن تناول المطعم والمشرب والاستقاء من الفجر إلى المغرب (¬3). 497 - وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تقدموا رمضان بيوم أو يومين إِلا رجل كان يصوم صومًا فليصمه" متفق عليه (¬4). اعلم أنه فُرِضَ صوم رمضان في السنة الثانية من الهجرة، واختلف العلماء هل قد كان سبقه فرضية صوم أولًا؟ فالجمهور على أنه لم يكن قد سبقه فرضية صوم، وأشار البخاري (¬5) إلى ذلك حيث أورد الآية وهي ¬

_ (¬1) المطلع على أبواب المقنع 145. (¬2) المفردات 291. (¬3) الفتح 102:4. (¬4) البخاري الصيام، باب لا يتقدم رمضان بصوم يوم ولا يومين 4: 127 ح 1914، مسلم الصيام، باب لا تقدموا رمضان بصوم يوم ولا يومين 2: 762 ح 21 - 1082 (واللفظ له). (¬5) البخاري 4: 102.

قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} (¬1) حجة على وجوب الصيام على الإطلاق. ثم بينه سبحانه بقوله: {شَهْرُ رَمَضَانَ} (¬2) الآية، وذهبت الحنفية -وهو وجه للشافعية- إلى أنه تقدم أولًا فرضية عاشوراء فلما نزل رمضان نسخ، ويدل على ذلك حديث عائشة أنه أمر بصيامه حتى فرض رمضان فقال: "من شاء فليصمه ومن شاء أفطر" أخرجه البخاري (¬3). ويدل على الأول حديث معاوية مرفوعًا: "لم يكتب الله صيامه" (¬4) يعني عاشوراء. قوله: "لا تقدموا رمضان" إلخ، في الحديث دلالة على النهي عن صوم يوم أو يومين قبل رمضان، قال العلماء -رحمهم الله تعالى-: معنى الحديث: لا تستقبلوا رمضان بصيام على نية الاحتياط لرمضان، قال الترمذي (¬5)، لما أخرج هذا الحديث: العمل على هذا عند أهل العلم كرهوا أن يتعجل الرجل بصيام قبل دخول رمضان لمعنى رمضان. انتهى. والعلة بذلك أن حُكْم الصيام لا علق بالرؤية فمن تقدم بيوم أو يومين فقد حاول الطعن في ذلك الحكم، ومعنى الاستثناء أن من كان له ورد فقد أذن له فيه لأنه اعتاده وألفه، وليس ذلك من استقبال رمضان في شيء، ويستثنى أيضًا القضاء والنذر بالقياس على ما ذكر لعدم كونه مستقبلًا لرمضان، فالصوم من أجله، ولكنه يلزم من التعليل المذكور أنه لا نهي عن مطلق الفعل لعدم تناول العلة له، ولعله يقال إن النهي عام لما لا سبب له، وإن لم يقصد استقبال رمضان به، وفي ذلك تكميل لحصول المَقْصِد ¬

_ (¬1) البقرة الآية 183. (¬2) البقرة الآية 185. (¬3) البخاري الصوم، باب صيام يوم عاشوراء 4: 244 ح 2001. (¬4) البخاري (السابق) 4: 244 ح 2003. (¬5) سنن الترمذي 3: 69 ح 684.

الذي اعتبره الشارع، ولا يخرج عنه إلَّا مَا له سبب واضح، والله أعلم. وفي ذلك رد على الرافضة في تجويزهم تقديم الصوم على الرؤية وعلى مَنْ جَوَّزَ النفل المطلق، وإنما اقتصر على اليوم أو اليومين لأنه الغالب في حق مَنْ يقصد ذلك، إذ لا يقع الاحتمال في أكثر من ذلك، وقال بعضهم: ابتداء المنع من أول السادس عشر من شعبان لحديث أبي هريرة مرفوعًا: "إذا انتصف شعبان فلا تصوموا " أخرجه أصحاب السنن وصححه ابن حبان وغيره (¬1)، وقال الروياني من الشافعية: يحرم التقدم بيوم أو يومين لحديث الباب، ويكره مِنْ نِصْف شعبان للحديث الآخر. وقال جمهور العلماء: يجوز الصوم تطوعًا بعد النصف من شعبان وضعف الحديث الوارد فيه، وقد قال أحمد وابن معين إنه مُنْكَرٌ، واستظهر بحديث أنس مرفوعًا: "أفضل الصيام بعد رمضان شعبان" (¬2) لكن إسناده ضعيف. 498 - وعن عمار بن ياسر - رضي الله عنه - قال: "من صام اليوم الذي يشك فيه فقد عصى أبا القاسم - صلى الله عليه وسلم -" ذكره البخاري تعليقًا، ووصله الخمسة، وصححه ابن خزيمة، وابن حبان (¬3). قال البخاري وقال صِلَة: عن عمار. وصلة -هو بكسر الصاد المهملة ¬

_ (¬1) أبو داود الصوم، باب في كراهية ذلك 2: 751 ح 2337، الترمذي الصوم، باب ما جاء في كراهية الصوم في النصف الثاني من شعبان 2: 751 ح 2337 ابن ماجه الصيام، باب ما جاء في وصال شعبان برمضان 1: 528 ح 1651، ابن حبان 5: 240 ح 3583. (¬2) كنز العمال 8: 572 ح 24228 وعزاه إلى البيهقي في شعب الإيمان. (¬3) البخاري (تعليقًا) الصوم، باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا رأيتم الهلال فصوموا 4: 119، أبو داود الصيام، باب كراهية صوم يوم الشك 2: 749: 750 ح 2334، الترمذي الصيام، باب ما جاء في كراهية صوم يوم الشك 3: 70 ح 686 النسائي الصوم، باب صيام يوم الشك 4: 126، ابن ماجه الصيام، باب ما جاء في صيام يوم الشك 1: 527 ح 1645 ابن حبان، فصل في صوم يوم الشك 5/ 239 ح 3577. الحاكم الزكاة 1: 424.

وتخفيف اللام المفتوحة- ابن زُفر -بضم الزاي-. وقد وصله أبو داود والترمذي والنسائي وابن خزيمة وابن حبان والحاكم من طريق عمرو بن قيس عن أبي إسحاق عنه، ولفظه عندهم: "كنا عند عمار بن ياسر - رضي اللَّه عنه - فأتي بشاة مصلية، فقال: كلوا، فتنحى بعض القوم فقال: إني صائم، فقال عمار: من صام يوم الشك ... "، وفي رواية ابن خزيمة وغيره: "من صام اليوم الذي نشك ... "، وله متابع بإسناد حسن أخرجه ابن أبي شيبة من طريق منصور عن ربعي أن عمارًا وناسًا معه أتوهم يسألونهم في اليوم الذي يشك فيه فاعتزلهم رجل فقال له عمار: "إنْ كنتَ تُؤمن بالله واليوم الآخر فتعال وكل (¬1) "، ورواه عبد الرزاق من وجه آخر عن منصور عن ربعي عن رجل عن عمار، وله شاهد من وجةٍ آخر أخرجه إسحاق بن راهويه من رواية سماك عن عكرمة، ومنهم من وصله بذكر ابن عباس فيه. والحديث فيه دلالة على تحريم صوم يوم الشك، وهو يوم الثلاثين من شعبان حيث لم يُرَ فيه الهلال لساتر من غيم وغيره فيجوز كَوْنه من رمضان أو من شعبان، لأن الصحابي لا يقول ذلك مِنْ قِبَل رأيه فيكون من قبيل المرفوع. قال ابن عبد البر: هو مستند عندهم لا يختلفون في ذلك وهو موقوف لفظًا، مرفوع حكمًا، وهذا المعنى مدلول عليه بأحاديث النهي عن استقبال رمضان بصوم، والأمر بإكْمال عدة شعبان، والأمر بالصوم لرؤيته، والإفطار لرؤيته، وقد ذهب إلى هذا الشافعي فقال: لا يجوز صومه فرضًا ولا نفلًا مطلقًا بل قضاء وكفارة ونذرًا ونفلًا يوافق عادة. وقال مالك: لا يجوز عن فرض رمضان ويجوز عما سوى ذلك، وبالقولين المذكورين قال أحمد، وله قول ثالث، وهو: إن المرجع إلى ¬

_ (¬1) ابن أبي شيبة 3: 72.

رأي الإمام في الصوم والإفطار، وهو مذهب الحسن البصري، ليذهب علي وابن عمر وعائشة وأسماء بنت أبي بكر وعمر وأنس بن مالك وأبو هريرة ومعاوية وعمرو بن العاص والحكم بن أيوب الغفاري وسالم بن عبد الله ومجاهد وطاوس وأبو عثمان النَّهْدِيّ ومطرف بن الشِّخِّير وميمون بن مهران وبكر بن عبد الله المزني وأحمد بن حنبل والهادوية والناصر إلى أنه يندب (أ) صومه، فأما عمر فأخرج الوليد بن مسلم عن مكحول أن عمر بن الخطاب، كان يصوم إذا كانت السماء في تلك الليلة مغيمة، ويقول: "ليس هذا بالتقديم ولكنه التحري". وأخرج الشافعي عن فاطمة بنت حسين أن (ب) علي بن أبي طالب قال: "لأن أصوم يومًا من شعبان أحب إلى من أن أُفْطِرَ يومًا من رمضان"، [ولفظ الرواية أن رجلًا شهد عند علي على رؤية الهلال فصام وأمر الناس أن يصوموا، وقال: "أصوم يومًا من شعبان" الحديث، وفيه انقطاع (¬1). وأخرجه الدارقطني (¬2) من طريق والشافعي وسعيد بن منصور عن شيخ الشافعي عبد العزيز بن محمد الدراوردي] (ب)، وفي كتاب عبد الرزاق أخبرنا معمر عن أيوب عن ابن عمر قال: "كان إذا كان سحاب أصبح صائمًا وإن لم يكن سحاب أصبح مفطرا". وأخرج أحمد (¬3) بإسناد الصحيح عن نافع قال: "كان عبد الله إذا مضى من شعبان تسعة وعشرون يبعث من ينظر، فإن رأى فذاك، وإن لم ¬

_ (أ) هـ: مندوب. (ب) هـ: بن. (جـ) بحاشية الأصل.

ير ولم يَحُلْ دون منظره سحاب ولا قتر أصبح مفطرًا، وإن حال دون منظره سحاب أو قتر أصبح صائمًا". وأخرج أحمد عن يحيى بن إسحاق قال: رأيتُ الهلال إما الظهر وإما قريبًا منه فأفطر ناس من الناس، فأتينا أنس بن مالك وأخبرناه برؤية الهلال وبإفطار من أفطر، فقال: "هذا اليوم يكمل لي أحد وثلاثون يومًا، وذلك أن الحكم بن أيوب أرسل إلى قبل صيام الناس إني صائم غدًا فكرهت الخلاف عليه فصمت، وأنا متم صومي هذا إلى الليل". وأخرج أحمد أيضًا عن مكحول أن معاوية كان يقول: "لأن أصوم يومًا من شعبان أحب إليَّ من أن أفطر يومًا من رمضان". وأخرج أحمد عن عمرو بن العاص أنه كان يصوم اليوم الذي يشك فيه من رمضان. وأخرج أحمد عن ابن أبي مريم قال سمعتُ أبا هريرة يقول: "لأن أتعجل في (أ) صوم رمضان بيوم أحب إلى من أن أتأخر، لأني إذا تعجلت لم يفتني وإذا تأخرت فاتني". وأخرج سعيد بن منصور عن يزيد بن جبير عن الرسول الذي أتى عائشة في اليوم الذي يشك فيه من رمضان، قال: قالت عائشة: "لأن أصوم يومًا من شعبان أحب إليَّ من أن أفطر يومًا من رمضان". وأخرج سعيد بن منصور عن فاطمة بنت المنذر قالت: "ما غم هلال رمضان إلا كانت أسماء متقدمة بيوم وتأمر بتقدمه". وأخرج أحمد عن فاطمة عن أسماء أنها كانت تصوم اليوم الذي يشك فيه من رمضان. وهذا المروي جميعه يدل على استحباب صوم يوم الشك، وقد روي ¬

_ (أ) ساقط من هـ.

عن عمر وعلي وابن عمر كراهة صوم يوم الشك حتى قال ابن عمر: "لو صمت السنة كلها لأفطرت اليوم الذي يشك فيه" أخرجه الثوري (¬1) في جامعه عن ابن عمر، وقد يجاب عن هذه الآثار مع فرض صحتها أنها موقوفة وللاجتهاد في ذلك مسرح، بل في كثير من الألفاظ ما يفهم منه الاجتهاد لأجل التحري في إكمال العدة، فلا يقاوم أحاديث النهي عن تقدم رمضان بصوم، والأمر بإكمال عدة شعبان مع اللبس، ومن الصريح في ذلك، ما أخرجه أحمد وأصحاب السنن وابن خزيمة وأبو يعلى من حديث ابن عباس (¬2) "فإن حال بينكم وبينه سحاب فأكملوا العدة ثلاثين، ولا تستقبلوا رمضان بصوم يوم من شعبان" ورواه النسائي من طريق أخرى بلفظ: "فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين" (¬3). وروى الدارقطنيي وصححه وابن خزيمة في صحيحه من حديث عائشة (¬4): "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتحفظ من شعبان ما لا يتحفظ من غيره، ثم يصوم لرؤية رمضان، فإن غم عليه كمله ثلاثين يومًا ثم صام"، وأخرجه أبو داود وغيره. وروى أبو داود وابن خزيمة عن حذيفة مرفوعًا: "لا تقدموا الشهر حتى تروا الهلال أو تكملوا العدة، ثم صوموا حتى تروا الهلال أو تكملوا العدة" (¬5). وفي هذا المعنى من الكثير الطيب، وهو المناسب لما عرف من التشديد ¬

_ (¬1) الفتح 4: 122. (¬2) أبو داود الصوم، باب مَنْ قال فإن غم عليكم ... 2: 745 ح 2327، الترمذي الصوم، باب ما جاء أن الصوم لرؤية الهلال ... 2: 72 ح 688، النسائي الصوم، باب الاختلاف على منصور في حديث ربعي 4: 109. (¬3) النسائي، ذِكْر الاختلاف على حديث عمرو بن دينار 4: 109. (¬4) أبو داود الصوم، باب إذا أغمي الشهر 2: 744 ح 2325. (¬5) أبو داود 2: 744: 745 ح 2326.

في المنع من التطوع المشبه للفرض، وكان وصل نافلة الصلاة بالفريضة هلكة، والله أعلم. [وقوله: "فقد عصى أبا القاسم" قيل: إنما أتى بهذه الكنية إشارة إلى أنه هو الذي يقسم بين عباد الله أحكامه زمانًا ومكانا وغير ذلك] (أ). وعن ابنِ عباسٍ - رضي الله عنه - أن أعرابيا جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: "إني رأيت الهلال، فقال: أتشهد أن لا إله إلا الله؟ قال: نعم، قال: أتشهد أن محمدًا رسول الله؟ قال: نعم. قال: فأذن في الناس يا بلال أن يصوموا غدًا". رواه الخمسة، وصححه ابن خزيمة وابن حبان ورجح النسائي إرساله (¬1). وأخرجه ابن ماجه والدارقطني والبيهقي والحاكم من حديث سماك عن عكرمة عنه، قال الترمذي: روي مرسلًا، وقال النسائي إنه أولى بالصواب، وسماك إذا انفرد بأصل لم يكن حجة. وفي الحديث دلالة على قبول خبر المستور (¬2) الذي لم نعلم في حقه بقادح وأنه يعامل معاملة العدل، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - اكتفى منه بعد معرفته لتصديقه بظاهر الحال من السلامة عن القادح وأنه لا يتم التصديق ¬

_ (أ) في حاشية الأصل.

إلا بعد الإقرار بالشهادتين جميعًا وأنه لا يحتاج في التصديق إلى إظهار التبري من سائر الأديان، والله أعلم. 499 - وعن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إِذا رأيتموه فصوموا، وإِذا رأيتموه فأفطروا، فإِن غم عليكم فاقدروا له" متفق عليه (¬1)، ولمسلم "فإن أغمي عليكم فاقدروا له ثلاثين" (¬2)، وللبخاري "فأكملوا العدة ثلاثين" (¬3) وله في حديث أبي هريرة "فأكملوا عدة شعبان ثلاثين" (¬4). قوله: "إِذا رأيتموه" الضمير للهلال، وقد أخرجه الإسماعيلي بلفظ سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول لهلال رمضان: "إذا رأيتموه فصوموا" الحديث (¬5). وكذا أخرجه عبد الرزاق (¬6) عن ابن عمر قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لهلال رمضان "إذا رأيتموه فصوموا". الحديث ظاهره وجوب الصوم عقيب الرؤية ليلًا كانت أو نهارًا, لكنه محمول على صوم اليوم المستقبل، وليس المراد أنه لا يثبت الصيام لكل أحد (أ) إلا برؤيته، بل المراد برؤية (ب) من يثبت بإخباره الحكم، إما واحد ¬

_ (أ) هـ: واحد. (ب) هـ: رؤية.

على رأي بعض، أو اثنان على رأي آخرين، ويدل على هذا التأويل فعله - صلى الله عليه وسلم - والحنفية قالوا: واحد إن كان في السماء غيم وإلا فلا بد من جمع كبير يفيد خبرهم العلم إذا كان صحوًا، والخطاب في قوله: "إِذا رأيتموه" بمعنى إذا وجد فيما بينكم الرؤية، فيدل هذا على أن رؤية بلد رؤية لجميع البلاد فيلزمهم الحُكْم، ويحتمل خلاف ذلك، لأن قوله: "إِذا رأيتموه" خطاب لأناس مخصوصين، وقد اختلف العلماء في ذلك على مذاهب أحدها: تعتبر لأهل كل بلد رؤيتهم (¬1)، وفي صحيح مسلم (¬2) من حديث ابن عباس في قدوم كريب من الشام ما يشهد له، وحكاه ابن المنذر عن عكرمة والقاسم وسالم وإسحاق، وحكاه الترمذي (¬3) عن أهل العلم ولم يحك سواه، وحكاه الماوردي وجهًا للشافعية. ثانيها: إذا رئي ببلدة لزم أهل البلاد كلها وهو المشهور عند المالكية، [واختاره الإمام المهدي (¬4) على أصل الهادوية، قال: إذ لم يفصل دليل الرؤية] (1)، لكن حكى ابن عبد البر الإجماع على خلافه، قال: وأجمعوا على أنه لا تراعى الرؤية فيما بَعُد من البلدان كخراسان والأندلس، قال القرطبي (¬5): قد قال شيوخنا إذا كانت رؤية الهلال ظاهرة قاطعة بموضع ثم نقل إلى غيرهم بشهادة اثنين لزمهم الصوم، وقال ابن الماجشون (¬6): لا يلزمهم بالشهادة إلا لأهل البلد الذي ثبتت فيه الشهادة ¬

_ (أ) بحاشية الأصل.

إلا إن ثبت عند الإمام الأعظم فيلزم الناس كلهم؛ لأن البلاد في حقه في حكم البلدة الواحدة لنفوذ حكمه في الجميع. وقال بعض الشافعية: إن تقاربت البلاد كان الحكم واحدًا، وإن تباعدت فوجهان: لا يجب عند الأكثر، واختار أبو الطيب وطائفة الوجوب، وحكى البغوي عن الشافعي في ضبط البُعْد أوجهًا: أحدها: اختلاف المطالع قطع به العراقيون والصيدلاني، وصححه النووي في "الروضة" و "شرح المهذب". ثانيها: مسافة القَصْر قطع به الإمام والبغوي وصححه الرافعي في "الصغير"، والنووى في شرح مسلم (¬1). ثالثها: باختلاف الأقاليم. رابعها: حكاه السرخسي فقال: يلزم كل بلد لا يتضور خفاؤه عنهم يلي عارض دون غيرهم. خامسها: قول ابن الماجشون المتقدم. سادسها: ما حكاه في "البحر" عن الإمام يحيى لمذهب الهادوية مسافة القصر وأن تختلف الجهتان ارتفاعًا وانحدارًا، قيل وكان كل واحد منهما إقليمًا. والذي في "الانتصار" للإمام يحيى أن يكون اختلاف البلدين بأحد اعتبارين، إما بأن يكونا إقليمين، قال: لأن الأقاليم ينقطع بعضها عن بعض، وإما بأن يكون أحدهما سهلًا والآخر جبلًا، لأنهما إذا كانا على هذه الصفة اختلفت فيها المطالع والمغارب. ¬

_ (¬1) شرح مسلم 197:7 (ط. المصرية).

قال الإمام يحيى: فبغداد والبصرة والكوفة سهلين فتكون الرؤية في أحدهما رؤية للآخر، والعراق والحجاز وخراسان وجبلان وديلمان كلها جبلية يختلف فيها المطالع والمغارب فلا تكون الرؤية فيها للغير. ويدل الحديث على أن مَنْ انْفَرَدَ بالرؤية يلزمه الإفطار والصوم، وقد ذهب إلى هذا العترةُ جميعًا، والأئمة الأربعة في الصوم، واختلفوا في الإفطار فقال الشافعي: يفطر ويخفيه، وقال الأكثر: يستمر صائمًا احتياطًا. [ويدل عليه حديث كريب (¬1)، فإنه قال لابن عباس: أولًا تكتفي -شك أحد رواته في أنه بالخطاب لابن عباس الجمع للمتكلم والمخاطب- فقال له ابن عباس: لا. فأمره بالبقاء على الإمساك حتى يعيّد أهل بلده] (أ). وقوله: "فإِن غُمَّ": يغم بضم المعجمة وتشديد الميم، أي حال بينه وبينكم غيم، يقال غممت الشيء إذا غطيته، ووقع في رواية أبي هريرة (¬2) بلفظ: غم وأغمي وغبي من الغباوة وهو عدم الفطنة استعارة لخفاء الهلال. ونقل ابنُ العربي (¬3) أنه روي عمي بالعين المهملة من العمى، قال: وهو بمعناه لأنه ذهاب البصر عن المشاهدات، أو ذهاب البصر عن المعقولات. وقوله: "فاقدروا له": أي قدروا عدد الشهر ثلاثين يومًا، والمعنى: أفطروا يوم الثلاثين واحسبوه تمام الشهر الأول، وهذا تفسير مالك وأبي حنيفة والشافعي، وهو بصيغة الأمر بوصل الهمزة وكسر الدال وضمها، وقال المطرزي: الضم خطأ، وهذا التأويل ترجحه الروايات الأخر المصرحة ¬

_ (أ) بحاشية الأصل.

بالمراد وهي "فاقدروا ثلاثين" و "أكملوا العدة ثلاثين" ونحوها، وأولى ما يفسر الحديث بالحديث، وقال أحمد: معناه ضيفوا له وقدروه تحت السحاب، وقال أبو نعيم: معناه أقسطوا النظر والطلب للموضع الذي تقدرون أنكم ترونه منه، وقال أبو العباس ابن سُرَيْج من الشافعية ومطرف ابن عبد الله من التابعين وابن قتيبة من المحدثين أن معناه قدروه بحسب المنازل، قال ابن عبد البر: لا يصح عن مطرف، وأما ابن قتيبة فليس هو ممن يُعَرَّجُ عليه في مثل هذا، ونقل ابن خويز منداد عن الشافعي مسألة ابن سريج، والمعروف عن الشافعي ما عليه الجمهور، ونقل ابن عبد البر عن ابن سريج أن قوله: "فاقدروا له" خطاب لمن خصه الله بهذا العلم، وأن قوله: "فأكملوا العِدَّة" خطاب للعامة. قال ابنُ العربي: فصار وجوب رمضان عنده مختلف يجب على قوم بحساب الشمس والقمر وعلى آخرين بحساب العدد، وقال: وهذا بعيد عن النبلاء. وقال ابن الصلاح: معرفة منازل القمر هو معرفة سَيْر الأَهلَّة، وأما معرفة الحساب فأمر دقيق يختص بِمعرفة الآحاد، قال: فمعرفة منازل القمر تدرك بأمرٍ محسوس يدركه مَنْ يراقب النجوم، وهذا هو الذي أراده ابن سريج، وقال في حق العارف بها في خاصة نفسه، ونقل الروياني عنه أنه لم يَقُلْ بوجوب ذلك، وإنما قال بجوازه، وهو اختيار القفال وأبي الطيب، وأما أبو إسحاق في "المهذب" فنقل عن ابن سريج لزوم الصوم في هذه الصورة. فتعدد الآراء في هذه المسألة بالنسبة إلى خصوص النظر في الحساب والمنازل أحدها: الجواز ولا يجزيء عن الفرض. ثانيها: يجوز ويجزيء. ثالثها: يجوز للحاسب ويجزئه لا للمنجم.

رابعها: يجوز لهما ولغيرهما تقليد الحاسب دون المنجم. خامسها: يجوز لهما ولغيرهما مطلقًا. وقد ذهب إلى هذا الروافض، قال الباجي: وإجماع السلف الماضي الصالح حُجَّة عليهم، وقال ابن بريزة: وهو مذهب باطل قد نهت الشريعة عن الخوض في علم النجوم لأنها حدس وتخمين ليس فيها قطع ولا ظن. وأقول: والجواب الواضح عليهم ما أخرجه البخاري عن ابن عمر أنه قال - صلى الله عليه وسلم -: "إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب، الشهر هكذا وهكذا" (¬1): يعني مرة تسعة وعشرين ومرة ثلاثين، إنه مصرح بعدم الرجوع في هذه الشريعة المحمدية إلى النجوم في هذا الحُكْم [كما في غيره في سائر] (أ) الأحكام، وهل يجوِّز العاقل أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه أنهم لا يحسبون ولا يعتبرون سير الأفلاك ويأتي من بعده من يتأسى به ويسلك غير ذلك المنهج السهل الواضح. قال ابن بطال: في الحديث رفع لمراعاة النجوم بقوانين التعديل، وإنما المُعَوّل على رؤية الأهلة، وقد نُهينا عن التكلف، ولا شك أن في مراعاة ما غَمُض حتى لا يدرك إلا بالظنون غاية التكلف. واختار الإمام المهدي في "البحر" أن العارف بالنجوم إذا عرف ذلك يقينًا عاديًا عمل به كمن انفرد بالرؤية، والله أعلم. [فائدة: أخرج أبو داود (¬2) عن الحسن في رجل كان بمصْر من الأمصار فصام يوم الإثنين، وشهد رجلان أنهما رأيا الهلال ليلة الأحد فقال: لا يقضي ذلك اليوم الرجل ولا أهل مصره إلا أن يعلموا أن أهل ¬

_ (أ) بحاشية الأصل.

مصر من أمصار السلمين قد صاموا يوم الأحد فيقضونه] (أ). 500 - وعن ابن عمر - رضي الله عنه - قال: "تراءى الناسُ الهلال فأخبرت النبي - صلى الله عليه وسلم - أو رأيته فصام وأمر الناس بصيامه" رواه أبو داود، وصححه ابن حبان، والحاكم، وأخرجه الدارمي والدارقطني والبيهقي، وصححه ابن حزم كلهم من طريق أبي بكر بن نافع عن نافع عنه (¬1). وأخرجه الدارقطني والطبراني في "الأوسط" من طريق طاوس قال: "شهدتُ المدينة وبها ابن عمر وابن عباس فجاء رجل إلى واليها وشهد عنده على رؤية هلال شهر رمضان، فسأل ابن عمر وابن عباس عن شهادته فأمراه أن يجيزه، وقالا: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أجاز شهادة واحد على رؤية هلال رمضان، وكان لا يجيز شهادة الإفطار إلا شهادة رجلين". قال الدارقطني: تفرد به حفص بن عمر الأيلي، وهو ضعيف (¬2). والحديث يدل على قَبُول خبر الواحد في ابتداء الصوم، وقد ذهب إلى هذا الشافعي في أحد قولَيْه وأحمد وابن المبارك، وتخريج أبي مضر للمؤيد باللهِ، وللشافعية في الواحد اشتراط العدالة في الأصح لا عَبْد وامرأة، وهذا ما نَصَّ عليه الشافعي في "الأم" (¬3)، واحتمال أنه يصح من المرأة والعبد ¬

_ (أ) بحاشية الأصل.

لأنه رواية، والأصح في الصبي المميز الثقة عدم القبول، وذهب الهادوية ومالك والثوري والنخعي وأحد قولي الشافعي إلى اعتبار العدد فلا يكفي الواحد لحديث عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب أنه خطب الناس في اليوم الذي يشك فيه فقال: جالست أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسألتهم وإنهم حدثوني أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، فإن غُمَّ عليكم فأكملوا عِدَّةَ شعبان ثلاثين يومًا، إلا إن شهد شاهدان" رواه النسائي (¬1)، فدل بمفهوم العدد أنه لا يكفي الواحد، قال الإمام المهدي (¬2): وحديث ابن عمر وحديث الأعرابي يحتمل أنه قد كان شهد غيرهما بذلك كما أنه - صلى الله عليه وسلم - رآه فلم يعلم برؤيته حتى أخبره غيره فقال: وآخر معك، وأجيب عن ذلك بأن المفهوم يترك لما هو أقوى منه، وقد وجد ما هو أقوى منه، والاحتمال الذي ذكره خلاف الظاهر، فإن سياق الإخبار يقضي بأنه لم يكن قد سبق خبر بذلك، وحكاية رؤيته - صلى الله عليه وسلم - وحده لم تثبت ولم يخرجها أحد من الأئمة المعتبرين، وذهب الصادق [ورواية عن زيد بن علي] (أ) وأحد قولَي المؤيد بالله وأبو حنيفة إلى أنه يقبل الواحد في الغيم لاحتمال خفائه عن غيره لا الصحو فلا بد من جماعة لِبُعْد خفائه، وظاهر أقوالهم أن المشترط العدد مع العدالة فيصح أن يكون المخبر امرأتين، ونص عليه القاضي زيد إذ لا دليل على اعتبار غيرهما، وقد يجاب عنه بأن قوله "شاهدان" دليل على كونها شهادة، فلا تكفي المرأتان، وقد ذهب إليه الناصر وقال: لا تُقْبَلُ شهادة النساء. وعلى قول من لم يعتبر العدد هو خبر فيكفي في غير محضر الحاكم، ولا يشترط لفظ الشهادة، وعلى القول بالعمل بخبر الواحد في الصوم دون الإفطار إذا صمنا وكملت الثلاثين وجب الإفطار على الأصح لأنا لم نفطر ¬

_ (أ) بحاشية الأصل.

بخبر الواحد صريحًا، وإنما هو متضمن، واحتمل أن لا يجب الإفطار لأنه يؤدي إلى الفطر بقول واحد، وهو ممتنع ابتداء، فكذلك إذا اقتضاه الشهادة السابقة، وأجاب الأول بأنه قد يثبت الشيء ضمنًا ولا يثبت صريحًا. 501 - وعن حفصة أم المؤمنين - رضي الله عنها - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَن لم يبيت الصيام قبل الفجر فلا صيام له". رواه الخمسة، ومال الترمذي والنسائي إلى ترجيح وقفه، وصححه مرفوعًا ابنُ خزيمة وابن حبان (¬1). وللدارقطني: "لا صيام لمن لم يفرضه من الليل" (¬2). الحديث لفظ النسائي، وغيره بلفظ: "من لم يجمع"، وقد اختلفت الأئمة في رفعه ووقفه، فقال ابن أبي حاتم عن أبيه (¬3): لا أدري أيهما أصح، يعني رواية يحيى بن أيوب عن عبد الله بن أبي بكر بن حزم عن الزهري عن سالم عن أبيه عن حفصة مرفوعًا، ورواية إسحاق بن حازم عن عبد الله بن أبي بكر عن سالم عن أبيه عن حفصة مرفوعًا بغير واسطة الزهري، لكن الوقف أشبه، وقال أبو داود (¬4): "ووقفه (أ) على حفصة: مَعْمَر بن راشد والزبيدي وابن عيينة ويونس الأيلي كلهم عن الزهري"، وقال الترمذي (¬5): "الموقوف أصح" ونقل في "العلل" عن البخاري أنه قال: ¬

_ (أ) الأصل (أوقفه)، في جـ: "ووافقه" وهـ: (واقفه).

هو خطأ، وهو حدَّثنا فيه اضطراب، والصحيح عن ابن عمر موقوف. وقال النَّسائيّ: الصواب عندي موقوف، ولم يصح رفعه. وقال أحمد: ما له عندي ذلك الإسناد. وقال الحاكم في "الأربعين": صحيح على شرط الشيخين (¬1)، وقال في "المستدرك": صحيح على شرط البُخاريّ (1). وقال البيهقي (¬2): "رواته ثقات إلَّا أنه رُوِيَ موقوفًا" (1). وقل الخطابي (¬3): أسنده عبد الله بن أبي بكر، والزيادة من الثقة مقبولة. وقال ابن حزم: الاختلاف فيه يزيد الخبر قوة لأنَّ مَنْ رواه مرفوعًا قد رواه موقوفًا (¬4). وأخرَجه الدارقطني من طريق أُخْرَى وقال: "رجالها ثقات" (¬5) وأخرجه ابن ماجه أيضًا (¬6). وفي الباب عن عائشة أخرجه الدارقطني (¬7)، وفي إسناده عبد الله بن عباد، وهو مجهول، وقد ذكره ابن حبان في الضعفاء (¬8). وعن ميمونة بنت سعد (¬9)، ورواه أيضًا، وفيه الواقدي (¬10). والحديث يدل على أنه لا يصح الصوم إلَّا بتبييت النية، ويبيتها بأن ¬

_ (¬1) التلخيص 2: 188 (ط. هاشم اليماني). (¬2) البيهقي 4: 202 (بنحوه). (¬3) معالم السنن 2: 824. (¬4) المحلى 6: 162. (¬5) الدارقطني 2: 172. (¬6) ابن ماجه الصيام، باب ما جاء في فرض الصوم من الليل 1: 542 ح 1700. (¬7) الدارقطني 2: 171، 172. (¬8) المجروحين 2: 46، وانظر الميزان 2: 450. (¬9) الدارقطني 2: 173. (¬10) الواقدي متروك تقدم في الحديث الثاني. ص 53.

ينوي في أي جزء مِنْ آخر الليل، وأول وقتها من الغروب عند الأكثر، وقال بعضُ أصحاب الشافعي: من النصف الأخير، ولا وجه له، وتقدم النية على الصوم هو على نحو سائر العبادات، فإن بيتها (أ) مقارِن (ب) لأول جزء، أو متقدمة مستصحب حكمها، وهو موافق لحديث: "الأعمال بالنية" (جـ)، فإن ابتداء الصوم عمل (د) فلا بد أن يكون مصحوبًا بالنية، وآخر النهار غير منفصلة عن الليل بفاصل يتحقق، فلا يتحقق إلَّا إذا كانت النية واقعة في جزء من الليل، وظاهر هذا شمول الفرض والنفل، وأنه لا يصح إلَّا بتبييت، وقد ذهب إلى هذا ابن عمر ومالك والليث وابن أبي ذؤيب (هـ) والمؤيد والناصر، إلَّا أن مالكًا خصص مَنْ سرد الصوم فلا يحتاج إلى التبييت، وذهب الشافعي والإمام يحيى إلى أنه يجب التبييت في الفرض دون النفل لهذا الحديث، وخصص النفل حديث عائشة الآتي وغيره ممَّا في معناه، إلَّا أن للشافعي قولَيْن فيما بعد الزوال، نص في معظم كُتبه على صحة النية قبل الزوال فقط، ونقل ابن المنذر الجواز مطلقًا، وذَهب عليّ وابن مسعود والنخعي والهادوية إلى أنها تصح نية الصوم إلى آخر جزْء من النهار فِي غير القضاء والنذر المطلق والكفارات، قالوا: لأنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - بعث رجلًا ينادي في النَّاس يوم عاشوراء: أن مَنْ أكل فليتم أو فليصم، ومن لم يأكل فلا يأكل، أخرجه البُخاريّ (¬1). ¬

_ (أ) الأصل، هـ،: فإن نيتها. (ب) الأصل، هـ، جـ: مقارنة. (جـ) هـ: بالنيات. (د) هـ: عملًا. (هـ) هـ: ذؤيب، الأصل، جـ: ذئب.

وكان واجبًا ثم نسخ، ونسخ وجوبه لا يرفع سائر الأحكام، فقِيس عليه رمضان، وفي حكمه النذر المعين والتطوع لحديث عائشة وغيره فخصص مِن عموم، فلا صيام له، وبقي ما عدا ذلك داخلًا تحت العموم، وادعى في "البحر" (¬1) الإجماع على وجوب التبييت في القضاء والنذر المطلق والكفارات، فإن صح الإجماع فهو دليل، وإلا فيمكن قياسها أيضًا على عاشوراء أو (أ) التطوع، ويكون قرينة على تأويل الحديث بأن المعنى لا صيام كامل كما في غير ذلك، مثل: "لا صلاة لحاقن"، ونحوه. وقال الطحاوي: إنْ كان صوم الفرض في يوم يعينه كعاشوراء أجزت النية في النهار، وإن كان في يوم لا يعينه كرمضان فلا يجزئ إلَّا بالتبييت، وصوم التطوع يجزئ في الليل وفي النهار. قال إمام الحرمين: هذا كلام لا أصل له. والحديث يدل أيضًا أن (ب) لا بد من النية، وهو مطابق لعموم الأعمال بالنيات، وهو قول الأكثر. وقال زفر: يصح صوم رمضان في حق المقيم الصحيح بغير نية. وبه قال عطاء ومجاهد، واحتج زفر بأنه متعين فيه الصوم، فالزمان معيار له فلا يحتاج إلى تعيينه بالنية، وألزمه أبو بكر الرازي بأنه يصح صوم المغمى عليه في رمضان إذا لم يأكل ويشرب لوجود الإمساك بغير نية، وألزمه غيره أن منْ أخَّرَ الصَّلاة حتَّى لم يبق من وقتها إلَّا قدرها فصلى أن يجزيه لتعين الوقت. ¬

_ (أ) الأصل، هـ: و. (ب) الأصل، هـ، جـ: أنه.

502 - وعن عائشة - رضي الله عنها - قالت: دخل النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - ذات يوم فقال: "هل عندكم شِيء؟ " قلنا: لا، قال "فإِني إِذًا صائم" ثم أتانا يومًا آخر فقلنا: أُهْدِيَ لنا حيس، فقال: "أرينيه، فلقد أصبحت صائمًا"، فأكل. رواه مسلم (¬1). هذه إحدى روايتي مسلم، والرواية الأخرى (¬2): قالت: قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات يوم: "يا عائشة، هل عندكم شيء؟ قالتْ: قلت: يا رسول الله ما عندنا شيء، قال: فإني صائم، قالت: فخرج النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - فأهديت لنا هدية، أو جاءنا زور، فلما رجع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قلت: يا رسول الله، أهديت لنا، أو جاءنا زور، وقد خبأت لكَ شيئًا، قال: ما هو؟ قلت: حيس، قال: هاتيه، فجئتُ به فأكل ثم قال: قد كنتُ أصبحت صائمًا". قال القاضي وغيره، الروايتان حديث واحد (¬3). وفيه دلالة على مذهب الجمهور أن صوم التطوع لا يشترط فيه التبييت، وتأوله مشترط التبييت بأنه قد كان نوى الصوم من الليل، وإنما أراد الفِطْر لما ضعف عن الصوم، وهو محتمل لا سيما على رواية: "فلَقَدْ أصبحتُ صائمًا". وفي الحديث أيضًا دلالة على أن المتطوع أمير نفسه وأن له أن يُفْطِرَ في أي جزء من أجزاء النهار، ولا يجب عليه القضاء، وقد قال بهذا جماعة من الصحابة وأحمد وإسحاق وغيرهم، ولكنهم متفقون على استحباب إتمامه. ¬

_ (¬1) مسلم الصيام، باب جواز صوم النافلة بنية من النهار قبل الزوال وجواز فطر الصائم نفلًا من غير عذر 169 - 1154. (¬2) مسلم (السابق) رقم - 17 - 1154. (¬3) شرح مسلم للنووي 3: 211.

وقال أبو حنيفة ومالك: لا يجوز قطعه ويأثم بذلك، وبه قال الحسن البصري ومكحول والنخعي، وأوجبوا قضاءه على مَنْ أفطر بلا عذْر. قال ابن عبد البر: وأجمعوا على أنه لا قضاء على من أفطر لعذر. والحَيْس: بفتح الحاء المهملة هو التمر مع السمن والأقط. وقال الهروي: ثريدة من أخلاط، والأول هو المشهور. والزَّوْر: بفتح الزاي تقع على الواحد والجمع، أي الزوار. وقد خبأت لك معناه: جاءنا زائر ومعهم هدية خبأت لك منها، أو يكون معناه: جاءنا زور فأهدي لنا بسببهم هدية فخبأت لك منها. 305 - وعن سَهْل بن سَعْد - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يزال الناسُ بخير ما عجلوا الفطر" متفق عليه (¬1). وللترمذي من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: قال الله -تعالى-: "أحب عبادي إليّ أعجلهم فطرًا" (¬2). الحديث فيه دلالة على أن الأفضل الموافق للسنة التي بسببها ينال الخير ويندفع الشر، وهو تعجيل الإفطار إذا تحقق غروب الشمس بالرؤية أو بإخبار من يجوز العمل بقوله، وقد رواه ابن حبان والحاكم من حديث سهل أيضًا بلفظ: "لا تزال أمتي على سنتي ما لم تنتظر بفطرها النجوم" (¬3)، وفيه بيان العلة في ذلك، وقد صرح بها أيضًا في حديث أبي هريرة: "لأن اليهود والنصارى يؤخرون" أخرجه أبو داود (¬4)، فلما كان ذلك شعارًا ¬

_ (¬1) البُخاريّ الصوم، باب تعجيل الإفطار 4: 198 ح 1957، مسلم الصيام، باب فصل السحور وتأكيد استحبابه واستحباب تأخيره وتعجيل الفطر 2: 771 ح 48 - 1098. (¬2) التِّرمذيُّ الصوم، باب ما جاء في تعجيل الإفطار 3: 83 ح 700. (¬3) ابن حبان 5: 209 الحاكم 1: 434. (¬4) أبو داود الصوم، باب ما يستحب من تعجيل الفطر 2: 763 ح 2353.

للمخالفين في الملة، وقد كثر من النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - إظهار مخالفتهم فيما يتدينون به، فكان ذلك شعارًا (أ) لسنة النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وموافقة لا ألفه ومضى عليه. قال المهلب: والحكمة في ذلك أن لا يزاد في النهار من الليل، ولأنه أرفق (ب) بالصائم وأقوى له على العبادة (¬1). قال الشافعي في الأم (¬2): "تعجيل الفطر مستجب ولا يكره تأخيره إلَّا لمن تعمده ورأى الفضل فيه". وقال في "شرح المصابيح": ولو أن بعض النَّاس صنع هذا الصنيع، وقصده في ذلك تأديب النفس ودفعُ حاجتها أو مواصلة العشاءين بالنوافل غير معتقد ما يعتقده الفرقة الغوية من الشيعة أن ذلك أفضل لم يضره ذلك، ولم يدخل به في جملتهم. ويصحح هذا التأويل حديث أبي سعيد: "لا تواصلوا، فأيكم أراد أن يواصل فليواصل إلى السَّحَر" (¬3) فإباحة المواصلة إلى السحر تأخير للإفطار، وتأخير الإفطار نظر، إلى سياسة النفس وقمع الشهوة أمر قد صنعه كثيرٌ من الربانيين وأصحاب النظر في الأحوال والمعارف -أعاد الله علينا من بركتهم-، وقد صح من ابن الزُّبير أنه كان يواصل سبعًا، ولم ييلغ إنكار أحد من الصحابة عليه. وفي الحديث القدسي أيضًا دلالة على محبوبيَّة الله سبحانه لما جرى على وفق سنة نبيه - صلى الله عليه وسلم -. ¬

_ (أ) هـ: إشعارًا. (ب) هـ: أوفق - بالواو.

504 - وعن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "تسحروا فإِن في السحور بركة" متفق عليه (¬1). وفي الباب من حديث أبي سعيد عند أحمد بلفظ: "السحور بركة فلا تدعوه ولو أن يجرع أحدكم جرعة من ماء، فإن الله وملائكته يصلون على المتسحرين" (¬2)، ولسعيد بن منصور من طريق أخرى مرسلة: "تسحروا ولو بلقمة". قوله: "تسحروا": ظاهر الأمر الوجوب ولكنه محمول على الندب هنا لأن النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه واصلوا، وسيأتي الكلام في حكم الوصال، وقد نقل ابن المنذر الإجماع على ندبية السحور. والسّحور: يروى بالضم مصدر، وبالفتح اسم لما يتسحر به فإن كان مصدرًا فالمراد بالبركة الأجر والثواب، وإن كان اسمًا لما يتسحر به فالمراد بالبركة هو ما يحصل به من القوة على الصوم والنشاط وتخفيف المشقة، وقيل: المراد بالبركة ما يتضمن من الاستيقاظ (أ) والدعاء في السحر، والأولى أن البركة في السحور تحصل بجهات متعددة، وهي اتباع السنة ومخالفة أهل الكتاب لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "فصل ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب أكلةُ السَّحَر" (¬3) رواه مسلم. والتقوي به على العبادة والزيادة في النشاط والتسبب بالصدقة على من يسأل إذ ذاك، والسحور يحصل بأقل ما يتناوله المرء من مأكول أو مشروب. ¬

_ (أ) هـ: الاستنباط.

505 - وعن سلمان بن عامر الضبيّ عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "إِذا أفطر أحدكم فليُفْطِر على تمر فإِن لم يجد فليفطر على ماء فإِنه طهور" رواه الخمسة، وصححه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم (¬1). قال ابن عبد البر في "الاستيعاب" (¬2): قال بعض أهل العلم بهذا الشأن: ليس في الصحابة من الرواة ضبيّ غير سلمان بن عامر، وقال ابن أبي خيثمة: قد روى عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - من بني ضبة عتاب بن شمير (أ). سكن سلمان بن عامر البصرة، وله بها دار قريب من الجامع، روى عنه محمد بن سيرين، والرباب بنت ضليع بن عامر بنت أخي سلمان، وعداده في الشاميين. الحديث صححه أيضًا أبو حاتم الرازي (¬3)، وروى ابن عدي عن عمران بن حصين معناه وإسناده ضعيف، وروى التِّرمذيُّ (¬4) والحاكم وصححه من حديث أنس مثل حديث سلمان، ورواه أحمد والترمذي والنَّسائيُّ وغيرهم عن أنس مِنْ فعْله - صلى الله عليه وسلم - قال: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يفطر على رطبات قَبل أن يصلِّي فإن لم يكن فعلى تمرات، فإن لم يكن حسا حسوات من ماء" (¬5). ¬

_ (أ) الأصل: غياث بن شمير، هـ، جـ: غياث بن سمير.

قال ابن عدي (¬1): تفرد به جعفر بن ثابت والحديث مشهور بعد (أ) الرَّزاق تابعه عمار وهارون وسعيد بن سليمان النشيطي قال (ب) البزار: رواه النشيطي، فأنكروا عليه وضعف حديثه. قال المصنف -رحمه الله-: وأخرج أبو يعلى عن إبراهيم بن الحجاج عن عبد الواحد بن ثابت عن ثابت عن أنس قال: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحب أن يفطر على ثلاث تمرات أو شيء لم تصبه النار". وعبد الواحد، قال البُخاريّ: منكر الحديث. وروى الطّبرانيّ (¬2) عن أنس - رضي الله عنه -: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا كان صائمًا لم يُصَل حتى نأتيه برطب وماء فيأكل ويشرب، وإذا (جـ) لم يكن رطب لم يصل حتى نأتيه بتمر وماء"وقال: تفرد به مسكين بن عبد الرحمن عن يحيى بن أيوب، وعنه زكريا بن عمر. في الحديث دلالة على اختيار ما ذكر للإفطار به، وقد تقدمت المناسبة لذلك في باب صلاة العيد، والله أعلم. 506 - وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: "نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الوِصَال، فقال رجل من المسلمين: فإِنك تواصل يا رسول الله، فقال: وأيكم مثلي؟! إِني أبيت يطعمني ربي ويسقيني، فلما أبوا أن ينتهوا عن الوصال واصل بهم يومًا ثم يومًا ثم رأوا الهلال فقال: ¬

_ (أ) المثبت في الأصل، هـ، وفي جـ: لعبد- باللام. (ب) سقط من جـ: (قال). (جـ) هـ: فإذا.

لو تأخر الهلال لزدتكم كالمنكل لهم حين أبوا أن ينتهوا" متفق عليه (¬1). الحديث متفق عليه من حديث ابن عمر (¬2)، ومن حديث أبي هريرة وعائشة وأنس، وتفرد به البُخاريّ من حديث أبي سعيد (¬3). الحديث فيه دلالة على المنع من الوِصَال، والوصال هو تَرْك المفطر في النهار وفي ليالي رمضان بالقصد، فيخرج من أمسك اتفاقًا ويدخل فيه من أمسك الليل جميعه أو بعضه، ويدل عليه حديث أبي سعيد: "فأيكم أراد أن يواصل فليواصل إلى السحر"، فإنّه صريح في أن إمساك بعض الليل مواصلة، وهذا يرد على مَنْ قال: الليل ليس محلًا للصوم فلا تنعقد فيه نيته، قالوا: لقوله تعالى: {ثم أتموا الصيام إِلى الليل} (¬4)، وما أخرجه التِّرمذيُّ (¬5)، من حديث عبادة بن نسي عن أبي سعيد الخير مرفوعًا "إن الله لم يكتب الصيام بالليل، فمن صام فقد تعنى ولا أجر له" قال ابن منده: غريب لا نعرفه إلَّا من هذا الوجه. قال التِّرمذيُّ: سألت البُخاريّ عنه فقال: ما أرى عبادة سمع من أبي سعيد الخير. وأخرج أحمد (¬6) والطبراني وسعيد بن منصور وعبد بن حمَيْد وابن أبي ¬

_ (¬1) البُخاريّ الصوم، باب التنكيل لمن أكثر الوصال .... ، 4: 205: 206 ح 1965، مسلم الصيام، باب النهي عن الوصال في الصوم 2: 774 ح 57 - 1103) (واللفظ له). (¬2) البُخاريّ ح ابن عمر 1962 وحديث عائشة 1964 وحديث أنس 1961، مسلم ح ابن عمر 55 - 1102 وحديث عائشة 61 - 1105 وحديث أنس 59 - 1104. (¬3) البُخاريّ 4: 202 ح 1963. (¬4) سورة البقرة الآية: 187. (¬5) ليس لأبي سعيد حديث عند التِّرمذيِّ انظر التهذيب 408، الخلاصة 451 قال الحافظ في الفتح (4/ 202): "وهو حديث ذكره التِّرمذيُّ في الجامع، ووصله في العلل المفرد، وأخرجه ابن السكن وغيره في الصحابة والدولابي- وغيره في الكنى كلهم من طريق أبي فروة الرهاوي عن معقل الكندي عن عبادة بن نسي عنه، ولفظ المتن مرفوعًا": "إن الله لم يكتب .... " الحديث. (¬6) أحمد 5: 225.

حاتم في تفسيرهما بإسنادٍ صحيح إلى ليلى امرأة بشير ابن الخَصَاصية قالت: "أردتُ أن أصوم يوميْن مواصلة فمنعنى بشير وقال: إن النبيَّ - صَلَّى الله عليه وسلم - نهى عن هذا، قال: تفعل ذلك النصارى ولكن صوموا كما أمركم الله تعالى: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} (¬1) فإذا كان الليل فأفطروا". وروى ابنُ أبي حاتم وابن أبي شيبة (¬2) من طريق أبي العالية التابعيّ أنه سُئل عن الوصال في الصيام فقال: "قال الله تعالى: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ}، فإذا جاء الليل فهو مفطر". وأخرج الطّبرانيّ (¬3) عن أبي ذر رفعه قال: "لا صيام بعد الليل" أي بعد دخول الليل ذكره في أثناء حديث، وترد هذه الأحاديث بأنه قد ثبت النهي عن الوصال، ومواصلته، - صَلَّى الله عليه وسلم -، ولو كان كما قالوا لما كان لذلك مفهوم ينهى عنه أو يسأل عنه، وهي متأولة بأن ذلك الوقت هو الوقت الذي أبيح فيه الإفطار، وهو غاية ما يجب فيه الإمساك، ولا ينافي كون الليل تصح نية الإمساك فيه عن المفطرات، والفرق واضح. وقوله: "قال رجل من المسلمين": هكذا في رواية أبي هريرة، وفي غيرها في أكثر الروايات: "قالوا إنك تواصل" فكأن القائل واحد (أ) ونسب القول إلى الجميع لرضاهم به. قال المصنف -رحمه الله تعالى- (¬4): "ولم أقف على تسمية السائل في شيءٍ من الطُّرق". ¬

_ (أ) جـ: واحد أو نسب.

وقوله: "وأيكم مثلي؟ ": استفهام إنكار للتوبيخ، ومثلي أي على صفتي أو منزلتي من ربي، وقد وقع في لفظ للبخاري: "لست كأحدٍ منكم"، وفي حديث ابن عمر: "لستُ مثلكم"، وفي حديث أبي سعيد: "لست كهيئتكم"، وفي حديث أبي (أ) زُرْعة عن أبي هريرة عند مسلم: "لستم في ذلك مثلي" (¬1)، ونحوه في مرسل الحسن عند سعيد بن منصور. وقوله (ب) "إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني": وقع هذا اللفظ في البُخاريّ عن أبي هريرة من طريقين (¬2)، ووقع عند سعيد بن منصور وابن أبي شيبة (¬3) عن أبي هريرة "إنِّي أظَلُّ عند ربي يطعمني ويسقيني". وأخرَج الإسماعيليّ (¬4) في حديث عائشة: "أظَلُّ عند الله يطعمني ويسقيني"، ومن طريقٍ بلفظ: "عند ربي" ووقعت أيضًا كذلك عند سعيد بن منصور (¬5) وابن أبي شيبة في مرسل الحسن بلفظ: "إني أبيت عند ربي" (¬6). ورواية "أبيت" هي المناسبة لما عنه (جـ) الحكم، وهو الإمساك بالليل، وأما رواية "أظل" فلا تناسب ظاهرًا لأنَّ ذلك للنهار إلَّا أنها محمولة على ¬

_ (أ) سقط من هـ (أبي). (ب) هـ: قوله- بدون الواو. (جـ) هـ، جـ: عند.

مطلق الكون، ومنه قوله تعالى: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا} (¬1) وهي في الحقيقة بمعنى صار لا يختص بوقتٍ دونَ آخر. واختلف العلماء في معنى "يطعمني ويسقيني"، فقيل: هو على حقيقته، وأنه - صلى الله عليه وسلم - كان يطعم ويسقى من عند الله كرامة له في ليالي صيامه، وتعقبه ابن بَطَّال بأنه لو كان كذلك لم يكن مواصلًا، وأجيب عنه بأنَّ ما كان على هذه الكيفية من طعام الجنة للتكريم فهو لا ينافي التكليف ولا يكون له حكم طعام الدنيا، كما أنه - صلى الله عليه وسلم - غسل صدره (أأي قلبها" أ) -في طشت الذهب مع تحريم آنية الذهب، وقال الزين بن المُنيِّر (¬2): إن أكله وشربه في تلك الحالة كحالة النائم الذي يحصل له الشبع والري في حال النوم، ويستمر له ذلك (ب) حتَّى يستيقظ، والمراد أنه - صلى الله عليه وسلم - مستغرق في أحواله الشريفة حتَّى لا يؤثر فيه شيء من الأحوال البشرية. وقال الجمهور: المعنى أن له قوة الآكل الشارب لا يضعفه الوصال عن وظائف العبادة ولا يضعف جسمه عن الكيفية البشرية، أو أن الله يخلق فيه من الشبع والري ما يغنيه عن الطعام والشراب فيكون في كيفية الآكل الشارب، ويرجح الأول بأن روح عبادة الصوم هو إدراك خلق (جـ) الباطن فلا يناسب خلق الشبع والري فيه. قال القرطبي: مع أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يجوع أكثر ممَّا يشبع، وربط على بطنه الحجارة من الجوع، وإن كان ابن ¬

_ (أ - أ) سقط في جـ. (ب) هـ: كذلك. (جـ) غير ظاهر بالنسخ فالأشبه في الأصل، جـ: خلو.

حبان (¬1) قال بأنه كان لا يجوع وتمسك بظاهر هذا الحديث، وضعف الأحاديث الواردة بأنه كان - صلى الله عليه وسلم - يجوع وشد الحجر على بطنه، وقال أيضًا ما يغني الحجر عن الجوع، وقد أكثرَ النَّاس عليه الرد في ذلك، ويرد عليه بما أخرجه هو أيضًا في "صحيحه" من حديث ابن عباس أنه خرج - صلى الله عليه وسلم - بالهاجرة فرأى أبا بكر وعمر فقال: ما أخرجكما؟ قالا: ما أخرجنا إلَّا الجوع، قال: وأنا والذي نفسي بيده ما أخرجني إلَّا الجوع، وفائدة الشد بالحجر أنه يقيم الصلب لأنَّ البطن إذا خلا ضعف صاحبه عن القيام لانثناء بطنه، فإذا ربط عليه الحجر اشتد وقوي صاحبه على القيام حتَّى قال بعض من وقع له ذلك: كنتُ أظن الرِّجْلَيْن تحملان البطن، فإذا البطن تحمل الرِّجْلين، والظاهر أنه أراد - صلى الله عليه وسلم - أن ما هو فيه من الاشتغال بالتفكر في عظمة ربه والتملي بمشاهدته والتغذي بمحبته، والاستغراق في مناجاته، والإقبال عليه مغنٍ عن الطعام والشراب، وإلى هذا جنح ابنُ القيِّم قال: وقد يكون هذا الغذاء أعظم من غذاء الأجساد، ومن له أدنى ذَوْق عَلِمَ استغناء الجسم بغذاء القلب والروح عن كثيرٍ من الغِذَاء الجسماني، ولا سيما الفرح والسرور بمطلوبه الذي قرت عينه بمحبوبه. وقوله: "واصل بهم يومًا ثم يومًا": ظاهره أنَّ قدرَ المواصلة لهم كانت يومَيْن، وقد صرح بذلك البُخاريّ في رواية (¬2)، وقوله: "لو تأخر": يستدل بهذا على جواز التمني بليت، ويحمل النهي على ذلك فيما إذا كان في الأمور الشرعية. وقوله: "لزدتكم" أي: في الوصال إلى أنْ تعجزوا عنه فتسألوا ¬

_ (¬1) صحيح ابن حبان 5: 236. (¬2) البُخاريّ 4: 205 - 206 ح 1965.

التخفيف عنكم بتَرْكه. وقوله (أ): "كالمُنَكِّل": هي في رواية معمر، ووقع في أخرى "كالتنكيل"، ووقع عند المستملي كالمنكر" بالراء وسكون النون من الإنكار، وللحموي "كالمنكي" بتحتانية ساكنة قبلها كاف مكسورة خفيفة من النكاية، والتنكيل: هو المعاقبة (¬1). وفي الحديث دلالة على أنَّ الوِصَال من خصائصه - صلى الله عليه وسلم -، وأن غيره ممنوع منه إلَّا (ب) ما أذن فيه إلى السَّحَر، ثم اختلف العلماء في المنع منه فقيل على سبيل التحريم، وقيل الكراهة، وقيل يحرم على منْ شق (ب) عليه ويباحُ لمن لم يشق عليه، وقد اختلف السلف في ذلك فنقل التفضيل عن عبد الله بن الزُّبَير، وروي ابن أبي شيبة (¬2) بإسناد صحيح عنه أنه كان يواصل خمسة عشر يومًا. وذهب إليه أيضًا من الصحابة أخت أبي سعيد، ومن التابعين عبد الرحمن بن أبي نعم وعامر بن عبد الله بن الزُّبير، وإبراهيم بن يزيد التَّيْمي، وأبو الجوْزَاء كما نقله أبو نعيم في ترجمته في "الحلية" (¬3) وغيرهم، رواه الطّبرانيّ وغيره، واحتجوا بأنه - صلى الله عليه وسلم - وَاصلَ بأصحابه بعد النهي، فلو كان النهي للتحريم مطلقًا لما أقرهم على فعله، فَعُلِمَ أنه أراد بالنهي الرحمة لهم والتخفيف عنهم، وقد صرحت بذلك عائشة في روايتها (¬4)، ¬

_ (أ) سقط من هـ: (وقوله). (ب) هـ: إلى. (جـ) هـ: يشق.

وذهب الأكثرون (أ) إلى تحريمه، وعن الشافعية في ذلك وجهان: التحريم والكراهة، هكذا اقتصر عليه النووي، وقد نص الشافعي في "الأم" (¬1) على أنه محظور، وصرح ابن حزم بتحريمه (¬2)، وصححه ابن العربي من المالكية (¬3)، واعتذروا عن مواصلته - صلى الله عليه وسلم - بهم بأن ذلك تقريعًا لهم وتنكيلًا، واحتمل جواز ذلك منه لأجل مصلحة النهي في تأكيد زجرهم لأنهم إذا باشروه ظهرت لهم حكمة النهي وكان ذلك أدعى (ب) إلى قبولهم لما يترتب عليه من الملل في العبادة والتقصير فيما هو أهم منه وأرجح من وظائف العبادات. وذهب أحمد وإسحاق وابن المنذر وابن خزيمة وجماعة من المالكية إلى جواز الوصال إلى السَّحَر للإذن بذلك وهذا حيث لم (جـ) يشق على الصائم وإلا فليس بقربة، وأجاب بعض الشافعية بأن ذلك ليس وصالًا، وقد عرفت فيما تقدم أنه وصال، (د وقد ورد د) أن النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كان يواصل من سحر إلى سحر، أخرجه أحمد وعبد الرَّزاق (¬4)، واختار المصنف - رحمه الله تعالى (هـ) - أن الوصال غير محرم، قال لما أخرجه أبو داود (¬5) ¬

_ (أ) هـ: الأكثر. (ب) جـ: داعى. (جـ) هـ: لما. (د- د) ساقط من جـ. (هـ) في الأصل: (إلى أن)، كما ألحقت (إلى) بحاشية هـ.

وغيره من طريق عبد الرحمن بن أبي ليلى عن رَجُلٍ من الصحابة قال: "نهى النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - عن الحجامة والمواصلة ولم يحرمهما (أ) إبقاءً على أصحابه" وإسناده صحيح. وروي البزار والطبراني في "الأوسط" من حديث سمرة: "نهى النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - عن الوصال وليس بالعزيمة (¬1) " وأما ما رواه الطّبرانيّ في الأوسط من حديث أبي ذر أن جبريل قال للنبي - صلى الله عليه وسلم -: إن الله قد قبل وصالك، ولا يحل لأحد بعدك. فليس إسناده بصحيح (¬2). ويدل على الجواز أيضًا إقدام الصحابة على الوصال بعد النهي فلولا أنهم فَهِمُوا أنه ليس للتحريم لما أقدموا على ذلك. وفيه مناسبة من حيث المعنى من جهة فطم النفس عن شهواتها وقمعها عن مستلذاتها، ولهذا استمر على القول بجوازه مطلقًا ومقيدًا من يقدم ذكره، والله أعلم. وفي الحديث دلالة على التأسي به - صلى الله عليه وسلم - ومعارضة المفتي فيما أفتى به إذا كان بخلاف حاله ولم يعلم المستفتي بسر المخالفة والاستكشاف عن حكمة النهي وثبوت خصائصه وأن الصحابة كانوا يرجعون إلى فعله المعلوم صفته إلَّا أن يتبين له الخصوصية به. 507 - وعنه - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَن ¬

_ (أ) هـ، ب: يحرمها، والمثبت في الأصل وفي سنن أبي داود.

لم يَدَعْ قَوْل الزور والعمل به والجهل فليس لله حاجة أن يدع طَعَامَهُ وشرابه" رواه البُخاريّ وأبو داود واللفظ له (¬1). الحديث رواه البُخاريّ في كتاب الصيام بدون زيادة "والجهل" (¬2)، ورواه بالزيادة في الأدب، وفي رواية ابن وهب (أ) بزيادة "والجهل" في الصوم، ولابن ماجه "من لم يدع قول الزور والجهل والعمل به" (¬3). وأخرَج الطّبرانيّ في "الأوسط" (¬4) عن أنس بلفظ "من لم يدع الخنا والكذب"، والمراد بمن لم يَدَعْ أي يترك ما ذكر، والزور المراد به الكذب، والجهل: السَّفَه. وعلي رواية الأصل الضمير في "به" يعود إلى الزُّور، وفي رواية ابن ماجه يعود إلى الجهل، ويحتمل العودُ إلى كل واحد منهما. وقوله: "ليس لله حاجة": أي ليس له إرادة، والغَرَض من هذا التحذير والتعظيم لإثمه، وأن صيامه كلا صيام (ب) ولا معنى معتبر للمفهوم هنا، فإن الله لا يحتاج إلى أحد، هو الغني سبحانه وتعالى، ذكر هذا ابن بطال. وقال ابن المُنيِّر في حاشيته على البخاريّ: هو كناية عن عدم القَبُول، كما يقول المغضب لمن رد عليه شيئًا طلبه منه لم يقم به: لا حاجة لي ¬

_ (أ) هـ: من ذهب. (ب) جـ: خلا صيام، وسقط من جـ (ولا معنى).

إلى كذا، مثل قوله تعالى: {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ} (¬1). وقال ابن العربي: معناه أن ثواب الصيام لا يقاوم في حكم الموازنة ما استحق من العقاب لما ذكر (¬2). وقال (أ) البيضاوي: إن المقصود من شرعية الصيام هو قمع النفس ومنعها عن المشتهيات، وأن تطيع النفس الأمارة النفس (ب) المطمئنة، وهو لا يتم إلَّا بترك المنهيات، فإذا لم يحصل ذلك لم يتقبل الله منه، فيجوز بما ذكر عن عدم القبول فنفى السبب وهو (جـ) الاحتياج (د) إلى الشيء في الجملة الذي يكون سببًا لقبوله وتلقيه، وأراد المسبب وهو القبول، والله أعلم. 508 - وعن عائشة - رضي الله عنها - قالت: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقَبِّل وهو صائم، ويباشر وهو صائم، ولكنه أملككم لإِرَبِهِ" متفق عليه، واللفظ لمسلم (¬3). وأراد في رواية في رمضان المراد بالمباشرة هنا هو التقاء البشرتين من غير جماع، وقد يستعمل في الجماع مثل قوله تعالى: {فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ} (¬4). ¬

_ (أ) سقط من جـ: (وقال). (ب) سقط من جـ: (النفس). (جـ) سقط من جـ: (وهو). (د) زادت جـ: (وإن كان فيمتنع في حق الله).

والإِرَب: رُوِيَ على وجهَيْن أشهرهما - ورواية الأكثرين (أ) -بكسر الهمزة وإسكان الراء، وكذا (ب) نقله الخطابي والقاضي عن رواية الأكثرين (¬1). والثاني بفتح الهمزة والراء، ومعناه بالكسر: الوَطَر والحاجة، وكذا بالفتح ولكنه يطلق المفتوح أيضًا على العضو. قال العلماء: معنى كلام عائشة - رضي الله عنها - أنه ينبغي لكم الاحتراز عن القبلة، ولا تتوهموا من أنفسكم أنكم مثل النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في استباحتها، لأنَّه يملك نفسه ويأمن الوقوع من قبلة أن يتولد منها إنزال أو شهوة وهيجان نفسٍ ونحو ذلك، وأنتم لا تأمنون ذلك فطريقكم الانكفاف عنها، وقد أخرج النَّسائيّ (¬2) من حدَّثنا الأسود قلت لعائشة: أيباشر الصائم؟ قالت: لا، قلت: أليس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يباشر وهو صائم؟ قالت: إنه كان أملككم لإربه. وظاهر هذا أنها اعتقدت خصوصية النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - بذلك، قاله القرطبي قال: وهو اجتهاد منها، انتهى. ولكنه مُتَأَوِّل بأنها كرهت ذلك للسائل كراهة تنزيه لا تحريم، وهو يفهم من قولها: "أملككم لإربه" فإنّه لا دلالة فيه على الخصوصية، وإنما هو استبعاد منهم أنهم يملكون أنفسهم عند قوة الداعي وسبب تحرّك الشهوة. ¬

_ (أ) جـ: الأكثر. (ب) هـ: وكذلك.

قال المصنف -رحمه الله تعالى (¬1) -: وقد رويناه في كتاب "الصيام" ليوسف القاضي من طريق حماد بن سلمة عن حماد بلفظ: سألتُ عائشة عن المباشرة للصائم فكرهتها. ويدل أيضًا على أن عائشة لا تُحَرِّمها ولا تعدها من الخصائص ما رواه مالك في "الموطأ" (¬2) عن أبي النَّضْر أن عائشة بنت طلحة أخبرته أنها كانت عند عائشة فدخل عليها زوجها وهو عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر فقالت له عائشة: ما يمنعك أن تدنو من أهلك فتلاعبها (أ) وتقبلها؟ قال: أقبلها وأنا صائم؟! قالت: نعم. وأخرَج ابن حبان في "صحيحه" (¬3) أنه كان - صلى الله عليه وسلم - لا يمس شيئًا من وجهها وهي صائمة، فيدل أيضًا على أن النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كان يجنبها ذلك إذا صابها تنزيهًا منه لها عن تحرك الشهوة، لكونها ليست مثله. وفي قولها "في رمضان": إشارة إلى أنه لا فَرْق بين صوم النَّفْل والفَرْض، وظاهر الحديث يدل على إباحة التقبيل والمباشرة للصائم لدليل التأسي به - صلى الله عليه وسلم - ولأن ما ذكرته جواب عن سؤال مَنْ سأل عن القُبْلَة وهو صائم، فالجواب يقضي بالإباحة لذلك مستشهدة بما كان يفعله (ب النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - ب) - وقد اختلف في ذلك فكرهها قَوْمٌ مطلقًا، وهو المشهور عند المالكية، وأخرجه ابن أبي شيبة بإسناد صحيح عن ابن ¬

_ (أ) هـ: لتلاعبها. (ب- ب) ساقط من هـ.

عمر (¬1)، ونقل ابن المنذر وغيره عن قوم التحريم واحتجوا بقوله تعالى: {فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ} الآية (¬2)، فمنع من المباشرة في النهار، ويجاب عنه بأن المراد بالمباشرة في الآية هو الجماع، ويدل على ذلك بيان النَّبيِّ - صَلَّى الله عليه وسلم - لهذا الحديث وغيره، وأفتى ابن شبرمة من فقهاء الكوفة بإفطار من قبّل، ونقله الطحاوي عن قوم ولم يسمهم، وأباح ذلك قوم وهو منقول صحيحًا عن أبي هريرة وسعيد وسعد بن أبي وقاص وطائفة، وبالغ بعض الظاهرية فاستحبها، وفَرَّق آخرون بين الشاب والشيخ فكرهها للشاب وأباحها للشيخ، وهو مشهور (أ) عن ابنِ عباس أخرجه مالك (¬3) وسعيد بن منصور وغيرهما، وجاء فيه حديثان ضعيفان مرفوعان، أخرج أحدهما أبو داود من حديث أبي هريرة (¬4)، والآخر أحمد من حديث عبد الله بن عمرو (¬5)، وَفَرَّق آخرون بين من يملك إربه ومن لا، كما أشارت إليه عائشة. وقال التِّرمذيُّ (¬6)، ورَوَى بعض أهل العلم أن للصائم إذا ملك نفسه أن يقبّل وإلا فلا ليسلم له صومه، وهو قول سفيان والشافعي، ويدل على ذلك ما رواه مسلم من طريق عمر بن أبي سلمة لما سأل النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - فأخبرته أم سلمة أمه (ب) "أن النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يصنع ذلك، فقال: يا رسول الله قد ¬

_ (أ) هـ: المشهور. (ب) هـ: (أمه أم سلمة).

غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر فقال: أنا والله لأتقاكم لله وأخشاكم له" (¬1)، فدل على أن الشاب والشيخ سواء لأنَّ عمر كان شابًّا لعله كان أول ما بلغ، وفيه دلالة على أنه ليس من الخصائص. وأخرج أيضًا (أ) النَّسائيّ (¬2) من حدَّثنا عائشة قالت: أهوى إليَّ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - ليقبلني، فقلت: إني صائمة، فقال: "وأنا صائم" فقبلني. مع أن عائشة أيضًا شابة، وهذا يعارض ما تقدم من تركه لتقبيلها وهي صائمة، ولعله اختلف الحال بالنظر إلى ما يعرض للإنسان مع شدة الشهوة في وقت وعدم ذلك. واختلف العلماء أيضًا فيما إذا باشر أو قَبَّلَ أو نظر فأنزل أو أمذى، فقال الكوفيون والشافعي: يقضي إذا أنزل في غير النظر، ولا قضاء في الإمذاء. وقال مالك وإسحاق: يقضي في كل ذلك ويكفر إلَّا في الإمذاء فيقضي فقط، واحتج له بأن الإنزال أقصى ما يطلب في الجماع من الالتذاذ في ذلك، وتعقب بأن الحكم علق بالجماع فقط. وروى ابن دينار عن ابن القاسم عن مالك وجوب القضاء فيمن باشر أو قبل فأنعظ وإن لم يمذ ولا أنزل، وأنكره غيره عن مالك، وأبلغ من ذلك ما رواه عبد الرَّزاق عن حذيفة: "من تأمل خلْق امرأته وهو صائم بطل صومه" وإسناده ضعيف (¬3). ¬

_ (أ) سقط من جـ: (أيضًا).

وقال ابن قدامة: إنْ قَبَّلَ فأنزل أفطر بلا خلاف (¬1). وقد حكى ابن حزم أنه لا يفطر ولو أنزل (¬2). وقال الماوردي: ينبغي أنْ يُعْتَبَرَ حال المقبل فإن أثارت القبلة منه الإنزال حرمت عليه لأنَّ الإنزال يمنع من الصيام، فكذلك ما أدى إليه وإن كان عنها المذي، فمن رأى (أ) الإفطار به ووجوب القضاء قال: يحرم في حقه، ومن قال: يكره، وإن لم تؤدِّ القبلة إلى شيء فلا معنى للنهي عنها إلَّا على القَوْل بسد الذرائع، قال: ومِنْ بديع ما روي في ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم - للسائل عنها: "أرأيت لو تمضمضت" (¬3) فأشار إلى فقهٍ بديع، وذلك أن المضمضة لا تنقض الصوم (ب) وهي أول الشرب ومفتاحه، كما أن القبلة من دواعي الجماع ومفتاحه، والشرب يفسد الصوم كما يفسده الجماع فكما ثبت عندهم أن أوائل الشرب لا يفسد الصيام فكذلك أوائل (جـ) الجماع. انتهى. وهذا الحديث أخرجه أبو داود والنَّسائيُّ من حديث عمر، قال النَّسائيّ: منكر (¬4)، وصححه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم. ¬

_ (أ) جـ: روي. (ب) جـ: الوضوء. (جـ) سقط من جـ: (أوائل).

وفي الحديث دلالة على أنه لا بأس بذكر ما يقع بين الزوجَيْن عند الاحتياج إلى ذلك، والنهي عنه إذا كان لغير حاجة، والله أعلم. 509 - وعن ابن عباس - رضي الله عنه - "أن النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - احتجم وهو مُحْرِم، واحتجم وهو صائم". رواه البُخاريّ (¬1). ظاهر هذا اللفظ أنه وقع منه - صلى الله عليه وسلم - الأمران (أ) مقترنين (ب): وهو الحِجَامَة وهو محرم، والحجامة وهو صائم، ولم يكن ذلك في وقت واحد لأنَّه - صلى الله عليه وسلم - لم يكن صائمًا في حجة الوداع، فإنها لم تكن في رمضان، ولم يكن مُحْرِمًا في سفره في رمضان في عام الفتح، وقد صام في ذلك كما في الصحيحين [بلفظ "وما منا صائم إلَّا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعبد الله بن رواحة"] (¬2) ويدل على ذلك أن غالب الروايات ورد مفصلًا، قال بعض الحفَّاظ: حديث ابن عباس ورد على أربعة أوجه: الأول: احتجم وهو مُحْرِم. وقد روي من طرق شتى عن ابن عباس (¬3)، وفي الصحيحين من حديث عبد الله بن بُحينَة (¬4)، وفي النَّسائيّ وغيره من ¬

_ (أ) جـ: الأمرين. (ب) كذا في الأصل، وهـ، وفي جـ: (مفترقين) وكذا. حاشية الأصل: في سبل السلام "مفترقين" وهو الظاهر.

حديث أنس (¬1) وجابر (¬2). والثاني: احتجم وهو صائم. رواه أصحاب السنن، وفي إسناده مقال (¬3)، وزاد ابن سعد في آخره: "فلذلك كرهت الحجامة للصائم". وفيه ضعف أيضًا، وقد رواه البزار وفي آخره: "فغشي عليه" (¬4). والثالث: ما رواه البُخاريّ كما في الأصل. والرابع: "احتجم وهو صائم مُحْرِم". رواه النَّسائيّ وغيره (¬5)، وقال أحمد وابن المدينيّ: ليس فيه صائم، وقال أحمد: هؤلاء أصحاب ابن عباس لا يذكرون صيامًا، وقال أبو حاتِمٍ: "أخطأ فيه شريك، إنما هو احتجم وأعطى الحجام أجره، وشريك حدث به من حفظه وقد ساء حفظه فغلط فيه" (¬6). والحديث فيه دلالة على أن الحجامة لا تفطر الصائم، وقد ذهب إليه الأكثر من الصحابة والتابعين والفقهاء ذهابًا منهم إلى أن هذا ناسخ لحديث شداد بن أوس وغيره، وبعضهم تأول ذلك وسيأتي، وذهب أبو هريرة وعائشة والأوْزاعِي وأحمد وإسحاق إلى أنها تفطره لما سيأتي. ¬

_ (¬1) النسائي مناسك الحج، باب حجامة المحرم على ظهر القدم 5/ 194. (¬2) النَّسائيّ مناسك الحج، باب حجامة المحرم من علة تكون به 5/ 193. (¬3) أبو داود الصوم، باب في الرخصة في ذلك 2: 773 ح 2372، التِّرمذيُّ الصوم، باب ما جاء من الرخصة في ذلك 3: 146 ح 776، النَّسائيّ في الكبري الصيام (-كما في تحفة الأشراف 5: 249 ح 6495)، ابن ماجه الصيام، باب ما جاء في الحجامة للصائم 1: 537 ح 1682. (¬4) كشف الأستار 1: 478 ح 1015. (¬5) أبو داود الصوم، باب في الرخصة في ذلك 2: 773 ح 2373، التِّرمذيُّ الصوم، باب ما جاء من الرخصة في ذلك 3: 146 ح 775، والنَّسائيُّ في الكبرى الصيام (كما في تحفة الأشراف 5: 249 ح 6495). (¬6) علل الحديث ص 230 ح 668 (بنحوه).

510 - وعن شَداد بن أوْس أن النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم -: "أتى على رَجُل بالبقيع وهو يحتجم في رمضان فقال: أفطر الحاجم والمحجوم له" رواه الخمسة إلَّا التِّرمذيّ، وصححه أحمد وابن خزيمة، وابن حبان (¬1). هو أبو يعلى شداد -بالشين المعجمة- بن أوس الأنصاري، ابن أخي حسَّان بن ثابت، يقال إِنه شهد بدرًا، ولا يصح، ونزل بيت المقدس، وعداده في أهل الشام، وروَى عنه ابنه يعلى ومحمود بن الرَّبيع وضمرة بن حبيب، مات بالشام سنة ثمان وخمسين وهو ابن خمس وسبعين سنة، وقيل: مات سنة إحدى وأربعين، وقيل: سنة أربع وستين. قال عبادة بن الصامت وأبو الدرداء: كان شداد ممن أوتي العلم والحلم (¬2). الحديث أخرج من طرق كثيرة عن جماعة من الصحابة وهم: شداد بن أوس، وثوبان، ورافع بن خديج، وأبو موسى، ومَعْقل بن يسار، وأسامة بن زيد، وبلال، وعلي، وعائشة، وأبو هريرة، وأَنس، وجابر، وابن عمر، وسَعْد بن أبي وَقَّاص، وأبو سويد الأنصاري، وابن مسعود (أ). وصحح البُخاريّ حديث شداد من طريقين. وقال أحمد في حديث رافع بن خديج أنه أصح شيء في هذا الباب ¬

_ (أ) سقط من جـ: (وابن مسعود).

حكاه عنه التِّرمذيُّ (¬1)، وصححه ابن حبان والحاكم (¬2)، وتكلم فيه أبو حاتم وبالغ (أ) حتَّى قال: هو عندي من طريق رافع باطل (¬3)، ونقل عن يحيى (¬4) بن معين أنه قال: هو أضعف أحاديث الباب، وحديث (ب) أبي موسى صححه عليّ بن المدينيّ، وقال النَّسائيّ: رفعه خطأ (¬5). وحديث معقل ذكر فيه النَّسائيّ اختلافًا، وكذا حديث بلال وحديث علي. وحديث عائشة في إسناده ليث بن [أبي] (جـ) سليم وهو ضعيف. وحديث أبي هريرة أخرجه النَّسائيّ من طريقين (¬6). والحديث فيه دلالة على أن الحجامة تفطر الصائم وأنه مستوٍ في ذلك الحاجم والمحجوم، وقد ذهب إليه من عرفت، ولكنه في حق المحجوم، وأما الحاجم فمجمع في حقه على عدم الإفطار، وأجاب الجمهور بأنه منسوخ بالحديث الأول، قالوا: لأنَّ ابن عباس صحب النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع سنة عشر، وحديث شداد وَقَعَ في عام الفتح سنة ثمان ولم ¬

_ (أ) سقط من جـ: (وبالغ). (ب) هـ: (وفي حديث). (جـ) في الأصل، هـ، جـ: "ليث بن أبي سليم".

يكن ابن عباس مصاحبًا فيه للنبي - صلى الله عليه وسلم -، وهذا قول الشافعي (أ) في حكاية الرَّبيع عنه. قال: وإسناد الحديثين جميعًا مشتبه وحديث ابن عباس أمثلهما إسنادًا، فإن توقى أحدٌ الحجامة كان أحب إلي احتياطًا، أو لئلا يعرِّض صومه للضعف. قال: والذي أحفظ عن بعض أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والتابعين وعامة المدنيين أنه لا يفطر أحد بالحجامة (¬1). انتهى. ومن (ب) روي عنه ذلك من الصحابة سعد بن أبي وقاص والحسين بن عليّ وابن مسعود وابن عباس يزيد بن أرقم وابن عمر وأنس بن مالك وعائشة وأم سلمة. ومن التابعين والعلماء: الشعبيّ وعروة بن الزُّبير والقاسم بن محمد وعطاء يزيد بن أسلم وعكرمة وأبو العالية وإبراهيم وسفيان ومالك والشافعي وأصحابه إلَّا ابن المنذر. وأخرَج ابن أبي شيبة عن أنس قال: "أول ما كرهتُ الحجامة للصائم أن جعفر ابن أبي طالب احتجم وهو صائم فمر به النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - فقال: أفطر هذان، ثم رخص النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بعد في الحجامة للصائم فكان أنس يحتجم وهو صائم". قال الدارقطني: كلهم ثقات ولا أعلم له علة (¬2). وأخرج الحازمي عن أبي سعيد الخدري قال: رخص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في القبلة للصائم ثم رخص في الحجامة. ¬

_ (أ) جـ: للشافعي. (ب) هـ: وممن.

وأخرج من حديث أبي هريرة قال: يقولون أفطر الحاجم والمحجوم، ولو أحتجم ما باليت، وهذا القول من أبي هريرة يدل على أنه قد ثبت عنده الرخصة. وقال الشافعي في "تأويل الحديث" (¬1) في رواية حرملة: وقد قال بعض من يروي: "أفطر الحاجم والمحجوم" أن النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - مر بهما وهما يغتابان رجلًا. وأخرج الحازمي من حديث ثوبان قال: "مر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - برجل يحتجم وهو يُعرِّضُ برجل فقال - عليه السلام - (أ) أفطر الحاجم والمحجوم" قال كذا رواه أبو النضر، ورواه الوحاظي عن يزيد بن ربيعة عن أبي الأشعث الصنعاني أنه قال: إنما قال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "أفطر الحاجم والمحجوم لأنهما كانا يغتابان"، ثم حمل الشافعي الإفطار بالغيبة على سقوط أجر الصوم مثل قوله - صلى الله عليه وسلم - للمتكلم يوم الجمعة: "لا جمعة لك" (¬2) فإن النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - لم يأمره بالإعادة فدل على أنه محمول على إسقاط الأجر ومثله، {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} (¬3)، فإن الحابط هو أجر العمل، فلا وجه لتعجب ابن خُزيمة من هذا التأويل حيث قال: جاء بعضهم بأعجوبة فزعم أنه - صلى الله عليه وسلم - إنما قال: "أفطر الحاجم والمحجوم" لأنهما كانا يغتابان، قال فإذا قيل له: فالغيبة (ب) تفطر الصائم؟ قال: لا، قال: فعلى هذا لا يخرج من مخالفة الحديث فلا شبهة، انتهى. ¬

_ (أ) المثبت من هـ، جـ، وفي الأصل: (عليلم) - كذا! (ب) هـ: بالغيبة.

وقال ابن حزم (¬1): صح حديث "أفطر الحاجم والمحجوم" بلا ريب، لكن وجدنا من حديث سعيد "أرخص النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - في الحجامة للصائم"، وإسناده صحيح فوجب الأخذ به لأنَّ الرخصة إنما تكون بعد العزيمة فدل على النسخ سواء كان حاجمًا أو محجومًا، وقد تأول أيضًا بأنه محمول على الكراهة فقط. وقد أخرج عبد الرَّزاق وأبو داود بن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن رجل من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "نهى النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - عن الحجامة للصائم وعن المواصلة ولم يحرمهما إبقاءً على أصحابه" (¬2) إسناده صحيح والجهالة بالصحابي لا تضر. وقوله: "آنِفًا على أصحابه" يتعلق بنهى، وقد رواه ابن أبي شيبة (¬3) عن وكيع عن الثوري بإسناده هذا ولفظه: عن أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - قالوا: إنما نهى النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - عن الحجامة للصائم وكرهها للضعيف، أي: لئلا يَضْعُف، وتأول بعضهم أيضًا الحديث بأن المراد أنهما سيفطران وهو أن حالهما يؤول إلى الإفطار كقوله {إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا} (¬4) وقال البغوي (¬5): المعنى أنهما يعرضا للإفطار، وأما الحاجم فلأنه لا يأمن وصول شيء من الدم إلى جوفه عند المص، وأما المحجوم فلأنه لا يأمن ضعفًا من قوته بخروج الدم فيؤول إلى الإفطار. وقيل: أفطر أي فعل مكروهًا وهو الحجامة، فكأنه غير متلبس بالعبادة. ¬

_ (¬1) المحلى 6: 204 - 205. (¬2) تقدم في حديث الوصال أبو داود 2: 774 ح 2374، عبد الرَّزاق 4: 212 ح 7535. (¬3) ابن أبي شيبة 3: 52. (¬4) يوسف الآية 36. (¬5) شرح السنة 6: 304 (بنحوه).

وأعلم أنه قال التِّرمذيُّ حكاية عن الزعفراني: أن الشافعي علق القول بأن الحجامة تفطر على صحة الحديث. قال التِّرمذيُّ: "كان الشافعي يقوله ذلك ببغداد، وأما بمصر فمال إلى الرخصة" (¬1)، والله أعلم. 511 - وعن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: "أول ما كرهت الحجامة للصائم أن جعفر بن أبي طالب - رضي الله عنه - احتجم وهو صائم، فمر به النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - فقال: أفطر هذان، ثم رخص النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بعد في الحجامة للصائم، وكان (أ) أنس يحتجم وهو صائم". رواه الدارقطني وقواه (¬2)، وقد عرفت ما فيه كفاية، يقول الدارقطني: "رجاله كلهم ثقات ولا أعلم له علة". 512 - وعن عائشة - رضي الله عنها -: "أن النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - اكتحل في رمضان وهو صائم" رواه ابن ماجه بإسنادٍ ضعيف (¬3). قال التِّرمذيُّ (¬4): لا يصح فيه شيء، في إسناده بقية (¬5) رواه عن الزبيدي واسمه سعيد بن أبي سعيد وهو ضعيف (¬6). ورواه البيهقي (¬7) من طريق محمد بن عبد الله بن أبي رافع عن أبيه عن جده "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يكتحل وهو صائم". ¬

_ (أ) هـ: فكان.

قال ابن أبي حاتم عن أبيه: هذا حديث منكر، وقال في محمد: إنه منكر الحديث، وكذا قال البُخاريّ (¬1)، وألان البيهقي (¬2) القول فيه فقال: ليس بالقوي، وأما شيخه الحاكم فوثقه وأخرج له في فضائل الحسنين ورواه ابن حبان في "الضعفاء" من حديث ابن عمر وسنده مقارب (¬3) ورواه ابن أبي عاصم في "كتاب الصيام" (¬4) له من حديث ابن عمر أيضًا ولفظه: "خرج علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعيناه مملوءتان من الإثمد، وذلك في رمضان وهو صائم". ورواه التِّرمذيُّ من حديث أنس في الإذن فيه لمن اشتكت عينه ثم قال: ليس إسناده بالقوي ولا يصح عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في هذا الباب شيء (¬5)، ورواه أبو داود من فِعْل أنس ولا بأس بإسناده (¬6). وفي الباب عن بريرة مولاة عائشة في الطبراني في الأوسط، وعن ابن عباس في "شعب الإيمان" للبيهقي. والحديث فيه دلالة على أن الاكتحال لا يفطر الصائم سواء كان من الكُحْل أو من غيره أو ذروراء في العين، وقد ذهب إلى هذا العترة والفقهاء. وأخرج أبو داود عن الأعمش قال: "ما رأيت أحدًا من أصحابنا يكره الكحْلَ ما لم يجد طعمه" (¬7). وقال الحسن: "لا بأس بالكحل للصائم" (¬8). ¬

_ (¬1) تاريخ البُخاريّ الصغير 104. (¬2) سنن البيهقي 4: 262. (¬3) و (¬4) التلخيص 202:2. (¬5) سنن التِّرمذيِّ كتاب الصوم، باب ما جاء في الكحل للصائم 3: 105 ح 726. (¬6) سنن أبي داود كتاب الصوم، باب في الكحل عند النوم للصائم 2: 776 ح 2378. (¬7) أبو داود كتاب الصوم، باب في الكحل عند النوم للصائم 2: 776 ح 2379. (¬8) مصنف ابن أبي شيبة 3: 47، عبد الرَّزاق 4: 208 ح 7516.

وقال إبراهيم النَّخعيُّ (¬1) لما سأله القعقاع بن زيد: أيكتحل الصائم؟ قال: نعم، قلت: أجد طعم الصبر في حلقي، قال: وليس بشيء. أخرجه سعيد بن منصور، والخلاف لابن شبرمة وابن أبي ليلى فقالا: يفطر الصائم لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "الفطر ممَّا دخل وإذا وجد طعمه فقد دخل" (¬2). والجواب أنه لا يسلم كونه داخلًا لأن العين ليست بمنفذ وإنما يصل من المسام، ألا ترى أن الإنسان قد يُدَلِّك باطن قدمه بالحنظل فيجد طعمه في فيه ولا يفطر، وقد يقبض على الثلج بيده فيجد برده في فؤاده ولا يفطر. والحديث المذكور علَّقَه في البُخاريّ على ابن عباس موقوفًا (¬3)، وقد وصله ابن أبي شيبة عن وكيع عن الأعمش عن أبي ظبيان عن ابن عباس في الحجامة للصائم، فقال: "الفطر ممَّا دخل وليس ممَّا خرج" (¬4)، وفي لفظ: "الصوم والوضوء ممَّا خرج وليس ممَّا دخل" (¬5). وروي من طريق إبراهيم النَّخعيُّ أنه سئل عن ذلك فقال: قال عبد الله -يعني ابن مسعود- فذكر مثله، وإبراهيم لم يلق ابن مسعود، وإنما أخذ عن كِبَار أصحابه، وقد أخرج أبو داود عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال في الإثمد: ليتقه الصائم (¬6). قال أبو داود: قال يحيى بن معين: "هو حديث منكر" (¬7). ¬

_ (¬1) عبد الرَّزاق (نحوه) 4: 208 ح 7515. (¬2) كشف الخفاء 2: 112، 465، السلسلة الضعيفة للألباني 2: 377. (¬3) البُخاريّ الصوم، باب الحجامة والقيء للصائم 4: 173 (تعليقًا). (¬4) السنن الكبرى للبيهقي 1: 116. (¬5) ابن أبي شيبة 1: 49 (بلفظ: الوضوء ممَّا خرج وليس ممَّا دخل). (¬6) أبو داود الصوم، باب في الكحل عند النوم للصائم 2: 775: 776 ح 2377. (¬7) سنن أبي داود 2: 776.

513 - وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من نسى وهو صائم فأكل وشرب فليتم صوومه، فإِنما أطعمه الله وسقاه" متفق عليه (¬1). وللحاكم: "من أفطر في رمضان ناسيًا فلا قضاء عليه ولا كفارة". وهو صحيح (¬2). قوله: "فأكل وشَرِبَ": ظاهره اختصاص الحكْم المذكور بالأكِل والشرب دون سائر المفطرات، وقد ورد في بعض ألفاظ الحديث: "من أفطر" فيعم الجماع. وذكر ابن دقيق العيد في شرح العمدة (¬3) أن تعليق الحكم بالأكل والشرب إنما هو لكونهما الغالب في النسيان دون الجماع، وذكر الغالب لا يقتضي مفهومًا، قال: وقد اختلف فيه القائلون بظاهر الحديث، ومدار إلحاق المجامع بهما إنما هو بالقياس دون النص مع وجود الفارق وهو ندور نسيان المُجامِع دونهما فإنّه يكثر إلَّا أن يبين القائس أن الوصف الفارق ملغي، انتهى (¬4). وقد عرفت أن ذلك مدلول عليه بالعموم، وفي رواية "من أفطر" وإنما خص الأكل والشرب في الرواية الأخرى لكونهما أغلب وقوعًا، ولعدم الاستغناء عنهما غالبًا. وقوله: "فليتم صومه"، وفي رواية التِّرمذيِّ (¬5) من طريق قتادة عن ¬

_ (¬1) البُخاريّ الصوم، باب الصائم إذا أكل أو شرب ناسيًا 4: 155 ح 1933، ومسلم الصيام، باب أكل الناسي وشربه وجماعه لا يفطر 2: 809 ح 171 - 1155. (واللفظ له). (¬2) الحاكم 1: 430، البيهقي 4: 229. (¬3) 3: 341. (¬4) 3: 443 مع بعض التصرف. (¬5) سنن التِّرمذيِّ الصوم، باب ما جاء في الصائم يأكل أو يشرب ناسيًا 3: 100 ح 721.

ابن سيرين: "فلا يفطر" (¬1). وقوله: "إِنما أطعمه الله وسقاه" في رواية التِّرمذيِّ: "إِنما هو رزق ساقه الله إِليه" (¬2). والحديث فيه دلالة على أن الأكل والشرب في حال النسيان لا يفطران (أ) لأنَّ ظاهر قوله: "فليتم صومه" أن الصوم باقٍ، فلو كان قد أفطر وإنما أمره بالإمساك لحرمة اليوم كما قاله منْ تأول الحديث لقال فليمسك عن الأكل لأنَّ الصوم الشرعي هو ما له حكم الصحة، وهو يجب حمل اللفظ على حقيقته الشرعية ما لم تظهر قرينة صارفة عن ذلك، وقد ذهب إلى هذا الجمهور، والخلاف في ذلك للقاسمية ومالك وابن أبي ليلى فقالوا: إنه قد أفطر بذلك لأنَّ الصوم ركنه الإمساك عن المفطرات فحكمه حكم من نسي ركعة من الصَّلاة فإنّه يجب عليه الإعادة لما فات الركن، وإن كان ناسيًا، قالوا: والحديث متأوَّل بأن المعنى من قوله: "فليتم صومه" هو الأمر له بالإمساك لحُرمة اليوم وإنْ وجب عليه القضاء. وأجيب عن ذلك بأن رواية الحاكم المذكورة في الأصل مصرحة بصحة الصوم وعدم وجوب القضاء، وهي حُجَّة واضحة، وإنما قال ابن العربي (¬3) ليته صح فتبعته وأقول به، وأما مالك فلا يلزمه القَول به لأنَّ خبر الواحد إذا جاء بخلاف القواعد لم يعمل به، وقد جاء الحديث الأول الموافق للقاعدة في رفع الإثم فعملنا به، وأما الثاني فلا يوافقها فلم (ب) ¬

_ (أ) جـ: لا يفطر - بالإفراد. (ب) هـ: فلا.

يعمل به انتهى كلامه. ومراده أن حديث "فلا قضاء عليه ولا كفارة" مخالف للقواعد فإن القاعدة المتأصلة أنه: إذا فات ركن الشيء لم يُعْتَبر حكمه، وقال القرطبي: احتج به مَنْ أسقط القضاء، وأجيب بأنه لم يتعرض فيه للقضاء فيحمل على سقوط المؤاخذة لأنَّ المطلوب صيام يوم (أ) لا حرام فيه، لكن روى الدارقطني فيه سقوط القضاء (¬1)، وهو نصّ لا يقبل الاحتمال، لكن الشأن في صحته، فإن صح وجب الأخذ به وسقط القضاء، انتهى. وحمل بعضُ المالكية الحديث على صوم التطوع، وبه قال ابن شعبان وابن القصار، وأجيب بأن حدَّثنا الحاكم فيه تصريح برمضان. والحديث أيضًا أخرجه ابن خزيمة وابن حبان والدارقطني (¬2) من طريق محمد بن عبد الله الأنصاري عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة بلفظ الحاكم (¬3)، قال الدارقطني: تفرد به محمد بن مرزوق عن الأنصاريّ. وتعقب بأنّ ابن خزيمة أخرجه أيضًا (ب) عن إبراهيم بن محمد الباهلي، وبأن الحاكم (3) أخرجه من طريق أبي حاتم الداري كلاهما عن الأنصاري فهو المنفرد به كما قال البيهقي (¬4)، وهو ثقة، والمراد أنه انفرد بذِكْر ¬

_ (أ) سقط من هـ: (يوم). (ب) سقط من جـ: (أيضًا).

إسقاط القضاء فقط لا بتعيين رمضان. قال النَّسائيّ (¬1): أخرج الحديث من طريق عليّ بن بكار عن محمد بن عمرو، ولفظه: "في الرجل يأكل في شهر رمضان ناسيًا قال: الله أطعمه وسقاه". وقد ورد إسقاط القَضَاء من وجه آخر عن أبي هريرة أخرجه الدارقطني من رواية محمد بن عيسى بن الطباع (أ) عن ابن عُليَّة عن هشام عن ابن سيرين ولفظه: "فإنما هو رزق ساقه الله إليه ولا قضاء عليه"، وقال بعد تخريجه: هذا إسناد صحيح وكلهم ثقات (¬2). قال المصنف -رحمه الله تعالى (¬3) -: لكن مسلم أخرجه من طريق ابن عُليَّة وليس فيه زيادة: "ولا قضاء عليه" (¬4). وروى الدارقطني (¬5) إسقاط القضاء من رواية أبي رافع وسعيد المَقبرِيّ، الوليد بن عبد الرحمن وعطاء بن يَسَار وكلهم عن أبي هريرة (5). وأخرج أيضًا من حديث أبي سعيد رفعه: "منْ أكل في شهر رمضان ناسيًا فلا قضاء عليه" (¬6)، وإسناده وإن كان ضعيفًا لكنه صالح للمتابعة، فأقل (ب) درجات الحديث بهذه الزيادة أن يكون حسنًا فيصلح للاحتجاج ¬

_ (أ) جـ: الصباغ. (ب) جـ: وأقل.

به، وقد وقع الاحتجاج في كثير من المسائل بما هو دونه في القوة (¬1)، ويعتضد بأنه قد أفتى به جماعة من الصحابة من غير نكير عليهم كما قاله ابن المنذر وابن حزم وغيرهما عن عليّ بن أبي طالب يزيد بن ثابت وأبي هريرة وابن عمر - رضي الله عنهم، ثم هو موافق لقوله تعالى: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} (¬2) فالنسيان ليس من كَسْب القلب، وموافق للقياس في إبطال عمد الأكل للصلاة لا نسيانه، وكذلك الصيام، وأما القياس الذي ذكره ابن العربي فهو في مقابلة النص فلا يُسْمع، ورده للحديث مع صحته بكونه خبر واحد خالف القياس ليس بمسَلَّم، لأنَّه قاعدة مستقلة في الصيام، فمن عارضه بالقياس على الصَّلاة أدخل قاعدة في قاعدة، ولو فتح هذا ورد به الأخبار الصحيحة لما بقي من الحديث إلَّا القليل، وفي هذه التوسعة لطف من الله -تعالى- بعباده وتيسير عليهم ورفع المشقة والحرج، وقد روى أحمد (¬3) لهذا الحديث سببًا آخر فأخرج من طريق أم حكيم بنت دينار عن مولاتها أم إسحاق إنها كانت عند النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فأتى بقصعة من ثريد، فأكلت معه ثم تذكرت أنها صائمة فقال لها ذو اليدين: الآن بعد ما شبعت! فقال لها النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "أتمي صومك فإنما هو رزق ساقه الله إليك" وفي هذا رد على من فَرَّق بين قليل الأكل وكثيره. ومن المستظرف ما رواه عبد الرَّزاق: "أن إنسانًا جاء إلى أبي هريرة فقال: أصبحت صائمًا فطعمت، فقال: لا بأس، قال: ثم دخلت على إنسان فنسيت فطعمت وشربتُ، قال: لا بأس أطعمك الله وسقاك، قال: ثم ¬

_ (¬1) انظر: الفتح 4: 157. (¬2) البقرة الآية 225. (¬3) أحمد 6: 367.

دخلتُ على آخر فنسيتُ فطعمتُ، فقال أبو هريرة، أنت إنسان لم يتعود الصيام" (¬1). وفي قوله: "أطعمه الله وسقاه": نسبة الفعل إلى الله -تعالى- مجاز (¬2) عن كونه لا إثم عليه لأنَّه لا يأثم المكلف إلَّا بما فعل فلما لم يكن مستحقًا للإثم وقد فعل الفعل أشبه من لم يكن قيل فعلًا. فائدة: أخرج عبد الرَّزاق عن ابن جريج قلت لعطاء: إنسان يستنثر فدخل الماءُ حلقه؟ قال: لا بأس بذلك إن لم يملك (¬3). قال عبد الرَّزاق: وقاله معمر عن قتادة (3). وقال ابن أبي شيبة (¬4): حدَّثنا مخلد عن ابن جريج أن إنسانًا قال لعطاء: أتمضمض فيدخل الماء حلقي؟ قال: لا بأس به (4). وفرق إبراهيم النَّخعيُّ بين مَنْ (أ) كان ذاكرًا لصومه حال المضمضة فأوجب عليه القضاء دون الناسي. وعن الشعبيّ: إنْ كان لصلاة فلا قضاء وإلا قضى (¬5). والعلة في ذلك هو كونه غالبًا. ¬

_ (أ) جـ: لما.

وقال الحسن: إنْ دخل الذباب في حلقه فلا شيء عليه (¬1). وفي مذهب الهادوية تفصيل إن كان دخول الذباب بفعله أو سببه أفسد، وإلا لم يفسد، وذلك بأن يفتح فاه للتثاؤب أو لتحديث الغير أو قراءة فيدخل الذباب، وأما لو فتحه لغير غرض فدخل الذباب، فخرج المؤيد وأبو طالب للهادي أن ذلك لا يفسد، وهو مذهب الشافعي، وهو مطابق لقول الحسن (أ)، وقال أبو حنيفة: إنه يفسد. 514 - وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ ذَرَعَهُ القَيْء فلا قضاء عليه، ومن استَقَاءَ فعليه القضاء" رواه الخمسة وأعله (ب) أحمد وقواه الدارقطني. وأخرجه الدارمي وابن حبان والحاكم (¬2). قال النَّسائيّ: "وقفه عطاء على أبي هريرة"، وقال التِّرمذيُّ: "تفرد به عيسى بن يونس، وقال البُخاريّ: لا أراه محفوظًا، وقد روي من غير وجه ولا (جـ) يصح إسناده (¬3)، وقال الدَّارميُّ: "زعم أهل البصرة أن هِشَامًا ¬

_ (أ) هـ: القول الحسن، جـ: لقول حسن، والمثبت من الأصل. (ب) جـ: وعله. (جـ) هـ: فلا.

أوهم فيه" (¬1)، وقال أبو داود: "وبعض (أ) الحفاظ لا يراه محفوظًا، وأنكره أحمد وقال في روايته: ليس مِنْ ذا شَيْءٌ، قال الخطابيّ: يريد أنه غير محفوظ" (¬2)، وقال مهنا عن أحمد: حدث به عيسى وليس هو في كتابه، غلط فيه وليس هو من حديثه، وقال الحاكم: صحيح على شرطهما، وأخرجه من طريق حفص بن غياث أيضًا، وأخرجه ابن ماجه أيضًا. قوله: "ذَرَعَهُ": بالذال المعجمة المفتوحة والراء المهملة والعين المهملة أيضًا أي: غلبه. وقوله: "فلا قضاء عليه": فيه دلالة على أنه لا يفطر بالقيء الغالب إذ عدم القضاء فرع الصحة. قوله: "ومن استقاء" أي: طلب خروج القيء بأن يكون مستدعيًا لخروجه، وثبوت القضاء عليه فرع على كونه قد أفطر بذلك، وقد ذهب إلى هذا عليّ وابن عمر وزيد بن أرقم، واختلفَت الرواية عن أبي هريرة، والصحيح عنه القول بما في هذا الحديث، وذهب إليه زيد بن عليّ والناصر والإمام يحيى والشافعي، ونقل ابن المنذر الإجماع على أن تعمد القيء يفطر، وذهب ابن عباس وابن مسعود ورواية عن مالك وربيعة والهادي والقاسم إلى أنَّ القَيءَ لا يفسد الصوم مطلقًا ما لم يرجع منه شيء وإلا أفسد (ب) إنْ تعمد لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "ثلاث لا يُفطرن: القيء ¬

_ (أ) هـ: في بعض. (ب) جـ: (فسد).

والحجامة والاحتلام" أخرجه التِّرمذيُّ والبيهقي بإسناد ضعيف (¬1)، وأخرجه الدارقطني وأعله (¬2)، وقال التِّرمذيُّ: "هو غير محفوظ"، ورواه الدراوردي مرسلًا (¬3). وأخرجه أبو داود: وفي إسناده رجل مجهول غير صحابيّ عن صحابيّ مجهول (¬4)، ورجحه أبو حاتم وقال: إنه أصح وأشبه بالصواب (¬5)، وتبعهما البيهقي وتأوله بمنْ ذَرعَهُ القَيء (¬6). وسئل عنه الدارقطني فذكر الاختلاف في وصله وإرساله وضَعَّفَ وَصْلَه وقال: لا يصح، وأخرج البُخاريّ عن أبي هريرة موقوفًا: "إذا قَاءَ فلا يفطر إنما يخرج ولا يولج" (¬7). ويذكر عن أبي هريرة أنه يفطر، والأول أصح، وقال ابن عباس وعكرمة: الصوم ممَّا دخل وليس ممَّا خرج. انتهى (¬8). وقد يُجَاب عنه بأن حديث أبي هريرة خاص وهذا عام، أو مطلق على طريقة حَمْل الخاص على العام فهو معمول بالخاص فيما يتناوله وبالعام فيما بقي فهذا مخصص بمن استقاء، وإنما يُشْكِل الأمر على مَن لا يقول ¬

_ (¬1) التِّرمذيُّ الصوم، باب ما جاء في الصائم يذرعه القيء 3: 97 ح 719، البيهقي 4: 220 الدارقطني 2: 183 (16). (¬2) في العلل، انظر: التلخيص 206. (¬3) التِّرمذيُّ 3: 97 (بنحوه). (¬4) أبو داود الصوم، باب في الصائم يحتلم نهارًا في شهر رمضان 2: 775 ح 2376. (¬5) العلل لابن أبي حاتم 1: 239، 240 ح 698. (¬6) السنن الكبرى للبيهقي 4: 220. (¬7) البُخاريّ الصوم، باب الحجامة والقيء للصائم 4: 173. (¬8) المصدر السابق.

بذلك ويحتاج إلى الترجيح مع عدم (أ) معرفة التاريخ، وترجح حديث أبي هريرة بأنه أقوى في سنده، وأحوط من حيث دلالته فيكون العمل به أولى والله أعلم. وذهب عطاء وأبو ثور إلى أنه إنْ تعمد قضى وكفر وإلا قضى ولا كفارة. 515 - وعن جابر بن عبد الله أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: خرج عام الفتح إِلي مكّة في رمضان فصام حتَّى بلغ كُراع الغميم فصام النَّاس، ثم دعا بقَدَح من ماء فرفعه حتى نظر النَّاس إِليه ثم شرب فقيل له بعد ذلك: إِن بعض الناس قد صام، قال: "أولئك العصاة، أولئك العصاة" (¬1). وفي لفظ: فقيل له: "إِن الناس قد شق عليهم الصيام وإِنما ينظرون فيما فعلت. فدعا بقدح من ماء بعد العصر فشرب" (¬2) رواه مسلم. قوله: "خرج عام الفتح": كان خروجه في ستة عشر من رمضان في (ب) سنة ثمان من الهجرة، وذكر ابن إسحاق (¬3) أنه خرج في يوم عاشر وهو الذي اتفق عليه أهل السنن. ودخل مكّة لتسعة عشر خلت منه فصام حتَّى بلغ كُراع الغميم وهو بفتح الغين المعجمة، وهو وادٍ أمام عسفان بثمانية أميال، كذا قال القاضي عياض (¬4)، وبين عسفان ومكة ستة وثلاثون ميلًا، وعسفان قرية ¬

_ (أ) سقط من هـ: (عدم). (ب) سقط من هـ (في).

جامعة، والصحيح أن بينهما ثمانية وأربعين ميلًا لأنها مسافة أربعة بُرُد، وكل بريد أربعة فراسخ، وكل فرسخ ثلاثة أميال، وهذا هو المعروف عند الجمهور، وفي رواية لمسلم (¬1): "حتَّى بلغ الكديد (¬2) "، وهو بفتح الكاف وكسر الدال المهملة، عَيْن جارية بينها وبين المدينة سبع مراحل أو نحوها، وبينها وبين مكّة قريب من مرحلتَيْن، وكراع الغميم والكديد جميعها (أ) من أعمال عسفان فذكرت هذه المواضع لتقاربها، وعسفان قريب منها، وهما ممَّا يضاف إلى عسفان، ويشتمل اسم عسفان عليهما، والكراع: كل أنف سال مِنْ جَبَلٍ أو حَرَّة، وهو هنا جبل أسود متصل بالغميم الذي هو اسم الوادي (¬3). والحديث فيه دلالة على أن المسافر له أن يصوم وله أن يُفْطر (ب وأن له الفطر ب) وإنْ صام بعض النهار أو أكثره كما في رواية "بعد العَصر"، وقد خالف في الطرف الأول الإمامية وداود، ورواية عن أبي هريرة، وقالوا: إنه لا يجزئ المسافِرَ الصوم قالوا: لقوله تعالى: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} (¬4) وقال في حق منْ صام: "أولئك العُصاة"، وقالَ "ليس من البر الصيام في السفر" (¬5)، وفِعْل النَّبيِّ - صَلَّى الله عليه وسلم - يرُدُّ عليهم. ¬

_ (أ) هـ، جـ: جميعًا. (ب- ب) سقط في هـ.

وفي قوله: "أولئك العصاة" إنما قاله في حق من خالف أمره بالإفطار، وقد معين عليهم الإفطار وإن كان رخصة لأمره لهم. وحديث (أ) "ليس من البر" في حَقِّ مَنْ شق عليه الصوم وغلبه الضعف، وذهب جماهير العلماء إلى العمل بالحديث، وأما الطرف الثاني فذهب إليه الجمهور وقطع به أكثر الشافعية، وفي وجهٍ للشافعية: ليس له أن يُفْطِرَ، ومستند ذلك ما وقع في البويطي منْ أن الشافعي علق القول به على صحة حديث ابن عباس، وهذا إذا نوىَ الصوم في السفر، فأما (ب) إذا نواه وهو مقيم ثم سافر في أثناء النهار، فذهب الجمهور إلى أنه ليس له أن يفطر، وأجازه أحمد وإسحاق وغيرهما، واختلفوا في الأفضل، فذهب أنس وعثمان بن أبي العاص والعترة وأبو حنيفة ومالك والشافعي إلى أن الصوم أفضل لمن أطاقه بلا مشقة ظاهرة ولا ضرر، فإن تضرر فالفطرْ أفضل، وقال سعيد بن المُسيَّب والأوزاعي وأحمد وإسحاق وغيرهم: الفطرْ أفضل مطلقًا، وحكاه بعضُ الشافعية قولًا للشافعي، واحتجوا بما احتج به الأولون، وبحديث حمزة بن عمرو الآتي فإن قوله: "ومن أحب أن يصوم فلا جُنَاح عليه" فنَفْي الجُنَاح دليل على أن الإفطار هو الأفضل، وأجاب الأكثرون بأنه فيمن يخاف ضررًا أو (جـ) يجد مشقة واعتمدوا على فعْل النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فإن أغلب أحواله الصوم في السفر، وقال بعضُ العلمَاء: الفِطرْ والصوم سواء لتعادل الأحاديث، وهو أيضًا ظاهر من حديث أنس وهو قوله: "سافرنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلم يَعِب الصائم على المفطر ¬

_ (أ) هـ: (ففي حديث). (ب) هـ، جـ: (وأما). (جـ) هـ: (ويجد).

ولا المفطر على الصائم" (¬1)، وظاهره التسوية بين الأمرين. 615 - وعن حمزة بن عمرو الأسْلَمِيِّ أنه قال: يا رسول الله أجد لي قوة على الصيام في السفر، فهل علي جناح؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "هي رخصة من الله فمن أخذ بها فحَسنٌ، ومَنْ أحب أن يصوم فلا جُناح عليه" رواه مسلم (¬2)، وأصله في المتفق من حديث عائشة أن حمزة ابن عمرو سأل (¬3) هو أبو صالح، وقيل أبو محمد (أ) حمزة -بالحاء المهملة- ابن عمرو بن عويمر الأسلمي منسوب إلى أسلم بن أفصى -بالفاء والصاد المهملة- يعد في أهل الحجاز. روي عنه محمد ابنُه (ب) وعائشة وعروة بن الزُّبير وسليمان بن يسار، مات سنة إحدى وستين وله ثمانون سنة، وقيل إحدى وسبعون سنة (¬4). قوله: "أجد لي قوة": ظاهر في أن الصوم لا يشق عليه ولا يفوت عليه حق، وفي رواية أخرى لمسلم: "إني رجل أسرد الصوم أفأصوم في السفر؟ قال: صُمْ إنْ شِئْتَ وأَفْطِرْ إن شئت" (¬5) وفي هذه الرواية دلالة ¬

_ (أ) سقط من جـ (محمد). (ب) جـ: (ابنه محمد).

على أنهما سواء، وقد عرفت ما في ذلك، أولًا يفوت عليه حق بشرط فطر يومي العيدين (أ) والتشريق لأنَّه أخبر بسرده، ولم ينكر عليه بل أقره عليه، وأذن له في السفر ففي الحضر أولى، ولا يعارضه إنكاره - صلى الله عليه وسلم - على عبد الله بن عمرو صوم الدهر (¬1) لأنَّه - صلى الله عليه وسلم - علم أنه سيَضْعف عنه، وهكذا جاء (ب) فإنّه ضعف في آخر عمره، وكان يقوله: يا ليتني قبلت رخصة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكان - صلى الله عليه وسلم - يحب العمل الدائم وإن قل ويحثهم عليه (¬2). 517 - وعن ابن عباس - رضي الله عنه - قال: "رخص للشيخ الكبير أن يفطر ويطعم عن كل يوم مسكينًا ولا قضاء عليه". رواه الدارقطني والحاكم وصححاه (¬3). قوله: "رخص": ذكر ذلك ابن عباس - رضي الله عنه - في تفسير قوله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ} الآية (¬4)، قال: نزلَتْ في الكبير والمريض اللذين (جـ) لا يَقْدرَان على الصوم، فالآية عنده غير منسوخة لكن المريض يقضي إذا بَرِئ ويلزمه الكفارة، وأكثر العلماء على أنه لا كفارة على المريض، وذهب ابن عمر والجمهور إلى أن حكم الإطعام باقٍ ¬

_ (أ) هـ: (العيد). (ب) هـ: (أجاب). (جـ) جـ: (اللذان).

في حق من لم يُطق الصيام لكبر، منسوخ في غيره. وقال جماعة من السلف ومالك وأبو ثور وداود: جميع الإطعام منسوخ، وليس على الكبير إذا لم يُطِقْ إطعام (أ)، استحبه مالك. وقال قتادة: كان الرخصة لكبير يقدر على الصوم ثم نُسِخَ فيه، وبقي فيمن لا يطيق. وقال زيد بن أسلم والزهري ومالك: هي مُحْكَمَة نزلت في المريض يفطر ثم بيرأ فلا يقضي حتَّى يدخل رمضان آخر فيلزمه صومه ثم يقضي بعد ما أفطر، ويطعم عن كل يوم مُدا من حنطة فإن اتصل مرضه برمضان الثاني فليس عليه إطعام بل عليه القضاء فقط. وقال الحسن البصري وغيره: الضمير في {يُطِيقُونَهُ} (¬1) عائد على الإطعام لا على الصوم ثم نسخ ذلك فهي عنده عامة. والحديث فيه دلالة على أن الشَّيخ الكبير -والظاهر أنه مقيَّد بالعاجز إذ لا قائل بغير ذلك- يُفْطِر وتَجب عليه الكفارة. قال الإمام المهدي: وكذا يُقَاس عليه إذا أيس عن قضاء ما أفطره للعجز أو المرض المأيوس في وجوب الكفارة. واختلف في قدر إطعام المسكين فقال أبو طالب وأبو العباس: هي نصف صاع عن كل يوم من أي قوت لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "أطعم عن كل يوم نصف صاع" (¬2)، ولم يفصل، وذهب المؤيد وأبو حنيفة وأصحابه إلى أنها صاع من غير البُرّ ونصف صاع من البُرّ كالكفارة، وذهب الشافعي ¬

_ (أ) هـ: (الطعام).

إلى أنها مُدّ من بر أو (أ) نصف صاع من غيره، وهي واجبة من رأس المال كالدين، والله أعلم. 518 - وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: "جاء رجل إِلى النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فقال: هلكتُ يا رسول الله. قال: "وما أهلكك"؟ قال وقعت على امرأتي في رمضان فقال (ب): "هل تجد ما تعتق رقبة"؟. قال: لا. قال: "فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين"؟ قال:. لا. وقال: "فهل تجد ما تطعم ستين مسكينًا"؟ قال: لا، ثم جلس، فأتى النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - بعَرَق فيه تمر، فقال: "تصَدَّق بهذا". فقال: أعلى أفقر منا؟ فما بين لابتيها أفقر (جـ) أهل بيت أحوج إِليه منا. فضحك النَّبيُّ - صَلَّى الله عليه وسلم - حتَّى بدت أنيابه، ثم قال: "اذهب فأطعمه أهلك" رواه السبعة واللفظ لمسلم (¬1). قوله: "جاء رجل": قيل هو سلمة -أو سلمان- بن صَخْر البياضي، كذا ذكر (د) عبد الغني في "المبهمات"، وأخرج ابن عبد البر ¬

_ (أ) جـ: (و). (ب) هـ: (قال). (جـ) في حاشية الأصل وحاشية هـ: "لم يثبت لفظ أفقر بنسخة صحيحة في مسلم". (د) هـ: (ذكره).

ذلك في "التمهيد" في ترجمة عطاء الخراساني، وتعيين أنه سلمان بن صخر، قال: والظاهر أنه وهْم لأن المحفوظ أنه ظاهرَ مِن امرأته ووقع عليها في الليل لا أن (أ) ذلك كان منه بالنهار، انتهى. قال المصنف -رحمه الله تعالى (¬1) -: والظاهر أنهما قضيتان (ب)، فإنَّ في بعض ألفاظ الحديث أنه كان صائمًا. وقوله: "هلكتُ": في رواية "أنا الأخِر هلكتُ" بفتح الهمزة والخاء المعجمة المكسورة بغير مَدّ، أي: الأبعد، وقيل: الأرذل، وفي رواية "احترقتُ"، وفي رواية: "ما أراني إلا قد هلكتُ" وهذا يفهم أنه كان عامدًا؛ لأن الهلاك والاحتراق مَجاز عن العِصيان المؤدي إلى ذلك، فجعل المتوقع كالواقع إقامة للمُسبب مقام سببه لإفضائه إليه، وفي ذلك دلالة على أن حُكم الكفارة المذكور (جـ) لا يتعلق بالناسي إذ لا إثم عليه، وهو قول الجمهور ومشهور من قول مالك. وعن أحمد وبعض المالكية يجب على الناسي، قالوا: لأنه - صلى الله عليه وسلم - لم يستفصله عن ذلك، وتَرْك الاستفصال عن الفِعْل ينزله منزلة العموم في القول. والجواب بأنه قد عُرف حاله من العمدية بما (د) ذَكَرَ فلا إيهام حتى يستفصل، وقد ورد في بعض ألفاظه أيضًا (¬2)، أنه جاء وهو ينتف شعره ¬

_ (أ) هـ: (لأن). (ب) غير منقوطة بالأصل، ولا هـ، جـ. (جـ) هـ، جـ: (المذكورة) - بالتأنيث، وغير ظاهر آخرها بالأصل. (د) هـ: (لما).

ويدق صدره ويقول: "هلك الأبعد"، وفي بعضها: "يلطم وجهه"، وفي بعضها: "يحثي التراب على رأسه"، وهذه قرائن تَدُلُّ على تَعَمُّدِ الفعْل منه، وفيها دلالة على أنه لا بأس في إظهار (أ) الجَزَع عند وقوع المصيبة في الدِّين، والنهي إنما هو في مصيبة الدنيا، أو (ب) أن هذه القصة قبل النَّهي، وأنه لا يستحق التعزير مرتكب المعصية إذا جاء تائبًا، وهو مناسب الحكمة في التعزير، وهو لأجل إصلاح الحال بالتوبة وقد وقعَت. وعن البغوي (¬1): أنه يستحق التعزير والكفارة والقضاء، وهو محمول على عَدَم التوبة. قوله: "قال: وما أهلكك؟! " في رواية: "قال: مَا لَكَ؟! " بفتح اللام استفهام عن حاله، وفي رواية "ويحك وما شأنك؟! " وفي رواية "وما الذي أهلكك وما ذاك؟! " وفي رواية: "ويحك وما صنعت؟! " وفي رواية: "ويلك! " والأرجح أنه قال: "ويحك" دون "ويلك" لأن "ويل" كلمة عذاب، و "ويح" كلمة رحمة، وهو الأنسب بالمقام. وقوله: "وقعتُ على امرأتي": وفي رواية "أصبت أهلي"، وفي رواية "وطأتُ امرأتي"، وفي رواية مالك وابن جريج وغيرهما: "أن رجلًا أفطر في رمضان" ... الحديث، وظاهره عموم الإفطار بأي مُفْطر، ولكنه قد يُحْمَلُ المطلق على المقيد في هذه الروايات الأُخَر، فيراد أَفطر بجماع، وإنْ كان القرطبي ادعى تعدد القصة وهو بعيد. وقوله: "في رمضان": وفي رواية "أصبْت امرأتي ظهرًا في رمضان"، ¬

_ (أ) هـ: (لا بأس بإظهار). (ب) جـ: (و).

وتعيين رمضان معمولٌ به دليل على أنَّ الحُكْمَ لا يلزم من فِعْل ذلك في صوم غير رمضان، وإن كان واجبًا، وكلام أبي عوانة في "صحيحه" إشارة إلى وجوب ذلك على منْ وَقَعَ منه في رمضان نهارًا سواء كان الصوم واجبًا أو غير واجب. وقوله: "هل تجد ما تعتق": في رواية "هل تجد رقبة"، وفي رواية "أعتق رقبة"، وفي رواية "بئس ما صنعتَ، أعتق رقبة". وقوله: "قال: لا": وفي رواية "والله يا رسول الله"، وفي رواية: "والذي بعثك بالحق ما ملكتُ رقبةً قط" وقد يستدل بإطلاق الرقبة أنها تجزئ الكافرة، كما ذهب إليه (أ) الحنفية في صحة إعتاق الذمية في الكفارة، والجمهور حملوا هذا المطلق على المقيد في كفارة القتل، فقالوا: لا تجزئ الكافرة، وهي مسألة خلاف بين الأصوليين فيما إذا اختلف السبب واتحد الحكم هل يُقَيَّد المُطْلَق أم لا؟، وفيه إطلاقان وتفصيل، فالإطلاق الأول للحنفية، وهو أنه لا يقيد المطلق بالمقيد سواء اقتضى القياس التقييد أم لا، قالوا: لأن إعمال الدليلين واجب ما أمكن، فيجب إجراء المطلق على إطلاقه، والمُقيد على تقييده إذْ لو حمل عليه لزم إبطال المطلق من غير ضرورة، والإطلاق الثاني أنه يُحْمل عليه مطلقًا، وقد روي عن الشافعي وبعض أصحابه قالوا: لأنَّ كلام الله سبحانه في حُكْم الخطاب الواحد فيترتب فيه المطلق على المقيد، وقد تكلم على هذا الجويني وزيفه. والتفصيل: أنه يقيد إذا اقتضى القياس التقييد فيكون تقييدًا بالقياس وذلك إذا وُجِدتْ علة جامعة بين ما ورد فيه الإطلاق وما ورد فيه التقييد، ¬

_ (أ) سقط من هـ (إليه).

فيكون التقييد حينئذ بالقياس كالتخصيص بالقياس، وقد ذهب إلى هذا الجمهور، وهو الصحيح (أ) مِنْ مذهب الشافعي، والعلة الجامعة هو ان جميع ذلك كفارة عن ذنب مكفر للخطيئة، وقد أبدى بعضُ الحنفية فارقًا مانعًا من اعتبار القياس فيما ذكر وهو أن القاتل لما أخرج رقبة من الحياة وجب عليه التدارك بإحياء رقبة من موت الرقبة وإدخالها في حياة الحرية، والله أعلم. وقوله: "لا": وفي رواية "لا أقدر"، وفي رواية "هل لقيت ما لقيت إلا من الصيام"، ولفظ الأصل فيه (ب) دلالة على أنه لا يعدل عن الصوم إلى الإطعام إلا مع عدم القدرة على الصيام، والأمر في ذلك واضح، وعلى رواية: "هل لقيت ما لقيت" يفهم أنه إذا شق ذلك بوجهٍ من الوجوه، أو لشدة شغفه بالمواقعة في أنه يجوز الانتقال إلى البَدل، وقد ذهب إلى هذا الشافعي وألحقوا به مَنْ وجد رقبة لا غناء به عنها فإنه يسوغ له الانتقال إلى الصوم مع وجودها لكونه في حكم غير الواجد، وقد ذهب إلى هذا المنصور بالله، وأما ما رواه الدارقطني (¬1) عن سعيد بن المسيب في هذه القصة مرسلًا أنه قال في جواب قوله: "هل تستطيع أن تصوم؟ " "إني لا أدع الطعام ساعة فما أطيق ذلك" ففي إسناده مقال، وعلى تقدير صحته فلعله اعتل بالأمْرين. وقوله: "فهل تجد ما تطعم ستين مسكينًا؟ ": وقع في رواية "إطعام ستين مسكينًا"، زاد في رواية "يا رسول الله"، وفي رواية: ¬

_ (أ) جـ: (المصحح). (ب) هـ: (في).

"فهل تستطيع إطعام"، وفي رواية "فتطعم ستين مسكينًا. قال: لا أجد". وفي رواية "فتستطيع أن تطعم ستين مسكينًا؟ قال: لا"، وفي رواية "قال: والذي بعثك بالحق ما أشبع أهلي" وذكر الستين فيه دلالة بمفهوم العدد أنه لا يجزئ إطعام أقل من ذلك، ولا يجب أكثر، فالثاني مجْمعٌ عليه، والأول فيه خلاف الحنفية فعندهم يجزئ الصرف في واحد والإطعام إما إباحة أو تمليك، واللفظ محتمِل له، وظاهر الحديث أن الكفارة مترتبة على هذه الكيفية حتى لا يجزئ العدول إلى الثاني مع إمكان الأول لوقوعه مرتبًا في رواية الصحيحَيْن، بل، ورَوَى الترتيب عن الزهري ثلاثون نفسًا أو أكثر (¬1)، وروى الترتيب أيضًا ابن عيينة ومعمر والأوزاعي، ورواة التخيير في الحديث: مالك وابن جريج وفليح بن سليمان وعمر بن عثمان المخزومي فهو مرجح بأنه في الصحيحين، وأن رواته أكثر، وأن راويه حكى لفظ القصة على وجهها فمعه زيادة علم من سورة الواقعة، وراوي التخيير حكى لفظ راوي الحديث فيحتمل أنه مِن تصرُّف الراوي وأنه أحوط لأن العامل به قد عمل بواحد. وقد يُجَابُ عنه بأن وقوع مثل هذا في الجواب لا يدل على الترتيب، فإن شخصًا لو استفتى في حنثه، فقال له المفتي: أعتق رقبة، فقال: لا أجد، فقال: صم ثلاثة أيام إلى آخره لم يكن مخالفًا لحقيقة التخيير بل يحمل على أن (أ) إرشاده إلى العتق لكونه أقرب لتنجبر الكفارة، كذا قاله عياض. قال البيضاوي: ترتب الثاني بالفاء على فقد الأول ثم الثالث بالفاء على فَقْد الثاني يدل على عدم التخيير مع كونها في معرِض البيان، ¬

_ (أ) سقط من جـ: (أن).

وجواب السؤال فينزل منزلة الشرط للحكم، انتهى كلامه، وفيه بُعْد. وقال بعضهم: بل "أو" في الرواية التي وردت فيها ليست للتخيير وإنما هي للتفسير (أ)، وتقدير الكلام أمر رجلًا أن يعتق أو يصوم إن عجز عن العتق، أو يطعم إن عجز عنهما، وهو محتمل إذا ظهرت قرينة على هذا. وذكر الطحاوي أن سبب إتيان بعض الرواة بالتخيير أن الزهري راوي الحديث قال في آخر حديثه: "فصارت الكفارة إلى عتق رقبة أو صيام شهرين أو الإطعام"، قال: فرواه بعضهم مختصرًا مقتصرًا على ما ذكر الزهري أنه آل إليه الأمر، وقد قص عبد الرحمن بن خالد بن مسافر عن الزهري القصة على وجهها ثم ساقه من طريقه مثل الحديث المذكور في الأصل إلى قوله: "أَطْعمْهُ أهلك" قال -أي الزهري-: فصارت الكفارة إلى عِتْق رقبة، أو صيام شهرَين متتابعين، أو إطعام ستين مسكينًا (¬1). وكذلك رواه الدارقطني في "العلل" من طريق صالح بن أبي الأخضر عن الزهري، وقال في آخره: "فصارت سنته عتق رقبة، أو صيام شهرين، أو إطعام ستين مسكينًا" فعرفت من هذا أنه وقع التخيير في لفظ الزهري غير مقصود به استواء الثلاث، وإنما المقصود الانحصار في الثلاثة، وهي مرتبة على ما وقع في أصل الرواية. وأقول: قد عرفت ما في فَهْم الترتيب من القصة من النظر، والأولى أن الترتيب مأخوذ من القياس على كفارة الظهار، والجامع أن الكَفارَتين هما سبب وطء محرم، والله أعلم. ¬

_ (أ) هـ: (التفسير).

وقد ذهب إلى التخيير مالك كما هو المشهور (أ). إلا أنه وقع في "المدونة": ولا يعرف مالك غير الإطعام ولا يأخذ بعتق ولا صيام. قال ابن دقيق العيد: وهي معضلة لا يهتدى إلى توجيهها مع مصادمة الحديث الثابت (¬1)، وبعض أصحاب مالك حمل ما في "المدونة" على الاستحباب في تقديم الطعام على غيره من الخِصَال، ووجه ذلك بأن الله سبحانه جعله معادِلًا للصيام في حق القادر في صدر الإسلام ثم نسخ، ولا يلزم من نسخ الحُكْمِ نسخ الفضيلة، وكذا في حَقّ مَن لم يكن قادرًا على الصوم، وفي حق من حال عليه رمضان، وفيما نحن فيه العلة في الكفارة هو فوات الصيام بالجماع، فالمناسبة حاصلة، وأيضًا فإن حديث عائشة أخرجه البخاري (¬2) ولم يذكر فيه إلا الإطعام، وقد أجيب عنه بأن حديث عائشة هو وارد في هذه القصة، وهي متحدة وقد حفظها أبو هريرة فقصها على وجهها أو أوودتها عائشة مختصرة، ولعل الاختصار منْ بعض الرواة، وإلا فإنه قد روي عنها بذكْرِ الإعتاق أولًا وبعده الإطعام أخرجه أبو داود وابن خزيمة في "صحيحه" والبخارى في "تاريخه" والبيهقي أيضًا (¬3)، ولم يذكر عنها الصيام، ومنْ حفِظَ حجَّة على من لم يحفظ. واعلم أنها قد اختلفت الرواية عن مالك في ذلك، فالمشهور عنه ما تقدم، وعنه يكفِّر في الأكل بالتخيير وفي الجماع بالإطعام فقط وعنه بالتخيير مطلقًا، وقيل يراعى زمن الخصب والجَدْب، وقيل: يعتبر حالة ¬

_ (أ) جـ: (مشهور).

المكفِّر، وقيل غير ذلك. وقال ابن جرير الطبري: هو مخيّر بين العتْق والصوم ولا يطعم إلا عند العَجْز عنهما، وظاهر الحديث أنه لا يدخل (أ) في الكفارة لغير الثلاث، وجاء عن بعض المتقدمين إهداء البدنة، وقد ذكره مالك في "الموطأ" عن عطاء الخراساني عن سعيد بن السيب مرسلًا (¬1)، ولكنه في رواية سعيد بن منصور عن ابن عُليَّة عن خالد الحَذَّاء عن القاسم بن عاصم قلتُ لسعيد بن المسيب: ما حديثًا حدثناه عطاء الخراساني عنك في الذي وقع على امرأته في رمضان أنه يعتق رقبة، أو يهدي بدنة؟ فقال: كذب فذكر الحديث (¬2). وقد أخرج ابن عبد البر من طريق أخرى عن أبي هريرة مثل حديث عطاء الخراساني، وفي الإسناد ليث بن [أبي] سليم، وهو ضعيف، وقد اضطرب أيضًا في روايته (¬3). واعْلَم أنه قد ذُكِر في مناسبة الكفارة المذكورة للسبب الذي هو الإفطار في رمضان، وهو أنه قد أهلك نفسه بالمعصية فناسب الإعتاق الذي فيه افتداء النفس، وقد صح أنَّ مَنْ أعتق رقبة أعتق الله بكل عضو منها عضوًا ¬

_ (أ) هـ: (مدخل).

منه من النار (¬1)، والصوم فيه مقاصة (أبحسب الجناية أ). وأما كونها شهرين فلأنه لما أمر بصوم شهر على جهة الولاء فلما أفسد منه صومًا (ب) كان كمن أفسد صوم الشهر كله لفِوَات الولاء فوجب عليه صوم شهرين مضاعفة على سبيل المقابلة بنقيض قصده. وأما الإطعام فلا، وكل يوم مقابل بإطعام مسكين. وقوله: "فجلس": وفي رواية ابن عُيَيْنَة: "فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: اجلس، فجلس"، قال بعضهم: يحتمل أن يكون سبب أمره له بالجلوس انتظار ما يوحَى إليه في حقه، ويحتمل أن يكون قد عرف أنه سيؤتى بشيء يعينه به. وقوله: "فأُتِيَ": بضم أوله على البناء للمجهول، وفي رواية ابن عيينة "فبينما هو جالس كذلك إذ أتى"، وفي رواية: "فبينا نحن على ذلك أُتي النبي - صلى الله عليه وسلم -": والآتي لم يسم. ووقع في البخاري في باب الكفارة (¬2): "فجاء رجلٌ من الأنصار" (¬3)، وفي الدارقطني عن ابن المسيب اسمه ضربة العاني رجلًا (جـ) من ثقيف، وهو يحتمل أنه كان حليفًا للأنصار، أو أطلق عليه اسم الأنصار (د) بالمعنى الأعم، وفي رواية ابن إسحاق: "فجاء رجل بصدقته يحملها" (3)، وفي مرسل الحسن: "بتمر من تمر الصدقة" (¬4). ¬

_ (أ - أ) غير ظاهر بالنسخ. (ب) هـ: يومًا. (جـ) جـ: رجل. (د) هـ: الأنصاري.

وقوله: "بعَرَق": بفتح المهملة والراء بعدها قاف، وهو في رواية الأكثر، وفي رواية أبي الحسن القابسي بإسكان الراء، وقد أنكر بعضهم الإسكان، وإنما هو العظم عليه اللحم (¬1). قال المصنف -رحمه الله تعالى-: "الراجح هو الفتح، والإسكان ليس بمنكر، بل قد أثبته بعضُ أهل اللغة، وهو المِكْتَل -بكسر اليم وسكون الكاف وفتح التاء النقوطة باثنتين من أعلى- الضخم، قال الأخفش: يسمى المكتل عَرَقًا لأنه نصف عرقة، فالعَرَق جمع عَرقة كعلق وعلقة، والعرقة الضفيرة من الخوص" (¬2). وفي بعض طرق عائشة عند مسلم (¬3): "فجاءه عَرَقَان" (3) مثنى، قال المصنف -رحمه الله تعالى-: "إن التمر كان أولًا" عند حمله على الدابة عَرَقَان ليكون (ب) أسهل في الحمل، ويحتمل أنه لما وصل به أفرغ أحدهما في الآخر، فمن قال عرقان أراد ابتداء الحال، ومن قال عَرَق أراد ما آل إليه، والله أعلم" (¬4). وهذا أولى مما ذهب إليه البيهقي من تعدد الواقعة. واعلم أنه لم يقع تعيين قَدْر ما في الِمكتَل من التمر في شيء من طرق الصحيحَيْن في حديث أبي هريرة، ووقع في رواية ابن أبي حفصة: "فيه ¬

_ (أ) هـ: أولى. (ب) هـ: فيكون.

خمسة عشر صاعًا"، وفي رواية سفيان: "فيه خمسة عشر أو نحو ذلك"، وعند ابن خزيمة عن الثوري: "فيه خمسة عشر أو عشرون" (¬1)، وكذا عند مالك، وعن سعيد بن المسيب في مرسله عند عبد الرزاق (¬2)، وفي مرسله عند الدارقطني الجزم بعشرين صاعًا، وكذا عند ابن خزيمة في حديث عائشة. قال البيهقي (¬3): وهو بلاغ محمد بن جعفر أحد رواته، ووقع في مسند عطاء عند مسدد: "فأمر له ببعضه (أ) ". قال المصنف -رحمه الله تعالى (¬4) - في الجمع بين الروايات: فمن قال: إنه كان عشرون أراد أصل ما كان فيه، ومن قال: خمسة عشر أراد قدر ما تقع به الكفارة، وبين ذلك حديث علي - رضي الله عنه - عند الدارقطني: "يطعم ستين مسكينًا لكل مسكين مدّ"، وفيه: "فأتى خمسة عشر صاعًا" فقال: "أطعمه ستين مسكينًا"، وكذا في حديث أبي هريرة عند الدارقطني (¬5) من طريق الزُّهْرِي وفيه رَد على الكوفِيِّين في قولهم: إن واجبه من القمح ثلاثون صاعًا ومن غيره ستون، وعلى أشهب في قوله: لو غداهم أو عشاهم كفى لصدق الطعام، ولقول الحسن: "يطعم أربعين مسكينًا عشرين صاعًا"، ولقول عطاء: إنْ أفطر بالأكل أطعم عشرين صاعًا أو بالجماع أطعم خمسة عشر (¬6)، وفيه رد على ¬

_ (أ) هـ: ببضعة.

الجوهري حيث قال في "الصحاح" (¬1): المكْتَل شبه الزِّنبيل يَسَع خمسة عشر صاعًا لأنه لا حصر في ذلك. وروي عن مالك (¬2) أنه قال: يسع خمسة عشر أو عشرين، ولعله قال ذلك في هذه القصة الخاصة فيوافق رواية مهران، وإلا فالظاهر أنه لا حَصْر، وأما ما وقع في رواية عطاء ومجاهد عن أبي هريرة عند الطبراني في "الأوسط" "أنه أُتي بمِكتل فيه عشرون صاعًا فقال: تصدق بهذا" وقال قبل ذلك: "تصدق بعشرين صاعًا أو بتسعة عشر أو بأحد وعشرين"، فلا حجة لما فيه من الشَّك، ولأنه من رواية ليث بن أبي سليم (¬3)، وهو ضعيف، وقد اضطرب فيه وفي الإسناد إليه مع ذلك [من لا يحتج به] (أ) انتهى كلامه (¬4). قوله: "تصدق بهذا": وقع في رواية الأكثر: "خُذْ هذا فتصدق به"، وزاد ابن إسحاق: "فتصدق به عن نفسك"، وفي رواية "أطعِم هذا عنك" (¬5)، وفي رواية: "نحن نتصدق به عليك"، وقد يستدل بهذا على أنه لا يلزم إلا كفارة واحدة، ولا تجب على الزوجة وهو الأصح من قولي الشافعي، وبه قال الأوزاعي، وقال الجمهور وأبو ثَور وابن المنذر: تجب الكفارة على المرأة أيضًا معتلين بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما لم يذكرها مع الزوج لأنها لم تعترف، واعتراف الزوج لا يوجب عليها الحُكْم، واحتمال أن المرأة لم تكن صائمة بأن تكون طاهرة من الحيض بعد طلوع ¬

_ (أ) كذا في النسخ والزيادة من الفتح والمقام يتطلب ذلك.

الفجر، أو أن بيان الحكم في حق الرجل يثبت الحكم في حق المرأة أيضًا لم عُلم من تعميم الأحكام. أو أنه عَرف فقرها كما ظهر من حال زوجها، وقال القرطبي، اختلفوا في الكفارة هل هي على الرجل وحده على نفسه فقط، أو عليه وعليها، أو عليه كفارتان عنه وعنها، أو عليه عن نفسه وعليها عنها، وليس في الحديث ما يدل على شيءٍ من ذلك، ولهم تفاصيل في الحُرَّة والأَمَة والمطاوعة والمُكْرَهة، وهل هي عليها أو على الرجل عنها، والقائل بوجوب كفارة واحدة على الزوج عنه وعن موطوءته يقول: يعتبر حالهما فإن كانا من أهل العتق أجزأت رقبة واحدة، وإن كانا من أهل الإطعام أطعم كما سبق، وإن كانا من أهل الصيام صاما جميعًا، فإن اختلف حالهما ففيه تفريع محله كتب الفروع. وقوله: "أَعَلَى أفقر منا! ": أي أتصدق به على شخص أفقر منا، أو على أهل بيت أفقر منا، وفي هذا دلالة على أنه فهم منه الأمر له بالتصدق على من يتصف بالفقر، وقد بين ذلك في حديث مالك عن ابن عمر بزيادة: "إلى مَنْ أدفعه؟! إلى أفقر من أهلي"، ولابن مسافر: "أعلى أهل بيت أفقر مني"، وللأوزاعي: "أعلى غير أهلي أهل"، ولمنصور: "أعلى أحوج منا"، ولابن إسحاق: "وهل الصدقة إلا لي وعليَّ". وقوله: "ما بين لابتيها": هو تثنية لابة، واللابة: هي الحَرَّة، وهي أبيض ملتبسة بحجارة سود يقال: لابَة، لُوَبة ونُوبة بالنون حكاهن أبو عبيد والجوهري (¬1) (أ) ومَنْ لا يحصى من أهل اللغة، وجمع اللابة: لُوبٌ ¬

_ (أ) زادت هـ هنا: "هو تثنية لابة، واللابة هي الحرة".

ولابٌ (أ) ولابات (ب) وهي غير مهموزة، واللابتان هما الحرتان، والضمير للمدينة، وما: هي النافية المشبهة بليس، اسمها "أفقر" مرفوع وخبرها "بين"، فهي ملغاة عن العمل لتقدم الخبر فيُرفعان على الابتداء أو الخبر إلا على قول سيبويه من الإعمال مع تقدم الخبر، و"أحوج" بدل من "أفقر" فحكمه حكمه، ومنا هو المفَضَّل عليه. وقوله: "حتى بَدَتْ أنيابه": وفي رواية ابن إسحاق: "حتى بدت نواجذه"، ولأبي قرة في "السنن": "حتى بدت ثناياه"، ولعلها تصحيف من أنيابه، فإن الثنايا تتبين بالتبسم غالبًا، وهو ظاهر السياق أنه زاد على التبسم، وما ورد في صفته - صلى الله عليه وسلم - أن ضحكه كان تبسما (¬1) بناء على الغالب، وقيل كان في أمر الدنيا لا يزيد على التبسم، وفي أمرٍ يتعلق بالآخرة يزيد على ذلك، وقيل: إن سبب ذلك هو اختلاف حال السائل فإنه جاء خائفًا على نفسه راغبًا في فداها مهما أمكنه، فلما وجد الرخصة طمع في أَن يأكل ما أُعطيه في الكفارة، وقيل: ضحك مِنْ حسْن بيان المتكلم وتلطفه في الخطاب وتوسله في توصله إلى مقصده. وقوله: "اذهب فأطعمه أهلك": وفي رواية "أطعمه عيالك" (¬2)، وفي رواية "فأنتم إذا" وقدم ذلك على ذكر الضحك، وفي رواية: "ثم قال كُلْهُ"، وفي رواية "خذها وكُلها وأنفقها على عيالك" (¬3)، وفي ¬

_ (أ) هـ: (الاب). (ب) جـ: (لاب).

رواية "عُدْ به عليك وعلى أهلك" (¬1). واعلم أن في توسيعه - صلى الله عليه وسلم - بأكل ذلك هو وعياله احتمال أن الكفارة ساقطة عليه بسبب الإعسار المقارن لوجوب الكفارة؛ لأن الكفارة من قاعدتها أن لا تُصرف في النفس، ولم يبين له - صلى الله عليه وسلم - أنها باقية في ذمته يخرجها متى أيسر، وهو أحد قَوْلَي الشافعي، وجزم به عيسى بن دينار من المالكية، ويتأيد ذلك بالقياس على صدقة الفِطْر. وقد يُجَابُ بأن صدقة الفطر لها أَمَد ينتهى إليه، وكفارة الجماع لا أمد لها فتستقر في الذمة، وليس في الحديث ما يدل على السقوط، وفيه احتمال أن الكفارة غير ساقطة، وصرفها فيه وفي أولاده خصوصية له، وقد ذهب إلى هذا إمام الحَرَمين، وهو قول الزُّهْرِي. ورُدَّ بأن الأصل عدم الخصوصية، وقال بعضهم: هذا منسوخ، وتقصى عنه بعضهم بأن الأهل الذين أمر بالصرف إليهم هم مَن لا تلزمه نفقتهم من أقاربه. ورُدَّ بأنه قد بين الأهل في رواية "عيالك" (¬2)، وأيضًا في رواية "أكله بنفسه منه" وبعضهم قال: إنه لما كان معسرًا سقطت عنه نفقة أولاده فجاز الصرف فيهم، ولكنه يشكِل برواية "أكله". وقال الشيخ تقي الدين: إن إعطاءه ليس لأجل أن يخرجه عن الكفارة، وإنما هو لقصد التصديق عليه وعلى أهله لما ظهر من حاجتهم، والكفارة باقية في ذمته، وليس في الحديث ما يدل على سقوطها، وليس فيه تأخير ¬

_ (¬1) ابن خزيمة 219:218:3 ح 1947. (¬2) البخاري الكفارات، باب قوله تعالى: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ ....} 11: 595: 596 ح 6709.

البيان عن وقت الحاجة لما أنه قد علم لزوم الإخراج بسبب المقتضي لذلك، وإن سُلِّمَ ذلك فوقت الحاجة هو وقت القدرة على الإخراج، ولما يحصل ويجاب عن هذا بأن قد ورد ما يدل على سقوط الكفارة، فإنه قال في حديث عليّ "كله أنت وعيالك فقد كفر الله عنك" (¬1) ولكنه حديث ضعيف، وكذا ما أخرجه أبو داود (¬2) في حديث أتي هريرة "كله أنت وأهل بيتك وصم يومًا واستغفر الله". ويمكن الجواب عن هذا بأنه لم يكن فيه صريح دال على سقوطها عند الإيسار، فإنه يحتمل أنَّ المُرَادَ بالتكفير عنه بمعنى عدم المطالبة في الحال، ولا يلزم منه التكفير مطلقًا. وقد ذهب إلى القول بوجوب الكفارة أبو طالب والإمام يحيى وأبو حنيفة والشافعي ومالك والإمامية ورواية عن القاسم وحجتهم ما عرفت من الأمر للأعرابي بإخراج أي الأنواع الثلاثة. وذهب طاوس وابن المسيب والنخعي وابن عُليَّة وأحمد والهادي والمؤيد والناصر والمرتضى والنفس الزكية إلى القول بعدم الوجوب محتجين بحديث أتي هريرة الذي أخرجه أبو داود، وبأنه أباح له الأكل (أ) من التمر وعياله، وقد عرفت الجواب عن ذلك، وذكر في حديث أتي هريرة عند أبي داود والأمر بقضاء يوم مكان ما أفطر. وقد ذهب إلى وجوب القضاء الهادوية والشافعي للحديث وعموم قوله تعالى: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} (¬3)، وفي قولٍ للشافعي يسقط إذ أمره بها ¬

_ (أ) هـ: أكل.

فقط، ويجاب بأنه اتكل في القضاء على الآية، وقد عرفتَ حديث أبي هريرة. وعن الشافعي إنْ كَفَّرَ بالصوم فلا قضاء وإلا وجب، ومن أفطر بالجماع وهو مرخص له في الإفطار كأن يكون مسافرًا وجب القضاء ولا كفارة، وعند أحمد: بل يكَفر. والجواب بأنه كالأكل حيث نوى به الإفطار للرخصة، فإن لم ينوِ به الترخيص فقال الإمام المهدي: فيه وجهان: يكفر كالمقيم لعدم النية، ولا إذ هو مسافر، ولا تكرر الكفارة بتكرر الأيام ما لم يتخلل التكفير. وعن الشافعي: بل تعدد كيومين من شهرين، قال الإمام المهدي: وهو الأقرب، وأما في اليوم الواحد فلا تكرار، وقال أحمد: بل يلزم ويجاب بأن الوَطْءَ وقع في غير صَوْم، وكذا إذا وطئ بعد أن قد كان أفطر ناسيًا فلا كفارة. وقال أبو الطيب الطبري: يلزم، وهِو صحيح على قول مَنْ يقول إن الأكل ناسيًا غير مفطر، وكذا من جَامع ثم سافر أو مرض في ذلك اليوم فلا كفارة عليه عملًا بالانتهاء، وهذا عند أبي حنيفة والإمام يحيى والهادوية والثوري، وقال مالك وأحمد وإسحاق وأحد قولي الشافعي: العبرة بالإقدام، وقد أقدم عاصيًا، ويجاب عنه بأن الصوم انكشف كونه غير مستحق وفيه نظر على اعتبار الابتداء. والحديث ورد في حق المجامع، ويقاس عليه من أفطر بغير الجماع، وقد يُجَابُ بالفرق بين الجماع وغيره بأن المدة في حق المجامع أكمل من حق منْ تناول أدنى مفطر بغير الجماع، ولذلك منع منه المحرم، وقد ورد عن أبي هريرة "أن رجلًا أكل في رمضان، فأمره النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يعتق رقبة" أخرجه الدارقطني، وفي إسناده أبو معشر، وهو ضعيف، وأما

حديث "أن رجلًا قال: قد أفطرت في رمضان" فهو يحتمل أنه أفطر بجماع لا حجة فيه. وقد اختلف السلفُ في حَقِّ مَنْ أفطر بغير الجماع عمدًا، فعلق البخاري (¬1) عن أبي هريرة رفعه: "مَنْ أفطر يومًا من رمضان من غير عِلة ولا مرض لم يقضه صيام الدهر، وإن صامه" (¬2)، وبه قال ابن مسعود. وقال سعيد بن المسيب والشَّعْبي وابن جبير وإبراهيم وقتادة وحماد: يقضي يومًا مكانه. وفي الحديث من الفوائد غير ما تقدم السؤال عن حُكم ما يفعله المرء مخالفًا للشرع، والتحدث بذلك لمصلحة معرفة الحكم، واستعمال الكناية فيما يُسْتَقْبح ظهوره بصريح لفظه لقوله: "واقعتُ" و"أصبتُ"، على أنه قد ورد في بعض طرقه "وطأتُ"، والظاهر أنه مِن تصرف الرواة. وفيه الرفق بالمتعلم، والتلطف في التعليم، والتآلف على الدين، والنَّدَم على المعصية، واستشعار الخَوْف. وفيه الجلوس في المسجد لغير الصلاة من المصالح الدينية كنَشْر العلم. وفيه جواز الضحك عند وجود سببه، وإخبار الرجل بما يقع منه مع ¬

_ (¬1) البخاري الصوم، باب إذا جامع في رمضان 4: 160 (بنحوه، معلقًا). ووصله أبو داود كتاب الصوم، باب التغليظ فيمن أفطر عمدًا 2: 788: 789 ح 2396، والترمذي كتاب الصوم، باب ما جاء في الإفطار متعمدًا 3: 101 ح 723، وابن ماجه كتاب الصيام، باب ما جاء في كفارة من أفطر يومًا من رمضان 1: 535 ح 1672. (¬2) البخاري الصوم، باب إذا جامع في رمضان 4: 160 (بنحوه، معلقًا). ووصله أبو داود كتاب الصوم، باب النغليظ فيمن أفطر عمدًا 2: 788: 789 ح 2396، والترمذي كتاب الصوم، باب ما جاء في الإفطار متعمدًا 3: 101 ح 723، وابن ماجه كتاب الصيام، باب ما جاء في كفارة من أفطر يومًا من رمضان 1: 535 ح 1672.

أهله للحاجة. وفيه الحَلِف للتأكيد كما ورد في رواية: "والله ما بين لابتيها"، وقبول قوله في الفقر، ويحتمل أن القرينة ظاهرة في فقره. وفيه التعاون في العبادة، والسعي في خلاص المسلم، وإعطاء الواحد فوق حاجته الراهنة، وإعطاء الكفارة أهل بيتٍ واحد، وأن المضطر إلى ما في يده لا يجب عليه أن يعطيه، أو يعطيه لمضطر آخر. قال المصنف -رحمه الله تعالى-: "قد اعتنى بعضُ المتأخرين ممن أدركه شيوخنا بهذا الحديث، فتكلم عليه في مجلدين جمع فيهما ألف فائدة وفائدة، ومحصلة (أ) إن شاء الله تعالى فيما لخصته مع زيادات كثيرة، فلله الحمد على ما أنعم. انتهى كلامه في "فتح الباري" (¬1)، وأقول: وقد أتيتُ بحمد الله في هذا المختصر على معظم تلك الفوائد جمع تلخيص وزيادات كثيرة، فلله الحمد على ما أنعم وأجزل. 519 - وعن عائشة وأم سلمة - رضي الله عنهما -: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصبح جُنُبًا مِنْ جِمَاع ثم يغتسل ويصوم" متفق عليه (¬2)، وزاد مسلم في حديث أم سلمةَ: "ولا يقضي" (¬3). الحديث فيه دلالة على أنَّ الصَّوْمَ يصح ولو أصبح جُنُبًا مِنْ جِمَاع، ¬

_ (أ) هـ: وتلخيصه.

وقد ذهب إلى هذا الجمهور، وادعى النووي الإجماع على ذلك (¬1)، وقال ابن دقيق العيد (¬2): صار ذلك إجماعًا أو كالإجماع، وقد سبق الخلاف في ذلك لعُروة بن الزُّبَير فيمن تعمد الجنابة فقال: إنه يفطر، وكذا حكاه ابن المنذر عن طاوس، وحكى ابن المنذر عن الحسن البصري وسالم بن عبد الله بن عمر أنه يتم صومه ويقضي. وأخرج عبد الرزاق عن ابن جريج أنه سأل عطاء عن ذلك فقال: اختلف أبو هريرة وعائشة، وأرى أن يتم صومه ويقضي (¬3) انتهى. ونقل بعض المتأخرين عن الحسن بن صالح بن حي إيجاب القضاء، والذي نقل الطحاويُّ عنه استحبابه، ونقل ابن عبد البر عنه وعن النخعي إيجاب القضاء في الفرض والإجزاء في التطوع، ونقل الماوردي أن هذا الاختلاف كله إنما هو في حَقِّ المُجَامِع دون المحتلم، فأجمعوا على أنه يجزئه وهو معترض بما أخرجه النسائي (¬4) بإسناد صحيح عن عبيد الله بن عبد الله بن عمر "أنه احتلم ليلًا في رمضان فاستيقظ قبل أن يطلع الفجر ثم نام قبل أن يغتسل فلم يستيقظ حتى أصبح، قال: فاستفتيت أبا هريرة فقال: أفطِرْ". وحجة مَنْ قال ذلك حديث أبي هريرة، قال البخاري (¬5): وقال همام ¬

_ (¬1) قال الإمام النووي بعد أن ساق خلاف بعض العلماء: ثم ارتفع هذا الخلاف وأجمع العلماء بعد هؤلاء على صحته. وفي صحة الإجماع بعد الخلاف خلاف مشهور شرح مسلم 3: 166. (¬2) العمدة 3: 337. (¬3) مصنف عبد الرزاق 4: 181 ح 840 بلفظ: "يتم يومه ذلك ويبدل يومًا". (¬4) النسائي الكبرى الصوم (انظر تحفة الأشراف 10: 244 ح 14119). (¬5) البخاري مع الفتح 4: 143. قلتُ: لهمام رواية وصلها أحمد وابن حبان ولعبيد الله بن عمر رواية وصلها عبد الرزاق.

وابن عبد الله بن عمر عن أبي هريرة "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يأمر بالفطرْ" وقد وصل الرواية أحمد وابن حبان بلفظ: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "إذا نودي للصلاة (أصلاة الصبح أ) وأحدكم جُنُب فلا يصُم يومه" (¬1)، ورواية ابن عبد الله بن عمر وصلها عبد الرزاق، وقد اختلفَ على الزهري في اسم ابن عبد الله هل عبد الله مكبرًا أو مصغرًا، وأجابَ الجمهور بأن ذلك منسوخ، وأن أبا هريرة حدث به ولم يعلم النسخ، ثم لما روي له حديث عائشة وأم سلمة رجع عن ذلك وأفتى بقولهما. وأخرج النسائي أنه قال: هي أمي عائشة (ب) أعلم برسول الله - صلى الله عليه وسلم - منا" (¬2)، وزاد ابن جريج في روايته: فرجع أبو هريرة عما كان يقول في ذلك. وروى ابن أبي شيبة (¬3) من طريق قتادة عن سعيد بن السيب أن أبا هريرة: رجع عن فُتْيَاه مَنْ (جـ) أصبح جنبًا فلا صوم له، وفي رواية للنسائي فقال أبو هريرة: "هكذا كنت أحسب" (¬4)، وفي رواية البخاري والنسائي (¬5) وغيرهم أن أبا هريرة روي ذلك بواسطة الفضل بن العباس، ¬

_ (أ، أ) سقط من: هـ. (ب) جـ، هـ: (هي أمي -أي- عائشة). (جـ) هـ: لمن.

ويدل على النسخ ما أخرجه مسلم والنسائي وابن حبان وابن خزيمة عن عائشة أن رجلًا جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - يستفتيه وهي تسمع منْ وراء حجاب، فقال: يا رسول الله، تدركني الصلاة -أي صلاة الصبح- وأنا جنب أفأصوم؟ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: وأنا تدركني الصلاة وأنا جنب فأصوم، فقال: لستَ مثلنا يا رسول الله قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، فقال: والله إني لأرجو أن أكون أخشاكم لله وأعلمكم بما أتقي" (¬1). ونزول سورة الفتح في عام الحديبية سنة ست، وابتداء فرض الصيام كان في السنة الثانية، وقد كان في صَدْرِ الإسلام المنع من الأكل والشرب والجِمَاع بعد النوم، ثم أباح الله تعالى ذلك ولم يبلغ الفضل ولا أبا هريرة الناسخ، فاستمر أبو هريرة على الفُتْيَا به، ثم لما بلغه رجع، وقد ذهب إلى النسخ ابن المنذر والخطابي وغيرهم. وهذا الحديث يدفع قولَ منْ قال بأن ذلك مخصوص بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وذهب البخاري (¬2) إلى الرد على حديث أبي هريرة بأن حديث عائشة أقوى سندًا حتى قال ابن عبد البر: إنه صح وتواتر (2)، وأما حديث أبي هريرة فأكثر الروايات أنه كان يفتى به، ورواية الرفع أقل، ومع التعارض يرجح بقوة الطريق، ويرجحه أيضًا ما يفهم من قوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ} (¬3) الآية، فإنه إذا أحل الرفث في جميع أجزاء الليل فمن جملة ¬

_ (¬1) مسلم الصيام، باب صحة صوم مَنْ طلع عليه الفجر وهو جنب 2: 781 ح 79 - 1110، النسائي في الكبرى الصيام (كما في تحفة الأشراف 12: 381 ح 17810)، ابن حبان في صحيحه 5: 203 ح 3483، ابن خزيمة في صحيحه 3: 252 ح 2014. (¬2) الفتح 146:4. (¬3) سورة البقرة، الآية 187.

الأجزاء آخرها، ومن ضرورته الإصباح جنبًا ويلزم من إباحته أن لا يمنع ذلك عن الصوم، إذ لو كان مانعًا لحرم إذ لا يتم الواجب إلا به. وبعضهم حاول الجمع بين الحديثين بأن حديث أبي هريرة محمول على أن النهي للإرشاد، وحديث عائشة مبين للجواز، ونقله النووي عن أصحاب الشافعي إلا أن البيهقي نقل عن أصحاب الشافعي سلوك الترجيح، وبعضهم حمله على من أدرك الفجر مجامعًا فاستدام بعد طلوعه إلا أنه يدفعه ما أخرجه النسائي (¬1) عن أبي هريرة "أنه كان يقول: من احتلم وعلم باحتلامه ولم يغتسل حتى أصبح فلا يصوم" (1). وقولها: "من جماع": قال القرطبي: فيه دلالة على أنه كان - صلى الله عليه وسلم - لا يحتلم؛ لأنه من الشيطان، وهو معصوم منه، وقال بعضهم: بل فيه دلالة على جواز الاحتلام عليه، وإلا لما احتاجت إلى الاحتراز عنه. وقد يجاب عنه بأن الاحتلام قد يطلق على الإنزال، وقد يقع الإنزال بعد رؤية شيء في المنام، والله أعلم. 520 - وعن عائشة - رضي الله عنها - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من مات وعليه صيام صام عنه وَليّه" متفق عليه (¬2). الحديث فيه دلالة على أنه يجزئ عن الميت صيام غيره عنه، وأن ذلك هو الواجب، لأن "منْ" لفظ عام شامل للمكلَّفين. وقد اختلف السلف والخلف في هذه المسألةَ فأجاز الصيام عن الميت أصحاب الحديث، وعلق الشافعي في القديم (¬3) القول به على صحة ¬

_ (¬1) النسائي في السنن الكبرى الصيام (-كما في تحفة الأشراف 10: 364 ح 14593). (¬2) البخاري الصوم، باب من مات وعليه صوم 4: 192 ح 1952، مسلم الصيام، باب قضاء الصيام عن الميت 2: 803 ح 153 - 1147. (¬3) سنن البيهقي 4: 256.

الحديث، نقل ذلك عنه (أ) البيهقي في "المعرفة"، وهو قول أبي ثور وجماعة من محدثي الشافعية (ب)، حتى قال البيهقي في "الخلافيات": هذه السنة ثابتة لا أعلم خلافًا بين أهل الحديث في صحتها، فوجب العمل بها، ثم ساق سنده إلى الشافعي قال: "كل ما قلت وصح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - خلافه فخذوا بالحديث (جـ) ولا تقلدوني". وذهب إلى هذا المؤيد بالله، وذهب الشافعي في الجديد ومالك وأبو حنيفة وزيد بن علي والهادي والقاسم إلى أنه لا يصام عن الميت، وإنما الواجب الكفارة لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "منْ مات وعليه صيام فَليُطْعم عنه مكان كل يوم مسكين"، وأخرجه الترمذي عن ابن عمر مرفوعًا (¬1)، وقال: غريب لا نعرفه مرفوعًا إلا من هذا الوجه، والصحيح أنه موقوف على ابن عمر. وأخرجه ابن ماجه (¬2) مرفوعًا أيضًا وفي إسناده وهم (¬3)، وقال الدارقطني: المحفوظ وقفه على ابن عمر، وتابعه البيهقي على ذلك. وأخرج البيهقي عن عائشة "أنها سئلت عن امرأة ماتت وعليها صوم، قالت: تطعم عنها" (¬4). وعنها أيضًا أنها قالت: "لا تصوموا عن موتاكم، ¬

_ (أ) هـ: عن. (ب) هـ: الشافعي. (جـ) هـ: الحديث.

وأطعموا عنهم" (¬1). وأخرج عبد الرزاق عن ابن عباس قال في رجل مات وعليه رمضان قال: "يطعم عنه ثلاثون مسكينًا" (¬2). وروي النسائي عن ابن عباس قال: "لا يصوم أحد عن أحد" (¬3). قالوا: لقد أفتى ابن عباس وعائشة بخلاف ما روياه من صيام الولي، قالوا: وهو أيضًا موافق لسائر العبادات التي لا يقوم بها مكلف عن مكلف، والحج مخصوص بدليله، والحديث الصحيح المروي عن عائشة وعن ابن عباس يقضي عنه بأن المراد من قوله "صام عنه وليه". أي: فعل عنه ما يقوم مقام الصوم، وهو الإطعام، وهو نظير قوله: "التراب وضوء المسلم إذا لم يجد الماء" (¬4) فسماه وضوءًا لما قام مقام الوضوء، كذا قال الماوردي. ويُجَاب عنه بأن ذلك مَجَاز بغير دليل عليه، والحنفية يقضوا عنه بمخالفة الراوي لما رواه كما عرفت عن عائشة وابن عباس وهي قاعدة مقررة لهم في الأصول، والجواب عنهم بأن الصحيح العمل بما روي لا بما رأى؛ لأن ذلك يكون بالاجتهاد، فقد يظن غير الناسخ ناسخًا ونحو ذلك، ومبنى الرواية على العدالة والضبط فقط. ويجاب عن ذلك بأن حديث عائشة متفق عليه مخرج في الصحيحين، وكذلك حديث ابن عباس بزيادة التعليل وهو: "فدين الله أحق أن يقضى" (¬5)، وحديث ابن عمر قد عرفتَ ما فيه، والآثار عن عائشة وابن ¬

_ (¬1) المرجع السابق. (¬2) الذي في مصنف عبد الرزاق 4: 240 ح 7650 بلفظ: " .... يطعم عنه ستون مسكينًا". (¬3) النسائي الكبرى الصوم (كما في تحفة الأشراف 5: 80 ح 5886). (¬4) انظر: نصب الراية 1: 148. (¬5) البخاري الصوم، باب مَنْ مات وعليه صوم ..... 4: 192 ح 1953.

عباس لا تقاوم الحديث الصحيح. وقولهم: إن العبادة لا يقوم فيها مكلف عن مكلف غير صحيح، فإنه قد روي في كثير من أنواع البر في الاعتكاف والصدقة بالمال والدعاء وتلاوة القرآن، وفي ذلك أحاديث كثيرة يؤيد بعضها بعضًا، ولا فرْق بين قرْبَةٍ وقُرْبَةٍ، وفضل الله أوسع من ذلك. وتقضي المالكية عن العمل بحديث عائشة بأن أهل المدينة لم (أ) يعملوا به بناء على قاعدتهم في الاعتداد بإجماع أهل المدينة، والدليل قائم على خلافه، وادعى القرطبيُّ تبعًا لعياض أن حديث عائشة مضطرب، وليس كذلك. وذهب الليث وأحمد وإِسحاق وأبو عبيد إلى التفصيل، وهو أنه يصام في النذر، قالوا: لأنه وردَ في حديث ابن عباس ذلك الحكم وهو في النذر فيحمل حديث عائشة أيضًا عليه. ويجاب عنه بأن حديث ابن عباس ورد في صورةٍ معينة، وحديث عائشة في تقرير قاعدة كلية ولا تعارض بينهما، فلا حاجة إلى التقييد، وإنما يستقيم هذا على أصل أبي ثور أن الخاص الموافق للعام تخصيص للعام. وقوله: "صام عنه وليه": خَبَرٌ في معنى الأمرِ بمعنى لِيَصُمْ عنه، والأمر ليس للوجوب عند الجمهور، وبالغ إمامُ الحرميْن ومن تبعه فادعوا الإجماع على ذلك، وقد أخرج البزار زيادة: "فَلْيَصُمْ عنه وَليُّه إنْ شاء" وهي من رواية ابن لهيعة. وبعض أهل الظاهر أوجب ذلك على الولي، واختلفوا في الولي فقيل: ¬

_ (أ) هـ: لا.

المراد به كل قريب، وقيل: الوارث خاصة، وقيل: عَصَبَتهُ، والأول أرجح، والثاني قريب، ويرد الثالث قصة المرأة التي سألت عن نذر أمها، واختلفوا أيضًا هل يختص ذلك بالولي؛ لأن الأصل عدم النيابة في العبادة البدنية فيقتصر على الدليل ويبقى الباقي على الأصل، وقيل: لا يختص بالولي، فلو أمر أجنبيًّا بأن (أ) يصوم عنه أجزأ كالحج، وقيل: يصح استقلال الأجنبي بذلك، وذكر الولي لكونه الغالب، وقد مال البخاري إلى هذا، وجزم به أبو الطيب الطبري (ب) قواه بتشبيهه - صلى الله عليه وسلم - بالديْن، والدين لا يختص به القريب. وأقول: هذا هو الراجح لأنه كسائر أحوال الميت فإنه ينوب عنه وَصيُّه في ذلك (جـ فإن لم يكن له وصي ولا وارث فالإمام والحاكم ثم منْ صَلح له من سائر المسلمين ولا يتعين على الوصي مباشرة العمل بعينه بل له الاستنابة، والله أعلم جـ). وعلق البخاري (¬1) عن الحسن البصري قال: "إنْ صام عنه ثلاثون رجلًا يومًا واحدًا جاز" (1)، وذَكَرَ الفقيه يوسف تفريعًا على أصل مَن قال بذلك أنه لا بد من الترتيب بعدد الأيام. [أحاديث الباب أربعة وعشرون حديثًا]. ¬

_ (أ) سقط من هـ (بأن). (ب) سقط من هـ، و، ى: (الطبري). (جـ- جـ) ما بينهما مثبت في هذا الموضع في جـ، ومتأخر في هـ، ي بعد عبارة (.. لا بد من الترتيب بعدد الأيام). أما الأصل فعبارة (وعلق البخاري ...) إلى قوله: (بعدد الأيام) لحق في الحاشية غير ظاهر موضع الإلحاق.

باب صوم التطوع وما نهي عن صومه

باب صَوم التطوع وما نهي عن صومه 521 - عن أبي قتادة الأنصاري أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سئل عن صوم يوم عَرَفَة، قال: "يُكَفِّرُ السنة الماضية والباقية، وسئل عن صيام يوم عاشوراء فقال: يكفر السنة الماضية، وسئل عن صوم يوم الاثنين، فقال: ذاك يوم وُلِدْتُ فيه أو بُعِثْتُ فيه وأنزل عليّ فيه" رواه مسلم (¬1). قوله: "وسئل عن صيام يوم عاشوراء": أي ما حكمه، وعاشوراء بالمد على المشهور، وحكى فيه القصر، وزعم ابن دُريد أنه اسم إسلامي، وأنه لا يُعرف في الجاهلية، ورَدَّ ذلك ابن دحية بأن ابن الأعرابي حكى صحته في كلام الجاهلية، وبما روي عن عائشة (¬2) "أن أهل الجاهلية كانوا يصومونه، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصومه قبل أن يهاجر، وأمر بصومه في أولِ السنة الثانية من مقْدمه" (2) لأن قدومه كان في شهر ربيع الأول وكان فَرْض رمضان بعده في أثناء السنة الثانية فلهذا لم يقع الأمر بصومه واجبًا إلا في سنة واحدة، وصيام قريش لعاشوراء لعلهم تلقوه من الشرايع، كانوا يعظمونه بكسوة الكعبة وغير ذلك. وذكر الباغندي الكبير (¬3) في المجلس الثالث عن عكرمة أنه سُئل عن ذلك، فقال: أذنبت قريش ذنبًا في الجاهلية فعظم في صدورهم، فقيل لهم: صوموا عاشوراء يكفر ذلك، أو لأنه وُلد فيه إبراهيم كما في حديث أبي سعيد بن أبي راشد فتناقل تعظيمه في ولد إبراهيم. ولكنه لا دلالة في هذا لأن الكلام في تسميته لا في صومه، كذا قيل، ¬

_ (¬1) مسلم الصيام، باب استحباب صيام ثلاثة أيام من كل شهر ... 2: 918 ح 197 - 1162. (¬2) البخاري الصوم، باب صيام يوم عاشوراء 4: 244 ح 2002 (بنحوه). (¬3) الفتح 246:4.

ويجاب عنه بأنه قد سمي في قولهم: صوموا عاشوراء. واختلف أهلُ الشرع في تعيينه فقال الأكثر: هو اليوم العاشر، قال القرطبي: عاشوراء معدول عن عاشرة للمبالغة والتعظيم، وهو في الأصل صفة لليلة العاشرة لأنه مأخوذ من العَشر الذي هو اسم للعقد، واليوم مضاف إليها، فإذا (أ) قيل يوم عاشوراء فكأنه قيل: يوم الليلة العاشرة إلا أنهم لما عدلوا به عن الصفة غلبَتْ عليه الاسمية فامتنعوا عن الموصوف، فحذفوا الليلة العاشرة، وصار هذا اللفظ عَلَمًا على اليوم العاشر. وذكر الجواليقي أنه لم يُسمع فاعولاء إلا أربعة ألفاظ: عاشوراء وصاروراء وساروراء ودالولاء من الصار والسار والدال. وقال الزَّيْن بن المُنَيِّر: الأكثر على أن عاشوراء هو اليوم العاشر من شهر الله المحرم وهو مقتضى الاشتقاق والتسمية. وقيل: هو اليوم التاسع، فعلى الأول فاليوم مضاف لليلة الماضية، وعلى الثاني هو مضاف لليلة الآتية. وقيل: إنما سمي يوم التاسع عاشوراء أخذًا من أوراد (ب) الإبل، كانوا إذا رعوا الإبل ثمانية أيام ثم أوردوها في التاسع قالوا: ورودنا عشْرًا بكسر العين، ويدل عليه ما أخرجه مسلم في حديث الحكم بن الأعرج: انتهيت إلى ابنِ عباس وهو متوسد، فقلت: أخبرني عن يوم عاشوراء، قال: إذا رأيت هلال المحرم فاعدد وأصبح يوم التاسع صائما، قلت: أهكذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصومه؟ قال: نعم (¬1). ¬

_ (أ) هـ، ي: وإذا. (ب) هـ، ي: وارد.

وظاهره أن يوم عاشوراء هو التاسع، وقد تأوله الزين بن المُنَيِّر بأن المعنى أنه ينوي الصائم في الليلة المتعقبة للتاسع وصبحها العاشر. ويقوي هذا الاحتمال مع بعْده ما أخرجه مسلم من حديث ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن بقيتَ إلى قابل لأصومن التاسع" فمات قبل ذلك (¬1)، فدل على أنه لم يصم التاسع، ثم ما هَمَّ به النبي - صلى الله عليه وسلم - من صوم التاسع يحتمل معناه أنه يضيفه إلى العاشر مخالفة اليهود والنصارى، ويدل عليه حديث أحمد عن ابن عباس: "صوموا يوم عاشوراء وخالفوا اليهود، صوموا يومًا قبله أو يومًا بعده" (¬2). فوافق - صلى الله عليه وسلم - أهل الكتاب في أول الأمر بصومه وحده وأمر بالمخالفة من بعد بصومٍ قبله أو بعده في آخر الأمر كما اشتهر عنه من مخالفتهم في آخر أمره. وعلى هذا فصيام عاشوراء على ثلاث مراتب: أدناها: أن يُصَامَ وحده، وفوقه: أن يصام معه الحادي عشر أو التاسع، ويحتمل أنه أراد أن ينقل صوم العاشر إلى التاسع فيصام وحده وهو أوسطها. واعلم أنه قد قِيلَ: إن اليوم الذي كانت اليهود تصومه هو (أ) يوم عاشوراء بحساب السنة الشمسية فصادف صومهم (ب) اليوم الذي قدم فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - المدينة في ربيع الأول، ويؤيده ما في الطبراني (¬3) وهو ما أخرجه في ترجمة زيد بن ثابت من طريق ابن أبي زياد عن أبيه عن خارجة ¬

_ (أ) سقط من هـ: (هو). (ب) هـ: صيامهم.

ابن زيد بن ثابت عن أبيه قال: "ليس يوم عاشوراء باليوم الذي تقوله الناس، وإنما كان يومًا تُستر فيه الكعبة، وكان يدور في السنة، وكانوا يأتون فلانًا (أ) اليهودي فيحسب لهم". وهذه عادة اليهود يعتمدون في صيامهم وأعيادهم حساب النجوم، فالسنة عندهم شمسية لا هلالية، فمن ثَمَّ احتاجوا إلى منْ يعرف الحساب ليعتمدوا عليه في ذلك، وهذا من ضلال أهل الكتاب وهداية المسلمين إلى غير اليوم الذي استحق التعظيم، ولذلك قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب" (¬1). وقد استشكل تعظيم النصارى له، فإن الوارد في الرواية تعليله بنجاة موسى وإغراق فِرْعوْن، وهذا يختص باليهود، وهو مندفع بأنَّ النصارى غير جاحدين لفضيلة موسى - عليه السلام -، وقد ورد من حديث أبي موسى في البخاري كانت تعده اليهود عيدًا فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "فصوموه أنتم" (¬2)، وفي رواية مسلم: "كان يوم عاشوراء تعظمه اليهود وتتخذه عيدًا" (¬3)، وفي رواية له: "كان أهل خيبر يصومون يوم عاشوراء ويتخذونه (ب) عيدًا ويلبسون نساءهم فيه حليتهم (¬4) وشارتهم" بالشين المعجمة أي هيئتهم الحَسَنَة، ولا منافاة بين اتخاذه عيدًا وصيامه. واعلم أنه قد ورد ما دل على أنه كان واجبًا في صَدْر الإسلام ثم نسخ ¬

_ (أ) هـ: فلان. (ب) هـ: (ويتخذونه).

وجوبه برمضان، وفي البخاري وغيره أحاديث صحيحة بإرجاع صومه إلى المشيئة (¬1). ونقل عياض أن بعض السلف كان يرى بقاء فرض عاشوراء، لكن انقرض القائلون بذلك، ونقل ابن عبد البر الإجماع على أنه ليس الآن بفرْضٍ (¬2)، وعلى أنه مستحب، وكان ابن عمر يكره قصده بالصوم، ثم انقرض القول بذلك. وفي قوله: "يكفر السنة الماضية": دلالة على أن صومه دون صوم يوم عرفة في الفضيلة، وقد قيل في الحكمة في ذلك أن صوم عاشوراء منسوب إلى موسى - عليه السلام - وصوم عرفة إلى نبينا - صلى الله عليه وسلم - فكان أفضل. وقوله: "يكفّر": المراد بالتكفير تكفير الذنوب الصغائر، كذا قيده جماعة من المعتزلة وغيرهم، قال النووي (¬3): فإنْ لم تكن صغائر كفّر من الكبائر، وإن لم يكن كبائر كان زيادة في رفع الدرجات. 522 - وعن أبي أيوب الأنصاري - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من صام رمضان ثم أتبعه ستًّا من شوال كان كصيام الدهر" رواه مسلم (¬4). ¬

_ (¬1) من حديث ابن عمر، وعائشة ومعاوية رضي الله عنهم البخاري 4: 244 ح 2000: 2003. (¬2) التمهيد ولفظه: (لا يختلف العلماء أن يوم عاشوراء ليس بفرض صيامه ولا فرض إلا صوم رمضان) 203:7. (¬3) شرح مسلم 8: 51. (¬4) مسلم الصيام، باب استحباب صوم ستة أيام من شوال اتباعًا لرمضان 2: 822 ح 204 - 1164 أبو داود: الصوم، باب في صوم ستة أيام من شوال 2: 812: 813 ح 2433، الترمذي الصوم، باب ما جاء في صيام ستة أيام من شوال 3: 132 ح 759، ابن ماجه، باب صيام ستة أيام من شوال 1: 547 ح 1716.

الحديث فيه دلالة على استحباب صيام الستة الأيام المذكورة، وهو مذهب جماعة منهم الشافعي وأحمد وأبو داود (أ)، وقال مالك وأبو حنيفة: يكره ذلك، قال مالك في "الموطأ" (¬1) ما رأيت أحدًا يصومها من أهل العلم فنكره صومها لذلك، ولئلا يظن وجوبه. ويجاب عنه بأنه قد ثبت الدليل في ذلك، والأفضل أن تكون السِّتّ متوالية، فإن فرقها الفضيلة لكونه قد أتبع ستًّا من شوال، وإنما كان كصيام الدهر لأن الحسنة بعشرة أمثالها، فرمضان بعشرة أشهر والستة بشهرين، وقد صرح بهذا في رواية النسائي (¬2). وفي قوله: "ستًّا من شوال": ورد بصيغة المؤنث مع أن مميزه مذكر، وهو الأيام لأن اسم العدد إذا لم يصرح بمميزه من الأيام يجوز فيه الوجهان، منه قوله تعالى: {أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} (¬3) وإن صرح بالمميز فالتذكير لا غير. 523 - وعن أبي سعيد الخُدْرِي - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما من عبد يصوم يومًا في سبيل الله إِلا باعد الله بذلك اليوم وجهه عن النار سبعين خريفًا" متفق عليه واللفظ لمسلم (¬4). الحديث فيه دلالة على فضيلة الصيام في سبيل الله، وهو محمول ¬

_ (أ) ى: (وأبو داود).

على ما لا يتضرر به، ولا يفوت به حق، ولا يختل بسببه القيام بواجبٍ كالجهاد والكسب على نفسه ومن يمونه (أ). ومعنى المباعدة: السلامة من النار، إلا أنه كنَّى بذلك عنه، فإنه إذا كان بين المذكور وبين النار المسافة (ب) المذكورة كان من لازمه السلامة منها، وهو من باب تقريب ذلك إلى الأفهام بضرب المثل فيما يستعمل في المبالغة في البعد، والمراد مسافة سبعين، والخريف مراد به العام (جـ). 524 - وعن عائشة - رضي الله عنها - قالت: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصوم حتى نقول لا يفطر، ويفطر حتى نقول لا يصوم، وما رأيتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - استكمل (د) صيام شهر قط إِلا رمضان، وما رأيته في شهر أكثر منه صيامًا في شعبان" متفق عليه واللفظ لمسلم (¬1). الحديث فيه دلالة على أنَّ صومَ النبي - صلى الله عليه وسلم - لم (هـ) يكن مختصًا بشهر دون شهر. وفي قولها: "حتى نقول لا يفطر": دلالة على مبالغة الصوم، وفي قولها "حتى نقول لا يصوم": دلالة على مبالغة الإفطار، ولعل ذلك لما يعرض له - صلى الله عليه وسلم - من الاشتغال بالأمور التي فضلها أعظم من الصوم. ¬

_ (أ) المثبت من هـ، وأوله غير منقوط في الأصل، جـ، ى. (ب) ي: السلامة. (جـ) زادت هـ: (والله أعلم). (د) ي: يستكمل، والمثبت في الأصل، هـ، جـ. (هـ) هـ: (ولم).

وفيه أيضًا تيسير على أمته في التأسي به، وإن كان في ذاته - صلى الله عليه وسلم - قد أُعِينَ على العبادة التي لا يقدر أن يقوم بها غيره، ولذلك أنه واصل وقال أَنه يطعم ويسقى. وقولها: "وما رأيته في شهر .... " إلخ: دلالة على تخصيص شعبان بإيثاره بزيادة الصوم فيه، ولفظ "أكثر" منصوب مفعول ثان لرأيته وصيامًا على التمييز، وإنما كان يخص شعبان بكثرَة الصوم لأنه كان يشتغل عن صوم الثلاثة الأيام من كل شهر لسفرٍ أو غيره فتجتمع فيقضيها في شعبان، أشار إلى هذا ابن بطال. وأخرج هذا الطبراني عن عائشة - رضِي الله عنها -: "كان - صلى الله عليه وسلم - يصوم ثلاثة أيام من كل شهر فربما أخر ذلك حتى يجتمع عليه صوم السنة فيصوم شعبان" (¬1). وفيه ابن أبي ليلى، وهو ضعيف. وقيل: كان يصنع لتعظيم رمضان، وورد فيه حديث أنس، قال: "سُئل النبي - صلى الله عليه وسلم - أي الصوم أفضل بعد رمضان؟ قال: شعبان لتعظيم رمضان" (¬2). أخرجه الترمذي وقال: غريب، وفيه صدقة بن موسى (¬3)، وهو عندهم ليس بالقوي. ومُعَارَض بما رواه مسلم عن أبي هريرة مرفوعًا: "أفضل الصوم بعد ¬

_ (¬1) مجمع الزوائد 3: 192 وقال رواه في الأوسط وفيه محمد بن أبي ليلى وفيه كلام. (¬2) الترمذي الزكاة باب ما جاء في فضل الصدقة 3: 51 ح 663. (¬3) صدقه بن موسى أبو المغيرة السلمي البصري. قال أبو حاتم يكتب حديثه وليس بالقوي وقال في التقريب (صدوق له أوهام) الميزان 2: 312 ت 3879 التقريب 152.

رمضان صوم المحرم" (¬1). وقيل إنه كان يصومه لأن نساءه كن يؤخِّرْنَ القضاء إلى شعبان فيصوم معهن لما كان عليه - صلى الله عليه وسلم - من المحافظة على مكارم الأخلاق من حسْن العشرة ومحبة الموافقة لمن صحبه وتيسير الكلفة عليه. وقيل: كان يفعل فيه تطوع شهرين؛ لأنه لما كان صوم رمضان فرضًا مانعًا من التطوع فيتطوع في شعبان. وقيل: لأن الناس يغفلون في شعبان عن الصوم. وقد أخرج النسائي وأبو داود وصححه ابن خزيمة (¬2) عن أسامة بن زيد قال: "قلتُ! يا رسول الله لم أرَكَ تصوم من شهر من الشهور ما تصوم في شعبان قال: ذاك شهر يغفل الناس عنه بين رجب ورمضان، وهو شهر ترفع فيه الأعمال إلى رب العالمين، فأحب أن يرفع عملي وأنا صائم". ويحمل الحديث على أنه لم يَصم اليومَيْن المتقدمَيْن لرمضان، وأنه لم يصم مِن منتصف شعبان، كما ورد النهي عن ذلك إلا أن يُحْمَلَ النهي على منْ لم يكن قد صام من أول الشهر، وأورد النووي (¬3)، لم (أ) إنه لم يكثر صوم المحرم مع كونه أفضل، وأجاب بأن ما علم ذلك إلا في آخر عمره فلم يتمكن من كثرة الصوم فيه، أو أنه كان يتفق له من الأعذار ما لم يتفق في شعبان. فائدة: يسمى شعبان بهذا الاسم لتشعبهم في طلب المياه، أو في ¬

_ (أ) ي: (ثم).

المغارات بعد أن يخرج رحب المحرم. 525 - وعن أبي ذر - رضي الله عنه - قال: "أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نصوم من الشهر ثلاثة أيام: ثلاث عشرة وأربع عشرة وخمس عشرة" رواه النسائي والترمذي وصححه ابن حبان (¬1). وللحديث شواهد (أ) من حديث أبي هريرة، وفيه قصة قال: "إن كنتَ صائمًا فصم الغر -أي البيض" أخرجه أحمد والنسائي وابن حبان (¬2)، وفي بعض طرقه عند النسائي: "إن كنت صائمًا فَصُم البِيض: ثلاث عشرة وأربع عشرة وخمس عشرة" (¬3). في حديث (ب) قتادة بن ملحان عند أصحاب السنن بلفظ: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأمرنا أن نصوم البيض ثلاث عشرة وأربع عشرة وخمس عشرة، وقال (جـ): هي كهيئة الدهر" (¬4). وأخرج النسائي من حديث جرير مرفوعًا: "صيام ثلاثة أيام من كل شهر صيام الدهر، أيام (د) البيض صبيحة ثلاث عشرة" الحديث وإسناده ¬

_ (أ) هـ (وللحديث فيه شواهد). (ب) ي: (وفي حديث). (جـ) هـ: (قال) - بغير واو. (د) سقط من هـ (أيام).

صحيح (¬1). والحديث فيه دلالة على ندبية صوم الثلاثة الأيام المعينة، وقد وردت أحاديث في صوم ثلاثة أيام من كل شهر مطلقة ومعينة فمنها ما رواه ابن مسعود "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصوم ثلاثة أيام من غرة كل شهر" أخرجه أصحاب السنن وصححه ابن خزيمة (¬2). وأخرج مسلم من حديث عائشة قالت: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصوم من كل شهر ثلاثة أيام ما يبالي من أيِّ الشهر صام" (¬3). وأخرج أبو داود والنسائي من حديث حفصة: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصوم من كل شهر ثلاثة أيام: الاثنين والخميس والاثنين من الجمعة الأخرى" (¬4). وهذه الأحاديث لا معارضة بينها، فإن وقوعَ ذلك جميعه ممكن مندوب إليه، وكلٌّ حكى ما اطلع عليه، ولكن ما أمر به وحث عليه ووصى به أولى، وأما هو فلعله كان يعرض له ما يشغله عن مراعاة ذلك، أو كان يفعل ذلك لبيان الجَوَاز، وكل ذلك في حَقِّه أفضل، ويترجح البيض بكونها وسط الشهر، ووسط الشيء أعدله، ولأَن الكسوفَ غالبًا يقع فيها، وقد ورد الأمر بمزيد العبادة في الكسوف فإذا اتفق الكسوف ¬

_ (¬1) النسائي الصوم، باب كيف يصوم ثلاثة أيام من كل شهر، وذكر اختلاف الناقلين للخبر في ذلك 4: 221، وأخرجه الطبراني في "المعجم الصغير" 2: 52. وقد تكلم ابن أبي حاتم على الخلاف في رفعه ووقفه في علل الحديث ح 785. (¬2) أبو داود الصوم، باب في صوم الثلاث من كل شهر 2: 822 ح 2450، الترمذي الصوم، باب ما جاء في صوم يوم الجمعة 3: 118 ح 742، النسائي الصيام، باب صوم النبي - صلى الله عليه وسلم - وذكر الاختلاف ..... 4: 204. (¬3) مسلم الصيام، باب استحباب صيام ثلاثة أيام من كل شهر ... 2: 818 ح 194 - 1160. (¬4) أبو داود الصوم، باب مَنْ قال الاثنين والخميس 2: 822 ح 2451، والنسائي الصيام، باب صوم النبي - صلى الله عليه وسلم - .... 4: 203.

صادف الذي يعتاد صيام البيض صائمًا فيتهيأ له أن يجمع بين العبادات من الصلاة والصيام والصدقة بخلاف من لم يصمها. واعلم أن للعلماء في تعيين الثلاثة الأيام التي ندب صومها في كل شهر عشرة أقوال: أحدها: لا يتعين ويكره تعيينها، وهذا عن مالك، وهو مثل حديث عائشة "ما يبالي مِن أي الشهر صام" (¬1). الثاني: ثلاثة أيام من أول الشهر؛ لأن المرء لا يدري ما يعرض له من الاشتغال، وهو للحسن (أ) البصري. الثالث: أولها الثاني عشر. الرابع: أولها الثالث عشر. الخامس: أولها السبت من أول شهر صام فيه ثم في الشهر الذي يليه يصوم من أول ثلوث (ب)، وعلى هذا في سائر الشهور، وهو مروي عن عائشة مرفوعًا. السادس: أول خميس ثم اثنين ثم خميس. السابع: أول اثنين ثم خميس ثم اثنين. الثامن: أول يوم والعاشر والعشرون، وهو مرويّ عن أبي الدَّرْدَاء. التاسع: أول كل عشر، وهو مروي عن ابن شعبان من المالكية. العاشر: آخر ثلاثة أيام من الشهر، وهو قول النَّخَعِي ليكون كفارة لما مضى. ¬

_ (أ) هـ، ي: الحسن. (ب) كذا في الأصل، وهـ، جـ، ي.

وفي كلام كثير من العلماء أن استحباب صيام ثلاثة أيام من كل شهر غير استحباب صيام البيض، وقال (أ) الروياني: صيام ثلاثة أيام من كل شهر مستحب، فإن اتفقت أيام البِيض كان أحب. 526 - وعن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يحل للمرأة أن تصوم وزوجها شاهد إِلا بإِذنه" متفق عليه واللفظ للبخاري (¬1) زاد أبو داود: "غير رمضان" (¬2). الحديث فيه دلالة على أن حق الزوج مقدم على صَوْم التطوع كما في زيادة أبي داود: "غير رمضان" يعني: وأما رمضان فإنه يجب عليها الصوم وإن كره الزوج، ويقاس عليه قضاء الصيام، ولا يتعين عليها تأخيره إلى شعبان؛ لأن ذلك واجب مطلق، وحق الزوج وإن كان واجبًا في جميع الأوقات، ولكنه يخصص بغير تضايق أوقات العبادات لعموم التكليف للمرأة والرجل، ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق. قالوا: ولا يمنع الزوجة والعبد من واجب، وإن رخص فيه كالصوم في السفر والصلاة أول الوقت فيخص النهي الوارد بصوم التطوع، فإن للزوج المنع، وظاهر الحديث أنها لا يجوز (ب) لها الصوم، إلا بإذنه، فإذا صامت من غير إذن وإن لم ينهها حرم عليها، وله المنع بعد الإذن؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أذن لعائشة وحفصة في الاعتكاف ثم منعهن (¬3)، وقد ذهب إلى هذا ¬

_ (أ) هـ: (فقال)، جـ: (قال). (ب) في هـ، جـ، ي: (يجوز)، وفي الأصل: (يصح) أثبت فوقها: (يجوز).

الشافعي والإمام يحيى. ولا يُقَال هو إسقاط حق لا يصح الرجوع فيه لأن الحق متجدد هنا، وذاك فيما لم يتجدد. وذهبت الهادوية وأبو حنيفة ومالك (أ) إلى أنه ليس له الرجوع لأنه قد أسقط حقه فإن أوجبت المرأة على نفسها صومًا بإذن الزوج فكذا فيه الخلاف. وقوله (ب): "وزوجها شاهد" أي حاضر. 527 - وعن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "نهي عن صيام يومَيْن: يوم الفطر ويوم النحر" متفق عليه (¬1). الحديث فيه دلالة على أن صوم يوم الفطر ويوم النحر منهيٌّ عنه، والنهي أصله التحريم إلا أن تقوم قرينة على خلافه، وقد أشار في رواية عمر إلى علة التحريم وهو قوله "يوم فطركم من صيامكم، واليوم الآخر تأكلون فيه من نسككم" (¬2)، فقوله "يوم فطركم" إشارة إلى أن العلة في إفطاره هو الدلالة على تمام فريضة الصيام فهو بمثابة التسليم في الصلاة، وكذلك قوله: "تأكلون فيه من نسككم" إذ ذلك للتقرب بعبادة مشروعة في ذلك اليوم والصيام ينافيها فكان غير محل للصوم، ومقتضى هذا أنه لا ¬

_ (أ) لفظ (ومالك) مثبت في هـ، ي، غير مثبت في جـ. أما نسخة الأصل فمثبت فيها مضروب عليه مثبت قوله علامة (صـ) صغيرة. (ب) ي: (وقولها).

يصام فيهما تطوع ولا قضاء ولا نذر، وقد ذهب إلى هذا الجمهور، وذهب المؤيد والإمام يحيى وأبو حنيفة وأصحابه إلى أن النهي للتنزيه، قالوا: فلو نذر بصيامهما صامهما، ولا يصح القضاء فيهما لأن القضاء فيهما يكون ناقصًا، والفائت كامل ولا يجبر الكامل بالناقص بخلاف النذر، فإنه أوجبه، ناقصًا فصح أداؤه ناقصًا على (أ) القول الأول إذا نذر بصيامهما فعند زيد بن علي والهادوية يصوم غيرهما قدرهما أو عند الناصر والشافعي ومالك والصادق والإمامية لا ينعقد النذر فلا يصومهما ولا غيرهما، قالوا: لأنه نَذْر بمعصية، وأجيب بأن ذلك حيث لا يمكن الوفاء إلا بالمعصية وهنا قد أمكن بغيرها، وظاهر الكلام أن المتمتع أيضًا لا يصح منه الصوم، وفي ظاهر عبارات بعض (ب) كتب الهادوية ما يقضي بصحة صومهما في حق المتمتع، والله أعلم. 528 - وعن نُبيْشة الهذلي - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أيام التشريق أيام أكل وشرب وذِكْر الله عزَّ وجلَّ" رواه مسلم (¬1). هو نُبَيْشة -بضم النون وفتح الباء الموحدة وسكون الياء تحتها نقطتان، وبالشين المعجمة- يقال له نُبيْشة الخير بن عمرو؛ لأنه دخل على النبي - صلى الله عليه وسلم - وعنده أسارى فقال: يا رسول الله: إما أن تفاديهم وإما أن تَمُنَّ عليهم، فقال له: أمرت بخير فأنت نبيشة الخير، وقيل هو: ابن عبد الله الهذلي، روى عنه أبو المُلَيح الهذلي وأبو قِلابة الجَرْميّ، يعد في البصريين ¬

_ (أ) زادت ي: (عند فرضه علي ...)، وهي مضروب عليها في الأصل. (ب) سقط (بعض) من هـ.

وحديثه فيهم (¬1). الحديث أخرجه أيضًا مسلم من حديث كعب بن مالك (¬2)، وابن حبان من حديث أبي هريرة (¬3)، والنسائي من حديث بشر بن سحيم (¬4)، ورواه أصحاب السنن وابن حبان والحاكم من حديث عقبة بن عامر في حديث (¬5)، ورواه البزار (¬6) من حديث عبد الله بن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "أيام التشريق أيام أكل وشرب وصلاة فلا يصومها أحد". وأخرج أبو داود عن عبد الله بن عمرو أنه دخل على أبيه فَقَرَّبَ إليه طعامًا، فقال: كلْ، قال: إني صائم، قال عمرو: كلْ، هذه الأيام التي كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأمرنا بإفطارها وينهانا عن صيامها". قال مالِك: وهي أيام التشريق (¬7). وأخرج الدارقطني من حديث عبد الله بن حُذَافَة السهمي: "أيام أكلْ وشراب وبعال" (¬8) وفيه الواقدي (¬9)، ولكنه متأيد بشواهد كثيرة بهذا اللفظ، ¬

_ (¬1) انظر سير أعلام النبلاء 12: 578، المشتبه للذهبيّ ص 353، 641، مجمع الزوائد 9: 391، طبقات خليفة بن خياط ص 36، 176، المستدرك للحاكم 3: 463، تاريخ واسط ص 52، العقد الثمين للمتقي 7: 328، مسند أحمد 5: 75: 76. (¬2) مسلم الصيام، باب تحريم صوم أيام التشريق 2: 800 ح 145 - 1142. (¬3) ابن حبان 5: 245 ح 3592. (¬4) النسائي في الكبرى (كما في تحفة الأشراف 9: 201)، وقد أخرج نحوه في الصغرى الإيمان باب تأويل قوله تعالى: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا}، 8: 104. (¬5) أبو داود الصوم، باب صيام أيام التشريق 2: 804 ح 2419، الترمذي الصوم، باب ما جاء في كراهية الصوم في أيام التشريق 3: 143 ح 773، ابن حبان 5: 245 ح 3594، الحاكم 1/ 434. (¬6) لم يورده صاحب كشف الأستار فلعله عده ليس من زوائد البزار وانظر التلخيص 2: 197. (¬7) أبو داود الصوم، باب صيام أيام التشريق 2: 803: 804 ح 2418. (¬8) الدارقطني 2: 212 (32). (¬9) تقدم في ح 2.

وفي لفط زيادة: "نساء وبعال" والبعال يراد به مواقعة النساء. الحديث فيه دلالة على كون أيام التشريق مقصورة على ما ذكر لا تتجاوزه إلى غيره، والغَيْر هنا إنما هو الصيام لكون القصر إضافيا فالنفي إنما هو المغاير المخصوص فيدل على تحريم صومها، وهو مصرح بالنهي عن صيامها كما عرفت في الروايات الأُخَر. وقد اختلف العلماء في النهي هل هو للتنزيه أو للتحريم، فذهب إلى التحريم علي وعبد الله بن عمر (أ)، وهو المشهور عن الشافعي مطلقًا، وذهب ابن عمر وعائشة وعُبَيْد بن عُمَيْر في آخرين إلى التحريم إلا للمتمتع الذي لا يجد الهَدْيَ، وهو قول مالك والشافعي في القديم، وهو مذهب الهادوية، وذهب الأوزاعي وغيره إلى أنه يصومها أيضًا المحصر والقارن، فالأولون احتجوا بحديث نُبَيْشة وغيره وجعلوه مخصصًا لعموم قوله تعالى: {ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ} (¬1) فإنَّ الآية تشمل ما قبل يوم النحر وما بعده، وهذه الأحاديث خصوص في أيام التشريق، وفيها عموم منْ حيثُ شُمُولها الحاج وغيره فيرجح خصوصها لكونه مقصود بالدلالة على أنها ليست محلًا للصوم وأن ذاتها باعتبار ما هي مؤهلة له كأنها منافية للصوم. وحجة القول الثاني عموم الآية الكريمة وما أخرجه البخاري عن عُرْوَة عن عائشة، وعن سالم عن ابن عمر قالا (ب): "لم يرخص في أيام التشريق أنْ يُصمْنَ إلا لمن لم يجد الهدي" (¬2) ويُرَخَّص بصيغة المجهول، وهذه ¬

_ (أ) هـ (عمرو). (ب) هـ، ى: (قال).

العبارة اختلف علماءُ الحديثِ والأصول في أن لها حُكم الرفع أو لا؟ على ثلاثة أقوال ثالثها: إن أضاف ذلك إلى عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - فله حُكْم الرفع، وإن لم فلا، وقد وقع عند الدارقطني والطحاوي (¬1) بإسنادٍ ضعيف التصريح بالرفع لفظ: رَخَّص رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - للمتمتع إذا لم يجد الهَدْيَ أن يصوم أيام التشريق". وحجة القول الثالث كالثاني، فإن المُحْصَرَ حُكمه حكم المتمتع. وأخرج البخاري عن غيره "أن عائشة كانت تصوم أيام منى وكان أبوها يصومها" (¬2). والظاهر أن ذلك في غير الحج، وذهب المؤيد بالله وأبو العباس والمرتضى إلى أن النهيَ للتنزيه فيها لا للتحريم، قالوا: لأن النهي ليس لذات الصوم، وإنما هو لأمرٍ آخر وهو أنه متضمن رد كرامة الله تعالى بالأكل وغيره، وهو احتجاج في غاية الضعف، فإن هذا التعليل هو مناسب للتحريم، وأيضًا فإن النهي ظاهر في التحريم لا يُصرف عنه إلا لقرينة، ولو احتجوا بما روي مِنْ فعْل عائشة وأبيها، وأن فعلهما مع معرفتهما قرينة بأن النهي مقترن بما يدَلُّ على أنه ليس للتحريم وإنْ لم يُنْقَلْ ذلك حملًا لهما على أنهما لعلمهما وأخصيتهما (1) بالنبي - صلى الله عليه وسلم - لا يفعلان ذلك إلا لقرينة قوية تصرف النهي عن ظاهره لكان سديدًا، والله أعلم. وأيام التشريق هي الثلاثة الأيام بعد النحر، قال المصنف -رحمه الله تعالى: "لأن يوم النحر لا يُصَامُ بالاتفاق، وصيام التشريق مختلف فيه" ¬

_ (أ) جـ: (اختصاصهما).

كذا قال، وهو احتجاج ركيك، وأظهر منه ما روي عن علي - رضي الله عنه - في صيامها للمتمتع قال: "يتسحر ليلة الحصبة ويصوم الثلاثة أيام" وليلة الحصبة هي ليلة ثاني النحر، وسميت بذلك لأنها ترمى في يومها الجمار الثلاث. وفي "شمس الأخبار" أيضًا: "نهي عن صيام ستة أيام" يعني يومًا قبل شهر رمضان، ويوم الفطر، ويوم النحر، وثلاثة أيام التشريق، فعطف أيام التشريق على يوم النحر، والعطف يقتضي المغايرة. أخرجه .... (أ). وسميت أيام التشريق لأن لحوم الأضاحي تُشْرق فيها أي تنشر في الشمس (ب وقيل: لأن الهدي لا ينحر حتى تشرق الشمس، وقيل: لأن صلاة العيد تقع عند شروق الشمس ب)، وقيل: التشريق: التكبير دُبُر كل صلاة. واختلف فيها هل هي يومان بعد النحر أو ثلاث (¬1)؟ والخلاف في صِحَّة القضاء فيها، وحُكْم النذر بصيامها ما تقدم في يوم العيدين. 529 - وعن عائشة - رضي الله عنها - وابن عمر - رضي الله عنه - قالا: "لم يرخص في أيام التشريق أن يُصَمْن إِلا لمن لم يجد الهدي" رواه البخاري (¬2) تقدم الكلام على هذا. ¬

_ (أ) بياض بالأصل، وهـ، جـ، ى. كتب فوق البياض بالأصل وجـ، ى: بياض. وفي حاشية هـ: (بياض في الأم). (ب- ب) ساقط في ى.

530 - وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال "لا تَخُصُّوا ليلة الجمعة بقيام من بين الليالي، ولا تخصوا يوم الجمعة بصيام من بين الأيام إِلا أن يكون في صوم يصومه أحدكم" رواه مسلم (¬1). الحديث فيه دلالة على كراهة اختصاص ليلة الجمعة بصلاة زائدة على ليالى الأسبوع، وهذا متفق على كراهته، واحتج به العلماء على كراهة الصلاة المبتدعة في أول ليلة جمعة (أ) من شهر رجب المسماة بصلاة الرغائب (¬2)، وقد صنف جماعة من العلماء مصنفات نفيسة في تقبيحها وتضليل مصليها ومبتدعها، ودلائل قبحها وبطلانها وتضليل فاعلها أكثر من أن يحصى، كذا ذكره النووي (¬3). وفيه دلالة على منع الصوم في يوم الجمعة مفردًا عن غيره، وقد اختلف العلماء في ذلك فنقل ابن المنذر وابن حزم منع صومه عن علي وأبي هريرة وسَلْمَان وأبي ذَرّ، قال ابن حزم: ولا نعلم لهم مخالفًا (ب) من الصحابة (¬4). وقال ابن المنذر: ثبت النَّهْيُ عن منع الصوم يوم الجمعة كما ثبت عن صوم يوم العيد. وقال أبو جعفر الطبري: يفرق بين العيد والجمعة بأن الإجماع منعقد ¬

_ (أ) هـ، ى: (الجمعة). (ب) هـ: (مخالفة).

على تحريم صوم العيد، ولو صام قبله أو بعده. وذهب الجمهور إلى أن النهيَ فيه لتنزيه، وعن مالك وأبي حنيفة أنه لا يكره، قال مالك: لم أسمع أحدًا ممن يقتدى به ينهى عنه. قال الداودي: لعل النهيَ لم يبلغ مالكًا، وفي كلام عياض (¬1) أنه قد يفهم من كلام مالك كراهة صومه؛ لأنه قال: يكره أن يخص يوم من الأيام بالعبادة، فيكون له في المسألة روايتان. واستدل الحنفية بحديث ابن مسعود - رضي الله عنه -: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصوم من كل شهر ثلاثة أيام، وقل ما كان يفطر يوم الجمعة" (¬2) حَسَّنه الترمذي، وهو يحتمل أنه كان يصومه مع ما قبله أو بعده، وبعضهم عده من الخصائص، وهو بعيد. واختلف النقل عن الشافعي، فنقل عنه المزني أنه لا يكره إلا لمن أضعفه صومه عن العبادة التي تقع فيه من الصلاة والدعاء والذكر، والرواية الأخرى كقول الجمهور، وهو الذي صححه المتأخرون. واختلف في علة النهي عن إفراده بالصومِ على أقوال: أحدها: لكونه يوم عيد، والعيد لا يُصَام، وقد دل على هذا ما رواه أبو هريرة مرفوعًا: "يوم الجمعة يوم عيدكم" (¬3) وأخرج ابن أبي شيبة بإسناد حسن عن علي قال: "منْ كان منكم متطوعًا من الشهر فليصُم يوم الخميس ولا يصم (أ) يوم الجمعة فإنه يوم طعام وشراب وذِكْر" (¬4). ¬

_ (أ) هـ: (يصوم).

ولا يلزم منه مساواته للعيد في التحريم إذ هو مشبه، ويحتمل المبالغة في التشبيه بأن كراهته قريب من التحريم في الاجتناب. ثانيها: لئلا يضعف عن سائر أنواع العبادة، واختاره النووي (¬1)، وتعقب بأن ذلك حاصل، ولو صام قبله أو بعده، وأجيب بأنه قد حصل الجبر لما فات من الفضائل بصوم ما قبله أو بعده وقد يورد عليه بأن الخبر لا ينحصر في الصوم بل يمكن تغيره من سائر أنواع الخير فيلزم أن من فَعَلَ في يوم الجمعة عملًا صالحًا وصام أنه ينجبر به الصوم، ولا قائل بذلك. ثالثها: خوف المبالغة في تعظيمه فيحصل بذلك الابتداع، وهو منتقض بثبوت تعظيمه بغير الصيام. رابعها: خوف اعتقاد وجوبه، وهو منتقض بصوم الاثنين والخميس. خامسها: خشية أن يفرض عليهم كما خشى - صلى الله عليه وسلم - من قيامهم الليل، ذلك قاله المهلب، وهو منتقض مع صوم قبله أو بعده. سادسها: مخالفة النصارى لأنه يجب عليهم صومه ونحن مأمورون بمخالفتهم، نقله القمولي وهو ضعيف. 531 - وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يَصُومن أحدكم يوم الجمعة إِلا أن يصوم يومًا قبله أو يومًا بعده" متفق عليه (¬2). تقدم الكلام عليه، وفي الباب من حديث جويرية "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دخل عليها في يوم الجمعة وهي صائمة فقال لها: أصمْت أمس؟ قالت: لا، قال: تريدين أن تصومي غدًا؟ قالت: لا، قال: فَأفطِري" ¬

_ (¬1) شرح مسلم 19:7. (¬2) البخاري الصوم، باب صوم يوم الجمعة .... 4: 232 ح 1985، مسلم الصيام، باب كراهة صيام يوم الجمعة منفردًا 2: 801 ح 147 - 1144.

رواه البخاري وأحمد وأبو داود (¬1). 532 - وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "وإِذا انتصف شعبان فلا تصوموا" رواه الخمسة واستنكره أحمد (¬2). الحديث هو من رواية العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة قال، قال أبو داود: "رواه الثوري وشبل بن العلاء وأبو عميس وزهير بن محمد عن العلاء" (¬3)، قال أبو داود: "وكان عبد الرحمن لا يحدث به، قلت لأحمد: لم؟ قال: لأنه كان عنده أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصل شعبان برمضان، وقال عن النبي - صلى الله عليه وسلم - خلافه". قال أبو داود: ليس هذا عندي خلافه (3). لأنه - صلى الله عليه وسلم - كان يصوم الشهر من أوله كاملًا كما في رواية أبي سلمة "أنه لم يكن يصوم من السنة شهرًا تامًّا إلا شعبان يصله برمضان" أخرجه أبو داود (¬4). والمنهيّ عنه أنما هو ابتداء الصوم من النصف فما بعده فلم يكن بين ¬

_ (¬1) البخاري (السابق) 4: 232 ح 1986. أبو داود الصوم، باب الرخصة في ذلك 2: 806 ح 2422، أحمد 6: 430. (¬2) أبو داود الصوم، باب في كراهية ذلك 2: 751 ح 2337، الترمذي الصوم، باب ما جاء في كراهية الصوم في النصف الثاني من شعبان لحال رمضان 3: 115 ح 738 (بنحوه) النسائي الكبرى، ابن ماجه الصيام، باب ما جاء في النهي أن يتقدم رمضان بصوم إلا من صام صومًا فوافقه 1: 528 ح 1651 (بنحوه)، أحمد 2: 442 (بنحوه). (¬3) سنن أبي داود 2: 752. (¬4) أبو داود الصوم، باب فيمن يصل شعبان برمضان 2: 750: 751 ح 2336، الترمذي الصوم، باب ما جاء في وصال شعبان برمضان 2: 113 ح 737، ابن ماجه الصيام، باب ما جاء في وصال شعبان برمضان 1: 528 ح 1648، من طريق أبي سلمة عن أم سلمة رضي الله عنهما - مرفوعًا.

الحديثَيْن مخالفة، ولذلك قال أبو داود: و (أ) ليس هذا عندنا خلافه ولم يَجِيء به غير العلاء عن أبيه، وصح الحديث ابن حبان وخيره (¬1)، وقال ابن معِين: هو منكر. والحديث فيه دلالة على أنَّ الصومَ بعد انتصاف شعبان منهيّ عنه، وقد اختلف العلماءُ في ذلك، فقطع كثير من الشافعية بتحريمه لهذا الحديث، وحديث: "لا تقدموا رمضان بيوم أو يومين" (¬2) إنما هو لأن ذلك الغالب فيمن يقصد استقبال الشهر بالصيام. وقال الروياني: يحرم التقدم بيوم أو يومين، ويكره من نصف شعبان، وذهب منْ عَدَاهمُ إلى عدم الكراهة، وصرح الإمام المهدي في "البَحْر" (¬3) لمذهب الهادوية إلى أنه مندوب، وتأول حديث النهي عمن أضعفه الصوم، وقد سبقه إلى ذلك الطحاوي، وقال: وحديث التقدم بيوم أو يومين لمن يحتاط بزعمه لرمضان لا مطلق التطوع، والله أعلم. 533 - وعن الصماء بنت بُشر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تصوموا يوم السبت إِلا فيما افترض عليكم، فإِن لم يجد أحدكم إِلا لحاء عنبة أو عود شجرة فليمضغها" رواه الخمسة (¬4)، ورجاله ثقات، إلا ¬

_ (أ) سقطت الواو من: ى.

أنه مضطرب، وقد أنكره مالك، وقال أبو داود: هو منسوخ (¬1). هي الصماء بنت بُشر -بالصاد المهملة، وبشر بضم الباء المازنية، يقال إن الصماء لقب، واسمها بُهية -بضم الباء الموحدة وفتح الهاء وتشديد الياء الثناة من تحت-، ويقال اسمها بهيمة بزيادة الميم، وهي أخت عبد الله بن بُشر (¬2). الحديث أعل بالمعارضة للحديث الآتي عن أم سلمة، وبالاضطراب أيضًا؛ لأنه قيل فيه إنه رواه عبد الله بن بشر عن أخته الصماء، وقيل عن عبد الله بن بُشر وليس فيه أخته الصماء، وهذه (أ) رواية بن حبان (¬3)، وهذه العلة ليست بقادحة فإنه صحابي، وقيل عنه عن أبيه بُشر، وقيل عنه عن الصماء عن عائشة. قال النسائي: هذا حديث مضطرب. قال المصنف (¬4) -رحمه الله تعالى-: ويحتمل أن يكون عبد الله عن أبيه وعن أخته (ب وعند أخته ب) بواسطة، وهذه طريق مَنْ صححه، ورجع عبد الحق الطريق الأُولَى، وتبع في ذلك الدارقطني، لكن هذا التلون في الحديث الواحد بالإسناد الواحد مع اتحاد المَخْرَج يوهِن الرواية وينبئ بقلة ضبطه، إلا أن يكون من الحفاظ المكثرين المعروفين بجَمْع طرق الحديث، فلا يكون ذلك دالا على قلة ضبطه، وليس الأمر هنا كذا بل اختلف فيه ¬

_ (أ) هـ: (فهذه) - بالفاء. (ب، ب) ساقط من جـ.

أيضًا على الراوي عبد الله بن بُشر. وقوله: "وقد أنكره مالك" صرح أبو داود عن مالك بأنه قال: هذا كذاب. وقولة: "وقال أبو داود (¬1): هو منسوخ"، لعله أخذه من كونه - صلى الله عليه وسلم - كان يحب موافقة أهل الكتاب في أول الأمر، ثم في آخر الأمر قال "خالفوهم". والنهي عن صوم يوم السبت يوافق الحالة الأولى لأنه كان يوم عيد عندهم، وصيامه إياه موافق الحالة الثانية، وهي مخالفتهم، وهذا صورة النسخ، والله أعلم، كذا قال المصنف رحمه الله تعالى (¬2). وقال الحاكم: بل الجمع ممكن بين صيامه والنهي عنه، وهو أن النهي عن إفراده، والصوم له مع ما قبله أو بعده، والأولى أن يقال أن المعارضة حاصلة بسرده - صلى الله عليه وسلم - للصوم في شعبان وأنه كان يصوم حتى نقول لا يفطر كما في حديث عائشة وابن عباس، والنهي عن صوم السبت مطلق غير مشروط بالإفراد كما في الجمعة، وهذا معارض، ولعل الحُكْم بأن هذا ناسخ أولى، وقد أشار إلى هذا في السنن أيضًا، فإنه قال نسخه حديث جويرية، وهو أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دخل عليها يوم الجمعة وهي صائمة فقال "صُمْتِ أمس؟ قالت: لا، قال: تريدين أن تصومي غدًا" الحديث وقد تقدم فإنه يدل على عدم النهي عن صومه مع غيره (¬3). وأقول: أصرح في دعوى النسخ من هذا جميعه حديث أم سلمة الآتي. ¬

_ (¬1) سنن أبو داود 2: 806. (¬2) التلخيص 216:2. (¬3) انظر ص 220.

435 - وعن أم سلمة - رضي الله عنها -: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أكثر ما كان يصوم من الأيام السبت ويوم الأحد، وكان يقول: إِنهما يوما عيد للمشركين، وأنا أريد أن أخالفهم" أخرجه النسائي وصححه ابن خزيمة، وهذا لفظه، وأخرجه البيهقي، وأخرجه الحاكم (¬1) بإسناد صحيح عن كُرَيْب أن ناسًا من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعثوه إلى أم سلمة يسألها (أ) عن الأيام التي كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أكثر لها صيامًا، فقالت: يوم السبت والأحد فرجعت إليهم فقاموا بأجمعهم إليها فسألوها فقالت: صدقَ، وكان يقول: "إنهما يوما عيد للمشركين، فأنا أريد أن أخالفهم". وأخرج الترمذي من حديث عائشة - رضي الله عنها - قالت: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصوم من الشهر السبت والأحد والاثنين، ومن الشهر الآخر الثلاثاء والأربعاء والخميس" (¬2). والحديث فيه دلالة على عدم كراهة صوم السبت لا سيما مع كثرة صيامه له، بل يدل على الاستحباب، ولا سيما مع تعليله بمخالفة أهل الكتاب، وظاهره مفردًا أو مضمومًا إليه غيره، والله أعلم. 535 - وعن أبي هريرة - رضي الله عنه -: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهي عن صَوْم يوم عَرَفَة (ب) بعرفة" رواه الخمسة غير الترمذي، وصححه ¬

_ (أ) هـ: (فسألها). (ب) سقط لفظ: (عرفة) من جـ.

ابنُ خزيمة والحاكم، واستنكره العقيلي، وأخرجه البيهقي أيضًا (¬1). وفي إسناد الحديث مهدي الهجري ضعفه العقيلي وقال: لا يتابع عليه، والراوي عنه أيضًا حوشب بن عقيل مختلف فيه (¬2). قال المصنف -رحمه الله تعالى-: قد صححه ابن خزيمة ووثق مهديًا المذكور ابن حبان. انتهى. قال العقيلي: وقد روى (أعن النبي - صلى الله عليه وسلم - أ) بأسانيد جياد أنه لم يصم يوم عرفة بها، ولا يصح النهي عنه عن صيامه (ب)، انتهى (¬3). أما إنه لم يصم - صلى الله عليه وسلم - بعرفة فقد أخرج البخاري من طريقين (¬4)، ولكن تركه - صلى الله عليه وسلم - لصومه لا يدل على النهي عن الصوم ولا على استحبابه، إذ قد يترك الشيء المستحب لبَيَان الجوَاز، ويكون في حقه أفضل لبيان الشرعية ولكن هذا حديث أبي هريرة يدل على أنه منهي عنه، وظاهر النهي التحريم، وقد ذهب إلى ظاهره يحيى بن سعيد الأنصاري وقال: يجب إفطاره للحاج، وعن جماعة من الصحابة منهم الزبير وأسامة بن زيد وعائشة أنهم كانوا يصومونه وكان ذلك يعجب الحسن ويحكيه عن ¬

_ (أ - أ) سقط في جـ. (ب) هـ: (صيام).

عثمان. وقال قتادة: لا بأس به إذا لم يَضْعُفْ عن الدعاء. ونقله البيهقي في "المعرفة" عن الشافعي في القديم، واختاره الخطابي والمتولي من الشافعية، وقال الجمهور: يستحب فطره حتى قال عطاء: من أفطره ليتقوى به [على] (أ) الذِّكر كان له مثل أجر الصائم. وقال الطبري: إنما أفطر النبي - صلى الله عليه وسلم - بعرفة ليدل على الاختيار للحاج لئلا يضعف عن الدعاء والذكر المطلوب يوم عرفة، وقيام إنما أفطر لموافقته يوم الجمعة، وقد نهى عن إفراده بالصوم، وهو بعيد، وقيل: إنما كره صوم يوم عرفة لأنه يوم عيد لأهل الموقف لاجتماعهم فيه، ويؤيده ما رواه أصحاب السنن عن عقبة بن عامر مرفوعًا: "يوم عرفة ويوم النحر وأيام مِنى عيدنا أهل الإسلام" (¬1)، وهذا يؤيد القول بوجوب إفطاره لذكره مع ما يجب إفطاره، والله أعلم. 536 - وعن عبد الله بن عَمرو - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا صام مَنْ صام الأبد" متفق عليه (¬2)، ولمسلم عن أبي قتادة بلفظ: "لا صام ولا أفطر" (¬3). قوله: "لا صام منْ صام الأبد" أي: الدهر مستمرًا "لا" (ب) ظاهرها ¬

_ (أ) سقط من: ى. (ب) كذا في الأصل، جـ، ى. وفي هـ: (لأن).

الدعاء عليه بعدم القدرة على الصوم، ويحتمل أنَّ معناها (أالنفي الذي هو أصلها كقوله تعالى: {فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى} (¬1) أي: ما صام، والمعنى أنه لم يحصل له فضيلة الصوم، ويدل عليه رواية أبي (ب) قتادة فإن المعنى فيها أنه لم يحصل له فضيلة الصوم ولا راحة الإفطار، وفي رواية: "ما صام ولا أفطر" (¬2)، وفي رواية الترمذي: "لم يصم ولم يفطر" (¬3)، وهي تفسر معنى النفي. وقد اختلف العلماء في صوم الدهر، فذهب إسحاق وأهل الظاهر، ورواية عن أحمد إلى كراهته، قال ابنُ العربي (¬4): قوله "لا صام من صام الأبد" إنْ كان معناه الدعاء فيا ويح من دعا عليه النبي - صلى الله عليه وسلم -، وإن كان معناه الخبر فيا ويح مَنْ أخبر عنه النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه لم يَصُم، وإذا لم يصم شرعًا فكيف يُكْتَبُ له الثواب، وظاهر هذا أنه ذهب إلى الكراهة مطلقًا. وقال ابن حزم (¬5) أنه يحرم بهذا وبما أخرج ابن أبي شيبة (¬6) بإسناد صحيح قال: "بلغ عُمَر أنَّ رجلًا يصوم الدهر فأتاه فعلاه بالدرة، وجعل يقول: "كُلْ يا دهر"، وأن عبد الرحمن بن أبي نعيم كان يصوم الدهر، فقال عمرو (جـ) بن ميمون: لو رأى هذا أصحاب محمد لرجموه (¬7). ¬

_ (أ) هـ: (معناه). (ب) سقط (أبي) من جـ، هـ. (جـ) هـ: (عمر).

وبحديث أبي موسى رفعه: "من صام الدهر ضيقت عليه جهنم وعقد بيده" أخرجه أحمد والنسائي وابن خزيمة وابن حبان (¬1)، ومعناه أنها تضيق عليه حصرًا له فيها لتشديده (أ) على نفسه وحمله عليها ورغبته عن سنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - واعتقاده أن غير سنته أفضل منها، وهذا يقتضي الوعيد الشديد فيكون حرامًا. وذهب آخرون إلى جواز صيام الدهر وحملوا أحاديث النهي على من صام ذلك مع العيدين والتشريق وهو اختيار ابن المُنْذِر وروي عن عائشة نحوه، وفيه نظر فإن قول النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك لابن عمرو على ما تدل عليه القصة ليس لأجل ما ذكر، وإنما هو لتفويت الحقوق التي ينبغي من الإنسان القيام بها المشروعة المتعلقة بالبَدَن، وبرعاية حقوق الغَيْر من الزوجة والزائر والصِّديق، والزَّجر (ب) عن التعمق في العبادة التي يخشى منها الحال المنافِي للشريعة السهلة السمحة التي تفضل الله على الأمة في شرعها برفع الحَرَج والإصْر. وذهب الجمهور إلى استحباب صيام الدهر لمن قَويَ عليه، ولم يفوت حقًّا. قال السبكي (¬2): ويتجه التفصيل في الحق الذي قالوا وهو أنه إذا كان واجبًا حرم الصوم، وإن كان مندوبًا كره الصيام وأشار إلى هذا ابن خزيمة، ¬

_ (أ) هـ: (لشدته). (ب) هـ: (الراحة)!

وأجابوا عن حديث أبي موسى بأن معنى "ضيقت عليه": ضيقت عنه، حكاه الأثرم عن مسدد، وحكى رده عن أحمد، وقال ابن خزيمة (¬1): سألتُ المزني عنه فقال: يشبه أن يكون معناه ضيقت عنه فلا يدخلها، ولا يشبه أن يكون على ظاهره؛ لأن مَن ازداد (أ) لله عملًا صالحًا ازداد رفقة وكرامة، ورجح هذا التأويل الغزالي (¬2)، ويجاب عنه بأنه مع النهي عنه ليس من العمل الصالح، فإن العمل الصالح ما وافق شرع، وما عداه غلو مردود {يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ} (¬3). واحتجوا بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - شبه صوم أيام البيض وست من شوال مع رمضان بصوم الدهر (¬4)، فلولا أن صائمه يستحق الثواب لما شبه به. وأجيب بأن ذلك على تقدير مشروعيته فقد أغنى عنه كما أغْنَت الخمس الصلوات عن الخمسين الصلاة التي قد كانت فُرِضَتْ مع أن مصليها لوجوبها لا يستحق ثوابًا بل عِقَابًا. وقد ورد في صوم الدهر من حديث أبي هريرة: "مَنْ صام الدهر فقد وهب نفسه لله عزَّ وجلَّ" أخرجه أبو الشيخ (¬5)، والله أعلم. فائدة: لم يذكر المصنف -رحمه الله- في فضل صوم رجب شيئًا ولعله لضعف الأحاديث الواردة في ذلك، كما حكى السبكي في ¬

_ (أ) هـ، ي: (أراد).

"الطبقات" (¬1) في ترجمة محمد بن منصور السمعاني أنه قال: "لم يَرِدْ فِي استحباب صوم رجب على التخصيص سُنَّة ثابتة، والأحاديث التي تُروى فيه واهية لا يفْرحُ بها عالم، وهذا كلام صحيح، ولكن لا يوجب التزهيد في صومه ففضل الصوم من حيث الإطلاق ثابت، وفي سنن أبي داود (¬2) وغيرها في صوم الأشهر الحرم ما يكفي في قيام السُّنَّة على الترغيب في صومه"، انتهى. وقد أخرج الطبراني (¬3) عن سعيد بن أبي سعيد بن أبي راشد قال - صلى الله عليه وسلم -: "رجب شهر عظيم يضاعف الله فيه الحسنات، فمن صام يومًا من رجب فكأنما صام سنة، ومَنْ صام منه سبعة أيام غلقت سبعة أبواب جهنم، ومنْ صام منه ثمانية أيام فُتِّحَتْ له ثمانية أبواب الجنة، ومَن صام عشرة لم يَسأل الله شيئًا إلا أعطاه، ومن صام منه خمسة عشر يومًا نادى منادٍ من السماء قد غُفِرَ لك ما مضى فاستأنف العمل، ومن زاد زاده الله، وفي رجب حمل الله نوحًا في السفينة فصام رجب، وأمر مَنْ معه أن يصوموا فجرت بهم السفينة ستة أشهر آخر ذلك يوم عاشوراء أهبط على الجُودِيِّ فصام نوح ومن معه والوحش شكرًا لله عزَّ وجلَّ، وفي يوم عاشوراء فلق الله البحر لبني إسرائيل، وفي يوم عاشوراء تاب الله على آدم وعلى مدينة يونس، وفيه ولد إبراهيم". وأخرج أبو محمد الحسن بن محمد الخلال في "فضائل رجب" عن أبي سعيد أنه قال - صلى الله عليه وسلم -: "رجب من شهور الحُرُم، وأيامه مكتوبة على ¬

_ (¬1) وهو في الطبقات الوسطى، نقله محقق الطبقات الكبرى 7/ 11. (¬2) أبو داود الصوم، باب في صوم أشهر الحُرُم 2: 809: 810 ح 2428. (¬3) المعجم الكبير 6/ 69 ح 5538. وقال ابن حجر العسقلاني في تبين العجب ص 16: "هو حديث موضوع". لأن فيه عثمان بن مطر كذبه ابن حبان وضعفه غيره من الأئمة.

أبواب السماء السادسة، فإذا صام الرجل منه يومًا وجد صومه بتقوى الله نطق الباب ونطق اليوم وقالا: يا رب اغفر له، وإذا لم يتم صمومه بتقوى الله لم يستغفرا وقيل: خَدَعَتْك نفسك". وأخرج أبو الفتح ابن أبي الفوارس في "أماليه" عن الحسن مرسلًا أنه قال - صلى الله عليه وسلم -: "رجب شهر الله، وشعبان شهري، ورمضان شهر أمتي" (¬1). وأخرج الخطيب عن أبي ذر: "مَنْ صام يومًا من (أ) رجا عدلِ صيام شهر، ومن صام منه سبعة أيام غُلِّقَتْ عنه أبواب جهنم السبعة (ب ومنْ صام منه ثمانية أيام (جـ) فتحت له أبواب الجنة الثمانية، ومن صام منه عشرة أيام بَدَّل الله سيئاته حسنات ب)، ومنْ صام منه عشرة أيام نادى منادٍ إن الله قد غفر لك ما مضى فاستأنِفْ العمل" (¬2). وأخرج أبو نعيم وابن عساكر عن ابن عمر (د أنه قال - صلى الله عليه وسلم - د) "ومَنْ (هـ) صام أول يوم من رجب عدل ذلك بصيام سنة، ومن صام سبعة أيام أغلق عنه سبعة أبواب النيران، ومن صام من رجب عشرة أيام نادى منادٍ من السماء أنْ سلْ تُعْطَه". وأخرج البيهقي عن أنس أنه قال - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ صام يومًا من رجب ¬

_ (أ) زادت هـ: (شهر). (ب- ب) سقط في ي. (جـ) سقط من هـ. (د- د) سقط من ي. (هـ) كذا في الأصل، وفي جـ: (مَنْ، ومن)، وفي هـ: (من) - بغير واو.

كان كصيام سنة، ومَنْ صام سبعة أيام غلقت عنه سبعة أبواب جهنم ومن صام ثمانية أيام فتحت له ثمانية أبواب الجنة، ومن صام عشرة أيام لم يسأل الله شيئًا إلا أعطاه، ومن صام خمسة عشر يومًا ناد منادٍ من السماء قد غفرت لك ما سلف، فاستأنف العمل، قد بدلت سيئاتك حسنات، ومن زاد زاده الله، وفي رجب حمل نوح في السفينة فصام نوح، وأمر من معه أن يصوموا، وجَرَت بهم السفينة ستة أشهر إلى آخر ذلك لعشر خلون من المحرم". فهذه الأحاديث بعضها يقوي بعضًا، والله أعلم. اشتمل هذا الباب على ستة عشر حديثًا.

باب الاعتكاف وقيام رمضان

باب الاعتكاف وقيام رمضان الاعتكاف لغة: لزوم الشيء وحبس النفس عليه (¬1). وشرعًا (¬2): القيام في المسجد مِنْ شَخْصٍ مخصوص على صِفَةٍ مخصوصة. وليس بواجب إجماعًا إلا على منْ نذره، وكذا من شرع فيه فقطعه عامدًا عند قوم. وقيام رمضان: المراد قيام لياليه مصليًا، والمراد من قيام الليل ما يحصل به مطلق القيام، وليس من شرطه استغراق جميع أوقات الليل، ولعل المراد أن يكون في أكثر الليل، وذكر النووي أن قيام رمضان يحصل بصلاة التراويح، يعني أنه يحصل بها المطلوب من القيام لا أن (أ) قيام رمضان لا يكون إلا بها. وأغرب الكرماني فقال: اتفمْوا على أن المراد بقيام رمضان صلاة التراويح، واختلف في شرط الصوم له، وانفرد سُوَيْد بن غفلة باشتراط الطهارة له، ولا خلاف في شرعيته إلا ما روي عن مالك أنه كره الدخول فيه مخافة ألا يوفي شروطه. 537 - وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من قام رمضان إِيمانًا واحتسابًا غُفِرَ له ما تقدم من ذنبه" متفق عليه (¬3). ¬

_ (أ) هـ، جـ: (لأن).

قوله: "من قَامَ رمضان" قد عِرفتَ معنى القيام. وقوله: "إِيمانًا" أي تصديقًا بوعْد اللهِ بالثواب. "واحتسابًا": أي طلبًا للأجر، أَي لا لقصدٍ آخر مِنْ رياءٍ أو غيره. وقوله: "غفر له" ظاهره يتناول الصغائر والكبائر، وبه جزم ابن المنذر، وقال النووي (¬1): المعروف أنه مختص بالصغائر، وبه جزم إمام الحرمين، وعزاه عياض لأهل السنة. قال بعضهم: ويجوز أن يخفف من الكبائر إذا لم تصادف صغيرة، وقد تقدم مثل هذا في صوم يوم عرفة مع زيادة. وقوله: "ما تقدم من ذنبه" وعند النسائي بزيادة: "وما تأخر"، وقد أخرج هذه الزيادة جماعةٌ من حديث سفيان بن عيينة. وأخرجها أحمد من طريق أخرى، وأخرجت من طريق مالك تفرد بها بحر بن نصر عن ابن وهب عن مالك ولم يتابعه عليها أحد من أصحاب ابن وهب ولا من أصحاب مالك. قال المصنف -رحمه الله تعالى-: "وقد ورد في غفران ما تقدم وما تأخر من الذنوب عدة أحاديث جمعتها في كتابٍ مُفْرَد" (¬2). وقد أُورد على هذا بأن غفران ما تقدم معقول، ولا يعقل غفران ما تأخر فإن المغفرة تستدعي سبق شيء. ويُجاب عنه بأن ذلك كناية عن عدم وقوع الذنب منهم في المستقبل، وأجاب الماوردي بأنها تقع منهم الذنوب مغفورة، والله أعلم. والحديث فيه دلالة على فضيلة قيام رمضان، وتأكد شرعيته، وهو ¬

_ (¬1) شرح مسلم 5: 40. (¬2) الفتح 252:4.

يحصل بصلاة التراويح، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلاها بهم ثلاث ليالٍ وترك في الليلة الرابعة خشية أن يفرض، كما أخرجه البخاري (¬1)، واستمر الأمر على ذلك في زمنه - صلى الله عليه وسلم - وفي خلافة أبي بكر وصَدْرًا من خلافة عمر حتى خرج (أ) عمر إلى المسجد في ليلة فإذا الناس أوْزَاعٌ متفرقون، يصلي الرجل لنفسه، ويصلي الرجل فيصلي بصلاته الرهط، فقال عمر: إني أرى لو جمعت هؤلاء على قارئ واحد لكان أمثل، ثم عزم فجمعهم على أبي بن كعب، ثم خرج ليلة والناس يصلون بصلاة قارئهم فقال عمر: نعم البدعة هذه، والتي ينامون عنها أفضل من التي يقومون -يريد آخر الليل- وكان الناس يقومون أوله، أخرجه البخاري (¬2). وقد أفهم البخاري أن قيام رمضان يحصل بصلاة التراويح، وقد اختلف العلماء في أن صلاتها أفضل في البيوت أو في المسجد فجنح الجمهور إلى أن صلاتها في المسجد أفضل كما اختاره عمر لزوال العلة التي اقتضت أن لا يصلى في المسجد في أيام النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو خشية الفريضة. وعن مالك في أحد الروايتين وأبي يوسف وبعض الشافعية الصلوات في البيوت أفضل عملًا بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة" وهو حديث صحيح أخرجه مسلم (¬3). وبالغ الطحاوي فقال: إنَّ صلاة التراويح في الجماعة واجبة على الكفاية. ¬

_ (أ) ي: (عمد).

وقال ابن بطال: قيام رمضان سنة لأن عمر إنما أخذه من فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - وإنما تركه النبي - صلى الله عليه وسلم - خشية الافتراض. وعند الشافعية في أصل المسألة ثلاثة أوجه، ثالثها: مَنْ كان يحفظ القرآن ولا يخاف من الكسل، ولا تختل الجماعة في المسجد بتخلفه وصلاته (أ) في الجماعة والبيت سواء، فمن فقد بعض ذلك فصلاته في الجماعة أفضل. وقد اختلفت الروايات في القدر الذي كان يصلي به أُبَيُّ بن كعب، ففي الموطأ (¬1) أنه إحدى عشرة، ورواه سعيد بن منصور من وجه آخر وزاد فيه "وكانوا يقرؤن بالمئين ويقومون على العصا من طول القيام". وروى محمد بن نصر المروزي أنها إحدى وعشرون، وروى مالك من طريق أخرى أنها عشرون ركعة (¬2)، وهذا محمول على غير الوتر. وعن يزيد بن رُومان قال: "كان الناس يقومون في زمن عمر بثلاث وعشرين" (¬3). روى محمد بن نصر من طريق عطاء قال: "أدركتهم في رمضان يصلون عشرين ركعة وثلاث ركعات الوتر" والجمع بين هذه الروايات ممكن باختلاف الأحوال، ويحتمل أن ذلك الاختلاف بحسب تطويل القراءة وتخفيفها، فحيث تطول القراءة تقل الركعات وبالعكس، وبذلك جزم الداودي وغيره، والاختلاف فيما زاد على العشرين راجع إلى الاختلاف في الوتر، فكان تارة يوتر بواحدة وتارة يوتر بثلاث. ¬

_ (أ) جـ: (فصلاته).

وروى محمد بن نصر من طريق داود بن قيس قال: أدركت الناس في إمارة أبان بن عثمان وعمر بن عبد العزيز يعني بالمدينة يقومون بست وثلاثين ركعة ويوترون بثلاث. وقال مالك: الأمر عندنا بتسع وثلاثين وبمكة بثلاث وعشرين وليس في شيء من ذلك ضيق، وعنه قال: إن أطالوا القيام وأقلوا السجود فحسن، وإن أكثروا السجود وأخفوا القراءة فحسن والأول أحب إليَّ: وقال الترمذي: "أكثر ما قيل أنها تصلى إحدى وأربعين ركعة بركعة الوتر" (¬1)، كذا قال. وقد نقل ابن عبد البر عن الأسود بن يزيد أربعين، ويوتر بسبع، وقيل ثمان وثلاثين ذكره محمد بن نصر عن ابن يونس عن مالك، وهذا يمكن رده إلى الأول بانضمام ثلاث الوتر، لكن صرح في روايته بأنه يوتر بواحدة فتكون أربعين إلا واحدة. قال مالك: وعلى هذا العمل منذ بضع ومائة سنة، وعن مالك ستًّا وأربعين وثلاث الوتر، وهذا (أ) المشهور عنه، وقد رواه ابن وهب عن العمري عن نافع قال: لم أدرك الناس إلا وهم يصلون تسعًا وثلاثين ويوترون منها بثلاث. وعن زرارة بن أوفى أنه كان يصلي بهم بالبصرة أربعًا وثلاثين ويوتر. وعن سعيد بن جُبَيْر أربعًا وعشرين، وقيل ست عشرة غير الوتر، روي عن أبي محمد عن محمد بن نصر. ¬

_ (أ) زاد هـ: (هو).

وأخرج من طريق محمد بن إسحاق حدثني محمد بن يوسف عن جده السائب بن يزيد قال: كنا نصلي زمن عمر في رمضان ثلات عشرة. قال ابن إسحاق: وهذا أثبت ما سمعتُ في ذلك، وهو موافق لحديث عائشة في صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - من الليل والله أعلم. وأما ما رواه ابن أبي شيبة من حديث ابن عباس: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي في رمضان عشرين ركعة والوتر" (¬1) وإسناده ضعيف، وقد عارضه حديث عائشة، وهي أعرف بحال النبي - صلى الله عليه وسلم -. 538 - وعن عائشة - رضي الله عنها - قالت: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إِذا دخل العَشْر -أي العشر الأخير من رمضان- شد مئزره، وأحيا ليله، وأيقظ أهله" متفق عليه (¬2). قوله: "إِذا دخل العشر" أي العشر الليالي. وقوله: "أي العشر الأخير" ليس هو من لفظ الحديث في رواية عائشة، ولكنه وقع في حديث على عند ابن أبي شيبة والبيهقي من طريق عاصم بن ضمرة عنه (¬3). وقوله: "شد مئزره" أي اعتزل النساء كناية عن ذلك، وبهذا جزم عبد الرزاق (¬4) عن الثوري، واستُشْهِدَ بقول الشاعر: قومٌ إذا حاربوا شدوا مآزرهم ... عن النساء ولو باتت بأطهار ¬

_ (¬1) ابن أبي شيبة 2: 394. (¬2) البخاري كتاب فضل ليلة القدر، باب العمل في العشر الأواخر من رمضان 4: 269 ح 2024 (واللفظ له)، مسلم وفيه زيادة -الاعتكاف باب الاجتهاد في العشر الأواخر من شهر رمضان 2: 832 ح 7 - 1174. (¬3) سنن البيهقي 4: 314. (¬4) مصنف عبد الرزاق 4: 253 ح 7702.

وذكره ابن أبي شيبة عن أبي بكر بن عياش نحوه (¬1). وقال الخطابي (¬2): يحتمل أنه أراد به الجدَّ في العبادة كما يقال شددت لهذا الأمر مئزري أي: شمرت له، ويحتمل أنه يراد مجموع الأمرين فيكون المعنى أنه شد مئزره حقيقة فلم يحله واعتزل النساء وشمر للعبادة. قال المصنف -رحمه الله (¬3): وقد وقع في رواية عاصم بن ضمرة في حديث علي شد مئزره واعتزل النساء فعطفه بالواو وأصله المغايرة. وقوله: "وأحيا ليله" أوقع الإحياء على الليل مجازًا عقليًّا لكونه زمانًا لإحياء نفسه فيه؛ لأن اليقظة نقيض النوم، والنوم أخو الموت، أو الإحياء استعارة، وهو أنه شبه استيقاظه في أوقات الليل بالإحياء، والمراد مِنْ أحيا الليل الشهر، وهو محتمل هل يراد أحيا الليل كله، وقد روي من حديث عائشة من وجه فيه ضعف بلفظ: "وأحيا الليل كله". وفي مسند أحمد من وجه آخر عنها قالت: "كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يخلط العشرين بصلاة ونوم، فإذا كان العشرون شمر وشد المئزر" (¬4). وخرج الحافظ أبو نعيم بإسناد فيه ضعف عن أنس: "كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا شهد رمضان قام ونام فإذا أربعًا وعشرين لم يذق غمضًا" (¬5). ويحتمل أن يراد بإحياء الليل إحياء غالبه. وقد روى بعض المتقدمين من بني هاشم ظنه الراوي أبا جعفر محمد بن علي أنه فسر ذلك بإحياء نصف الليل، ويؤيده رواية سلمة عن عائشة: "ما أعلمه - صلى الله عليه وسلم - قام ليلة ¬

_ (¬1) مصنف ابن أبي شيبة 2: 513. (¬2) انظر: معالم السنن 2: 109. (¬3) الفتح 4: 269. (بنحوه). (¬4) أحمد 6: 146. (¬5) الحلية 306:6.

حتى الصباح". وقوله: "أيقظ أهله" أي للصلاة، وفي حديث زينب بنت أم سلمة عند الترمذي: "لم يكن النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا بقي من رمضان عشرة أيام يدع أحدكم من أهله يطق القيام إلا أقامه". قال القرطبي: ذهب بعضهم إلى أنَّ اعتزاله النساء كان بالاعتكاف وفيه نظر، لقوله "وأيقظ أهله" فإنه يشعر بأنه كان معهن في البيت، فلو كان معتكفًا لكان في المسجد ولم يكن معه أحد، وفيه نظر، فإنه يحتمل أنه كان يوقظهم وهو في محله أو يوقظهم عند دخوله لحاجة أو يأمر من يوقظهم. 539 - وعنها - رضي الله عنها - "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله -عزَّ وجلَّ- ثم اعتكف أزواجه من بعده" متفق عليه (¬1). الحديث فيه دلالة على أن الاعتكاف سنة مؤكدة مواظب عليها، فإن كان مع الفعل المضارع يدل على الاستمرار. قال أبو داود عن أحمد: لا أعلم عن أحد من العلماء خلافًا أنه مسنون (¬2). وأما قول ابن نافع عن مالك: فكرتُ في الاعتكاف وترك الصحابة له مع شدة اتباعهم للأمر فوقع في نفسي أنه كالوصال، وأراهم تركوه لشدته ولم يبلغني عن أحد من السلف أنه اعتكف إلا عن أبي بكر بن عبد الرحمن، انتهى. ¬

_ (¬1) البخاري الاعتكاف، باب الاعتكاف في العشر الأواخر. . . 4: 271 ح 2026، مسلم الاعتكاف، باب اعتكاف العشر الأواخر من رمضان 2: 831 ح 5 - 1172. (¬2) الفتح 4: 272.

وكأنه أراد صفة مخصوصة، وإلا فقد روي عن جماعة من الصحابة. قال ابن العربي: هو سنة مؤكدة، وكذا قال ابن بطال. واعتكاف أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - من بعده فيه دلالة على أنه لم ينسخ، وعلى أنه ليس من الخصائص، وفيه دلالة على أن اعتكاف المرأة في المسجد غير مكروه، وقد أطلق الشافعي القول بكراهته في المسجد الذي تصلي فيه الجماعة، وقال ابن عبد البر: لولا أن ابن عيينة زاد في روايته "أن أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - استأذنه في الاعتكاف" لقطعت بأن اعتكاف المرأة في مسجد الجماعة غير جائز. وفي رواية للحنفية أنها لا تعتكف إلا في مسجد دارها، وفي رواية أن لها الاعتكاف في المسجد مع زوجها. 540 - وعنها قالت: "كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إِذا أراد أن يعتكف صلى الفجر ثم دخل معتكفه" متفق عليه (¬1). في الحديث دلالة على أن أول الوقت الذي يدخل فيه المعتكف بعد صلاة الصبح، وهو قول الأوزاعي والليث والثوري وقال غيرهم إنه يدخل المسجد قبل طلوع الفجر إذا كان معتكفًا النهار، فإذا كان معتكفًا من الليل فيدخل قبل غروب الشمس، وأولوا الحديث بأنه طلع الفجر وهو - صلى الله عليه وسلم - في المسجد، ولكن إنما تخلى بنفسه في المكان الذي أعده لنفسه بعد صلاة الصبح؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - كان يضرب له خباء في المسجد ينفرد فيه بنفسه (¬2)، والله أعلم. ¬

_ (¬1) البخاري الاعتكاف، باب الاعتكاف في شوال 4: 283 - 284 ح 2041، مسلم الاعتكاف، باب متى يدخل من أراد الاعتكاف في معتكفه 2: 831 ح 6 - 1173 (واللفظ له). (¬2) البخاري الاعتكاف، باب اعتكاف النساء 4: 275 ح 2023، مسلم الاعتكاف، باب متى يدخل من أراد الاعتكاف في معتكفه 2: 831 ح 6 - 1173.

541 - وعنها قالت: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليدخل عليَّ رأسه، وهو في المسجد فأُرَجِّلُه، وكان لا يدخل البيت إِلا لحاجة إِذا كان معتكفًا" متفق عليه، واللفظ للبخاري (¬1). الحديث فيه دلالة على أن المعتكف لا يخرج من المسجد بجميع بدنه، وأن خروج بعض البدن لا يضر، وعلى أنه شرع للمعتكف النظافة ويلحق به التطيب والغسل والحلق والتزين، وعلى أن الفعل اليسير من الأفعال الخاصة بالإنسان يجوز فعلها وهو في المسجد، وعلى أنه يجوز للرجل استخدام امرأته برضاها، وقولها "إلا لحاجة" يدل على أنه لا يجوز للمعتكف الخروج من المسجد إلا للأمر الضروري الذي لا يخلو الإنسان عنه، وفي رواية مسلم "إلا لحاجة الإنسان" (¬2) وفسرها الزهري بالبول والغائط، وقد اتفقوا على استثنائهما واختلفوا في غيرهما من الحاجات كالأكل والشرب، ولو خرج لهما فتوضأ خارج المسجد لم يبطل، ويلتحق بهما القيء والفصد لمن (أ) احتاج إليه، والله أعلم. 542 - وعنها قالت: "السنة على المعتكف ألا يعود مريضًا، ولا يشهد جنازة، ولا يمس امرأة، ولا يباشرها، ولا يخرج لحاجة إِلا لما لا بد منه، ولا اعتكاف إِلا بصوم، ولا اعتكاف إِلا في مسجد جامع" رواه أبو داود (¬3)، ولا بأس برجاله إلا أن الراجع وقف آخره. الحديث أخرجه أبو داود من طريق عبد الرحمن بن إسحاق عن الزهري ¬

_ (أ) هـ: (لما).

عن عائشة، قال أبو داود: "غير عبد الرحمن لا يقول فيه السنة" (¬1). وجزم الدارقطني بأن القدر الذي من حديث عائشة قولها "لا يخرج" وما عداه ممن دونها (¬2). الحديث فيه دلالة على أنه لا يجوز للمعتكف الخروج لشيء مما ذكر وهو متأيد بالحديث الأول المتفق عليه. وروي عن علي - رضي الله عنه - والنخعي والحسن البصري: إن شهد المعتكف جنازة أو عاد مريضًا أو خرج للجمعة بطل اعتكافه، وبه قال الكوفيون، وابن المنذر في الجمعة، وقال الشافعي وإسحاق: إن شرط شيئًا من ذلك في ابتداء الاعتكاف لم يبطل اعتكافه بفعله، وهو رواية عن أحمد، وذهبت الهادوية إلى أن له الخروج لقضاء حوائجه وعيادة الريض وحضور الجنازة وغير ذلك في الأقل من وسط النهار قياسًا على السوم فإنه إذا سام في أكثر الحول كان له حكم الكل، كذلك هنا، ولما روي عن على أنه قال: "من اعتكف فلا يرفث ولا يسامه (أ) وليشهد الجمعة والجنازة ويوصي أهله إذا كانت له حاجة وهو قائم ولا يجلس" ذكره عبد الرزاق، قالوا: ولا يقعد إن كفي القيام، ويفعل المعتاد ويرجع من غير مسجد فورًا، وهو قياس منهم على الحاجة المذكورة في الحديث، والفارق موجود بالبقاء على ما روت عائشة أولى، وفي قولها "ولا اعتكاف إلا بصوم" فيه دلالة على أن الاعتكاف شرطه الصوم، وقد ذهب إليه العترة جميعًا وابن عباس وابن عمر ومالك والنخعي والثوري وأبو حنيفة محتجين ¬

_ (أ) الأصل، هـ، جـ: (يساب).

بهذا، وبقياس العكس أيضًا كما حققه أبو الحسين، قالوا لأن الصوم يجب بالنذر به إذا نذر بالاعتكاف صائما وجب إجماعًا فيجب بغير نذر قياسًا على الصلاة فإنها تجب بالنذر إذا قال: لله علي أن أعتكف مصليًا فلا تجب بغير نذر (أ). وذهب الشافعي وموافقوه من أصحابه وغيرهم إلى أن الصوم ليس بشرط لصحة الاعتكاف، بل يصح اعتكاف المفطر، ويصح اعتكاف ساعة واحدة، ولحظة واحدة. وضابطه مكث يزيد على طمأنينة الركوع أدنى زيادة، ووجه عند أصحاب الشافعي أنه يصح اعتكاف المار في المسجد من غير لبث، والمشهور الأول، فينبغي لكل جالس في المسجد لانتظار صلاة أو شغل آخر من آخرةٍ أو دنيا أن (ب) ينوي الاعتكاف فيحسب له ويثاب عليه ما لم يخرج من المسجد، فإذا خرج ثم دخل جدد نية أخرى، وليس للاعتكاف ذكر مخصوص ولا فعل آخر سوى اللبث في المسجد بنية الاعتكاف، ولو تكلم بكلام دنيا أو عمل صنعة من خياطة أو غيرها لم يبطل اعتكافه عند الجمهور، وذهب ابن (جـ) القاسم أنه (د) يختص بالصلاة وذكر الله -تعالى- وقراءة القرآن لا غير ذلك من أعمال البر والقرب. وذهب ابن وهب إلى أنه يختص بجميع أعمال البر المختصة بالآخرة، واحتج الشافعي بالحديث الآتي وباعتكافه - صلى الله عليه وسلم - في العشر الأول من ¬

_ (أ) هـ: (عذر). (ب) هـ: (أنه). (جـ) ي: (أبو). (د) هـ: (أن).

شوال (¬1) مع أن أولها يوم العيد يحرم صومه، وبحديث عمر قال: "يا رسول الله: إني نذرت أن أعتكف ليلة في الجاهلية، فقال: أوف بنذرك" رواه البخاري ومسلم (¬2). والليل ليس محلًا للصوم، وقد تأول ذلك الأولون بأن حديث ابن عباس ليس على المعتكف صوم بمعنى أنه لا يجب عليه لعدم وجوب الاعتكاف عليه بخلاف ما إذا وجب عليه الاعتكاف فيجب عليه الصوم جمعًا بين الأدلة كذا حرره الإمام المهدي في البحر، وهو ضعيف يرده تمام الحديث "إلا أن يفرضه على نفسه" فمفهومه أن المعتكف يتم اعتكافه من دون صوم إلا أن يفرض الصوم على نفسه فيجب عليه، وهو مجمع على ذلك، ومفهوم الاستثناء منزل منزلة المنطوق، أو منطوق على الخلاف في ذلك واعتكافه في العشر الأول يحتمل المجاز، باعتبار أنه صام الحادي عشر تمامها ولم يصم يوم العيد، ولم يعتكف فيه، وهو قريب إذ لم ينقل أنه - صلى الله عليه وسلم - صام يوم العيد أو اعتكف فيه، وترك الخروج للعيد، وحديث عمر أنه نذر باعتكاف ليلة يحتمل أنه أراد اليوم مجازًا مع أنه قد ورد في رواية شعبة عند مسلم يومًا بدل ليلة. وجمع ابن حبان وغيره بين الروايتين بأنه نذر اعتكاف يوم وليلة، فمن أطلق ليلة أراد بيومها. وقد ورد الأمر بالصوم في رواية عمرو بن دينار عن ابن عمر صريحًا لكن إسناده ضعيف، وقد زاد فيها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له: "اعتكف ¬

_ (¬1) البخاري الاعتكاف، باب الاعتكاف في شوال 4: 283: 284 ح 2041، مسلم الاعتكاف، باب متى يدخل من أراد الاعتكاف في معتكفه 2: 831 ح 6 - 1173. (¬2) البخاري الاعتكاف، باب إذا نذر في الجاهلية أن يعتكف ثم أسلم 4: 284 ح 2043، مسلم الإيمان، باب نذر الكافر وما يفعل فيه إذا أسلم 3: 1277 ح 27 - 1656.

وصم" أخرجه أبو داود والنسائي (¬1) من طريق عبد الله بن بديل، وهو ضعيف (¬2). وذكر ابن عدي والدارقطني (¬3) أنه تفرد بذلك عن عمرو بن دينار إلا أنه يرد هذا ما في البخاري من رواية سلمان (أ) بن بلال أن عمر اعتكف ليلة (¬4) فدل على أنه لم يزد على نذره شيئًا، وسيأتي حديث عمر في آخر باب النذر إن شاء الله تعالى. وقوله: "ولا اعتكاف إلا في مسجد جامع" فيه دلالة على اشتراط المسجد الجامع. واعلم أن العلماء اتفقوا على مشروطية المسجد للاعتكاف إلا محمد بن عمر بن لبابة المالكي فأجازه في غير مسجد، وأجاز الحنفية للمرأة أن تعتكف في مسجد بيتها، وهو المكان المعد للصملاة، وفيه قول قديم للشافعي، وفي وجه لأصحابه (ب)، وللمالكية يجوز للرجال والنساء لأن التطوع في البيوت أفضل، وذهب أبو حنيفة وأحمد إلى اختصاصه بالمساجد التي تقام فيها الصلوات، وخصه أبو يوسف بالواجب منه، وأما النفل ففي كل مسجد. وقال الجمهور بعمومه في كل مسجد إلا لمن تلزمه الجمعة فاستحب له الشافعي الجامع، وشرطه مالك لأن الاعتكاف عندهما ينقطع بالجمعة، ¬

_ (أ) هـ، جـ: (سليمان). (ب) هـ: (للصحابة).

ويجب بالشروع عند مالك، وخصه طائفة من السلف كالزهري بالجامع مطلقًا (¬1)، وأومأ إليه الشافعي في القديم، وخصه حذيفة بن اليمان بالمساجد الثلاثة (¬2). وعن عطاء بمسجدي مكة والمدينة (¬3)، وابن المسيب بمسجد المدينة (¬4)، واتفقوا على أنه لا حَدَّ لأكثره، واختلفوا في أقله فمن شرط فيه الصيام قال أقله يوم ومنهم من قال يصح مع شرط الصيام في دون اليوم حكاه ابن قدامة. وعن مالك يشترط عشرة أيام، وعنه يومان أو يوم. ومن لم يشرط الصوم قالوا: أقله ما ينطلق عليه اسم لبث (أ) ولا يشترط القعود، وقيل يكفي المرور مع النية كوقوف عرفة. وروى عبد الرزاق عن يعلى بن أمية الصحابي: "إني لأمكث في المسجد الساعة، وما أمكث إلا معتكفًا" (¬5). واتفقوا على فساده بالجماع حتى قال الحسن والزهري: من جامع فيه لزمته الكفارة (¬6)، وعن مجاهد يتصدق بدينارين، واختلفوا في غير الجماع ففي المباشرة أقوال، ثالثها إن أنزل بطل، وإلا فلا. ¬

_ (أ) ي: (الليث).

543 - وعن ابن عباس - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ليس على المعتكف صيام إِلا أن يجعله على نفسه" رواه الدارقطني والحاكم (¬1) والراجح وقفه أيضًا. تقدم الكلام عليه في الحديث الأول. 544 - وعن ابن عمر - رضي الله عنه - "أن رجالًا من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - أروا ليلة القدر في المنام في السبع الأواخر، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أرى رؤياكم قد تواطأت في السبع الأواخر، فمن كان متحريها فليتحرها في السبع الأواخر" متفق عليه (¬2). قوله: "أن رجالًا" قال المصنف -رحمه الله تعالى (¬3) -: لم أقف على تسمية أحد من هؤلاء، وأُروا بضم أوله على البناء للمجهول أي قيل لهم في المنام، والسبع الأواخر المراد به أواخر الشهر كما هو الظاهر، وقيل المراد به السبع التي أولها الثاني والعشرون وآخرها ليلة الثامن والعشرون (أ)، فعلى الأول لا تدخل فيه ليلة إحدى وعشرين ولا ليلة ثلاث وعشرين، وعلى الثاني تدخل ليلة ثاني وعشرين ولا تدخل ليلة التاسع والعشرين. ¬

_ (أ) هـ، ي: (والعشرين) -وهو الصواب.

ويرجح الوجه الأول حديث ابن عمر: "التمسوها في العشر الأواخر، فإن ضعف أحدكم أو عجز فلا يغلبن علي السبع البواقي" أخرجه مسلم (¬1)، وقد أخرجه البخاري في باب التعبير بلفظ "أن ناسًا (أأُروا ليلة القدر في التسع الأواخر، وأن ناسًا أ) أروا أنها في العشر الأواخر" (¬2)، وفي رواية أحمد بلفظ "رأى رجل أن ليلة القدر ليلة سبع وعشرين أو كذا وكذا، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "التمسوها في العشر البواقي في الوتر منها" (¬3)، ورواه أحمد من حديث علي مرفوعًا: "إن غلبتم فلا تغلبوا في السبع البواقي" (¬4). ويجمع بين الروايات بأن العشر للاحتياط فيها، والتسع (ب) كذلك والسبع لأن ذلك من المظنة، وهو أقصى ما يظن فيه الإدراك. وقوله "أرى" بفتحتين أي أعلم، و "رؤياكم" جاء بإفرادها والمراد الجنس الصادق على ما فوق الواحد، وقوله: "تواطأت" أي توافقت وزنًا ومعنى، وقال ابن التين: روي بغير همز، والصواب الهمز، وأصله أن يطأ الرجل برجله مكان وطء صاحبه. والحديث فيه دلالة على الحث على قيام رمضان لا سيما ما ذكر من الأواخر، وفيه دلالة على عِظَم قدر الرؤيا وجواز الاستناد إليها في الاستدلال على الأمور الوجودية بشرط أن لا يخالف القواعد الشرعية. ¬

_ (أ - أ) سقط من ي. (ب) سقط من ي.

545 - وعن معاوية بن أبي سفيان عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في ليلة القدر: "ليلة سبع وعشرين" رواه أبو داود (¬1)، والراجح وقفه. وقد اختلف في تعيينها على أربعين قولًا أوردتها في "فتح الباري". الحديث فيه دلالة على تعين ليلة القدر، والأقوال التي أوردها المصنف -رحمة الله تعالى عليه- في فتح الباري (¬2) هي: القول الأول: أنها رفعت أصلًا ورأسًا حكاه المتولى في التتمة عن الروافض، والفاكهاني في شرح العمدة عن الحنفية، وكأنه خطأ منه، والذي حكاه السروجي أنه قول الشيعة، وقد روى عبد الرزاق عن الحجاج إنكارها. الثاني: أنها خاصة بسنَةٍ واحدة وقعت في زمن رسول الله، - صلى الله عليه وسلم -، حكاه الفاكهاني أيضًا. الثالث: أنها خاصة بهذه الأمة ولم تكن في الأمم قبلهم، جزم به ابن حبيب وغيره من المالكية، وعمدتهم قول مالك في الموطأ (¬3). بلغني أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تقال أعمار أمته عن أعمار الأمم الماضية فأعطاه الله ليلة القدر، وهذا محتمل للتأويل فلا يدفع ما ورد صريحًا في حديث أبي ذر عند النسائي (¬4) قال: قلت: "يا رسول الله أتكون مع الأنبياء فإذا ماتوا رفعت قال: بل هي باقية". الرابع: أنها ممكنة في جميع السنة، وهو قول مشهور عن الحنفية ¬

_ (¬1) أبو داود الصلاة، باب من قال سبع وعشرون 2: 111 ح 1386. (¬2) الفتح 4: 262: 266. (¬3) الموطأ الاعتكاف، باب ما جاء في ليلة القدر 212 ح 15. (¬4) النسائي الكبرى الاعتكاف (كما جاء في تحفة الأشراف 9: 183 ح 11977).

حكاه قاضي (أ) خان وأبو بكر الداري منهم، وروي مثله عن ابن مسعود وابن عباس وعكرمة وغيرهم، وزيف المهلب هذا القول، وقال: لعل صاحبه بناه على دوران الزمان لنقصان الأهلة، وهو فاسد لأن ذلك لم يعتبر في غيره حتى تنتقل ليلة القدر عن رمضان، انتهى. ومأخذ ابن عباس كما ثبت في "صحيح مسلم" عن أبي بن كعب أنه أراد أن لا يتكل الناس (¬1). الخامس: أنها مختصة برمضان ممكنة في جميع لياليه، وهو قول ابن عمر، رواه ابن أبي شيبة بإسنادٍ صحيح عنه، وروي مرفوعًا عنه، أخرجه أبو داود (¬2)، وفي شرح الهداية الجزم به عن أبي حنيفة، وقال به ابن المنذر والمحاملي وبعض الشافعية، ورجحه السبكي في شرح المنهاج، وحكاه ابن الحاجب رواية، وقال السروجي في شرح الهداية قول أبي حنيفة أنها تنتقل في جميع رمضان، وقول صاحبَيْه أنها في ليلة معينة مبهمة، وكذا قال النسفي في المنظومة: وليلة القدر بكل الشهر ... دائرة وعيناها فادرِ انتهى. وهذا القول حكاه ابن العربي عن قوم وهو السادس. السابع: أنها أول ليلة من رمضان حكي عن أبي رزين (ب) الصحابي، وروى ابن أبي عاصم من حديث أنس قال: "ليلة القدر أول ليلة من ¬

_ (أ) هـ: (القاضي)، وأثبت في حاشيتها: (القاضي). (ب) ي: (ابن أبي رزين).

رمضان" وقال ابن أبي عاصم: "لا نعلم أحدًا قال ذلك غيره". الثامن: أنها ليلة النصف من رمضان حكاه شيخنا سراج الدين بن الملقن في "شرح العمدة"، والذي رأيته في "المُفهِم" للقرطبي حكاية قول أنها (أ) ليلة النصف من شعبان، وكذا نقله السروجي عن صاحب "الطراز"، فإن كانا محفوظَيْن فهو القول التاسع، ثم رأيت في شرح السروجي من المحيط أنها في النصف الأخير. العاشر: أنها ليلة سبع عشرة (ب) من رمضان، وروى ابن أبي شيبة والطبراني من حديث زيد بن أرقم قال: بلا شك ولا امتراء أنها ليلة سبع عشرة من رمضان ليلة أنزل القرآن، وأخرجه أبو داود عن ابن مسعود أيضًا (¬1). الحادي عشر: أنها مبهمة في العشر الوسط حكاه النووي وعزاه الطبري لعثمان بن أبي العاص، والحسن البصري، وقال به بعض الشافعية. الثاني عشر: أنها ليلة ثمان عشرة قرأته بخط القطب الحلبي في شرحه، وذكره ابن الجوزي في مشكِلِه. الثالث عشر: أنها ليلة تسع عشرة، رواه عبد الرزاق عن علي (¬2) وعزاه الطبري لزيد بن ثابت، ووصله الطحاوي عن ابن مسعود. الرابع عشر: أنها أول ليلة من العشر الأخير (جـ)، وإليه مال الشافعي، ¬

_ (أ) هـ: (بأنها). (ب) جـ: (سبع وعشرين). (جـ) جـ: الأواخر.

وجزم به جماعة من الشافعية، ولكن قال السبكي ليس مجزومًا به عندهم لاتفاقهم على عدم حنث من علق يوم العشرين عتق عبده في ليلة القَدْر أنه لا يعتق تلك الليلة بل بانقضاء الشهر على الصحيح بناء على أنها في العشر الأخير، وقيل بانقضاء السنة بناء على أنها لا تختص بالعشر الأخير بل هي في رمضان. الخامس عشر: مثل الذي قبله إلا أنه إن كان الشهر تامًّا فهي ليلة العشرين وإن كان ناقصًا فهي ليلة أحد وعشرين، وهكذا في جميع العشرة وهو قول ابن حزم، وزعم أنه يجمع بين الأخبار بذلك ويدل له ما رواه أحمد والطحاوي من حديث عبد الله بن أنيس قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول (أ): "التمسوها الليلة". قال: وكانت تلك الليلة ثلاث وعشرين، فقال رجل: هذه أولى ثمان تبقين (ب)، فقال: "بل أولى سبع بقين، فإنَّ هذا الشهر لا يتم" (¬1). السادس عشر: إنها ليلة اثنين وعشرين، وستأتي حكايته بعد، وروى أحمد من حديث عبد الله بن أنيس أنه سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ليلة القدر، وذلك صبيحة إحدى وعشرين، فقال: كم الليلة؟ قلت: ليلة اثنين؟ فقال (جـ): هي الليلة أو القابلة. السابع عشر: أنها ليلة ثلاث وعشرين، رواه مسلم عن عبد الله بن أنيس مرفوعًا: "رأيت ليلة القدر ثم أنسيتها" (¬2) فذلك مثل حديث أبي ¬

_ (أ) سقط من هـ: (يقول). (ب) هـ: (بقين) وكتب فوقها (كذا). (جـ) هـ: (قال).

سعيد، لكنه قال فيه "ثلاث وعشرين" بدل "إحدى وعشرين"، وعنه قال: قلث يا رسول الله إنَّ لي بادية أكون فيها فمرني بليلة. قال: "أنزل ليلة ثلاث وعشرين". ورواه ابن إسحاق في مسنده من طريق أبي حازم عن رجل من بني بياضة له صحبة مرفوعًا، وروى عبد الرزاق عن معمر عن أيوب عن نافع عن ابن عمر مرفوعًا: "من كان متحريها فليتحرها ليلة سابعه" (¬1) قال فكان أيوب يغتسل ليلة ثلاث وعشرين ويمس الطيب. وعن ابن جريج عن عبيد الله (أابن أبي يزيد عن ابن عباس أنه كان يوقظ أهله ليلة ثلاث وعشرين (¬2). وروى عبد الرزاق من طريق يونس بن سيف سمع ابن المسيب يقول: "استقام قول القوم على أنها ليلة ثلاث وعشرين" (¬3) من طريق إبراهيم عن الأسود عن عائشة، ومن طريق مكحول أنه كان يراها ليلة ثلاث وعشرين. الثامن عشر: أنها ليلة أربع وعشرين كما تقدم من حديث ابن عباس في هذا الباب، وروى الطيالسي من طريق أبي نضرة عن ابن مسعود مرفوعًا "ليلة القدر ليلة أربع وعشرين" وروي ذلك عن ابن مسعود والشَّعْبي والحسن وقتادة وحجتهم حديث واثلة "أن القرآن نزل لأربع وعشرين من رمضان" وروى أحمد من طريق ابن لَهيعَة عن يزيد بن أبي حبيب عن أبي الخير عن الصنابحي عن بلال مرفوعًا: "التمسوها ليلة القدر ليلة أربع وعشرين" وقد أخطأ ابن لهيعة في رفعه، فقد رواه عمرو (ب) بن الحارث ¬

_ (أ) جـ: (عبد الله). (ب) جـ: (عمر).

ابن يزيد بهذا الإسناد موقوفًا بغير لفظه كما سيأتي في أواخر المغازي بلفظ: "ليلة القدر أول السبع من العشر الأواخر". التاسع عشر: أنها ليلة خمس وعشرين، حكاه ابن العربي في العارضة، وعزاه ابن الجوزي في "المشكِل" لأبي بكرة. العشرون: أنها ليلة ست وعشرين، وهو قول لم أره صحيحًا إلا أنَّ عياضًا قال: ما من ليلة من ليالي العشر الأخير (أ) إلا وقد قيل أنها فيه. الحادي والعشرون: أنها ليلة سبع وعشرين، وهو الجادة من مذهب أحمد، ورواية من الفتح عن أبي حنيفة، وبه جزم أبي بن كعب، وحلف عليه، كما أخرجه مسلم (¬1)، وروى مسلم أيضًا من طريق أبي حازم عن أبي هريرة قال: تذاكرنا ليلة القدر فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "أيكم يذكر حين طلع القمر كأنه شِقُّ جَفْنة" (¬2). قال أبو الحسين الفارسي: أي ليلة سبع وعشرين، فإن القمر يطلع فيها بتلك الصفة. وروى الطبراني من حديث ابن مسعود سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ليلة القدر، فقال: "أيكم يذكر ليلة الصهباوات؟ " قلت: أنا، وذلك ليلة سبع وعشرين (¬3). ورواه ابن أبي شيبة عن عمر وحذيفة وناس من الصحابة (¬4). ¬

_ (أ) كذا في هـ، جـ، وفي حاشية الأصل.

وفي الباب عن ابن عمر عند مسلم "رأى رجل ليلة القدر ليلة سبع وعشرين" (¬1). ولأحمد من حديثه كل مرفوعًا "ليلة القدر ليلة سبع وعشرين" (¬2). ولابن المنذر"من كان متحريها فليتحرها ليلة سبع وعشرين". وعن جابر بن سمرة نحوه، أخرجه الطبراني في الأوسط، وعن معاوية نحوه (¬3)، أخرجه أبو داود، وحكاه صاحب الحلية من الشافعية عن أكثر العلماء، وقد تقدم استنباط ابن عباس عند عمر فيه وموافقته له، وزعم ابن قدامة أن ابن عباس استنبط ذلك من عدد كلمات السورة وقد وافق أن قوله {فِيهَا} (¬4) هي سابع كلمة بعد العشرين، وهذا نقله ابن حزم عن بعض المالكية وبالغ في إنكاره. ونقله ابن عطية في تفسيره وقال: إنه من ملح التفاسير وليس من سنن العلم، واستنبط بعضهم ذلك من جهة أخرى فقال: ليلة القدر تسعة أحرف، وقد أعيدت في السورة ثلاث مرات وذلك سبع وعشرون. وقال صاحب الكافي من الحنفية وكذا المحيط من قال لزوجته أنت طالق ليلة القدر طلقت ليلة سبع وعشرين لأن العامة تعتقد أنها ليلة القدر (¬5). الثالث والعشرون: أنها ليلة تسع وعشرين حكاه ابن العربي. ¬

_ (¬1) مسلم الصيام، باب فضل ليلة القدر. . . 2: 823 ح 207 - 1165. (¬2) أحمد من حديث أبي 5: 132. (¬3) تقدم من حديث المتن. وهو عند أبي داود الصلاة، باب مَنْ قال سبع وعشرين 2: 111 ح 1386. (¬4) سورة القدر الآية 4. (¬5) كذا في النسخ. وفي الفتح هنا زيادة: "القول الثاني والعشرون أنها ليلة ثمان وعشرين. وقد تقدم توجيهه قبل بقول".

الرابع والعشرون: أنها ليلة الثلاثين حكاه عياض والسروجي في شرح الهداية، ورواه محمد بن نصر والطبري عن معاوية وأحمد من طريق أبي سلمة عن أبي هريرة. الخامس والعشرون: أنها في أوقات العَشْر الأخيرة، وعليه يدل حديث عائشة وغيرها في هذا الباب، وهو أرجح الأقوال وصار إليه أبو ثور والمُزَني وابن خزيمة وجماعة من علماء المذهب. السادس والعشرون: مثله بزيادة الليلة الأخيرة، رواه الترمذي من حديث أبي بكرة وأحمد من حديث عبادة بن الصامت. السابع والعشرون: ينتقل في العشر الأخيرة كلها، قاله أبو قلابة، ونص عليه مالك والثوري وأحمد وإسحاق، وزعم الماوردي أنه متفق عليه، وكأنه (أ) أخذه من حديث ابن عباس أن الصحابة اتفقوا على أنها في العشر الأخير وحديث أبي سعيد أن جبريل - عليه السلام - قال للنبي - صلى الله عليه وسلم - لما اعتكف العشر الأوسط "إن الذي تطلب أمامك" وتقدم ذكر اعتكافه - صلى الله عليه وسلم - العشر الأخير في طلب ليلة القدر، واعتكاف أزواجه بعده، والاجتهاد فيه كما في الباب الذي بعده. واختلف القائلون فمنهم من قال هي فيه محتملة على حد سواء، نقله الرافعيُّ عن مالك، وضعفه ابن الحاجب، ومنهم من قال بعض لياليه أرجى من بعض، فقال الشافعي أرجاه ليلة إحدى وعشرين وهو القول الثامن والعشرون، وقيل أرجاه ليلة ثلاث وعشرين وهو القول التاسع والعشرون، وقيل أرجاه ليلة سبع وعشرين، وهو القول الثلاثون. الحادي والثلاثون: أنها تنتقل في جميع السبع، وقد تقدم المراد منه ¬

_ (أ) هـ: (كأنه) - بغير الواو.

في حديث ابن عمر هل المراد الليالي السبع من آخر الشهر أواخر سبعة تعد من الشهر، ويخرج من ذلك [وهو] (أ) القول الثاني والثلاثون. الثالث والثلاثون: أنها تنتقل في النصف الأخير، ذكره صاحب المحيط عن أبي يوسف ومحمد، وحكاه إمام الحرمين عن صاحب التقريب. الرابع والثلاثون: أنها ليلة ست عشرة أو سبع عشرة، رواه الحارث ابن أبي أسامة من حديث عبد الله بن الزبير. الخامس والثلاثون: أنها ليلة سبع عشرة أو تسع عشرة، أو إحدى وعشرين، رواه سعيد بن منصور من حديث أنس بإسناد ضعيف (¬1). السابع والثلاثون: أنها أول ليلة أو تاسع ليلة أو سابع عشرة [أو إحدى وعشرين أو آخر ليلة. رواه ابن مردويه في تفسيره عن أنس بإسناد ضعيف. القول الثامن والثلاثون: أنها ليلة تسع عشرة أو إحدى عشرة أو] (ب) ثلاث وعشرون، رواه أبو داود (¬2) من حديث ابن مسعود بإسناد فيه مقال، وعبد الرزاق من حديث علي (جـ) بسندٍ منقطع (¬3)، وسعيد بن ¬

_ (أ) سقط من الأصل، وجـ، مثبت في هـ. (ب) سقط من النسخ، مثبت من فتح الباري 4/ 562. (جـ) جـ: (علقمة).

منصور من حديث عائشة بسندٍ منقطع أيضًا (أ). التاسع والثلاثون: ليلة ثلاث وعشرين أو سبع وعشرين وهو مأخوذ من حديث ابن عباس في الباب حيث قال: سبع يبقين أو سبع (ب) يمضين، ولأحمد من حديث النعمان بن بشير سابعة تمضي أو سابعة تبقى، قال النعمان: فنحن نقول ليلة سبع وعشرين، وأنتم تقولون ليلة ثلاث وعشرين. الأربعون: ليلة إحدى وعشرين أو ثلاث وعشرين أو خمس وعشرين كما سيأتي في الباب الذي بعده من حديث عبادة بن الصامت، ولأبي داود من حديث بلفظ "تاسعة تبقى سابعة تبقى خامسة تبقى" (¬1) قال مالك في المدونة في قوله "تاسعة تبقى" ليلة إحدى وعشرين إلى آخره. الحادي والأربعون: أنها منحصرة في السبع الأواخر من رمضان لحديث ابن عمر في الباب الذي قبله. الثاني والأربعون: أنها ليلة اثنتين وعشرين أو ثلاث وعشرين لحديث عبد الله وابن أنيس عند أحمد (¬2). الثالث والأربعون: أنها في أشفاع العشر الوسط والعشر الأخير، قرأته بخط مغلطاي. الرابع والأربعون: أنها ليلة الثالثة من العشر الأخير، أو الخامسة منه، رواه أحمد من حديث معاذ بن جبل، والفرق بينه وبين ما تقدم أن الثالثة ¬

_ (أ) في حاشية هـ، ي: (قال في المنقول عنه: لم يذكر في الأم الثامن والثلاثون). أما هذا القول في الفتح (4/ 562) هنا نَصُّه: "القول الثامن والثلاثون أنها ليلة تسع عشرة أو إحدى عشرة أو ثلاث وعشرين". رواه أبو داود. (ب) جـ: (تسع).

تحتمل ثلاث وعشرين، وتحتمل ليلة سبعة وعشرين، وبهذا يتغاير هذا القول فيما مضى. الخامس والأربعون: أنها في سبع أو ثمان من أول النصف الثاني روى الطحاوي من طريق عطية بن عبد الله بن أنيس عن أبيه أنه سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ليلة القدر، فقال: "تحروها في النصف الأخير" ثم عاد فسأله فقال: "إلى ثلاث وعشرين" قال: فكان عبد الله يُحيي ليلة ست عشرة إلى ليلة ثلاث وعشرين ثم يقصر، وجميع هذه الأقوال التي حكيناها من الثالث متفقة على إمكان حصولها والحث على التماسها. وقال ابن العربي: الصحيح أنها لا تعلم، وهذا يصلح أن يكون قولًا آخر وأنكر هذا النووي، وقال قد تضافرت الأحاديث بإمكان العلم بها، وأخبر به جماعة من الصالحين فلا معنى لإنكار ذلك، ونقل الطحاوي عن أبي يوسف قولًا جوز منه أنه يرى أنها ليلة أربع وعشرين أو سبع وعشرين، فإن ثبت ذلك فهو قول آخر، وهذا آخر ما وقفت عليه من الأقوال، وبعضها يمكن رده إلى بعض، وإن كان ظاهرها التغاير، وأرجحها كلها أنها في وتر العشر الأخير، وأنها تنتقل كما يفهم من أحاديث هذا الباب، وأرجاها أوتار، الوتر عند الشافعية إحدى وعشرين أو ثلاث وعشرين على ما في حديثي أبي سعيد وعبد الله بن أنيس، وأرجاها عند الجمهور ليلة سبع وعشرين وقد تقدمت أدلة ذلك. انتهى ما ذكره المصنف -رحمه الله- بحروفه وقد استكملته لجمعه لهذه الفوائد التي تعسر الاطلاع عليها. قال العلماء: والحكمة في إخفاء ليلة القدر ليحصل الاجتهاد بخلاف ما لو عينت لها ليلة لاقتصر عليها، وقد تقدم مثل ذلك في ساعة الجمعة، والله أعلم.

546 - وعن عائشة - رضي الله عنها - قالت: قلت يا رسول الله أرأيت إِن علمت أي ليلة القدر ما أقول فيها؟ قال: "قولي اللهم إِنك عفو تحب العفو فاعف عني" رواه الخمسة غير أبي داود وصححه الترمذي والحاكم (¬1). الحديث فيه دلالة على أن ليلة القدر يمكن معرفتها في وقتها، وقد قيل إن المطلع عليها يرى كل شيء ساجد، أو قيل الأنوار في كل مكان ساطعة حتى في المواضع المظلمة، وقيل يسمع كلامًا أو خطابًا من الملائكة، وقيل علامتها استجابة دعاء من وقعت له، وقال الطبري: ذلك غير لازم، وأنها قد تحصل ولا يرى شيء ولا يسمع، واختلفوا هل يحصل الثواب المرتب عليها لمن اتفق له أنه قامها وإن لم يظهر له شيء أو توقف ذلك على كشفها؟ ذهب إلى الأول المهلب والطبري وابن العربي وجماعة، وإلى الثاني ذهب الأكثرون، ويدل له ما وقع عند مسلم (¬2) في حديث أبي هريرة بلفظ: "من يَقُم ليلة القدر فيوافقها. . . .". وفي حديث عبادة: "من قامها إيمانًا واحتسابًا ثم وقعت له". قال النووي: معنى يوافقها يعلم أنها ليلة القدر، ويحتمل أن يكون المراد يوافقها في نفس الأمر وإن لم يعلم ذلك. وفي حديث زر بن حبيش عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: "من يَقُم الحول يُصِب ليلة القدر" (¬3) وهو محتمل للقولين أيضًا، ورجح ¬

_ (¬1) الترمذي الدعوات، باب ما جاء في عقد التسبيح باليد 5: 534 ح 3513 (ط. عيسى الحلبي). النسائي الكبرى ح 709، 872، 873، 874، 875، 876. ابن ماجه الدعاء، باب الدعاء بالعفو والعافية 2: 1265 ح 3850، أحمد 6: 171، المستدرك 1: 530، والترغيب والترهيب للأصبهاني ح 2170. (¬2) مسلم صلاة المسافرين، باب الترغيب في قيام رمضان 1: 524 ح 176 - 760. (¬3) مسلم الصيام، باب فضل ليلة القدر 2: 828 ح 220 - 762.

المصنف -رحمه الله تعالى- أن المعنى من الموافقة هو مصادفتها في نفس الأمر وإن لم يعلم بذلك. قال: ولا أنكر حصول الثواب الجزيل لمن قام لابتغاء ليلة القدر، وإن لم يوفق له، وإنما الكلام على حصول الثواب المعين الموعود به، وفرعوا على القول بأنها تعلم أنها تكشف لواحد ولا تكشف لآخر، ولو كانا معًا في بيت واحد، ويجوز أن يختص الله بالكرامة من يشاء من عباده، ولا يلزم أيضًا أن يكون من رأى الأمر الخارق أعظم كرامة ممن لم يره، فإن العبرة بالاستقامة، وصورة الكرامة قد تكون فتنة لمن لا يكون أهلًا للكرامة، والنبي - صلى الله عليه وسلم - لم يحصر العلامة ولم ينف الكرامة، وقد كانت العلامة في السنة التي حكاها أبو سعيد بنزول المطر (¬1)، ونحق نرى كثيرًا من السنين ينقضي رمضان من دون مطر. وروي عن أبي الحسن الجزولي المغربي أنه اعتبر ليلة القدر فلم تفته في طول عمره، وأنها تكون دائمًا ليلة الأحد، فإن كان أول الشهر ليلة الأحد كانت ليلة تسع وعشرين. وقال بعض من تأخر عنه أنها تكون دائمًا ليلة الجمعة، وذكر مثل قول أبي الحسن، وكلاهما لا أصل له، والله أعلم. 547 - وعن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تُشد الرحال إِلا إِلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام ومسجدي هذا والمسجد الأقصى" متفق عليه (¬2). ¬

_ (¬1) البخاري فضل ليلة القدر، باب التماس ليلة القدر في السبع الأواخر 4: 256 ح 2016، مسلم الصيام، باب فضل ليلة القدر. . .، 2: 824 ح 213 - 1167. (¬2) البخاري كتاب فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة، باب فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة 3: 63 ح 1189. ومسلم الحج، باب لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد 2: 1014 ح 511 - 1397 عن سعيد عن أبي هريرة - رضي الله عنه -.

قوله "لا تُشد" بضم أوله، ولا للنفي، والمراد به النهي مجازًا للمبالغة في النهي كأنه قال: لا يستقيم أن يقصد بالزيارة إلا هذه البقاع لاختصاصها بما اختصت به، والرحال جمع رحل وهو للبعير كالسرج للفرس، وكنى به عن السفر لكونه لازمه في الأغلب، وفي بعض الألفاظ: "إنما يسافَر .... " (¬1) والاستثناء مفرغ بقدر عام مدلول عليه لخصوصه بقرينة الاستثناء، والمعنى لا تشد إلى مسجد إلا متقرب فيه للعبادة، والحرام يعني المحرم، كالكتاب بمعنى المكتوب، وهو صفة للمسجد وهو مجرور على البدلية، والمراد بالمسجد الحرام، ويؤيده قوله: "مسجدي هذا" حيث عينه وأراد به موضع الصلاة المعروف بنسبته إليه، وأطلق على الحرام اسم المسجد دلالة على أنه جميعه محل العبادة والتقرب، ويدل على هذا ما رواه أبو داود الطيالسي من طريق عطاء أنه قيل له هذا الفضل في المسجد وحده أو في الحرم؟ قال: بل في الحرم لأنه كله مسجد، وسيأتي استيفاء الخلاف فيه في آخر الحج في حديث "صلاة في مسجدي والمسجد الأقصى" المراد بيت المقدس، وسمي الأقصى لبعده عن المسجد الحرام في المسافة، وقيل في الزمان. وقال الزمخشري: سمي الأقصى لأنه لم يكن حينئذٍ وراءه مسجد، وقيل لبعده عن الأقذار والخبث وقيل هو أقصى بالنسبة إلى مسجد المدينة لأنه بعيد من مكة، وبيت المقدس أبعد منه ولبيت المقدس عدة أسماء تقرب من العشرين منها: إيلياء بالمد والقصر، وبحذف الياء الأولى وعن ابن عباس إدخال الألف واللام على هذا الثالث، وبيت المقدس بسكون القاف وبفتحها مع التشديد، والقُدس بغير ميم مع ضم القاف وسكون الدال وبضمها، وشلم بالمعجمة وتشديد اللام، وبالمهملة، وشلام ¬

_ (¬1) مسلم الحج، باب لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد 2: 1015 ح 513 - 1397.

بمعجمة، وسَلِم بفتح المهملة وكسر اللام الخفيفة، وأوْرِي سلم بسكون الواو وكسر الراء بعدها تحتانية ساكنة، وأوري سلم، وكورة وبيت أيل، وصهيون، ومصروث آخره مثلثة، وكورشيلا وبابوش بموحدتين ومعجمة (¬1). والحديث فيه دلالة على فضيلة هذه المساجد ومزيتها على غيرها لكونها مساجد الأنبياء، ولأن (أ) الكعبة قبلة الناس وإليها الحاج، وبيت المقدس كان قبلة الأمم السالفة، ومسجد المدينة أسس على التقوى. وظاهر الحديث أنه يحرم قصد ما عدا الثلاثة بالسفر لقصد التقرب كزيارة الصالحين أحياء وأمواتًا، والمواضع الفاضلة لقصد التبرك بها والصلاة فيها، وقد ذهب إلى هذا الشيخ أبو محمد الجويني، وأشار القاضي حسين إلى اختياره، وبه قال عياض وطائفة، ويدل عليه ما رواه أصحاب السنن من إنكار أبي نضرة الغفاري على أبي هريرة من خروجه إلى الطور، وقال: لو أدركتك قبل أن تخرج ما خرجت، واستدل بهذا الحديث، ووافقه أبو هريرة، وذهب الجمهور إلى أن ذلك مُحَرَّم، قالوا: والحديث مؤول بمعنى أنه لا ينبغي شد الرحال إلا إليها لكمال فضل ذلك بخلاف غيرها فإنه لا يساويها في الفضيلة، وحق العاقل أن يختار ما هو الأفضل، ويتأيد هذا التأويل بما رواه أحمد من طريق شهر بن حوشب قال: سمعت أبا سعيد وذكرت عنده الصلاة في الطور قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا ينبغي للمطيِّ أن تشد رحاله إلى مسجد يبتغي فيه الصلاة غير المسجد الحرام والمسجد الأقصى ومسجدي" (¬2). وشهر حسن الحديث وإن كان فيه بعض الضعف، وقد تؤول بقصدها ¬

_ (أ) جـ: (ولكون).

للاعتكاف فيها حكاه الخطابي عن بعض السلف، وهو مروي عن حذيفة بن اليمان، أن الاعتكاف يختص بالمساجد الثلاثة، وعطاء خص الاعتكاف بمسجدي مكة والمدينة، وابن المسيب بمسجد المدينة. واختلف العلماء فيمن نذر بإتيان هذه المساجد، فذهب إلى لزوم النذر مالك وأحمد والشافعي في البويطي، واختاره أبو (أ) إسحاق المروزي، واختاره الإمام يحيى، وقال أبو حنيفة: لا يجب مطلقًا، وقال الشافعي في الأم: يجب في المسجد الحرام بخلاف المسجدين الآخرين لتعلق النسك به، فله أصله في الوجوب، وهو مذهب الهادوية، واستدل به على أنه لا يلزم بالنذر إلى غيرها من المساجد شيء وهو قول الأكثر، وروي عن الليث أنه قال: يجب الوفاء بالنذر، وعن الحنابلة يلزم كفارة يمين، ولا ينعقد النذر، وعن المالكية رواية إن تعلقت به عبادة تختص به كرباط لزم، وإلا فلا، وذكر عن محمد بن مسلمة المالكي أنه يلزم في مسجد قباء لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يأتيه كل سبت (¬1). تتمة: الحديث فيه دلالة على تفاضل الثلاثة مساجد، وأن مسجد مكة أفضل من مسجد المدينة، وهذا يتأيد بحديث ابن الزبير، أخرجه أحمد وصححه ابن حبان من طريق عطاء قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا المسجد الحرام، وصلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة ألف صلاة في هذا". وفي رواية ابن حبان: "أفضل من مائة صلاة في مسجد المدينة". ¬

_ (أ) هـ: (ابن).

قال ابن عبد البر: اختلف على ابن الزبير في رفعه ووقفه، ورفعه أحفظ، وعند الطبراني والبزار من حديث أبي الدرداء وقفه: "الصلاة في المسجد الحرام بمائة ألف صلاة، والصلاة في مسجدي بألف صلاة، والصلاة في بيت المقدس بخمسمائة صلاة" قال البزار: وإسناده حسن، قال ابن عبد البر: وزعم بعض أصحابنا أن الصلاة في مسجد المدينة أفضل من الصلاة في مسجد مكة بمائة صلاة، واحتج برواية سليمان بن عتيق عن ابن الزبير عن عمر قال: "صلاة في المسجد الحرام خيرٌ من مائة صلاة فيما سواه" وتعقب بأن المحفوظ بهذا الإسناد إنما هو بلفظ: "صلاة في المسجد الحرام أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا مسجد الرسول، فإنما فضله عليه بمائة صلاة". ورواه عبد الرزاق عن ابن جريج قال أخبرني سليمان بن عتيق وعطاء عن ابن الزبير أنهما سمعاه يقول: "صلاة في المسجد الحرام خير من مائة صلاة فيه" ويشىير إلى مسجد المدينة. وللنسائي عن ابن عمر مثل هذا وفي آخره "إلا المسجد الحرام فالصلاة فيه أفضل منه بمائة صلاة". وقد استدل بهذا على أن مكة أفضل من المدينة لأن الأمكنة تشرف بفضل العبادة فيها على غيرها مما تكون العبادة فيه على وجه، وهو قول الجمهور، وحكى عن مالك وبه قال ابن وهب ومطرف بن حبيب أصحابه، لكن المشهور عن مالك وأكثر أصحابه تفضيل المدينة، واستدلوا بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "ما بين قبري ومنبري روضة من رياض الجنة" (¬1) مع ¬

_ (¬1) متفق عليه بلفظ: "ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة" أخرجه البخاري في "صحيحه" كتاب فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة، باب فضل ما بين القبر والمنبر 3: 70 ح 1195، ومسلم في صحيحه كتاب الحج، باب ما بين القبر والمنبر روضة من رياض الجنة 2: 1391 - 502. =

قوله: "موضع سوط في الجنة خير من الدنيا وما فيها"، ويرد هذا حديث عبد الله بن عدي بن الحمراء قال: "رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واقفًا على الحزورة فقال: والله إنك لخير أرض الله، وأحب أرض الله إلى الله، ولولا أني أخرجت منك لما خرجت" وهو حديث حسن أخرجه أصحاب السنن وصححه الترمذي وابن خزيمة (أ) وابن حبان وغيرهم. قال ابن عبد البر: هذا نص في محل الخلاف فلا ينبغي العدول عنه، واستثنى القاضي عياض البقعة التي فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فحكمها الاتفاق على أنها أفضل البقاع، قال بعضهم بسبب فضل البقعة التي ضمت أعضاءه الشريفة أنه روي أن المرء يدفن في البقعة التي أخذ منها ترابه عندما يخلق، رواه ابن عبد البر في أواخر تمهيده من طريق عطاء الخراساني موقوفًا، وقد روى الزبير بن بكار "أن جبريل أخذ التراب الذي منه خلق النبي - صلى الله عليه وسلم - من تراب الكعبة". ¬

_ (أ) هـ: (ابن خزيمة والترمذي).

كتاب الحج

كتاب الحج باب فضله وبيان (أ) مَنْ فرض عليه الحج في اللغة: القصد (ب) وقال الخليل: كثرة القصد إلى معظم، وفي الشرع القصد إلى بيت الله الحرام لأعمال (جـ) مخصوصة. وهو بفتح المهملة وكسرها لغتان، ونقل الطبري أن الكسر لغة أهل نجد، والفتح لغيرهم، ونقل عن حسين الجعفي أن الفتح الاسم، والكسر المصدر، وعن غيره عكسه. ووجوب الحج معلوم من الدين ضرورة، وقام الإجماع على أنه لا يتكرر، واختلفوا في كونه على الفور أو التراخي، وهو مشهور. وقيل إن ابتداء شرعيته كان قبل الهجرة، وهو قول شاذ، وقيل بعدها، والجمهور على أنه في سنة ست، ونزل فيها قوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} (¬1) ويكون المراد بقوله: {أَتِمُّوا} يعني أقيموا، وقد قرأ علقمة ومسروق وإبراهيم النخعي بلفظ: "وأقيموا" أخرجه الطبري بأسانيد صحيحة عنهم، وقيل المراد بالإتمام الإكمال بعد الشروع، وهذا يقتضي تقدم فرضيته، وفي كلام الواقدي ما يدل على أنه متقدم على سنة خمس أو فيها، وذكر ابن القيم في "الهدي" أنه فُرض سنة تسع أو عشر قال: وأما قوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} فإنها وإن نزلت سنة ست عام الحديبية فليس فيها فرضية الحج، فإنما فيها الأمر بإتمامه، ¬

_ (أ) سقط من هـ: (بيان). (ب) سقط في ي. (جـ) هـ: (للأعمال).

وإتمام العمرة بعد الشروع فيها ذلك لا يقتضي وجوب الابتداء، قال: لأن صدر سورة آل عمران نزل عام الوفود وفيه قدم وفد نجران على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصالحهم على أداء الجزية، والجزية إنما نزلَتْ عام تبوك سنة تسع، وفيها نزلت صدر آل عمران، وناظر أهل الكتاب ودعاهم إلى المباهلة، ويدل عليه أن أهل مكة وجدوا في نفوسهم بما فاتهم من التجارة من المشركين لما أنزل الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} (¬1) فأعاضهم الله من ذلك بالجزية، ونزول هذه الآيات والمناداة بها إنما كانت في سنة تسع، وبعث الصديق يؤذن بذلك في مكة في مواسم الحج، وأردفه بعلي - رضي الله عنه - وقد قال به غير واحد من السلف، انتهى كلامه. 548 - وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "العمرة إِلى العمرة كفارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إِلا الجنة" متفق عليه (¬2). قوله "العمرة إِلى العمرة" العمرة في اللغة: الزيارة، وقيل القصد، وفي الشرع: هي إحرام وطواف وسعي وحلق أو تقصير، وسميت بذلك لأنه يزار البيت الحرام، أو يقصد، أو لكونها تقع في العمر مرة، أو لكونها في مكان عامر، وفي قوله: "العمرة إلى العمرة" دلالة على أنه لا كراهة في تكرار الاعتمار بل إنه يستحب ذلك خلافًا للمالكية، فإنهم قالوا يكره في السنة أكثر من عمرة واحدة، وبعضهم قال في الشهر، واستدل له بأنه - صلى الله عليه وسلم - لم يفعلها إلا من سنة إلى سنة، وأفعاله عندهم ¬

_ (¬1) التوبة الآية 28. (¬2) البخاري كتاب العمرة، باب العمرة ووجوب العمرة وفضلها 3: 597 ح 1773، مسلم الحج، باب في فضل الحج والعمرة ويوم عرفة 983:2 ح 437 - 1349.

تحمل على الوجوب أو الندب، وقد أجيب عنه بأنه عرف من فعله - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يترك الشيء وهو يستحب فعله لدفع المشقة عن أمته، وقد ندب إلى ذلك بلفظه، وظاهر الحديث عموم الأوقات لشرعيتها في جميع الأوقات، وقد ذهب إلى هذا الجمهور منهم الشافعي في غير من هو متلبس بالحج، وذهب الهادي إلى كراهتها في أيام التشريق لأمر علي - رضي الله عنه - لمن أحرم بها في أيام التشريق برفضها قال الإمام المهدي، والأصح لمذهب الهادوية أنها تكره في يوم النحر وأيام التشريق، وزاد أبو حنيفة يوم عرفة معها لقول عائشة: "إلا يوم عرفة" وهو توقيف، ورد عليه أبو يوسف بأن يوم عرفة لا يبطل فيه شيء من أعمال الحج فلا يكره فيه. ونقل الأثرم عن أحمد إذا اعتمر فلا بد أن يحلق أو يقصر، فلا يعتمر بعد ذلك إلى عشرة أيام ليمكن حلق الرأس فيها. قال ابن قدامة (¬1): هذا يدل على كراهة الاعتمار عنده دون عشرة أيام، والظاهر ما ذهب إليه الشافعي وفي (أ) قوله: "كفارة لما بينهما" دليل على فضيلة الاعتمار، أنها مكفرة للسيئات. ما قال (ب) ابن عبد البر: والمراد تكفير الصغائر دون الكبائر، قال: وذهب بعض العلماء من عصرنا إلى تعميم ذلك، ثم بالغ في الإنكار عليه، وقد تقدم نظير ذلك في الصيام. وقوله: "الحج المبرور" اختلف في تفسيره، فقال ابن خالويه: هو المقبول، وقال غيره: الذي لا يخالطه شيء من الإثم، ورجحه النووي (¬2)، ¬

_ (أ) جـ: (في) - بغير الواو. (ب) زادت هـ: (والظاهر).

وقيل إنه الذي تظهر ثمرته على صاحبه بأن يكون حاله بعد خيرًا من حاله قبله. ولأحمد والحاكم من حديث جابر. قالوا (أ): يا رسول الله: ما بر الحج؟ قال: "إطعام الطعام وإفشاء السلام" (¬1). وفي إسناده ضعف، فلو ثبت لكان هو المتعين دون غيره. 549 - وعن عائشة - رضي الله عنها - قالت: "قلت: يا رسول اللَّه على النساء جهاد؟ قال: نعم عليهن جهاد لا قتال فيه الحج ¬

_ (أ) هـ: قال.

والعمرة" رواه أحمد وابن ماجه (¬1) واللفظ له، وإسناده صحيح، وأصله في الصحيح الذي في صحيح البخاري بلفظ أنها قالت: "يا رسول الله نرى الجهاد أفضل العمل (أ) فلا نجاهد قال: لكن أفضل الجهاد حج مبرور" (¬2). الحديث فيه دلالة على فضيلة الحج والعمرة وأنهما في حق المرأة يجبران ما فاتها من فضيلة الغزو. 550 - وعن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - قال: "أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - أعرابي، فقال: يا رسول الله أخبرني عن العمرة أواجبة هي؟ فقال: لا، وأن تعتمر خير لك" رواه أحمد والترمذي والراجح وقفه، وأخرجه ابن عدي من وجه آخر ضعيف (¬3). في إسناد الحديث الحجاج بن أرطاة، وهو ضعيف (¬4)، قال البيهقي (¬5): "المحفوظ عن جابر موقوفًا" وقال: "وروي عن جابر مرفوعًا بخلاف ¬

_ (أ) هـ، جـ: (الأعمال).

ذلك" يعني حديث ابن لهيعة عن جابر، وابن لهيعة ضعيف، والترمذي حسن الحديث في جميع الروايات عنه إلا في رواية الكروخي فقط فإن فيها "حسن صحيح"، وفي تصحيحه نظر من أجل الحجاج فإن الأكثر على تضعيفه، والاتفاق على تدليسه، وقال النووي: ينبغي ألا يغتر بكلام الترمذي في تصحيحه، فقد اتفق جمع من الحفاظ كزائدة وابن المبارك وابن مهدي ويحيى القطان، ويحيى بن معين وأحمد بن حنبل وغيرهم على تضعيفه، وقد نقل الترمذي (¬1) عن الشافعي أنه قال: "ليس في العمرة شيء ثابت بأنها تطوع"، وأفرط ابن حزم فقال: إنه مكذوب باطل (¬2). وأخرجه البيهقي (¬3) من طريق أخرى وفيها عبيد الله بن أبي الزبير، وقد تفرد به، وطريق ابن عدي فيها أبو عصمة، وأبو عصمة كذبوه (¬4). وفي الباب عن أبي صالح الحنفي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "الحج جهاد والعمرة تطوع" أخرجه الشافعي وأخرجه الدارقطني وابن حزم والبيهقي (¬5)، وإسناده ضعيف (أورواه ابن ماجه من حديث طلحة وإسناده ضعيفًا أ)، والبيهقي (¬6) من حديث ابن عباس ولا يصح من ذلك شيء. والحديث متأيد أيضًا بما أخرجه الطبراني عن أبي أمامة مرفوعًا "من ¬

_ (أ، أ) سقط في هـ، ي.

مشى إلى صلاة مكتوبة فأجره كحجة، ومن مشى إلى صلاة تطوع فأجره كعمرة" (¬1). الحديث فيه دلالة على أن العمرة غير واجبة وأنها سنة، وقد ذهب إلى هذا القاسم وزيد بن علي وأبو حنيفة وأصحابه، وهو المشهور عن المالكية، وغير المشهور عن الشافعي، إلا أن أبا حنيفة يقول: هي تطوع، وبه قال داود. 551 - وعن جابر - رضي الله عنه - مرفوعًا: "الحج والعمرة فريضتان". الحديث لم يذكر المصنف -رحمه الله تعالى- من أخرجه، وهو من رواية ابن عدي والبيهقي من حديث ابن لهيعة عن عطاء عن جابر (¬2)، وقال ابن عدي: هو غير محفوظ عن عطاء، وأخرجه الدارقطني من حديث زيد بن ثابت بزيادة: "لا يضرك بأيهما بدأت" (¬3) وفي إسناده إسماعيل بن مسلم المكي وهو ضعيف (¬4)، وهو عن ابن سيرين عن زيد وهو منقطع. وأخرجه البيهقي من طريق ابن سيرين عن زيد مرفوعًا، وإسناده أصح، وصححه الحاكم (¬5). وفي الباب حديث عائشة المتقدم في حق النساء. ¬

_ (¬1) الطبراني 8: 150، 217، 207، أحمد 5: 268. (¬2) سنن البيهقي بزيادة "واجبتان" الحج، باب من قال بوجوب العمرة. واستدلالًا بقول الله تعالى "وأتموا الحج والعمرة لله" 4: 350، ابن عدي 4: 468. (¬3) الدارقطني 2: 284، الحاكم 1: 471 وقال: "والصحيح عن زيد بن ثابت قوله" ... الذهبي. (¬4) هو إسماعيل بن مسلم المكي أبو إسحاق، كان من البصرة ثم سكن مكة. كان فقيهًا، ضعيف الحديث. انظر: تهذيب التهذيب 1: 331، تقريب التهذيب 1: 74. (¬5) سنن البيهقي 4/ 351، الحاكم 1: 471.

وأخرج الترمذي من حديث أبي رزين العقيلي: "احجج عن أبيك واعتمر" (¬1). وفي حديث عمر في سؤال جبريل عن الإيمان "وأن تحج وتعتمر" (¬2). والحديث فيه دلالة على وجوب العمرة، وقد ذهب إلى هذا ابن عمر رواه عنه البخاري تعليقًا (¬3) قال: "ليس أحد إلا وعليه حجة وعمرة". وأخرجه موصولًا عنه ابن خزيمة والدارقطني والحاكم أن ابن عمر كان يقول: "ليس من خلق الله أحد إلا وعليه حجة وعمرة واجبتان من استطاع إليه سبيلًا، فمن زاد شيئًا فهو خير وتطوع". وقال سعيد بن أبي عروبة في المناسك (¬4) عن أيوب عن نافع عن ابن عمر قال: "الحج والعمرة فريضتان". وعلق البخاري (¬5) أيضًا عن ابن عباس "إنها لقرينتها في كتاب الله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} " (¬6). ووصله الشافعي وسعيد بن منصور، والحاكم (¬7) أخرج عنه أيضًا: "الحج والعمرة فريضتان" بإسناد ضعيف، وأنث الضمير في قوله: "إنها لقرينتها" لما كان الحج فريضة فاعتبر ذلك. ¬

_ (¬1) الترمذي الحج، باب منه 3: 269 ح 930. (¬2) رواه ابن خزيمة، وأخرجه مسلم ولكن لم يسق لفظه الفتح 3: 597. (¬3) البخاري 3: 597 ووصله الدارقطني 2: 285 والحاكم 1: 471. (¬4) الفتح 3: 597. (¬5) البخاري 3: 597: 598 الشافعي. (¬6) الآية 196 من سورة البقرة. (¬7) الحاكم 1: 470، 471.

وصرح بالوجوب البخاري (¬1) فبوب على ذلك، وبالوجوب قال الشافعي وأحمد وأبو ثور وأبو عبيد والثوري والأوزاعي. وروي في "الجامع الكافي" القول بوجوب العمرة عن علي وعمر وعائشة وعلي بن الحسين وسعيد بن جبير ومجاهد وعطاء وطاوس والحسن وابن سيرين. وروي عن علي في تفسير قوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ} (¬2): إتمامهما إفرادهما مؤتنفتان من أهلك. وروي عن محمد بن منصور أن في كتاب عمرو بن حزم العمرة هي الحج الأصغر. وأجيب عن ذلك من لم يقل بالوجوب بقوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} (¬3) وبما تقدم من حديث جابر فإنه صريح في عدم الوجوب وبأن قوله: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ} لا يفهم الوجوب لأن الإتمام متفق على وجوبه بعد الإحرام بالعمرة وإن كانت تطوعًا وبقوله - صلى الله عليه وسلم - في قصة حجته: "دخلت العمرة في الحج" على أحد التأويلات فإنه قيل في معناه أنها دخلت في الحج بمعنى أن أعمال الحج مغنية عنها، وتأويل ما يدل على الوجوب بأنه للمبالغة في شرعيتها حتى كأنها واجبة بجامع تأكيد المحافظة على فعلها، والتأويل ممكن بخلاف ما تقدم من التصريح بعدم الوجوب فإن تأويل ذلك غير ممكن. 552 - وعن أنس - رضي الله عنه - قال: "قيل يا رسول الله: ما السبيل؟ قال: الزاد والراحلة" رواه الدارقطني وصححه الحاكم (¬4)، ¬

_ (¬1) البخاري 3: 597. (¬2) الآية 196 من سورة البقرة. (¬3) الآية 97 من سورة آل عمران. (¬4) الدارقطني كتاب الحج 2: 216. الحاكم المناسك 1: 442، البيهقي الحج، باب الرجل يطيق المشي 4: 330.

والراجح إرساله، وأخرجه الترمذي من حديث ابن عمر أيضًا (¬1)، وفي إسناده ضعف. الحديث أخرجه الدارقطني والحاكم والبيهقي من طريق سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن أنس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في تفسير قوله تعالى: {مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} (¬2) قال البيهقي: الصواب عن قتادة عن الحسن مرسلًا وسنده إلى الحسن صحيح، ولا أرى الموصول إلا وهمًا (¬3). وقد رواه الحاكم (¬4) من حديث حماد (أ) بن سلمة عن قتادة عن أنس أيضًا، إلا أن الراوي عن حماد هو أبو قتادة عبد الله بن واقد الحراني، وثقه أحمد، وقال أبو حاتم: هو منكر الحديث (¬5). ورواه الشافعي والترمذي وابن ماجه والدارقطني من حديث ابن عمر، وقال الترمذي: حسن، وفي إسناده إبراهيم بن يزيد الخوزيِّ قال فيه أحمد والنسائي: متروك الحديث (¬6). ¬

_ (أ) سقط من هـ، ي: (حماد).

ورواه ابن ماجه والدارقطني (¬1) من حديث [ابن] (أ) عباس، وسنده ضعيف أيضًا ورواه ابن المنذر من قول ابن عباس، ورواه الدارقطني من حديث جابر ومن حديث علي بن أبي طالب، ومن حديث ابن مسعود ومن حديث عائشة ومن حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، وطرقها كلها ضعيفة (¬2). وقال أبو بكر ابن المنذر (¬3): لا يثبت الحديث في ذلك مسندًا، والصحيح من الروايات رواية الحسن المرسلة. الحديث فيه دلالة على أن الاستطاعة التي شرطها الله سبحانه وتعالى في وجوب الحج هي الزاد والراحلة، وأن من عدمهما أو أحدهما فلا حج عليه، وقد ذهب إلى هذا أكثر (ب) الأمة، فالزاد شرط مطلقًا والراحلة لمن داره على مسافة، وذهب ابن الزبير وطاوس وعكرمة (جـ) وعطاء ومالك بن أنس إلى أن الاستطاعة الصحة لا غير، لقوله تعالى: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} (¬4) فإنه فسر الزاد بالتقوى. قال مالك: ومن عادته السؤال لزمه الحج ويسأل. وأجيب بأن ذلك غير مراد بالآية بدليل سبب نزول الآية، والحديث ¬

_ (أ) سقط في: الأصل والنسخ. (ب) هـ: (الأكثر من). (جـ) سقط في هـ، ي.

المفسر للاستطاعة فإنه يدل على حقيقة الزاد، وهو وإن كان ضعيفًا ولكنه متأيد بكثرة الطرق، وفرع على ذلك الفقهاء في القدر الذي يحصل به الاستطاعة فقالوا: هو كفاية فاضلة عن كفاية العول حتى يرجع لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "كفى بالمرء إثمًا أن يضيع من يعول" أخرجه أبو داود (¬1)، وعن الثياب والمنزل والخادم لمن يعتاده للحاجة كما يستثنى للدَّيْن، قال أبو طالب: ويكفي الكسب في الأوب لا في الذهاب خشية الانقطاع ولأداء العول لذلك، والعروض كالنقد، ولا يعتبر أن يبقى له بعد الأوب شيء، وقال أبو يوسف بل كفاية سنة، وأجيب بأنه لا دليل على ذلك. وقال الإمام يحيى والطبري وابن سريج: لا يلزم مع صنعة أو بضاعة تفيد كفايته ومن يمون لإضراره. وقال أبو حنيفة وأكثر أصحاب الشافعي أنه يلزم بيع ذلك لأنه مستطيع ويجب قَبُول الزاد من الولد إذ لا مِنَّةَ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "أنت ومالك لأبيك" (¬2) لا من غيره للمنة. وقال الناصر والشافعي والوافي يجب قبوله من غيره أيضًا، والإمام وغيره سواء في ذلك ولو من واجب، ولا يجب القرض والتأخر فإن استقرض أو نحوه ملك ولزمه ويصح الحج، ولو كان المال حرامًا ويأثم. وقال أحمد: لا يجزئ واستدل بأنه تغاير جهة الطاعة والمعصية، فلا مانع، والله أعلم. 553 - وعن ابن عباس - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لقي ركبانا بالروحاء فقال: "مَن القوم؟ قالوا: المسلمون، فقالوا: من أنت؟ ¬

_ (¬1) أبو داود كتاب الزكاة، باب في صلة الرحم 2: 321 ح 1692، وأحمد في مسنده 2: 160. (¬2) تقدم.

قال: رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرَفعتْ إِليه امرأة صبيًّا فقالت: ألهذا حج؟ قال: نعم ولكِ أجر" رواه مسلم (¬1)، الحديث لم يخرجه البخاري لأنه ليس على شرطه، ولهذا إنه ترجم الباب بحج الصبي، وأورد فيه ما لم يكن صريحًا في المقصود (¬2). والروحاء اسم محل بينه وبين المدينة ستة وثلاثون ميلًا (¬3). قال القاضي عياض (¬4): يحتمل أن يكون هذا اللقاء في الليل، ولذلك أنهم لم يعرفوا النبي - صلى الله عليه وسلم - ويحتمل أن يكون نهارًا لكنهم لم يروه - صلى الله عليه وسلم - قبل ذلك لعدم هجرتهم فأسلموا في بلدانهم ولم يهاجروا قبل ذلك. الحديث فيه دلالة على صحة حج الصبي وأنه منعقد ثابت وظاهره (أ) سواء كان الصبي ممن يميز النية أولًا حيث فعل عنه وليه ما يفعل الحاج، وقد ذهب إلى هذا الجمهور من العلماء منهم الشافعي ومالك، والحديث صريح فيه، وذهب (ب) الهادوية وأبو حنيفة إلى أنه لا تنعقد نية الصغير لا في الحج ولا في غيره من سائر العبادات، وإنما أمره بذلك تعويد وتمرس فقط فلا يلزمه شيء من محظورات الإحرام. قال الطحاوي (¬5): ولا حجة في حديث ابن عباس لأنه قال: أيما غلام حج به أهله ثم بلغ فعليه حجة أخرى ثم ساقه بإسناد صحيح. والجواب ¬

_ (أ) سقط في هـ. (ب) هـ: (... صريح وقد ذهب ...).

عنه بأن هذا إنما يدل على أنه لا يسقط به حجة الإسلام الواجبة عليه بعد بلوغه لا على أنه لا يصح منه إذا فعله تطوعًا كما هو المدعى. قال القاضي: أجمعوا على أنه لا يجزئه إذا بلغ عن فريضة الإسلام إلا فرقة شذت فقالت تجزئه لقوله: "نعم"، وظاهره استقامة كون حج الصغير حجًّا مطلقًا، والحج إذا أطلق تبادر منه إسقاط الواجب، ولكن العلماء ذهبوا إلى خلافه، ولعل مستندهم حديث ابن عباس وسيأتي. وقد ذهب طائفة من أهل البدع إلى منع الصغير من الحج، قال النووي (¬1): وهو مردود لا يلتفت إليه لفعل النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه وإجماع الأمة على خلافه، قال النووي (¬2): والولي الذي يحرم عن الصبي إذا كان غير مميز هو ولي ماله وهو أبوه وجده والوصي أو المنصوب من جهة الإمام أو الحاكم، وأما الأم فلا يصح إحرامها عنه إلا أن تكون وصية أو قيمة من جهة القاضي، وقيل إنه يصح إحرامها وإحرام العصبة وإن لم يكن لهم ولاية المال، وإن كان مميزًا أذن له الولي، فإن أحرم بغير إذن الولي، أو أحرم الولي عنه لم ينعقد علي الأصح، وصفه إحرام الولي عن غير المميز أن يقول بقلبه جعلته محرمًا، انتهى. وعلى مقتضى قواعد الهادوية كذلك أنه يأمره بالإحرام ولي ماله لأنه من باب الأمر تعويد، وهو إلى ولي ماله، وهذا في المميز، وأما غير المميز فلا، إذ لا فائدة في التعويد (أ) في حقه، ولكن يرد عليهم هذا الحديث، فإن ظاهر الرفع من المرأة إنما هو في حق الصغير الذي في المهد، والأم لها ولاية الحضانة لا ولاية المال (ب)، والرجوع إلى السنة أولى من التقييد بالعلل، وفي قوله "ولك أجر" يعني ¬

_ (أ) هـ: (التعويل). (ب) هـ: (الأمر).

أنها تستحق الثواب بسبب حملها له وتجنيبها إياه ما يجتنب المحرم، وفعله ما يفعل المحرم، والله أعلم. 554 - وعنه -كان الفضل بن العباس - رضي الله عنه - رديف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "فجاءت امرأة من خثعم، فجعل الفضل ينظر إِليها وتنظر إِليه، وجعل النبي - صلى الله عليه وسلم - يصرف وجه الفضل إِلى الشق الآخر، فقالت: يا رسول الله: إِن فريضة الله على عباده في الحج أدركت أبي شيخًا كبيرًا لا يثبت على الراحلة، أفأحج عنه؟ قال: نعم، وذلك في حجة الوداع "متفق عليه واللفظ للبخاري (¬1). الحديث رواه البخاري عن الفضل بن عباس من رواية أخيه عنه (¬2)، ومن رواية عبد الله بن العباس من دون توسط الفضل (¬3). قال البخاري: "وأصح شيء فيه رواية ابن عباس عن الفضل، ويحتمل أن يكون ابن عباس سمعه من الفضل ومن غيره ثم رواه بغير واسطة" (¬4). ولعله أشار بقوله ومن غيره إلى ما وقع عند أبن ماجه من طريق محمد بن كريب عن أبيه عن ابن عباس قال: أخبرني حصين بن عوف الخثعمي قال: "قلتُ: يا رسول الله إن أبي أدركه الحج ولا يستطيع أن يحج ... " الحديث (¬5) وإنما رجح البخاري الرواية عن الفضل لأنه كان ردف النبي ¬

_ (¬1) البخاري جزاء الصيد، باب حج المرأة عن الرجل 4/ 67 ح 1855. مسلم الحج، باب الحج عن العاجز لزمانه وهرم ونحوه 2: 973 ح 407 - 1334. (¬2) البخاري جزاء الصيد، باب الحج عن من لا يستطيع الثبوت على الراحلة 4: 66 ح 1853. (¬3) البخاري 4: 67 ح 1855. (¬4) سنن الترمذي 3: 268 ح 928 (بنحوه). (¬5) ابن ماجه المناسك، باب الحج عن الحي إذا لم يستطع 2: 970 ح 2908، وقال في "الزوائد": في إسناده محمد بن كريب قال أحمد: منكر الحديث يجيء بعجائب عن حصين بن عوف وقال البخاري: منكر الحديث، فيه نظر وضعفه غير واحد.

- صلى الله عليه وسلم - حينئذٍ، وكان ابن عباس قد تقدم من مزدلفة إلى منى مع الضعفة، وهذا بناء على أنه كانت القصة في النزول إلى منى إلى حضور جمرة العقبة، مع أنه يحتمل أن تكون القصة بعد الرمي، وأن ابن عباس شهد ذلك ويدل عليه ما وقع عند أحمد وابنه عبد الله والترمذي والطبراني (¬1) من حديث علي وابن العباس أيضًا كان شاهدًا، ولفظ أحمد عن علي قال: "وقف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعرفة، فقال: هذه عرفة، وهو الموقف" فذكر الحديث، وفيه "ثم أتى الجمرة فرماها ثم أتى المنحر فقال: هذا المنحر وكل منى منحر واستفتته، وفي رواية عبد الله "ثم جاءته جارية شابة من خثعم فقالت: إن (أ) أبي شيخ كبير قد أدركته فضيلة الله في الحج أفيجزئ أن أحج عنه؟ قال: "حجي عن أبيك"، ولوى عنق الفضل فقال العباس: يا رسول الله لويت عنق ابن عمك، قال: "رأيتُ شابًّا وشابة فلم آمن عليهما الشيطان". وظاهر هذا أن العباس كان حاضرًا لذلك فلا مانع أن يكون ابنه عبد الله أيضًا كان معه، وهذا الحديث أثبتت الرواة عن ابن شهاب عن سليمان بن يسار أن السائل كان امرأة، وأنها سألت عن أبيها، وخالفه يحيى بن أبي (ب) إسحاق عن سليمان بن يسار، فاتفق الرواة عنه على أن السائل رجل، ثم اختلفوا عليه في إسناده ومتنه (¬2). ¬

_ (أ) سقط من هـ. (ب) سقط من هـ: (أبي).

وقد أخرج ابن ماجه (¬1) من حديث كريب عن ابن عباس عن حصين الخثعمي كما تقدم، وأخرج الطبراني أيضًا من طريق عبد الله بن شداد عن الفضل أن رجلًا قال "يا رسول الله إن أبي شيخ كبير ... " الحديث. وأخرَج ابن خزيمة من مرسل الحسن قال: بلغني أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أتاه رجل فقال: "إن أبي شيخ كبير أدرك الإسلام لم يحج ... " الحديث ثم ساقه من طريق عوف عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة قال مثله إلا أنه قال: "وإن السائل سأل عن أمه" (¬2). وجمع المصنف (¬3) -رحمه الله تعالى- بين الطرق هذه وقال: يجوز أن يكون السائل رجلًا وأنه كان معه ابنته فسألته أيضًا، والمسئول عنه أبو الرجل وأمه جميعًا، وينصر ذلك ما رواه أبو يعلى بإسناد قوي من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس - رضي الله عنه - عن الفضل بن عباس قال: "كنت ردف النبي - صلى الله عليه وسلم - وأعرابي معه بنت له حسناء فجعل الأعرابي يعرضها لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجاء أن يتزوجها، وجعلت ألتفت إليها، ويأخذ النبي - صلى الله عليه وسلم - برأسي فيلويه (أ) وكان يلبي حتى رمى الجمرة. تقول الشابة: "إن أبي" أرادت جدها لأن أباها كان معها فكأنه أمرها أن تسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - ليسمع كلامها ويراها رجاء أن يتزوجها، فلما لم يرضها سأل أبوها عن أبيه. ولا مانع أن يسأل أيضًا عن أمه، ويحصل من هذه الروايات أن اسم ¬

_ (أ) هـ، ى: (ويلويه).

الرجل حصين بن عوف الخثعمي، وأما ما وقع في رواية ابن أبي الغوث "كان مع أبيه حصين" فإسناده ضعيف، ولعله زيد في الرواية لفظ ابن وكان العباس عن أبي الغوث حصين، ويحتمل أنَّ الغوث كان مع أبيه حصين فسأل كما سأل أبوه وأخته. وقد أخرج ابن خزيمة في صحيحه هذه المسألة من شخص آخر وهو أبو رَزِين بفتح الراء وكسر الزاي -العقيلي مصغرًا، واسمه لقيط بن عامر أنه قال: يا رسول الله إن أبي شيخ كبير لا يستطيع الحج ولا العمرة قال: "حج عن أبيك واعتمر" (¬1). وهذه قصة أخر [ى] (أ) ومن أراد الجمع بينها وبين مسألة الخثعمي بالاتحاد فقد أبعد. وفي إرداف النبي - صلى الله عليه وسلم - الفضل دلالة على جواز الارتداف وعلى تواضع النبي - صلى الله عليه وسلم - وشفقته على قرابته، وفي صرف وجه الفضل عن النظر إلى المرأة دلالة على أنه ينبغي منع النفس عن باعث الشهوة التي تفضي إلى ما لا يجوز، وفيه دلالة على جواز النظر إلى وجه المرأة إلا عند خشية الفتنة (¬2)، وأنه يجوز الجمع بين الرجال والنساء في المواقف العامة التي يؤمن معها المعصية وسماع صوتها للأجانب عند الضرورة: كالاستفتاء عن العلم، والترافع في الحكم والمعاملة. وقولها "إن فريضة الله على عباده" في رواية بحذف "على عباده" ¬

_ (أ) من هـ، وفي الأصل (أخر).

وفي رواية للنسائي: "إن أبي أدركه الحج" وقولها "شيخا" منتصب على الحال وكبيرًا إذ لا تثبت صفتان، أو من الأحوال المترادفة أو المتداخلة، والمعنى أنه وجب عليه الحج بأن أسلم وهو علي هذه الصفة، وقوله "لا يثبت" وقع في رواية "لا يستطيع أن يستوي" وفي رواية "لا يستمسك" على الراحلة وفي رواية يحيى بن أبي إسحاق زيادة "وإن شددته خشيت أن أقتله" (¬1) وفيها دلالة علي اجتماع الأمرين، من اجتماع الأمرين: عدم ثباته وخشية الضرر عليه من شده في صحة الاستنابة عنه، ويكون الذي لا يضره الشد مثل من يقدر على محمل موطأ كالمحفة وهو يفهم من معنى الاستطاعة إلا أنه ادعى في البحر الإجماع علي أن الصحة التي يستمسك معها قاعدًا شرط الإجماع، فإن صح الإجماع فذاك، وإلا فالعمل علي ما قلنا. وقولها "أفأحج عنه؟ " أي أفيجوز لي أن أنوب عنه فأحج عنه، فالمعطوف عليه مقدر، وفي رواية "فهل نقضي عنه؟ " وفي حديث علي "هل يجزئ عنه؟ " قوله "قال نعم" الحديث فيه دلالة علي أنه يجزئ الحج عن الغير وأنه يصح الحج عن الحي إذا كان مأيوسًا منه القدرة علي الحج بنفسه مثل الشيخوخة فإنه مأيوس زوالها، وأما إذا كان عدم القدرة لأجل مرض أو جنون يرجى زوالهما فلا يصح، فعلى هذا المعضوب الأصلي والشيخ الكبير، ومن أصابه علة أيس من برئها لهم الاستنابة في الحج، فإن حج من ظن اليأس ثم زالت العلة، فالمؤيد وأبو طالب والجمهور من العلماء قالوا: يجب الإعادة لانكشاف كذب ظنه، وذهب أحمد وإسحاق والمرتضى إلى أنها لا تجب الإعادة اعتبارًا بالابتداء، ولئلا يلزمه حجتان، والجواب أن المعتبر الانتهاء وأن الحجة الأولى انكشف عدم لزومها، وقد استدل به بأنه إذا ¬

_ (¬1) الفتح 4: 69.

تبرع الغير بمال الحج للغير لزمه حج، فإن المرأة لم يتبين من حالها أن أباها مستطيع بالزاد والراحلة ولم يستفصلها النبي - صلى الله عليه وسلم -. ويجاب عنه بأنه لم يذكر في الحديث سوى الآخر إلا الوجوب فلم يتعرض له ولعلها قد كانت فهمت أن الحج قد وجب على أبيها بتمكنه من الزاد والراحلة بدليل أنها قالت: "إن فريضة الحج" وما ذاك إلا لعلمها بدليل الوجوب، وقد شرط فيه الاستطاعة، والفقهاء اختلفوا في المسألة إذا بذل الغير الزاد المُبْلِغ هل يجب قبوله أولًا؟ أو من الولد فقط؟ على تفصيل معروف في كتب الفقه. وقال من أوجب قبوله من الولد: إنه لا يجب القبول من الولد أن يحج بنفسه قالوا: لأنه لا حق في بدن الولد بخلاف ما له فله فيه حق. وفي الحديث رد على من قال من الحنفية إن التحجيج عن الغير لا يسقط عنه الوجوب وإنما يستحق ثواب النفقة فقط، واتفق من أجاز الحج عن الغير في الفرض أنه لا يجزئ إلا عن موت أو عضب، وأما النفل فذهب أحمد وأبو حنيفة إلى أنه يجوز النيابة فيه عن الغير مطلقًا للتوسع في النفل، وادعى بعضهم أن هذه القصة مختصة بالخثعمية كما اختص سالم مولى أبي حذيفة بالرضاع حكاه ابن عبد البر، واحتج لذلك (¬1) بما رواه عبد الملك بن حبيب صاحب الواضحة بإسنادين مرسلين فزاد في الحديث "حج عنه وليس (أ) لأحد بعده" والإسنادان ضعيفان وهو معارض بأنه قد ثبت في حديث أبي رزين، وفي قصة الجهنية أيضًا، أخرجه البخاري (¬2). ¬

_ (أ) هـ: (فليس).

والتعليل فيه بقوله: "اقضوا الله فالله أحق بالوفاء" وإن كان ذلك عن ميت إذ لا فرق، وبعضهم قال: الحكم خاص بالولد، ويجاب عنه بأن القياس دليل شرعي والمعنى معقول (أ) ولا سيما بعد التنبيه على العلة وكونه دَيْنًا أحق بالقضاء، وبما سيأتي من الحج عن شبرمة. وقال بعض المالكية إن الحج عن الغير لا يكون إلا بالوصية. وقال القرطبي: وحديث الخثعمية وإن كان صحيحًا فهو مخالف لظاهر قوله تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إلا مَا سَعَى} (¬1) إلا أنه إنما أجابها عن قولها "أفأحج عنه" قال: "حجي عنه" لما رأى من حرصها على إيصال الخير والثواب لأبيها، انتهى. وهو أيضًا متأيد بما رواه عبد الرزاق من حديث ابن عباس فزاد في الحديث "حج عن أبيك فإن لم يزده خيرًا لم يزده شرًّا". وقد جزم الحفاظ بأنها زيادة شاذة (ب) (¬2)، وعلى تقدير صحتها لا حجة في ذلك، وظاهر الحديث الإطلاق، وهو أنه يجزئ الحج عن المعضوب سواء كان قد استطاع قبل إصابة المانع أو بعده خلافًا للحنفية والجمهور. ومن فوائد الحديث أن إحرام المرأة في وجهها فيجوز لها كشفه في الإحرام، وأنه يَحْسُنُ السؤال عن العلم ولو من المرأة عن الرجل، وأن المرأة تحج بغير محرم، وأن المحرم ليس من السبيل المشترط في الحج ولكنه قد تقدم أنها كانت مع أبيها، وفيه بر الوالدين والاعتناء بأمرهما، والقيام بمصالحهما من قضاء دين وخدمة ونفقة وغير ذلك من أمور الدين والدنيا، ¬

_ (أ) هـ: (مقبول). (ب) هـ: (بإسناده).

وفيه أن العُمرة غير واجبة، ولا دلالة فيه لأن ترك الذكر لا يدل على عدم الحكم. 555 - وعنه "أن امرأة من جهينة جاءت إِلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت: إِن أمي نذرت أن تحج ولم تحج حتى ماتت أفأحج عنها؟ قال نعم حجي عنها، أرأيتِ لو كان على أمك دين أكنت قاضيته؟ اقضوا الله، فالله أحق بالوفاء" رواه البخاري (¬1). قوله "إِن امرأة" قال المصنف -رحمة الله عليه-: "لم أقف على اسمها ولا على اسم أبيها، ولكنه روى ابن وهب عن عثمان بن عطاء الخراساني أن عائشة (¬2) أتت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت إن أمي ماتت وعليها نذر أن تمشي إلى الكعبة فقال "اقضي عنها" أخرجه مسدد، وهي بالغين المعجمة (¬3) والشين المعجمة (3)، وتردد هل بتقديم الياء المثناة من تحت على الشين (¬4) أو بتأخيرها، وفي رواية النسائي وابن خزيمة وأحمد من طريق موسى بن سلمة الهذلي عن ابن عباس قال: "أمرت امرأة سنان الجهني أن يسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن أمها توفيت ولم تحج "الحديث" (¬5) (¬6). وهو محتمل أن المرأة المذكورة هي هذه وأن السائل هو زوجها بأمرها ¬

_ (¬1) البخاري كتاب جزاء الصيد، باب الحج والنذور عن الميت والرجل يحج عن المراة 4: 64 ح 1852. (¬2) في الفتح: (أن غايثة أو غاثية ...). (¬3) ليس في الفتح. (¬4) في الفتح على المثلثة. (¬5) النسائي الحج، باب الحج عن الميت الذي لم يحج 5: 116، أحمد 1/ 279، ابن خزيمة الحج، باب الحج عن الميت 4: 343 ح 3034. (¬6) الفتح 65:4 (بنحوه).

ونسب السؤال إليها مجازًا لما كان سؤالها أو أنها سألت بنفسها وقد حضرت مع زوجها، ولعلهما توليا السؤال جميعًا، فالنسبة إليهما حقيقة مع أنه قد وقع عند ابن ماجه عن ابن عباس عن سنان بن عبد الله الجهني أن عمته حدثته "أنها أتت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت: إن أمي توفيت وعليها مشى إلى الكعبة نذرًا" الحديث. ولكنه على فرض صحته يحمل على تعدد الواقعة، وقد وقع في البخاري في باب المنذر بلفظ: "أتى رجل النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال له: إن أختي نذرت أن تحج وإنها ماتت" وهو محمول علي تعدد القصة. وقد وقع في صحيح مسلم عن بريدة "أن امرأة قالت: يا رسول الله إني تصدقت على أمي بجارية، وإنها ماتت، قال: وجب أجرك ورد عليك الميراث، قالت: إنه كان عليها صوم شهر أفأصوم عنها؟ قال: صومي عنها، قالت: إنها لم تحج أفأحج عنها؟ قال: حجي عنها" (¬1). وبهذا يدفع اعتراض بعضهم بأن الحديث مضطرب ورد في الصيام، وورد في الحج. وفي الحديث دلالة على أن الناذر بالحج إذا لم يكن قد حج أجزأته عن حجة الإسلام إذ لم يسألها النبي - صلى الله عليه وسلم - هل قد كانت حجت أم لا؟ وقوله: "أرأيت .. " إلخ فيه دلالة علي مشروعية القياس، وضرب المثل ليكون أوقع في نفس السامع، وتشبيه ما اختلف بما اتفق عليه وأنه يستحب للمفتي التنبيه على وجه الدليل، إذا ترتب على ذلك مصلحة، وهو أطيب لنفس المستفتي وأدعى لإذعانه، وفيه أن قضاء دَيْن الميت كان معلومًا عندهم مقررًا، ولهذا حسن الإلحاق به. وقوله "أكنت قاضيته" بالضمير العائد إلى الدَّيْن، وهو في رواية الأكثر للبخاري، وفي رواية ¬

_ (¬1) مسلم الصيام، باب قضاء الصيام عن الميت 2: 805 ح 157 - 1149.

الكشميهني "قاضيه" بوزن فاعله بحذف الفعول. والحديث فيه دلالة على صحة الحج عن الميت، وأنه يجب التحجيج عنه سواء أوصى أو لم يوص، لأن الدين يجب قضاؤه مطلقًا، وكذلك سائر الحقوق المالية من كفارة أو فدية أو زكاة أو غير ذلك، وقد ذهب إلى هذا ابن عباس وزيد بن ثابت وأبو هريرة والشافعي، ويجب إخراج الأجرة من رأس المال علي هذا القول، وظاهر هذا الحديث أنه مقدم على دين الآدمي، وهو أحد أقوال الشافعي، وذهب العترة وأبو حنيفة وأصحابه ومالك إلى أنه لا يجب إلا بالوصية لقوله تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إلا مَا سَعَى} (¬1) والجواب عن الآية الكريمة بتخصيصها بالحديث، أو أن المراد بالإنسان فيها الكافر وأنها مخصوصة بقوم موسى وإبراهيم عليهما السلام، وقيل ليس له من طريق العدل وله من طريق الفضل، وقيل اللام بمعنى على كقوله: {وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ} (¬2) قالوا: ولا يجزئ عنه إن (أ) لم يوص. وقال المنصور بالله: إنه يجزئ من الولد بخصوصه لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "ألا وإنَّ وَلَد المَرْء مِن سعيه" (¬3). وقال محمد بن الحسن الشيباني: إنه لا يسقط وجوب الحج عن الميت وإن أوصى، وإنما يلحقه ثواب النفقة والحج للأجير، وهو خلاف الدليل، والله أعلم. ¬

_ (أ) هـ: (وإنْ).

556 - وعنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أيما صبي حج ثم بلغ الحنث فعليه أن يحج حجة أخرى، وأيما عبد حج ثم أعتق فعليه حجة أخرى "رواه ابن أبي شيبة والبيهقي ورجاله ثقات (¬1)، إلا أنه اختلف في رفعه، والمحفوظ أنه موقوف. الحديث أخرجه ابن أبي شيبة عن ابن عباس بلفظ: قال: احفظوا عني ولا تقولوا: قال ابن عباس فذكره. وهذا ظاهره الرفع لأنه نهاهم عن نسبته إليه. وأخرجه ابن خزيمة والإسماعيلي في مسند الأعمش، والحاكم وقال: على شرطهما، والبيهقي، وابن حزم وصححه، والخطيب في التاريخ من حديث أبي ظبيان عنه. قال ابن حزم: والصحيح موقوف (أ). وأخرجه ابن عدي عن شعبة، قال البيهقي (¬2): مرقوعًا تفرد برفعه محمد بن المنهال، فإنه قد رواه الحارث بن شريح عن يزيد بن زريع ومحمد بن المنهال كذلك، وأيضًا فإن رواية ابن أبي شيبة هي عن أبي معاوية عن الأعمش، فقد اتفق أبو معاوية ويزيد بن زريع عن شعبة. وأخرج الحديث أبو داود في مراسيله عن محمد بن كعب القرظي وفيه راوٍ مبهم (¬3)، وفي رواية البيهقي زيادة: "فإذا حج الأعرابي فله حجة، ¬

_ (أ) هـ: (موقوفًا).

وإذا هاجر فعليه حجة أخرى" (¬1). والمراد بالأعرابي الكافر، وكان الكفر هو الغالب على الأعراب، نبه على هذا ابن الصلاح. والحديث فيه دلالة علي أن حج الصغير لا يسقط عنه الواجب بعد بلوغه وهو قول الأكثر، وقد تقدم حكاية الخلاف فيه، وكذا العبد بعد عتقه فإنه يجب عليه إعادة الحج، ويصح منه في حال الرق وإن لم يأذن له سيده وقال داود: لا ينعقد من غير إذن. 557 - وعنه قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخطب يقول: "لا يخلون رجل بامرأة إِلا ومعها ذو محرم ولا تسافر المرأة إِلا مع ذي محرم فقام رجل فقال يا رسول الله: إن امرأتي خرجت حاجة وإِني اكتتبت في غزوة كذا وكذا قال: انطلق فحج مع امرأتك" متفق عليه واللفظ لمسلم (¬2). قوله "لا يخلون ... " إلخ فيه دلالة على تحريم الخلوة بالأجنبية وهو إجماع لكن اختلفوا هل يقوم غير المحرم مقامه في هذا بأن يكون معهما من يزيل معنى الخلوة، والظاهر أنه يقوم لأن المعنى المناسب للنهي إنما هو خشية أن يوقع بينهما الشيطان الفتنة، وقال القفال: لا بد من المَحْرم. وقوله "ولا تسافر" إلخ ظاهر الحديث منع المرأة من السفر المطلق، وظاهره ما سمي سفرًا، وقد ورد تقييده في حديث أبي سعيد فقال مسيرة ¬

_ (¬1) البيهقي 4: 325. (¬2) البخاري جزاء الصيد، باب حج النساء 4: 72 ح 1862، مسلم الحج، باب سفر المرأة مع محرم إلى حج وغيره 2: 978 ح 424 - 1341 (واللفظ له).

يومين (¬1)، وفي حديث أبي هريرة مقيدًا بمسيرة يوم وليلة (¬2) فالتقييد متعارض، وقد عمل العلماء بالمطلق لتعارض التقييدان (¬3)، وكان القياس الاقتصار على أقلها لأنه منطوق ونفيه من الأكثر بالمفهوم. وقال النووي: ليس المراد من التحديد ظاهره بل كل ما سمي سفرًا فالمرأة منهية عنه إلا بالمحرم، وإنما وقع التحديد عن أمر واقع فلا يعمل بمفهومه (¬4) انتهى. وقد وردت أحاديث فمنها عن أبي هريرة "لا تسافر امرأة بريدًا إلا ومعها محرم عليها" أخرجه أبو داود والحاكم والبيهقي (¬5). وعنها "لا تسافر المرأة ثلاثة أيام إلا مع ذي محرم" أخرجه أحمد والبخاري ومسلم (¬6)، وأحمد وأبو داود عن ابن عمر (¬7)، ومسلم والطيالسي عن أبي سعيد (¬8). وعن أبي أمامة: "لا تسافر المرأة إلا ومعها محرم ولا يدخل عليها إلا ومعها زوجها" أخرجه الدارقطني (¬9). ¬

_ (¬1) البخاري جزاء الصيد، باب حج النساء 4: 73 ح 1864، مسلم الحج، باب سفر المرأة مع محرم إلى حج وغيره 2: 975: 976 ح 415 - 827. (¬2) البخاري تقصير الصلاة، باب في كم يقصر الصلاة ... 2: 566 ح 1088. مسلم الحج، باب سفر المرأة مع محرم إلى حج أو غيره 2: 977 ح 419، 1339. (¬3) كذا بالأصل، هـ، ي، وفي جـ: (التقييدات) بالتاء في آخره. (¬4) شرح مسلم 3: 484 (بنحوه). (¬5) أبو داود المناسك، باب في المرأة تحج بغير محرم 2: 347 ح 1725. الحاكم 1: 442، البيهقي 3: 139. (¬6) مسلم الحج، باب سفر المرأة مع محرم إلى حج وغيره 2: 977 ح 422 - 1339. (¬7) أبو داود المناسك، باب في المرأة تحج بغير محرم 2: 348 ح 1727، أحمد 2: 13. (¬8) مسلم الحج، باب سفر المرأة مع محرم إلى حج وغيره 2: 976 ح 418 - 827 م. (¬9) الدارقطني 2: 223 (32).

(أ) وعن جابر "لا تسافر المرأة إلا ومعها محرم ولا يدخل عليها إلا وعندها محرم، فإذا دخل أحدكم فليعلم أن الله يراه" أخرجه البيهقي في شعب الإيمان. وعن أبي هريرة "لا تسافر المرأة مسيرة ليلة إلا مع ذي محرم" أخرجه الحاكم (¬1). وعن عدي بن حاتم: "لا تسافر المرأة فوق ثلاث إلا مع ذي محرم" أخرجه الطبراني (¬2)، وعن أبي سعيد: "لا تسافر المرأة مسيرة يومين إلا ومعها زوجها أو ذو محرم لها". وأخرج الطبراني عن ابن عباس: "لا تسافر المرأة ثلاثة أميال إلا مع زوج، أو مع (ب) ذي محرم" أخرجه الطبراني (¬3). والحديث عام للسفر جميعه سواء كان واجبًا عليها أو جائزًا، والعلماء فصلوا في ذلك فقالوا: إنه يجوز للمرأة السفر وحديث في الهجرة من دار الحرب وللمخافة علي نفسها ولقضاء الدَّيْن ورد الوديعة والرجوع من النشور، وهذا مجمع عليه، وكذا سفر النزهة والتجارة لا يجوز السفر إلا مع المحرم إجماعًا (¬4). واختلفوا في سفر الحج الواجب فذهب الأكثر إلى أنه لا يجوز للشابة (جـ) ¬

_ (أ) في حاشية هـ: (سفر ثلاثة أيام أو تحج إلا ومعها زوجها. أخرجه الدارقطني، وعن جابر ...). (ب) سقط من هـ: (مع). (جـ) هـ: (لتشأبة).

السفر إلا مع محرم، ونقل الكرابيسي قولًا للشافعي، وصححه في المهذب (¬1) أنها تسافر وحدها إذا كان الطريق آمنًا، واحتج بحديث عدي بن حاتم مرفوعًا: "يوشك أن تخرج الظعينة من الحيرة تؤم البيت ... " الحديث وهو في البخاري، وتعقب بأنه يدل علي وجود ذلك لا علي جوازه، وأجيب بأنه خبر في سياق المدح ورفع منار الإسلام فيدل علي الجواز (أ)، وقول النووي إن إخبار النبي - صلى الله عليه وسلم - بالأمر الذي سيقع لا يدل على جوازه صحيح، إلا أن القرينة قد تدل على تعيين الجواز أو غيره فيحمل عليه. قال ابن دقيق العيد: قوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} الآية (¬2) عموم شامل للرجال والنساء، وقوله - صلى الله عليه وسلم - "لا تسافر المرأة" عموم في جميع أنواع السفر، فتعارض العمومان فيرجح بينهما وقد ترجح عموم الآية بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تمنعوا إماء الله مساجد الله" (¬3). ويجاب بأن هذا عام في جميع المساجد فيقصر على ما لا يحتاج إلى سفر (ب)، ولكنه قد يجاب عنه بالأحاديث الواردة في خصوص نهيها عن الحج إلا مع ذي محرم فإنه مخصص لعموم الآية، ولعل ابن دقيق العيد غفل عن ذلك، والله أعلم. وذهب القاسم -وهو قول للشافعي، نقله أبو الوليد الباجي- أن ¬

_ (أ) هـ: (وجوب جواز). (ب) هـ: (سفره).

العجوز يجوز لها السفر من دون محرم، وكأنه نظر إلى المعنى فخصص به العموم، وقال أبو حنيفة -وهو قول للشافعي-: إن حكمها حكم الشابة، قال: إذ لكل ساقط لاقط (¬1). وذهب المنصور بالله إلى أن المرأة ذات الحشم يجوز لها السفر وذهب الشافعي إلى أن النساء الثقات للمرأة يكن كالمحرم، وصرح به أبو الطيب الطبري قال: إذا أرادت أن تؤدي الحج فلا يجوز لها إلا مع محرم أو زوج أو نسوة ثقات، ويدل علي ذلك حج أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - لما أذن لهن عمر في آخر حجة حجها فبعث معهن عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف (¬2)، وكان عبد الرحمن بن عوف ينادي: "ألا لا يدنو أحد منهن ولا ينظر إليهن"، وهن في الهوادج على الإبل فإذا نزلن أنزلهن بصدر الشعب فلم يصعد إليهن أحد، ونزل عبد الرحمن بذنب الشعب (¬3). وفي رواية لابن سعد: "فكان عثمان يسير أمامهن، وعبد الرحمن بن عوف خلفهن". وفي رواية له وعلى هوادجهن علي الإبل الطيالسة الخُضْر. وفي إسناده الواقدي. وحججن بعد ذلك في ولاية معاوية، والمغيرة أمير المدينة سنة خمسين أو قبلها (¬4)، وكذا في خلافة عثمان استأذنته عائشة، فقال: أنا أحج بكن، ¬

_ (¬1) قال الإمام النووي في شرح مسلم: ويجتمع في الأسفار من سفهاء الناس وسقطهم من لا يرتفع عن الفاحشة بالعجوز وغيرها لغلبة شهوته وقلة دينه ومروءته وخيانته ونحو ذلك. 3: 485. (¬2) البخاري جزاء الصيد، باب حج النساء 4: 72 ح 1860. (¬3) الفتح 4: 73. (¬4) قال ابن حجر: "والظاهر أنه أراد بذلك زمن ولاية المغيرة علي الكوفة لمعاوية وكان ذلك سنة خمسين أو قبلها". (فتح الباري 4: 73).

قالت: فحج بنا جميعًا إلا زينب كانت ماتت، وإلا سودة فإنها لم تخرج من بيتها بعد النبي - صلى الله عليه وسلم -، وتأولن قوله - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع: "هذه ثم ظهور الحصر" (¬1) بأنه لا واجب عليهن غيرها إلا المنع من الحج مطلقًا، وحمل ذلك على ظاهره زينب وسودة وأن المراد أن لا يخرجن من بيوتهن ويلزمن الحُصْر، وهو جمع حصير: الذي يبسط في البيوت بضم الحاء والصاد وسكن تخفيفًا، ويدل على التأويل إجماع الصحابة على جواز حجهن ولم ينكر أحد ذلك مع أن عمر قد كان سبق منه المنع ثم أذن لهن في آخر حجة حجها، ولعله كان قد ذهب إلى المنع ثم رجح عنده التأويل. قوله: "فقال رجل" قال المصنف -رحمة الله عليه (¬2) -: لم أقف على اسم الرجل ولا على اسم امرأته ولا على تعيين الغزوة المذكورة، والظاهر أن ذلك كان في حجة الوداع، وقد يؤخذ منه أن الحج على التراخي لأنه اكتتب هو مع الرفقة وعزم على ترك الحج. ويجاب أنه يجوز أن يكون قد أسقط فرضه في السنة الأولى التي حج فيها أبو بكر الصديق أو أنه قد كان تعين عليه الجهاد بتعيين النبي - صلى الله عليه وسلم - أو الأمير، وهو تقدم الجهاد على الحج لذلك (أ). وقوله: "فحج مع امرأتك" قد يتمسك به من يقول: إنه يجب على الزوج الخروج مع زوجته إلى الحج إذا لم يكن لها غيره وهو قول أحمد ووجه للشافعية (ب)، وقول الأكثر بخلافه ولعلهم يحملون الأمر على الندب والقرينة على ذلك ¬

_ (أ) هـ: (كذلك). (ب) هـ: (للشافعي).

ما تقرر من قواعد الدين أنه لا يجب على أحد بذل منافع نفسه ليحصل غيره ما وجب عليه، ويستدل بهذا الحديث على أنه ليس للزوج منع امرأته من الحج، وقد أخرج الدارقطني (¬1) عن ابن عمر مرفوعًا (أ) في امرأة لها زوج ولها مال ولا يأذن لها في الحج ليس لها أن تنطلق إلا بإذن زوجها. وأجيب عنه بأنه محمول على حج المتطوع عملًا بالحديثين، ونقل ابن المنذر -رحمه الله- الإجماع على أن للرجل منع زوجته من الخروج (ب) في الأسفار كلها، وإنما اختلفوا فيما كان واجبًا. واختلف العلماء في وجود المحرم للمرأة هل هو شرط في وجوب الحج عليها حتى لا يوصف بالوجوب ولا يجب عليها الوصية به إذا لم تجده أو هو شرط في تضيق التأدية عليها لا الوجوب فينعكس الحكم المذكور؟ فذهب أبو طالب وأحد قولي المؤيد إلى الأول قالوا: لأنها ممنوعة، فلو كان واجبًا لاجتمع في ذلك الحرمة والوجوب، فكون الشيء الواحد محلًا لهما غير جائز. والجواب أن الجهة مختلفة فمتعلق الوجوب غير متعلق الحرمة، وهي ممنوعة من الحج شرعًا لعدم المحرم مثل منع المحدث من الصلاة والجواب الفرق بأن الحدث يمكن إزالته بخلاف المحرم، فإن ذلك واقف على وجوده واختياره وليس ذلك ممكنًا، وذهب الهادي والمؤيد إلى الثاني لتناول الأدلة للمرأة مطلقًا عن ذلك. وفي قوله: "انطلق فحج مع امرأتك" دلالة على أنه ينبغي تقديم ¬

_ (أ) هـ: (موقوفًا). (ب) سقط من هـ: (من الخروج).

الأهم فالأهم فإنه لما عرض له الغزو والجهاد ورجح له الحج لأن امرأته لا يقوم غيره مقامه في السفر معها بخلاف الغزو، والله أعلم. 558 - وعنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سمع رجلًا يقول: "لبيك عن شبرمة، قال: من شبرمة؟ قال: أخ وقريب لي، قال: حججت عن نفسك؟ قال: لا، قال: حج عن نفسك ثم حج عن شبرمة" رواه أبو داود وابن ماجه وصححه ابن حبان، والراجح عند أحمد وقفه. الحديث في رواية الدارقطني وابن حبان والبيهقي بلفظ: "هذه عنك ثم حج عن شبرمة" (¬1) قال البيهقي: إسناده صحيح وليس في هذا الباب أصح منه. وروي موقوفًا على ابن عباس ورواه غندر عن سعيد بن جبير، والذي رفعه عبده من حديث سعيد، وهو ثقة (أ) محتج به في الصحيحين، وقد تابعه على رفعه محمد بن بشر، ومحمد بن عبيد الله الأنصاري، وقال ابن معين: أثبت الناس في سعيد عبده، وكذا رجح عبد الحق وابن القطان رفعه، وقال الطحاوي الصحيح أنه موقوف. وقال أحمد بن حنبل: رفعه خطأ، ليقال ابن المنذر، لا يثبت رفعه. ورواه سعيد بن منصور عن سفيان بن عيينة عن ابن جريج عن عطاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وخالفه ابن أبي ليلى، فرواه عن عطاء عن عائشة، وخالفه الحسن بن ذكوان، فرواه عن عمرو بن دينار عن عطاء عن ابن عباس، وقال الدارقطني: المرسل أصح. ¬

_ (أ) زادت هـ: (صحيح).

قال المصنف (¬1) -رحمه الله تعالى-: هو كما قال لكن يقوى المرفوع لأنه عن غير رجاله، وقد رواه الإسماعيلي في معجمه من طريق أخرى عن أبي الزبير عن جابر، وفي إسنادها من يحتاج إلى النظر في حاله، ويلخص من هذا صحة الحديث، وتوقف بعضهم عن تصحيحه من حيث إنه رواه قتادة عن عَزْرَة عن سعيد بن جبير، ولم يصرح بسماعه من عَزْرة، وهو مدلس (¬2)، وعَزْرة هذا هو ابن عبد الرحمن كوفي، ويقال ابن يحيى، وثقه يحيى بن معين وعلي بن المديني وغيرهما، وروى له مسلم (¬3). وقال الشافعي: حدثنا سفيان عن أيوب عن أبي قلابة قال سمع ابن عباس رجلًا يلبي عن شبرمة ... الحديث. قال ابن المغلس: أبو قلابة لم يسمع من ابن عباس (¬4). واستبعد صاحب الإمام تعدد القصة مع أن السياق واحد، وزعم ابن باطيش أن اسم الملبي نبيشة، وهو وهم، فإن اسم الملبي عنه فيما زعم الحسن بن عمارة، وخالفه الناس فيه فقالوا: إنه شبرمة، وقد قيل: إن الحسن بن عمارة رجع عن ذلك، وقد بينه الدارقطني (¬5) في السنن. الحديث فيه دلالة علي أنه لا يصح أن يحج عن غيره من لم يحج عن نفسه إذ أمره له - صلى الله عليه وسلم - أن يجعلها عن نفسه بعد أن قد كان لبى عن ¬

_ (¬1) التلخيص 2: 238. (¬2) هو قتادة بن دعامة السدوسي البصري، صاحب أنس بن مالك - رضي الله عنه -، كان حافظ عصره، وهو مشهور بالتدليس وصفه به النسائي وغيره، وأورده بن حجر في الطبقة الثالثة من المدلسين في كتابه "طبقات المدلسين" ص 67. (¬3) هو عَزْرَة بن عبد الرحمن بن زرارة الخزاعي الكوفي الأعور شيخ لقتادة بن دعامة. وثقه ابن حجر وغيره (تقريب التهذيب 2: 20 - 173). (¬4) انظر: تهذيب الكمال للمزي 2: 684 (المخطوط). (¬5) سنن الدارقطني 2: 269.

شبرمة دليل على أن النية لا تنعقد لأنه لو كان ينعقد لوجب عليه المضي فيه، وظاهر الحديث أنه لا يصح مطلقًا سواء كان يجب عليه الحج للاستطاعة أولًا وإن كان قد يقال: إنه قد صار بعد وصوله في حكم المستطيع، وقد ذهب إلى هذا الناصر والشافعي إلا أن الشافعي يقول: إذا حج عن غيره انقلب الحج عن نفسه كذا ذكره ابن رشد، وذهب الهادي والقاسم إلى أنه إن كان واجبًا عليه الحج لم يصح منه الإحرام عن غيره وإن كان غير واجب صح منه لحديث ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سمع رجلًا يلبي بالحج عن نبيشة، بنون مضمومة ثم باء موحدة مفتوحة ثم مثناة من تحت ساكنة ثم شين معجمة ثم هاء تأنيث فقال: "أيها الملبي عن نبيشة أحججت عن نفسك؟ قال: لا، قال: فهذه عن نبيشة وحج عن نفسك" (¬1) رواه في الشفا. ففي هذا دلالة على أنه يصح أن يحج عن غيره قبل أن يحج عن نفسه، (أولكن الاحتجاج بهذا لا يتم على التفصيل إذ ظاهره الصحة مطلقًا فإن أمره له أن يحج عن نفسه بعده دلالة على أنه فهم منه وجوبه عليه، وهذا مذهب أبي حنيفة وأصحابه، ولكنه يجاب على هذا بأن حديث شبرمة أصح فقد عرفت طرقه. وهذا الحديث رواه الدارقطني موافقًا لحديث شبرمة أ) كما عرفت فهو مضطرب مع أنه غير مشهور فالرجوع إلى حديث شبرمة أولى. 559 - وعنه قال: خطبنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "إِن الله كتب عليكم الحج، فقام الأقرع بن حابس فقال: أفي كل عام يا رسول الله؟ قال: لو قلتها لوجبت، الحج مرة فما زاد فهو تطوع" رواه الخمسة غير ¬

_ (أ - أ) سقط في هـ.

الترمذي (¬1)، وأصله في مسلم من حديث أبي هريرة (¬2). رواه أحمد بهذا اللفظ وزيادة بعد قوله: "لوجبت ولو وجبت لم تعموا بها" ولفظ مسلم: خطبنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "يأيها الناس قد فرض الله الج فحجوا، فقال رجل: أكل عام يا رسول الله؟ فسكت حتى قالها ثلاثًا، فقال: لو قلت: نعم لوجبت ولما استطعتم ثم قال: ذرونى ما تركتكم ... " الحديث. ورواه النسائي ولفظه: "ولو وجبت ما قمتم بها" (¬3). وله شاهد من حديث أنس في ابن ماجه ولفظه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "كُتب عليكم الحج، فقيل: يا رسول الله في كل عام؟ فقال: لو قلت: نعم لوجبت، ولو وجبت لم تقوموا بها ولو لم تقوموا بها عذبتم" ورجاله ثقات (¬4). وروى الحاكم والترمذي له شاهدًا من حديث علي وسنده منقطع ولفظه قال: "لما نزلت هذه الآية {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} قالوا: يا رسول الله أفي كل عام؟ فسكت، ثم قالوا أفي كل عام؟ قال: لا ولو قلت نعم لوجبت" (¬5). قوله: "أفي (أ) كل عام" معناه أيتكرر وجوبه على المكلف في كل عام، وقوله: "لوجبت" قد يستدل به على أنه يجوز التفويض للنبي - ¬

_ (أ) هـ، ي: (أَوَفي).

- صلى الله عليه وسلم - في شرع الأحكام (*)، وقد ذهب إليه ابن السمعاني، وهو أحد قولي الشافعي، قالوا: وهو مختص بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وقال الإمام يحيى: إنه يجوز للنبي وللمجتهد دون غيرهما، وتوقف في وقوعه وذهب موسى بن عمران من المعتزلة إلى جوازه، ووقوعه مطلقًا في حق النبي وغيره وظاهره ولو غير مجتهد، وذهب الجمهور من متأخري الحنفية والشافعية وغيرهم إلى جوازه عقلًا ولكنه لم يقع، وتردد الشافعي فقيل في الجواز وقيل في الوقوع، والذي عليه الجمهور من العلماء أنه لا يجوز من الله أن يفوض إلى أحد شرع الأحكام كيف يشاء بما اتفق، قالوا: لأن الأحكام الشرعية إنما شرعت لمصالح العباد ولا يستمد من أحد اختيار الصلاح، وإدراكه علي جهة الاتفاق، وتأولوا ما أوهم ذلك مثل هذا الحديث، ومثل قوله "لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك" (¬1) ومثل قوله تعالى: {إلا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ} (¬2) ومثل قوله في حديث العباس "إلا الإذخر" فقال: "إلا الإذخر" (¬3) فإن ذلك متأول، فمثل الآية محمول على الاجتهاد بدليل ظني، ومثل "إلا الإذخر" قاله العباس وقد كان فهم التخصيص فقرره النبي - صلى الله عليه وسلم - ومثل حديث السواك والحج أنه قد كان خير - صلى الله عليه وسلم - بين أن يأمر بالسواك، وأن لا يأمر وبين أن يوجب الحج، في كل عام أولًا أو أنه أراد أنه يقول ذلك بوحي (أ) لأنه لا ينطق عن الهوى، والله أعلم. خاتمة: اشتمل هذا الباب على أحد عشر حديثًا. ¬

_ (أ) هـ: (ذلك لأنه وحي ...).

باب المواقيت

باب المواقيت 560 - عن ابن عباس - رضي الله عنه - "أَن النبي - صلى الله عليه وسلم - وَقْتَ لأهل المدينة ذا الحليفة، ولأهل الشام الجحفة، ولأهل نجد قَرْن المنازل، ولأهل اليمن يَلَمْلَم، هن لهن ولمن أتى عليهن من غيرهن ممن أراد الحج والعُمرة، ومن كان دون ذلك فمن حيث أنشأ حتى أهل مكة من مكة" متفق عليه (¬1). قوله: "وَقْتَ" أي: حَدَّ، وأصل التوقيت أن يجعل للشيء وقت يختص به، وهو بيان مقدار المدة، يقال: وَقْتَ الشيء يوقِّته بالتشديد، ووقته بالتخفيف يقته إذا بين مدته ثم اتسع فيه فقيل للموضع ميقات، وقال ابن دقيق العيد: التوقيت تعليق الحكم بالوَقْت ثم استعمل للتحديد في الشيء مطلقًا لأن التوقيت تحديد بالوقت، فصار التحديد من لوازم التوقيت، فأطلق عليه توقيت. وقوله هاهنا "وقت" يحتمل أن يراد به التحديد أي حد هذه المواضع للإحرام، ويحتمل أن يراد بذلك تعليق الإحرام بوقت الوصول إلى هذه المواضع بشرط إرادة الحج أو العمرة. وقال القاضي عياض: وقت أي حدد، وقد يكون بمعنى أوجب، ومنه قوله تعالى: {إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} (¬2) انتهى. ويؤيد هذا أن في بعض ألفاظ الحديث فرض بدل وقَّت. وقوله "لأهل المدينة" أي مدينة النبي - صلى الله عليه وسلم -. ¬

_ (¬1) البخاري الحج، باب مهل أهل مكة للحج والعمرة 3: 384 ح 1524، مسلم الحج، باب مواقيت الحج والعمرة 838:2 ح 11 - 1181. (¬2) سورة النساء الآية 103.

"ذا الحليفة" بالمهملة والفاء مصغرًا: مكان معروف بينه وبين مكة مائتا ميل غير ميلين قاله ابنُ حزم (¬1). وقال غيره: بينهما عشر مراحل، وقال النووي (¬2): بينها وبين المدينة ستة أميال، ووهم (¬3) من قال بينهما ميل واحد وهو ابن الصباغ، وبها مسجد معروف بمسجد الشجرة خراب وفيها بئر يقال له بئر علي. "والجُحْفة" بضم الجيم وسكون الحاء المهملة وهي قرية خربة بينها وبين مكة خمس مراحل أو ست (¬4). وقال النووي في شرح المهذب بينهما ثلاث مراحل، وفيه نظر. وفي القاموس: "كانت الجحفة قرية جامعة على اثنين وثمانين ميلًا من مكة" (¬5). قال في النهاية: وبها (أ) غدير خم، وهي شديدة الوخم. قال الأصمعي: لم يولد فيها أحد فعاش إلى أن يبلغ إلا أن يحول عنها، وتسمى مَهْيَعة بوزن عَلْقمة كذا في حديث ابن عمر (¬6)، وقيل بوزن لطيفة وسميت الجحفة لأن السيل أجحف بها. قال ابن الكلبي (¬7): كان العماليق يسكنون يثرب فوقع بينهم وبين بني ¬

_ (أ) جـ: (وفيها).

عبيل -بفتح المهملة وكسر الموحدة، وهم أخوة عاد- حرب فأخرجوهم من يثرب فنزلوا مهيعة فجاء سيل فاجتحفهم: أي استأصلهم فسميت الجُحفة، والمكان الذي يحرم منه المصريون الآن "رَابِغ" بوزن فاعل براء وموحدة وغين معجمة قريب من الجحفة. واختصت الجحفة بالحمى فلا ينزلها أحد إلا حُمَّ لدعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - بنقل حمى يثرب إليها (¬1). "ولأهل نجد قرن المنازل" نجد: هو اسم لكل مكان مرتفع في الأصل وهو علم لعشرة مواضع (¬2)، والمراد منها هنا (أ) التي أعلاها تهامة واليمن وأسفلها الشام والعراق، والمنازل جمع منزل والمركب الإضافي هو اسم المكان، ويقال له قرن أيضًا بلا إضافة، وهو بفتح القاف وسكون الراء بعدها نون، وضبط صاحب الصحاح بفتح الراء وغلطوه، وبالغ النووي (¬3) فحكى الاتفاق على تخطئته في ذلك، لكن حكى عياض (¬4) عن تعليق الفاسي أن من قاله بالإسكان أراد الجبل، ومن قاله بالفتح أراد الطريق والجبل المذكور بينه وبين مكة من جهة المشرق مرحلتين (ب) وحكى (جـ) الروياني عن بعض قدماء الشافعية أنه المكان الذي يقال له قرن الثعالب، أضيف إليها لكثرة ما تأوي إليه (د) من الثعالب، ووقع في حديث عائشة ¬

_ (أ) سقط من هـ: (هنا). (ب) كذا في هـ. وفي الأصل، جـ: (مرحلتان). (جـ) هـ: (وذكر) وفي حاشيتها (وحكي). (د) جـ: (إليها).

قوله - صلى الله عليه وسلم -: "فلم أستفق إِلا وأنا بقرن الثعالب" الحديث ذكره ابن إسحاق في السيرة. ووقع في مرسل عطاء عند الشافعي "فلأهل نجد ولمن سلك نجدًا من أهل اليمن وغيرهم قرن المنازل". ووقع في عبارة القاضي حسين (¬1) في سياقه لحديث ابن عباس هذا: "ولأهل نجد اليمن ونجد الحجاز قرن" وهذا لا يوجد في شيء من طرق حديث ابن عباس، وإنما يوجد ذلك من مرسل عطاء، وهو المعتمد فإن لأهل اليمن إذا قصدوا مكة طريقين أحدهما طريق أهل الجبال وهم يصلون إلى قرن أو يحاذونه فهو ميقاتهم كما هو ميقات أهل المشرق، والأخرى (أ) طريق تهامة فيمرون بيلملم أو يحاذونه، وهو ميقاتهم لا يشاركهم فيه إلا من أتى عليه من غيرهم، "ولأهل اليمن يلملم" بفتح التحتانية واللام وسكون الميم بعدها لام مفتوحة ثم ميم وهو (ب) على مرحلتين من مكة بينهما ثلاثون ميلًا، ويقال لها "ألملم" بالهمزة وهو الأصل، والياء بدل منها. وحكى ابن السيد فيها يرمرم (جـ) براءين بدل اللام. وتقرر من هذا أن أبعد المياقيت (د) من مكة ذو الحليفة ميقات أهل المدينة، فقيل الحكمة في ذلك أن يعظم أجورهم، وقيل رفقًا بأهل الآفاق لأن المدينة أقرب الآفاق إلى مكة، والله أعلم. وقوله: "هن لهن" الضمير الأول عائد إلى المواقيت (هـ) والضمير ¬

_ (أ) جـ: (والآخر). (ب) جـ: (وهي). (جـ) جـ: (يرمر). (د) هـ: (المواقيت). (هـ) هـ: (المياقيت).

الثاني للبلدان (أ) المذكورة، وأصل هذا الضمير لجماعة المؤنث ممن يعقل واستعمل في غير العاقل حملًا له على النساء بجامع نقصان العقل، ووقع في بعض روايات الصحيحين: "هن لهم"، وكذا رواه أبو داود وغيره (¬1)، وكذا رواه مسلم من رواية ابن أبي شيبة (¬2)، ووقع في رواية للبخاري: "هن لأهلهن" (¬3). والحديث فيه دلالة على أنَّ الإحرام (ب) من المياقيت المذكورة يتعين على من ضربت له إذا قصد لحج (جـ) أو عمرة أن يحرم منهن، ولا يجوز له المجاوزة ويدخل في ذلك من كان ساكنًا في المياقيت المذكورة. وقوله: "ولمن أتى عليهن من غيرهن" يعني أن من وصل إلى هذه المياقيت وإن لم يكن من أهل الآفاق المذكورة فعليه الإحرام (من ذلك المحل، ويدخل في ذلك ما إذا ورد (د) الشامي مثلًا إلى ذي الحليفة فإنه يجب عليه الإحرام) منها، ولا يترك الإحرام حتى يصل الجُحْفَة، فإن أخر أساء ولزمه دم، وهذا عند الجمهور، وادعى النووي في شرح المهذب وشرح مسلم الاتفاق علي ذلك (¬4)، ولعله أراد في مذهب الشافعي، وإلا فالمعروف عند المالكية أن الشامي مثلًا إذا جاوز ذا الحليفة بغير إحرام إلى ¬

_ (أ) هـ: (إلى البلدان). (ب) سقط من جـ. (جـ) هـ، جـ: (الحج). (د) زاد جـ: (أي).

ميقاته الأصلي، وهو الجحفة جاز له ذلك، وإن كان الأفضل خلافه، وبه قال الحنفية وأبو ثور وابن المنذر من الشافعية، والحديث محتمل؛ فإن قوله "هن لهن" ظاهره العموم لمن كان من أهل تلك الأقطار سواء وَرَدَ على ميقاته، أو ورد على ميقات آخر فإن (أ) له العدول إلى ميقاته كمسألة الشامي إذا ورد على ذي الحليفة مثلًا، وظاهره أنه لا يلزمه الإحرام من ذي الحليفة وأنه يحرم من الجحفة وعموم قوله: "ولمن أتى عليهن من غير أهلهن" يدل على أنه يتعين على الشامي أَنْ (ب) يُحرم من ذي الحليفة في المسألة المذكورة كما هو مذهب الجمهور. وقوله: "فمن أراد الحج والعمرة" يؤخذ منه أن من سافر غير قاصد للنسك فجاوز الميقات، ثم بدا له بعد ذلك النسك أنه يحرم من حيث قصد ولا يجب عليه الرجوع إلى الميقات، ويدل على جواز دخول مكة بغير إحرام. وقوله: "فمن كان دون ذلك" أي بين الميقات ومكة. وقوله: "فمن حيث أنشأ" أي فميقاته من حيث أنشأ الإحرام أو السفر من مكانه إلى مكة، وهذا مُتَّفَق عليه إلا ما روي عن مجاهد فإنه قال: ميقات هؤلاء نفس مكة، واستدل به ابن حزم (¬1) على أنه من ليس له ميقات فميقاته من حيث أنشأ، ولا دلالة فيه لأنه يختص بمن كان بين الميقات ومكة. وقوله: "حتى أهل مكة من مكة" يعني فيحرمون للحج من مكة، ¬

_ (أ) هـ، ي: (وإن). (ب) جـ: (أنه).

وكذا من سائر الحرم المحرم، وأما إذا خرج المكي إلى الحِلّ (أ) وأحرم منه فقال الإمام يحيى: إنه يلزمه دم، والأولى التفصيل، وهو أنه إن عاد إلى مكة فلا دم عليه، وإن سار إلى الجبل ولم يَجُزْ مكة لزم (ب) دم، وأما المعتمر فيجب عليه أن يخرج إلى أدنى الحل. قال المحب الطبري (¬1): لا أعلم أحدًا جعل مكة ميقاتًا للعمرة. واختلف في القارن فقالت الهادوية: إنه لا يصح من أهل مكة القران. وذهب الجمهور إلى أنه يصح منه القِرَان ويحرم من مكة. وقال ابن الماجشون: يجب عليه الخروج إلى أدنى الحل؟ ووجهه أنه متضمن للعمرة، وإحرامها من الحل، ولا يندرج أعمالها في أعمال الحج عند من يقول به إلا فيما كان محلهما متفقًا، والإحرام محله مختلف. وأجيب عن هذا أن المقصود من الخروج إلى الحل إنما هو لأجل الورود علي البيت من الحل والحاج هو كذلك يرد عليه إذا أتى من الجبل، وفيه نظر. واختلف العلماء فيمن جاوز الميقات بغير إحرام مريدًا للنسك فقال الجمهور: يأثم ويلزم دم. فأما لزوم الدم فبدليل غير هذا وأما الإثم فلترك الواجب، ولو عاد إلى الميقات قبل أن يحرم سقط عنه الدم قال به الجمهور، والهادوية يزيدون على ذلك أنه يلزمه أيضًا إذا عاد من الحرم، ¬

_ (أ) هـ: (المحل). (ب) جـ: (لزمه).

وقال أبو حنيفة: يسقط عنه بشرط أن يعود ملبيًا، وذهب أحمد إلى أنه لا يسقط الدم (أ) والأفضل في كل (ب) ميقات أن يحرم من طرفه الأبعد إلى مكة فلو أحرم من طرفه الأقرب جاز. فائدة: حكى الأثرم عن أحمد أنه سئل أي سَنَة وقت النبي - صلى الله عليه وسلم - المواقيت؟ فقال: عام حج. وفي حديث ابن عمر أخرجه البخاري في باب العلم بلفظ: "أن رجلًا قام في المسجد فقال يا رسول الله: من أين تأمرنا أن نهل؟ " (¬1). 561 - وعن عائشة - رضي الله عنها - "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وقت لأهل العراق ذات عرق" رواه أبو داود والنسائي (¬2) وأصله عند مسلم من حديث جابر إلا أن راويه شك في رفعه (¬3)، وللبخاري "أن عمر هو الذي وقت ذات عرق" (¬4). وعند أحمد وأبي داود والترمذي عن ابن عباس - رضي الله عنه - "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وقت لأهل المشرق العقيق" (¬5). حديث عائشة تفرد به المعافي بن عمران عن أفلح عن القاسم عنها. ¬

_ (أ) جـ: (عنه الدم). (ب) هـ: (في ذلك كل ...).

وقوله في حديث مسلم إلا أن راويه شك في رفعه لأنه قال أبو الزبير سمعت جابرًا ثم وقف عن رفع الحديث إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقال: أُرَاه -بضم الهمزة، أي أظنه رفع الحديث وفي لفظ آخر: أحسبه رفع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وهذه العبارة لا يصير بها الحديث مرفوعًا لأنه لم يجزم برفعه. وفي الباب عن الحارث بن عمرو السهمي أخرجه أبو داود (¬1)، وعن أنس رواه الطحاوي في "أحكام القرآن"، وعن ابن عباس رواه ابن عبد البر في "تمهيده"، وعن عبد الله بن عمرو رواه أحمد وفيه الحجاج بن أرطاة (¬2). وحديث ابن عباس حسنه الترمذي وقال النووي: ليس كما قال، ففي إسناده يزيد بن أبي زياد، وهو ضعيف باتفاق المحدثين (¬3)، انتهى. نسب إليه الذهبي في "الميزان" (¬4) سوء الحفظ، وحديثه مخرج في السنن الأربع، وأخرجه مسلم مقرونا، قال شعبة فيها: لا أبالي إذا كتبت عن يزيد أن لا أكتب عن أحد، وهو من الشيعة. وفي الحديث علة أخرى وهو أن يزيد بن أبي زياد (أ) رواه عن محمد بن علي عن (ب) عبد الله بن عباس، وقد قال مسلم في "الكنى": محمد لا يُعلم له سماع من جده عبد الله. قال ابنُ خزيمة: "رويت في ذات ¬

_ (أ) جـ: (يزيد). (ب) هـ: (بن).

عرق أخبار لا يثبت شيءٌ منها عند أهل الحديث" (¬1). وقال (أ) ابن المنذر: لم نجد في ذات عرق حديثًا ثابتا. انتهى، لكن الحديث بمجموع الطرق تقوى، وقد يُعل بما (ب) في البخاري من حديث ابن عمر أنه لما فتح هذان المصران -يعني الكوفة والبصرة- أتوا عمر فقالوا: يا أمير المؤمنين إن النبي - صلى الله عليه وسلم - حَدَّ لأهل نجد قرنا وهو (جـ) جور عن طريقنا -يعني مائلا منحرفًا عنها-، وإنا إن أردناه يشق علينا. قال: فانظروا حذوها من طريقكم. فحدَّ لهم ذات عرق. فهذا يدل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يؤقَتُها، وقد يُجَاب عنه بأنه لعل عمر لم يبلغه توقيت النبي - صلى الله عليه وسلم -. قال ابن عبد البر: وأما إعلال مَنْ أعله بأنها لم تكن فُتِحَتْ يومئذ فهي غفلة لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - وقت المواقيت لأهل النواحي قبل الفتوح لكونه (د) علم أنها ستفتح فلا فرق حينئذ بين أهل الشام والعراق، وبهذا أجاب الماوردي وآخرون. وقد يُقَال إن (هـ) العراق لم تكن طريقة جميع ناس مسلمون بخلاف سائر الأماكن فقد كان فيها مسلمون فَوَقَّتَ لهم وبهذا يتأول قول ابن عمر. والحديث فيه دلالة على أن ذات عرق -بكسر العين المهملة وسكون الراء بعدها قاف ميقات لمن أتى من ناحية العراق بينه وبين مكة مرحلتان. والمسافة اثنان وأربعون ميلا سمي المحل بذلك لأن فيه عرقا وهو الجبل ¬

_ (أ) جـ: (قال) - بغير الواو. (ب) هـ: (ما). (جـ) هـ: (وهي). (د) جـ: (لكن). (هـ) هـ: (بأن).

الصغير وهي أرض سبخة تنبت الطرفاء. فاصلة بين نجد وتهامة وهي محاذية لقرن المنازل ولذلك حدها عمر. والعقيق المذكور في حديث ابن عباس هو وادٍ يَدفق ماؤه في غوري تهامة (¬1). قال الأزهري: هو حدا ذات عرق، وفيه دلالة على أنه ميقات أهل العراق. وقد جمع بينه وبين الحديث الأول بأن ذات عرق ميقات للوجوب والعقيق للاستحباب لأنه أبعد من ذات عرق، أو أن العقيق ميقات لبعض العراقيين وهو أهل المدائن، والآخر ميقات لأهل البصرة، ووقع ذلك في حديث لأنس (أ) وإسناده ضعيف، أو أن (ب) ذات عرق كانت أولًا في موضع العقيق الآن ثم حولت وقربت إلى مكة (جـ)، فعلى هذا فذات عرق والعقيق شيء واحد ويتعين الإحرام من العقيق ولم يَقُلْ به أحد وإنما قالوا: يستحب احتياطا، وحكى ابن المنذر عن الحسن بن صالح أنه كان يحرم من "الربذة" وهو قول القاسم بن عبد الرحمن وخصيف الجريري. قال ابن المنذر: وهو أشبه في النظر إنْ كان ذات عرق غير منصوصة وذلك أنها تحاذي ذات الحليفة وذات عرق بعدها، والحكم في مَنْ ليس له ميقات أن يحرم من أول ميقات يحاذيه لكن لما سَنَّ عمر ذات عرق وتبعه جمع من الصحابة واستمر عليه العمل فكان أولى بالاتباع، ويستدل به على أن مَنْ حاذى ميقاتا من هذه المياقيت من غير أهل النواحي الموقت لها أن يحرم من المحل الموازي للميقات الذي هو أقرب إليه، والمقصود ¬

_ (أ) جـ: (أنس). (ب) جـ: (وأن). (جـ) زادت جـ: (هكذا شرح صحيح مسلم).

بالقرب هو قرب المسافة بالنسبة إلى الطريق التي هو فيها فإذا كان أحد الميقاتَيْن عن يساره والآخر عن يمينه وبين الطريق التي سلكها وبين التي عن (أ) يساره مثلًا ستة أميال والذي عن يمينه عشرة أميال مثلًا فإنه يحرم إذا حاذى الذي عن يساره، ولعل ذات عرق بالنسبة إلى قرن، وبالنسبة إلى ذي (ب) الحليفة كذلك، وقد اعتبر عمر محاذاة قرن (¬1)، فهذه المياقيت محيطة بالحرم فلا بد لمن سلك طريقًا إلى الحرم أن يمر بها أو يحاذيها فبطل قول من قال إن من ليس له ميقات ولا يحاذي ميقاتًا هل يحرم من مقدار أبعد المواقيت أو أقربها ثم حكى فيه خلافًا، وحكى النووي في شرح المهذب أنه يلزمه أن يحرم على مقدار مرحلتيْنَ اعتبارًا (جـ) بفعل عمر في ذات عرق، وقد عرفت الجواب عنه، وهذه الصورة إنما هي حيث تجهل المحاذاة فلعل القائلين بالمرحلتين اخذُوا بالأقل لأن ما زاد عليه مشكوك فيه لكن مقتضى الأخذ بالاحتياط أن يعتبر الأكثر الأبعد، ويحتمل أن يفرق بين من عن يمين الكعبة وبين من عن شمالها، لأن المواقيت التي عن يمينها أقرب من التي عن شمالها، فيتعين علي صاحب اليمين الأقرب علي صاحب الشمال الأبعد، ثم إن مشروعية المحاذاة مختصة بمن ليس أمامه ميقات مُعَيْن، فأما من له ميقات معين كالمصري مثلًا إذا حاذى ذا الحليفة فليس عليه الإحرام منها، بل له التأخير حتى يأتي الجحفة. خاتمة: اشتمل هذا الباب على ثلاثة أحاديث. ¬

_ (أ) جـ: (علي). (ب) جـ: (ذات). (جـ) هـ: (على اعتبار).

باب وجوه الإحرام وصفته

باب وجوه الإحرام وصفته الوجوه جمع وجه، والمراد به: الأنواع التي يتعلق بها الإحرام، وهو الحج أو العمرة أو مجموعهما وصفته عطف تفسيري للوجوه، والمراد بصفة الإحرام هو أن الإحرام إذا تعلق بنوع فله صفة يتميز بها عن تعلقه بنوع آخر. 562 - عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: "خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عام حجة الوداع فمنا من أهل بعمرة، ومنا من أهل بحج وعمرة، ومنا من أهل بحج، وأهل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالحج، فأما من أهل بعمرة فحل وأما من أهل بحج أو (أ) جمع الحج والعمرة فلم يحل حتى كان يوم النحر" متفق عليه (¬1). قولها: "خرجنا ... " كان خروجه - صلى الله عليه وسلم - من المدينة نهارًا بعد الظهر لخمس بقين من ذي القعدة بعد أن صلى الظهر بها أربعًا وخطبهم خطبة علمهم فيها الإحرام وواجباته وسننه، قال ابن حزم، وكان يوم الخميس، والظاهر أنه يوم السبت، وقولها "عام حجة الوداع" سميت بذلك لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - ودع الناس فيها، ولم يحج بعد الهجرة غيرها، وكانت سنة عشر من الهجرة، وقولها "من أهل بعمرة" الإهلال في اللغة (¬2): رفع الصوت، ومنه استهل المولود أي صاح، ومنه قوله تعالى ¬

_ (أ) جـ: (وجمع).

{وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} (¬1) أي رفع الصوت عند ذبحه بغير ذكر الله، ويسمى الهلال هلالًا لرفعهم الصوت عند رؤيته، قال العلماء: والإهلال في اللغة رفع الصوت بالتلبية عند الدخول في الإحرام، ولعل هذا في عرف اللغة، والمعنى الأول في أصلها، وقولها: "فمنا من أهل بعمرة" تريد أنه وقع من مجموع القاصدين مع النبي - صلى الله عليه وسلم - هذه الأنواع المذكورة، فلا يعارضها الروايات الأخر عنها، فإنه قد روى مسلم (¬2) من حديثها "خرجنا لا نرى إلا الحج" وفي رواية القاسم عنها قالت: لبينا بالحج، وفي رواية "له خرجنا مهلين بالحج"، وفي رواية: "لا نذكر إلا الحج"، وفي رواية الأسود (¬3) عنها: "نلبي لا نذكر حجا ولا عمرة" (¬4) لأن ذلك باعتبار اختلاف الناس فيما أحرموا به، وإنْ كانت في نفسها قاصدة للحج، وكذلك قولها "نلبي لا نذكر حجا ولا عمرة" فلعلها قصدت أنهم لم يلتزموا ذكر ما علق به التلبية، وإن كانت المقاصد متنوعة، وقد تذكر في بعض الأحوال وهذا وجه للجمع، وقد قال القاضي عياض (¬5): اختلف العلماء في الكلام على حديث عائشة -رضي الله عنها- فقال مالك: ليس العمل على حديث عروة عن عائشة عندنا قديمًا ولا حديثًا، وقال بعضهم يترجح أنها كانت محرمة بحج لأنها رواية عمرة (1) والأسود والقاسم وغلطوا عروة في روايته، قولها "ولم أهل إلا ¬

_ (أ) هـ: (عروة).

بعمرة" وإن كان يحتمل أنها في آخر الأمر حين أمرت برفض العمرة لم تكن محرمة إلا بعمرة ثم أحرمت بالحج من بعد لأنها قد كانت فسخت الحج إلى العمرة فصارت منفردة بالعمرة ثم لما تعذر عليها تمام العمرة بسبب الحيض رفضتها وأحرمت بالحج وحدها، وهذا وجه صحيح للجمع بين الروايات أولى من تغليط البعض، وأحمد بن حنبل قال في حديث عروة: هو خطأ. وقولها: "وأما من أهل بحج ... " إلخ يدل بظاهره على أن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - استمروا على الإحرام بالحج وأنهم لم يفسخوه إلى العمرة، وهذا خلاف ما اشتهر في الأحاديث الصحيحة المخرجة في الصحيحين وغيرهما من أنه - صلى الله عليه وسلم - "أمر من لم يكن معه هدي بفسخه إلى العمرة" وقد بلغ عدة من روى ذلك من الصحابة أربعة عشر منهم (¬1) عائشة وحفصة وعلي بن أبي طالب وفاطمة بنت النبي - صلى الله عليه وسلم - وأسماء بنت أبي بكر وجابر بن عبد الله وأبو سعيد الخدري والبَرَاء بن عازب وأنس بن مالك وعبد الله بن عمر وأبو موسى الأشعري وعبد الله بن عباس وبشر بن معبد الجهني وسراقة بن مالك المدلجي، ولعل هذه الرواية مقيدة بمن كان معه هدي وأحرم بحج مفرد كما في حق كثير من الصحابة، أو كان معه هدي وأحرم بحج وعمرة كما وقع من النبي - صلى الله عليه وسلم - في الوادي المبارك لما أمر بهما وكان معه هدي فلا مخالفة على هذا بين الروايات، ودل هذا على أنه يجوز إفراد الإحرام بالعمرة وإفراد الحج والقران بينهما، وهو كذلك فإن أنواع الحج ثلاثة: إفراد، وقران، وتمتع، والظاهر أنه ما وقع من أحد إفراد الإحرام بالعمرة في الابتداء، فيحمل قولها "من أهل ¬

_ (أ) جـ: (رسول الله).

بعمرة" على الإهلال بها متقدمة على الحج فيتم (أ) حينئذٍ، ذكر أنواع الحج الثلاثة. والإفراد هو أن يحرم بالحج وحده، والقران أن يقرن في إحرامه بتعليقه بالحج والعمرة، والتمتع أن يهل بالعمرة متمتعًا بها إلى الحج ويحج في تلك السنة، وتفاصيل هذه الأنواع مستوفاة في كتب الفروع من الفقه، ولو أحرم بالحج ثم أحرم بالعمرة (ب) فقولان للشافعي أصحهما لا يصح إحرامه بالعمرة، والثاني يصح ويصير قارنًا بشرط أن يكون قبل الشروع من التحلل في الحج، وقيل قبل الوقوف بعرفات، وقيل قبل طواف القدوم أو غيره، قال القاضي جوز (جـ) إدخال العمرة على الحج أصحاب (د) الرأي وهو قول للشافعي لما ثبت أنه فعله - صلى الله عليه وسلم - عند أن أتاه آتٍ من ربه في الوادي المبارك وأمره أن يصلي فيه ويقول: عمرة في حجة (¬1) ومنعه آخرون وجعلوا هذا خاصًّا بالنبي - صلى الله عليه وسلم - لضرورة الاعتمار في أشهر الحج، ولو أحرم بالعمرة أولًا ثم أدخل عليها الحج، فقال القاضي (¬2): اتفق جمهور العلماء على جواز ذلك وشذ بعض الناس فقال: لا يدخل إحرام على إحرام كما لا تدخل صلاة على صلاة، هذا كلامه، وظاهر كلام النووي (¬3) أن ذلك موافق كلام الشافعي وأصحابه، وفي البحر للإمام المهدي ما لفظه مسألة الهادي والناصر وأبي حنيفة وقول للشافعي. ¬

_ (أ) كتب فوقه هنا في ي: (هذا تكلف). (ب) جـ بدلها هنا (بالتمتع). (جـ) (هـ: (جواز). (د) هـ: (لأصحاب).

ومن أدخل نسكًا على نسك أساء وانعقد فيرفض الدخيل ويؤديه لوقته مالك وأحد قولي الشافعي لا ينعقد الدخيل لقول علي - رضي الله عنه - لأبي نضرة لما قال: "إني أهللت بالحج وإني أستطيع أن أضم إليها عمرة فأضم؟ قال: لا ولكنك إن أهللت بعمرة وأردت أن تضم إليها حجًّا ضممت" (¬1). قلنا: أراد أنه أساءه إذ سأله قبل العمل، قيل وهو مراد عمر بقوله متعتان كانتا على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنا أنهى عنهما بل أعاقب على فعلهما، وقيل بل نكاح المتعة وعليه دم الرفض لما مر المؤيد والمنصور وسواء تضيق الوقت أم اتسع وقيل إن (أ) خشي فوت الحج الدخيل قدمه، قلنا لم يفصل الدليل العترة والشافعي ولا يصير قارنًا إذ لم يحرم لهما معًا الإمام يحيى وأحمد، وعن الشافعي لا ينعقد إدخال العمرة على الحج ويصح العكس لقوة الحج، عن الشافعي ينعقد ويصير قارنًا أبو حنيفة إذا أدخله قبل الطواف صار قارنًا إذ التأخير اليسير معفو عنه (ب)، قلنا: لم يُفرق ثم إن هذا مشى، انتهى. ولا يخفى عليك ما بينه وبين كلام القاضي من المخالفة (جـ في نقل الخلاف جـ) وما في كلام البحر من اضطراب في نقل الخلاف وضعف الاحتجاج بقول على وعدم صحة الجواب، والذي (د) يظهر من مجموع ¬

_ (أ) جـ: (بل إنْ). (ب) سقط من هـ: (عنه). (جـ -جـ) سقط في هـ. (د) هـ: (الذي).

الأحاديث الواردة في الحج وما وقع من النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه أنه لا مانع من إدخال الحج على العمرة والعمرة على الحج، وأن ذلك ليس فيه إبطال لما تقدمه بل هو تأكيد للزومه وزيادة في (أ) المحافظة على أدائه حيث لم يتَحلل من إحرامه، بل مضى فيه حتى أكمل أعمال المُدْخَل عليه، وإنما الشأن في التحلل من الحج وفسخه إلى العمرة هل كان ذلك خاصًّا بأصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -أو حكمه باق، فذهب الجمهور إلى أن ذلك كان خاصًّا بأصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - واستدلوا (ب) عليه بما رواه عبد الله بن الزبير الحميدي قال حدثنا سفيان عن يحيى بن سعيد عن المرقع عن أبي ذر أنه قال: "كان فسخ الحج من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لنا خاصة" (¬1). وأخرج وكيع أيضًا عنه أنه قال: "لم يكن لأحد بعدنا أن يجعل حجته عمرة إنها كانت رخصة لنا أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -" (¬2). وأخرج البزار عن يزيد بن شريك "قلنا لأبي ذر: كيف تمتع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنتم معه؟ قال: ما أنتم وذاك، إنما ذاك شيء رخص لنا فيه"، يعني المتعة. وأخرج أيضًا عن أبي بكر التيمي عن أبيه والحارث بن سويد قالا: قال أبو ذر: في الحج (ب) والمتعة رخصة أعطاناها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وأخرج أبو داود عن ابن الأسود أن أبا ذر كان يقول: من جمع ثم فسخها إلى عمرة لم يكن ذلك إلا للركب الذين كانوا مع رسول الله - ¬

_ (أ) سقط من جـ: (في). (ب) هـ: (إذا استدلوا). (جـ) هـ: (في الحج والعمرة والمتعة).

صلى الله عليه وسلم - (¬1). وفي صحيح مسلم عن أبي ذر قال: "كانت المتعة في الحج لأصحاب محمَّد خاصة" (¬2) وفي لفظ: "كانت رخصة" (¬3) يعني المتعة في الحج، وفي لفظ آخر "لا تصلح المتعة إلا لنا خاصة" (¬4) يعني متعة النساء ومتعة الحج، وفي لفظ آخر "إنما كانت لنا خاصة دونكم" (¬5) يعني متعة الحج. وفي سنن النسائي بإسناد صحيح عن إبراهيم التيمي عن أبيه عن أبي ذر في متعة الحج "ليست لكم ولستم منها بشيء، إنما كانت رخصة لنا أصحاب محمَّد" (¬6). وفي سنن أبي داود والنسائي من حدثنا بلال بن الحارث قال: "قلت يا رسول الله أىا فسخ الحج إلى العمرة لنا خاصة أم للناس عامة؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "بل لنا خاصة" ورواه الإِمام أحمد (¬7). وفي سنن أبي داود بإسناد صحيح عن إبراهيم التيمي عن أبيه قال: سئل عثمان عن متعة الحج فقال: "كانت لنا ليست لكم" ويتأيد هذا بإنكار عمر، ومنعه مع وفور الصحابة وقرب العهد منهم للنبي - صلى الله عليه وسلم - من غير ظهور خلاف عليه في عصره ويتأيد بظاهر قوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ} (¬8) فإن الآية تقضي بوجوب تمامهما، وأنه لا يجوز الخروج من أحدهما قبل إتمامه، وقد أجاب عن جميع ذلك في الهدي ¬

_ (¬1) أبو داود المناسك، باب في الإقران 2: 399 ح 1807. (¬2) مسلم الحج، باب جواز التمتع 2: 897 ح 160 - 1224. (¬3) و (¬4) و (¬5) مسلم السابق 897:2 ح 161 - 162 - 163 - 1224 م. (¬6) النسائي المناسك، باب إباحة فسخ الحج بعمرة لمن لم يسق الهدي 5: 179. (¬7) أبو داود المناسك، باب في الإقران 2: 399، 400 ح 1808، والنسائي، المناسك، باب إباحة فسخ الحج بعمرة ... ، 5: 179، أحمد 3: 469. (¬8) سورة البقرة الآية 196.

النبوي (¬1)، ونسب جواز ذلك وبقاءه إلى علي بن أبي طالب وسعد بن أبي وقاص وابن عمر وابن عباس وأبي موسى وسعيد بن المسيب وجمهور التابعين، فليراجع، والله أعلم. واعلم أن العلماء اختلفوا في أفضل أنواع الحج، فقال الشافعي ومالك وكثيرون أفضلها الإفراد ثم التمتع ثم القرآن، وهو قول الهادي في الأحكام، وقال أبو حنيفة: أفضلها القرآن، وقال أحمد وآخرون -وهو مروي عن الصادق والباقر، والناصر-: إن أفضلها التمتع، وقال أبو العباس: إن القرآن أفضل لمن قد حج، والإفراد أفضل لمن لم يكن قد حج (ب). وقد اختلف العلماء في حجه - صلى الله عليه وسلم - على ثلاثة أقوال بحسب مذاهبهم السابقة، وكل طائفة رجحت نوعًا واذعت أن حجة النبي - صلى الله عليه وسلم - كانت كذلك، والصحيح أنه - صلى الله عليه وسلم - كان أولًا مفردًا ثم أحرم بالعمرة بعد ذلك وأدخلها على الحج فصار قارنًا. وقد اختلفت روايات الصحابة في صفة حج النبي - صلى الله عليه وسلم - حجة الوداع. وفي البخاري ومسلم روايات مختلفة في ذلك، وطريق الجمع أن من روى الإفراد فباعتبار أول أمره، ومن روى القرآن فباعتبار ما انتهى إليه، ¬

_ (أ) سقط من جـ: (والباقر). (ب) جـ: (لمن لم يحج).

ومن روى التمتع فقد أراد به التمتع اللغوي، فإنه انتفع بالعمرة وارتفق بها من دون إعادة إحرام، واحتج (أ) من فضَّل الإفراد بأنه صح ذلك من حديث جابر وابن عمر وابن عباس وعائشة، وهؤلاء لهم مزية على غيرهم في معرفة ما فعله - صلى الله عليه وسلم - فأما جابر فهو أحسن الصحابة سياقة لرواية حجة الوداع فإنه ذكرها من حين خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - من المدينة إلى آخرها، فهو أضبط لها، وأما ابن عمر فصح عنه أنه كان آخذًا بخطام الناقة وأنكر هو على من رجح قول أنس على قوله، فقال: "كنت تحت ناقة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يمشي لعابها أسمعه يلبي بالحج". وأما عائشة فقربها من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - معروف، وكذلك اطلاعها لفطنتها على باطن أمره وظاهره وفعله على خلوته وعلانيته مع كثرة فقهها وعظم فطنتها، وأما ابن عباس فمحله من الفقه والعلم والدين والفهم الثاقب معروف مع كثرة بحثه وحفظه أحوال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - التي لم يحفظها غيره وأخذه إياها من كبار الصحابة، وبأنه واظب على ذلك الخلفاء الراشدون كأبي بكر وعمر وعثمان، وفعل عليّ اختلف لبيان جواز ذلك، وبأنه لا يجب فيه دم بالإجماع بخلاف ما عداه فيجب الدم للجبران، واحتج من فضل القرآن بأنه ورد أنه - صلى الله عليه وسلم - قرن، ورويت في ذلك بضعة وعشرون حديثًا كلها صحيحة من سبعة عشر صحابيًّا هم: عائشة وعبد الله بن عمرو وجابر بن عبد الله وعبد الله بن عباس وعمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وعثمان بن عفان بإقراره لعليٍّ وتقرير على له وعمران بن الحصين والبراء بن عازب وحفصة أم المؤمنين وأبو قتادة وابن أبي أوفى وأبو طلحة والهرماس بن زياد وأم سلمة وسعد بن أبي وقاص وأنس مع أن حديث أنس أيضًا رواه ستة عشر نفسًا من الثقات كلهم متفقون عن ¬

_ (أ) جـ: (واحتج آخر).

أنس (¬1) أن لفظ النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إهلالًا بحجة وعمرة معًا، وهم الحسن البصري وأبو قلابة وحميد بن هلال وحميد بن عبد الرحمن الطويل وقتادة ويحيى بن سعيد الأنصاري وثابت البناني ومحمد وبكر بن عبد الله المُزَني وعبد العزيز بن صهيب وسليمان التيمي ويحيى بن أبي إسحاق وزيد بن أسلم ومصعب بن سليم (أ) وأبو قدامة عاصم بن حسين وأبو قزعة وهو سويد بن حجر الباهلي (¬2). واحتج من قال بأفضلية التمتع أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حج تمتعًا، وروايات التمتع هي روايات القرآن، فإن التمتع الذي وقع من النبي - صلى الله عليه وسلم - هو القرآن كما عرفت، وأما التمتع الذي هو النوع الثالث فهو وقع من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - بأمره لهم واستحسانه لذلك، وقوله "لو استقبلت من أمري ما استدبرت ... " الحديث فإن اختياره - صلى الله عليه وسلم - ذلك لهم يدل على أفضليته وقد ينقضي عن ذلك بأنه لا شك أنه أفضل في حقهم، ووقوعه بحكمه في حقهم لا يحصل مِن فعل من بعدهم، وهو أنه لإظهار مخالفة ما كان ارتسم في النفوس من أن العمرة لا يجوز التلبس بها في أشهر الحج وإن ذلك من أفجر الفجور، ولذلك عظم على أصحابه - صلى الله عليه وسلم - حين أمرهم بالحل كله، والأحكام شرعت لمصالح العباد، وهذه مصلحة مناسبة للتشديد في الأمر به، فإن ذلك من التشريع الذي يجب تبليغه إلى العباد، فكان في حقهم أفضل، وأما في حق غيرهم فلا، وأقول والله أعلم: الذي يترجح اختيار أفضليته هو القرآن فإن القرآن قد اشتمل على مقاصد معتبرة منها تأكد الإحرام من حيث إنه علقه بسنتين موجبتين للفضل والثواب. ¬

_ (أ) جـ: (سليمان).

ومنها موافقة ما انتهى إليه حال النبي - صلى الله عليه وسلم - وأمر به من الجمع بينهما. ومنها إظهار مخالفة المشركين المحرمين للعمرة في أشهر الحج. ومنها قبول التيسير الذي أراده الله لأمته - صلى الله عليه وسلم - في الشريعة من حيث إنه قام بإحرامَيْن دفعة واحدة من دون تكرار إحرام. ومنها التزام النسك الذي فيه التقرب بنحر دمه وإظهار شعار البيت الحرام بالهدي والقلائد وإنالة المساكين من لحمه وغير ذلك. ومنها: العمل بتمام ما أحرم به من الحج والعمرة والمطابقة لقوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} فإن ظاهر الآية قاضٍ بأنهم متلبسون بهما دفعة واحدة وإتمامهما معًا أن يكون التحلل منهما تحللًا واحدًا، وهذا ظاهر في حق القارن ولا ريب في شرعية الثلاثة الأنواع وحصول الامتثال بأنها فعل، والله أعلم. خاتمة: اشتمل هذا الباب على حديث واحد، ولعل المصنف رحمه الله تعالى خص هذا الباب بهذا الحديث لما كان جامعًا للثلاثة الأنواع، والله أعلم.

باب الإحرام وما يتعلق به

باب الإحرام وما يتعلق به الإحرام الدخول في أحد النسكين والتشاغل بأعمالهما بالنية. 563 - عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: "ما أهل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إِلا من عند المسجد" متفق عليه (¬1). قال ابن عمر: هذا رد على من قال إنه - صلى الله عليه وسلم - أهل (أ) من البيداء، فقال ابن عمر بيداؤكم هذه الذي يكذبون على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيها، ما أهل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الحديث (¬2). والمراد بالمسجد مسجد ذي الحليفة، وفي رواية أخرى "إلا من عند الشجرة حين قام به بعيره" (¬3)، والبيداء التي أنكر ابن عمر هي الشرف التي قدام ذي الحليفة إلى جهة مكة، وهي تقرب من ذي الحليفة، سميت بيداء لأنه ليس فيها بناء ولا أثر، وكل مفازة تسمى بيداء، والشجرة المذكورة كانت عند المسجد، والتكذيب المذكور هنا مراد به الإخبار بالشيء على خلاف ما هو عليه في الواقع، وإن لم يتعمد، وفي الرواية الأخرى عند مسلم أنه - صلى الله عليه وسلم - "ركع بذي الحليفة ركعتين ثم حين (ب) استوت به الناقة قائمة عند مسجد ذي الحليفة أهل". ¬

_ (أ) جـ: (أحرم). (ب) جـ: (إذا).

والحديث فيه دلالة على أن ميقات أهل المدينة من عند مسجد ذي الحليفة، ولا يجوز لهم تأخير الميقات إلى البيداء، ولهذا قال جميع العلماء، ويدل على أن الإحرام من الميقات أفضل من أن يحرم من دويرة أهله. لأنه - صلى الله عليه وسلم - ترك الإحرام من مسجده مع كمال شرفه، والظاهر أن اختياره لذلك لكونه أفضل لا لبيان الجواز, لأنه قد كان بين المياقيت، وقد روى ابن عباس أنه أهل - صلى الله عليه وسلم - بعد أن ركب راحلته واستوت به على البيداء، وأنكر هذا ابن عمر على ابن عباس (¬1). ولكنه يزول الإشكال ويجمع بين الروايات المختلفة بما أخرجه أبو داود والحاكم من طريق سعيد ابن جبير (¬2) "قلت لابن عباس: عجبت لاختلاف أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في إهلاله" فذكر الحديث وفيه "فلما صلى في مسجد ذي الحليفة ركعتين أوجب من مجلسه فأهل بالحج حين فرغ منهما فسمع قوم فحفظوه ثم ركب فلما استقلت (أ) به راحلته أهل وأدرك ذلك منه قوم لم يشهدوه في المرة الأولى فسمعوه حين ذاك فقالوا: إنما أهل حين استقلت به راحلته ثم مضى، فلما علا شرف البيداء أهل وأدرك ذلك قوم لم يشهدوه، فنقل كل ما سمع، وإنما كان إهلاله في مصلاه وايم الله، ثم أهل ثانيًا وثالثًا". وأخرجه الحاكم من وجه آخر عن عطاء عن ابن عباس نحوه، فعلى هذا إن إنكار ابن عمر على من خص الإهلال بالقيام على شرف البيداء، والله أعلم. 564 - وعن خلاد بن السائب عن أبيه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ¬

_ (أ) هـ: (استهلت).

قال: "أتاني جبريل فأمرني أن آمر أصحابي أن يرفعوا أصواتهم بالإهلال" رواه الخمسة وصححه الترمذي وابن حبان (¬1). هو خلاد (¬2) بفتح الخاء المعجمة وتشديد اللام، روى عن أبيه السائب. قال ابن عبد البر: "مختلف في صحبته، وفي حديثه في رفع الصوت بالتلبية اختلافا كثيرًا، وروى عنه عطاء بن يسار: "من أخاف المدينة أخافه الله" (¬3) مختلف فيه، فمنهم من يقول فيه السائب بن خلاد" (¬4). وأخرج الحديث أحمد ومالك في "الموطأ"، والشافعي عن مالك والحاكم والبيهقي، وقد رواه بعضهم عن خلاد بن السائب عن زيد بن خالد ولا يصح، وقال البيهقي أيضًا: "الأول هو الصحيح" (¬5)، وأما ابن حبان فصححهما وتبعه الحاكم وزاد رواية ثالثة من طريق المطلب بن عبد الله بن حنطب عن أبي هريرة. وروى أحمد من حديث ابن عباس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن جبريل أتاني فأمرني أن أعلن التلبية" (¬6). وترجم البخاري رفع الصوت بالإهلال وأورد فيه حديث أنس (¬7): ¬

_ (¬1) أبو داود الحج، باب كيف التلبية 2: 404 ح 1814. الترمذي الحج، باب ما جاء في رفع الصوت بالتلبية 3: 191 ح 829، النسائي المناسك، باب رفع الصوت بالإهلال 5: 162 (بلفظ جاءني)، ابن ماجه المناسك، باب رفع الصوت بالتلبية 2: 975 ح 2922، أحمد 4: 55، مالك 1: 334 ح 34، الحاكم 1: 450، البيهقي الحج، باب رفع الصوت بالتلبية 5: 42، ابن حبان 1039، الدارقطني 2: 238. (¬2) الإصاية 1: 454 (2277) (ط. مط. السعادة، مصر). (¬3) أحمد 56:4. (¬4) الاستيعاب 1: 417 (على هامش الإصابة). (¬5) البيهقي 5: 42. (¬6) أحمد 1: 321. (¬7) البخاري 3: 408 ح 1548.

"صلى النبي - صلى الله عليه وسلم - الظهر بالدينة والعصر بذي الحليفة وسمعتهم يصرخون بهما جميعًا". وروى ابن أبي شيبة من طريق المطلب بن عبد الله بن حنطب قال: "كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يرفعون أصواتهم بالتلبية حتى تبح أصواتهم". الحديث فيه دلالة على استحباب رفع الصوت بالتلبية، وقد ذهب إلى هذا الجمهور، واختلفت الرواة عن مالك فقال ابن القاسم عنه: لا يرفع صوته بالتلبية إلا عند المسجد الحرام ومسجد منى، وقال في الموطأ: "لا يرفع صوته بالتلبية في مسجد الجماعات" (¬1). ولم يستثن شيئًا، ووجه الاستثناء أن المسجد الحرام جعل للحاج والمعتمر وغيرهما، وكان الملبي إنما يقصد إليه فكان ذلك وجه الخصوصية وكذلك مسجد منى. 565 - وعن زيد بن ثابت "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - تجرد لإهلاله واغتسل" رواه الترمذي وحسنه (¬2). الحديث ضعفه العقيلي وأخرجه الدارقطني والبيهقي والطبراني. وروى الحاكم والبيهقي من طريق يعقوب بن عطاء عن أبيه عن ابن عباس قال: "اغتسل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم لبس ثيابه فلما أتى ذا الحليفة صلى ركعتين ثم قعد على بعيره فلما استوى به على البيداء أحرم ¬

_ (¬1) الموطأ 1: 334 رقم 35. (¬2) الترمذي الحج، باب ما جاء في الاغتسال عند الإحرام 3: 192 ح 830، الدارقطني الحج 2: 220 - 221 (بنحوه)، البيهقي الحج، جماع أبواب الإحرام والتلبية، باب الغسل للإهلال 5: 32 - 33، العقيلي 4: 138.

بالحج" (¬1) ويعقوب ضعيف (¬2). والحديث فيه دلالة على شرعية الغسل قبل الإحرام، وذهب الأكثر إلى أنه مندوب وليس بواجب، وذهب الناصر إلى وجوبه، وتردد كلام مالك والنصري في وجوبه أريد به، وهو مشروع للتنظيف لا للتطهير، ولذلك شرع في حق الحائض والنفساء كما سيأتي في حق أسماء بنت عميس. 566 - وعن ابن عمر - رضي الله عنهما -: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سئل ما يلبس المحرم من الثياب؟ قال: لا تلبسوا القمص ولا العمائم ولا السراويلات ولا البرانس ولا الخفاف إِلا أحد لا يجد نعلين فليلبس الخفين وليقطعهما أسفل من الكعبين، ولا تلبسوا شيئًا من الثياب مسه الزعفران ولا الورس" متفق عليه (¬3) واللفظ لمسلم. الحديث ذكر في الجواب ما يترك المحرم والسؤال عن ملبوس المحرم، وهذا من الأسلوب الحكيم، وهو تلقي السائل بغير ما يترقب للتنبيه على أنه الأولى من أن يسأل عنه، وذلك لأن ملبوس المحرم تقرر جوازه بالإباحة الأصلية، وإنما الكلام فيما حصره الشرع، وأخرجه عن الإباحة، ولأنه أيضًا غير منحصر، فإنه يجوز له أن يلبس أي شيء كان على أي هيئة ما عدا ما ذكر، فذكر في الجواب الممنوع منه لانحصاره، وأطلق ما عداه لبقائه على حكم الإباحة، والرواية المذكورة هي المشهورة، وقد رواه أبو عوانة من ¬

_ (¬1) البيهقي 5: 33، الحاكم 1: 447. (¬2) هو يعقوب بن عطاء بن أبي رباح المكي ضعفه أحمد، وقال أبو حاتم: ليس بالقوي، وقال ابن معين: ضعيف. ميزان الاعتدال 4: 453 (9821)، تقريب التهذيب 2: 376 (386). (¬3) البخاري الحج، باب ما لا يلبس المحرم من الثياب 3: 401 ح 1542، مسلم الحج، باب ما يباح للمحرم بحج أو عمرة، وما لا يباح، وبيان تحريم الطيب عليه 2: 834 ح 1: 1177 (واللفظ له).

طريق ابن جريج عن نافع بلفظ: "ما يترك المحرم" وهي شاذة والاختلاف فيها على ابن جريج لا على نافع ورواه سالم عن ابن عمر بلفظ: "أن رجلًا قال يا رسول الله ما يجتنب المحرم من الثياب" أخرجه أحمد (¬1)، وابن خزيمة وأبو عوانة في صحيحهما من طريق عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عنه. وأخرج أحمد عن ابن عيينة عن الزهري فقال مرة: "ما يترك"، وقال مرة: "ما يلبس" (¬2). قوله "المحرم" أجمعوا على أن المراد هنا الرجل ولا تلحق به المرأة في ذلك، والمراد بالقميص هو ما أحاط بالبدن، والقميص ما كان عن تفصيل وتقطيع، ويلحق به ما أحاط بالبدن وإن لم يكن كذلك، وذلك مثل الجراب (أ) وما ألصق بالنسج أو بالتلبيد، وكذا العمامة ما كان على الرأس فيلحق بالعمامة غيرها مما يغطي الرأس. قال الخطابي: ذكر العمامة والبرانس معًا ليدل على أنه لا يجوز تغطية الرأس لا بالمعتاد ولا بالنادر كالبرنس، وهو كل ثوب رأسه منه ملتزق به من دراعة أو جبة أو غيره كذا في النهاية. وقال الجوهري: هي قلنسوة طويلة كان الناس يلبسونها في صدر الإِسلام، وهو من البِرْنس (¬3) بكسر الباء وهو القطن، والنون زائدة وقيل إنه غير عربي، والمراد باللبس ها هنا المعتاد في كل شيء مما ذكر، فلو ارتدي ¬

_ (أ) جـ: (الحزام).

بالقميص لم يمنع منه لأن اللبس المعتاد في القميص غير الارتداء. واختلف الفقهاء في القباء إذا لبس من غير إدخال اليدين في الكمين، ومن أوجب الفدية جعل ذلك من المعتاد أحيانًا، واكتفى في التحريم فيه بذلك ولا يضر الانغماس في الماء وكذا مباشرة المحمل بالرأس (أ) وكذا ستر الرأس باليد، وكذا وضع الرأس عند النوم لأنه لا يسمى لابسًا، وفي كتب المفرعين على أصل الهادي تفصيل في ذلك، وفي قوله "وكذا السراويلات" (ب) المراد به ما يغطي بعض البدن، وقوله "ولا الخفاف" وكذا يلحق به الجورب، والخف ما كان إلى نصف الساق، والجورب ما كان إلى فوق الركبة. وقوله "إِلا أحد" قد استعمل أحد هنا في الإثبات وحقه أن يستعمل في النفي إلا أنه قد جاء ذلك ولكنه بشرط أن يكون بعده نفي، وقوله "لا يجد نعلين". والمراد بها النعل العربية، "وليقطعهما أسفل من الكعبين" المراد من هذا كشف الكعبين، والكعبان هما العظمان الناتئان عند مفصل الساق والقدم، ويؤيده ما روى ابن أبي شيبة عن جرير عن هشام بن عروة عن أبيه قال: "إذا اضطر المحرم إلى الخفين خرق ظهورهما وترك فيهما قدر ما تستمسك رجلاه". فهذا القدر يدل على أن القطع من تحت الكعب الأعلى، إذ لو كان من تحت كعب (جـ) الشراك لم يبق ما تستمسك معه الرِّجْل. وقد ذهب إلى هذا محمَّد بن الحسن ومن تبعه من الحنفية وهو كذلك في كتب ¬

_ (أ) هامش ي: قالوا في أنه لا يضر مباشرة المحمل فالزاهر. (ب) جـ: (السراويل). (جـ) سقط من جـ (كعب).

الهادوية مصرح به على أصل الهادي، وأن الكتب المراد هنا العظم الذي في وسط القدم تحت معقد الشراك، وقيل إن ذلك لا يعرف عند أهل اللغة، وقد ضعفت الرواية عن محمَّد بن الحسن، ونسب الراوي إلى الوهم، مع أن ابن بطال نقل عن أبي حنيفة أن الكتب هو الشاخص في ظهر القدم، ونقل عن الأصمعي أن الكتب عظم مستدير تحت عظم الساق حيث مفصل الساق والقدم، وجمهور أهل اللغة على أن في كل قدم كعبين مع أنه قد روي ابن المنذر في الأوسط وأبو عوانة في صحيحه بسند على شرط الصحيح عن ابن عمر: "أن رجلًا نادى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: ما يجتنب المحرم من الثياب؟ فقال: لا يلبس السراويل" إلى أن قال: "وليحرم أحدكم في إزار ورداء ونعلين، فإن لم يجد نعلين فليلبس خفين (أ) وليقطعهما حتى يكونا إلى الكعبين". فإذا حمل الكعبان في هذا الحديث على كعب الشراك، (وفي الحديث الأول على الكعب الناشز أمكن الجمع بينهما بأن القطع يكون تحت الكعب الناشز إلى كعب الشراك). والحديث فيه دلالة على وجوب القطع، وهو قول الجمهور خلافًا لأحمد وعطاء فقالوا: يلبسه من دون قطع. واحتجا بحديث ابن عباس: "ومن لم يجد نعلين فليلبس خفين" (¬1) ويجاب عنه بأن هذا مطلق، وهو مقيد بحديث ابن عمر (¬2)، وأجاب الحنابلة بأن حديث ابن عباس ناسخ، وقد روى الدارقطني عن عمرو بن دينار (¬3) , وقد روى الحديثين وقال: ¬

_ (أ) هـ: (خف) بالإفراد.

انظروا أي الحديثين قبل، ثم حكى الدارقطني عن أبي بكر النيسابوري أنه قال: حديث ابن عمر قبل؛ لأنه كان بالمدينة قبل الإحرام، وحديث ابن عباس بعرفات. وأجاب الشافعي عن هذا في الأم فقال: كلاهما صادق حافظ وزيادة ابن عمر لا تخالف ابن عباس لاحتمال أن تكون غربت عنه أوشك أو قالها ولم ينقلها عنه بعض رواته (1)، انتهى وقال ابن الجوزي (2) بالترجيح بين الحديثين فقال حديث ابن عمر اختلف في وقفه ورفعه، وحديث ابن عباس لم يختلف في رفعه، انتهى. ورد عليه بأن حديث ابن عمر لم يختلف عليه فيه في الأمر بالقطع إلا في رواية شاذة وحديث ابن عباس اختلف في رفعه ووقفه فرواه ابن أبي شيبة بإسناد صحيح عن سعيد بن جبير عن ابن عباس موقوفًا، ولا يرتاب أحد من المحدثين أن حديث ابن عمر أصح من حديث ابن عباس لأن حديث ابن عمر جاء بإسناد وصف بكونه أصح الأسانيد (أ) واتفق عليه عن ابن عمر غير واحد من الحفاظ منهم نافع وسالم بخلاف حديث ابن عباس فلم يأت مرفوعًا إلا من رواية جابر بن زيد عنه حتى قال الأصيلي (¬3): إنه شيخٌ بصريّ لا يُعرف، كذا قال، وهو معروف موصوف عند الأئمة بالفقه، واحتج عطاء بأن القطع فساد، والله لا يحب الفساد، ويجاب عنه بأن ذلك لتحصيل عبادة فلا فساد فيه. وأقول إنه يتنزل الخلاف في ذلك على الخلاف في بناء العام على الخاص، فعلى أصل الشافعي ومن تبعه في بناء العام على الخاص مطلقًا، وكذا المطلق والقيد، العمل ها هنا على القيد، وهو الأمر بالقطع، وعلى ¬

_ (أ) زاد جـ هنا: (والله أعلم).

قول غيره من أن العام المتأخر ناسخ، وكذا المطلق يحتاج إلى النظر في أيهما المتقدم، ومع جهل التاريخ يحتاج إلى الترجيح وقد عرفت أن خبر ابن عباس متأخر فيلزم العمل به وأنه يجوز اللبس من دون قطع، وكذا في حديث ابن عباس: "من لم يجد إزارًا ووجد سراويل فليلبسها" (¬1). ومذهب أحمد في الخفين والسراويل جميعًا، وهذا في حق الرجل لا المرأة، ثم اختلف العلماء في لابس الخفين لعدم النعلين هل عليه فدية أم لا؟ فقال مالك والشافعي ومن وافقهما: لا شيء عليه؛ لأنه لو وجب فدية لبينها - صلى الله عليه وسلم - وقال أبو حنيفة وأصحابه: عليه الفدية كما إذا احتاج إلى حلق الرأس فحلقه، وكذا عند الهادوية إلا أن ظاهر عباراتهم أنه يجب عليه القطع حتى لا يكون محيطًا بالرجل ويصير مثل النعل، وإذا بلغ إلى هذا القدر فلا دم عندهم، وإلا وجب الدم، ويكرر بتكرر النزع له من القدم. وقوله "ولا تلبسوا شيئًا من الثياب مسه الزعفران والورس" قيل عدل عن طريقة ما تقدم ليشير إلى اشتراك الرجال والنساء في ذلك وهو بعيد، بل الظاهر إنما هو الإشارة إلى أن ما مسه الورس والزعفران لا يجوز لبسه سواء كان مما يعتاد لبسه أو لا، والورس (¬2) بفتح الواو وسكون الراء بعدها مهملة نبت أصفر طيب الرائحة يصبغ به، وقال ابن العربي: ليس هو بطيب ولكن شبه الطيب إلا أنه نبه به على أنه يجب اجتناب الطيب وما أشبهه مما هو طيب الرائحة ويدل ذلك على تحريم لبس ما صبغ به سواء كان الصبغ في جميع الملبوس أو بعضه، وسواء بقي له أثر الرائحة أو لا، وقال مالك في الموطأ: يكره لبس المصبوغات لأنها تنقض، وظاهر هذا ¬

_ (¬1) الطبراني بلفظه 12: 179، وهو عند البخاري بنحوه 4: 58 ح 1843. (¬2) لسان العرب (و. ر. س) 6: 4812 (ط. المعارف، مصر).

إنما هو لأجل الزينة وإن لم يكن ثم رائحة. وقال الشافعي: إذا أصاب الثوب بحيث لو أصابه الماء لم تفح له رائحة جالسة لبسه. فجعل العلة في ذلك الرائحة، ويحتج بحديث ابن عباس أخرجه البخاري قال: "انطلق النبي - صلى الله عليه وسلم - من المدينة بعد ما ترجل وادهن ولبس إزاره ورداءه هو وأصحابه فلم ينه عن شيء من الأردية والأزر تلبس إلا المزعفرة التي (أ) تردع على الجلد" (¬1) والردع بالراء المهملة والعين المهملة أيضًا هو أثر (ب) الطيب الذي يلزق. يظهر أن العلة هو الطيب كالزينة، وبقول الشافعي قال الجمهور مع أنه قد روي في حديث ابن عمر ما يدل على ذلك وهو في رواية أبي معاوية عن عبيد الله بن عمر عن نافع في هذا الحديث زيادة: "إلا أن يكون غسيلا" أخرجه يحيى بن عبد الحميد الحماني في "مسنده" (¬2) عنه، وقد روى الطحاوي أن يحيى بن معين أنكره على الحماني فقال له عبد الرحمن بن صالح الأزدي قد كتبته عن أبي معاوية وقام في الحال، فأخرج له أصله فكتبه عنه يحيى بن معين، انتهى (¬3). وهي رواية شاذة لأن أبا معاوية وإن كان متقنًا لكن في حديثه عن غير الأعمش مقال، قال أحمد: أبو معاوية مضطرب الحديث في عبيد الله، ولم يجيء بهذه الرواية غيره، انتهى. والحماني ضعيف، وعبد الرحمن الذي تابعه فيه مقال، واستنبطت الشافعية من ذلك منع أكل الطعام الذي فيه الزعفران، وعن المالكية ¬

_ (أ) جـ: (الذي). (ب) جـ: (هو من الطيب).

خلاف في ذلك، وقالت الحنفية: لا يحرم لأن المراد من اللبس إنما هو التطيب، والآكل لا يعد متطيبًا، وفي البحر ما لفظه: ومن المحظورات التطيب إجماعًا لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "ما مسه ورس ... " الخبر. ولبس المبخر والمطيب والجلوس عليه لا بحائل مانع عن وصول الطيب جسمه إذ هو كالتطيب، فإن انقطع ريح الطيب فالمكث حتى لا (أ) يظهر بحال لي يضر التماسه إذ المحرم الريح، ولا يجوز الاحتقان بالطيب ولا جعله في مأكول أو مشروب ما لم يستحل. أبو حنيفة: لا فدية إذ استحال بالطبخ، قلنا العبرة بالريح أحد أقوال الشافعي، وبالجرم، ولا وجه له. مسألة: وما يتخذ منه الذرور كالصندل والمسك يحرم التماسه إجماعًا. إذ نص على الورس والزعفران، وهذه أبلغ، وما لا يتخذ منه ولا ينبت الطيب كالخزامي والمرزنجوش والنرجس لم يحرم الهادي وأبو حنيفة والشافعي، وكذا الفواكه كالتفاح، ابن عمر والهادوية والشافعي وما ينبت ولا ذرور منه كالريحان والمنثور حرم شمه إذ هو طيب، عثمان والناصر وأبو حنيفة يجوز إذ لا ذرور منه كالعرار، قلنا اتخذ للطيب فهو كالورد، ومذهب الهادوية والإمام يحيى: لكن لا فدية لشبهه بالفاكهة، أحد قولي الشافعي تجب، وفي البنفسج قولان: يحرم، إذ هو طيب أحد قولي الشافعي لا إذ يجفف للدواء، قلنا: اتخذ منه الذرور فأشبه الورد، الإِمام يحيى ومذهب الهادوية وأبو حنيفة، وأما الحناء فطيب فلا يشم ولا يختضب به لقوله - صلى الله عليه وسلم -: ("الحناء طيب ... " الخبر، فمن فعل فذا. الشافعي: ليس بطيب إذ اختضبت به (ب) أزواجه - صلى الله عليه وسلم - محرمات (¬1)، ¬

_ (أ) جـ: (لم). (ب) هـ: (اخبضبت به).

قلنا بعد التحلل بالرمي، سلمنا فلم يؤثر تقريره إياهن فلا حجة فيه. مسألة: ولا فدية ولا إثم على مَنْ اتجر في الطيب أو حمل مسكًا في قارورة مختومة أو نافحة لا مكشوفة أو في طرف ثوبه أو عمامته فيلزم وله التماس الركن مطيبًا والدنو من الكعبة حال تجميرها إذ لم يلتمس الطيب بل غيره، والنهي متعلق بالالتماس. مسألة: وله لبس المصبوغ إلا بالعصفر والفوه ونحوهما إذ هو طيب. هذه عبارته، وقد صوب عليه، وله لبس المصبوغ إلا ما هو طيب كالمورس والمزعفر. ثم قال أبو طالب: ولا فدية في المعصفر إذ ليس بطيب، أبو حنيفة: إن نقض لزمت إذ يشبه المورس (أ). الشافعي: يجوز لبسه إذ ليس بطيب، الإِمام يحيى: يكره فقط إذ رخص للمحرمات في لبسه. مسألة: أبو العباس والمرتضى والحسن بن صالح وله الادهان بما لا طيب فيه إذا ادهن - صلى الله عليه وسلم - بغير معْتٍ. أبو حنيفة: فيه ترطيب للجسم وجمال فيفدي، أبو يوسف ومحمد: أو صدقة إن لم يطيب، الشافعي: إن دهن الوجه والرأس فدى إذ هو كالغطاء وفي غيرهما لا شيء، الثوري: إن كان مطبوخًا فدى أو بالطبخ يزول الريح (ب) الكريهة. لنا ما مر، وله الاكتحال بما لا زينة فيه كالصبر لرواية عثمان عنه - صلى الله عليه وسلم -، وفعل ابن عمر، لا ما فيه زينة كالأسود إلا لعذر، الإِمام يحيى فيفدي وفيه نظر، انتهى. وجه النظر أن الكحل الذي لا طيب فيه لا يوجب الفدية. قال العلماء: ¬

_ (أ) بحاشية الأصل، وجـ هنا: (وفي شرح مسلم: وحرمه الثوري وأبو حنيفة وجعلاه طيبا فأوجبا فيه الفدية). (ب) جـ: (الرائحة).

والحكمة في تحريم اللباس المذكور على المحرم ولباسه الإزار والرداء أن يبعد عن الترفه ويتصف بصفة الخاشع الذليل، وليتذكر أنه محرم في كل وقت فيكون أقرب إلى كثرة أذكاره وأبلغ في مراقبته وصيانته واقتناعه عن ارتكاب المحظورات، وليتذكر به الموت ولباس الأكفان وليتذكر البعث يوم القيامة حفاة عراة مهطعين إلى الداعي، والحكمة في تحريم الطيب والنساء أن يبعد عن الترفه وزينة الدنيا والتلذذ، ويتجمع همه لمقاصد الآخرة، والله سبحانه أعلم. 567 - وعن عائشة - رضي الله عنها - قالت: "كنت أطيب النبي - صلى الله عليه وسلم - لإِحرامه قبل أن يحرم، ولحله قبل أن يطوف بالبيت" متفق عليه (¬1). قولها "كنت أطيب" وقع في رواية عروة عنها التصريح بأن ذلك في حجة الوداع. أخرجه البخاري في باب اللباس، وهذا يقتضي أنه وقع مرة واحدة فكان في مثل هذا الموقع لا يدل على التكرار، وتعقب بأن المدعى تكراره هو الطيب لا الإحرام، ولا مانع من تكرر (أ) الطيب وهو بعيد. وقال النووي: المختار أنها لا تقتضي تكرارًا ولا استمرارًا، وكذا قال الفخر الرازي، وقال ابن الحاجب: إنها تقتضي التكرار، وقال جماعة من المحققين إنها تقتضي التكرار ظاهرًا وقد تدل قرينة على عدمه فاستعمل هنا مجازًا في عدم التكرار دلالة على كثرة ما فعلت من الطيب حتى صار كأنه أشبه من طيب مرة بعد أخرى لما رأت من استحبابه لذلك، مع أنها ¬

_ (أ) هـ، جـ: (تكرار).

قد سقطت في طريق سفيان بن عيينة عن عبد الرحمن بن القاسم شيخ مالك ووقعت بلفظ: "طيبت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -" (¬1). وقولها "لإِحرامه قبل أن يحرم" هذا لفظ البخاري، ولفظ مسلم "لحُرْمِه" (¬2) بضم الحاء وكسرها بمعنى إحرامه، فيه دلالة على استحباب التطيب عند إرادة الإحرام وجواز استدامته بعد الإحرام وأنه لا يضر بقاء لونه ورائحته وإنما يحرم ابتداؤه في الإحرام، وقد ذهب إلى هذا خلائق من الصحابة والتابعين وجماهير الفقهاء والمحدثين، فمن الصحابة: سعد بن أبي وقاص وابن عباس وابن الزبير وعائشة وأم حبيبة، والحنفية والشافعية إلا محمَّد بن الحسن والثوري وأحمد وداود وغيرهم، وذهب جماعة إلى منع ذلك منهم: الزهري وابن عمر ومالك ومحمد بن الحسن والهادي والقاسم والناصر والمؤيد وبعض أصحاب الشافعي، وتأولوا حديث عائشة بأنه اغتسل قبل إحرامه فأحرم ولم يبق فيه أثر الطيب، واحتجوا على ذلك بأنه قد وقع في رواية أخرجها البخاري في الغسل: "ثم طاف على نسائه ثم أصبح محرمًا" (¬3)، فإن المراد بالطواف الجماع، وكان من عادته أن يغتسل عند كل واحدة، ومن ضرورة ذلك أن (أ) لا يبقي للطيب أثر، وهو مردود فإنه قد وقع في لفظ النسائي: "حين أراد أن يحرم" (¬4) ولمسلم نحوه (¬5)، وفي رواية للبخاري في تمام الرواية: "ثم أصبح محرمًا ينضح ¬

_ (أ) جـ: (أنه).

طيبًا" (¬1) روي بالحاء المهملة والخاء المعجمة، والمعنى متقارب، وبالحاء المهملة أبلغ، وفي رواية عند مسلم: "إذا أراد أن يحرم يتطيب بأطيب ما يجد ثم أراه في رأسه ولحيته بعد ذلك" (¬2)، وللنسائي وابن حبان: "رأيت الطيب في مفرقه بعد ثلاث وهو محرم" (¬3) وقول بعضهم إنه بقي الأثر من غير رائحة مردود بقوله: "ينضح طيبًا" مع أنه في حديث عائشة: "كنا ننضح وجوهنا بالطيب المسك قبل أن نحرم فنعرق فيسيل على وجوهنا ونحن مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلا ينهانا" ولا يُقَالُ هذا خاص بالنساء، لأن الرجال والنساء في الطيب سواء بالإجماع، ورواية (أ) الأوزاعي عن عائشة: "بطيب لا يشبه طيبكم" يراد به المبالغة في قوة رائحته لا (ب) أنه لا رائحة له، تدل عليه سائر الروايات عنها، والتصريح بأنه مسك، وقد وقع في لفظ متفق عليه: "بأطيب ما أجد" وللطحاوي من حديثها "بالغالية". ويجمع بين الروايات بأن الغالية للدهن والطيب. ولعلها كررت ذلك ففعلت بالغالية للادهان ثم بعد ذلك بالمسك ونحوه، أو أنها جمعت ذلك وكان طيبًا ودهنًا. وقال المهلب: إن هذا من خصائص النبي - صلى الله عليه وسلم - لأن الطيب من ¬

_ (أ) هـ: (وفي رواية). (ب) جـ: (إلا).

دواعي النكاح فنهى الناس عنه فكان هو أملك الناس لإربه ففعله، ورجحه ابن العربي لكثرة ما ثبت له من الخصائص في النكاح، وقال المهلب: وجه الخصوصية لمباشرته الملائكة لأجل الوحي. ويرد عليه بأن الخصوصية لا تثبت إلا بدليل، وقد عرفت حديث عائشة، فهو أيضًا نافٍ للخصوصية. وأخرج سعيد بن منصور بإسناد صحيح عنها أيضًا (أ) قالت: "طيبت أبي لإحرامه بالمسك حين أحرم" (¬1). وبعض المالكية اعتذر بأن عمل أهل المدينة على منع المحرم الطيب ولو ببقاء الأثر من قبل الإحرام، ورد عليه بما رواه النسائي من طريق أبي بكر ابن عبد الرحمن بن الحارث وسالم وعبد الله ابنا عبد الله وأبي بكر بن هشام أَنَّ سليمان بن عبد الملك لما حج جمع ناسًا من أهل العلم منهم القاسم بن محمَّد وخارجة بن زيد وسالم وعبد الله ابنا عبد الله بن عمر، وعمر بن عبد العزيز وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث فسألهم عن الطيب قبل الإفاضة فكلهم أمره به، فهؤلاء فقهاء أهل المدينة من التابعين فقد اتفقوا على ذلك، فكيف يدعى مع ذلك العمل على خلافه؟ وقولها: "ولحله قبل أن يطوف بالبيت" المراد لحله الإحلال الكامل الذي يحل به كل محظور وهو طواف الزيارة، وقد كان حل بعض الإحلال وهو بالرمي الذي يحل به الطيب وغيره، ولا يمنع بعده إلا من النساء وظاهر هذه العبارة أنه قد كان فعل الرمي والحلق وبقي الطواف وهذا متفق عليه سواء كان الحلق نسكًا أو تحليل محظور، وإنما الخلاف لو قدم الحلق قبل ¬

_ (أ) سقط من: جـ.

أن يرمي، فظاهر قول المؤيد بالله أنه قد حل به ويحل بعده الطيب (أ) وإن لم يرم، وهو يقول: إن الحلق نسك ويحل عنده بأنهما فعل. وذكر المصنف (¬1) -رحمه الله تعالى- في فتح الباري عن الجمهور وهو الصحيح عن مذهب الشافعية أنه لا يحل الطيب إلا بعد مجموع الرمي والحلق بناء على أنهما نسك. وقال النووي في شرح المهذب: المذهب أن الشافعي يقول إن الحلق ليس بنسك، وقال عن ابن المنذر: إنه لم يقل به إلا الشافعي، وهو مروي عن الهادي والقاسم، ورواية عن أحمد أيضًا. 568 - وعن عثمان بن عفان - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا ينكح المحرم ولا يُنكح ولا يخطب" رواه مسلم (¬2). قوله "لا ينكح" يعني هو في نفسه، "ولا ينكح" أي ينكح. غيره بأن يعقد له. الحديث فيه دلالة على تحريم ذلك على المحرم، والمراد به العقد، وقد ذهب إلى هذا الجمهور من العلماء ومنهم مالك والشافعي وأحمد وقالوا إنه لا يصح من المحرم أن يعقد لنفسه وأن يعقد لغيره، وقال أبو حنيفة والكوفيون إنه يصح من المحرم أن يعقد، قالوا: لقصة نكاحه - صلى الله عليه وسلم - ¬

_ (أ) جـ: (ويحل بعد له الطيب).

لميمونة بنت الحارث كما في رواية ابن عباس (¬1) أنه نكحها وهو محرم في عام القضية فإنه - صلى الله عليه وسلم - خرج من المدينة في شهر القعدة سنة سبع، وبعث جعفر بن أبي طالب بين يديه إلى ميمونة بنت الحارث ليخطبها له فجعلت أمرها إلى العباس وكانت أختها أم الفضل تحته، وأراد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يبني بها بمكة بعد عام أعمال العمرة بعد أن مضت الثلاثة الأيام التي وقع الصلح على إقامته فيها، فمنعه المشركون من ذلك، فخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من مكة حتى نزل بطن سَرِف -بفتح السين المهملة وكسر الراء المهملة- فأقام بها، وخلف أبا رافع ليحمل ميمونة إليه حين يمسي، وأقام حتى قدمت ميمونة ومن معها وقد لقوا أذى وعناء من سفهاء مكة وصبيانها فبنى بها ثم أدلج وسار حتى قدم المدينة. وأجاب الجمهور عن ذلك بأجوبة أصحها: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما تزوجها حلالًا، هكذا رواه الصحابة. قال القاضي عياض (¬2) وغيره: لم يرو أنه تزوجها محرمًا إلا ابن عباس وحده، حتى قال سعيد بن المسيب ذهل ابن عباس وإن كانت خالته، ما تزوجها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا بعد ما حل. ذكره البخاري (¬3)، وكذا روى يزيد بن الأصم عن ميمونة نفسها، وكذا أبو رافع مع أنه السفير بينهما، أو أنه تزوجها في الحرم وهو حلال، أو أنه تزوجها في شهر الحرام وهي لغة شائعة معروفة، كما قال الشاعر: قتلوا ابن عفان الخليفة محرمًا ... ورعًا فلم أر مثله مقتولًا ¬

_ (¬1) البخاري النكاح، باب نكاح المحرم، 9: 165 ح 5114، ومسلم النكاح، باب تحريم نكاح المحرم وكراهة خطبته 2: 1031 ح 46 - 1410. (¬2) شرح مسلم 2: 566. (¬3) الفتح 9: 167.

أي في حرم المدينة، أو في الشهر الحرام، أو أنه كان خاصًّا في حقه أن يتزوج وهو محرم، وهو جواب جماعة من الصحابة، وأصح الوجهَيْن عند أصحاب الشافعي. وإن فرض وقوع ذلك وهو محرم، فقد تعارض القول والفعل، والقول أرجح عند التعارض، ولا يصح أن يحمل على الوطء إذ عطف قوله "ولا ينكح" يبعده عن ذلك، وقوله "ولا ينكح" يعني لا يزوج غيره بولاية ولا وكالة. قال العلماء: سببه أنه لما منع من مدة الإحرام من العقد لنفسه صار كالمرأة فلا يعقد لنفسه ولا لغيره، وظاهر هذا العموم أنه لا فرق بين أن يزوج بولاية خاصة كالأب وغيره أو بولاية عامة كالسلطان والقاضي ونائبه، وهذا هو الصحيح عند الهادوية والشافعية، وقال بعض أصحاب الشافعي والإمام يحيى: يجوز أن يزوج المحرم بالولاية العامة لأنها يستفاد بها ما لا يستفاد بالخاصة، قالوا كما يجوز للمسلم بالولاية العامة أن يزوج الذمية دون الخاصة، وقد وافقهم في المقيس عليه أبو العباس على أصل الهادي، فلو زوج المحرم أو تزوج كان العقد باطلًا، إن كان على خلاف مذهبه، وكان عالمًا بالتحريم، وإن كان جاهلًا كان فاسدًا (¬1)، ولذلك أحكام مفصلة في فروع الفقه، وقوله "ولا يخطب" النهي للتنزيه لا للتحريم، والظاهر أنه إجماع وكذا تكره الشهادة على عقد النكاح. وقال بعض أصحاب الشافعي: لا ينعقد النكاح بشهادة المحرم لأن الشاهد ركن في عقد النكاح كالولي، والصحيح الذي عليه الجمهور انعقاده إذ لا دليل على ذلك (¬2)، والله أعلم. 569 - وعن أبي قتادة الأنصاري في قصة صيد الحمار الوحشي وهو ¬

_ (¬1) بناء على التفريق بين الفاسد والباطل. (¬2) شرح مسلم 2: 567.

غير مُحْرم قال: فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه وكانوا محرمِين: "هل منكم (أ) أحدٌ أمره أو أشار إِليه بشيء؟ قالوا: لا، قال فكلوا ما بقى من لحمه" متفق عليه (¬1). قوله "وهو غير محرم" يقال كيف جاز له عدم الإحرام، وقد جاوز الميقات؟ وأجيب عنه بأن المواقيت لم تكن وقتت، وقيل: لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعث أبا قتادة ورفقته لكشف عدو لهم بجهة الساحل، وقيل: إنه خرج (ب) معهم ولكنه لم ينو حجًّا ولا عمرة، وهو بعيد، وقيل: لأنه لم يكن خرج مع النبي - صلى الله عليه وسلم - من المدينة بل بعثه أهل الدينة بعد ذلك إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ليعلمه أن بعض العرب يقصدون الإغارة على المدينة (¬2)، وقوله "هل منكم أحد ... " إلخ. فيه دلالة على أنه يجوز للمحرم أن يأكل من لحم الصيد إذا لم يكن من المحرم إعانة على قتله، وهذا مذهب الشافعي وأحمد ومالك وداود، والحديث صريح في ذلك، وذهب الهادوية وغيرهم إلى أنه يحرم على المحرم أكل لحم (جـ) الصيد، وإن لم يكن منه إعانة، وقد حكاه القاضي عياض عن علي وابن عمر وابن عباس -رضي الله عنهم- قالوا لقوله تعالى: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} (¬3) والمراد بالصيد المصيد. وأجاب الأولون عن ذلك بأن (د) المراد بالصيد الاصطياد، والحديث ¬

_ (أ) جـ: (منكم من). (ب) هـ: (يخرج). (جـ) سقط (لحم) من جـ. (د) جـ: (أن).

مبين لهذا المراد، وفي سنن أبي داود والترمذي والنسائي عن جابر بن عبد الله أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "صيد البر لكم حلال ما لم تصيدوه أو يصاد لكم" (¬1) وهذا يدل دلالة صريحة على صحة التأويل، ونص في المذهب واستقوى الإِمام المهدي في البحر ما ذهب إليه الشافعي وشرطه بصحة الحديث، وألحق الشافعي بذلك (أ) في التحريم ما صيد لأجله ويحتج له بحديث جابر المذكور، وقال أبو حنيفة: لا يحرم عليه ما صيد له بغير إعانة منه، وقول عمر ابن الخطاب والزبير بن العوام أنه يجوز أكله للمحرم على الإطلاق إذا كان الصائد حلالًا، ولم يذكر المصنف (¬2) -رحمه الله تعالى- هنا الرواية التي فيها قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "هل معكم من لحمه شيء" وفي رواية أخرى: "هل معكم منه شيء؟ قالوا معنا رجله، فأخذها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأكلها", لأنه لم يتفق عليها الشيخان، واقتصر على القدر الذي وقع عليه الاتفاق، والله أعلم. 570 - وعن الصعب بن جثامة الليثي - رضي الله عنه -: "أنه أهدى لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - حمارًا وحشيًّا وهو بالأبواء أو بوَدّان فرده عليه، وقال: إِنا لم نرده عليك إِلا أنا حرم" متفق عليه (¬3). الصعب بالصاد والعين المهملتين ابن جثامة بفتح الجيم والثاء المثلثة، ¬

_ (أ) زاد في جـ: (... بذلك أي باصطياد المحرم في التحريم ...).

كان ينزل ودان والأبواء من أرض الحجاز، حديثه في الحجازيين (¬1). روى عنه عبد الله بن عباس وشريح بن عبيد الله الحضرمي، مات في خلافة أبي بكر الصديق. قوله "أهدى لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - حمارًا وحشيًّا" (¬2)، وفي رواية: "حمار وحشٍ يقطر دمًا" (¬3)، وفي رواية: "من لحم حمار وحشٍ" (¬4)، وفي رواية "عجز حمار وحش" (¬5) وفي رواية "عضوًا من لحم صيد" (¬6) هذه روايات مسلم، وترجم له البخاري باب إذا أهدى للمحرم حمارًا وحشيًّا لم يقبل (¬7)، وروايات مسلم صريحة في أنه مذبوح، وأنه أهدي بعض لحم صيد لأكله. وقوله "فرده عليه وقال: إِنا لم نرده" قال القاضي عياض (¬8): رواه المحدثون بفتح الدال، وأنكره محققو شيوخنا أهل العربية، وقالوا هذا غلط وصوابه بضم الدال، ووجدته بخط بعض الأشياخ بضم الدال، وهو الصواب في تحريك الساكنين عند سيبويه فيما كان بعده ضمير الغائب الموصول بالواو على الأفصح، وتحريك الساكن بالكسر في مثله لغة ضعيفة، حكاها الأخفش عن بني عقيل، وغلط ثعلب في جواب الفتح، وأما إذا اتصل به ضمير المؤنث في نحو ردها فالفتح لازم بالاتفاق. ¬

_ (¬1) أسد الغابة 3: 20، الإصابة 2: 184 - 185. (¬2) مسلم الحج، باب تحريم الصيد للمحرم 2: 850 ح 50 - 1193. (¬3) مسلم (السابق) 2: 851 ح 54 - 1994. (¬4) مسلم (السابق) 2: 851 ح 52 - 1994. (¬5) مسلم (السابق) 2: 851 ح 54 - 1994. (¬6) مسلم (السابق) 2: 851 ح 55 - 1994. (¬7) حديث الباب. (¬8) شرح مسلم 2: 274.

وقوله "إِلا أنا حُرُم" هو بفتح الهمزة في "أنا حرم" وحرم بضم الحاء والراء أي: محرمون. والحديث فيه دلاله على أن المحرم لا يحل له أكل الصيد، وظاهره مطلقًا لأنه علله بكونه محرمًا، وأجاب عنه من جوز ذلك -كما تقدم- بأنه صاده لأجل النبي - صلى الله عليه وسلم - لحديث جابر، وفي ذلك جمع بين الأحاديث، وفي الحديث دلالة على أنه ينبغي قبول الهدية وإبانة المانع من قبولها إذا كان تطيبًا لقلب المهدي. واعلم أنه وقع الخلاف في الروايات كما عرفت في كون المُهْدَي لحمًا أو حمارًا حيًّا، وفي تعيين ذلك اللحم حتى قال البيهقي (¬1) في رواية: "عجز حمار، وهو بالجحفة فأكل منه": "هذا إسناد صحيح فإن كان محفوظًا فكأنه رد الحي وقبل اللحم"، وقال الشافعي (¬2): فإن كان الصعب أهدى للنبي - صلى الله عليه وسلم - الحمار حيًّا فليس للمحرم ذبح حمار وحشي، وإن كان أهدى لحم الحمار فقد يحتمل أن يكون علم أنه صيد له فرده عليه وإيضاحه في حديث جابر وحديث مالك: "أنه أهدى له حمارًا" أثبت من حديث: "أنه أهدى له من لحم حمار" وقد اعترض ابن القيم على رواية: "فأكل منه" وهي شاذة منكرة، واستقوى رواية من روى: "لحما" لأن راويها حقق بقوله: "يقطر دمًا" ولأنها لا تنافي رواية من روى: "حمارًا" لأنه قد سمى الجُزء باسم الكل وهو شائع في اللغة، ولأن الروايات اتفقت على أنه بعض من أبعاض الحمار، وإنما وقع الاختلاف في ذلك البعض ولا تناقض بينهما، فإنه يمكن أن يكون المهدي الشق الذي فيه العجز الذي فيه رجل مع أنه قد رجع ابن عُيينة عن ¬

_ (¬1) سنن البيهقي 5: 193. (¬2) سنن البيهقي 5: 193.

قوله: "حمار" إلى قوله: "لحم حمار" وثبت عليه إلى أن مات ثم اعلم أن قصة أبي قتادة كانت في عام الحديبية سنة ست، وقصة الصعب قد ذكر غير واحد أنها كانت في حجة الوداع منهم المحب الطبري في كتاب "حجة الوداع" له وغيره، وهذا محل نظر، والله أعلم. وكذا في قصة الظبي الحاقف وحمار الفهري هل كان في حجة الوداع؟ (أ) أو في بعض عمره، وقد وهم الطبري فجعل قصة أبي قتادة في حجة الوداع (أ). وقد وقع التصريح في الصحيحَيْن من حديث عبد الله بن أبي قتادة عن أبيه قال: "انطلقنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - عام الحديبية (¬1) فأحرم أصحابه ولم أحرم" فذكر قصة الحمار الوحشي، والله أعلم. 571 - وعن عائشة - رضي الله عنها - قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "خمس من الدواب كلهن فواسق يُقْتَلْنَ في الحرم: الغراب والحِدَأة والعقرب والفأرة والكلب العقور" متفق عليه (¬2). قوله "خمس" وقع في هذه الرواية ذكر الخمس، وفي رواية للبخاري عن ابن عمر قال حدثتني إحدى نسوة النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أنه كان يأمر بقتل الكلب" فذكر الخمس هذه وزاد: "الحية"، وزاد: "في الصلاة (¬3) أيضًا"، ذكر ذلك في كتاب الصلاة، وفي بعض طرق حديث ¬

_ (أ-أ) سقط في هـ، ي.

عائشة بلفظ: "أربع" أخرجها مسلم (¬1)، وأسقط العقرب، وفي بعضه الطرق بلفظ: "ست" أخرجها أبو عوانة في المستخرج فزاد: "الحية" (¬2) ووقع في حديث أبي سعيد عند أبي داود بزيادة "السبع العادي" (¬3) فصارت سبعًا، وفي حديث أبي هريرة عند ابن خُزَيمة وابن المنذر بزيادة ذكر الذئب والنمر (¬4) على الخمس الشهورة فيكون تسعًا إلَّا أنّ ابن خزيمة أفاد عن الذهلي أن ذكر الذئب والنمر من تفسير الكلب العقور، ووقع ذكر الذئب أيضًا في حديث مرسل أخرجه ابن أبي شيبة وسعيد بن منصور وأبو داود (¬5) من طريق سعيد بن المسيب عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "يقتل المحرم الحية والذئب" (¬6) ورجاله ثقات. وأخرج أحمد عن ابن عمر: "أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقتل الذئب للمحرم" (¬7) وفيه حجاج بن أرطأة (¬8)، وهو ضعيف وخالفه مسعر عن وبرة فرواه موقوفًا أخرجه ابن أبي شيبة (¬9)، فهذا ما ورد في الأحاديث المرفوعة ¬

_ (¬1) مسلم السابق 2: 856 ح 66 - 1198. (¬2) الفتح 4: 36. (¬3) أبو داود المناسك، باب ما يقتل المحرم من الدواب 2: 425 - 426 ح 1848. (¬4) الفتح 4: 36. (¬5) ابن أبي شيبة 4: 55. (¬6) المراسيل لأبي داود ص 146 ح 137، المصنف لابن أبي شيبة 4: 55، السنن الكبرى للبيهقي 5: 210، مصنف عبد الرزاق ح 8384. (¬7) أحمد 30:2. (¬8) حجاج بن أرطأة تقدم في ح. (¬9) رواه ابن أبي شيبة موقوفًا على عمر 4: 55.

زيادة على الخمس المشهورة (أ) [فذكْر الخمس يدل بمفهوم العدد أن غيرهن لا يقتل في الحرم، ولكنه إذا وجد ما هو أقوي منه عمل به، وترك العمل بالمفهوم، والأقوى هو ما زيد على ذلك في رواية "ست" ونحوها] (أ). والدوابّ بتشديد الباء الموحدة جمع دابة وهو ما دبَّ من الحيوان (¬1)، وظاهر هذا أن الطائر يطلق عليه اسم الدابة لذكره الغراب والحدأة، وهو مطابق لعموم قوله تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إلا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} (¬2)، وقوله تعالى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا} الآية (¬3)، وفي حديث أبي هريرة عند مسلم في صفة بدء الخلق: "وخلق الدواب يوم الخميس" (¬4) ولم يفرد الطير بذكر، وبعضهم أخرج من لفظ الدابة الطير لقوله تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} الآية (¬5)، وقد اختص في العرف العام، فأطلق الدابة على ذات القوائم الأربع، وقد يخصها بعض أهل العرف (ب) بالحمار، ومنهم من يخصها بالفرس. وفائدة ذلك تظهر في الحلف. وقوله: "كلهن فواسق"، وفي رواية: "كلهن فاسق" فالإفراد باعتبار لفظ كل والجمع باعتبار المعنى. والفسق في اللغة بمعنى الخروج، ¬

_ (أ، أ) ما بين المعكوفين كذا في هـ، جـ، ي، أما في الأصل فتأخرت هذه العبارة قبل قوله (وقوله كلهن فواسق ...) الآتي. (ب) هـ: العراق.

ومنه فسقت الرطبة إذا خرجت عن قشرها وقوله تعالى: {فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّه} (¬1) أي خرج، وسمي العاصي فاسقًا لخروجه عن طاعة ربه فهو خروج مخصوص، وزعم ابن الأعرابي أنه لا يعرف في كلام الجاهلية ولا شعرهم فاسق بالمعنى الشرعي، ووصفت الدواب المذكورة بالفسق، قيل لخروجها عن حكم غيرها من الحيوان في تحريم القتل، وقيل في حكم أكله لقوله تعالى: {أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} (¬2) وقوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} (¬3) وقيل لخروجها عن حكم غيرها بالإيذاء والإفساد وعدم الانتفاع، ومن ثم اختلف العلماء، فمن قال بالأول ألحق بالخمس كل ما جاز قتله للحلال وفي الحل، ومن قال بالثاني ألحق ما لا يؤكل إلا ما نهي عن قتله، ومن قال بالثالث خص الإلحاق بما حصل منه الإفساد والإيذاء، وهذا أرجح، يؤيده ما وقع في حديث أبي سعيد عند ابن ماجه: "قيل له لم قيل للفأرة فويسقة؟ فقال: لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - استيقظ بها وقد أخذت الفتيلة لتحرق بها البيت" (¬4) ففيه إشارة إلى أن وجه التسمية هو إيذاؤها وفعلها شبه فعل الفساق. وقوله: "يقتلن في الحرم" ويعلم من ذلك جواز القتل في الحل بالطريق الأولي، وقد وقع ذلك مصرحًا به عند مسلم بلفظ: "يقتلن في الحل والحرام (أ) " (¬5) ويعرف حكم الحلال بكونه ¬

_ (أ) هـ: (الحرم).

لم يقم به مانع وهو الإحرام، فهو بالجواز أولى، وظاهر قوله: "يقتلن" أن ذلك مستمر فيترجح الفعل فيه على الترك، وقد وقع في رواية بلفظ: "ليس على المحرم في قتلهن جناح" (¬1) وفي لفظ "لا حرج على من قتلهن" (¬2) كذا في البخاري، وفي لفظ عند (أ) مسلم "أمر" (¬3) كذا في حديث أبي رافع عند البزار "وأمر بقتل العقرب والحية والفأرة والحدأة للمحرم" وفي لفظ عند مسلم "أذن" وفي حديث أبي هريرة عند أبي داود وغيره "خمس قتلهن حلال للمحرم" (¬4) فلفظ نفي الجناح والحرج والإذن والحلال ولفظ يقتلن تدل كلها على الإباحة واستواء الفعل والترك، ولفظ "أمر" ظاهر في الوجوب، ولكنه قد يحمل على الإباحة لقرينة، والقرينة ورود الألفاظ الدالة على عدم الوجوب، وأيضًا فإن سياق القصة يدل على إباحة القتل للمحرم لا وجوبه. وقوله "في الحرم" بفتح الحاء والراء أرض حرم مكة -شرفها الله تعالى- وجوز بعضهم ضم الحاء والراء جمع حرام كما قال الله تعالى {وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} (¬5) والمراد بها المواضع، يدل على أنه يجوز قتل هذه المذكورات في الحرم للمحرم، وفي الحل بالطريق الأولى، وللمحرم أيضًا لرواية: "ليس على المحرم في قتلهن جناح" وغيره وهو من كان حلالًا بالطريق الأوْلَى. ¬

_ (أ) سقط من جـ: (عند).

وقوله "الغراب" وقع في هذه الطريق بذكر الغراب مطلقًا، وفي رواية ابن المسيب عن عائشة عند مسلم مقيدًا بالأبقع (¬1)، وهو الذي في ظهره أو بطنه بياض، وأخذ بهذا التقييد بعضُ أصحاب الحديث واختاره ابن خزيمة (¬2) وهو القاعدة في حمل المطلق على المقيد، وقد أعل ابن بطال هذه الزيادة بأنها من رواية قتادة عن سعيد وهو مدلس، وقد شذ بذلك، وأجيب عنه: بأن الراوي عن قتادة هو شعبة، وهو لا يروي عن شيوخه المدلسين إلا ما هو مسموع لهم، وقد صرح النسائي أيضًا عن شعبة بسماع قتادة (¬3)، وأما الشذوذ فهذه زيادة من الثقة الحافظ، وهي مقبولة، قال ابن قدامة: يلتحق بالأبقع ما شاركه في الإيذاء وتحريم الأكل (¬4). قال المصنف -رحمه الله تعالى-: وقد اتفق العلماء على إخراج الغراب الصغير الذي يأكل الحب، ويقال له غراب الزرع، ويقال له الزاغ، وأفتوا بجواز أكله فبقي ما عداه من الغربان ملتحقًا بالأبقع، انتهى (¬5). وعموم كلام القاسم الرسي يقضي بمثل هذا وإن كان ظاهر كلام المُؤَيَّد وأبي طالب أن غراب الزرع لا يحل أكله ومثل (أ) الأبقع العداف، قال ابن قدامة وهو غراب البين، والمعروف عند أهل اللغة أنه الأبقع، وقيل إنه سمي غراب البين لأنه بان عن نوح - عليه السلام - لما أرسله من السفينة ¬

_ (أ) هـ: (ومثله).

ليكشف خبر الأرض فلقي جيفة فوقع عليها ولم يرجع إلى نوح، وكان أهل الجاهلية يتشاءمون به، وكانوا إذا نعب مرتين قالوا آذن بشر، وإذا نعب ثلاثًا قالوا أذِنَ بخير، فأبطل الإِسلام ذلك، وكان ابن عباس إذا سمع الغراب قال: اللهم لا طير إلا طيرك ولا خير إلا خيرك ولا إله غيرك (¬1). ومن أنواع الغراب الأعصم، وهو الذي في رجليه أو جناحه أو بطنه بياض أو حمرة، وحكمه حكم الأبقع، وكذا العقعق وهو قدر الحمامة على شكل الغراب، قيل يسمى بذلك لأنه يعق فراخه فيتركها بلا طعم، والعرب تتشاءم به أيضًا، ووقع في فتاوى قاضي خان الحنفي: من خرج لسفرٍ فسمع صوت العقعق فرجع كَفَرَ. وحكمه حكم الأبقع على الصحيح، وقيل حكم غراب الزرع. وقال أحمد: إن أكل الجيف وإلا فلا بأس به (¬2). وقد روى أبو داود خلافًا عن عطاء أنه لا يحل للمحرم قتل الغراب (¬3) وقال إن أذاه المحرم فعليه الجزاء. قال الخطابي (¬4): لم يتابع أحد عطاء (أ) على هذا ويحتمل أن يكون مراده غراب الزرع، وظاهر إباحة القتل له وللحداء أنهما يقتلان، وإن لم يبتدئا بالأذى، ولا فرق بين كبارهما وصغارهما. وعند المالكية اختلاف ¬

_ (أ) جـ: (عطاء أحد) بالتقديم والتأخير.

في ذلك، والمشهور عندهم لا فرق وفاقًا للجمهور. وقوله "والحِدَأَة" بكسر الحاء المهملة وفتح الدال بعدهما همزة بعدها تاء التأنيث (أعلى وزن عنَبَة أ)، والحدا من دون تاء، وحكى صاحب المحكم المد فيه (¬1) من دون تأنيث، وحكى الأزهري فيها "حِدَوَة" بواو بدل الهمزة، وقد وقع في البخاري في باب بدء الخلق بلفظ "الحُدَيَّا" (¬2) بضم أوله وتشديد الياء التحتانية مقصورًا، وقيل إنه سُهِّل من الهمزة ثم أدغم، وقيل هي لغة حجازية، وغيرهم يقول حدية، وهي أخسّ الطير، وهي لا تضر لكن تخطف، ومن طبعها أنها لا تخطف إلا من يمين من تخطف منه دون شماله حتى قيل إنها عسراء، وأما الحدا (¬3) بفتح الحاء فهي الفأس التي لها رأسان. وقوله "والعقرب" هو يقال للذكر والأنثى، وقد يقال عقربة وعقرباء وهي أنواع منها الجرادة والطيارة وما له ذنب كالحربة ويعقد ومنها السود والخضر، وأكثر ما يكون ضررها إذا كانت حاملة، والعقارب القاتلة تكون بموضعين: شهر زور وعسكر مكرم، وَتَقْتل بلسعها مع صغرها، وناهيك بهذا فسقًا وليس منها العقربان بل هي دوبية طويلة كثيرة القوائم، قال صاحب المحكم: ويقال إن عين العقرب في ظهرها وأنها لا تضرب ميتًا ولا نائمًا حتى يتحرك، ويقال لدغته بالغين المعجمة ولسعته بالمهملتين، وقد تقدم اختلاف الرواة في ذكر الحية (¬4) بدلها ومن جمعهما، والذي يظهر ¬

_ (أ-أ) سقط في هـ.

أنه - صلى الله عليه وسلم - نبه بإحداهما عن الأخرى عند الاقتصار، وبين حكمهما معًا حيث جمع كذا قال المصنف (1) -رحمه الله تعالى- وهذا مستقيم إذا صح تعدد القصة، وأما إذا كان ذلك في قصة واحدة فهو غير مستقيم، والذي يظهر لي أنه وقع من النبي - صلى الله عليه وسلم - ذكرهما جميعًا فمن رواهما حكى القصة بعينها، ومن ذكر أحدهما فلعله اقتصر واستغنى بذكر إحداهما عن الأخرى للاتفاق في الحكم والأذى، أو لعل أحد الراويين نسى الجمع فاقتصر على ما ذكر. قال ابن المنذر: لا نعلمهم اختلفوا في جواز قتل العقرب. وقال نافع لما قيل له: فالحية قال: أنختلف فيها (أ) (2)؟ وفي رواية من يشك فيها. وتعقبه ابن عبد البر بما أخرجه ابن أبي شيبة من طريق شعبة أنه سأل الحكم وحمادًا فقالا: لا يقتل المحرم الحية ولا العقرب، قال: ومن حجتهما أنهما من هوام الأرض فيلزم من أباح قتلهما مثل ذلك في سائر الهوام، وعند المالكية اختلاف في قتل صغير الحية والعقرب التي لا تتمكن من الأذى. وقوله "والفأرة" بهمزة ساكنة، ويجوز فيها التسهيل، ولم يختلف العلماء في جواز قتلها للمحرم إلا ما حكي عن إبراهيم النخعي فإنه قال: فيها جزاء إذا قتلها المحرم، أخرجه ابن المنذر (¬3)، وقال هذا خلاف السنة، وخلاف قول جميع العلماء، ونقل عن المالكية مثل ما تقدم، والفأر ¬

_ (أ) هـ: (عنها).

أنواع منه: الجُرَذ والخُلْد وفأرة الإبل وفأرة المسك والغيط، والحكم فيها واحد، وقيل في تسمية الفأر بالفويسقة لأنها قطعت حبال السفينة على نوح - عليه السلام - (¬1). وقوله "والكلب العقور" المراد به كما هو الظاهر هو الكلب المعروف، والأنثى منه كلبة، وجمعه أكلب وكلاب، وقد تقدم فيه الكلام باعتبار نجاسته، وتقييده بالعقور يدل بمفهوم الصفة أنه لا يقتل غير العقور، وقد اختلف العلماء في غير العقور مما لم يبح (أ) اقتناؤه، فصرح بتحريم قتله القاضي حسين والماوردي وكذا الإِمام المهدي على ما يفهمه كلامه في البحر من اختياره للقول بأن الأمر بقتلها على الإطلاق منسوخ، ووقع في الأم للشافعي جواز قتلها واختلف كلام النووي في ذلك فقال في شرح المهذب في البيع لا خلاف بين أصحابنا في أنه محترم لا يجوز قتله، وقال في الغصب إنه غير محترم، وقال في الحج يكره قتله كراهة تنزيه. وقال الرافعي بهذا الأخير، وقال جمع من العلماء: إن المراد بالكلب العقور هنا غير الكلب المعروف فروى سعيد بن منصور عن أبي هريرة أنه قال: الكلب العقور الأسد (¬2)، وعن سفيان عن زيد بن أسلم أنهم سألوه عن الكلب العقور فقال: وأي كلب أعقر من الحية (¬3)، وقال سفيان: المراد بالكلب العقور هنا الذئب خاصة، وقال مالك في الوطأ (¬4): "كل ما عقر الناس وعدا عليهم وأخافهم مثل الأسد والنمر والفهد والذئب فهو ¬

_ (أ) زاد هـ: "نجاسته".

الكلب العقور". وكذا نقل أبو عبيد عن سفيان، وهو قول الجمهور، واحتج أبو عبيد لذلك بقوله - صلى الله عليه وسلم - "اللهم سلط عليه كلبًا من كلابك" فقتله الأسد، وهو حديث حسن أخرجه الحاكم من طريق أبي نوفل بن أبي عقرب عن أبيه، وبقوله تعالى: {مُكَلِّبِينَ} (¬1) فاشتقها من اسم الكلب مع أنه شامل لجميع جوارح الصيد. واعلم أنه قد استدل بهذا الحديث على أنه يقتل من لجأ إلى الحرم بعد قتله لغيره أو نحوه على ما هو مذهب الشافعي، وعلل ذلك بأن إباحة قتل هذه الأشياء في الحرم معلل بالعدوان فيعم الحكم لعموم العلة والقاتل عدوانًا فاسق بعدوانه فيقتل بل هو أولى لأنه مكلف وهذه الفواسق فسقها طبعي ولا تكليف عليها، والمكلف إذا ارتكب الفسق هاتك لحرمة نفسه، فهو أولى بإقامة مقتضى الفسق عليه، وسَوَّى الشافعي في ذلك من ارتكب ما يوجب القتل أو نحوه في الحرم أو كان لاجئًا إليه بعد أن ارتكب في غيره، وذهب أبو حنيفة وغيره إلى التفصيل وهو أنه إن كان الذي يقام هو القتل أو غيره، فإن كان القتل فإنه لا يقام عليه في الحرم بل يضيق عليه ولا يطعم حتى يخرج ثم يقام عليه خارجه، وما كان دون النفس أقيم عليه في الحرم مطلقًا، وذهبت الهادوية بل حكاه علي بن العباس (أ) عن أهل البيت الجميع وهو أنه إن لجأ إلى الحرم بعد أن ارتكب في خارجه ما يوجب حدًّا أو نحوه ترك ولا يطعم حتى يخرج، وإن ارتكب في داخل الحرم ما يوجب ذلك أخرج من الحرم وأقيم عليه خارجه، ولا فرق بين ¬

_ (أ) هـ، (حكاه عن ابن عباس).

النفس وغيرها، وهو مروي عن ابن عباس وعطاء والشعبي وحجتهم عموم قوله تعالى: {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} (¬1) والقياس الذي عُلِّل به مذهب الشافعي غير صحيح فإن الكلب العقور ونحوه من الخمس طبعه الأذى فلم يحرمه الحرم ليدفع أذاه عن أهله، وأما الأذى فالأصل فيه الحرمة، وحرمته عظيمة وإنما أبيح لعارض فأشبه الصائل من الحيوانات المباحة من المأكولات، فإن الحرم يعصمها، وأيضًا فإن حاجة أهل الحرم إلى قتل الكلب العقور ونحوه كحاجة أهل الحل سواء، فلو أعاذها المحرم لعظم الضرر عليهم بها وأيضًا فإن العائذ بالحرم الملتجئ إليه مُعَظّم لحرمته مستشعر بها النجاة، وهو بمنزلة التائب المتنصل المستجير برب البيت المتعلق بأستاره فلا يقاس عليه من ارتكب فيه المحظور فإنه منتهك لحرمته مُقْدِم على الجناية فيه يحتاج إلى إقامة الحدود عليه وإلا عم الفساد وعظم الشر في حرم الله سبحانه، فإن أهل الحرم كغيرهم في الحاجة إلى صيانة نفوسهم وأموالهم وأعراضهم فلو لم يشرع إقامة الحدود عليهم لتعطلت حدود الله، وعم الضرر للحرم وغيره. 572 - وعن ابن عباس - رضي الله عنه - "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - احتجم وهو محرم" متفق عليه (¬2). الحديث فيه دلالة على جواز الحجامة للمحرم، وقد أجمع العلماء على جوازها في الرأس وغيره إذا كان له عذر في ذلك، وإن قطع الشعر حينئذ لكن عليه الفدية لقلع الشعر، فإن (أ) لم يقطع فلا فدية، وهذا ¬

_ (أ) هـ: (وإنْ).

الحديث محمول على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان له عذر في الحجامة، أما إذا أراد المحرم الحجامة لغير حاجة فإدن تضمنت قطع شعر فهي حرام لتحريم قطع الشعر، وإن لم تتضمن ذلك فإن كانت في موضع لا شعر فيه فهي جائزة عند الجمهور ولا فدية فيها، وعن ابن عمر ومالك كراهتها، وعن الحسن البصري فيها الفدية، وقال الداودي إذا أمكن مسك المحاجم بغير حلق لم يجز الحَلْق، وكان احتجامه - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع كما جزم به الحازمي وغيره بموضع يسمى "لَحْي جمل" بفتح اللام وحكي كسرها، وبفتح الجيم والميم، ويروى بلحيي بالتثنية بين المدينة ومكة، قال البكري في معجمه (¬1) هي بئر جمل التي ورد ذكرها في حديث أبي جهم في التيمم، وقال غيره: هي عَقَبة الجحفة على سبعة أميال من السقياء. في وسط رأسه أي متوسطة وهي ما فوق اليَافوخ فيما بين أعلى القرنين. قال الليث: كانت هذه الحجامة في فأس الرأس. 573 - وعن كعب بن عجرة - رضي الله عنه - قال: "حملت إِلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والقمل يتناثر على وجهي، فقال: ما كنت أرى الوجعَ بلغ بك ما أرى، تجد شاة؟ قال: لا. قال: فصم ثلاثة أيام أو أطعم ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع" متفق عليه (¬2). هو أبو محمَّد: كعب بن عُجرة بضم العين المهملة وسكون الجيم وبالراء ابن أمية البلوي بفتح الباء الموحدة والسلام حليف بني سالم بن عوف ¬

_ (¬1) معجم ما استعجم 1153:4. (¬2) البخاري كتاب المحصر باب الإطعام في الفدية نصف صاع 4: 16 ح 1816، مسلم الحج، باب جواز حلق الرأس للمحرم إذا كان به أذى، ووجوب الفدية لحلقه وبيان قدرها 2: 862:861 ح 85 - 1201 م.

الأنصاري، وقيل حليف بني عمرو بن عوف، قال الواقدي: ليس حليفًا للأنصار، ولكنه من أنفسهم نزل الكوفة ومات بالمدينة سنة إحدي وخمسين، وقيل سنة اثنتين، وقيل ثلاث، وهو ابن خمس وسبعين، وقيل ابن تسع وسبعين (¬1). روى عنه ابن عباس وابن عمر وجابر وابن عمرو، وابن سلمة وسليمان بن يسار. قوله "حملت" كذا وقع في رواية عبد الله بن معقل، وفي رواية للبخاري "مر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالحديبية ورأسي يتهافت قملًا، فقال: أتؤذيك هوامك؟ قلتُ: نعم. قال: فاحلق رأسك ... " الحديث، وفيه فقال: فيّ نَزَلَت هذه الآية {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ ...} الآية (¬2) زاد في رواية أبي الزبير عن مجاهد عند الطبراني أنه لقيه وهو عند الشجرة وهو محرم، وفي رواية معمر عن مجاهد ذكرها البخاري في المغازي "أتى عليّ النبي - صلى الله عليه وسلم - وأنا أوقد تحت برمة والقمل يتناثر على رأسي" زاد في رواية ابن عون عن مجاهد أخرجه البخاري في الكفارات فقال: "ادن فدنوت، فقال: أتؤذيك؟ " (¬3) وفي رواية عن مجاهد فيه "كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالحديبية، ونحن محرمون وقد حصرنا المشركون، وكانت لي وفرة فجعلت الهوام تساقط على رأسي، فقال: أتؤذيك هوام رأسك؟ قلت: نعم. فأنزلت هذه الآية" (¬4)، وفي رواية أبي وائل عن كعب: "أحرمت فكثر قمل رأسي فبلغ ذلك للنبي - ¬

_ (¬1) أسد الغابة 4: 481: 482، الإصابة 3: 297: 298. (¬2) البخاري المحصر، باب قول الله تعالى {أَوْ صَدَقَةٍ} ... 4: 16 ح 1815 (البقرة الآية 196). (¬3) البخاري الكفارات، باب قوله تعالى {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} 11: 593 ح 6708. (¬4) البخاري المغازي، باب غزوة الحديبية 7: 457 ح 4191.

صلى الله عليه وسلم - فأتاني أطبخ قدرًا لأصحابي" (¬1)، وفي رواية ابن أبي نجيح عن مجاهد أخرجها البخاري "رآه وإنه ليسقط القمل على وجهه، فقال: أتؤذيك هوامك؟ قال: نعم. فأمره أن يحلق وهم بالحديبية ولم يبين لهم أنهم يحلون وهو على طمع أن يدخلوا مكة فأنزل الله الفدية" (¬2). وأخرجه الطبراني عن مجاهد بهذه الزيادة (¬3)، ولأحمد وسعيد بن منصور في رواية أبي قلابة: "قملتُ حتى ظننت أن كل شعرة من رأسي فيها القمل من أصلها إلى فرعها" (¬4) زاد سعيد: "وكنت حسن الشعر"، وفي رواية أبي وائل عن كعب عند الطبراني: "فحك رأسي بإصبعه فانتثر منه القمل" (¬5) وقد رويت القصة بألفاظ غير (أ) هذه المذكورات والمعنى متقارب إلا أنه يحتاج إلى الجمع بين قوله "مر به" و "حملت إليه" و "استدعاه إليه فخاطبه" وهو أنه مر به أولًا فرآه على تلك الصفة فاستدعاه بعد ذلك، وحمل إليه لمرضه، وقد كان به بعض جلد يمكنه أن يباشر الإيقاد على القدر وإن لم يقدر على المسير فوقع جميع ما ذكر، ولكن الرواة نقل كل واحد من القصة ما ضبط حفظه أي محل الفائدة من الحكم. وقوله "ما كنت أُرى الوجع بلغ بك ما أَرَى" الأول بضم الهمزة أي ¬

_ (أ) هـ: (في غير).

أظن، والثاني بفتح الهمزة بمعنى الرؤية التي هي بمعنى البصر، وقد وقع "الجهد" محل الوجع وهو شك من الراوي. وقوله "تجد شاة" إلى آخره ظاهره أنه يجب أن يقدم أولًا النسيكة على النوعين الآخرين إذا وجدها، وظاهر الآية الكريمة وسائر روايات الحديث أنه مخير في الثلاث جميعًا، ولذلك قال البخاري في أول باب الكفارات: "خير النبي - صلى الله عليه وسلم - كعبًا في الفدية، ويذكر أن ابن عباس وعطاء وعكرمة قالوا: ما كان في القرآن فيه أو فصاحبه بالخيار" (¬1). وقد (أ) أخرج أبو داود ومن طريق الشعبي عن ابن (ب) أبي ليلى عن كعب بن عجرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن شئت فانسك نسيكة، وإن شئت فصم ثلاثة أيام، وإن شئت فأطعم ... " الحديث (¬2)، وفي رواية الموطأ "أي ذلك فعلت أجزأ" (¬3) والظاهر أنه مجمع على التخيير. وقوله "نصف صاع" اتفق العلماء على القول بظاهر هذا الحديث إلا ما يروى عن أبي حنيفة والثوري أنها نصف صاع من حنطة أو صاع من غيرها، وعن أحمد رواية أنه لكل مسكين مُدّ حنطة أو نصف صاع من غيره. وعن الحسن البصري وبعض السلف أنه يجب إطعام عشرة مساكين أو صوم عشرة أيام، وهذا ضعيف متأيد للسنة النبوية. ¬

_ (أ) سقط من جـ: (قد). (ب) سقط من هـ: (ابن).

واعلم أن الآية الكريمة وقصة كعب أصل قوي في أنَّ المحرم إذا اضطر إلى ارتكاب محظور كالحلق واللباس ونحوه جاز له ذلك مع الفدية، وخص أهل الظاهر الفدية بشعر الرأس، والله أعلم. 574 - وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال (أ): لما فتح الله -تعالى- على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الناس فحمد الله، وأثنى عليه ثم قال: "إِن اللَّه حبس عن مكة الفيل وسلط عليها رسوله والمؤمنين، وإِنها لم تحل لأحد كان قبلي وإنما أحلت لي ساعة من نهار، وإِنها لا تحل لأحد بعدي، فلا ينفر صيدها، ولا يختلى شوكها، ولا تحل ساقطتها إِلا لمنشد، ومن قتل له قتيل فهو بخير النظرين، فقال العباس: إِلا الإِذخر يا رسول اللَّه فإِنا نجعله في قبورنا وبيوتنا، فقال: إِلا الإِذخر" متفق عليه (¬1). قوله "لما فتح اللَّه ... " إلخ أراد به فتح مكة، فإن القيام المذكور كان بعد دخول مكة في اليوم الثاني. وقوله: "فحمد اللَّه" فيه دلالة على أنه يشرع عند الابتداء في الكلام المهم الذي له خطر أنه يبتدئ بحمد الله والثناء عليه. وحبس الفيل عن مكة إشارة إلى ما كان معلومًا عندهم من قصة الفيل وأصحابه الذين ذكرهم الله سبحانه في سورة الفيل. وقوله "وسلط عليها رسوله والمؤمنين" فيه دلالة على ما ذهب إليه الجمهور من أن مكة فتحت عنوة وأن أهلها أُخذوا بالقهر والغلبة، وإنما ¬

_ (أ) سقط من هـ: (قال).

مَنَّ عليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأن صانهم من القَتْل والسبي للذراري والنساء واغتنام الأموال، وكانوا طلقاء للنبي (أ) - صلى الله عليه وسلم - تكرمة له، وفضلًا له على قرابته وعشيرته، وهذه الألفاظ التي هي قوله "سلط" وقوله "أحلت لي ساعة من نهار" وقوله "لم تحل لأحد بعدي" يدل دلالة صريحة على ذلك، وأيضًا ما وقع في سياق قصة دخوله مكة في قوله "من دخل داره فهو آمن" وقَتْل خالد بن الوليد لجماعة ولم ينكر عليه، وأمره بقتل ابن خطل ومقيس بن صبابة وغيرهما. وقوله "فإِنْ أحد ترخص لقتال رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - فقولوا إن اللَّه أذن لرسوله ولم يأذن لكم". وقوله لأبي هريرة: "اهتف لي بالأنصار" (¬1) فهتف بهم فجاءوا فأطافوا برسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "ترون (ب) إلى أوباش قريش وأتباعهم، ثم قال بيده أحدهما (جـ) على الأخرى: احصدوهم حصدًا حتى توافوني بالصفا حتى قال أبو سفيان: يا رسول الله أبيحت خضراء قريش لا قريش بعد اليوم، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من أغلق بابه فهو آمِن" وهذا لا يكون مع الصلح، والخلاف في ذلك للشافعي فإنه قال: فُتحتْ صلحًا، واستضعف هذا الغزالي فقال: هذا مذهبه وحجته على ذلك أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يقسمها على الغانمين كما قسم خبير وكما قسم سائر الغنائم، وأن أبا سفيان هو الذي صالح لأهل مكة، وذلك لأنه لما استأمن لهم أمنهم النبي - صلى الله عليه وسلم - فكان ذلك عقد صلح، وأجيب عن ذلك بأنه لو كان ذلك عقد ¬

_ (أ) هـ: (النبي). (ب) هـ: (تروا). (جـ): (إحداهما).

صلح لم يقيد التأمين بدخول دار أبي سفيان وإغلاق من أراد الكف عن المنابذة داره عليه، فلما قصد التأمين دل على أن ما عدا باقٍ على المنابذة والمحاربة، واحتج أيضًا بقوله تعالى: {ولو قاتلكم الذين كفروا لولوا الأدبار} (¬1) وقوله تعالى: {وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم} (¬2)، وقوله تعالى: {وأخرى لم تقدروا عليها} (¬3) وهي غنائم مكة، والآيات غير ظاهرة فيما (أ) ادعاه، وقال الماوردي: أسفلها دخله خالد عنوة وأعلاها دخله الزبير صلحًا، ودخل النبي - صلى الله عليه وسلم - من جهينة فصار حكم جهينة المغلب، وقوله" وإنها لا تحل لأحد بعدي" فيه دلالة على أنه لا (ب) يجوز القتال في الحرم. قال الإمام أبو الحسن الماوردي البصري صاحب الحاوي من أصحاب الشافعي في كتابه "الأحكام السلطانية": من خصائص الحرم أن لا يحارب أهله، وإن بغوا على أهل العدل فقد قال بعض الفقهاء ما قال. وقال جمهور الفقهاء: يقاتلون على بغيهم إذا لم يمكن ردهم عن البغي إلا بالقتال، لأن قتال البغاة من حقوق الله -تعالى- التي لا يجوز إضاعتها فحفظها في الحرم أولى من إضاعتها هذا كلامه، وما نقله عن جمهور الفقهاء هو ما نص عليه الشافعي في كتاب "اختلاف الحديث" من كتب الأم، ونص عليه الشافعي أيضًا في آخر كتابه المسمى بسير ¬

_ (أ) هـ: (بما). (ب) سقط من هـ: (لا).

الواقدي من كتب الأم، وقال القفال المروزي من أصحاب الشافعي في كتابه شرح التلخيص في أول كتاب النكاح في ذكر الخصائص: لا يجوز القتال بمكة حتى قال: لو تحصن جماعة من الكفار فيها لم يجز لنا قتالهم فيها. قال النووي: وهذا الذي قاله غلط نبهت عليه حتى لا يغتر به، انتهى (¬1). وقد ذكر الإمام المهدي عن الهادوية مثل ما قاله الشافعي أنه يجوز للإمام أن يقاتل الكفار في الحرم ويدخل إليه بغير إحرام. ولكن ظاهر الحديث مثل قول القفال أنه لا يجوز لغير النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يدخل الحرم للقتال. وفي قوله "فإن ترخص أحد لقتال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقولوا إن الله أذن لرسوله ولم يأذن لك" ما يمنع أن يقاس عليه - صلى الله عليه وسلم - وتنبيه بأن ذلك من خصائصه مثل نكاح التسع وغيرها، وأما جواب عمرو بن سعيد على أبي شريح العدوي لما حدثه بهذا الحديث قصدًا منه أن يكف عن بَعْث البعوث إلى مكة لقتال ابن الزبير، فقال عمرو بن سعيد: أنا أعلم بذلك منك يا أبا شريح إن الحرم لا يعيذ عاصيًا ولا فارًّا بخربة أي مأمنه فهذه منابذة منه للسنة النبوية غير راجع إلى ورع يذوده عن العصبية ولم يسند ذلك إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا مفهوم آية قرآنية. وقوله "فلا ينفر صيدها" التنفير هو الإزعاج والتنحية من موضعه وإذا حرم التنفير فبالأولى الإتلاف، ويلزم في غيره فدية صدقة بمقدار التنفير أقلها كف من الطعام، وأكثرها نصف صاع، وعن الهادي إذا حمله إلى ¬

_ (¬1) شرح مسلم 502:3.

بلده لزمه مدان من الطعام. وقوله "ولا يختلى شوكها" أي لا يؤخذ ويقطع، وذكر الشوك دليل على أن غيره مما لا يؤْذي بالأولى، ولكنه يخصص بالمؤذي، فيجوز قطعه قياسًا على ما تقدم من حل قتل الخمس في الحرم بجامع الإيذاء، وفي رواية "لا يعضد شوكها" والعضد القطع، وفي رواية "لا يختلى خلاها" والخَلَى بفتح الخاء مقصور هو: الرطب من الكلأ والحشيش والحشيش اسم لليابس منه، والكلأ بالهمزة يقع على الرطب واليابس، وعد ابن مكي وغيره من لحن العوام إطلاقهم الحشيش على الرطب، بل هو مختص باليابس، واتفق العلماء على تحريم قطع أشجارها التي لم ينبتها الآدميون في العادة، وعلى تحريم قطع خلاها، واختلفوا فيما ينبته الآدميون، واختلفوا في ضمان الشجر إذا قطع فذهب الهادي وغيره من أهل البيت وأبو حنيفة والشافعي إلى أنه يلزم فيه القيمة، وقدر الشافعي في الشجرة العظيمة بقرة وفيما دونها شاة، ويجوز عند الشافعي ومن وافقه رعي البهائم في كلأ الحرم، وذهب الهادوية وهو مذهب أبي حنيفة وأحمد ومحمد إلى أنه لا يجوز. وقوله "ولا يحل ساقطها إِلا لمنشد" المراد بالساقط اللقطة وهو مصرح به في روايات، والمنشد هو المعرف بها، والإنشاد رفع الصوت، يقال للمعرف منشد ويقال لطالبها ناشد، والمعنى أنه لا يحل الالتقاط إلا لمن يعرف بها أبدًا ولا يتملكها، وبهذا قال الشافعي وعبد الرحمن بن مهدي وأبو عبيد وغيرهم، وهذا خاص بلقطة مكة، وأما غيرها فيجوز أن يلتقطها بنية التملك بعد التعريف بها سنة عند الشافعي، ويجوزأن يحفظها لصاحبها، ولا يجب عنده التعريف إلا إذا قصد التملك، وذهب مالك إلى أنه يجوز أن يتملكها بعد التعريف بها سنة في مكة كغيرها في

أنه لا يجوز الالتقاط إلا لقصد التعريف بها، ويجب التعريف سَنة ثم يجوز صرفها إذا أيس من مالكها في فقير أو مصلحة، وتأولوا هذا الحديث بأنها لا تحل اللقطة قبل الإنشاد وخص الحرم بالذكر لكثرة الضوال فيه، كذا قال الإمام المهدي في البحر، والتأويل خلاف الظاهر. وقوله "مَنْ قتل له قتيل فهو بخير النظرين" وهما إما أن يأخذ الدية أو يقتل القاتل، فالخيار لوليّ الدم حينئذ، وهذا مذهب الهادوية، وقول للمؤيد والشافعي، وبه قال سعيد بن المسيب وابن سيرين وأحمد وإسحاق وأبو ثور. وقال أبو حنيفة ومالك وأحد قولي المؤيد وقول للشافعي أنه ليس لولي الدم إلا الاقتصاص أو العفو، وأما الدية فلا تجب إلا برضى الجاني، وهو خلاف نص الحديث. وفائدة الخلاف أنه إذا عفا ولي الدم عن القود فلا تسقط الدية على الأول وتسقط على الثاني، وهذا في القتل عمدًا. وقوله "إِلا الإِذخر" يجوز فيه الرفع والنصب، أما الرفع فعلى البدل مما قبله والنصب على الاستثناء، وقال ابن مالك: المختار فيه النصب لكون الاستثناء وقع متراخيًا عن المستثنى منه فبعدت المشاكلة بالبدلية، ولكون الاستثناء أيضًا عرض في آخر الكلام، ولم يكن مقصودًا. والإِذخر (أ) نبت معروف عند أهل مكة طيب الرائحة وهو بكسر الهمزة والخاء المعجمة، ينبت في السهل والجبل، وفي المغرب صنف منه كذا (ب) قال ابن البيطار (¬1). ¬

_ (أ) هـ: (إذ الإذخر). (ب) هـ: (صنف مذكرا كذا).

وقوله "نجعله في قبورنا" المراد أنه تسد به خلل الحجار التي تجعل على اللحد، وفي البيوت كذلك يجعل فيما بين الخشب على السقوف، وفي رواية "لقيننا" والقين هو الحداد و (أ) الصائغ، والمعنى أنهم يحتاجون إليه للإيقاد به، وفي رواية: "لصاغتنا وقبورنا" (¬1)، ووقع في مرسل مجاهد عند عمرو بن أبي شيبة (¬2) بالجمع بين الثلاثة (¬3)، ووقع عنده أيضًا، فقال العباس: "يا رسول الله إن أهل مكة لا صبر لهم عن الإذخر لقينهم وبيوتهم" ووقوع ذلك من العباس يحتمل أنه على جهة الشفاعة، ويحتمل أنه اجتهاد منه لما علم أن العموم غالبه التخصيص فكأنه قل هذا مما تدعو إليه الحاجة ولا يكاد يستغنى عنه، والشريعة عهد فيها التيسير وعدم الحرج (ب)، فإذا قيس على ما خصص من عموم للحاجة إليه فله مساغ شرعي، فقدر ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - واستثناه (جـ) وقد يحتج بهذا على أن الاستثناء لا يشترط فيه اتصاله بالمستثنى منه، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - مفوض إليه في الأحكام. ويجاب عن الأول بأنه متصل وأن كلام العباس وقع في أثناء كلامه - صلى الله عليه وسلم - بمقدار تنفس ويذكر لما يستثنى، وهو لا يعدُّ متراخيًا، وعن الثاني بأن ذلك عن وحي وليس من لازم الوحي أن يتراخي وقتا ممتدًا بل قد يكون ذلك بإلقائه في روعه - صلى الله عليه وسلم -أو إلهام أو سماع من ملك أو ¬

_ (أ) هـ بغير الواو. (ب) هـ: (الحروج). (جـ) هـ، ي: (واستثنى).

نحو ذلك من مراتب الوحي أو اجتهاد منه - صلى الله عليه وسلم - وافق اجتهاد العباس، واجتهاده حق، وله الاجتهاد كما هو الصحيح ولا يقر على خطأ، والله أعلم. 575 - وعن عبد الله بن زيد بن عاصم - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إِن إبراهيم حَرَّمَ مكة ودعا لأهلها، وإِني حرمت المدينة كما حرم إبراهيم وإِني دعوت في صاعها ومدها مثل ما دعا إِبراهيم لأهل مكة" متفق عليه (¬1). قوله "إِن إِبراهيم حرم مكة" هكذا في هذه الرواية، وفي رواية ابن عباس "إن الله حرم مكة" والجمع بين الروايتين أن التحريم من الله -تعالى- قضى به وأظهر حرمته على لسان إبراهيم - عليه السلام - أو أن إبراهيم حرمه بأمر الله -تعالى- فصح نسبة التحريم إلى الله وإلى إبراهيم جميعًا، ووقع في رواية ابن عباس: "لم يحرمها الناس" (¬2) والمعنى أن تحريمها شرع من الله -تعالى- لا لمجرد اختيار الناس وتعظيمهم لما لا يستحق التعظيم رجوعًا إلى الهوى كما فعلوا في كثير من الحجارة التي عبدوها من دون الله -سبحانه-، وقيل إن المعنى أن حرمتها مستمرة من أول الخلق ليست مما اختصت به شريعة النبي - صلى الله عليه وسلم - وقيل المعنى من تحريم إبراهيم أنه سأل الله -تعالى- تحريمها، فكان تحريمها بدعوته، ولذلك أضيف إليه، والمراد بالتحريم هو تأمين أهلها من أن يقاتلوا، وتأمين من استعاذ بها كما قال تعالى: {ومن دخله كان آمنًا} (¬3) وقوله تعالى: {أو لم يروا أنا جعلنا حرمًا آمنًا} (¬4). ¬

_ (¬1) البخاري البيوع، باب بركة صاع النبي - صلى الله عليه وسلم - ومده ... 4: 346 ح 2129. (¬2) البخاري العلم، باب ليبلغ العلم الشاهد الغائب 1: 197 - 198 ح 104. (¬3) سورة آل عمران الآية 97. (¬4) سورة العنكبوت الآية 67.

وقوله "وإني حرمت المدينة" فيه التأويل كما تقدم، والأظهر هنا أن تحريمها كان سبب دعائه - صلى الله عليه وسلم - لها ولأهلها وكونه فيهم حيًّا وميتًا، وفيه دلالة على أن المدينة لها حرم كمكة في تحريم الاصطياد وقطع النبات الأخضر وغير ذلك، وقد اختلف العلماء في ذلك، فذهب الهادي والشافعي وغيرهم إلى أن للمدينة حرمًا كحرم مكة في جميع ما ذكر، وذهب أبو حنيفة وزيد بن علي والناصر إلى أن حرم المدينة مخالف حرم مكة في الأحكام، وتسميته حرمًا مجاز، ويرد عليهم بقوله في حديث أنس "لا يقطع شجرها، ولا يحدث فيها حدث" وفي رواية عند مسلم "لا يقطع عضاهها، ولا يصاد صيدها" فإن هذا صريح في المذهب الأول، واختلفت الأحاديث في تحديده ففي حديث أنس عند البخاري "المدينة حرم من كذا إلى كذا" (¬1)، وفي حديث أبي هريرة عنده أيضًا قال: "حرم ما بين لابتي المدينة على لساني "قال: "وأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - بني حارثة وقال: أراكم يا بني حارثة قد خرجتم من الحرم ثم التفت فقال: بل أنتم فيه" (¬2)، وفي حديث علي -رضي الله عنه- عنده "حرم ما بين عائر إلى كذا" (¬3) وفي رواية عند مسلم " من عير إلى ثور" (¬4)، وفي رواية "ما بين مأزميها" (¬5) أي جبليها، وفي رواية: "ما بين حرتيها وحمامها" وحمام المدينة ثلاثة أجبل مما يلي حرتها الغربية والحرتين المراد بهما الغربية والشرقية والمدينة بينهما، وهو حد للحرم مِن المشرق والمغرب وما بين جبليها بيان لحده من الجنوب والشمال، وللمدينة أيضًا حرة من ¬

_ (¬1) البخاري فضائل المدينة، باب حرم المدينة 4: 81 ح 1867. (¬2) البخاري فضائل المدينة، باب حرم المدينة 4: 81 ح 1869. (¬3) البخاري (السابق) 4: 81 ح 1870. (¬4) مسلم الحج، باب فضل المدينة ... 2: 994: 995 ح 467 - 1370. (¬5) مسلم الحج، باب الترغيب في سكنى المدينة ... 2: 1001 ح 475 - 1374.

القبلة وحرة من الشام لكنهما يرجعان إلى الشرقية والغربية ويتصلان بهما. وفي رواية عند أبي داود "حمى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كل ناحية من المدينة بريدًا بريدًا لا يخبط شجرة ولا يعضد إلا ما يساق بها لجمل" (¬1)، وفي حديث عبد الله بن سلام عند أحمد والطبراني: "ما بين عير إلى أحد" (¬2) فادعى بعض الحنفية أن الحديث مضطرب، وأجيب عنه بأن الجمع بين هذه الروايات ممكن فلا ترد الأحاديث الصحيحة مع أنه لو تعذر الجمع أمكن الترجيح ولا شك أن ما بين لابتيها أرجح لتوارد الرواة عليها، ورواية "جبليها" لا تنافيها ويكون عند كل لابة جبل، أو (أ) لابتيها من جهة الجنوب والشمال، وجبليها من جهة المشرق والمغرب وتسمية الجبلين في رواية أخرى لا يضر، وأما رواية مأزميها فهي في بعض طرق حديث أبي سعيد، والمأزم بالكسر للزاي المضيق (ب) بين الجبلين، وقد تطلق على الجبل نفسه، وأما حديث أبي داود فيحتمل أنه تحديد للحمى لا للحرم (جـ)، واحتج الطحاوي للحنفية بحديث أنس في قصة أبي عُمير (¬3) ما فعل النغير قال: لو كان صيدها حرامًا ما جاز حبس الطير، وأجاب الجمهور بأن ذلك يحتمل أن يكون من صيد الحل، فأدخل الحرم، ولكن الحنفي لا يوافقهم على ذلك فإن عنده إذا دخل الصيد من الحل ¬

_ (أ) هـ: (إذ). (ب) هـ: (والمضيق). (جـ) سقط من هـ: (لا للحرم).

إلى الحرم كان له حكم الحرم، واحتج بعضهم بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قطع النخل لبناء المسجد (¬1)، ولو كان قطع شجرها حرامًا ما فعله، وأجيب بأن ذلك كان في أول الهجرة وهو واضح، وحديث تحريم المدينة كان بعد رجوعه - صلى الله عليه وسلم - من خيبر ذكره البخاري عن أنس في الجهاد، وأيضًا فإن أبا حنيفة يجيز قطع ما كان ينبته الناس في العادة وإنما يحرم عنده ما ينبت بطبعه، وقال الطحاوي: يحتمل أن تحريم شجر المدينة وصيدها كان لأجل أن الهجرة كانت، إليها وكان بقاء الشجر والصيد مما يزيد في زينتها ويدعو إلى الرغبة فيها فلما انقطعت الهجرة زال ذلك، وأجيب عنه بأن هذا مجرد احتمال لا يثبت به النسخ مع أنه ثبت على الإفتاء بتحريمها سعد بن أبي وقاص وزيد بن ثابت وأبو سعيد وغيرهم كما أخرجه مسلم (¬2)، وعلى القول بثبوت حرمها فمن فعل شيئًا من قتل الصيدأو قطع الشجر أثم ولا جزاء عليه في روايه أحمد وهو المشهور من قول مالك والشافعي والجمهور، وقال ابن أبي ذئب وابن أبي ليلى وهو قول للشافعي في القديم، ومذهب الهادوية واختاره ابن المنذر وابن نافع صاحب مالك، وقال القاضي عبد الوهاب: إنه الأقيس أن فيه الجزاء والفدية كما في حرم مكة، وهو قول قديم للشافعي أن الجزاء في ذلك سلب الفاعل لحديث سعد بن أبي وقاص في ذلك صححه مسلم (¬3) وأنه كسلب القاتل لا خمس فيه. قال القاضي: لم يقل بهذا بعد الصحابة إلا الشافعي، وادعى بعض ¬

_ (¬1) البخاري فضائل المدينة، باب حرم المدينة 4: 81 ح 1868، مسلم المساجد، باب ابتناء مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم - 1: 373 ح 9 - 524. (¬2) مسلم الحج، باب فضل المدينة ... 2: 992 ح 459 - 1363، 2: 993 ح 462 - 1365، 2: 1003 ح 478 - 1374. (¬3) مسلم (السابق) 2: 993 ح 461 - 1364.

الحنفية الإجماع على ترك الأخذ بحديث السلب، ثم استدل بذلك على نسخ تحريم المدينة، ودعوى الإجماع مردودة، والسلب قيل هو كسلب القتيل من الكفار فيدخل فيه فرسه وسلاحه ونفقته، وقال بعضهم: المراد بالسلب الثياب فقط. واعلم أنه قد استَشْكل رواية من عير إلى ثور جماعة حتى قال مصعب الزبيري: ليس بالمدينة عير ولا ثور، وأثبت غيره "عيرًا" ووافقه على إنكار ثور. قال أبو عبيد: هذه رواية أهل العراق، وأما أهل المدينة فلا يعرفون جبلًا عندهم يُقال له ثور، وإنما ثور بمكة (أ) ويرى أن أصل الحديث ما بين عير إلى أحُد. وقال القاضي عياض غير معروف. وأنشد أبو عبيد البكري قول الأحوص اليمني: فقلت لعمرٍو تلك يا عمرو ناره ... تشب قفا عير فهل أنت ناظر وقال ابن السيد (ب): الملقب بعير جبل بقرب المدينة معروف وقد تأول من أنكر عيرًا وثورًا بالمدينة بأن المراد في الحديث مقدار ما بين عير وثور من مكة أو يسمى الجبلين بالمدينة اللذين ما بينهما مثل ما بين عير وثور بمكة بالاسمين وكأنه قال: أحرم من المدينة مثل تحريم ما بين عير وثور بمكة على حذف المضاف ووصف المصدر. وقال النووي: يحتمل أن يكون ثور كان اسم جبل هناك إما أحد وإما ¬

_ (أ) هـ: (مكة) - بغير باء. (ب) هـ: (المسيب).

غيره (¬1). وقال المحب الطبري في "الإحكام" بعد حكاية كلام أبي عبيد ومن تبعه: قد أخبرني الثقة العالم أبو محمد عبد السلام البصري أن حذاء أحد عن يساره جانحًا إلى ورائه جبلًا صغيرًا يقال له ثور وأخبر أنه تكرر سؤاله عند الطوائف من العرب العارفين بتلك الأرض وما فيها من الجبال، كل أخبر أن ذلك الجبل اسمه ثور وتواردوا على ذلك فعلمنا أن ذلك في الحديث صحيح وإن عدم علم أكابر العلماء لعدم شهرته وعدم بحثهم عنه، قال: وهذه فائدة جليلة انتهى (¬2). قال المصنف (¬3) -رحمة الله عليه-: وقرأت بخط شيخ شيوخنا القطب الحلبي في شرحه: حكى لنا شيخنا الإمام أبو محمد عبد السلام بن مزروع البصري أنه خرج رسولًا إلى العراق فلما رجع إلى المدينة كان معه دليل فكان يذكر له الأماكن والجبال، قال فلما وصلنا إلى أحد إذ بقربه جبل صغير فسألته عنه فقال هذا يسمى ثورًا (أ)، قال: فعلمت صحة الرواية فكان هذا مبتدأ سؤاله، وذكر شيخنا أبو بكر بن حسين المراغي نزيل المدينة في مختصره لأخبار المدينة أن خلف أهل المدينة ينقلون عن سلفهم أن خلف أحد من جهة الشمال جبلًا صغيرًا مدورًا يسمى ثورًا قال: وقد تحققته بالمشاهدة، انتهى (¬4). واعلم أنه قد قيل أن البخاري أبهم اسم الجبل عمدًا لما وقع عنده أن ¬

_ (أ) هـ: (ثور) - بغير تنوين.

التسمية وَهْم، قال صاحب المشارق والمطالع: أكثر رواة البخاري بتسمية "عير" وأما " ثور" فمنهم من كنى عنه بكذا ومنهم من ترك فكأنه بياضًا والأولى أن البخاري ما أبهم إلا حكاية لما وقع في الرواية وإلا فقد سماه في موضع. وقوله "وإني دعوت ... " إلى آخره في مسلم مصرح بالدعاء وهو "اللهم بارك لهم في مكيالهم، وبارك لهم في صاعهم، وبارك لهم في مدهم" (¬1). قال القاضي عياض (¬2): يحتمل الدعاء بالبركة هنا أن تكون دينية وهي ما تتعلق به المقادير من حقوق الله -تعالى- في الزكوات والكفارات فيكون بمعنى الثبات والبقاء لها كبقاء الحكم بها ببقاء الشريعة وثباتها، ويحتمل أن يكون دنيوية بمعنى تكثير ما كيل بهذه الأكيال حتى يكفي منه ما لا يكفي من غيره في غير المدينة، أو ترجع البركة إلى التصرف بها في التجارة وأرباحها أو إلى كثرة ما يكال بها من غلاتها وثمارها، أو تكون الزيادة فيما يكال بها لاتساع عيشهم وكثرته بعد ضيقهم لما فتح الله عليهم ووسع من فضله لهم وملكهم من بلاد الخصب والريف بالشام والعراق ومصر وغيرها حتى كثر الحَمْل إلى المدينة واتسع عيشهم حتى صارت هذه البركة في الكيل نفسه فزاد مدُّهم، انتهى. والظاهر هو الاحتمال الثاني، والظاهر منه هو الأول من الاحتمالات. فائدة: المدينة عَلَمٌ بالغلبة للبلد التي هاجر إليها النبي - صلى الله عليه وسلم - ودفن بها فإذا أطلق تبادر إلى الفهم أنها المراد من غير قرينة بخلاف غيرها فلا بد من قرينة تعين المراد وكان اسمها قبل ذلك يثرب قال تعالى: {وإِذ قالت ¬

_ (¬1) مسلم الحج، باب فضل المدينة ... 2: 994 ح 465 - 1368. (¬2) شرح مسلم للنووي 517:3.

طائفة منهم يا أهل يثرب} (¬1) ويثرب اسم لموضع منها سميت به كلها، قيل سميت بيثوب من ولد إرم بن سام بن نوح لأنه أول من نزلها، حكاه أبو عبيد البكري، وقيل غير ذلك، ثم سماها النبي - صلى الله عليه وسلم - طيبة (¬2) وطابة (¬3)، وكان سكانها العماليق، ثم نزلها طائفة من بني إسرائيل، قيل أرسلهم موسى - عليه السلام - كما أخرجه الزبير بن بكار في أخبار المدينة بسند ضعيف، ثم نزلها الأوس والخزرج لما تفرق أهل سبأ بسبب سيل العرم، والله أعلم. 576 - وعن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "المدينة حرام ما بين عير إِلى ثور" رواه مسلم (¬4). تقدم الكلام على هذا، والله أعلم. خاتمة: اشتمل هذا الباب على أربعة عشر حديثًا. ¬

_ (¬1) سورة الأحزاب الآية 13. (¬2) مسلم الفتن، باب قصة الجساسة 4: 2264 ح 120 - 2942. (¬3) البخاري فضائل المدينة، باب المدينة طابة 4: 88 ح 1872. (¬4) مسلم الحج، باب فضل المدينة إلخ 2: 994، 995 ح 467 - 1370.

باب صفة الحج ودخول مكة

باب صفة الحج ودخول مكة أراد بصفة الحج بيان المناسك والإتيان بها مرتبة وكيفية وقوعها وذكر حديث جابر، وهو وافٍ بجميع ذلك يشتمل على جمل من الفوائد ونفائس من الفرائد، وهو من أفراد مسلم لم يروه البخاري في صحيحه، لرواه أبو داود. قال القاضي عياض: قد تكلم الناس على ما فيه من الفقه وأكثروا وصنف فيه أبو بكر بن المنذر جزءًا كبيرًا، وخرج فيه من الفقه مائة ونيفًا وخمسين نوعًا، ولو تقصي لزاد على هذا العدد (¬1). 577 - وعن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم - حج فخرجنا معه حتى أتينا ذا الحليفة فولدت أسماء بنت عميس فقال: "اغتسلي واستذفري (أ) (¬2) بثوب وأحرمي، وصلى رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - في المسجد ثم ركب القصواء حتى إِذا استوت به على البيداء أَهَلَّ بالتوحيد: لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك إِن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك حتى إِذا أتينا البيت استلم الركن فَرَمَلَ ثلاثًا ومشى أربعًا ثم أتى مقام (¬3) إِبراهيم فصلى ثم رجع إِلى الركن فاستلمه ثم خرج من الباب إِلى الصفا، فلما دنا من الصفا قرأ {إِن الصفا والمروة من شعائر اللَّه} (¬4) أبدأ بما بدأ اللَّه به، فرقي ¬

_ (أ) هـ: (استثفري).

الصفا حتى رأى البيت فاستقبل القبلة فوحد اللَّه وكبره وقال: لا إِله إِلا اللَّه وحده لا شريك له، له اللك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، لا إِله إِلا الله أنجز وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده، ثم دعا بين ذلك ثلات مرات، ثم نزل إلى المروة حتى إِذ انصبت (أ) قدماه في بطن الوادي رمل حتى إِذا صعدنا مشى حتى أتى المروة ففعل على المروة كما فعل على الصفا ... "، فذكر الحديث وفيه: فلما كان يوم التروية توجهوا إِلى منى، وركب النبي - صلى الله عليه وسلم - وصلى بها الظهر والعصر والغرب والعشاء والفجر ثم مكث قليلًا حتى طلعت الشمس فأجاز حتى أتى عرفة فوجد القُبَّة قد ضربت له بنمرة فنزل بها حتى إِذا زالت الشمس أمر بالقصواء فرحلت وأتى بطن الوادي فخطب الناس ثم أذن ثم أقام فصلى الظهر ثم أقام فصلى العصر ولم يُصَلِّ بينهما شيئًا ثم ركب حتى أتى الوقف فجعل بطن ناقته القصواء إِلى الصخرات وجعل جبل الشاة بين يديه، واستقبل القبلة فلم يزل واقفًا حتى غربت الشمس، وذهبت الصفرة قليلًا حتى غاب القرص ودفع، وقد شنق للقصواء الزمام حتى إِن رأسها ليصيب مورك رحله ويقول بيده اليمنى: يا أيها الناس السكينة فلما أتى جبلًا أرخى لها قليلًا حتى تصعد حتى أتى المزدلفة فصلى بها المغرب والعشاء بأذان واحد وإِقامتين ولم يسبح بينهما شيئًا ثم اضطجع حتى طلع الفجر فصلى الفجر حين تبين له الصبح بأذان وإِقامة، ثم ركب حتى أتى الشعر الحرام فاستقبل القبلة فدعا وكبر وهلل، فلم يزل واقفًا حتى أسفر جدًّا فدفع قبل أن تطلع الشمس حتى أتى بطن محسر فحرك قليلًا ثم سَلَكَ الطريق الوسطى التي تخرج على الجمرة الكبرى، حتى أتى الجمرة التي عند الشجرة ¬

_ (أ) كذا في الأصل. وفي جـ وصحيح مسلم: (إذا انصبت). وفي هـ: (حتى أتى انصبت).

فرماها بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة منها مثل حصى الخذف رمى من بطن الوادي ثم انصرف إِلى المنحر فنحر ثم ركب رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - فأفاض إِلى البيت فصلى بمكة الظهر". رواه مسلم مطولًا (¬1). قوله: "إِن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - حج" وقع هذا المعنى ما في صحيح مسلم، ولفظه أنه (أ) لما سأله علي بن الحسين فقال: أخبرني عن حجة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -بكسر الحاء وفتحها، والمراد حجة الوداع فقال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مكث تسع سنين لم يحج، يعني مكث بالمدينة بعد الهجرة- ثم أذن الناس في العاشرة، معناه أعلمهم بذلك وأشاعه ليتأهبوا للحج معه ويتعلموا المناسك والأحكام ويشاهدوا أفعاله وأقواله، ويوصيهم ليبلغ الشاهد الغائب وتشيع دعوة الإسلام، ويبلغ الرسالة القريب والبعيد كلهم يلتمس أن يأتم برسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وقوله "اغتسلي" فيه دلالة على شرعية الغسل للنفساء وكذلك الحائض وفي حق غيرهما بالأولى. وقوله "واستذفري بثوب" الاستذفار هو: أن تشد المرأة في وسطها شيئًا وتأخذ خرقة عريضة تجعلها على محل الدم أتشد طرفيها من قدَّامها ومن ورائها إلى ذلك المشدود، وهو تشبيه بثفر الدابة بفتح الفاء والمثلثة وهو: ما يكون تحت ذنبها يغطي حياها ويشتمل أن يكون من الثفر بسكون الفاء وهو الفرج واستعير لغيره لملازمته له، والأول أظهر لقوله في بعض الروايات "تلجمي بثوب". ¬

_ (أ) سقط من هـ: (أنه).

وقوله: "وأحرمي" فيه دلالة على صحة إحرام النفساء وكذلك الحائض وهو مجمع عليه. وقوله "وصلى رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - في المسجد" في رواية مسلم "أنه صلى ركعتين" والظاهر أنهما نافلة، وعن الحسن البصري أن الأفضل أن تكون بعد صلاة فرض قال: لأنه قد روي أن الركعتين كانتا صلاة الصبح. وقوله: "ثم ركب القصواء" بفتح القاف والمد، قال القاضي عياض: وقد وقع القصوى بضم القاف والقصر، قال: وهو خطأ ثم قال ابن قتيبة: كانت للنبي - صلى الله عليه وسلم - نوق: القصواء والجدعاء والعضباء. قال أبو عبيد: العضباء اسم لناقة النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم تسم بذلك لشيء أصابها. قال القاضي: وقد ذكر في غير مسلم، أنه خطب على ناقته الجدعاء، وفي حديث آخر "على ناقة خرماء" وفي آخر "على ناقة مخضرمة" وفي حديث آخر: "كانت له ناقة لا تسبق" (¬1) وفي آخر تسمى العضباء (¬2)، وهذا كله يدل على أنها ناقة واحدة لأنها في قصة واحدة إلا أن في مسلم في باب النذر، أن القصواء غير العضباء. قال الحربي: العضب والجدع والخرم والقصوى والخضرمة في الأذن. قال ابن الأعرابي: القصواء التي قطع طرف أذنها، والجدع أكثر منه. وقال الأصمعي في القصواء مثله، قال: وكل قطع في الأذن جدع وإن جاوز الربع فهي عضباء، والخضرم مقطوع الأذنين فإن اصطلمتا فهي صلماء. ¬

_ (¬1) و (¬2) البخاري الجهاد، باب ناقة النبي - صلى الله عليه وسلم - 6: 37 ح 2872.

وقال أبو عبيد: القصواء المقطوعة الأذن عرضًا، والخضرمة المستأصلة والعضباء المقطوعة النصف فما فوقها. وقال الخليل: المخضرمة مقطوعة الواحدة، والعضباء مشقوقة الأذن. قال الحربي: فالحديث (أ) يدل على (ب) أن العضباء اسم لها وإن كانت عضباء الأذن فقد حصل اسمها، هذا آخر كلام القاضي (¬1)، وقد قال محمد بن إبراهيم التيمي الشافعي وغيره أن العضباء والقصوى والجدعاء اسم لناقة واحدة كانت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقوله: "أهَلَّ بالتوحيد" يعني أنه أفرد التلبية لله وحده بقوله: لا شريك له يقول لبيك إلى آخره تفسير لقوله بالتوحيد، وفيه إشارة إلى أن الجاهلية كانت تشرك في تلبيتها غير الله -تعالى- كانت تقول: لبيك لا شريك لك إلا شريكًا هو لك تملكه وما ملك. ولبيك، مصدر مثنى مضاف إلى المفعول لبيان الملبي حذف فعله وجوبًا والمراد من التلبية التكثير، والمراد منها تلبية كثيرة متتالية مرة بعد أخرى، وفيه دلالة على شرعية التلبية، وهو مجمع عليه ثم اختلفوا في حكمها، فأكثر أهل البيت وأبو حنيفة أن الإحرام لا ينعقد إلا بالنية مقارنة للتلبية، أو تقليد الهدي، وقال المؤيد بالله والشافعي وآخرون: هي سنة ينعقد الحج بالنية من دون ما ذكر، وقال بعض أصحاب الشافعي: هي واجبة لا يصح الحج إلا بها، وقال مالك: ليست بواجبة لكن لو تركها لزم دم، قال أبو حنيفة: ويقوم غيرها من ألفاظ الذكر مقامها كما قال في تكبيرة الإحرام، ¬

_ (أ) جـ، ي: (والحديث). (ب) هـ: (قال الحرثي: فدل على ...).

ويستحب رفع الصوت بها في حق الرجل وتكرارها لا سيما عند تغاير الأحوال كإقبال الليل والنهار والصعود والهبوط ونحو ذلك، ولا يلبى في الطواف والسعي لأن لهما أذكارًا مخصوصة، ويكررها في كل كرة ثلاث مرات ويواليها ولا يقطعها بكلام، ويكره رد السلام عليه، فإن سلم عليه رد باللفظ، ويندب بعد التلبية الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - ويسأل الله -تعالى- لنفسه ولمن أحبه ولسائر المسلمين الرضوان والجنة، والاستعاذة من النار، وإذا رأى شيئًا يعجبه قال: لبيك إنَّ العيش عيش الآخرة ولا يقطعها إلا عند رمي الجمرة، أو عند طواف الزيارة إذا قدمه على الرمي، والمعتمر عند الطواف. وقوله: "إِن الحمد والنعمة" يجوز في إنَّ فتح الهمزة وكسرها، والمعنى واحد وهو التعليل، قال أكثر العلماء يستحب الاقتصار على تلبية النبي - صلى الله عليه وسلم - وبه قال مالك والشافعي، وقد روي عن عمر أنه كان يزيد: "لبيك ذا النعماء والفضل الحَسَن، لبيك مرهونًا منك مرغوبًا إليك". وعن ابن عمر: "لبيك وسعديك والخير بيديك والرغباء إليك والعمل" (¬1). وعن أنس: "لبيك حقًّا حقًّا تعبدًا ورقًا" (¬2). وقوله: "حتى أتينا البيت" (فيه دلالة على أن السنة للحجاج أن يدخلوا مكة قبل الوقوف بعرفات ليطوفوا للقدوم وغير ذلك. وقوله: "حتى أتينا البيت معه استلم الركن فرمل ثلاثًا ومشى أربعًا" فيه دلالة على أن الحاج إذا دخل مكة فالمشروع له أن يطوف ¬

_ (¬1) مسلم الحج، باب التلببة وصفتها ووقتها 2: 842: 843. 21 - 1184، (عن عمر- بنحوه). (¬2) رواه البزار مرفوعًا وموقوفًا (كما في مجمع الزوائد 3: 223).

طواف القدوم قبل صعود الجبل، وهو مجمع عليه، وأن يرمل في الثلاثة الأشواط الأُوَل، ويمشي على عادته في الأربعة الأخيرة، والرَّمَل هو إسراع المشي مع تقارب الخطى وهو الخبب، ولا يشرع الرمل إلا في طواف واحد في حج أو عمرة أما إذا طاف في غير حج أو عمرة فلا يشرع. وقوله "استلم الركن فيه" دلالة على أنه يشرع استلام الركن قبل الطواف. وقوله "ثم أتى مقام إِبراهيم فصلى" في مسلم زيادة: "فقرأ {واتخذوا من مقام إِبراهيم مصلى} (¬1) فجعل المقام بينه وبين البيت فصلى" فيه دلالة على شرعية الصلاة خلف مقام إبراهيم، وقد أجمع العلماء على أنه ينبغي لكل طائف إذا فرغ من طوافه أن يصلي خلف المقام ركعتي الطواف، واختلفوا هل هما واجبتان أم سنتان؟ فمذهب الهادوية أنهما واجبتان، وكونهما خلف مقام إبراهيم نَدْبًا، وإذا تركهما حتى مات لزم دم، ووافق مالك على الوجوب، وقال: يجب أن يكون خلف مقام إبراهيم، وعند الشافعية ثلاثة أقوال أصحها أنهما سنة، الثاني أنهما واجبتان، والثالث إن كان طوافًا واجبًا فواجبتان وإلا فسنتان، قال النووي (¬2): والسنة أن يصليهما خلف المقام فإن لم يفعل ففي الحجر، وإلا ففي المسجد، وإلا ففي مكة، وسائر الحرم ولو صلاهما في وطنه أو غيره من أقاصي الأرض جاز وفاته الفضيلة، ولو أراد أن يطوف طوافات استحب أن يصلي عقيب كل طواف ركعتَيْن، ولو أراد أن يؤخر الصلاة عن الطوافات جاز ذلك، وهو خلاف الأولى. وقد قال بهذا المسور بن مخرمة وعائشة وعطاء وطاوس وسعيد بن جبير ¬

_ (¬1) البقرة الآية 125. (¬2) شرح مسلم 3: 338.

وأحمد وإسحاق وأبو يوسف، وكره ذلك ابن عمر والحسن البصري والزهري ومالك والثوري وأبو حنيفة وأبو ثور ومحمد بن الحسن وابن المنذر، ونقله القاضي عن جمهور الفقهاء (¬1)، وورد في القراءة في الركعتين في الأولى: {قل يا أيها الكافرون} (¬2)، وفي الثانية: {قل هو اللَّه أحد} (¬3)، وقد أخرجه مسلم (¬4) عن محمد بن علي عن أبيه عن رواية جابر عن قراءة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأخرجه أيضًا البيهقي بإسناد صحيح كذلك (¬5). وقعوله: "ثم رجع إِلى الركن فاستلمْه" فيه دلالة على استحباب العود لاستلام الركن في طواف القدوم، وقد قال بهذا الشافعي وغيره واتفقوا على أن استلام الركن ليس بواجب ولو تركه لم يلزم دم. وقوله "ثم خرج من الباب إِلى الصفا ... " إلى آخره فيه دلالة على أنه يشترط في السعي أن يبدأ من الصفا، وبه قال الهادي والشافعي ومالك والجمهور، وذلك لأنه لما فعل ذلك ثم قرأ الآية الكريمة، وبين - صلى الله عليه وسلم - أن فعله ذلك امتثال لما في الآية الكريمة، وقد قدم -سبحانه وتعالى- الصفا على المروة، ففعل موافقة لما في القرآن فدل على أن ذلك هو المشروع، وقد قال: "خذوا عني مناسككم" (¬6). والأصل إنما فعله مبين لما شرع الله -سبحانه- فلا يعدل عنه إلا لدليل، ولم يوجد خلاف ذلك، وهذا على رواية مسلم "أبدًا" حكاية ¬

_ (¬1) شرح مسلم 3: 394. (¬2) الكافرون الآية 1. (¬3) الإخلاص الآية 1. (¬4) حديث الباب. (¬5) سنن البيهقي 5: 91. (¬6) مسلم الحج، باب استحباب رمي جمرة العقبة يوم النحر راكبا 2: 943 ح، 1297 - 310 (بنحوه).

عن المتكلم، وأما على رواية النسائي بإسناد صحيح لهذا الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ابدءوا بما بدأ الله به" (¬1) بصيغة خطاب الجماعة، فهو فعل أمر، والأصل فيه الوجوب فالأمر واضح. وقوله "فرقي الصفا" لم فيه دلالة على شرعية ذلك، وقد قالت الهادوية إن ذلك منْدوب في حق الرجل دون المرأة. وقال النووي (¬2): قال جمهور أصحابنا هو سنة ليس بشرط ولا واجب، فلو ترك صح سعيه لكن فاتته الفضيلة، وقال أبو جعفر بن الوكيل من أصحابنا لا يصح سعيه حتى يصعد على شيء من الصفا والصواب الأول. قال أصحابنا: لكن يشترط أن لا يترك شيئًا من المسافة التي بين الصفا والمروة فيلصق عقبه بدرجات الصفا، وإذا وصل المروة ألصق أصابع رجليه بدرجها (¬3)، انتهى كلامه. ومثل هذا عند الهادوية ويرقى على الصفا حتى يرى البيت إن أمكنه ثم يقف على الصفا مستقبل (أ) الكعبة ويذكر الله -تعالى- بهذا الذكر المذكور، ويفعل الذكر والدعاء ثلاث مرات كما في الحديث، وهذا هو المشهور عند العلماء، وقال جماعة يكرر الذكر ثلاثًا والدعاء مرتين فقط، والصواب الأول، وفي قوله "بين ذلك، دلالة على أنه لا يكرر الذكر والدعاء في كل شوط لأنه لم يقل بعد كل شوط، وإنما وقع منه في الجملة، وقد صرح بهذا الإمام المهدي في الغيث. ¬

_ (أ) سقط من هـ: (مستقبل)، وفي الحاشية: (حتى يرى الكعبة).

وقوله: "وهزم الأحزاب وحده" معناه وهزمهم من غير قتال من الآدميين ولا سبب من جهتهم، والمراد بالأحزاب الذين تحزبوا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الخندق، وكان الخندق في شوال سنة أربع من الهجرة، وقيل سنة خمس، ولم يرد في الرواية بيان ما دعا به - صلى الله عليه وسلم - وفيه دلالة على التوسعة في ذلك وأنه يدعو بما شاء. قال الهادي: إنه يقرأ الحمد والمعوذتين و {قل هو اللَّه أحد} (¬1) وآية الكرسي وآخر الحشر من قوله {لو أنزلنا هذا القرآن على جبل} (¬2) إلى آخر السورة ثم يقول: لا إله إلا الله وحده لا شريك له نصر عبده وهزم الأحزاب وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله - صلى الله عليه وسلم - اللهم اغفر لي ذنوبي وتجاوز عن سيئاتي ولا تردني خائبًا يا أكرم الأكرمين واجعلني في الآخرة من الفائزين. ويقول على المروة مثل ذلك. وقوله "حتى انصبت قدماه في بطن الوادي" قال القاضي عياض (¬3): هكذا في جميع النسخ وفيه إسقاط لفظة لا بد منها وهو حتى انصبت قدماه رمل في بطن الوادي فسقط (أ) لفظة رمل، وقد ثبتت هذه اللفظة في رواية مسلم، وكذا ذكرها الحميدي في الجمع بين الصحيحين، وفي الموطأ (¬4)، حتى إذا انصبت قدماه في بطن الوادي سعى انتهى. وقد وقع في بعض نسخ صحيح مسلم مثل لفظ الموطأ (¬5)، وفيه دلالة على استحباب ¬

_ (أ) هـ: (فيسقط).

الرمل في بطن الوادي، وهو الذي عبر عنه بعض الأئمة بما بين الميلين، وهو مستحب في كل مرة من السبعة، وعن مالك روايتان إحداهما كما ذكر، والثانية يجب عليه الإعادة. وقوله "فعل على المروة مثل ما فعل على الصفا" فيه دلالة على استحباب الرقي والذكر والدعاء، وهو متفق عليه، وفي هذا دلالة على قول الجمهور من العلماء أنَّ من الصفا إلى المروة شوط ثم منها إليه شوط آخر، والخلاف لابن بنت الشافعي وأبي بكر الصيرفي من أصحاب الشافعي فجعلا مجموع ذلك شوطًا واحدًا. وقوله "فلما كان يوم التروية" وهو اليوم الثامن من شهر (أ) الحجة، سمي بذلك لأنه لم يكن ماء بعرفة فكانوا يتروون فيه، وقيل إن إبراهيم - عليه السلام - كان مترويًا في روياه في ذلك اليوم، وفيه دلالة على أنه ينبغي التقدم إلى منى قبل ذلك اليوم، وفي مسلم "فأهلوا بالحج يوم التروية" يدل أيضًا على ما ذهب إليه الشافعي أنه إن كان الحاج بمكة وأراد الإحرام أحرم يوم التروية، وقد ذكر هذا مالك أيضًا، وقال بعض السلف: لا بأس بالتقدم وهو خلاف السنة. وقوله "وركب النبي - صلى الله عليه وسلم -" إلى قوله "الفجر" فيه دلالة على سنن منها أنه يركب في حال عزمه إلى منى ولا يمشي، واختلف أيهما أفضل فالأظهر من مذهب الشافعي أن الركوب أفضل، وللشافعي قول آخر ضعيف إن المشي أفضل، وقال بعض أصحاب الشافعي الأفضل في جملة الحج الركوب إلا في مواطن المناسك وهي بمكة ومنى ومزدلفة وعرفات والتردد بينهما، وقد ورد تفضيل المشي على الركوب في جملة ¬

_ (أ) زادت هـ: (ذي).

السفر إلى الحج. ومنها أن يصلي بمنى هذه الصلوات الخمس. ومنها أن يبيت بمنى هذه الليلة وهي ليلة التاسع من ذي الحجة، وهذا المبيت سنة ليس بركن ولا واجب فلو تركه فلا دم عليه. وتوله: "حتى طلعت الشمس" فيه دلالة على أن السنة أن لا يخرجوا من منى إلا وقد طلعت الشمس، وهذا متفق عليه. وقوله: "فأجاز" أي جاوز المزدلفة ولم يقف بها، وقوله: "حتى أتى عرفة" أي قرب من عرفة لأنه فسره بقوله "فوجد القبة قد ضربت له بنمرة فنزل بها" مع أن نمرة ليست من عرفات ودخول عرفات قبل صلاة الظهر والعصر خلاف السنة، وفي الحديث هنا حذف، ولفظ مسلم "وأمر بقبة من شعر نصبت له بنمرة" ولا تشك قريش أنه واقف عند المشعر الحرام كما كانت قريش تصنع في الجاهلية وبعده فإذا جاز كما في هذا المختصر، وفي هذا دلالة على ما (أ) هو السنة من النزول بنمرة وأن لا يدخلوا عرفات إلا بعد صلاة الظهر والعصر ويغتسلون قبل الزوال فإذا زالت الشمس سار بهم الإمام إلى مسجد إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - (ب) - وخطب (جـ) بهم خطبتين خفيفتين ويخفف الثانية جدًّا، فإذا فرغ منها صلى بهم الظهر والعصر جامعًا بينهما ندبًا فإذا فرغوا من الصلاة ساروا إلى الموقف وكانت قريش في الجاهلية تقف بالمشعر الحرام وهو الجبل بالمزدلفة يقال له قزح وقيل المشعر كالمزدلفة -وهو بفتح الميم كما جاء في القرآن وقد جاء بكسرها- كراهة من قريش أن يخرجوا من الحرم لأن المزدلفة من الحرم ¬

_ (أ) سقط من هـ: (ما). (ب) هـ، جـ: (- عليه السلام -). (جـ) سقط من هـ الواو.

المحرم توقعًا منهم أن يشاركوا غيرهم في الموقف لكونهم أهل الحرم، ولذلك قال الله سبحانه: {ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس} (¬1) فظنت قريش أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما نزل بنمرة أن يقف كما يقفون، ونمرة -بفتح النون وكسر الميم ويجوز إسكان الميم- موضع بجنب عرفات وليس من عرفات، وفي ضرب القبة دلالة على جواز الاستظلال للمحرم بقبة وغيرها، ولا خلاف في جوازه للنازل وكذا للراكب عند الأكثر، وكرهه مالك وأحمد. وقوله: "فرحلت": بتخفيف الحاء المهملة أي جعل عليها الرحل. وقوله "حتى أتى بطن الوادي": هو وادي عرَنَة بضم العين المهملة وفتح الراء وبعدها نون وليست عرنة من عرفات عند كافة العلماء إلا مالكًا فقال هي من عرفات. قوله: "فخطب الناس" فيه دلالة على استحباب الخطبة للإمام بالحج يوم عرفة في هذا الموضع وهي سنة باتفاق جماهير العلماء، وخالف فيها المالكية ومذهب الشافعي أن في الحج أربع خطب مسنونة أحدها يوم السابع من ذي الحجة يخطب عند الكعبة بعد صلاة الظهر، والثانية ببطن عرفة يوم عرفات، والثالثة يوم النحر، والرابعة يوم النفر الأول، الثاني من التشويق، قال أصحاب الشافعي وكل هذه الخطب أفراد بعد صلاة الظهر إلا التي يوم عرفات فإنها خطبتان، وقبل الصلاة وبعد الزوال ويعلمهم في كل خطبة ما يحتاجون إليه في المناسك إلى الخطبة الأخرى، والله أعلم. وقوله: "ثم أذن ثم أقام ... " إلخ فيه دلالة على أنه يشرع الجمع بين الظهر والعصر هناك في ذلك اليوم، وقد أجمعت الأمة عليه، واختلفوا في سببه، فقيل سبب النسك وهو مذهب أبي حنيفة وبعض أصحاب ¬

_ (¬1) سورة البقرة الآية 199.

قوله: "فخطب الناس" فيه دلالة على استحباب الخطبة للإمام بالحج يوم عرفة في هذا الموضع وهي سنة باتفاق جماهير العلماء، وخالف فيها المالكية ومذهب الشافعي أن في الحج أربع خطب مسنونة أحدها يوم السابع من ذي الحجة يخطب عند الكعبة بعد صلاة الظهر، والثانية ببطن عرفة يوم عرفات، والثالثة يوم النحر، والرابعة يوم النفر الأول، الثاني من التشريق، قال أصحاب الشافعي وكل هذه الخطب أفراد بعد صلاة الظهر إلا التي يوم عرفات فإنها خطبتان، وقبل الصلاة وبعد الزوال ويعلمهم في كل خطبة ما يحتاجون إليه في المناسك إلى الخطبة الأخرى، والله أعلم. وقوله: "ثم أذن ثم أقام ... " إلخ فيه دلالة على أنه يشرع الجمع بين الظهر والعصر هناك في ذلك اليوم، وقد أجمعت الأمة عليه، واختلفوا في سببه، فقيل سبب النسك وهو مذهب أبي حنيفة وبعض أصحاب الشافعي، وقال أكثر أصحاب الشافعي سبب السفر فمن كان حاضرًا أو مسافرًا دون مرحلتين كأهل مكة لا يجوز له الجمع كما لا يجوز له القصر، وأنَّ الجامع بين الصلاتين يصلي الأولي أولًا وأنه يؤذن للأولى، ويقيم لكل واحدة منهما ولا يفرق بينهما بنافلة. وقوله: "ثم ركب" إلى قوله: "حتى غاب القرص" في هذه مسائل وآداب للوقوف منها: أنه إذا فرغ من الصلاتين عجل الذهاب إلى الوقف. ومنها: أن الوقوف راكبًا أفضل (أوفيه خلاف للعلماء وللشافعية ثلاثة أقوال أصحها أ) أن الركوب واقفا أفضل، والثاني غير الراكب أفضل (ب)، والثالث هما سواء. ومنها: أنه يستحب أن يقف عند الصخرات المذكورات، وهي صخرات ¬

_ (أ-أ) سقط من هـ، جـ، ي. (ب) سقط من: جـ.

مفترشات في أسفل جبل الرحمة، وهو الجبل الذي توسط أرض عرفات فهذا هو الموقف المستحب، فأما ما اشتهر من العوام من الاعتناء بصعود الجبل وتوهمهم أنه لا يصح الوقوف إلا فيه فغلط، بل الصواب جواز الوقوف في كل جزء من أرض عرفات، وأن الفضيلة موقف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند الصخرات فإن عجز عنه فليقرب منه بحسب الإمكان، ومنها: استحباب استقبال الكعبة في الموقف. ومنها: أنه ينبغي أن يقف في المواقف حتى تغيب الشمس، ويتحقق كمال غروبها ثم يفيض إلى مزدلفة، فلو أفاض قبل غروب الشمس صح وقوفه، ولزمه دم عند الهادوية، وللشافعي قولان أحدهما أنه سنة، والثاني واجب وهو مبني على أنه يجب الجمع بين الليل والنهار، وأما الوقت الذي يصح الوقوف في أي جزء منه فهو ما بين زوال الشمس يوم عرفة وطلوع فجر النحر، وهذا مذهب جماهير العلماء، وقال مالك: لا يصح الوقوف إلا بدخول جزء من الليل، فإن اقتصر على الليل وحده كفاه، وإن اقتصر على النهار لم يكفه، وقال أحمد: إن وقت الوقوف من وقت طلوع فجر يوم عرفة، وأجمعوا على أن أصل الوقوف ركن لا يصح الحج إلا به. وقوله: "حبل المشاة" روي بالحاء المهملة وإسكان الباء، وروي بالجيم وفتح الباء، والأول أشبه بالحديث، والمراد به على الأول مجتمع المشاة وحبل الرمال ما طال منه وضخم، وعلى الثاني طريقهم وحيث يسلك الرجالة. وقوله: "حتى غاب القرص" أتى به بيانًا لقوله غربت الشمس وذهبت الصفرة لئلا يتوهم أن الغروب مراد به مجازًا مغيب معظم القرص فأزال (أ) ¬

_ (أ) هـ: (فزال).

ذلك الاحتمال بقوله "حتى غاب القرص" فلا حاجة إلى تصويب بعضهم حتى بحين فتأمل. وقوله "شنق" أي ضمر وضيق وهو بتخفيف النون. وقوله: "مورك رحله" المَورِك بفتح الميم وكسر الراء وكذا الموركة هو الموضع الذي يبني الراكب رحله عليه قدام واسطة الرحل إذا مل من الركوب كذا قال الجوهري عن أبي عبيدة (¬1)، وضبطه القاضي عياض بفتح الراء قال: وهو قطعة أدم يتورك عليها الراكب يجعل في مقدم الرجل شبه الخدة الصغيرة والغرض من هذا تهوين السير. وفيه دلالة على أنه يستحب للراكب تهوين السير إذا كان يقتدى به المشاة، وكذا إذا كانت الراحلة فيها ضعف. وقوله "السكينة" السكينة بالنصب أي الزموا السكينة وهي الرفق (أ) والطمأنينة، وفيه دلالة على أنه السكينة في الدفع من عرفات سنة فإذا وجد فُرجة أسرع كما ثبت في الحديث. وقوله "كلما أتى حبلًا" الحبل هنا بالحاء المهملة المكسورة جمع حبل وهو التل اللطيف من الرمل الضخم. وقوله: "حتى تصعد" هو بفتح التاء المثناة من فوق وضمها يقال صعد في الحبل وأُصْعِدَ ومنه قوله تعالى: {إِذ تصعدون} (¬2)، وقوله: "حتى أتى المزدلفة" هي معروفة مأخوذة من التزلف والازدلاف وهو التقرب لأن الحُجاج إذا أفاضوا من عرفات ازدلفوا إليها أي مضوا إليها وتفرقوا ¬

_ (أ) هـ: (التوقف).

منها، وقيل سميت بذلك لمجيء الناس إليها، والازدلاف الاجتماع، وقيل سميت بذلك للنزول فيها ليلًا والزلف الساعات من الليل، وتسمى المزدلفة جمعًا بفتح الجيم وإسكان اليم سميت بذلك لاجتماع الناس فيها، والمزدلفة كلها من الحرم، قال الأزرقي في "تاريخ مكة" وغيره: حد المزدلفة ما بين مأزمي عرفة ووادي محسر وليس الحدان منها ويدخل في المزدلفة جميع تلك الشعاب والجبال الداخلة في الحد المذكور. وقوله "فصلى بها ... " إلخ فيه دلالة على أن السنة للدافع من عرفات أن يؤخر المغرب والعشاء ويجمع بينهما في المزدلفة مقدمًا للمغرب، وهذا مجمع عليه، وعند الهادوية وأبي حنيفة وبعض الشافعية وأهل الكوفة أن هذا الجمع نسك فيجمعه من كان مسافرًا وغيره ولا يجوز أن يصلي قبل الوصول إلى مزدلفة فإن فعل أعاد، وبه قال مالك إلا أنه قال: إذا كان به رمد (أ) أو بدابته عذر فله أن يصليهما قبل المزدلفة بشرط أن يصلي الأولى في وقت الثانية، فإن فرّق بين الصلاتين فدم، وقال المنصور بالله: إنه إذا كان لعذر فلا دم عليه، وعند الشافعي أن الجمع إنما هو لأجل السفر فلا يجوز لمن لم يكن مسافرًا مرحلتين قاصدتين، وللشافعي قول ضعيف إنه يجوز الجمع في كل سفر، وإن كان قصيرًا قال أصحاب الشافعي ولو جمع بينهما في عرفات وقت المغرب أو في الطريق أو في موضع آخر أو صلى كل واحدة في وقتها جاز جميع ذلك لكنه خلاف الأفضل، وقال بهذا جماعات من الصحابة والتابعين وبه قال الأوزاعي وأبو يوسف وأشهب وفقهاء أصحاب الحديث (¬1). وقوله "بأذان الأولى وإِقامتين" يعني يقيم لكل صلاة وبه قالت ¬

_ (أ) جـ: (رمدًا).

الهادوية والشافعية وأحمد بن حنبل وأبو ثور وعبد الملك الماجشون المالكي (أ) والطحاوي الحنفي، وقال مالك: يؤذن ويقيم للأولى ويؤذن ويقيم للثانية، وهو محكي عن عمر، وابن مسعود، وقال أبو حنيفة: بأذان واحد وإقامة واحدة وللشافعي وأحمد. قوله "أن يصلي كل واحدة بإِقامة من دون أذان" وهو محكي عن القاسم بن محمد وسالم بن عبد الله، وقال الثوري: يصليهما بإقامة واحدة، وهو محكي أيضًا عن ابن عمر. وقوله "ولم يسبح بينهما" معناه لم يفصل بينهما بنافلة، والنافلة تسمى سبحة لاشتمالها على التسبيح، ويؤخذ منه أن الأفضل الموالاة بين الصلاتين المجموعتين، واختلفوا هل الموالاة شرط للجمع أم لا؟ فقالت الهادوية إنه يصح التنفل بين الصلاتين المجموعتين، وهو الصحيح عند الشافعية إلا أن الأفضل أن لا يفصل بينهما بالنافلة، وقال المؤيد بالله: إنه إذا فصل بالنافلة وجب إعادة الأذان للثانية وبه قال بعض الشافعية، قال النووي (¬1): أما إذا جمع بينهما في وقت الأولى فالموالاة شرط بلا خلاف. وقوله "ثم اضطجع رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - ... " إلخ فيه دلالة على شرعية المبيت بمزدلفة ليلة النحر بعد الدفع من عرفات وأن ذلك نسك، وهو مجمع عليه، واختلف العلماء هل واجب أو ركن أو سنة، وذهب الهادوية إلى أنه واجب لكن يلزم لتركه دم، ومثله عن أحمد والشافعي على الصحيح من أقواله، والثاني أنه سنة لا إثم في تركه ولا يجب فيه دم بل يستحب، ومثله عن مالك، وقال جماعة من أصحاب الشافعي إنه ¬

_ (أ) سقط من هـ: (المالكي).

ركن لا يصح الحج إلا به كالوقوف بعرفات، ومن القائلين بذلك ابن بنت الشافعي وأبو بكر بن محمد بن إسحاق بن خزيمة، وقال به من التابعين علقمة والأسود والشعبي والنخعي والحسن البصري، ولا بد، يبيت أكثر الليل عند الهادوية، وعند الشافعية في أقل المجزئ من المبيت ثلاثة أقوال الصحيح منها ساعة في النصف الثاني من الليل، والثاني ساعة في النصف الثاني أو بعد طلوع الفجر قبل طلوع الشمس، والثالث معظم الليل. وقوله "وصلى الفجر حين تبين له الصبح" فيه دلالة على أنه يشرع المبالغة في تقديم صلاة الصبح في هذا الموضع على غيره من سائر الأيام تأسيًا برسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولأن وظائف هذا اليوم كثيرة فسنَّ المبالغة بالتبكير بالصبح ليتسع الوقت للوظائف الثانية في هذا اليوم. وقوله "بأذان وإقامة" فيه دلالة على شرط الأذان والإقامة في صلاة المسافر. وقوله "حتى أتى المشعر الحرام" بفتح اليم وحكى الجوهري (¬1) الكسر وبها قرأ أبو السماك. والحرام: قال النووي في الدقائق: الحرام معناه المحرم لأنه من الحرم لا من الحل ويسمى مشعر لما فيه من الشعائر يعني من معالم الدِّين، وكل علامات الحج مشاعر، والمراد به هنا جبل معروف في مزدلفة يقال له قُزَح بضم القاف وفتح الزاي وبحاء مهملة، وهو غير منصرف لأنه معدول به عن قازح وهو الجبل المعروف بمزدلفة يقف الحجيج (أ) عليه لدعاء بعد ¬

_ (أ) هـ: (الحج).

الصبح يوم النحر، قال الأزرقي: وعلى (أ) قزح أسطوانة مدورة تدويرها أربعة وعشرون ذراعًا، وطولها في السماء اثنا عشر ذراعًا وفيها خمس وعشرون درجة، وهي على خشبة مرتفعة كان يوقد عليها في خلافة هارون الرشيد بالشمع ليلة المزدلفة ويجتمعون عليها، وقال بهذا جماهير الفقهاء، وقال جماهير المفسرين وأهل السير والحديث: المشعر الحرام جميع المزدلفة. ولكن الحديث هنا صريح في الأول (¬1). وقوله "فاستقبل القبلة" يعني الكعبة فيه دليل على استحباب استقبال القبلة في الوقوف كما ذهب إليه الشافعية وجماعة من الحنفية وابن الحاج المالكي. وقوله "فدفع قبل أن تطلع الشمس" فيه دلالة على أن الوقوف بالمشعر الحرام بعد الفجر مشروع. واختلف العلماء في وقت الدفع منه، فقالت الهادوية: يمر به قبل الشروق، وقال ابن مسعود وابن عمر وأبو حنيفة والشافعي وجماهير العلماء: لا يزال واقفًا فيه يدعو ويذكر حتى يُسْفِرَ الصبح جدًّا كما في الحديث، وقال مالك: يدفع قبل الإسفار. وقوله "أسفر جدًّا": الضمير في أسفر يعود إلى الفجر، وجدًّا بكسر الجيم صفة لمصدر محذوف أي إسفارًا جدًا أي بليغًا. وقوله "بطن مُحَسِّر" بضم الميم وفتح الحاء وكسر السين المهملة المشددة سمي بذلك لأن أصحاب الفيل لما أتوا بالفيل حسر فيه أي أعيي، ومنه قوله تعالى: {خاسئا وهو حسير} (¬2). ¬

_ (أ) هـ: (وقال).

وقوله "فحرك قليلًا": فيه دلالة على أن التحريك في ذلك سنة، والمشروع في ذلك قدر رمية حجر ذكره الإمام المهدي في الغيث، وذكره النووي عن الشافعية في شرح مسلم (¬1). وقوله "ثم سلك الطريق الوسطى" فيه دلالة على أن سلوك هذه الطريق في الرجوع من عرفات سنة، وهو غير الطريق الذي ذهب فيه إلى عرفات، وهذا معنى قولهم: يذهب إلى عرفات في طريق طب ويرجع في طريق المأزمين ليخالف الطريقين كما فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في دخول مكة حين دخلها من الثنية العليا وخرج من الثنية السفلى، وكذا في العيد، وحول الرداء في الاستسقاء. وقوله "يخرج على الجمرة الكبرى": هي جمرة العقبة، وهي الجمرة التي عند الشجرة، وفيه دلالة على أن الحاج إذا دفع من مزدلفة ووصل منى فأول ما يبدأ به هو رمي جمرة العقبة ولا يفعل شيئًا قبل رميها ويكون ذلك قبل نزوله. وقوله "سبع حصيات": فيه دلالة على شرعية الرمي بهذا القدر وأنه لا بد أن يكون ذلك بالحصى فلا يجزئ إلقاء الحَجَر الكبير الذي لا يسمى إلقاؤه رميًا، ويندب أن يكون كحصى الخذف وهو قدر حبة الباقلاء، ولا يجزئ بما ليس بحجر كالزرنيخ والكحل والذهب والفضة وغير ذلك خلافًا لأبي حنيفة فجوزه بما كان من أجزاء الأرض والمرجع في جميع ذلك إلى قوله "خذوا عني مناسككم" فما فعله النبي - صلى الله عليه وسلم - في أعمال الحج فالظاهر وجوبه ما لم تقم فيه قرينة على خلاف ذلك، وفيه دلالة على تفريق الحصى وترتيبها، فإن رمى بهن دفعة واحدة أجزأه عن واحدة فقط. ¬

_ (¬1) شرح مسلم 350:3.

وقوله "يكبر مع كل حصاة" فيه دلالة على شرعية التكبير، ويدل على أن الرمي بالحصى مرتب. وقوله "من بطن الوادي" يدل على أن السنة أن يقف للرمي في بطن الوادي بحيث تكون منى وعرفة والمزدلفة عن يمينه، ومكة عن يساره، وهذا هو الصحيح، وقبل يقف مستقبل القبلة وكيفما رماها أجزأه حيث يسمى رميًا بما يسمى حجرًا، والرمي مشروع إجماعًا في يوم النحر لجمرة العقبة فقط، وهو نُسُكٌ بالإجماع، ولا يفوت الحج بفواته ويلزم دم، وقال مالك: يفسد حجه ويلزم لنقص أربع أحجار فما دون ذلك صَدقَة عن كل حجر ويلزم دم لتفريقها. وقوله "ثم انصرف إِلى المنحر" يدل على أن المنحر موضع مخصوص من منى وجميع منى موضع للنحر كما قال - صلى الله عليه وسلم - وفي مسلم (¬1) "أنه نحر ثلاثًا وستين بدنة بيده ثم أعطى عليًّا فنحر ما غبر أي ما بقي- وأشركه في هديه، وكان جميع هديه مائة بدنة، فالذي أتى به من المدينة معه ثلاثًا وستين بدنة، وأتى عليّ بباقي (أ) المائة من اليمن" كما جاء في رواية الترمذي، وفيه دلالة على أنه يشرع تكثير الهدي وأنه (ب) ينحر جميعه في يوم النحر ولا يؤخر إلى سائر أيام النحر منه شيء، وظاهر قوله "وأشركه في هديه" أنه قد كان الهدي معينًا للنبي - صلى الله عليه وسلم - ثم أشرك عليًّا بعد ذلك، قال القاضي عياض: وعندي أنه لم يكن شريكًا حقيقة بل أعطاه قدرًا يذبحه، انتهى (¬2). ¬

_ (أ) هـ: (بتوفية). (ب) هـ: (فإنه).

وأقول إنه لا مانع أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - قد نوى التقرب بذلك جميعه ثم خص عليًّا بالمشاركة في ثواب ذلك، ويكون ذلك خاصًّا به - صلى الله عليه وسلم - تكرمة لعلي - رضي الله عنه، وفي تمام الرواية في مسلم "ثم أمر من كل بدنة ببَضْعَة" بفتح الباء لا غير وهي قطعة من اللحم فجعلت في قدر وطبخت وأكل من لحمها وشرب من مرقها، وهذه سنة أجمع العلماء على أن المهدي والمضحي لهما الأكل من الأضحية والهدي وأن الأكل ليس بواجب. وقوله "فأفاض إِلى البيت وصلى بمكة الظهر" في الكلام تقدير، وتقديره فأفاض إلى البيت وطاف بالبيت فحذف ذكر الطواف لدلالة الكلام، والطواف هذا هو طواف الإفاضة وهو طواف الزيارة، وهو ركن من أركان الحج بإجماع المسلمين ووقت أدائه من فجر النحر إلى آخر أيام التشريق، وعند الشافعية من نصف ليلة النحر وأفضله بعد رمي الجمرة وذبح الهدي والحلق، ويندب في ضحوة يوم النحر ويكره تأخيره إلا لعذر ولا يحرم تأخيره عن أيام التشريق ولو تطاولت المدة ولكن النساء لا تحل إلا بعده، واتفق العلماء على أنه لا يشرع فيه الرمل، إلا إذا ترك الرَّمَلَ في طواف القدوم، فأحد قولي الشافعي أنه يشرع له الرمل، ويقع عنه طواف القدوم إذا أخر إلى يوم النحر، وكذا طواف الوداع عند الهادوية والحنفية ونص عليه الشافعي واتفق عليه أصحابه، وقال أبو حنيفة وأكثر العلماء: لا يجزئ عنه طواف بنية غيره، وفي ركوب النبي - صلى الله عليه وسلم - في الدفع إلى مزدلفة ومنها إلى منى ومنها إلى مكة دلالة على استحبابه في هذه المواطن، وبعض أصحاب الشافعي قال المشي أفضل فيها. وقوله "فصلى الظهر بمكة" فيه دلالة على أنه - صلى الله عليه وسلم - صلى بمكة، وفي رواية ابن عمر عند مسلم أيضًا "إنه أفاض يوم النحر فصلى الظهر

بمنى" (¬1) ووجه الجمع أنه - صلى الله عليه وسلم - طاف للإفاضة قبل الزوال ثم صلى الظهر بمكة في أول وقتها ثم رجع إلى منى فصلى بها الظهر مرة أخرى بأصحابه حين سألوه ذلك فيكون متنفلًا بالظهر الثانية التي بمنى، وقد ثبت مثل هذا في صلاة أخرى في الصحيحَيْن فكانت له صلاتان ولهم صلاة واحدة، وقد ورد عن عائشة - رضي الله عنها - وغيرها أنه أخر الزيارة يوم النحر إلى الليل، وهو محمول على أنه عاد للزيارة مع نسائه لا لأجل الإفاضة، والله أعلم. 578 - وعن خزيمة بن ثابت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - "كان إِذا فرغ من تلبيته في حج أو عمرة، سأل اللَّه رضوانه والجنة واستعاذ برحمته من النار" رواه الشافعي بإسنادٍ ضعيف (¬2). الحديث أخرجه الشافعي، وفي إسناده صالح بن محمد بن زائدة، أبو واقد الليثي، وهو مدني ضعيف (¬3)، وروى عنه إبراهيم بن أبي يحيى (¬4)، وفيه مقال، ولكنه لم ينفرد به بل تابعه عليه عبد الله بن عبد الله الأموي أخرجه البيهقي والدارقطني. ¬

_ (¬1) مسلم الحج، باب استحباب طواف الإفاضة يوم النحر 2: 950 ح 335 - 1308. (¬2) الشافعي 938 (بدائع المنن) البيهقي الحج باب ما يستحب من القول في أثر التلبية 5: 46، الدارقطني نحره الحج 2: 238 (11). الطبراني 4: 85 (3721). (¬3) هو صالح بن محمد بن زائدة، أبو واقد الليثي المدني قال فيه البخاري: منكر الحديث، وقال النسائي: ليس بالقوي، وقال الدارقطني: ضعيف، وقال أحمد: ما أرى به بأسًا. (ميزان الاعتدال 2: 299: 300). (¬4) هو إبراهيم بن محمد بن أبي يحيى (سمعان)، الأسلمي مولاهم، المدني، أبو إسحاق. قال فيه ابن حجر: متروك (انظر: تهذيب التهذيب 1: 158 - 161، تقريب التهذيب 1: 42 (269)، الضعفاء الصغير للبخاري 7 - 8، الضعفاء والمتروكين للنسائي 5، موضح أوهام الجمع والتفريق للخطيب البغدادي 1: 365، ...

في الحديث دلالة على استحباب الدعاء، وأفضل الدعاء ما دل عليه الحديث، والله أعلم. 579 - وعن جابر - رضي الله عنه - قال: قال - صلى الله عليه وسلم -: "نحرتُ ها هنا ومنى كلها منحر، فانحروا في رحالكم، ووقفت هاهنا وعرفة كلها موقف، ووقفت هاهنا وجمع كلها موقف" رواه مسلم (¬1). قوله "نحرت ... " إلى آخره في هذه الألفاظ بيان رفقه - صلى الله عليه وآله وسلم - وشفقته بأمته في توسعة الأمر عليهم وعدم التضييق والتحرج عليهم فبين لهم المحل الأفضل وهو الموضع الذي نسك فيه، وأنه غير متضيق عليهم الاقتفاء به في ذلك، بل يجزئهم أن ينسكوا فيه وفي غيره مما شمله الاسم، ومنى حدها من وادي محسر إلى العقبة، فأي جزء منها وقع فيه النحر أجزأ، ومنى هي محل لجميع النسك المشروع في الحج وهو دم القران والتمتع والإحصار والإفساد والتطوع بالهدي، وهو مكان اختياري لهذه الدماء، وأما ما لزم المعتمر فمحله مكة، وأما سائر الدماء من الجزاءات ونحوها فمكانها الحرم المحرم ولكنه لا يختصُّ بمنى إلا إذا كان النحر في أيام التشريق، وأما إذا أخر عن أيام التشريق فالحرم جميعه صالح لذلك، وإذا نحر في غير منى أجزأ ولزمه دم، وقال الشافعي وأصحابه: يجوز نحر الهدي ودماء الجنايات في جميع الحرم لكن الأفضل في حق الحاج النحر بمنى، وأفضل موضع النحر بمنى موضع نحر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وما قاربه. قال ابن التين: منحر النبي - صلى الله عليه وسلم - عند الجمرة الأولى التي تلي مسجد منى، والمنحر فيه فضيلة عن غيره، ولذلك كان ابن عمر يسابق إليه، وأخذ ابن التين تعيين هذا المكان من أثرٍ ذكره الفاكهي من طريق ابن ¬

_ (¬1) مسلم الحج باب ما جاء أن عرفة كلها موقف 893:2 ح 149 - 1218 م.

جرير عن طاوس: "كان منحر النبي - صلى الله عليه وسلم - بمنى ... " إلخ. والأفضل في حق المعتمر أن ينحر في المروة لأنها موضع تحلل الحاج، والرحال جمع رحل والمراد به المنزل، قال أهل اللغة: رحل الرجل: منزله سواء كان من حجرٍ أو مدر أو شعر أو وبر. وقوله "وعرفة كلها موقف" وحدها مما خرج عن وادي عرفة إلى الجبال المقابلة مما يلي بساتين بني عامر، هكذا نص عليه الشافعي وجميع أصحابه، ونقل الأزرقي عن ابن عباس أنه قال: "حد عرفات من الجبل المشرف على بطن عرنة إلى جبال عرفات إلى وَصِيق" بفتح الواو وكسر الصاد المهملة وآخره قاف إلى منتهى وَصِيق. وقال الزمخشري: الوصيق جبل لكنانة وهذيل ووادي عرفة. وقيل غير هذا مما هو مقارب وقد تقدم حد جمع. 580 - وعن عائشة - رضي الله عنها - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - "لما جاء إِلى مكة دخلها من أعلاها وخرج من أسفلها" متفق عليه (¬1). كان هذا منه - صلى الله عليه وسلم - في عام الفتح، وأعلاها موضع يقال له كَدَاء بفتح الكاف والمد لا يصرف، وهذه الثنية هي التي نزل منها إلى المعلى مقبرة أهل مكة، وهي التي يقال لها الحَجُون بفتح الحاء المهملة وضم الجيم. وكانت صعبة المرتقى فسهلها معاوية ثم عبد الملك ثم المهدي على ما ذكره الأذرعي ثم سهل منها موضع في سنة إحدى عشرة وثمانمائة، ثم سهلت كلها في زمن سلطان مصر اللك المؤيد في حدود العشرين وثمانمائة، وكل عقبة في جبل أو طريق عال يسمى ثنية، وأسفلها هي ¬

_ (¬1) البخاري الحج باب من أين يخرج من مكة 3: 437 ح 1577، مسلم الحج، باب استحباب دخول مكة من الثنية العليا والخروج منها من الثنية السفلى ... 2: 918 ح 224 - 1258 (واللفظ له).

الثنية السفلى تسمى كدى بضم الكاف والقصر وهي عند باب الشبيكة بقرب شعب الشاميين من ناحية قيقعان، واختص بدخوله في ذلك الوقت لما روي أنه قال أبو سفيان: "لا أسلم حتى أرى الخيل من كداء، فقال له العباس: ما هذا؟ قال: شيء طلع بقلبي وإن الله لا يطلع الخيل هناك أبدًا، قال العباس فذكرت أبا سفيان بذلك لما دخل" (¬1). والبيهقي من حديث ابن عمر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: كيف قال حسان؟ فأنشده: عدمت بنيتي إن لم تروها (أ) ... تنثر القنع مطلعها كداء فتبسم وقال: ادخلوها من حيث قال حسان (¬2). قال النووي: واختلف في المعنى الذي لأجله خالف - صلى الله عليه وسلم - بين طريقيه، فذكر الأقوال التي مرت في المخالفة في يوم العيد عند خروجه وعوده من الصلاة، والأولى أنه لما دخل - عليه السلام - في يوم الفتح استمر الحكم فيه، واستحب ذلك لمن كان على طريقه كالمدني والشامي، ومن لم يكن كذلك كاليمني فيتسحب له أن يستدير ويفعل ذلك. وقال بعض الشافعية: إنما فعله النبي - صلى الله عليه وسلم - لأنه كان على طريقه فلا يستحب لمن لا يكون كذلك (¬3)، والله أعلم. 581 - وعن ابن عمر - رضي الله عنه - "أنه كان لا يقدم مكة إِلا بات بذي طوى حتى يصبح ويغتسل، ويذكر ذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم -" ¬

_ (أ) ي: (عدمنا خيلنا إن لم يرها).

متفق عليه (¬1). ذو طوى: بفتح الطاء المهملة وضمها وكسرها، والفتح اشتهر وأفصح ويصرف ولا يصرف موضع معروف بقرب مكة وهو بين الثنية العليا التي يصعد إليها من الوادي المعروف بالزاهر، وبين الثنية السفلى التي ينحدر منها إلى المقابر، وهو المحصب. وقال المحب الطبري: هو موضع عند باب مكة يعرفه أهل مكة، وقد ترك الناس هذه السنة وأماتوها والخير في اتباعه - صلى الله عليه وسلم - والاقتداء بأفعاله. والمبيت به حتى يصبح فيه دلالة على استحباب ذلك لمن كان على طريقه وأنه يستحب دخول مكة نهارًا، وهو قول الأكثر، وقال جماعة من السلف وبعض الشافعية الليل والنهار سواء، والنبي - صلى الله عليه وسلم - دخل مكة ليلًا في عمرة الجعرانة. وقوله "ويغتسل" فيه دلالة على استحباب الغسل لدخول مكة، وقوله "ويذكر ذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم -" مشعر برفعه فله حكم المرفوع. 582 - وعن ابن عباس - رضي الله عنه - "أنه كان يُقبِّل الحجر الأسود ويسجد عليه" رواه الحاكم مرفوعًا والبيهقي موقوفًا، ورواه الشافعي أيضًا موقوفًا (¬2)، ورواه البيهقي أيضًا والحاكم مرفوعًا قال: "رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -" الحديث (¬3). ورواه أبو داود والطيالسي والدارمي وابن خزيمة وأبو بكر البزار وأبو علي ¬

_ (¬1) البخاري الحج، باب الاغتسال عند دخول مكة 3: 435 ح 1573 (بنحوه) ومسلم الحج، باب استحباب المبيت بذي طوى عند إرادة دخول مكة 2: 919 ح 227 - 1259. (واللفظ له). (¬2) الشافعي 1035 (بدائع المنن). (¬3) المستدرك 1: 455، البيهقي 5: 74 - 75.

ابن السكن والبيهقي من حديث جعفر بن عبد الله، واختلف فيه، فقال ابن السكن رجل من بني حميد من قريش، وقال البزار: مخزومي، وقال الحاكم: هو ابن الحكم، ثم قال الحاكم: "ثم قال رأيت خالك ابن عباس يقبله ويسجد عليه، وقال ابن عباس: رأيت عمر بن الخطاب يقبله ويسجد عليه ثم قال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فعل هذا" هذا لفظ الحاكم. قال المصنف -رحمه الله-: وَهِمَ في قوله: إن جعفر بن عبد الله هو ابن الحكم فقد نص العقيليّ على أنه غيره، وقال في هذا: في حديثه وهم واضطراب. والحديث فيه دلالة على شرعية تقبيل الحجر الأسود والسجود عليه، وسيأتي الكلام على حديث عمر قريبًا. 583 - وعنه قال: "أمرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يرملوا ثلاثة أشواط ويمشوا ما بين الركنين" متفق عليه (¬1). الرمل بفتح الراء والميم والخبب بمعنى واحد وهو إسراع المشي مع تقارب الخطى، وهو يستحب في الطواف الثلاثة من السبع ولا يسن إلا في طواف بعده سعي، وهو طواف العمرة وطواف القدوم وإذا لم يُرِد السعي بعد طواف القدوم ففيه قولان عند الشافعية أحدهما يشرع الرمل وهو الأصح والثاني لا يشرع. وقوله "ثلاثة أشواط" بفتح الهمزة والشين المعجمة جمع شوط بفتح المعجمة، والمراد به الطوفة الواحدة، وفي هذا الإطلاق دلالة على أنه لا يكره إطلاق الشوط عليه، وقد كره (أ) الشافعي ومجاهد إطلاق الشوط ¬

_ (أ) جـ، ي: (ذكره).

والدورة عليه، وقالا: يقال له: طَوْفَة، وفي هذا دلالة على أن المشروع إنما هو في الثلاثة الأول فلو ترك فيها لم يفعل ذلك في الأخيرة ولا دم (أ) عليه عند الهادوية والشافعية، وقال بعض المالكية: عليه دم. وقوله "وأن يمشوا ما بين الركنين، فعل ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - في عمرة القضاء، وأمر به أصحابه لما كان في المسلمين من الضعف" كما قال ابن عباس إنه قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، فقال المشركون إنه يقدم عليكم قوم قد وهنتهم حمى يثرب، فأمرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يرملوا الأشواط الثلاثة، وأن يمشوا ما بين الركنَيْن اليمانيين ويرملوا ما بين الركنين الشاميين لأن المشركين كانوا بإزاء تلك الناحية فإذا مروا بالركنين اليمانيين مشوا على هيئتهم ولم يمنعه أن يأمرهم أن يرملوا الأشواط كلها إلا الإبقاء عليهم، وقد ذهب إلى العمل بهذا ابن الصباغ فقال: إن الرمل لا يكون إلا فيما بين الركنين، وأجاب الجمهور القائلون بأن الرمل من الحَجَر إلى الحَجَرِ بأن ذلك إنما كان في عمرة القضاء، وقد ذكر بسببه وهو الإبقاء عليهم، وأما في حجه - صلى الله عليه وسلم - فإنه رمل من الحَجَر إلى الحَجَر (¬1)، وكان متأخرًا فيكون ناسخًا ووجب الأخذ به. 584 - وعنه قال: "لم أر رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - يستلم من البيت غير الركنين اليمانيين" رواه مسلم. قوله "يستلم": أي يمسح عليهما من السلام بمعنى التحية، شبه المسح عليهما بالمسح لليد عند الملاقاة لأجل التحية لكون الماسح عليهما ¬

_ (أ) سقط من هـ: (دم).

كالقادم المسَلِّم على البيت. وقوله "الركنين اليمانيين" المراد بهما الحجر الأسود والرُّكْن اليماني أطلق عليهما ذلك تغليبًا، ويقال للركنين الآخرين الشاميين، وقد يقال لركن الحجر الأسود، والركن الذي يليه من ناحية الباب العراقيان، ويقال للركن اليماني والذي يلي الحجر من ظهر الكعبة الغربيان واليمانيان بتخفيف الياء، وهي اللغة الفصيحة المشهورة. تنبيه: يمان مخفف يمني بتعويض الألف من إحدى ياءي النسب فبقيت الياء الأخرى مخففة، وحكى سيبويه والجوهري وغيرهما التشديد أيضًا بياء على زيادة الألف وبياء النسب بحالها، وفي هذا دلالة على استحباب استلام الركنين المذكورين واختصا بذلك لكونهما على قواعد إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - وزاد الحجر الأسود بالتقبيل لفضيلة الحجر دون الركنين الشاميين، وقد أجمعت الأمة على استحباب استلامهما، واتفق الجمهور على أنه لا يمسح الركنان الشاميان، وقد ذهب إلى استحباب استلامهما الحسنان ابنا علي - رضي الله عنهما - وابن الزبير وجابر بن عبد الله وأنس بن مالك وعروة بن الزبير وأبو الشعثاء جابر بن زيد. وأخرج أحمد وابن مهدي والحاكم من طريق عبد الله بن عثمان بن خثيم عن أبي الطفيل قال: كنت مع ابن عباس ومعاوية، فكان معاوية لم يمر بركن إلا استلمه فقال ابن عباس: "إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يستلم إلا الحَجَر واليماني" فقال معاوية: ليس شيء من البيت مهجورًا. وأخرج مسلم المرفوع من وجه آخر عن ابن عباس (¬1)، وروى أحمد أيضًا من طريق شعبة عن قتادة عن أبي الطفيل قال: "حج معاوية وابن ¬

_ (¬1) مسلم الحج باب استحباب استلام الركنين اليمانيين في الطواف دون الركنين الآخرين 2: 925 ح 247 - 1269.

عباس، فجعل ابن عباس يستلم الأركان كلها، فقال معاوية: إنما استلم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذين الركنين اليمانيين فقال ابن عباس: ليس من أركانه شيء مهجور" قال عبد الله بن أحمد في العلل سألت أبي عنه فقال: قبله شعبة، وقد كان شعبة يقول: الناس يخالفونني في هذا ولكني سمعته من قتادة هكذا انتهى. وقد رواه سعيد بن أبي عروبة عن قتادة على الصواب أخرجه أحمد أيضًا، وكذا أخرجه من طريق مجاهد عن ابن عباس نحوه، وروى الشافعي من طريق محمد بن كعب القرظي أن ابن عباس (أ) قال: " {لقد كان لكم في رسول اللَّه أسوة حسنة} (¬1) ولفظ رواية مجاهد المذكورة عن ابن عباس "أنه طاف مع معاوية فقال: ليس شيء من البيت مهجورًا، فقال ابن عباس: {لقد كان لكم في رسول اللَّه أسوة حسنة}، فقال معاوية: صدقت". وأخرج الأزرقي في تاريخ مكة أن ابن الزبير لما فرغ من بناء البيت استلم الأركان الأربعة فلم يزل البيت على بناء ابن الزبير إذا طاف الطائف استلم الأركان كلها، وإن إبراهيم وإسماعيل لما فرغا من بناء البيت طافا به سبعًا يستلمان الأركان كلها، وقد أخرج البخاري في كتاب الطهارة من حديث ابن عمر أنه قال له عُبَيد بن جريج: "رأيتك تصنع أربعًا لم أر أحدًا من أصحابك يصنعها فذكر منها: رأيتك لا تمس من الأركان إلا اليمانيين ... " الحديث (¬2)، ففيه دلالة على أن غيره من الصحابة والتابعين ¬

_ (أ) هـ: (معاوية بن عباس)!

لا يقتصرون عليهما، وقال بعض أهل العلم: اختصاص الركنين مبين بالسنة، ويقاس عليهما الركنان الآخران، وأجاب الشافعي عن قول من قال ليس شيء من البيت مهجورًا بأنا لم ندعهما هجرًا لهما ولكن نتبع السنة فعلًا وتركًا. وقال القاضي أبو الطيب: أجمعت أئمة الأمصار والفقهاء على أنهما لا يستلمان قال: وإنما كان فيهما خلاف لبعض الصحابة والتابعين وانقرض الخلاف، انتهى. وكلام الهادوية (¬1) ظاهره استلام الأركان الأربعة، والله أعلم. 585 - وعن عمر - رضي الله عنه - "أنه قبل الحَجَر وقال: إِني أعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - يقبلك ما قبلتك" متفق عليه (¬2). قوله "قبَّل الحجر" التقبيل هو بالفم، فيه دلالة على شرعية التقبيل للحجر، وقد تقدم، والتقبيل هو بعد استلام الحجر، وبعد التقبيل السجود عليه بالجبهة، وهذا هو مذهب الجمهور من العلماء، وحكاه ابن المنذر عن عمر بن الخطاب وابن عباس وطاوس والشافعي وأحمد، وذكره الإمام المهدي في البحر ولم ينسبه إلى أحد، وانفرد مالك من العلماء فقال: السجود عليه بدعة، واعترف القاضي عياض بشذوذ مالك في ذلك، وهذا القول من عمر - رضي الله عنه - إرشاد للناس وزجر عن الاعتقاد في الأحجار ونسبة النفع والضر إليها كما كانت الجاهلية في عبادة الأصنام وتعظيمها ورجاء منفعتها وخوف الضر بالتقصير في تعظيمها، فبين أن ¬

_ (¬1) لها هامش غير واضح. (¬2) البخاري باب تقبيل الحجر 3: 475 ح 1610، مسلم الحج، باب استحباب تقبيل الحجر الأسود في الطواف 2: 925 ح 248 - 1270.

الحجر الأسود باعتباره في ذاته لا قدرة له على نفع ولا ضر وأنه حجر مخلوق كباقي المخلوقات التي لا تضر ولا تنفع وأنه لو لم يرد تعظيمها في الشرع لما عظمت بالنظر إليها في ذاتها، وأشاع عمر هذا في الموسم ليشتهر ذلك في البلدان ويحفظه عنه أهل الموسم المختلفو الأوطان، والله أعلم. فائدة: استنبط بعضهم من مشروعية تقبيل الحجر جواز تقبيل كل من يستحق التعظيم من آدمي أو غيره، وقد نقل عن الإمام أحمد أنه سئل عن تقبيل منبر النبي - صلى الله عليه وسلم - وتقبيل قبره فلم ير به بأسًا، واستبعد بعض أتباعه صحة ذلك، ونقل عن ابن أبي الضيف اليماني أحد علماء مكة من الشافعية جواز تقبيل المصحف وأجزاء الحديث وقبور الصالحين، والله أعلم (¬1). 586 - وعن أبي الطُّفَيْلِ قال: "رأيت رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - يطوف بالبيت ويستلم الركن بمحْجن معه، ويُقَبِّل المحجن" رواه مسلم (¬2). هو عامر بن واثلة الليثي (¬3)، واثِلَة بالثاء المثلثة المكسورة ويقال الكناني ويقال اسمه عمرو، وغلبت عليه كنيته، أدرك من حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - ثمان سنين، ومات سنة مائة واثنتين بمكة، وقيل: سنة مائة وقيل عشر ومائة، وقال العامري: وهو الصحيح، وقال الذهبي: سنة مائة وواحدة، وهو آخر من مات من الصحابة في جميع الأرض، روى عنه الزهري وأبو الزبير وجابر بن زيد (¬4). ¬

_ (¬1) الفتح 3: 475. (¬2) مسلم الحج باب جواز الطواف على بعير وغيره واستلام الحجر بمحجن ونحوه للراكب 2: 927 ح 257 - 1275. (¬3) بالهامش: فائدة في آخر من مات من الصحابة. (¬4) الإصابة 4: 113 (طبعة مطبعة السعادة، مصر).

قوله "يطوف بالبيت" في مسلم زيادة "راكبًا على بعير" (¬1). وقوله "ويستلم الركن" الاستلام هنا إما من السلام بفتح السين بمعنى التحية، قاله الأزهري، أو من السِّلام بكسر السين أي الحجارة، والمعنى أنه يرمي بعصاه إلى الركن حتى يصيبه، كذا قيل وهو بعبيد، والمحجن بكسر الميم وسكون الحاء المهملة وفتح الجيم بعدها نون هو عصا محنية الرأس، والحجن الاعوجاج وبذلك سمي الحجون. وقوله "ويقبل المحجن" وهذا مثل ما ورد في تقبيل اليد إذا استلم بها الركن كما في حديث ابن عمر، أخرجه البخاري. وأخرج سعيد بن منصور من طريق عطاء قال: "رأيت أبا سعيد وأبا هريرة وابن عمر وجابر إذا استلموا الحجر قبلوا أيديهم، قيل: وابن عباس؟ قال: وابن عباس أحسبه". وبهذا قال الجمهور إن السنة أن يستلم الركن ويقبل يده، فإن لم يستطع أن يستلمه تناوله بشيء في يده وقبل ذلك الشيء فإن لم يستطع أشار إليه واكتفى بذلك، وعن مالك في رواية لا يقبل يده، وكذا قال القاسم، وفي رواية عند المالكية يضع يده على فيه من غير تقبيل. فائدة: ورد في الذكر عند الطواف حديث عبد الله بن السائب مرفوعًا أنه كان يقول في ابتداء الطواف "بسم الله والله أكبر، اللهم إيمانًا بك وتصديقًا بكتابك ووفاء بعهدك واتباعًا لسنة نبيك محمد" رواه الرافعي، وذكره صاحب المهذب من حديث جابر وبيض له المنذري والنووي وخرجه ابن عساكر من طريق ابن ناجية بسند له ضعيف، ورواه الشافعي عن ابن أبي نجيح قال: أُخبرت أن بعض أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ¬

_ (¬1) من حديث جابر في مسلم كتاب الحج، باب جواز الطواف على بعير وغيره 2: 926 ح 254 - 1273.

يا رسول الله كيف نقول إذا استلمنا؟ قال: "قولوا بسم الله والله أكبر إيمانًا بالله وتصديقًا لما جاء به محمد" وهو في الأم عن سعيد بن سالم عن ابن جريج. وروى الطبراني والبيهقي في الأوسط والدعاء (أ)، عن الحارث الأعور عن علي - رضي الله عنه - أنه كان إذا مر بالحجر الأسود فرأى (ب) عليه زحامًا استقبله وكبر ثم قال: اللهم إيمانًا بك وتصديقًا بكتابك، واتباعا لسنة نبيك، وبين الركن اليماني والحجر الأسود. أخرج أبو داود وأحمد من حديث عبد الله بن السائب أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} (¬1) وصححه ابن حبان والحاكم (¬2)، وقال الرافعي: إنه إذا انتهى إلى العوالي يقول: "اللهم إني أعوذ بك من الشك والشرك والنفاق والشقاق وسوء الأخلاق" ولم يذكر له مستندًا. وأخرجه البزار من حديث أبي هريرة مرفوعًا لكن لم يقيده بما عند الركن ولا عند الطواف. وأخرج ابن ماجه والحاكم من حديث ابن عباس "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يدعو بهذا الدعاء بين الركنين: اللهم قنعني بما رزقتني وبارك لي فيه، واخلف علي كل غائبة لي بخير" (¬3). ¬

_ (أ) كذا في الأصل، وفي هـ، جـ: (وروى الطبراني في الأوسط والبيهقي في الدعاء). (ب) هـ: (يرى).

ولابن ماجه عن أبي هريرة: "من طاف بالبيت سبعًا فلم يتكلم إلا سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله، محت عنه عشر سيئات وكتب له عشر حسنات، ورفعت له عشر درجات" (¬1) وإسناده ضعيف. وله عن أبي هريرة "إن الله وكّل بالحجر سبعين ملكًا، فمن قال اللهم إني أسألك العفو والعافية في الدنيا والآخرة، ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار قالوا آمين". قال الرافعي: ولا بأس بقراءة القرآن في الطواف بل هي أفضل من الدعاء الذي لم يؤثر، ومثله ذكر الإمام المهدي في البحر والدعاء المسنون أفضل منها تأسيًا برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والله أعلم. 587 - وعن يعلى بن أمية قال: "طاف النبي - صلى الله عليه وسلم - مضطبعًا ببرد أخضر" رواه الخمسة إلا النسائي وصححه الترمذي (¬2). هو أبو صفوان، ويقال أبو خلف، ويقال أبو خالد وهو الأكثر يعلى بن أمية بضم الهمزة وفتح الميم وتشديد الياء تحتها نقطتان، اسم أمه، ابن أبي عبيدة التميمي الحنظلي حليف قريش، وهو يعلى بن منية أيضًا بضم الميم وسكون النون وفتح الياء، وأمية هي أمه وقيل أم أبيه، وبها يعرف، وهي جدة الزبير بن العوام لأمه، وهي أخت عتبة بن غزوان، وقيل عمته، وفي الاستيعاب (¬3) أن أمية اسم أبيه، ومنية اسم أبيه، فينسب تارة إلى أبيه وتارة ¬

_ (¬1) ابن ماجه المناسك، باب فضل الطواف 2: 986 ح 2957. (¬2) أبو داود المناسك، باب الاضطباع في الطواف 2: 443 ح 1883، الترمذي الحج باب ما جاء أن النبي - صلى الله عليه وسلم - طاف مضطبعًا 3: 214 ح 859، ابن ماجه المناسك باب الاضطباع 2: 984 ح 2954، أحمد 4: 222. (¬3) الاستيعاب 3: 661 (مع الإصابة ط. مطبعة السعادة. مصر).

إلى أمه، أسلم يعلى يوم الفتح وشهد حُنَينًا والطائف وتبوك، وكان عاملًا لعمر على نجران، وهو معدود في أهل الحجاز، قتل بصفين مع علي بن أبي طالب، كذا قال ابن الأثير (¬1)، وقال الذهبي: كان واليًا لعثمان على اليمن، فلما قتل (أ) أقبل من اليمن، وخرج مع أهل الجمل وأعانهم بأموال جليلة فلما هزموا (ب) هرب ثم أقبل على شأنه إلى قريب الستين فما أدري توفي قبل معاوية أو بعده (¬2) انتهى. روى عنه ابنه صفوان وعبد الله بن الديلمي وعطاء ومجاهد (¬3) وعكرمة. قوله "مضطبعًا" الاضطباع هو أن يجعلوا أرديتهم تحت آباطهم ثم يقدمونها على عواتقهم اليسرى، وقد ورد أيضًا من حديث ابن عباس في عمرة الجعرانة، أخرجه أبو داود (¬4). 588 - وعن أنس - رضي الله عنه - قال: "كان يهل منا المهل فلا ينكر عليه، ويكبر منا المكبر فلا ينكر عليه" متفق عليه (¬5). ورد هذا في صفة غدوهم من منى إلى عرفات، وفي رواية لمسلم بلفظ: "منا الملبي ومنا المكبر" (¬6)، وفيه دلالة على استحبابها في الذهاب ¬

_ (أ) زادت هـ: (عثمان). (ب) هـ: (هربوا).

من منى إلى عرفة يوم عرفة، والتلبية أفضل، وفيه رد على مَنْ قال بقطع التلبية بعد صبح يوم عرفة، والله أعلم. 589 - وعن ابن عباس - رضي الله عنه - قال: "بعثني رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - في الثَّقَل أو قال في الضَّعَفة من جمع بليل" الحديث متفق عليه (¬1). ورواه الشافعي واللفظ له، ومن طريقه البيهقي، ورواه النسائي بلفظ: "أرسلني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع ضعفة أهله، فصلينا الصبح بمنى ورمينا الجمرة" (¬2). وقوله "في الثقل" هو بفتح الثاء المثلثة والقاف وهو المتاع ونحوه، والضعفة المراد بهم النساء ومن يتصل بهن من الصبيان. والحديث فيه دلالة على أنه يجوز الدفع من مزدلفة قبل طلوع الفجر للنساء ومن أشبههن في الضعف، والله أعلم. 590 - وعن عائشة - رضي الله عنها - قالت: "استأذنت سودة رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - ليلة المزدلفة أن تدفع قبله، وكانت ثبطة -يعني ثقيلة- فأذن لها" متفق عليه (¬3). قوله "أن تدفع قبله" فيه دلالة على جواز الدفع من مزدلفة قبل الفجر ولكن ذلك للعذر كما قال "وكانت ثبطة" والثبطة بفتح الثاء المثلثة ¬

_ (¬1) البخاري الحج باب حج الصبيان 4: 71 ح 1856، مسلم الحج باب استحباب تقديم دفع الضعفة من النساء وغيرهن من مزدلفة إلخ 2: 941 ح 300 - 1293، سنن البيهقي 5: 123. (¬2) النسائي باب الرخصة للضعفة أن يصلوا يوم النحر الصبح بمنى 5: 215. (¬3) البخاري كتاب الحج، باب من قدم ضعفة أهله بليل 3: 526 ح 1680، مسلم الحج باب استحباب تقديم دفع الضعفة من النساء. . . .، 2: 939 ح 293 - 1290.

وكسر الباء الموحدة أي ثقيلة الحركة بطيئة من التثبط وهو التعوق. وقد اختلف العلماء في قدر المبيت بمزدلفة وفي حكمه، أما حكمه فذهب الأكثر وهو الصحيح من مذهب الشافعي قال به فقهاء الكوفة وأصحاب الحديث إنه واجب من تركه لزمه دم، وذهب جماعة وهو قول للشافعي إنه سنة إن تركه فاتته الفضيلة ولا إثم عليه ولا دم ولا غيره، وذهب الحسن البصري والنخعي إلى أنه لا يصح الحج إلا به، وقال به أبو عبد الرحمن ابن بنت الشافعي وأبو بكر ابن خزيمة، وحكي عن عطاء والأوزاعي أن المبيت بمزدلفة لا واجب ولا سنة ولا فضيلة بل هو منزل كسائر المنازل إن شاء نزله وإن شاء تركه ولا فضيلة فيه، وهو قول باطل، وأما قدره فذهب الهادوية إلى أنه أكثر الليل وهو أحد أقوال مالك والشافعي، والثاني جميع الليل، والثالث أقل زمانه، والصحيح من مذهب الشافعي أنه ساعة في النصف الثاني من الليل وفي قول له ساعة من النصف الثاني أو بعده إلى طلوع الشمس. 591 - وعن ابن عباس - رضي الله عنه - قال: قال لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا ترموا الجمرة حتى تطلع الشمس" رواه الخمسة إلا النسائي (¬1)، وفيه انقطاع. الحديث رواه أيضًا أحمد وصححه الترمذي، وفيه دلالة على أن رمي الجمرة لا يكون إلا بعد طلوع الشمس، ولو أبيح لهم التقدم في الدفع من مزدلفة ووصلوا إلى منى قبل الفجر، وسيأتي الكلام على المسألة في الحديث الآتي قريبًا. ¬

_ (¬1) أبو داود المناسك، باب التعجيل من جَمْع 2: 480 ح 1940، الترمذي الحج باب ما جاء في تقديم الضعفة من جمع بليل 3: 240 ح 893، ابن ماجه المناسك باب من تقدم من جمع إلى منى لرمي الجمر 2: 1007 ح 3025، أحمد 1: 234.

592 - وعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "أرسل رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - بأم سلمة ليلة النحر فرمت الجمرة قبل الفجر، ثم مضت فأفاضت" رواه أبو داود وإسناده على شرط مسلم (¬1) الحديث أنكره أحمد وغيره وقد ورد في معناه ما أخرجه الخلال قال: أنبا علي بن حرب ثنا هارون بن عمران عن سليمان بن أبي داود عن هشام بن عروة عن أبيه قال أخبرتني أم سلمة قالت: "قدمني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيمن قدم من أهله ليلة المزدلفة قالت: فرميت بليل ثم مضيت إلى مكة فصليت بها الصبح ثم رجعت إلى منى" وفيه سليمان بن أبي داود الدمشقي الخولاني، ويقال ابن داود، قال أبو زرعة عن أحمد رجل من الجزيرة ليس بشيء، وقال عثمان بن سعيد: ضعيف (¬2). وقد أخرج الدارقطني وغيره عنها "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر نساءه أن يخرجن من جمع ليلة جمع ويرمين الجمرة ثم تصبح في منازلنا، فكانت تصنع ذلك حتى ماتت" وفي إسناده محمد بن حميد أحد رواته كذبه غير واحد، ويرده أيضًا حديثهما في الصحيحين: "وددت أني كنت استأذنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما استأذنته سودة" (¬3). وقد ورد في حق حبيبة "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعث بها من جمع ¬

_ (¬1) أبو داود المناسك باب التعجيل من جمع 2: 480 ح 1942، النسائي الحج باب الرخصة في ذلك 5: 221 (ولم يسم أم سلمة). (¬2) هو سليمان بن داود -أو أبي داود- الخولاني الدمشقي، قال فيه ابن معين: لا يُعرف، وقال مرة: ليس بشيء. (ميزان الاعتدال 2: 200: 202). (¬3) البخاري الحج، باب مَنْ قدم ضعفة أهله بليل 3: 527 ح 1681، مسلم الحج، باب استحباب تقديم دفع الضعفة 2: 939 ح 293.

بليل" أخرجه مسلم (¬1)، ولعلها كانت من الضعفة كما في حديث ابن عباس، يتقرر من مجموع هذه الروايات أن أم سلمة وسودة وأم حبيبة وعائشة -كما (أ) في الرواية المذكورة- رمين قبل الفجر، وفي هذا دلالة على جواز الدفع والرمي قبل الفجر وهو معارض لحديث ابن عباس وقد يجاب عنه بأن جواز الرمي قبل الفجر، إنما كان للعذر، وهو جائز، وفي حديث ابن عباس لما لم يكن له عذر في ذلك أمرنا بالانتظار إلى بعد طلوع الشمس أو أن ذلك مندوب، فأمره بالندب، وحينئذ فلا تعارض بين الأحاديث، وفي المسألة أربعة مذاهب، ذهب الشافعي وأحمد إلى جواز الرمي من بعد نصف الليل للقادر والعاجز، والثاني لا يجوز إلا بعد الفجر مطلقًا، وهو قول أبي حنيفة، والثالث قول الهادوية إنه لا يجوز للقادر إلا بعد طلوع الفجر وللمرأة والعاجز والخائف، ومن له عذر من بعد نصف الليل، والقول الرابع للنخعي والثوري إنه من بعد طلوع الشمس للقادر، وكأن الأرجح هذا القول إذ هو المنصوص في حديث ابن عباس، ولا حجة لمن حَدَّ أوله بنصف الليل، فإن الحجة حديث أسماء بنت أبي بكر كما في البخاري (¬2)، وهي أن يغيب مغيب القمر، وهو يكون عند أول الثلث الأخير، ويستدل بهذا على سقوط الوقوف بالمشعر الحرام على من أجيز له الدفع من نصف الليل ولا دم عليهم. 593 - وعن عروة بن مضرس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من شهد صلاتنا هذه -يعني بالمزدلفة- فوقف معنا حتى ندفع، وقد وقف بعرفة قبل ذلك ليلا أو نهارًا فقد تم حجه وقضى تفثه" رواه الخمسة ¬

_ (أ) هـ: (كذا).

وصححه الترمذي وابن خزيمة (¬1). هو عروة بن مضرس بضم الميم وتشديد الراء وكسرها، وبالصاد المعجمة والسين المهملة الطائي، شهد مع النبي - صلى الله عليه وسلم - حجة الوداع، عداده في الكوفيين. روى عنه ابنه أبو بكر والشعبي. والحديث صححه أيضًا الحاكم والدارقطني وابن حبان، وهو مروي بألفاظ مختلفة. وقوله "من شهد صلاتنا": المراد بها هنا صلاة الفجر في المزدلفة. وقوله "ووقف معنا حتى يدفع": يعني وقف في مزدلفة، وقوله "ووقف بعرفة ليلًا أو نهارًا": فيه دلالة على أنه يجزئ الوقوف بعرفة في أي وقت كان إذا كان في يوم عرفة من بعد الزوال أو في ليلة عيد الأضحى. وقوله: "فقد تم حجه" هذا جزاء الشرط "وقضى تفثه" والتفث هو إذهاب الشَّعَث، قاله النضر بن شميل (¬2)، وقيل هو المناسك، ومفهوم الجملة الشرطية، ومن لم يقع منه ما ذكر فلم يتم حجه، فأما الوقوف بعرفة فمجمع عليه، وأما الوقوف بالمزدلفة فذهب الجمهور إلى أن الحج يتم (أ) بدونه، وأنه يجب في فواته دم، وذهب ابن عباس وابن الزبير إلى أن ¬

_ (أ) هـ: (تم).

الوقوف بمزدلفة ركن كعرفة، وإليه ذهب إبراهيم النخعي والشعبي وعلقمة والحسن البصري والأوزاعي وحماد بن سليمان وداود الظاهري وأبو عبيد القاسم بن سلام ومحمد بن جرير وابن خزيمة وهو أحد الوجوه للشافعية، ويؤيد هذا المفهوم الزيادة في النسائي: "مَنْ أدرك جمعًا مع الإمام والناس حتى يفيضوا فقد أدرك الحج، ومن لم يدرك مع الإمام والناس فلم يدرك" (¬1). ولأبي يعلى: "ومن لم يدرك جمعًا فلا حج له". وقوله تعالى: {فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} (¬2) وفعل النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي خرج مخرج البيان، وأجيب عن ذلك أن حديث عروة أريد به أن من فعل جميع ذلك فقد أتى بالحج التام الكامل الفضيلة، ويدل عليه حديث عبد الرحمن بن يعمر الديلمي قال: "شهدت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو واقف بعرفات وأتاه ناس من أهل نجد فقالوا: يا رسول الله كيف الحج؟ قال الحج عرفة، من جاء قبل صلاة الفجر من ليلة جمع فقد تم حجه" أخرجه أحمد وأصحاب السنن وابن حبان والحاكم والدارقطني والبيهقي (¬3). وفي رواية لأبي داود: "من أدرك عرفة قبل أن يطلع الفجر فقد أدرك ¬

_ (¬1) تقدم في تخريج حديث الباب. (¬2) البقرة الآية 198. (¬3) أبو داود المناسك، باب من لم يدرك عرفة 2: 485 ح 1949، الترمذي الحج، باب ما جاء فيمن أدرك الإمام بجمع. . . .، 3: 237 ح 889، النسائي المناسك، باب فيمن لم يدرك صلاة الصبح مع الإمام بالمزدلفة 5: 214، ابن ماجه المناسك، باب مَنْ أتى عرفة قبل الفجر ليلة جمع 2: 1003 ح 3015، أحمد 4: 335، الحاكم 1: 464، الدارقطني 2: 240، البيهقي 5: 173.

الحج". وفي رواية للدارقطني والبيهقي: "الحج عرفة الحج عرفة" فهذا صريح في المراد، وأما زيادة النسائي وأبي يعلى فهي أولًا لا تعارض لاحتمالها التأويل بأن يراد لا حج له أي كامل الفضيلة، وثانيًا أنها من رواية مطرف عن الشعبي، وقد صنف أبو جعفر العقيلي جزءًا في إنكارها، وذكر أن مطرفًا كان يهم في المتون (¬1)، وعن الآية الكريمة بأنها تدل على الأمر بالذكر عند المشعر على الركنية، وفعل النبي - صلى الله عليه وسلم - بيان للواجب المستكمل الفضيلة، وبين بقوله ما لا يفوت الحج بفواته (وما يفوت بفواته وأما صلاة الصبح مع الإمام بمزدلفة فذهب ابن حزم إلى أنه يفوت الحج بفواته) التزامًا لما (أ) ألزمه به الطحاوي، ولم يعتبر ابن قدامة مخالفته هذه، فحكى الإجماع على الإجزاء بدونها (¬2)، والله أعلم. 594 - وعن عمر - رضي الله عنه - قال: "إِن المشركين كانوا لا يفيضون حتى تطلع الشمس ويقولون أشرق ثبير، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - خالفهم ثم أفاض قبل أن تطلع الشمس" رواه البخاري (¬3). قوله "لا يفيضون" أي من جمع، وقد صرح بذلك في روايته يحيى القطان عن شعبة (¬4)، وقوله "أَشْرِق": بفتح الهمزة فعل أمر من الإشراق أي ادخل في الشروق، وقد ضبطه بعضهم بكسر الهمزة على أنه ثلاثي ¬

_ (أ) سقطت (لما) من: جـ، وفي هـ: (بما).

من شرق، والمعنى على الأول ليطلع عليك (أ) الشمس. وثبير بفتح المثلثة وكسر الموحدة جبل معروف هناك على يسار الذاهب إلى منى وهو أعظم جبال مكة عرف برجل من هذيل اسمه ثبير دفن فيه، وزاد أبو الوليد عن شعبة "كيما تغير" أخرجه الإسماعيلي (¬1) ومثله لابن ماجه (ب) من طريق حجاج بن أرطاة عن أبي إسحاق (¬2). "وتغير" من الإغارة: أي الإسراع في عدو الفرس، والمراد منه الدفع للنحر. وقوله "ثم أفاض" الإفاضة الدفعة قاله الأصمعي، ومنه أفاض القوم في الحديث إذا دفعوا فيه، وفاعل أفاض هو النبي - صلى الله عليه وسلم - أتى به بيانًا لقوله "خالفهم". (جـ وفي رواية الثوري: "فخالفهم النبي - صلى الله عليه وسلم - فأفاض" جـ) وفي رواية الطبري (¬3) بسنده "كان المشركون لا ينفرون حتى تطلع الشمس وأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كره ذلك فنفر قبل طلوع الشمس" وقد تقدم في حديث مسلم بيان الوقت الذي دفع فيه - صلى الله عليه وسلم - وهو قوله "حتى أسفر جدًّا"، فدفع قبل أن تطلع الشمس، وفي حديث ابن عباس عند ابن خزيمة "حين أسفر كل شيء قبل أن تطلع الشمس" ويحتمل أن يكون فاعل أفاض هو عمر، وهو بعيد. ¬

_ (أ) هـ: (عليه). (ب) هـ: (ولابن ماجه مثله). (جـ، جـ) سقط في ي.

595 - وعن ابن عباس - رضي الله عنه - وأسامة بن زيد قالا: "لم يزل رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - يلبي حتى رمى جمرة العقبة" رواه البخاري (¬1). الحديث لفظ البخاري عن ابن عباس "أن أسامة كان ردف النبي - صلى الله عليه وسلم - من عرفة إلى المزدلفة، ثم أردف الفضل من المزدلفة إلى منى" قال فكلاهما قال: "لم يزل النبي - صلى الله عليه وسلم - يلبي حتى رمى جمرة العقبة" (1). وقد استشكل رواية أسامة فإنه سار من مزدلفة على رجليه في سُبَّاق قريش (¬2)، وظاهر السياق أنه لم يحضر مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم، عند رمي الجمرة، ويجاب عنه بأنه يجوز أن يكون أرسل الرواية، وأنه بواسطة، ويجوز أن يكون حضر عند الرمي، ويؤيد هذا ما أخرجه مسلم من حديث أم الحصين قالت "فرأيت أسامة بن زيد وبلالا في حجة الوداع أحدهما آخذ بخطام ناقة النبي - صلى الله عليه وسلم - والآخر رافع ثوبه يستره من الحر حتى رمى الجمرة" (¬3) والحديث فيه دلالة على أن الحاج يستمر في التلبية حتى يرمي الجمرة، واللفظ يحتمل أنه قطع التلبية في أول حصاة، أو بعد تمام الرمي، وذهب إلى الأول الجمهور، وإلى الثاني أحمد وبعض أصحاب الشافعي، ويؤيد الأول ما في حديث ابن عباس "ويكبر مع كل حصاة" (¬4) أنه قطع التلبية كما قال البيهقي، وحجة الثاني بأن رواية ¬

_ (¬1) البخاري الحج، باب التلبية والتكبير غداة النحر حين رمى الجمرة والارتداف في السير 3: 532 ح 1686، 1687. (¬2) مسلم الحج، باب الإفاضة من عرفات إلى مزدلفة. . . .، 2: 935 ح 279 - 280 م. (¬3) مسلم الحج، باب استحباب رمي جمرة العقبة يوم النحر راكبا. . . .، 2: 944 ح 312 - 1298 م. (¬4) من حديث ابن مسعود أخرجه البخاري كتاب الحج، باب يكبر مع كل حصاة. . . .، 3: 581 ح 1750، ومسلم الحج، باب رمي جمرة العقبة من بطن الوادي. . . .، 2: 942 ح 305 - 1296.

النسائي "فلم يزل يلبي حتى رمى، فلما رجع قطع التلبية" وما روى ابن خزيمة (¬1) من طريق جعفر بن محمد عن أبيه عن علي بن الحسين عن ابن عباس عن الفضل قال "أفضت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - من عرفات فلم يزل يلبي حتى رمى جمرة العقبة ويكبر مع كل حصاة ثم قطع التلبية مع آخر كل حصاة" وقال ابن خزيمة: هذا حديث صحيح فإنه مفسر لما أبهم في الروايات الأُخر فإن المراد بقوله: "حتى رمى جمرة العقبة" أي أتم رميها، وقد ذهب الجمهور إلى استمرار التلبية إلى أن يرمي، ومنهم الشافعي وأبو حنيفة والثوري وأحمد وإسحاق وأتباعهم والهادوية وغيرهم، وذهب طائفة إلى أنه يقطع التلبية إذا دخل الحَرَم لكن يعاودها إذا خرج من مكة إلى عرفة، وهو مذهب ابن عمر، وذهب طائفة إلى أنه يقطعها إذا راح إلى الموقف، ورواه ابن المنذر وسعيد بن منصور بأسانيد صحيحة عن عائشة وسعد بن أبي وقاص وعلي، وبه قال مالك ورواية عن الصادق والناصر، وقيده مالك بزوال الشمس يوم عرفة، وهو قول الأوزاعي والليث وعن الحسن البصري مثله لكن قال إذا صلى الغداة يوم عرفة. وقد روى الطحاوي بإسناد صحيح عن عبد الرحمن بن يزيد قال: "حججت مع عبد الله فلما أفاض أتى جمعًا جعل (أ) يلبي فقال رجل أعرابي: هذا. فقال عبد الله: أنسي الناس أم ضلوا؟ ". وأشار الطحاوي إلى أن كل من روي عنه ترك التلبية من يوم عرفة أنه تركها للاشتغال بغيرها من الذكر لا على أنها لم تشرع، وجمع بذلك بين ما يختلف من الآثار، والله أعلم. ¬

_ (أ) هـ، ي: (فجعل).

596 - وعن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - "أنه جعل البيت عن يساره، ومنى عن يمينه، ورمى الجمرة بسبع حصيات، وقال: هذا مقام الذي أنزلت عليه سورة البقرة" متفق عليه (¬1). في الحديث دلالة على أن هذه الكيفية مشروعة في رمي العقبة كما وقع في الرواية، وأن ابن مسعود استبطن الوادي، وأجاب على من قال إن أناسًا يرمونها من فوقها بقوله "هذا مقام الذي. . . ." إلخ، وقام الإجماع على أن هذه الكيفية غير واجبة، وأن مخالفتها جائزة، وإنما هذا يستحب أن يقف تحت الجمرة في بطن الوادي (أ) ويجعل مكة عن يساره، ومنى عن يمينه، ويستقبل العقبة ويرميها (ب) بالحصى السبع، وهذا قول جمهور العلماء، وقال بعض أصحاب الشافعي إنه يستحب أن يقف مستقبل الكعبة، وتكون الجمرة عن يمينه، وأما سائر الجِمَار فمن فوقها اتفاقا وخص عبد الله سورة البقرة بالذكر لكون أكثر أعمال الحج مذكورة فيها ولأنها اشتملت على أكثر أحكام (جـ) الديانات والمعاملات، ولذلك كان مَنْ حفظ الزهراوين (¬2) في السلف عظم قدره وارتفعت مرتبته، وفي إضافة السورة إلى البقرة دلالة على أنه لا كراهة في ذلك، وقد رد إبراهيم النخعي بذلك على الحَجَّاج لما ذكر له أن الحجاج قال على المنبر السورة التي تذكر ¬

_ (أ) هـ: (تحت الجمرة تحت الوادي). (ب) هـ: (فيرميها). (جـ) هـ، ي: (الأحكام).

فيها البقرة، والسورة التي يذكر فيها آل عمران، والسورة التي يذكر فيها النساء فسب الحجاج (¬1) وذكر قول ابن مسعود (¬2). فائدة: جمرة العقبة هي الجمرة الكبرى وهي حد لمنى وليست منها بل هي من مكة وهي التي بايع النبي - صلى الله عليه وسلم - الأنصار عندها على الهجرة. والجمرة اسم لمجتمع (أ) الحصى سميت بذلك لاجتماع الناس بها، يقال: اجتمر بنو فلان إذا اجتمعوا، وقيل إن العرب تسمى الحصباء الصفا وجمارًا فسميت بذلك تسمية للشيء باسم حاله وقيل لأن آدم أو إبراهيم -عليهما السلام- لما عرض إبليس له فحصبه جمرتين يديه أي أسرع فسميت بذلك. 597 - وعن جابر - رضي الله عنه - قال: "رَمَى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - الجمرة يوم النحر ضحى، وأما بعد ذلك فإِذا زالت الشمس" رواه مسلم (¬3). الحديث وصله مسلم وابن خزيمة وابن حبان، وذكره البخاري تعليقًا بلفظ وقال جابر: "رمى النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم النحر ضحى، ورمى بعد ذلك بعد الزوال" (¬4). ¬

_ (أ) هـ، ي (لجميع).

وروى الدارمي موصولًا بلفظ التعليق لكن قال: "وبعد ذلك عند زوال الشمس" (¬1). ورواه إسحاق بن راهويه في مسنده موصولا أيضًا. والحديث فيه دلالة على وقت الرمي، وقد تقدم الكلام في جمرة العقبة. وقوله: "فإِذا زالت الشمس" فيه دلالة على أن وقت الرمي في الأيام الثلاثة بعد الزوال، وهو مذهب الهادوية ومالك والشافعية وأحمد وجماهير العلماء، وذهب الناصر إلى أنه يجوز الرمي من بعد الفجر، وذهب الهادوية وأبو حنيفة وإسحاق إلى أنه يجوز في اليوم الثالث الرمي بعد الفجر وحجتهم قوله - صلى الله عليه وسلم - لأغيلمة بني عبد المطلب "لا ترموا حتى تصبحوا" فدل بعموم على أنه يصح الرمي من الإصباح، ويجاب عن ذلك بأنه ورد في رمي جمرة العقبة في يوم النحر (¬2)، وأما سائر الأيام ففعله - صلى الله عليه وسلم - مبين أن وقته من بعد الزوال وقد قال "خذوا عني مناسككم". 598 - وعن ابن عمر - رضي الله عنه - "أنه كان يرمي الجمرة الدنيا مع حَصَيَات يكبر على إثر كل حصاة ثم يتقدم ثم يسهل فيقوم فيستقبل القبلة فيقوم طويلًا ويدعو ويرفع يديه ثم يرمي الوسطى ثم يأخذ ذات الشمال فيُسْهِل ويقوم مستقبل القبلة ثم يدعو فيرفع يديه ويقوم طويلًا ثم يرمي جمرة ذات العقبة من بطن الوادي فلا يقف عندها ثم ينصرف فيقول: هكذا رأيتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يفعله" رواه البخاري (¬3). ¬

_ (¬1) مسند الدارمي 2: 61 (طبعة: دهمان). (¬2) بلفظ (حتى تطلع الشمس): أخرجه ابن ماجه المناسك، باب مَنْ تقدم من جمع إلى منى لرمي الجمار 2: 1007 ح 3025، أحمد 1: 234، الطبراني 11: 385 ح 12073، الدارقطني 2: 273 ح 174. ورد مطلقًا وورد مقيدًا بجمرة العقبة في أبي حنيفة 91، شرح معاني الآثار 2: 217، المعجم الكبير للطبراني 11: 387 ح 12078. (¬3) البخاري الحج، باب إذا رمى الجمرتين يقوم مستقبل القبلة ويسهل 3: 582 ح 1751.

قوله "الدنيا" بضم الدال وبكسرها أي القريبة إلى جهة مسجد الخيف وهي أول الجمرات التي يرمي من يأتي النحر. وقوله "ثم يسهل" بضم الياء وسكون المهملة أي يقصد السهل من الأرض، وهو المكان الذي لا ارتفاع فيه. وقوله "ثم يأخذ ذات الشمال" أي يمشي إلى جهة شماله أي ليقف داعيًا في مكان لا يصيبه الرمي. وقوله "جمرة ذات العقبة" أي الجمرة ذات العقبة، والحديث فيه ذِكْر رمي الجمرات الثلاث بسبع حصيات، وأنه يشرع التكبير عند كل حصاة، ولا يلزم في تركه شيء إلا ما روي عن الثوري فقال يطعم وإن جبره بدم فأحب إلي. وعلى أنه يستقبل القبلة بعد الرمي ويقوم طويلًا، وقد وقع تفسيره في حديث ابن عمر عند ابن أبي شيبة (¬1) بإسناد صحيح أن ابن عمر كان يقوم عند الجمرتين مقدار ما يقرأ سورة البقرة وأنه يرفع يديه عند الدعاء. قال ابن قدامة (¬2): ولا نعلم في ذلك خلافًا إلا ما روي عن مالك من ترك رفع اليدين عند الدعاء بعد رمي الجمار، وحكى ذلك ابن القاسم عن مالك كذا قاله ابن المنذر. وقال ابن المنير: لو كان الرفع هنا سنة ثابتة ما خفي عن أهل المدينة. وأجيب عنه بأن ذلك ما خفي عليهم وأن الزهري عالم المدينة والشام روى ذلك عن سالم أحد الفقهاء في المدينة، ورواه سالم عن عالم أهل المدينة من الصحابة في زمانه، وهو ابن عمر، وأنه لا يقف ولا يدعو بعد ¬

_ (¬1) مصنف ابن أبي شيبة القسم الأول من الجزء الرابع (المنشور باسم الجزء المفقود) ص 183 ح 129 م. (¬2) المغني 3: 451.

رمي الجمرة الثالثة. فائدة: روى ابن أبي شيبة بإسناد صحيح "أن ابن عمر - رضي الله عنه - كان يمشي إلى الجمار مقبلًا ومدبرا". وعن جابر أنه كان لا يركب إلا من ضرورة، والنبي - صلى الله عليه وسلم - رمى جمرة العقبة في يوم النحر راكبًا (¬1) وسائر الجمرات في الأيام الأُخر رماها راجلًا، ولعله فعل ذلك اليوم لما كان في أثناء إفاضته من مزدلفة وقصد انتهائه إلى محل النحر، والله أعلم. 599 - وعنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "اللهم ارحم المحلقين، قالوا: والمقصرين يا رسول الله، قال في الثالثة: والمقصرين" متفق عليه (¬2) الحديث. واختلفت الروايات في وروده هل في حجة الوداع أو في عمرة الحديبية. قال ابن عبد البر (¬3): وقع ذلك يوم الحديبية حين صد عن البيت، وهذا محفوظ مشهور. وأخرج من حديث أبي سعيد بلفظ سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يستغفر لأهل الحديبية للمحلقين ثلاثًا وللمقصرين مرة (¬4). ومن حديث ابن عباس بلفظ: "حلق رجالٌ يوم الحديبية، وقصر ¬

_ (¬1) مسلم الحج، باب استحباب رمي جمرة العقبة يوم النحر راكبا 2: 942 ح 310 - 1297. (¬2) البخاري الحج، باب الحلق والتقصير عند الإحلال 3: 561 ح 1727، مسلم الحج، باب تفضيل الحلق على التقصير وجواز التقصير 2: 945 ح 317 - 1301 م. (¬3) التمهيد 7: 266. (¬4) أحمد 3: 20، مشكل الآثار 2: 146.

آخرون، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: رحم الله المحلقين. . . ." الحديث (¬1) انتهى. وحديث أبي سعيد أخرجه الطحاوي من طريق الأوزاعي وأحمد وابن أبي شيبة وأبو داود الطيالسي وزاد فيه أبو داود (أ): "أن الصحابة حلقوا يوم الحديبية إلا عثمان وأبا قتادة". وورد أيضًا في أن ذلك كان في حجة الوداع من حديث أبي مريم السلولي عند أحمد وابن أبي شيبة (¬2)، ومن حديث أم الحصين عند مسلم (¬3) ومن حديث ابن الأسود الثقفي عند أحمد وابن أبي شيبة، ومن حديث أم عمارة عند الحارث، والأحاديث التي فيها تعيين حجة الوداع هي أكثر عددًا وأصح إسنادًا (¬4). قال النووي (¬5): وهو الصحيح المشهور، وجزم بأن ذلك كان في الحديبية إمام الحرمين في "النهاية". وقال عياض: كان في الموضعَيْن. قال النووي: ولا يبعد أن يكون في الموضعين، وكذا قال ابن دقيق العيد (¬6). قال المصنف -رحمه الله تعالى-: وهذا هو المتعين لفظًا في الروايات بذلك إلا أن السبب فيهما مختلف فالذي في الحديبية بسبب توقف من توقف من الصحابة عن الإحلال لما دخل عليهم من الحُزْن لكونهم منعوا ¬

_ (أ) هـ: (ابن داود).

من الوصول إلى البيت مع اقتدارهم في أنفسهم على ذلك فخالفهم النبي - صلى الله عليه وسلم - وصالح قريشًا على أن يرجع من العام القابل، والقصة مشهورة فلما أمرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بالإحلال توقفوا، وأشارَتْ أم سلمة أن يحل هو - صلى الله عليه وسلم - قبلهم ففعل فتابعوه فحلق بعضهم، وقصر بعض، وكان من بادر إلى الحلق أسرع إلى الامتثال ممن اقتصر على التقصير، وقد بُيِّن هذا السبب في آخر حديث ابن عباس عند ابن ماجه وغيره أنهم قالوا: "يا رسول الله ما بال المحلقين ظاهرت لهم بالترحم، قال: لأنهم لم يشكوا" (¬1)، وأما في حجة الوداع فلأنه - صلى الله عليه وسلم - أمر من لم يسق الهدي بالإحلال، وقد كان شق على جماعة من الصحابة ففعل بعضٌ التقصير لأنه أخف، فهو كذلك لم يخلص الامتثال، بل بقي معه شك، وفعل بعض الحلق لمبادرته إلى إخلاص الامتثال، واستحق تأكيد الدعاء له لأنه أبين في الامتثال، كذا قاله ابن الأثير في "النهاية" وغيره (¬2). وقال الخطابي وغيره: إن عادة العرب أن توفر الشعر لكونه من الزينة عندهم، وكان الحلق قليلًا، وربما كانوا يرونه من الشهرة ومن زي الأعاجم، فلذلك كرهوا الحلق واقتصروا على التقصير. والحديث فيه دلالة على شرعية الحلق والتقصير، وأن الحلق أرجح وهو مجمع عليه إلا ما روي عن الحسن البصري أن الحلق يتعين في أول حجة، حكاه ابن المنذر بصيغة التمريض، وقد ثبت عن الحسن خلافه. وأخرج ابن أبي شيبة عن الحسن في الذي لم يحج قط إن شاء حلق وإن شاء قصر. وروى ابن أبي شيبة عن إبراهيم النخعي، قال: "إذا حج الرجل أول ¬

_ (¬1) ابن ماجه المناسك، باب الحلق 2: 1012 ح 3045. (¬2) الفتح 3: 564.

حجة حلق، وإن حج أخرى فإن شاء حَلَقَ وإن شاء قصر" ثم روي عنه أنه قال "كانوا يحبون، يحلقوا في أول حجة وأول عمرة" انتهى. وهذا يدل على أن ذلك للاستحباب لا للزوم، وهما جائزان، ولو في حق من لبد شعره، وإن كان للشافعي قول موافق للحنفية أنه يتعين الحلق على مَنْ لبد شعره أو كان شعره خفيفًا لا يمكن تقصيره أو لم يكن له شعر فيمر المواسي على رأسه والواجب في حلق رأسه هو أن يعمه جميعه عند الهادي وغيره، وهو مذهب مالك وأحمد وهو الذي تقتضيه الصنعة، واستحبه الكوفيون والشافعي، ويجزئ البعض عندهم واختلفوا فيه، فعند الحنفية الربع إلا أبا يوسف فقال النصف، وقال الشافعي: أقل ما يجب حلق ثلاث شعرات، وفي وجه لبعض أصحابه شعرة واحدة، والتقصير كالحلق في هذا التفصيل، ويكون التقصير قدر أنملة كذا في كتب الهادوية وفي شرح النووي لمسلم، ويستحب أن لا ينقص عن (أ) قدر الأنملة، وإن اقتصر على دونها أجزأ، وهذا في حق الرجال، وأما النساء فالمشروع في حقهن التقصير إجماعًا، وفي حديث لابن عباس عند أبي داود بلفظ: "ليس على النساء حلق، وإنما على النساء التقصير" (¬1) وسيأتي مرتبًا، وللترمذي من حديث علي "نهى أن تحلق المرأة رأسها" (¬2). وقال جمهور الشافعية: لو حلقت أجزأها ويكره. وقال القاضيان أبو الطيب وحسين: لا يجوز، وهذا في حق الحاج أو المعتمر غير متمتع، وأما المتمتع فالنبي - صلى الله عليه وسلم - خيرهم بين الحلق والتقصير، وظاهره أنهما سواء في حقهم، وعند الهادوية أن الأفضل ¬

_ (أ) هـ: (علي).

التقصير في حقه ليمكنه الحلق للحج. وقوله "قال في الثالثة: والمقصرين": في معظم الروايات عن مالك ذكر إعادة المحلقين مرتَين، وعطف المقصرين عليهم في المرة الثالثة، وانفرد يحيى بن بكير من رواة الموطأ بإعادة ذلك ثلاث مرات، نبه عليه ابن عبد البر في التقصي وأغفله في التمهيد (¬1)، بل قال إنهم لم يختلفوا على مالك، ورواه الليث "رحم الله المحلقين" مرة أو مرتين عن نافع، ورواه عن عبيد الله العمري مصغرًا، قال في الرابعة: "والمقصرين". وأخرج أحمد عن نافع بلفظ "اللهم اغفر للمحلقين، قالوا وللمقصرين حتى قالها ثلاثًا أو أربعًا ثم قال (أ): والمقصرين" (¬2). والجمع بين الروايات أن من قال في الثالثة أراد بها بالنظر إلى ما وقع من السائلين، ومن قال في الرابعة فبالنظر إلى أن قوله: "وللمقصرين" معطوف على مقدر، والمعنى: اغفر للمحلقين والمقصرين، فهو مذكور تقدير أربعًا، وإن لم يذكر فيه اللفظ إلا ثلاث مرات، ورواية الجزم مقدمة على رواية الشك، وإعادة الذكر ثلاث مرات معمول بها ولا يعارضها رواية الذكر مرتين لأن في تلك زيادة، وهي معمول بها، والله أعلم. تنبيه: يفهم من دعائه - صلى الله عليه وسلم - للمحلقين أنه فعل في نفسه ذلك إذ لا يبالغ في الحث على ذلك ويتركه. وقد أخرج ابن عباس عن معاوية قال: "قَصرتُ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمشقص" زاد في رواية مسلم: "وهو على المروة" (¬3) وزاد في رواية ¬

_ (أ) سقط من هـ: (قال).

النسائي أن ابن عباس احتج بذلك عن معاوية لما نهى عن متعة الحج، ثم ذكر ما فعل بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال ابن عباس: هذا على معاوية أن ينهى الناس عن المتعة، وقد تمتع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬1)، وفي معناه لأحمد من وجه آخر (¬2)، وهذا يدل أنه وقع منه في حجة الوداع، ووقع عند أحمد من طريق أخرى عن عطاء أن معاوية حدث أنه أخذ من أطراف شعر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أيام العشر بمشقص وهو محرم (¬3). وقد أنكر النووي (¬4) على من يقول إن ذلك في حجة الوداع قال لأنه قد ثبت أنه كان قارنا، وثبت أنه حلق بمنى، وفرق أبو طلحة شعره بين الناس فلا يصح أن يكون ذلك في حجة الوداع، وفي عمرة القضاء لم يكن معاوية مسلما لأنه أسلم عام الفتح إلا أن ابن عساكر أخرج في تاريخ دمشق في ترجمة معاوية أنه أسلم زمن الحديبية والقضية وأنه كان يخفي إسلامه خوفا من أبويه، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - لما دخل في عمرة القضية بمكة خرج أكثر أهلها عنها حتى لا ينظرونه وأصحابه يطوفون بالبيت، فلعل معاوية كان ممن تخلف بمكة لسبب اقتضاه، وقول سعد: فعلنا العمرة وهذا -يعني معاوية- كافر بالعرش بضم العين والراء المهملتين يعني بيوت مكة (¬5) باعتبار ظاهر حال معاوية (*)، وجوز بعضهم أن يكون ذلك في عمرة الجعرانة، ولكنه يرد عليه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ركب من الجعرانة بعد أن أحرم بعمرة، ولم يستصحب ¬

_ (¬1) النسائي المناسك باب التمتع 5: 351: 154 (ط. دار الفكر، بيروت). (¬2) أحمد 4: 96، 98. (¬3) أحمد 4: 92. (¬4) شرح مسلم 2: 387. (¬5) مسلم الحج، باب جواز التمتع 2: 898 ح 164 - 1225. (*) هامش: يقال كيف مكن النبي - صلى الله عليه وسلم -. . . . كافر وفي الظاهر وهو. . . . يعمل بالظاهر. . . . لمعاوية من شيعته. . . . على الشريعة تمت.

أحدًا معه إلا بعض أصحابه المهاجرين فقدم مكة وطاف وسعى وحلق ورجع إلى الجعرانة فأصبح بها كما ثبت فخفيت على كثير من الناس، كذا أخرجه الترمذي (¬1)، وغيره، ولم يعدوا معاوية فيمن كان صحبه حينئذٍ، ولا كان معاوية ممن تخلف عنه بمكة في غزوة حنين، وأعطاه النبي - صلى الله عليه وسلم - مثل ما أعطى أباه من الغنيمة من جملة المؤلفة. وأخرج الحاكم في "الإكليل" في آخر قصة غزوة حنين "أن الذي حلق رأسه - صلى الله عليه وسلم - في عمرته التي اعتمر من الجعرانة أبو هند عبد بني بياضة". ولكنه يمكن الجمع بأن معاوية لحق وحضر بالمروة وقصر للنبي - صلى الله عليه وسلم - قبل أن يحضر الحلاق ثم حضر الحلاق فحلق، وبهذا يتقرب الجمع بين الروايات إلا أنه يبعد عنه رواية "أنه كان في العشر" إلا أنها شاذة، وقد قال قيس بن سعد (¬2) عقيبها: والناس ينكرونها، وبعضهم تأول أصل الرواية، وقال: معنى "قصرت عن رسول الله" أي قصرت شعري عن أمر رسول الله، وبعضهم قال: إنه قصر بقية شعر لم يكن الحلاق أزاله، وهو أيضًا بعيد. والمشقص بكسر الميم وسكون المعجمة وفتح القاف وآخره صاد وهو نصل عريض يزجى به الوحش، وقال صاحب المحكم: هو الطويل من النصال، وليس بعريض، وكذا قال أبو عبيد، والله أعلم. 600 - وعن عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنه - "أن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - وقف في حجة الوداع فجعلوا يسألونه، فقال رجل: لم أشعر فحلقت قبل أن أذبح، قال: "اذبح ولا حرج"، وجاء آخر ¬

_ (¬1) الترمذي الحج، باب ما جاء في العمرة من الجعرانة 3: 273 - 274 ح 935. (¬2) تقدمت عن حسن الإمام أحمد.

فقال: لم أشعر فنحرت قبل أن أرمي، قال: "ارم ولا حرج"، فما سُئِلَ يومئذٍ عن شيء قُدِّم ولا أُخِّر إِلا قال: "افعل ولا حرج" متفق عليه (¬1). قوله "وقف" كان ذلك يوم النحر بعد الزوال وهو على راحلته يخطب عند الجمرة، والخطبة هذه هي الخطبة الثالثة التي شرعت لتعليم بقية المناسك، ولم يكن ذلك عند رميه - صلى الله عليه وسلم - لأنه رمى في أول اليوم، ولعل بعد أن رجع من مكة إلى منى. وقوله "فقال رجل" قال المصنف (¬2) -رحمه الله-: لم أقف على اسمه بعد البحث الشديد ولا على اسم أحد ممن سأل في هذه القصة، وقد وقع حديث أسامة بن شريك عند الطحاوي وغيره "كان الأعراب يسألونه" فكان هذا هو السبب في عدم ضبط أسمائهم. وقوله "لم أشعر" أي لم أفطن، يقال شعرت بالشيء شعورًا إذا فطنت له، وقيل الشعور بمعنى العلم، ولم يذكر في هذه الرواية متعلق الشعور، وفي لفظ مسلم "لم أشعر أن الرمي قبل النحر" (¬3)، وفي هذه الرواية السؤال عن شيئين معينين، وقد ورد في مجموع الروايات في ذلك السؤال عن أربعة أشياء: الحلق قبل الذبح، والحلق قبل الرمي، والنحر قبل الرمي، والإفاضة قبل الرمي، يعني النزول إلى مكة لطواف الإفاضة، ¬

_ (¬1) البخاري الحج، باب الفتيا على الدابة عند الجمرة 3: 569 ح 1736، مسلم الحج، باب من حلق قبل النحر أو نحر قبل الرمي 2: 948 ح 327 - 1306. (¬2) الفتح 3: 570. (¬3) مسلم السابق 2: 948 ح 328 - 1306.

ففي حديث ابن عباس عند البخاري ذكر الثلاثة المغايرة للحلق قبل الرمي، وعند الدارقطني من حديث ابن عباس السؤال عن الحلق قبل الرمي أيضًا (¬1)، وكذا في حديث جابر، وكذا في حديث أبي سعيد عند الطحاوي (¬2)، وفي حديث علي عند أحمد السؤال عن الإفاضة قبل الحلق (¬3)، وفي حديثه عند الطحاوي السؤال عن الرمي والإفاضة معًا قبل الحلق، وفي حديث جابر عند البخاري معلقًا -ووصله ابن حبان وغيره- السؤال عن الإفاضة قبل الذبح (¬4)، وفي حديث أسامة بن شريك عند أبي داود السؤال عن السعي قبل الطواف (¬5). وقوله "اذبح ولا حرج": أي لا ضيق عليك في ذلك، وذلك أنه لما تقرر عندهم أن وظائف يوم النحر بالاتفاق أربعة أشياء: رمي جمرة العقبة، ثم نحر الهدي أو ذبحه، ثم الحلق أو التقصير، ثم طواف الإفاضة، فمن فعل هذه المرتبة فقد أتى بالمشروع على صفته، وهذا مجمع عليه إلا أن بعض المالكية استثنى القارن، فقال: لا يحلق حتى يطوف لأن عليه إحرام عمرة، والمعتمر يتأخر الحلق معه عن الطواف، وهو مردود عليه بالإجماع (¬6). والحديث يدل على أنه تسوغ المخالفة بالتقديم والتأخير، وأن الحج لا ينقص ولا يختل بذلك، واختلفوا في لزوم الدم عند المخالفة، فقال ¬

_ (¬1) الدارقطني 2: 254 ح 78. (¬2) الطحاوي 2: 235. (¬3) أحمد 1: 76. (¬4) ابن حبان 6: 71 ح 3867. (¬5) أبو داود المناسك، باب فيمن قدم شيئًا قبل شيء في حجه 2: 517 ح 2015. (¬6) انظر الفتح 3: 571.

القرطبي: روي عن ابن عباس -ولم يثبت- أن من قدم شيئًا على شيء فعليه دم، وبلزوم الدم قال سعيد بن جبير وقتادة والحسن والنخعي وأصحاب الرأي. انتهى (¬1). وفي نسبة ذلك إلى النخعي وأصحاب الرأي نظر فإنهم يقولون بذلك على الإطلاق، وإنما ذلك من تقديم الحلق على الرمي، وهو قول أيضًا للشافعي وللهادي والقاسم بناء منهم على أن الحلق تحليل محظور غير نسك، قالوا: لأنه يحرم بالإحرام فلا يجعل ما يحرم به نسكًا كالطيب، وعلى أصلهم هذا لا يجوز فعله قبل الرمي. والحديث يدل على خلاف ذلك؛ ولعلهم يتأولون الحديث في حق الناسي والجاهل، وفي اللفظ ما يدل على ذلك بقوله: لم أشعر. ويلزم دم في تقديم الحلق على الذبح عند أبي حنيفة في حق المتمتع والقارن، وعند أحمد في حق العامد لا الناسي والجاهل، وذهب جمهور السلف والعلماء وفقهاء أصحاب الحديث إلى الجواز وعدم وجوب الدم لقوله للسائل: "لا حرج"، فهو ظاهر في رفع الإثم والفدية معا، وقال الطحاوي: ظاهر الحديث يدل (أ) على التوسعة في تقديم بعض هذه الأشياء على بعض، قال: إلا أنه يحتمل أن يكون قوله: "لا حرج" أي لا إثم في ذلك الفعل، وهو كذلك لمن كان ناسيًا أو جاهلًا، وأما من تعمد المخالفة فتجب عليه الفدية. وأجيب بأن وجوب الفدية تحتاج إلى دليل، ولبين ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - إذ ذلك وقت الحاجة؛ ولأنه لو كان الترتيب معتبرًا لأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالإعادة، لا سيما والوقت باقٍ كما أن من تركه في أول وقته عامدًا أو ¬

_ (أ) سقط من هـ: (يدل).

ناسيًا وجب عليه الفعل، وتأويلهم لقوله "لا حرج" أي لا إثم دون الفدية فيلزم لو كان صحيحًا للزم الفدية في الجميع ولا يقولون به. قوله "فما سئل عن شيء. . . ." إلخ: رواية عند (أ) مسلم وأحمد "فما سمعته سئل يومئذٍ عن أمر مما ينسى (¬1) المرء ويجهل من تقديم بعض الأمور قبل بعض، وأشباهها إلا قال: "افعلوا ذلك ولا حرج"، احتج بهذا وبقوله "لم أَشْعُر" من قال: إن الرخصة تختص بمن نسي أو جهل لا بمن تعمد. قال الأثرم عن أحمد: إن كان جاهلًا أو ناسيًا فلا شيء عليه، وإن كان عالمًا فلا لقوله في الحديث: "لم أشعر". وأجاب بعض الشافعية بأن الترتيب لو كان واجبًا لما سقط بالسهو كالترتيب بين السعي والطواف بأنه لو سعى قبل أن يطوف وجب إعادة السعي، وحديث أسامة الذي مر متأول بأنه السعي بعد طواف القدوم قبل طواف الإفاضة مع أنه لم يقل بظاهره إلا عطاء فقال: لو لم يطف للقدوم ولا لغيره وقدم السعي قبل طواف الإفاضة أجزأه. أخرجه عبد الرزاق عن ابن جريج عنه، واستقوى ابن دقيق العيد قول أحمد، وقال: تختص الرخصة بما ذكر في السؤال، وتبقى حالة العمد على أصل وجوب الإتباع في الحج، وأيضًا فالحكم إذا رتب على وصفٍ يمكن أن يكون معتبرًا لم يجز اطراحه، وعدم الشعور وصف مناسب لعدم المؤاخذة، وقد علق به الحُكْم فلا يمكن اطراحه بإلحاق العمدية إذ لا تساويه، وما وقع في كلام الراوي من قوله: "فما سئل عن شيء. . . ." إلخ لا عموم فيه إذ الظاهر أن الشيء مقيد بالقرينة، ¬

_ (أ) سقط من جـ: (عند).

وهي الأمور التي لم يشعر بها. واعلم أنه اختلف في الحلق هل هو نسك أو تحليل محظور، فذهب إلى الأول الناصر والمؤيد وأبو حنيفة والشافعي في أحد قوليه، والحجة على ذلك قوله تعالى: {مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ} (¬1) قالوا: لأن الآية واردة مورد الثناء على الفاعلين لذلك فاستحقوا على ذلك الثواب فدل على أنه نسك فلو كان استباحة محظور لكان مباحًا لا يستحقون عليه الثواب، ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - دعا للمحلقين ثلاثًا وللمقصرين مرة. تقدم. وحجة الثاني هو أن الحلق إنما حُرِّم بالإحرام فلا يكون نسكًا كالطيب، وفرعوا الخلاف في لزوم الدم على هذا، فعلى الأول إذا فعل قبل الرمي لا دم عليه، وعلى الثاني يلزم الدم، وقد يقال عليه هذا غير لازم إذ يجوز أن يكون نسكا مترتبًا فعله على فعل الرمي كالسعي المترتب على طواف (أ) القدوم مع أن مالكًا مصرح بأنه نسك ويوجب الدم على من قدمه على الرمي، والله أعلم. 601 - وعن المسور بن مخرمة - رضي الله عنه - "أن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - نحر قبل أن يحلق، وأمر أصحابه بذلك". رواه البخاري (¬2). هو أبو عبد الرحمن المسور بن مخرمة الزهري القرشي، وهو ابن أخت عبد الرحمن بن عوف، ولد بمكة بعد الهجرة بسنتين، وقدم به المدينة في ذي الحجة سنة ثمان، وهو أصغر من ابن الزبير بأربعة أشهر، وقُبض النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو ابن ثماني سنين، وسمع منه وحفظ عنه، وحدث عن ¬

_ (أ) هـ: (طريق).

عمر، وعبد الرحمن بن عوف، وكان فقيهًا من أهل الفضل والدِّين، ولم يزل بالمدينة إلى أن قتل عثمان، وانتقل إلى مكة فلم يزل بها حتى مات معاوية، وكره بيعة يزيد فلم يزل مقيمًا بها إلى أن نفذ يزيد عسكره وحاصر مكة وبها ابن الزبير فأصاب المِسْوَر حجر من حجار المنجنيق وهو يصلي في الحجر فقتله، وذلك في (أ) مستهل ربيع الأول سنة أربع وستين (¬1). روى عنه عروة بن الزبير وعلي بن الحسين زين العابدين وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة وأبو أمامة سهل بن حنيف وابن أبي مليكة، والمسور بكسر الميم وسكون المهملة وفتح الواو، ومخرمة بفتح الميم وسكون الخاء المعجمة وفتح الراء. والحديث فيه دلالة على تقديم النحر قبل الحلق، وهذا الواقع من النبي - صلى الله عليه وسلم - لما أحصر في عمرة الحديبية فتحلل - صلى الله عليه وسلم - بالذبح، وبَوَّب البخاري على هذا باب النحر قبل الحلق في الحصر، وقد أشار البخاري إلى أن هذا الترتيب مختص بالحصر على جهة الوجوب ولم يتعرض لما يلزم من قدم الحلق على النحر. وقد أخرج ابن أبي شيبة عن علقمة أنه يلزم الدم في ذلك ومثله عن ابن عباس، وأما غير المحصر فقد تقدم الكلام عليه، وظاهر فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - وأمره بذلك وجوب الهدي على المحصر وهو المطابق لقوله تعالى {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} (¬2). 602 - وعن عائشة - رضي الله عنها - قالت: قال رسول الله ¬

_ (أ) سقط من هـ: (في).

- صلى الله عليه وسلم -: "إِذا رميتم وحلقتم فقد حل لكم الطيب وكلُّ شيء إِلا النساء" رواه أحمد وأبو داود (¬1) بإسنادٍ ضعيف. لفظ أحمد وأبي داود: "إذا رمى أحدكم جمرة العقبة فقد حل له كل شيء إلا النساء". وفي رواية لأحمد "إذا رميتم وحلقتم فقد حل لكم الطيب والثياب وكل شيء إلا النساء". وفي رواية للدارقطني: "إذا رميتم وحلقتم فقد حل لكم كل شيء إلا النساء" (¬2) ومداره على الحجاج بن أرطاة، وهو ضعيف ومدلس، وقال أحمد: كان من الحفاظ، وقال أبو حاتم: صدوق مدلس (¬3)، وقال البيهقي (¬4): إنه من تخليطاته، قال البيهقي (¬5): وقد روى هذا في حديث لأم سلمة مع زيادة لم يقل بها أحد من الفقهاء وهو "إذا رميتم الجمرة ونحرتم الهدي إن كان لكم فقد حللتم من كل شيء حرمتم منه إلا النساء حتى تطوفوا بالبيت، فإذا أمسيتم ولم تفيضوا صرتم حرمًا كما كنتم أول مرة حتى تفيضوا البيت". وذكر ابن حزم أن هذا مذهب عروة بن الزبير. والحديث فيه دلالة على حصول التحلل بالرمي والحلق، وأنه لا بد من مجموع الأمرين، والظاهر أنه مجمع على الرمي وحده وعلى الخلاف في الحلق وحده، وأنه لا قائل بمجموع الأمرين فتحمل الرواية بالجمع مع ¬

_ (¬1) أبو داود المناسك، باب في رمي الجمار 2: 499 ح 1978 قال أبو داود: "هذا حديث ضعيف، الحجاج لم ير الزهري ولم يسمع منه"، أحمد 6: 143. (¬2) الدارقطني 2: 276 ح 187. (¬3) راجع: تقريب التهذيب 1: 152. (¬4) البيهقي 5: 136. (¬5) البيهقي 5: 136 - 137.

ضعفها أن هذا هو الأحسن أن يفعل الحلق بعد الرمي وإن لم يكن لازمًا. وقوله "فقد حل لكم الطيب": هذا هو قول الأكثر، والخلاف في ذلك لمالك فقال لا يحل الطيب. وهو مردود عليه بهذا وغيره كما ثبت في حديث عائشة من (أ) أنها طيبت النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد الرمي قبل الطواف (¬1)، وذهب الليث إلى أنه لا يحل الصيد إلا بعد طواف الإفاضة، وهو كذلك مردود عليه بالحديث، ولا خلاف أن الوطء لا يحل ما لم يوجد التحلل الثاني، لكن المستحب ألا يطأ حتى يرمي أيام التشريق. قال الرافعي: وفي عقد النكاح والمباشرة فيما دون الفرج كالقبلة والملامسة وقتل الصيد قولان أحدهما أنها تحل، أما في غير الصيد فلأنهما محظوران للإحرام لا تفسدانه فأشبها الحلق والقلم، وأما في الصيد فلأنه لم يستثن في الحديث إلا النساء، والثاني: لا يحل أما في غير الصيد فلتعلقهما بالنساء، وأما في الصيد فلقوله تعالى: {لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} (¬2) والإحرام باقٍ. 603 - وعن ابن عباس - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ليس على النساء حلق وإِنما يُقَصّرنَ" (¬3) رواه أبو داود بإسناد حسن، وقوى الإسناد أبو حاتم في "العلل" (¬4) والبخاري في "التاريخ" (¬5)، ¬

_ (أ) سقط من هـ، ي: (مِن).

وأَعله ابن القطان ورد عليه ابن المراق فأصاب. والمراد أنه لا يستحب في حقهن ذلك، وأن الأفضل هو التقصير فإن فعلت الحلق أجزأ. 604 - وعن ابن عمر - رضي الله عنه - "أن العباس بن عبد المطلب استأذن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - أن يبيت بمكة ليالي منى من أجل سقايته فأذن له" متفق عليه (¬1). الحديث فيه دلالة على أن المبيت بمنى من واجبات الحج، وأن الترخيص إنما وقع للعباس لأجل العذر المذكور، فإذا لم يوجد العذر فلا رخصة في ذلك، وهذا مذهب الجمهور، وفي قول للشافعي ورواية عن أحمد، وهو مذهب الحنفية، أنه سنة فلا يجب دم بتركه، وعلى الأول يجب الدم، وهذا الإذن للعباس - رضي الله عنه - قال بعضهم: يختص به ولا يتعدى الحكم إلى غيره، وقيل يدخل معه آله، وقيل فريقه وهم بنو هاشم، وقيل كل من احتاج إلى السقاية فله ذلك ثم قيل أيضًا: يختص الحكم بسقاية العباس حتى لو علمت سقاية لغيره لم يرخص لصاحبها في المبيت لأجلها، ومنهم من عمه وهو (أ) الصحيح في الموضعين، والعلة في ذلك إعداد الماء للشاربين، وهل يختص ذلك بالماء أو يلتحق به ما في معناه من الأكل وغيره؟ جزم الشافعي وغيره بإلحاق مَنْ له مال يخاف (ب) ضياعه أو أمر يخاف فوته أو مرض يحتاج إلى من يقوم به ومثله ¬

_ (أ) هـ: (وهذا هو). (ب) هـ: (فخاف).

ذكر الإمام يحيى والأمير الحسين في "الشفا": أن ذلك يدخل فيه من اشتغل بمصلحة عامة للمسلمين أو أمر يختص به، والجمهور قالوا يلحق بأهل السقاية رعاة الإبل خاصة، وسيأتي الكلام عليه، وظاهر الحديث أنه لا يجب الدم مع هذا العذر إذ لو وجب لبين، ولم يؤخر البيان عن وقت الحاجة. وفي الحديث دلالة على شرعية استئذان الكبراء والأمراء فيما يطرأ من الأحكام والمصالح، والمراد بأيام منى ليلة الحادي عشر والليلتين بعده، والله أعلم. فائدة: كانت السقاية من ماء زمزم يغترفونه (أ) بالليل ويجعلونه في الحياض مسبلًا للشاربين وغيرهم يجعلون بينه الزبيب ليتطيب به الماء، وكانت السقاية للعباس في الجاهلية، وأقرها النبي - صلى الله عليه وسلم - له، وأخرج مسلم "أنه قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - على راحلته وخلفه أسامة، فاستسقى فأتيناه بإناء من نبيذ فشرب وسقى فضله أسامة، وقال: أحسنتم وأجملتم (¬1)، هكذا فاصنعوا فهي حق لآل العباس - رضي الله عنه -". 605 - وعن عاصم بن عدي - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "رخص لرعاة الإبل في البيتوتة عن منى يرمون يوم النحر ثم يرمون ليومين ثم يرمون يوم النفر" رواه الخمسة وصححه الترمذي وابن حبان (¬2). ¬

_ (أ) هـ: (يعني تورد).

الحديث رواه أيضًا مالك والشافعي عنه وأحمد والحاكم كلهم من حديث أبي البداح عن عاصم ابنه، أو عن عدي أبيه على اختلاف في ذلك، وأبو البداح ذكره ابن حبان في التابعين قال: وقد يقال إن له صحبة، وفي القلب منه شيء لكثرة الاختلاف في إسناده، وفي الباب عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رخص للرعاء أن يرموا بالليل وأية ساعة شاءوا من النهار" رواه الدارقطني (¬1) وإسناده ضعيف. وعن ابن عمر رواه البزار بإسناد حسن والحاكم والبيهقي (¬2). وفيه دلالة على الترخيص لرعاة الإبل في البيتوتة، وفي تقديم الرمي عن وقته للعذر. 606 - وعن أبي بكر - رضي الله عنه - قال: "خطبنا رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - يوم النحر" الحديث متفق عليه (¬3). في الحديث دلالة على شرعية الخطبة يوم النحر -وقد تقدم ذلك ولفظه - صلى الله عليه وسلم -: "أتدرون أي يوم هذا؟ قلنا: الله ورسوله أعلم فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، قال: أليس يوم النحر؟ قلنا: بلى قال: أي شهر هذا؟ قلنا: الله ورسوله أعلم، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه ¬

_ = 2: 1010 ح 3037، أحمد 5: 450 مالك الحج، باب الرخصة في رمي الجمار 1: 408 ح 218، الحاكم المناسك 1: 478، ابن حبان، باب رمي الجمار أيام التشريق ذكر الإباحة للراعي بمكة أن يجمعوا رمي الجمار فيرمونه اليومين في يوم 6: 74، 75 ح 3877. (¬1) الدارقطني 2: 276 ح 184. (¬2) كشف الآثار 2: 32 ح 1139، البيهقي 5: 151. (¬3) البخاري الحج، الخطبة أيام منى 3: 573 ح 1741 ومسلم كتاب القسامة، باب تغليظ تحريم الدماء والأعراض والأموال 3: 1307 ح 31 - 1679.

بغير اسمه، قال: أليس ذو الحجة؟ قلنا: بلى، قال: أي بلد هذا؟ قلنا الله ورسوله أعلم، فسكت حتى ظننا أن سيسميه بغير اسمه، قال: أليست بالبلد الحرام؟ قلنا: بلى قال: فإن دماءكم وأموالكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا إلى يوم تلقون ربكم، ألا هل بلغت؟ قالوا: نعم، قال: اللهم فاشهد، فليبلغ الشاهد الغائب، فرب مبلغ أوعى من سامع، فلا ترجعوا بعدي كُفَّارًا يضرب بعضكم رقاب بعض" أخرجه البخاري. وأخرج نحوه من حديث ابن عباس (¬1)، ومن حديث ابن عمر مصرح (¬2) بذكر يوم النحر إلا في لفظ لابن عمر فقال: "أيام منى". وأخرج أحمد (¬3) من طريق أبي حمزة الرقاشي عن عمه قال "كنت آخذًا بزمام ناقة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أوسط أيام التشريق إذ ورد عنه الناس. . . ." فذكر نحو حديث أبي بكرة. وقوله "أوسط أيام التشريق" تدل على وقوع ذلك في اليوم الثاني أو الثالث، والجمع بين الروايتين بأنه تكرر ذلك منه - صلى الله عليه وسلم - في اليومين. وفي قوله "خطبنا": دلالة على أنها خطبة مشروعة، وفي ذلك الرد على من قال ليست بخطبة مشروعة، وإنما هي من الوصايا العامة لا على (أ) أنها مشروعة في الحج كما قالت (ب) المالكية والحنفية إن خطب الحج ثلاث سابع ذي الحجة، ويوم عرفة بها، وثاني يوم النحر بمنى، ¬

_ (أ) سقط من هـ: (على). (ب) هـ: (قال).

وخالفهم الشافعي فزاد الرابعة يوم النحر، وقال: الخطبة ليست في ثاني وإنما هي في ثالثه لأنه أول النفر. وقال الطحاوي: إنه لم يبين - صلى الله عليه وسلم - في يوم (أ) النحر شيئًا مما يتعلق بالحج، وإنما ذكر فيها وصية عامة فعرفنا أنها لم يقصد لأجل الحج، وأجيب بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - نبه في الخطبة المذكورة على تعظيم يوم النحر، وعلى تعظيم شهر ذي الحجة وعلى تعظيم البلد الحرام، وقد جزم الصحابة بتسميتها خطبة مع أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ذكر الوصية العامة في خطبة يوم عرفة، وفي خطبة ثاني النحر كما في رواية ابن ماجه في خطبة عرفة من حديث ابن مسعود (¬1)، وعند أحمد من حديث نبيط بن شريط مع أنه قال في خطبة يوم النحر: "خذوا عني مناسككم" (¬2) والله أعلم. 607 - وعن سراء بنت نبهان قالت: "خطبنا رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - يوم الرُّؤوس، فقال: أليس هذا أوسط أيام التشريق" الحديث رواه أبو داود (¬3) بإسناد حسن. سراء بفتح السين وتشديد الراء والمد، ونبهان بفتح النون وسكون الباء الموحدة، روى عنها ربيعة بن عبد الرحمن الغنوي. الحديث فيه دلالة على شرعية الخطبة في اليوم الثاني من أيام النحر، وهي الخطبة الرابعة كما تقدم، وقوله "يوم الرؤوس" المراد به ثاني النحر بالاتفاق. ¬

_ (أ) هـ: (في أيام).

وقوله " أوسط أيام التشريق" أي أفضل أيام التشريق، ويحتمل أن يكون المراد أنه متوسط فيها، فيدل ذلك على أن يوم النحر منها، ولفظ حديثها قالت: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "أتدرون أي يوم هذا؟ -قالت وهو اليوم الذي تدعون يوم الرُّؤوس- قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: هذا أوسط (أ) أيام التشريق (¬1) أتدرون أي بلد هذا؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: هذا المشعر الحرام، ثم قال: إني لا أدري لعلي لا ألقاكم بعد هذا، ألا وإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا حتى تلقون ربكم فيسألكم عن أعمالكم، ألا فليبلغ أدناكم أقصاكم، ألا هل بلغت" فلما قدمنا المدينة لم يلبث إلا قليلًا حتى مات - صلى الله عليه وسلم -. 608 - وعن عائشة - رضي الله عنها - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لها: "طوافك بالبيت وبين الصفا والمروة يكفيك لحجك وعمرتك" رواه مسلم (¬2). الحديث فيه دلالة على أن القارن يكفيه طواف واحد وسعي واحد للحج والعمرة، وهذا ذهب إليه الشافعي وأصحابه ومالك وأحمد وإسحاق وداود، وهو محكي عن ابن عمر وجابر وعائشة، وذهب أبو حنيفة وأصحابه وزيد بن علي والهادي والناصر، وهو محكي عن علي - رضي الله عنه - ورواه عن فعل (ب) النبي، - صلى الله عليه وسلم -، وعن ابن مسعود والشعبي ¬

_ (أ) هـ، حـ: (وسط). (ب) سقط من جـ: (فعل).

والنخعي إلى أنه لا بد من طوافين وسعيين قالوا لقوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} (¬1) وأجيب عن ذلك بأنه لا دلالة في الآية على ذلك إذ التمام حاصل، وإن كفى لهما طواف واحد، والأحاديث متضافرة على نحو حديث عائشة من رواية ابن عمر وجابر وغيرهما. واعلم أنه يرد على هذا الحديث المعارضة بما روي من حديثها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أعمرها من التنعيم، وأمر أخاها عبد الرحمن أن يردفها وانتظرها بالمحصب، قالت (أ): ينصرف الناس بحجة وعمرة وأنا أنصرف بحجة (¬2). والجواب عن ذلك بما ثبت من مجموع روايات في الصحيحين أن عائشة - رضي الله عنها - كانت من جملة من أحرم بالحج أولًا ثم أُمِرَتْ بنسخ الحج إلى العمرة ثم تعذر عليها التحلل بأعمال العمرة لما نفست فأمرها النبي - صلى الله عليه وسلم - أن ترفض العمرة وتغسل رأسها وتحرم بالحج، ثم لما طهرت بعرفات أتمت الحج وطافت وسعت فقال لها النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك، وأنه يكفيها الطواف والسعي للحج والعمرة، وذلك لأن العمرة لما أحرمت بالحج قبل التحلل من العمرة فصدق عليها أنها أولًا متمتعة عند أن (ب) فسخت الحج وأحرمت بالعمرة كما فعل غيرها من أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - وسائر أصحابه، فلما تعذر التحلل منها وأحرمت بالحج صارت قارنة فكفاها الطواف والسعي. ¬

_ (أ) في جـ: (لما قالت). (ب) هـ: (قبل).

وقولها "أينصرف الناس بحج وعمرة" أرادت بذلك أينصرفون بحج مفرد وعمرة منفردة، وهي لم تفردهما فأمرها بإفراد العمرة من التنعيم ليكون لها ما لغيرها. وقولها "أينصرف الناس" ولم تقل أتنصرف أنت دليل على أنها قد وافقته في القرآن بينهما، وفاتها ما فعل الناس، وقد تبين لها أن ما فعله الناس أفضل في حقهم لموافقتهم لما أمر به النبي - صلى الله عليه وسلم - من التحلل بالعمرة مفردة، فحصل بما قلناه الجمع بين الروايات التي ظاهرها الاختلاف (¬1)، وكان حيضها يوم السبت عاشر ذي الحجة، وهو يوم النحر، وهذا قول محمد بن حزم، وأخرج مسلم عنها (¬2) أن حيضها كان بسرف قبل دخولهم مكة، وبين سرف ومكة قيل ستة أميال، وقيل سبعة، وقيل تسعة، وقيل عشرة، وقيل اثنا عشر ميلًا، وفي رواية أبي الزبير عن جابر عند مسلم أن دخول النبي - صلى الله عليه وسلم - عليها وشكواها ذلك له كان يوم التروية (¬3)، ووقع عند مسلم من طريق مجاهد عن عائشة أن طهرها كان بعرفة (¬4)، وفي رواية القاسم عنها طهرت صبيحة ليلة عرفة، وأنها تطهرت بمنى (¬5) واتفقت الروايات كلها على أنها طافت طواف الإفاضة يوم النحر ويرد على هذا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر الناس بأن يرفضوا الحج إلى العمرة بمكة، وقد روى عنها القاسم وعمرة والأسود (¬6) أنهم لم يكونوا يعرفون غير الحج عند من أهلوا من الميقات حتى أمرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بالتحلل، وهذا ¬

_ (¬1) هامش طويل: لا يخفى على منصف ما في هذا من التكلف والجمع. (¬2) مسلم 2: 874 ح 121 - 1211 م. (¬3) مسلم 2: 881 ح 136 - 1211 م. (¬4) مسلم 2: 880 ح 133 - 1211 م. (¬5) الحديث في مسلم 2: 875 ح 123 - 1211. (¬6) مسلم ح 123 - 1211 م ح 125 - 1211 م ح 128 - 1211 م 2: 874.

حيضها كان بسرف (¬1)، وأجيب عن ذلك بأنه روى عروة وجابر وطاوس ومجاهد عنها (¬2) أنها كانت محرمة بعمرة عند إن حاضت، ورواته هو الأرجح من حيث إن فيهم جابرًا، وهو حاضر وقت ذلك، والجواب أنه لا مخالفة حينئذ بين الروايات، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان خيرهم وهم بسرف بين البقاء على الحج وفسخه إلى العمرة، ثم أمرهم أمرًا جازمًا بعد دخوله إلى مكة بعائشة لشدة فهمها لما قصده النبي - صلى الله عليه وسلم - وإدراكها لجودة فطنتها ونور بصيرتها ما ينتهى إليه الأمر من العزيمة بذلك سارعت برفض الحج والإحرام بالعمرة وهي بسرف ظاهرًا وعزمت على الطواف والسعي ثم حصل معها المانع من التحلل وخشيت فوات الحج فأمرها برفض العمرة أي تأخير أعمالها عن أعمال الحج، والإحرام بالحج، وبهذا التأويل يندفع الإشكال وتلتئم الأحاديث التي ظاهرها الاختلاف، وفي هذه القصة دلالة على أن المتمتعة والقارنة إذا رفضتا العمرة التي بعد الحج فهما باقيتان على حكمهما، وأن ذلك تأخير لا رفض في الحقيقة، وظاهر قصة عائشة أنه لا يجب الدم إذ لم يذكر في شيء من الروايات أنه أمرها بالدم، والله أعلم. 609 - وعن ابن عباس - رضي الله عنه - "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يرمل في السبع التي أفاض فيه" رواه الخمسة إلا الترمذي وصححه الحاكم (¬3). ¬

_ (¬1) مسلم 123 - 1211 م. (¬2) مسلم 2: 872 ح 115 - 1211 م جابر عند مسلم 2: 881 ح 136 - 1213 طاوس ح 132 - 1211 م 133 - 1211 م. (¬3) أبو داود الحج، باب الإفاضة في الحج 2: 509 ح 2001، النسائي المناسك (كما في تحفة الأشراف 5917)، ابن ماجه المناسك، باب زيارة البيت 2: 1017 ح 3060، الحاكم المناسك 1: 475.

وفي معناه حديث ابن عمر في الصحيحين "رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا طاف في الحج والعمرة أول ما قدم فإنه يسعى ثلاثة أشواط بالبيت ويمشي أربعًا" (¬1). والحديث فيه دلالة على أنه لا يشرع الرمل في طواف الزيارة، وهو مذهب الجمهور، وفي أحد قولي الشافعي أنه إذا لم يرمل في طواف القدوم أو لم يضطبع فيه فعل ذلك في طواف الإفاضة، والجواب أنه لا دليل على ذلك فيقتصر على الدليل، والسُّبُع بضمتين والإسكان تخفيف جزء من سبعة أجزاء والجمع أَسْبَاع، وفيه لغة ثالثة سَبِيع مثل كريم كذا في المصباح. 610 - وعن أنس - رضي الله عنه - "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى الظهر والعصر والمغرب والعشاء ورقد رقدة بالمحصب ثم ركب إِلى البيت فطاف به" رواه البخاري (¬2). الحديث فيه دلالة على أنه يشرع فعل الصلوات المذكورة والنزول بالمحصب والمحصب بحاء وصاد مهملتين ثم باء موحدة هو: الأبطح، وهو ما انبطح من الوادي واتسع، وهو خيف بني كنانة، وأصل الخيف ما انحدر عن الجبل وارتفع عن المسيل، وحده ما بين الجبلين إلى المقبرة، والنبي - صلى الله عليه وسلم - رمى الجمار في يوم النفر بعد الزوال، وأخر صلاة الظهر حتى وصل المحل المذكور فصلى فيه، واختلف في التحصيب هل هو مستحب فعله النبي - صلى الله عليه وسلم - لأجل ذلك، أو هو غير مستحب وفعله النبي ¬

_ (¬1) البخاري الحج، باب مَنْ طاف بالبيت إذا قدم مكة قبل أن يرجع إلى بيته. . . .، 3: 477 ح 1616، مسلم الحج، باب استحباب الرمل في الطواف والعمرة. . . .، 2: 920 ح 231 - 1261 م. (¬2) البخاري الحج، باب من صلى العصر يوم النفر بالأبطح 3: 590 ح 1764.

- صلى الله عليه وسلم - اتفاقًا أو لغرض آخر غير الاستحباب فذهب إلى أنه سنة ابن عمر قال نافع: "وقد حصب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والخلفاء بعده، وأراد (أ) ابن عمر التأسي بالنبي - صلى الله عليه وسلم - في جميع أفعاله، وهذا من جملتها، وذهب ابن عباس وعائشة إلى أنه ليس من المناسك المستحبة، ولعلهما أرادا أنه ليس من المناسك التي تلزم في تركها لازم لا أنه لا يقتدي بالنبي - صلى الله عليه وسلم - في ذلك، وإن كان ظاهر كلام ابن عباس في قوله "ليس التحصيب بشيء إنما هو منزل نزله رسول الله - صلى الله عليه وسلم -" (¬1)، وقول عائشة "والله ما نزلها إلا من أجلي" (¬2) إن ذلك ليس بمستحب، وإنما هو من ضروريات الجبلة التي لا يتأسى فيها، ولكنه يرد عليهما اعتياد الخلفاء لذلك (¬3)، فإنه لولا فهم الشرعية لما واظبوا على ذلك، ولأبانوا للناس أنه ليس بمشروع، وذهب مالك والشافعي والجمهور إلى استحبابه، وأنه لا شيء على تركه إجماعًا، والله أعلم. 611 - وعن عائشة -رضي الله عنها- "أنها لم تكن تفعل ذلك -أي النزول بالأبطح- وتقول: إنما نزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأنه كان منزلًا أسمح لخروجه" رواه مسلم (¬4). قولها "أسمح" أي أسهل لخروجه من مكة راجعًا إلى المدينة وقيل إن الحكمة في نزوله - صلى الله عليه وسلم - إظهار لشكر نعمة الله -تعالى- عليه، وعلى ¬

_ (أ) هـ: (وزاد).

المؤمنين حيث أظهره على عدوه وأتم له نوره ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون، فإن خيف بني كنانة هو المحل الذي تقاسم قريش وتعاهدوا على إخراج بني هاشم وبني المطلب من مكة إليه وكتبوا بينهم الصحيفة المشهورة وكتبوا أنواعًا من الباطل وقطيعة الرحم فأرسل الله -تعالى- الأرضة فأكلت كل ما فيها من كفر وقطيعة رحم وباطل وتركت ما فيه من ذكر الله -تعالى- فأخبر جبريل النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك فأخبر به عمه أبا طالب فجاء إليهم أبو طالب فأخبرهم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فوجدوه كما أخبر، والقصة مشهورة، ومن هذا يؤخذ الاستحباب لنزوله إذ النعمة عامة للأمة إلى يوم القيامة. 612 - وعن ابن عباس - رضي الله عنه - قال: "أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت إِلا أنه خفف على الحائض" متفق عليه (¬1). قوله "أمر" بتغيير الصيغة كذا في رواية عبد الله بن طاوس والمراد بالفاعل المحذوف هو النبي، - صلى الله عليه وسلم -، وكذا قوله "خفف على الحائض". وقد رواه سفيان أيضًا عن سليمان الأحول عن طاوس وصرح فيه بالرفع ولفظه عن ابن عباس كان الناس ينصرفون في كل وجه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "لا ينفرن أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت" أخرجه مسلم وأحمد (¬2) وهذا يدل على وجوب طواف الوداع، وقد قال به الجمهور من السلف والخلف، وذهب إليه الهادي وأبو حنيفة والشافعي وأحمد، والخلاف في ذلك للناصر ومالك وابن المنذر، وقول للشافعي قالوا: لأنه ¬

_ (¬1) البخاري الحج، باب طواف الوداع 3: 585 ح 1755، مسلم الحج، باب وجوب طواف الوداع وسقوطه عن الحائض 2: 963 ح 380 - 1328 م. (¬2) مسلم الحج، باب وجوب طواف الوداع وسقوطه عن الحائض 2: 963 ح 379 - 1327، أحمد 1: 222.

لو كان واجبًا لما خفف عن الحائض كغيره من سائر المناسك، والجواب أن التخفيف دليل الوجوب إذ لو كان غير واجب لما أطلق عليه لفظ التخفيف، ومن ودع ثالث النحر أجزأه إجماعًا إن نفر، ومذهب الهادوية والشافعي لا يجزئ التوديع يوم النحر لقوله - صلى الله عليه وسلم - "فإنه آخر نسك في الحج" ولم يكن حينئذٍ آخر نسك ويلزم على هذا أن لا يصح في ثاني النحر. وقال العثماني من أصحاب الشافعي: إنه يجزئ يوم النحر إذ هو مشروع للمفارقة وهذا قد فارق، والجواب أنه مشروع بعد استيفاء المناسك ولو بقي بعد أن طاف، واشتغل بشراء زاد أو صلاة جماعة لم يعده، وذهب عطاء إلى أنه يعيده، وقال الشافعي وأحمد إذا أقام بعده لتمريض أو نحوه أعاده، قلنا إن أقام أيامًا. وقال أبو حنيفة: لا يعيد ولو أقام شهرين ولا يلزم المعتمر لفعل علي وابن عمر وعائشة. ولأن الدليل لم يرد إلا في الحاج، وقال الثوري يجب على المعتمر وإلا لزمه دم، وكذا لا يلزم من فسد حجه إذ شرع للمفارقة وهو يجب عليه العَوْد، وكذا المكي ومن ميقاته داره إذ هو للتوديع وهما مقيمان، وكذا من أراد الإقامة بمكة. وقوله "إِلا أنه خفف على الحائض" فيه دلالة على عدم وجوبه عليها وأنه لا يجب الانتظار حتى تطهر ولا دمَ عليها إذ الظاهر أنه ساقط من أصله، وقد ذهب إلى هذا الجمهور من السلف والخلف، والخلاف مروي عن عمر وابنه وزيد بن ثابت. قال ابن المنذر: قال عامة فقهاء الأمصار: ليس على الحائض التي قد أفاضت طواف وداع روينا عن عمر بن الخطاب، وابن عمر، وزيد بن ثابت أنهم أمروها بالمقام إذا كانت حائضًا لطواف الوداع فكأنهم أوجبوه

عليها بعد طواف الإفاضة إذ لو حاضت قبله لم يسقط عنها، وقد ثبت رجوع ابن عمر وزيد بن ثابت - رضي الله عنهما -، وبقي عمر فخالفناه لثبوت حديث عائشة قالت: "حاضت صفية بنت حيي بعدما أفاضت قالت فذكرت ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: أحابستنا هي؟ قلت: يا رسول الله إنها قد أفاضت وطافت بالبيت ثم حاضت بعد الإفاضة، قال: فلتنفر إذًا" (¬1) انتهى. وقد أخرج أبو داود أن الحارث بن عبد الله بن أوس (أ) الثقفي سأل عمر عن المرأة تطوف بالبيت يوم النحر ثم تحيض قال: "ليكن آخر عهدها بالبيت" فقال الحارث: كذلك أفتاني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬2). وقد أخرجه أحمد والنسائي والطحاوي (¬3)، وقال الطحاوي: وحديث عائشة وحديث أم سليم، وكذا حديث ابن عباس ناسخ لهذا إن كان هذا في حجة الوداع، وقد احتج ابن عباس على زيد بن ثابت وقال: سل أم سليم وصواحبها هل أمرهن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بذلك فسألهن، فقلن: قد أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بذلك (¬4)، وللنسائي "فرجع وهو يضحك، فقال الحديث كما حدثتني". 613 - وعن ابن الزبير - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه إِلا المسجد الحرام، وصلاة في المسجد الحرام أفضل من صلاة في مسجدي ¬

_ (أ) هـ: (أويس).

بمائة صلاة". رواه أحمد وصححه ابن حبان (¬1). وأخرجه بهذا اللفظ أيضًا الطيالسي وعَبْد بن حميد وابن زنجويه وابن خزيمة والطحاوي والطبراني في الكبير والبيهقي في شعب الإيمان والضياء. وقد اختلف عن ابن الزبير في رفعه ووقفه، قال ابن عبد البر (¬2): ومن رفعه أحفظ. ومثله لا يقال من قبل الرأي. قال ابن حزم (¬3): ورواه ابن الزبير عن عمر بن الخطاب بسند كالشمس من الصحة، ولا مخالف لهما من الصحابة فصار كالإجماع، وقد روي بألفاظ كثيرة عن جماعة من الصحابة وعددهم فيما اطلعت خمسة عشر صحابيًا وهم: أنس، وجابر، وابن عمر، وأبو هريرة، وأبو الدرداء، وأم الدرداء، وعائشة، وابن الزبير، وجبير بن مطعم، وميمونة أم المؤمنين، وسعد بن أبي وقاص، والأرقم، وأبو سعيد، وأبو ذر، وعمر بن الخطاب، والألفاظ فيها اختلاف ولنذكر الألفاظ الواردة وهي: "صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا المسجد الحرام" أخرجه الطيالسي وأحمد وابن أبي شيبة وابن منيع والروياني وابن خزيمة والطبراني في الكبير وأبو نعيم والضياء عن جبير بن مطعم (¬4). وابن أبي شيبة والطيالسي وأحمد ومسلم وابن ماجه والنسائي عن ¬

_ (¬1) أحمد 4: 5، معاني الآثار 3: 127، الطبراني في الكبير 2: 137، 138، سنن البيهقي الحج، باب فضل الصلاة في مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - 5: 246. (¬2) التمهيد 6: 28، 29. (¬3) المحلى 7: 451. (¬4) الطيالسي ص 128 ح 950، أحمد 4: 80.

ابن عمر (¬1). وأحمد والبخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه وابن حبان عن أبي هريرة (¬2). وابن أبي شيبة ومسلم والنسائي عن ابن عباس عن ميمونة أم المؤمنين (¬3). وأحمد وأبو يعلى والضياء عن سعد بن أبي وقاص (¬4). والشيرازي في "الألقاب" عن عبد الرحمن بن عوف. وابن أبي شيبة عن عائشة (¬5). وأحمد وأبو عوانة والطبراني في الكبير والحاكم والبارودي وابن قانع والضياء عن يحيى بن عيزار عن عثمان بن الأرقم الأرقمي عن عمه عبد الله بن عثمان، وعن أهل بيته عن جده عثمان بن الأرقم عن الأرقم ¬

_ (¬1) مسلم الحج، باب فضل الصلاة بمسجدي مكة والمدينة 2: 1013 ح 509 - 1395، ابن ماجه إقامة الصلاة، باب ما جاء في فضل الصلاة في المسجد الحرام. . . .، 1: 451 ح 1405، النسائي المناسك، باب فضل الصلاة في المسجد الحرام 5: 213، أحمد 2: 53، ابن أبي شيبة 2: 371. (¬2) البخاري فضل الصلاة، باب فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة 3: 63 ح 1190، ومسلم الحج، باب فضل الصلاة بمسجدي مكة والمدينة، 2: 1013 ح 508 - 1394، الترمذي المناقب، باب في فضل المدينة ح 3916، النسائي المناسك، باب فضل الصلاة في المسجد الحرام 5: 214 (ط دار الفكر)، ابن ماجه إقامة الصلاة، باب ما جاء في فضل الصلاة في المسجد الحرام ومسجد النبي - صلى الله عليه وسلم - 1: 450 ح 1404، أحمد 2: 256. (¬3) مسلم الحج، باب فضل الصلاة بمسجدي مكة والمدينة 2: 1014 ح 510 - 1396، النسائي المناسك، باب فضل الصلاة في المسجد الحرام 5: 213 (ط الفكر)، ابن أبي شيبة 2: 371، أحمد 6/ 334. (¬4) أحمد 1: 184. (¬5) ابن أبي شيبة 2: 371.

"صلاة في مسجدي هذا تعدل ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا المسجد الحرام فهو أفضل" (¬1). أخرجه البيهقي وابن زنجويه عن ابن عمر: "صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة إلا المسجد الحرام، وصلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة ألف صلاة فيما سواه". أخرجه أحمد وابن ماجه والطحاوي والشاشي وابن زنجويه والضياء عن جابر: "صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا المسجد الحرام، فإني آخر الأنبياء، إن (أ) مسجدي آخر المساجد" (¬2). أخرجه مسلم والنسائي عن أبي هريرة "صلاة في هذا المسجد أفضل من مائة صلاة في غيره إلا المسجد الحرام" (¬3). أخرجه أبو يعلى والطحاوي وابن حبان والضياء عن أبي سعيد: "صلاة في مسجدي تزيد على سواه من المساجد ألف صلاة غير المسجد الحرام". أخرجه الطبراني في الكبير عن جبير بن مطعم "صلاة في مسجدي هذا أفضل من أربع صلوات في بيت المقدس ولنعم المصلى، وليوشكن أن يكون للرجل (ب) مثل بسط فرشه من الأرض حيث يرى منه بيت المقدس ¬

_ (أ) سقط من هـ: (إن). (ب) هـ: (الرجل).

خير له من الدنيا جميعًا" (¬1). أخرجه الحاكم عن أبي ذر: "صلاة في مسجد المدينة أفضل من ألف صلاة فيما سواه" (¬2). الطحاوي عن عمر. "صلاة في مسجدي أفضل من أربع صلوات في بيت المقدس، ولنعم المصلى في أرض المحشر والمنشر، وليأتين على الناس زمان ولقيد سوط الرجل حيث يرى منه بيت المقدس خير له من الدنيا جميعًا" أخرجه البيهقي في شعب الإيمان عن أبي ذر (¬3). "صلاة في المسجد الحرام مائة ألف صلاة، وصلاة في مسجدي ألف صلاة وصلاة في بيت المقدس خمسمائة صلاة" أخرجه البيهقي في شعب الإيمان، والخطيب في المتفق والمفترق عن جابر (¬4)، وفيه إبراهيم بن أبي حية واهٍ. وأخرج حديث أبي الدرداء أحمد والطبراني في الكبير بسند حسن. وحديث أم الدرداء أخرجه ابن عساكر في الإيجاز. ولفظ حديث أبي الدرداء "الصلاة في المسجد الحرام بمائة ألف صلاة، والصلاة في مسجدي بألف صلاة، والصلاة في بيت المقدس بخمسمائة صلاة" (¬5). وحديث أنس لفظه: "صلاة الرجل في بيته بصلاة، وصلاته في ¬

_ (¬1) المجمع 7:4. (¬2) الحاكم 4: 509. (¬3) شعب الإيمان للبيهقي 3: 486 ح 4145. (¬4) الخطيب 4: 162، 14 - 145، البيهقي في الشعب 3: 486 ح 4144. (¬5) مجمع الزوائد 4: 7، مشكل الآثار 1: 248.

مسجد القبائل بخمس وعشرين صلاة، وصلاة في المسجد الذي يجمع فيه بخمسمائة صلاة، وصلاته في المسجد الأقصى خمسة آلاف صلاة، وصلاته في مسجدي هذا بخمسين ألف صلاة، وصلاته في المسجد الحرام بمائة ألف صلاة" أخرجه ابن ماجه وابن زنجويه وابن عدي وابن عساكر، وإسناده ضعيف (¬1). وهذه الأحاديث وإن كان في بعضها ضعف، ولكنها يقوي بعضها بعضًا، دالة بمجموعها على قدر مشترك، وهي أفضلية المساجد الثلاثة على غيرها من مساجد الأرض وتفاضلها فيما بينها، وأكثر هذه الألفاظ المتقدمة تدل على أفضلية مكة، فإن الظاهر أن أفضلية المسجد لأفضلية المحل (¬2). قال القاضي عياض -رحمه الله تعالى (¬3) -: إن موضع قبره - صلى الله عليه وسلم - أفضل بقاع الأرض، وإن مكة والمدينة أفضل بقاع أرض. واختلفوا في أفضلهما ما عدا موضع قبره - صلى الله عليه وسلم - فقال أهل مكة والكوفة والشافعي وابن وهب وابن حبيب المالكيان إن مكة أفضل، ويحتج على ذلك بحديث عبد الله بن عدي بن الحمراء أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو واقف على راحلته بمكة يقول: "والله إنك لخير أرض الله، وأحب أرض الله إلى الله (أ)، ولولا أني أخرجت منك ما خرجت" رواه الترمذي ¬

_ (أ) هـ: (والله إنك لخير الأرض، والله إنك أحب الأرض إلى الله).

والنسائي (¬1). قال الترمذي: وهو حديث حسن صحيح. وذهب عمر وبعض الصحابة ومالك وأكثر المدنيين إلى أن المدينة أفضل، وقد تقدم في هذا بحث في آخر الاعتكاف. واعلم أنه قد قيل في قوله في تفضيل مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم - على غيره من المساجد إن المساجد المراد بها المعهودة، وهي مساجد الأنبياء كما نقله الطبري عن أبي حاتم، فالألف واللام لمعهود، ويدل على قصد العهد ما وقع في حديث الأرقم لما ودع النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال إنه يريد بيت المقدس، فأجاب عليه بأن (أ) الصلاة في مسجده تزيد على غيره بألف (¬2) فدل على أنه - صلى الله عليه وسلم - قصد بالغير بيت القدس، فعلى هذا فالعدد المذكور في زيادة الصلاة في مسجده إنما هو بالنظر إلى القدر الذي فضل به صلاة بيت المقدس مثلًا، وقد ذكر في ذلك ألفاظ مختلفة إن الصلاة في بيت المقدس بخمسمائة، وإن الصلاة فيه بألف، وإن الصلاة فيه بخمسة آلاف ولا منافاة في العدد القليل والكثير إذ الواجب اطراح مفهوم العدد والعمل بالمصرح به (ب)، فيتعين الأكثر، فحيئنذٍ الصلاة في مسجد المدينة تزيد على الصلاة في بيت المقدس بألف صلاة وهي في بيت المقدس بخمسة آلاف فتكون الصلاة في مسجد المدينة بخمسين ألفًا يعني ¬

_ (أ) سقط من هـ: (بأن). (ب) سقط من هـ: (بها).

إذا كانت في بيت المقدس بخمسمائة لا (أ) إذا كانت في بيت المقدس بخمسة آلاف، والصلاة في المسجد الحرام تزيد عليه بمائة صلاة فتكون بخمسمائة ألف ألف صلاة، والفضيلة متناولة للمسجد الكائن في زمنه - صلى الله عليه وسلم - بلا شك. قال النووي (¬1): ويقتصر عليه دون ما زيد فيه فلا يكون له ذلك الحكم قال لقوله "في مسجدي" بالإضافة وهي للعهد إلا أنه قد يقال فائدة الإضافة الدلالة على اختصاصه دون غيره من سائر المساجد التي في المدينة لا للاحتراز عما زيد فيه، وقد سئل مالك عن ذلك فيما قاله ابن نافع صاحبه فقال: بل هو يعني المسجد الذي جاء فيه الخبر على ما هو عليه الآن لأن (ب) النبي - صلى الله عليه وسلم - أخبر بما يكون بعده، وزويت له الأرض فأري مشارقها ومغاربها، وتحدّث بما يكون بعده، ولولا هذا لما استخار الخلفاء الراشدون أن يزيدوا فيه بحضرة الصحابة، ولم ينكر عليهم منكر، انتهى (¬2). ويشهد له ما رواه ابن أبي شيبة ويحيى والديلمي في مسند الفردوس عن أبي هريرة مرفوعًا "لو مد هذا المسجد إلى صنعاء كان مسجدي" زاد ابن أبي شيبة ويحيى، وكان أبو هريرة يقول "لو مد هذا المسجد إلى باب داري ما عَدوت أن أصلى فيه"، وفي سنده عبد الله بن سعيد المقبري وهو واهٍ (¬3). وليحيى: حدثنا هارون بن موسى الفروي عن عمر بن أبي بكر ¬

_ (أ) هـ: (كما). (ب) هـ: (إلا أن).

الموصلي عن ثقات من علمائه مرفوعًا: "هذا مسجدي، وما زيد فيه فهو منه، ولو بلغ مسجدي صنعاء كان مسجدي" وهو معضل. وله ولابن أبي شيبة عن ابن أبي عمرة قال "زاد عمر بن الخطاب في المسجد من شاميه ثم قال: لو زدنا فيه حتى يبلغ به الجبانة كان مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -". وزاد يحيى: "وخبأه الله بعامر" وفيه عبد العزيز بن عمران المدني متروك (¬1). ولهما عن ابن أبي ذئب -وهو محمد بن عبد الرحمن الفقيه المشهور- قال: قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: "لو مُدَّ مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى ذي الحليفة لكان هو منه" وهو معضل أيضًا، لكن ينجبر ذلك بما أشار إليه مالك، وقد سلم النووي عموم المضاعفة لما زيد في المسجد الحرام. قال الشيخ تقي الدين بن تيمية: وهو الذي يدل عليه كلام المتقدمين وعملهم وكان الأمر عليه في زمن عمر وعثمان فزادا في قبلة المسجد وكان مقامهما في الصلوات والصف الأول الذي هو أفضل ما يقام به في الزيادة قال: وما بلغني عن أحد من السلف خلاف هذا، وما علمت سلفًا (أ) لمن خالف من المتأخرين، ونقل البرهان ابن فرحون أنه لم يخالف في ذلك إلا النووي وأن المحب الطبري (ب في الأحكام ب) نقل رجوعه عن ¬

_ (أ) هـ: (سالفًا). (ب - ب) سقط من جـ، هـ.

ذلك. وفيه نظر فقد نقل ابن الجوزي الخلاف في ذلك عن ابن عقيل الحنبلي، والذي في الأحكام للطبري في بيان أن المضاعفة تعم ما زيد في المسجد النبوي بعد ذكر بعض الأخبار والآثار السابقة، وقد يتوهم بعض من لم يبلغه ذلك قصر الفضيلة على الموجود في زمنه - رضي الله عنه -، وقد وقع ذلك لبعض أئمة العصر فلما رويت له ما سبق جنح إليه وتلقاه بالقبول. انتهى. قال (أ) النووي (¬1): والمضاعفة المذكورة تعم الفرض والنفل خلافًا للطحاوي وغيره من المالكية، ولا ينافي ذلك تفضيل للنفل بالبيت لحديث "أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة" إذ غايته أن للمفضول مزية هي المضاعفة ليست للفاضل، ومزية الفاضل أرجح منها كما قاله الزركشي وغيره، وقال المصنف -رحمه الله تعالى (¬2): يمكن إبقاء حديث "أفضل صلاة المرء" على عمومه فتكون النافلة في بيته بالمدينة أو مكة تضاعف على صلاتها في البيت بغيرهما، وكذا في المسجدين وإن كانت في البيوت أفضل مطلقًا والتضعيف المذكور يرجع إلى الثواب لا إلى (ب) الإجزاء عما في الذمة من المقضيات إجماعًا خلاف ما يوهمه قول النقاش: "حسبت الصلاة بالمسجد الحرام فبلغت صلاة واحد به عُمِّر (جـ) خمس وخمسين سنة وستة أشهر وعشرين ليلة" انتهى (د). ¬

_ (أ) الفقرة المشار إليها من هنا تأخرت في جـ إلى ما بعد قوله: (كما تقدم في حديث لا تشد الرحال ... الحديث). (ب) سقط من هـ: (إلى). (جـ) آخر الفقرة المتأخرة في جـ. (د) هـ: (عن).

والمراد بالمسجد الحرام الكعبة فقط عند العمراني وجماعة إلا أن المرجح خلافه، ويدل للأول ما تقدم أن الألف واللام للمساجد المعهودة وهي مساجد الأنبياء وقرن الكعبة بالمسجد النبوي في الحديث، ورواية النسائي وغيره للحديث: "إلا مسجد الكعبة" بدل المسجد الحرام، ورواية يحيى إلا الكعبة. وقال الإمام الهدي في "البحر": ولو قيل إنه المسجد لصح إن لم (أ) يمنع منه إجماع مع أنه لا إجماع إذ قد ذكره في الكشاف والحاكم صاحب التفسير المسمى بالتهذيب، وفي الصحيحين أيضًا أنه قال - صلى الله عليه وسلم - "بينا أنا في المسجد الحرام في الحِجْر بين النائم واليقظان أتاني جبريل بالبراق" (¬1) ففيه دلالة على أن المسجد الحرام هو محل الصلاة حول الكعبة، أو (ب) المراد به الحَرَم المحرم كما تقدم في حديث: "لا تشد الرحال ... " الحديث، ثم إن هذا التضعيف لا يختص بالصلاة كما صرح بمثله في مكة قال في "الإحياء" (¬2): "والأعمال في المدينة تتضاعف" وذكر حديث "صلاة في مسجدي بألف صلاة فيما سواه" ثم قال: "فكذلك كل عمل بالمدينة بألف". وصرح به أيضًا أبو سليمان داود الشاذلي من المالكية، ويشهد له ما ¬

_ (أ) سقط من جـ: (لم). (ب) هـ، جـ: (و).

روى البيهقي (أ) عن جابر مرفوعًا: "الصلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام، والجمعة في مسجدي هذا أفضل من ألف جمعة فيما سواه إلا المسجد الحرام، وشهر رمضان في مسجدي هذا أفضل مِنْ ألف شهر رمضان فيما سواه إلا السجد الحرام" (ب)، وعن ابن عمر نحوه. وللطبراني في الكبير عن بلال بن الحارث (¬1) مرفوعًا: "رمضان بالمدينة خير من ألف رمضان فيما سواها من البلدان، وجمعة بالمدينة خير من ألف جمعة فيما سواها من البلدان" وهو في (جـ) شرف المصطفى عليه السلام، ولابن الجوزي عن ابن عمر إلا أنه قال: "كصيام ألف شهر" وقال "كألف صلاة فيما سواها" وضعف هذه الأحاديث ينجبر بالقياس على الصلاة. وذكر المصنف -رحمه الله تعالى- هذا الحديث في هذا الباب لدلالته على فضيلة مكة المشرفة التي هي محل (د) لمناسك الج، وإن كان الأنسب ذكر مثل هذا في كتاب الصلاة. واشتمل هذا الباب (هـ) على سبعة وثلاثين حديثًا. ¬

_ (أ) سقط من جـ: (البيهقي). (ب) سقط من هـ: (الحرام). (جـ) جـ: (في كتاب). (د) سقط من جـ: (محل). (هـ) سقط من جـ: (الباب).

باب الفوات والإحصار

باب الفوَات والإحصَار 614 - عن ابن عباس - رضي الله عنه - قال: "قد أُحْصِرَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فحلق وجامع نساءه ونحر هديه حتى اعتمر عامًا قابلًا" رواه البخاري (¬1). الحديث قاله ابن عباس جوابًا، وقد أخرج ابن السكن (أ) في كتاب "الصحابة" (¬2) قال حدثني هارون بن عيسى الصنعاني عن محمد بن إسحاق أحد شيوخ مسلم ثنا يحيى بن صالح ثنا معاوية بن سلام عن يحيى بن أبي كثير قال: سألت عكرمة فقال: قال عبد الله بن رافع مولى أم سلمة: أنا سألت الحجاج بن عمرو الأنصاري عن مَنْ حبس وهو محرم فقال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "منْ عرج أو كسر أو حبس فلينحر مثلها، وهو في حل" قال فحدث به أبا هريرة فقال: صدق، وحدثته (ب) ابن عباس فقال: "قد أحصر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " الحديث المذكور هنا، ولم يذكر البخاري القصة لأن هذا الزائد ليس على شرطه لأنه قد اختلف في حديث الحجاج بن عمرو على يحيى بن أبي كثير عن عكرمة مع كون عبد الله بن رافع ليس من شرط البخاري. وأخرجه أصحاب السنن وابن خزيمة والدارقطني والحاكم من طرق عن ¬

_ (أ) زادت هـ (ذلك)، وأثبتت في الأصل ثم ضرب عليها. (ب) هـ: (وحدث).

الحجاج (¬1). ووقع في رواية يحيى القطان وغيره في سياقه سمعت الحجاج، وأخرجه أبو داود والترمذي من طريق معمر عن يحيى وغيره في سياقه سمعت الحجاج. وأخرجه أبو داود عن عكرمة عن عبد الله بن رافع عن الحجاج. قال الترمذي: "وتابع معمرًا على زيادة عبد الله بن رافع معاوية بن سلام، سمعتُ محمدًا -يعني البخاري- يقول: رواية معمر ومعاوية أصح" (¬2) انتهى. وما تركه البخاري ليس بعيدًا من الصحة فإنه إن كان عكرمة سمعه من الحجاج بن عمرو فذاك وإلا فالواسطة بينهما -وهو عبد الله بن رافع- ثقة، وإن كان البخاري لم يخرج له. وهذا الحديث يدل على شرعية التحلل عند الإحصار وإهداء الهدي كما فعل النبي - صلى الله عليه وسلم -. واعلم أن العلماء اختلفوا في تفسير الإحصار في اللغة، فالمشهور عن أكثر أهل اللغة منهم الأخفش والكسائي والفراء وأبو عبيدة وأبو عبيد وابن السكيت وثعلب وغيرهم أن الإحصار يكون بالمرض والخوف والعجز ونحوها، وأما بالعدو فهو الحصر قال الله تعالى: {لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا ¬

_ (¬1) أبو داود المناسك، باب الإحصار 2: 433 ح 1862، الترمذي الحج، باب ما جاء في الذي يهل بالحج فيكسر أو بعرج 3: 277 ح 940، النسلائي المناسك، باب فيمن أحصر بعدو 5: 198 - 199 (ط. الفكر)، ابن ماجه المناسك، باب المحصر 2: 1028 ح 3077، أحمد 3: 450، الحاكم 1: 470، الدارقطني 2: 277: 278 ح 191 وسيأتي من أحاديث المتن. (¬2) سنن الترمذي 3: 269. (ط. بيروت) (بنحوه).

فِي سَبِيلِ اللَّهِ} (¬1)، وقال ابن ميادة: وما هجر ليلى أن تكون تباعدت ... عليك ولا أن أحصرتك شُغُول (أ) ويقال حصر إذا حبسه عدو عن المضي أو سجن، ومنه قيل للمَحْبَس الحصير والملك الحصير لأنه محجوب هذا هو الأكثر في كلامهم وقال بعضهم: أحصر وأحصر بمعنى واحد وهو المنع في كل شيء مثل صده وأصده، وحكاه الزمخشري عن الفراء وأبي عمرو (ب) الشيباني، واختلفت أيضًا أقوال الصحابة. فقال كثير منهم: الإحصار من كل حابس يحبس الحاج من عدو ومرض وغير ذلك حتى أفتى ابن مسعود رجلًا لُدِغَ بأنه محصر، أخرجه ابن جريج بإسنادٍ صحيح عنه. وأخرج عبد بن حميد عنه، وعلقه البخاري في قوله تعالى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} قال: "الإحصار من كل شيء يَحْبسه" (¬2) قال المصنف (¬3) -رحمه الله تعالى- وكذا رويناه في تفسير الثوري رواية أبي حذيفة عنه. وأخرج ابن المنذر (¬4) عن ابن عباس نحوه ولفظه: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ} قال: "من أحرم بحج أو عمرة ثم حُبس عن البيت بمرض يجهد أو عدو يحبسه فعليه ذبح ما استيسر من الهدي، فإنْ كانت حجة الإسلام فعليه قضاؤها، وإن كانت حجة بعد الفريضة فلا قضاء عليه". وقال آخرون: ¬

_ (أ) هـ: (شعور). (ب) جـ، ي: (عمر)!

لا حصر إلا بالعدو، وصح ذلك عن ابن عباس: لا حصر إلا من حبسه عدو. (أوروى مالك في الموطأ أ) والشافعي عنه عن ابن شهاب عن سالم عن أبيه قال: من حبس دون البيت بالمرض فإنه لا يحل حتى يطوف بالبيت (¬1). وروى مالك عن أبي أيوب عن رجل من أهل البصرة قال: "خرجتُ إلى مكة حتى إذا كنت بالطريق كُسِرَتْ فخذي فأرسلت إلى مكة وبها عبد الله بن عباس وعبد الله بن عمر والناس فلم يرخص لي (ب) أحد في أن أحل فأقمت على ذلك أليمًا (¬2) تسعة أشهر ثم حللت بعمرة" (¬3). وأخرجه ابن جرير من طرق وسمى الرجل يزيد بن عبد الله بن الشخير. واختلف العلماء أيضًا في ذلك، فذهب العترة وأبو حنيفة وأصحابه والنخعي وغيرهم من الكوفيين إلى أن الحصر يكون بالكسر والمرض والخوف، وهو منصوص عليه في الحديث المذكور، ويدل عليه عموم قوله تعالى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ ...} (¬4) فإن الآية الكريمة وإن وردت في سبب خاص وهو إحصار النبي - صلى الله عليه وسلم - وكان ذلك بحصر العدو في عمرة الحديبية ولكنه لا يقصر العموم على سببه، ويقاس على ما نص عليه غير ذلك من سائر الأعذار المانعة، وذلك مثل اعتداد المرأة وانقطاعها عن المحرم، ومنع الزوج والسيد للمرأة والعبد حيث لهما المنع، وذهب مالك والشافعي ¬

_ (أ - أ) في هـ: (وفي الموطأ ...). (ب) هـ: (إليّ).

وأحمد إلى أنه يوقف على الحال الذي وقع للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ونزلت الآية الكريمة فيه. قال الشافعي: جعل على الناس إتمام الحج والعمرة، وجعل التحلل للمحصر رخصة، وكانت الآية في شأن العدو، فلم نعد بالرخصة موضعها ولكن ظاهرة قولهم في العدو أنه يعم الكافر والبَاغي فقد تجاوزوا الحكم عن الكافر إلى الباغي، واقتصر ابن عباس على العدو الكافر وقوفًا على الواقع، وفي المسألة قول ثالث حكاه ابن جرير (أ) وغيره، وهو أنه لا حصر بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - وروى الموطأ عن ابن شهاب عن سالم عن أبيه: "المحرم لا يحل حتى يطوف" أخرجه في باب ما يفعل من أحصر بغير عدو (¬1). وأخرج ابن جرير عن عائشة (¬2) نحوه بإسناد صحيح، وعن ابن عباس (¬3) بإسناد ضعيف. وروي ذلك عن عبد الله بن الزبير، وذهب مالك إلى أن الإحصار إنما يكون عن الحج بخلاف العمرة، لأن لها وقتًا لا يفوت والحج يفوت بفوات وقته. واحتج له إسماعيل القاضي بما أخرجه بإسناد صحيح عن أبي قلابة قال: "خرجت معتمرًا فوقعت عن راحلتي فانكَسَرتُ فأرسلت إلى ابن عباس وابن عمر - رضي الله عنهما - فقالا: ليس لها وقت كالحج يكون على إحرامه حتى يصل البيت". والجواب النص في العمرة واعتباره أولى من التعليل، ولذلك أن ابن ¬

_ (أ) هـ، ى: (ابن حزم).

عمر صرح (أ) بقياس الحج على العمرة وقال: "إنما أمرهما واحد فأحرم بالحج" (¬1) لما خاف أن يصد عن البيت وهو قياس ينفي الفارق من أقوى الأقيسة، ولعله يذهب إلى أن العموم يقصر على سببه فلم يحتج بقوله: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ ...} (¬2)، وقوله "فحلق وجامع" إلخ ظاهره أنه قدم الحلق والجماع على نحر الهدي باعتبار التقديم في الذكر مع أن الأمر ليس كذلك فإنه - صلى الله عليه وسلم - نحر قبل أن يحلق كما أخرج البخاري من حديث الحديبية "فخرج فنحر بدنة، ودعا حالقه فحلق" ومن حديث ابن عمر "فنحر بدنة وحلق رأسه" ولكن العطف بالواو لا يدل على الترتيب، وإذا حلق قبل أن ينحر فعليه دم. وقد أخرج ذلك ابن أبي شيبة عن علقمة قال إبراهيم النخعي: وحدثني سعيد بن جبير عن ابن عباس - رضي الله عنه - مثله. وظاهر القصة أن الهدي واجب، وهو ظاهر الآية الكريمة، وهو قول الأكثر، وذهب مالك إلى أنه لا هدي عليه وقاسه على الخروج من الصوم للعذر. والجواب: أنه لا قياس مع ظهور الحجة من الحديث فإن في القصة أنه قال لأصحابه "قوموا فانحروا ثم احلقوا" فذكر فيه الحكم والسبب، فالسبب الحصر والحكم النحر فاقتضى الظاهر تعلق الحكم بذلك السبب، وكذا الآية الكريمة وهي: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} (2). وقوله: "حتى اعتمر قابلًا" فيه دلالة على أنه يجب قضاء ما تحلل ¬

_ (أ) سقط من جـ: (صرح).

عنه وهو في الفرض إجماع، وأما النفل فذهب العترة وأبو حنيفة وأصحابه إلى أنه يجب عليه القضاء، وقد أخرج الواقدي في المغازي من طريق الزهري ومن طريق أبي معشر وغيرهما قالوا: "أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أصحابه - رضي الله عنهم - أن يعتمروا ولم يتخلف منهم إلا من قتل بخيبر أو مات، وخرج معه جماعة معتمرون ممن لم يشهد الحديبية فكانت عدتهم ألفين". وذهب ابن عباس وابن عمر وهو مذهب الشافعي ومالك وأحمد إلى أنه لا يلزم القضاء في النفل. وأخرج ابن جريج عن ابن عباس: فإن كانت حجة الإسلام فعليه قضاؤها وإن كانت غير الفريضة فلا قضاء عليه. وأخرج مالك بلاغًا (¬1) أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حل هو وأصحابه بالحديبية فنحروا الهدي وحلقوا رءوسهم وحلوا من كل شيء قبل أن يطوفوا بالبيت وقبل أن يصل إليه الهدي. ثم لم يعلم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر أحدًا من أصحابه ولا من كان معه أن يقضوا شيئًا ولا أن يعودوا لشيءٍ. وقال الشافعي في الأم (¬2) فحيثما أحصر ذبح وحل ولا قضاء عليه من قبل إن الله تعالى لم يذكر قضاء ثم قال: لأنا علمنا في متواطئ أحاديثهم أنه كان معه في عام الحديبية رجال معروفون ثم اعتمر عمرة القضية فخلف بعضهم بالمدينة من غير ضرورة في نفس ولا مال، ولو لزمهم القضاء لأمرهم بأن لا يتخلفوا عنه (¬3) وقال في موضع، آخر: ¬

_ (¬1) الموطأ الحج، باب ما جاء فيمن أحصر بعدو ص 236 ح 98. (¬2) الأم 2: 158 - 159. (¬3) الأم 2: 159.

إنما سميت عمرة القضاء والقضية (¬1) للمقاضاة التي وقعت بين النبي - صلى الله عليه وسلم - وبين قريش لا على أنه واجب قضاء تلك العمرة (¬2). ويمكن الجمع بين ما أخرجه الواقدي وبين هذا أن الأمر كان على سبيل الاستحباب لأن الشافعي جازم بأن جماعة تخلفوا لغير عذر وترجيح رواية الشافعيِّ بأن جماعة معروفين تخلفوا في المدينة لأنه مثبت وقد روى الواقدي أيضًا من حديث ابن عمر قال: "لم تكن هذه العمرة قضاء ولكن كان شرطًا على قريش أن يعتمر الناس من قابل في الشهر الذي صدهها المشركون فيه. واعلم أنه اختلف العلماء في محل نحر الهدي للمحصر، فقال الجمهور: يذبح المحصر الهدي حيث يحل سواء كان في الحل أو في الحرم. وذهب أبو حنيفة وهو مذهب الهادي وغيره من أهل البيت أنه لا ينحره (أ) إلا في الحرم، وفصل آخرون وهو مذهب ابن عباس وهو إنه إن كان يستطيع أن يبعث به إلى الحرم وجب عليه ولم يحل حتى ينحره في محله، وإن كان لا يستطيع أن يبعث به نحره في محل الإحصار وسبب اختلافهم في هذا الحكم اختلافهم في المحل الذي نحر فيه - صلى الله عليه وسلم - في الحديبية، وكان عطاء يقول: لم ينحر يوم الحديبية إلا في الحرم، ووافقه ابن إسحاق. وقال غيره من أهل المغازي إنما نحر في الحلِّ، والحديبية طرف الحرم هي على تسعة أميال من مكة. وروى يعقوب بن سفيان من طريق مجمع بن يعقوب عن أبيه قال: ¬

_ (أ) هـ: (ينحر).

"لما حُبس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه نحروا بالحديبية وحلقوا وبعث الله ريحًا فحملت شعورهم فألقتها في الحرم". وقال ابن عبد البر في الاستذكار: فهذا يدل على أنهم حلقوا في الحل، ولكنه لا يدل على المقصود فإنه يجوز أن يكونوا أرسلوا بالهدي إلى الحرم ونحر فيه وحلقوا في الحل. وقد أخرج النسائي من حديث ناجية عن أبيه جندب الأسلمي قلت: يا رسول الله ابعث معي بالهدي حتى أنحره بالحرم ففعل. إلا أنه لا يدل على الوجوب. وظاهر القصة أن أكثرهم نحر في مكانه، وكانوا في الحل، وذلك دال على الجواز، واحتج الشافعي على أنه كان النحر في الحل بقوله تعالى: {وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ} (¬1) وقد أخبر الله سبحانه - أنهم صدوهم عنه، والمحل عند أهل العلم الحرم. واختلف العلماء أيضًا في تفسير قوله تعالى: {وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} (¬2) فعند أبي حنيفة أن محله هو الحرم وأن المعنى حتى يعلموا أن الهدي المبعوث إلى الحرم بلغ إليه وذبح، وغيره على معنى حتى يصل هديكم محلًا يحل ذبحه فيه وهو مكان الحبس، فالآية الكريمة محتملة، ولكنه إذا ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أو أحدًا من أصحابه مع علمه بذلك أو أمره كما تقدم في قوله "قوموا فانحروا" نحر في الحل، فالمختار قول الجمهور، والله أعلم. ¬

_ (¬1) سورة الفتح الآية 25. (¬2) سورة البقرة الآية 196.

(أفائدة: من سنن الهدي أن ينحر قيامًا لقوله تعالى: {فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ} (¬1) وسيأتي في الذبائح زيادة بحث إن شاء الله تعالى أ). 615 - وعن عائشة - رضي الله عنها - قالت: "دخل النبي - صلى الله عليه وسلم - على ضباعة بنت الزبير بن عبد المطلب فقالت: يا رسول الله إِني أريد الحج وأنا شاكية، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - حجي واشترطي أن محلي حيث حبستني" متفق عليه (¬2). فيه دلالة على أن المحرم إذا اشترط في إحرامه ثم عرض له المرض أن له أن يتحلل، وقد ذهب إلى هذا عمر بن الخطاب وعلي وابن مسعود وآخرون من الصحابة - رضي الله عنهم - وجماعة من التابعين، وأحمد وإسحاق وأبو ثور، وهو الصحيح من مذهب الشافعي. وقال مالك وأبو حنيفة وبعض التابعين، وهو مذهب الهادي وغيره من الأئمة أنه لا يصح الاشتراط، وحملوا الحديث على أنها قصة غير مخصوصة، أو أنه كان واجبًا ثم نسخ. وقد روي النسخ عن ابن عباس، لكن في إسناده الحسن بن عمارة، وهو متروك (¬3)، إلا أن منْ قال إن عذر الإحصار يدخل فيه المرض فنقول إنه يكون محصرًا ويجب عليه التحلل بالهدي عند تعذر الوصول بالمرض، ولكن الظاهر خلافه، والقاضي عياض (¬4) أشار إلى تضعيف الحديث فإنه ¬

_ (أ، أ) سقط في جـ.

قال: قال الأصيلي: لا يثبت في الاشتراط إسناد صحيح، قال: قال النسائي: لا أعلم أسنده عن الزهري غير معمر. وهذا غلط فاحش فإن الحديث في الصحيحين وسنن أبي داود والترمذي والنسائي وسائر كتب الحديث المعتمدة من طرق متعددة بأسانيد كثيرة عن جماعة من الصحابة، ويدل على أنه إن لم يشترط في إحرامه فليس له أن يتحلل، وهو يقوي قول من يقول إنه لا يصير محصرًا بالمرض، ولذا احتاج إلى اشتراط فقد جعل -سبحانه- المخرج للعبد على أي الوجهَيْن. وضُبَاعة بضم الضاد المعجمة ثم باء موحدة مخففة -وهي بنت الزبير بن عبد المطلب عم النبي - صلى الله عليه وسلم - وقول صاحب الوسيط إنها ضباعة الأسلمية غلط، والصواب الهاشمية (¬1). 616 - وعن عكرمة عن الحجاج بن عمرو الأنصاري قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من كسر أو عرج فقد حل وعليه الحج من قابل" قال عكرمة: فسألت ابن عباس - رضي الله عنه - وأبا هريرة عن ذلك فقالا: صدق. رواه الخمسة وحسنه الترمذي (¬2). هو الحجاج بن عمرو بن غَزِيَّة، بفتح الغين المعجمة وكسر الزاي وتشديد الياء تحتها نقطتان، الأنصاري المازني منسوب إلى جده مازن بن النجار يعد في أهل المدينة، حديثه عند الحجازيين قال البخاري: له صحبة، روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - حديثين أحدهما هذا "من كسر ... " ¬

_ (¬1) شرح مسلم 3: 299. (¬2) أبو داود المناسك، باب الإحصار 2: 433 ح 1862، الترمذي الحج، باب ما جاء في الذي يهل بالحج فيكسر أو يعرج 3: 277 ح 940، النسائي مناسك الحج، باب فيمن أحصر بعدو 5: 198: 199 (ط. بيروت)، ابن ماجه المناسك باب المحصر 2، 1028 ح 3077، أحمد 3: 450، الحاكم 1: 470، الدارقطني 2: 277 - 278 ح 191.

الحديث، والآخر "كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يتهجد من الليل بعد نومه". روى عنه كثير بن عباس وعكرمة مولى ابن عباس وعبد اللَّه بن رافع، وهو الذي ضرب مروان يوم الدار فأسقط وحمله أبو حفصة مولاه وهو لا يعقل. قال ابن عبد البر: عن علي بن المديني قال الحجاج بن عمرو (أ) المازني: له صحبة قال: هو الذي روى عنه ضمرة بن زيد عن زيد بن ثابت في العزل، قال: على ويقال: الحجاج بن أبي الحجاج وهو الحجاج بن عمرو المازني الأنصاري (¬1). الحديث تقدم الكلام عليه وعلى ما يتضمنه من الفقه. قوله: "عَرِجَ" يقال: عرج في مشيه عرجًا من باب تعب إذا كان من عله لازمة (ب)، وعرج فهو أعرج والأنثى عرجاء، وإن كان من علة غير لازمة بل من شيءٍ أصابه حتى غمز في مشيه قيل عرج يعرج من باب قتل فهو عارج كذا في المصباح. وقوله: "فقد حل" وورد في هذه الرواية مطلقًا عن التقييد بنحر الهدي، وقد تقدم ذكر ذلك في قوله "فلينحر مثلها". وقوله: "وعليه الحج من قابل" يفهم من إطلاقه أنه يجب قضاء ما فات ولو كان فعلًا وإن كان التقييد ممكنًا جمعا: بينه وبين ما تقدم من أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يأمر بالقضاء للعمرة ولا فرق بينها وبين الحج، فالجمع بينهما ينفي الفارق، والله أعلم. واعلم أن المصنف -رحمه الله تعالى- لم يذكر ما يتعلق بفوات ¬

_ (أ) في الأصل، هـ: عمر، والمثبت في جـ، ى، وهو ما في أسد الغابة والإصابة وغيرها. (ب) جـ: (علة غير لازمة).

الحج من دون إحصار، وقد أخرج مالك والشافعي والبيهقي ورجال إسناده ثقات من حديث سليمان بن يسار "أن أبا أيوب خرج حاجًّا حتى إذا كان بالنازية من طريق مكة ضلت راحلته فقدم على عمر يوم النحر فذكر ذلك له فقال: "اصنع كما تصنع يوم النحر ثم قد حللت فإذا أدركت الحج قابلًا فاحجج واهد ما تيسر من الهدي" (¬1). لكن صورته منقطع لأن سليمان وإن أدرك أبا أيوب لكن لم يدرك من القصة ولم ينقل أن أبا أيوب أخبره بها لكنه على مذهب ابن عبد البر موصول والنازية بنون وزاي موضع بين الروحاء والصغرى. وروى أبو معاوية عن الأعمش عن إبراهيم عن الأسود: سألت عمر عمن فاته الحج قال: يهل بعمرة وعليه الحج من قابل، ثم لقيت زيد بن ثابت فقال مثله. أخرجه البيهقي (¬2). وأخرج أيضًا من طريق أيوب عن سعيد بن جبير عن الحارث بن عبد الله ابن أبي ربيعة قال: سمعت عمر وجاءه رجل في أوسط أيام التشريق وقد فاته الحج فقال له عمر: طُف بالبيت وبين الصفا والمروة، وعليك الحج من قابل (¬3). وقد اختلف الفقهاء في حكم من فاته الحج فذهب الهادي وغيره أنه يتحلل بعمرةٍ بالإحرام الأول، وقال أبو يوسف الحنفي: إنه يستأنف لها إحرامًا، وهو يفهم من قول عمر: "يهل بعمرة وعليه الحج من قابل". قال الإمام المهدي في البحر ردًّا عليه لنا قوله - صلى الله عليه وسلم - "فليجعلها عمرة" ¬

_ (¬1) الموطأ الحج، باب هدي من فاته الحج ص 249، 250 ح 153، الأم 2: 166، سنن البيهقي 5: 174 (وفي الأم والسنن بالبادية والصواب المثبت). (¬2) و (¬3) سنن البيهقي 5: 175 وفيه ولقيت زيد بن ثابت بعد عشرين سنة فقال مثله.

ولم يأمر بالاستئناف، وهو يفهم من قول عمر: "طف بالبيت وبين الصفا والمروة". وذهبت العترة إلى أنه يجب عليه دم لفوات الحج، وذهب الحنفية والشافعية إلى أنه لا دم عليه إذ شرع للتحلل وقد تحلل بعمرة. قال الإمام المهدي في الرد عليهم لنا قوله - صلى الله عليه وسلم - "من لم يدرك الحج فعليه دم وليجعلها عمرة" (¬1). اشتمل هذا الباب على ثلاثة أحاديث (أ). ونذكر بعد كتاب الحج خاتمة في ذكر زيارة النبي - صلى الله عليه وسلم - وإن لم يذكر ذلك المصنف رحمه الله تعالى، والكلام على ذلك في سبعة فصول. ¬

_ (أ) آخر المجلد الأول من جـ.

الفصل الأول

الفصل الأول فيما ورد فيها مما يدل على شرعيتها وفضلها من الكتاب والسنة والإِجماع والقياس. أما الكتاب فقوله تعالى {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ} (¬1) وهو - صلى الله عليه وسلم - حيّ بعد موته كحياته قبل الموت، فالمجيء إليه - صلى الله عليه وسلم - بعد موته للزيارة كقصده في حياته (¬2)، وقوله تعالى {وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} (¬3) والهجرة إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - في حال حياته هي الوصول إلى حضرته المشرفة، كذلك الوصول إلى حضرته المشرفة بعد الموت فهو حيّ كما ثبت (¬4). وأما السنة فستأتي الأحاديث. وأما القياس فإنه قد ثبت بالأحاديث الصحيحة شرعية زيارة القبور بصيغة الأمر المحتمل للوجوب أو الندب، فقبر نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - أولى أن يزار فهو داخل إما بشمول النص أو القياس على غيره من القبور، وثبت من ¬

_ (¬1) سورة النساء الآية 64. (¬2) هذه التسوية والقياس ما عرفت عن أحد من علماء المسلمين فإن من المعلوم أن الصحابة الذين سافروا إلى الرسول فساعدوه، وسمحوا كلامه، وخاطبوه وسألوه فأجابهم وعلمهم وأدبهم وحملهم رسائل إلى قومهم وأمرهم بالتبليغ عنه لا يكون مثل أحد بالأعمال الفاضلة كالجهاد والحج فكيف يكون بمجرد رؤية ظاهر حجرته مثلهم أو تقاس هذه الزيارة بهذه الزيارة؟ الفتاوى 27: 236. (¬3) سورة النساء الآية 100. (¬4) هذا الكلام نقله من شفاء السقام للسبكي وقد رد عليه الحافظ ابن عبد الهادي في الصارم انظر ص 421.

فعله أنه كان يزور أهل البقيع وشهداء أحد، وشرعية زيارة القبور مجمع عليها، وما روي عن الشعبي والنخعي من كراهة الزيارة شاذ مع أنه يمكن التأويل بأن ذلك لم يكن له (أ) عرض صحيح من الاعتبار والترحم على الميت والدعاء له. وأما إجماع المسلمين فقد نقله جماعة من الأئمة الذين عليهم المدار والمعول، والخلاف إنما هو في كونها واجبة أو مندوبة، وسيأتي ذكر ذلك. والأحاديث الواردة في فضيلة الزيارة كثيرة، روى (ب) الدارقطني في السنن وغيرها والبيهقي من طريق موسى بن هلال العيدي عن عبيد الله مصغرًا، العمري عن نافع، عن ابن عمر قال: قال - صلى الله عليه وسلم -: "من زار قبري وجبت له شفاعتي" (¬1). وفي تاريخ ابن عساكر وكامل ابن عدي (¬2) أنه عن عبد الله، مكبرًا، إلا أن الاختلاف في عبد الله لا يضر، لأن المصغر وإن كان أوثق فالمكبر أيضًا روى له مسلم وإن كان مقرونًا بغيره، وروى أبو حاتم عن أحمد بن حنبل أنه كان يحسن الثناء عليه، وقال يحيى بن معين: ليس به بأس يكتب حديثه، وقال: إنه في نافع صالح (¬3). ¬

_ (أ) سقط من: هـ، ي. (ب) هـ، ي: (وروي).

وموسى بن هلال: قال ابن عدي: أرجو أنه لا بأس به، وقد روى عنه ستة منهم الإمام أحمد ولم يكن يروي إلا عن ثقة فلا يضره قول أبي حاتم إنه مجهول (¬1)، وقول العقيلي إنه لا يتابع عليه يرد (أ) عليه بأن مسلمًا الجهني قد تابعه عليه، وصحح الحديث ابن السكن وعبد الحق في الأحكام الوسطى "والصغرى" وسكت عليه مع كونه التزم في كتابه أن لا يذكر إلا الصحيح فثبت حينئذٍ أن الحديث يعمل به ولا يضر الاختلاف (¬2) في اسم الراوي فإنه من لم ثقة إلى ثقة مع أنه قال السبكي (¬3): إن موسى بن هلال روى الحديث عنهما جميعًا فلا اضطراب رأسًا. وقوله "وجبت له شفاعتي" المراد بالوجوب هو اللزوم بحكم الوعد الصادق، والمراد بالشفاعة ها هنا هي شفاعة خاصة غير الشفاعة العامة للأمة، فالمراد أنه يخص بشيء من الشفاعة تشريفًا له، أو المراد التبشير له بأنه يموت على الإسلام قطعًا، وقد جاء في رواية البزار بلفظ: "حلت له شفاعتي" من طريق عبد الرحمن بن زيد عن أبيه عن ابن عمر، وعبد الرحمن هذا قال ¬

_ (أ) هـ: (ويرد).

ابن عدي (¬1): إنه ممن احتمله الناس وإنه ممن (أ) يكتب حديثه، وصح الحاكم له حديثًا في التوسل. وأخرج الطبراني في الكبير والأوسط والدارقطني في أماليه وأبو بكر بن المقري في معجمه من طريق مسلمة بن سالم الجهني حدثني عبيد الله بن عمر عن نافع عن سالم عن ابن عمر مرفوعًا "من جاءني زائرًا لا تعمله حاجة إلا زيارتي كان حقًّا علي أن أكون له شفيعًا يوم القيامة" (¬2). وفي معجم ابن المقري بالسند المذكور مرفوعًا: "من جاءني زائرًا كان حقًّا على الله - عزَّ وجلَّ - أن أكون له شفيعًا يوم القيامة" (¬3) وذكره ابن السكن في صحيحه في ثواب من زار قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو مبني على أن (ب) من جاءني زائرًا لما قبل الموت وما بعد الموت (جـ). وأخرج الدارقطني والطبراني عن ابن عمر مرفوعًا: "من حج فزار ¬

_ (أ) ي: (ممكن). (ب) سقط من هـ: (أن). (جـ) سقط من هـ: (الموت).

قبري بعد وفاتي كان كمن زارني في حياتي" (¬1)، وفي إسناده حفص بن أبي داود القاري، وحفص هذا وثقه (أ) أحمد في أرجح الروايتين عنه، وضعفه جماعة (¬2). وقد رواه الطبراني من طريق عائشة بنت يونس امرأة الليث (¬3) فهذا السند يجبر توهين الأول، ورواه بعض الحفاظ المعاصرين لابن منده (ب) من طريق حفص بلفظ: "من حج فزارني في مسجدي بعد وفاتي كمن زارنِي في حياتي"، وذكره ابن الجوزي في "مثير الغرام الساكن" بلفظ: "مَنْ حج فزار قبري بعد موتي كان كمن زارني في حياتي وصحبني". قال ابن عساكر: تفرد بلفظ "صحبني" الحسن بن الطيب (¬4) وهي ¬

_ (أ) هـ، ي: (وقفه). (ب) في هـ: (فهذا السند يجبر توهين منه وضعفه جماعة، وقد رواه الطبراني من طريقه الأول، ورواه بعض الحفاظ المعارضين لابن منده)، وفي ي: (... امرأة الليث غير موثقين الأول، ورواه بعض الحفاظ المعاصرين ...).

زيادة منكرة، وتعقبه السبكي (¬1) وقال: لم ينفرد ابن الطيب فقد رواه ابن عدي في كامله (¬2) من طريق الحسن بن سفيان بدل ابن الطيب، ولا يلزم منه أن يكون له حكم (أ) الصحبة من كل وجه لوجود الأحاديث الدالة على مزية الصحابي. وأخرج الدارقطني في "العلل" عن ابن عمر مرفوعًا "من زارني إلى المدينة كنت له شفيعًا وشهيدًا" (¬3). وأخرج أبو داود الطيالسي عن عمر مرفوعًا: "مَنْ زار قبري أو قال - من زارني كنت له شفيعًا وشهيدًا، ومن مات في أحد الحرمين بعثه الله تعالى من الآمنين يوم القيامة" (¬4) وفي إسناده سوار، قد روى عنه شعبة فدل على ثقته، ورجل منهم من آل عمر عن عمر، وهو من طبقة التابعين الأولين يعتقد فيه الإبهام. وأخرجه العقيلي بلفظ: "من زارني متعمدًا كان في جواري يوم القيامة، ومن مات .... " الحديث وزاد هارون بن قزعة بعد قوله: "يوم القيامة" "ومن سكن المدينة وصبر على لأوائها كنت له شفيعًا أو شهيدًا يوم القيامة" (¬5). وهارون ذكره ابن حبان في الثقات (¬6). ¬

_ (أ) هـ: (أن يكون في حكم).

وأخرج أبو الفتح الأزدي عن علقمة بن عبد الله مرفوعًا: "من حج حجة الإسلام، وزار قبري وغزا غروة وصلى في بيت المقدس لم يسأله الله تعالى فيما افترضه عليه" (¬1). وأخرج أبو الفتح عن أبي هريرة مرفوعًا: "من زارني بعد موتي فكأنما زارني وأنا حيّ، ومن زارني كنت له شهيدًا وشفيعًا يوم القيامة" (¬2). وأخرج ابن أبي الدنيا والبيهقي عن أنس مرفوعًا: "من زارني بالمدينة كنت له شفيعًا وشهيدًا يوم القيامة" (¬3)، ولفظ البيهقي: "من مات في أحد الحرمين بعث في (أ) الآمنين يوم القياسة، ومن زارني محتسبًا إلى المدينة كان في جواري يوم القيامة" وفي إسناده سليمان بن يزيد ذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال أبو حاتم: منكر الحديث ليس بقوي (¬4). وأخرج ابن النجار عن أنس مرفوعًا "من زارني ميتًا فكأنما زارني حيًّا، ومن زار قبري وجبت له شفاعتي يوم القيامة، وما من أحد من أمتي له سمة ثم لم يزرني فليس له عذر" وفي إسناده سمعان بن (ب) المهدي، قال الذهبي: "سمعان بن مهدي عن أنس لا يكاد يعرف ألصقت به نسخه مكذوبة" (¬5). ¬

_ (أ) هـ: (بعثه الله في ...). (ب) ي: (وابن).

قال الحافظ بن حجر: "أكثر متونها موضوعة" (¬1). وأخرج أبو جفر العقيلي عن ابن عباس مرفوعًا: "من زارني في مماتي كان كمن زارني في حياتي، ومن زارني حتى ينتهي إلى قبري كنت له يوم القيامة شهيدًا" -أو قال "شفيعًا" (¬2). وأخرج في مسند الفردوس عن ابن عباس مرفوعًا "من حج إلى مكة ثم قصدني في مسجدي كتبت له حجتان مبرورتان" (¬3). وأخرج ابن عساكر عن علي - رضي الله عنه - قال: "من سأل لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - الدرجة والوسيلة حلت له شفاعته يوم القيامة، ومن زار قبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان في جوار رسول الله - صلى الله عليه وسلم -" وفي إسناده عبد الملك بن هارون بن عنترة وفيه كلام كثير (¬4). وأخرج أبو داود بسند صحيح عن أبي هريرة مرفوعًا: "ما من أحد يسلِّم علي (أ) إلا ردَّ الله عليّ روحي حتى أرد - عليه السلام -" (¬5) صدَّر به البيهقي باب الزيارة، وأخرجه أحمد بلفظ: "ما من مسلم يسلم علي ¬

_ (أ) سقط من هـ: (علي).

عند قبري" (¬1) ويستدل بهذا الحديث على حياة الأنبياء. قال البيهقي (¬2): والمعنى إلا وقد رد الله علي روحي حتى أرد عليه، وقيل هو مجاز عن السماع فكأنه قال لا أسمعه تمام السماع فعبر عنه برد الروح الذي هو ملزوم للسماع أو مجاز عن كمال السماع فعبر برد الروح عنه تقريبًا لفهم الخاطبين أن السماع إنما يكون مع رد الروح فكأنه قال: أسمعه سماعًا تامًّا محققًا وأجيبه تمام الإجابة، ولم يرد أن الروح تعود ثم تقبض، فإن ذلك لا يجوز أن يعتقده أحد، أو أن الرد معنوي لأن الروح الشريف مستغرق في شهود الحضرة العلية فهو التفات روحاني إلى دوائر البشرية ولا يلزم على هذا استغراق الزمان كله (أ) إذ لا يخلو وقت من الأوقات من صلاة عليه في أقطار الأرض، لأن أمور الآخرة لا تدرك بالعقل، وأحوال البرزخ أشبه بأحوال الآخرة، وقال بعضهم: المراد بالبرزخ الملك الموكل به. وقال ابن عماد: يحتمل أن يراد به هنا السرور مجازًا. وأخرج ابن عدي في الكامل والدارقطني في غرائب مالك من طريق النعمان بن شبل عن مالك، عن نافع، عن ابن عمر: "من حج البيت ولم يزرني فقد جفاني" (¬3). قال ابن عدي: لا أعلم رواه عن مالك غير النعمان ولم أر في حديثه حديثًا غريبًا قد جاوز الحد فأذكره. وقال عن عمران بن موسى أنه ثقة ¬

_ (أ) سقط من هـ: (كله).

وعن موسى بن هارون أنه متهم، والتهمة غير مفسرة فالتوثيق أرجح. وروي عن علي مرفوعًا بسند فيه ضعف وانقطاع: "مَنْ زار قبري بعد موتي فكأنما زارني في حياتي ومَن لم يزر قبري فقد جفاني" (¬1)، وجاء عنه موقوفًا بسندٍ فيه ضعف "من زار قبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .... " الحديث فهذه الأحاديث فيها أعظم دليل على شرعية زيارته - صلى الله عليه وسلم - وعلى فضليتها وأنها أنجح الوسائل إلى إدراك السعادة الأبدية والفوز بالدرجات العلية. ¬

_ (¬1) قال في الصارم: (وهذا الحديث من الموضوعات المكذوبة على علي بن أبي طالب والنعمان ليس بشيء ولا يعتمد عليه. ومحمد بن الفضل بن عطية كذاب مشهور بالكذب 171).

الفصل الثاني في الخلاف في وجوب زيارته - صلى الله عليه وسلم - أو ندبها

الفصل الثاني في الخلاف في وجوب زيارته - صلى الله عليه وسلم - أو ندبها فذهب بعض المالكية في القول بوجوبها، وقال غيره من المالكية: إنها من السنن الواجبة، وقالت الحنفية: إنها قريبة من الواجبات والحجة على ذلك الحديث الذي فيه ذكر "فقد جفاني" (¬1) والجفاء للنبي - صلى الله عليه وسلم - محرم فتجب الزيارة لئلا يرتكب الوجه المحرم وقد استدل بمثل ذلك من أوجب الصلاة عليه - صلى الله عليه وسلم - كلما (أ) ذكر بحديث "من الجفاء أن أُذكر عند الرجل ولم يصل علي" ونحوه من الأحاديث في ذلك المعنى، فإن جماعة من علماء المذاهب الأربعة أوجبوا الصلاة عليه كلما ذكر للحديث. والأحاديث وإنْ كان في بعضها مقال فبعضها يقوي بعضًا، وذهب الجمهور إلى أنها مندوبة غير واجبة للأحاديث الواردة في الترغيب إليها، وفضيلة (ب) من فعلها وأجابوا بأن الجفاء ليس فيه (جـ) دلالة صريحة على ترك الواجب بل يصح أن يقال على ترك المندوب إنه جفاء، كما يقال في ترك البر والصلة، ويطلق الجفاء أيضًا على غلظ الطبع والبعد عن الشيء كما في حديث: "من بدا فقد جفا" (¬2) وعلى كل تقدير فهي من المقاصد المهمة والأعمال المحمودة المشكورة وإذا كان قد وردت الأحاديث في زياة القبور على جهة الإطلاق والأمر بهذا فكيف الظن بزيارة قبر سيد ¬

_ (أ) هي: (كما). (ب) سقط من هـ: (من). (جـ) هـ: (له).

الخلائق الذي هو أعظم الوسائل للخلق أجمعين (¬1) - صلى الله عليه وسلم - مع ما قد ثبت من أنه حيّ - صلى الله عليه وسلم - في قبره حياة حقيقية، ولذلك أجاب - صلى الله عليه وسلم - على من قال له: وكيف تعرض صلاتنا عليك وقد أرمْتَ -بفتح أوله وكسر ثانيه وسكون ثالثه، وبعده تاء الخاطب المفتوحة أَي بليت- قال: (إن الله -عزَّ وجلَّ- حرَّم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء" (¬2) صححه ابن حبان والحاكم، وذكر له البيهقي شواهد. وأخرج ابن حبّان (أ) بإسناد جيد أنه قال لأبي الدرداء في جوابه لما قال - صلى الله عليه وسلم -: "وإن أحدًا لن يصلي علي إلا عرضت على صلاته حتى يفرغ منها" فقال أبو الدرداء: وبعد الموت؟ قال "وبعد الموت، إن الله عز وجل حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء" (¬3). وفي رواية للطبراني: "ليس من عبد يصلي علي إلا بلغني صوته، قلنا: وبعد وفاتك؟ قال: وبعد وفاتي إن الله عزَّ وجلَّ حرم على الأرض أن يل أجساد الأنبياء" (¬4). فالأحاديث تدل على أن الإدراك بعد الموت كالإدراك قبله. وأخرج جماعة من الأئمة أنه قال - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ لله عزَّ وجلَّ ملكًا أعطاه أسماع الخلائق فهو قائم على قبري إذا مت، فليس أحد يصلي علي صلاة إلا ¬

_ (أ) في حاشية الأصل، وهـ: "ابن ماجه".

قال: يا محمد صلى عليك فلان بن فلان فيصلي الرب تبارك وتعالى على ذلك الرجل بكل واحدة عشرًا" (¬1). وقد روي هذا بألفاظ مختلفة اللفظ متفقة المعنى، وفي سند الجميع راوٍ قال البخاري فيه: إنه لَيِّن، ووثقه (أ) ابن حبان، وراو آخر ضعفه (ب) بعضهم ولا تعارض بين تبليغ الملك وسماعه - صلى الله عليه وسلم - فإنه يسمع (جـ) ويبلغه إشعارًا بمزيد الخصوصية، والاعتناء بشأنه. وقال الأستاذ أبو منصور البغدادي قال المتكلمون المحقون من أصحابنا: إن نبينا - صلى الله عليه وسلم - حيّ بعد وفاته وأنه بشر بطاعات أمته وأن الأنبياء لا يبلون مع أنا نعتقد ثبوت الإدراكات كالعلم والسماع لسائر الموتى ونقطع بعود حياة كل ميت في قبره ونعيم القبر وعذابه ثابتان وهما من الأعراض المشروطة بالحياة لكنه لا يتوقف على النية، وقد صح عن ابن عباس مرفوعًا: "ما من أحد يمر بقبر أخيه المؤمن -وفي رواية بقبر الرجل- كان يعرفه في الدنيا فيسلم عليه إلا عرفه ورد عليه" (¬2). ولابن أبي الدنيا: "إذا مر الرجل بقبر يعرفه فسلم عليه رد - عليه السلام - وعرفه، وإذا مَرَّ بقبر لا يعرفه ردَّ - عليه السلام -" (¬3). ¬

_ (أ) ي: (ورفعه). (ب) سقط من ي: (ضعفه). (جـ) كذا في الأصل، وفي هـ، ي: (يسمعه).

وقد ذكر ابن تيمية في (أ) اقتضاء الصراط المستقيم (¬1) أن الشهداء بل كل المؤمنين إذا زارهم المسلم وسلم عليهم عرفوا به وردوا - عليه السلام - وصح أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يخرج إلى البقيع ويسلم عليهم ويقول: "السلام عليكم دار قوم مؤمنين" وورد النص في كتاب الله تعالى في حق الشهداء أنهم أحياء يرزقون وأن الحياة فيهم متعلقة بالجسد كما روي أنه (ب) لما حفر السيل في أُحد في قبر عبد الله بن حرام والد جابر وعمرو بن الجموح وهما من شهداء أحدٍ بعد ست وأربعين سنة (جـ فوجدا لم يتغيرا جـ) وكان أحدهما جرح فوضع يده على جرحه فدفن وهو كذلك فأمسكت يده على جرحه ثم أرسلت فرجعت كما كانت (¬2)، ولما حفر معاوية العين التي استنبطها بالمدينة بعد أحد بنحو خمسين سنة، ونقل الموتى أصابت المسحاة قدم حمزة - رضي الله عنه - فسال الدم عنه، والظاهر أن حياة الشهداء أقوى من حياة الأولياء. وجمهور العلماء أن حياة الشهداء حقيقية (د) للجسد، وفي قول بعض أنها للروح فقط، وفي قول أنها للجسد فقط بمعنى أنه لا يبلى ويستمر فيه أمارة الحياة من الدوام وطراوة البدن، وإذا كان هذا في آحاد المسلمين فكيف بالنبيين والمرسلين؟ وكيف سيد المرسلين - صلى الله عليه وعليهم أجمعين، وقد صح في الحديث كما رواه الحافظ المنذري: "الأنبياء ¬

_ (أ) هـ، ي: (من). (ب) سقط من هـ: (أنه). (جـ - جـ) ي: (فوجدوا الشم متغيرًا). (د) هـ، ي: (حقيقة).

أحياء في قبورهم يصلون" (¬1) وصححه البيهقي. وفي صحيح مسلم "مررت بموسى ليلة أُسري بي عند الكثيب الأحمر وهو قائم يصلي في قبره" (¬2). وفي صحيح مسلم أيضًا: "لقد رأيتني في الحجر وقريش تسألني عن مسريا ... " الحديث وفيه: "رأيتني في جماعة من الأنبياء فإذا موسى قائم يصلي، فإذا رجل ضرب من الرجال جعد" وفيه "وإذا عيسى بن مريم قائم يصلي وأقرب الناس به (أ) شبهًا عروة بن مسعود، وإذا إبراهيم قائم يصلي أشبه الناس به صاحبكم -يعني نفسه- فحانت الصلاة فأممتهم" (¬3). وفي حديث آخر أنه لقيهم ببيت المقدس (ب) وفي أخرى أنه لقيهم في جماعة من الأنبياء بالسماوات وكلمهم وكلموه (¬4). قال البيهقي (¬5): وكل ذلك صحيح لا يخالف بعضه فقد يرى موسى قائمًا يصلي في قبره ثم يسر بموسى وغيره إلى بيت المقدس كما أسري ¬

_ (أ) هـ: (منه). (ب) زادت ي هنا: (وفي أخرى أنه لقيهم ببيت المقدس) -وهو تكرار.

بنبينا فيراهم فيه ثم يعرج بهم إلى السماوات كما عرج بنبينا فيراهم فيها، كما أخبر وحلولهم في أوقات مختلفة جائز عقلًا كما ورد به (أ) خبر الصادق مع أنه يجب الإيمان بما صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ونعلم أنه له معنى ثابت وإن عسر على العقل تعقله (ب) ومع ثبوت ذلك في حق الأنبياء فنبينا - صلى الله عليه وسلم - أولى بهذه المرتبة العلية، وقد ألَّفَ البيهقي جزءًا في إثبات حياة الأنبياء في قبورهم، واستدل بأحاديث كثيرة، وذهب بعض الأكابر من العلماء أن نبينا - صلى الله عليه وسلم - امتاز بثبوت ذلك في بعض أحكام الدنيا منها أن الذي خلفه باقٍ على ما كان في حياته فكان ينفق من نصيبه - صلى الله عليه وسلم - على أهله وخدمه على حسب ما كان يفعله - صلى الله عليه وسلم -، وتحريم أزواجه من بعده من ذلك، ولم يصل على جنازته بإمام لكونه هو إمام أمته وغير ذلك لا ينافي ما ذكر من حياة الأنبياء ما رواه ابن حبان في صحيحه من حديث عجوز بني إسرائيل أنها دلت موسى - عليه السلام - على الصندوق الذي فيه عظام يوسف - عليه السلام - فاستخرجه وحمله (جـ) معهم عند قصدهم الذهاب من مصر إلى الأرض المقدسة، أما لأنها أرادت بالعظام كل البدن لأن الجسد لما لم يشاهد فيه روح عبر عنه بالعظام الذي من شأنه عدم الإحساس وأن ذلك باعتبار ظنها أن أبدان (د) الأنبياء كأبدان غيرهم في البلاء، وكذلك قوله - صلى الله عليه وسلم - "أنا أكرم على ربي عزَّ وجلَّ أن يتركني في قبري بعد ثلاث" (¬1) وكذلك ما رواه ابن أبي ليلى وهو سيء ¬

_ (أ) سقط من هـ، ي: (به). (ب) هـ: (تعلقه). (جـ) سقط من ى: (وحملة). (د) سقط من هـ: (أبدان).

الحفظ (¬1): "إن الأنبياء لا يتركون في قبورهم بعد أربعين ليلة ولكن يصلون بين يدي الله - تعالى - حتى ينفخ في الصور" (¬2) فمعناه على ما قال البيهقي أنهم لا يتركون غير مصلين إلا هذا القدر، وبعد ذلك القدر يؤذن لهم بالصلاة بين يدي الله تعالى وهم أحياء في القبور المدة كلها. وقد روي عن سعيد بن المسيب أنه قال: "بقي ثلاثة أيام في مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم - منفرد، في أيام فتنة يزيد بن معاوية ومحاصرته لأهل المدينة فخلا المسجد عن إقامة الصلاة فيه قال ولم يكن يعلم بدخول أوقات الصلاة إلا بسماع الأذان والإقامة (أ) من داخل القبر، فإذا علم الزائر أنه - صلى الله عليه وسلم - حيّ في قبره يسمع صوته وتوسله وتشفعه به وسؤاله منه أن يشفع له إلى ربه - عزَّ وجلَّ - حتى يرضى عنه ويعطيه ما يحبه من خير الدنيا والآخرة سعى في تحصيل الوصول إلى ذلك الموقف الشريف بما أمكنه لينال هذه الفضائل ويدرك سنّي الرغائب والفواضل. وأما ما رواه المنهال بن عمرو قال: "كنت أنا وسعيد بن المسيب إلى جنب حجرة أم سلمة فجعل الناس يدخلون بيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال سعيد أترى هؤلاء ما أحمقهم إنهم يرون (ب) أنه في بيته قلت: أجل قال (جـ): ¬

_ (أ) سقط من هـ: (والإقامة). (ب) هـ: (إنهم يرونه)، ي: (إنه يرون). (جـ) سقط من هـ، ي: (قال).

إنه لا (أ) يبقى نبي من أُولي العزم فوق أربعين ليلة حتى يرفع والنبي - صلى الله عليه وسلم - لم يبق في الأرض في أربعين ليلة حتى رفع وأنه ليس من يوم إلا ويعرض عليه أعمال أمته طرفي النهار فيعرفهم بأسمائهم ونسبهم وبذلك يشهد عليهم. ورواه عبد الرزاق بلفظ: "إن سعيد بن المسيب رأى قومًا يسلمون على النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: ما يمكث (ب) نبي في الأرض أكثر من أربعين يومًا" (¬1) ثم عقبه بحديث: "مررت بموسى وهو قائم يصلي في قبره" (¬2) فهم متأول بأن المراد بالرفع هو الاتصال بالملكوت الأعلى مع كونه متصلًا بالقبر، والاتصال الروحاني يخالف اتصال الأجسام وقد حصل القطع بأنه وضع - صلى الله عليه وسلم - في قبره فيستصحب ذلك الوضع ويتأيد ذلك أن الاستصحاب بالأحاديث التي مرت في سماعه ورده على من سلم عليه. وقد أخرج ابن عساكر بسند جيد عن أبي الدرداء قصة نزول بلال بن رباح بداريا بعد فتح عمر بيت المقدس قال: ثم إن بلالًا رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يقول له: ما هذه الجفوة (جـ) يا بلال أما آن لك أن تزورني (د)؟ فأتيته حزينًا خائفًا (هـ) فركب راحلته وقصد المدينة، فأتى قبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فجعل يبكي عنده ويمرغ وجهه عليه، فأقبل الحسن والحسين - رضي الله عنهما - فجعل يضمهما ويقبلهما فقالا: نشتهي نسمع أذانك ¬

_ (أ) سقط من هـ: (لا). (ب) تشبه أن تكون في الأصل: (مكث). (جـ) ي: (الحياة). (د) هـ، ي: (تزرني). (هـ) غير واضحة بالنسخ.

الذي كنت تؤذن به لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المسجد فعلا سطح المسجد ووقف موقفه الذي كان يقف فيه فلما قال الله أكبر ارتجت المدينة فلما قال أشهد أن لا إله إلا الله ازدادت رجتها، فلما قال أشهد أن محمدًا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرجن العواتق من خدورهن وقالوا بُعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فما رُئي يومًا أكثر باكيًا ولا باكية بالمدينة بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من ذلك اليوم (¬1). وقال الحافظ عبد المغني إن بلالًا لم يؤذن لأحد بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا مرة في قدمة قدمها للزيارة، فطلب إليه الصحابة ذلك فأذن ولم يتم الأذان، فقدوم بلال للزيارة والصحابة متوافرون بالمدينة دال على سنية الزيارة، وقد اشتهر أن عمر بن عبد العزيز (¬2) كان يسير البريد من الشام يقول: سلم لي على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم يرجع، وفي فتوح الشام أن عمر قال لكعب الأحبار بعد فتح بيت المقدس (¬3): هل لك أن تسير معي إلى المدينة وتزور قبر النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: نعم يا أمير المؤمنين (¬4). ولما قدم عمر المدينة أول ما بدأ بالمسجد وسلم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصح أن ابن عمر كان إذا قدم من سفرٍ أتى قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا أبا بكر، السلام عليك يا أبتاه. وفي الموطأ (¬5) أن ابن عمر كان يقف على قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - فيصلي على النبي - صلى الله عليه وسلم - وعلى أبي بكر وعمر. ¬

_ (¬1) قال ابن عبد الهادي: الأثر المذكور عن بلال ليس بصحيح عه الصارم ص 230. (¬2) فتوح الشام للواقدي 1: 165. (¬3) لقول ابن عبد الهادي: المطالبة بصحة السند إلى عمر بن عبد العزيز ص 236. (¬4) فتوح الشام للواقدي 1: 165. (¬5) الموطأ كتاب قصر الصلاة في السفر 16611 ح 68.

وعن ابن (أ) القاسم والقعنبي: ويدعو لأبي بكر وعمر. وعن ابن عون: سأل رجلٌ نافعًا (ب) هل كان ابن عمر يسلم على القبر؟ قال: نعم، لقد رأيته مائة مرة أو أكثر كان يأتي القبر فيقوم عنده (جـ) فيقول: السلام على النبي - صلى الله عليه وسلم - السلام على أبي بكر، السلام على أبي. وروى أبو حنيفة عن ابن عمر من قوله أنه قال: السنة أن تأتي قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - من قبل القبلة. فجعل ذلك من السنة. وروى أحمد أن أبا أيوب وَجَده مروان واضعًا وجهه على قبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (د وفي "الشفاء" قال بعضهم: رأيت أنس بن مالك أتى إلى قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - د) - فرفع يديه حتى ظننت أنه افتتح الصلاة فسلم على النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم انصرف. وفي البزار: خرج عمر إلى منبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإذا معاذ بن جبل قائم يبكي عند قبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: ما يبكيك يا معاذ ... الحديث. وأخرج الحافظ أبو ذر الهروي في آخر كتابه "المسند" من طريق محمد بن يوسف بن الطباخ قال حدثنا مصعب قال: قال الدراورديّ: رأيتُ جعفر بن محمد -أي الصادق ابن الباقر- جاء فسلم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم انتهى فسلم على أبي بكر وعمر فرآني كأني تعجبت أو قال: فسرني لإكذابه بذلك ما يزعمه الشيعة من بغضهم للشيخين، قال: فقال لي: والله إن هذا أدين الله به. ¬

_ (أ) هـ: (أبي). (ب) ي: (نافعًا) - غير منقوطة. (جـ) سقط من هـ: (قيومُ عنده). (د - د) سقط من هـ، ي.

وأخرج الدارقطني في الفضائل عن عبد الله بن جعفر أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه - دخل المسجد فبكى حتى نظر إلى بيت فاطمة فأطال البكاء ثم انصرف إلى قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - فبكى فأطال عنده ثم قال: وعليكما السلام يا أخوي ورحمة الله وبركاته قد كنتما هاديين مهديين خرجتما من الدنيا خميصَيْن -يعني أبا بكر وعمر. وفي الشفاء (¬1) قال إسحاق بن إبراهيم الفقيه: ومما لم يزل من شأن من حج المرور بالمدينة والقصد إلى الصلاة في مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والتبرك برؤية روضته ومنبره وقبره ومجلسه وملامس يديه ومواطيء قدميه (أ) والعمود الذي يستند إليه وينزل جبريل بالوحي عليه (ب) ومن عَمَّره وقصده من الصحابة وأئمة المسلمين والاعتبار بذلك كله فتقرر مما ذكر من (جـ) أن زيارته - صلى الله عليه وسلم - إن (د) لم تكن واجبة فهي سنة مواظب عليها، وأن ذلك مشروع للرجال والنساء كما في سائر القبور، وقبره - صلى الله عليه وسلم - أولى لما له من الحق ووجوب التعظيم ولتنزل الرحمة بصلاتنا وسلامنا عليه عند قبره بحضرة الملاثكة الحافّين به والتبرك وبذكر الآخرة، وقد قال بعض الظاهرية بوجوب زيارة القبور على الإطلاق في حق الرجال، واختلفوا في حق النساء، ويستثنى من محل الخلاف النساء عند من منعهن من زيارة القبور ولعموم الوارد في زيارته - صلى الله عليه وسلم - لهن، وقد أشار إليه السبكي والدعي (هـ) ¬

_ (أ) سقط من ي: (قدميه). (ب) هـ: (فيه عليه). (جـ) هـ: (مما ذكر بأنه ...)، ي: (مما ذكر أن ...). (د) سقط من هـ: (أن). (هـ) غير واضحة بالنسخ.

وهو مقتضى إطلاق الأئمة ولعموم قوله تعالى {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ ...} (¬1) الآية وهذه المزية لا تنقطع بموته (¬2) وقد ورد أنه يستغفر لأمته إذا عرضت أعمالهم عليه ولذلك استحب العلماء قراءة الآية الكريمة لمن وصل إلى قبره، والخلاف في مشروعية زيارة قبره - صلى الله عليه وسلم - لابن تيمية الحنبلي رواه عنه تقي الدين السبكي (¬3) من خطه وتبعه بعض من الحنابلة، واحتج على ذلك بحديث "لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد .... " (¬4) الحديث الصحيح، وحديث "لا تتخذوا قبري عيدًا ولا تتخذوا بيوتكم قبورًا" رواه عبد الرزاق عن الحسن بن الحسن (4). نهى قومًا رآهم عند القبر، وروى الحديث، ولأن الأحاديث الواردة في الزيارة كلها ضعيفة. والجواب عليه بأن حديث "لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة" لا بد فيه من تقدير المستثنى منه، والتقدير: لا تشد الرحال إلى مسجد لتعظيمه والصلاة فيه إلا إلى ثلاثة بدليل أنه يجب شد الرحل إلى عرفة للوقوف وإلى منى للمناسك التي فيها، وإلى مزدلفة، وكذلك يشد الرحل للجهاد وللهجرة من دار الكفر ولطلب العلم الواجب، والإجماع ¬

_ (¬1) الآية من سورة النساء 64. (¬2) هذا النقل من كلام السبكي، وقد رد عليه ابن عبد الهادي ما مفاده: دلالة الآية على خلاف تأويله فهو أنه سبحانه صدرها بقوله: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إلا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ}. وهذا يدل على أن مجيئهم إليه ليستغفر لهم إذا ظلموا أنفسهم طاعة له، ولهذا ذم من تخلف عن هذه الطاعة، ولم يقل مسلم أن على من ظلم نفسه بعد موته أن يذهب إلى قبره ويسأله أن يستغفر له، ولو كان هذا طاعة له لكان خير القرون عصوا هذه الطاعة وعطلوها .....) الصارم 321. (¬3) الصارم المنكي 25. (¬4) تقدم تخريجه.

على جواز شد الرحل للتجارة ومطالب الدنيا المباحة والمندوبة، فزيارة قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - لطلب خير الدنيا والآخرة من جملة المقاصد وأعظمها لإدراك خير الدنيا والآخرة، وقصدها أيضًا هو قصد لمسجد المدينة فهو من أحد الثلاثة المستثناة مع أنه جاء في لفظ الحديث بإسناد حسن: "لا ينبغي للمطي أن تشد رحالها إلى مسجد تبتغي فيه الصلاة غير المسجد الحرام ومسجدي هذا والمسجد الأقصى" (¬1) فالزيارة وغيرها من سائر الواجبات والمندوبات التي يسافر لها خارجة عن النهي، ويحتمل الحديث أن المعنى: لا تشد الرحال إلى مسجد لابتغاء مضاعفة الصلاة فيه إلا إلى المساجد الثلاثة فلا ينبغي شد الرحل إلى مسجد آخر للصلاة فيه كمسجد قباء، ويؤخذ من هذه التأويلات ضعف ما قاله النووي في شرح مسلم (¬2): "اختلف العلماء في شد الرحل لغير الثلاثة كالذهاب إلى قبور الصالحين وإلى المواضع الفاضلة، فذهب الشيخ أبو محمد الجويني إلى حرمته، وأشار عياض إلى اختياره، والصحيح عند أصحابنا أنه لا يحرم ولا يكره، قالوا: والمراد أن الفضيلة الثابتة إنما هي شد الرحل إلى هذه الثلاثة خاصة، انتهى. ووجه ضعف هذا أن الذي ذكره خارج عن النهي على التأويل المذكور، وفي "مغني (¬3) " الحنابلة عن ابن عقيل أن من سار لزيارة القبور والمشاهد لا يباح له الترخص يعني في قصر الصلاة لخبر "لا تشد الرحال" يحمل على نفي الفضيلة لا على التحريم، انتهى كلامه (¬4). ¬

_ (¬1) أحمد 3: 64 وتقدم في ص 261. (¬2) شرح مسلم 106:9. (¬3) وبقية كلامه: وليست الفضيلة شرطًا في إباحة القصر، فلا يضر انتفاؤها. اهـ 3: 118. (¬4) قال شيخ الإسلام تعليقًا على كلام الإمام المقدسي ما نصه: (وقوله: بأن الحديث الذي مضمونه "لا تشد الرحال" محمول على نفي الاستحباب يجاب عنه بوجهين أحدهما أن هذا تسليم منه أن هذا السفر ليس بعمل صالح، ولا قربة، ولا طاعة، ولا هو من الحسنات =

ويجاب عنه بما تقدم أن ذلك خارج عن محل النهي فبطل الاحتجاج بالحديث، وأما حديث "لا تتخذوا قبري عيدًا" (¬1) فقال الحافظ المنذري يحتمل أن يكون حثًّا على كثرة الزيارة وأن لا يهمل حتى لا يزار إلا في بعض الأوقات كالعيد، ويؤيده قوله "لا تجعلوا بيوتكم قبورًا" أي لا تتركوا الصلاة فيها. قال السبكي: ويحتمل أن يكون المراد لا تتخذوا له (أ) وقتًا مخصوصًا لا تكون الزيارة إلا فيه أو لا تتخذوه كالعيد في العكوف عليه وإظهار الزينة والاجتماع للهو وغيره كما يُفعل في الأعياد بل لا يُؤتى إلا للزيارة، والدعاء والصلاة والسلام، ثم ينصرف عنه، ويدل على التأويل أن ابن الحسن لم يرد منع الزيارة ما رواه القاضي إسماعيل عن سهل بن أبي سهيل قال: جئت أسلم على النبي - صلى الله عليه وسلم - وحسن بن حسن يتعشى فقال: هلم إلى العشاء، فقلت: لا أريده، فقال: ما لي رأيتك واقفًا قلت: وقفت أسلم على النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا دخلت فسلم عليه ... وذكر الحديث. وفي رواية للقاضي إسماعيل أن رجلًا كان يأتي كل غداة فيزور قبر ¬

_ (أ) سقط من ي: (له).

النبي - صلى الله عليه وسلم - ويصلي إليه ويصنع من ذلك ما انتهره عليه علي بن الحسين فقال له: ما يحملك على هذا؟ فقال: أحب التسليم على النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال له علي: أخبرني أبي .... وذكر الحديث، فالرواية تدل على أن الرجل لم يقف على حد الزيارة، قد روى يحيى بن الحسن (أ) أن علي بن الحسين كان إذا جاء يسلم على النبي - صلى الله عليه وسلم - وقف عند الأسطوانة التي تلي الروضة ثم يسلّم ثم يقول: ها هنا رأس النبي - صلى الله عليه وسلم - قال المطري: وهو موقف السلف قبل إدخال الحجرة في المسجد. وقد روي عن مالك (¬1) أنه كره زيارة قبر (ب) النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو متأول بأنه إنما كره إطلاق لفظ الزيارة لأن الزيارة من شاء فعلها ومن شاء تركها، وزيارة قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - واجبة، كذا قال عبد الحق (¬2)، وقال يعني من السنن الواجبة، وقيل إنما قال مالك ذلك قطعًا للذريعة، وقيل لأن الوصول إليه ليس ليصله أو لينفعه كما هو مفهوم الزيارة، وإنما ذلك رغبة في الثواب فالنفع للزائر لا للمزور متبين بما ذكرنا بطلان ما احتج به ابن تيمية ومن تبعه، وترجح ما ذهب إليه الجمهور من السلف والخلف على مشروعية الزيارة وسنيتها، وأنها من أفضل القرب والمستحبات، بل تقرب من مرتبة الواجبات فإن المسلمين من جميع أقطار الأرض لم يزل من ¬

_ (أ) هـ: (يحيى بن الحسن عن الحسن). (ب) سقط من هـ: (قبر).

شأن (أ) من حَجَّ منهم المرور بالمدينة والقصد إلى الصلاة في مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم - والتسليم عليه والتبرك برؤية روضته ومنبره وقبره ومجلسه ومواطئ قدميه من زمان الصحابة إلى الآن ويعدون ذلك من أفضل الأعمال وأنجح مساعي الخيرات والسعادات الدينية والدنيوية، وقد مضى شطر صالح في ذلك (¬1). وقالت الحنفية زيارته - صلى الله عليه وسلم - من أفضل المندوبات والمستحبات بل تقرب من درج الواجبات فذلك إجماع يفيد القطع بالمشروعية، والأحاديث الواردة متضافرة يقوي بعضها بعضًا وأسانيد أكثرها صحيحة أو حسنة فالأدلة من الكتاب والإجماع تؤيد السنة الواردة في ذلك وما تخيله بعض المحرومين أن السفر للزيارة والقصد إليها قد يفضي إلى أن يعتقد بعض الجهلة أن غير الله -سبحانه وتعالى- يضر وينفع فيسوّي في التعظيم بين البارئ - سبحانه وتعالى - وغير ذلك، وقد أشير إلى التحرز من هذا في حديث عائشة - رضي الله عنها - قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مرضه الذي لم يقم منه: "لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" (¬2) لولا ذلك لأبرز قبره غير أنه خَشِي أو خُشِي أن يتخذ مسجدًا أخرجه البخاري وقال العلماء: إنما نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن اتخاذ قبره وقبر غيره مسجدًا خوفًا من المبالغة في تعظيمه والافتتان به فربما أدى ذلك إلى الكفر كما جرى لكثير من الأمم الخالية ولما احتاجت الصحابة ¬

_ (أ) سقط من ي: (شأن).

والتابعون إلى الزيادة في مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين كثر المسلمون وامتدت الزيادة إلى أنْ دخلت بيوت أمهات المؤمنين فيه ومنها حجرة عائشة مدفن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصاحبيه أبو بكر وعمر بنوا على القبر حيطانًا مربعة مستديرة حوله لئلا يظهر في المسجد فيصلي فيه العوام فيؤدي إلى المحذور ثم بنوا جدارًا من ركني القبر الشماليين حرفوهما حتى التقيا أدركي الجدار حتى لا يمكن أحد من استقبال القبر فذلك الذي تخيله غير واقع، فإن الزائر للنبي - صلى الله عليه وسلم - إنما يقصد بذلك التقرب إلى الله - والتوسل بالنبي - صلى الله عليه وسلم - ليحصل مطلبه من الله - سبحانه وتعالى - لا من النبي - صلى الله عليه وسلم - فلا تسوية في التعظيم بين الله - سبحانه - وبين النبي - صلى الله عليه وسلم - ومن سوى في التعظيم كان المحذور لازمًا له بعينه ولا يمنع غيره لأجله، وهذا القول الوسط الذي لا إفراط فيه ولا تفريط (¬1). ¬

_ (¬1) ما ذكره هو سر المنع والنهي لأن الإنسان إذا أيقن أن في زيارة قبر النبي أو صالح تحصيل أغراضهم بسؤاله ودعائه وشفاعته أعرضوا عن حق ربهم وانصرفوا إلى الاشتغال بأغراضهم وانظر إلى من يقصدون القبور المعظمة ويقصدونها لطلب الحوائج. فلا يسأل إلا الله ولا يطلب إلا منه سبحانه وتعالى.

الفصل الثالث في اختلاف السلف والخلف في الأفضل من البداية بمكة أم بالمدينة لمن يريد الزيارة

الفصل الثالث في اختلاف السلف والخلف في الأفضل من البداية بمكة أم بالمدينة لمن يريد الزيارة فظاهر كلام جماعة من الشافعية ومنهم النووي أنه يبدأ بالحج ثم بالزيارة، وذهب إلى هذا الإِمام أبو حنيفة. رحمه الله. وروي عن أحمد بن حنبل أنه لما سئل عن ذلك ذكر بإسناده عن عطاء ومجاهد والنخعي أنك إذا أردت مكة فلا تبدأ بالمدينة واجعل كل شيء لمكة تبعًا. وذهب علقمة والأسود وعمرو بن ميمون من التابعين إلى تقديم الزيارة على الحج. والأولى أنه إذا كان الوقت متسعًا فالأولى تقديم الزيارة إذا أطاقها لتحصيل هذه الفضيلة فإنه قد يحج ويعوقه عن الزيارة عائق وليكون وسيلة إلى قبول حجه وتوفيقه للإتيان به على أكمل وجوه الكمال والسداد، ومن خشي فوت الحج قدم الحج، وقد أشار إلى مثل هذا في كلام أحمد بن حنبل (¬1)، وكذا الإِمام تقي الدين السبكي، وذكر بعض العلماء فائدة حسنة وهو أن الحكمة في دفنه - صلى الله عليه وسلم - في المدينة ولم يدفن في مكة مع أنه ورد في الحديث أن كل أحد يدفن في الطينة التي خلق منها ورواية: "خلق من طينة الكعبة" وهي لئلا تكون زيارته تابعة لقصد الحج فتكون متبوعة للحج، فكان دفنه في المدينة لتكون زيارته مقصودة في نفسها مستقلة مفردة بالتعظيم الذي يستحقه على قدره وكرمه على ربه مع أنه قد ذكر صاحب عوارت المعارف، وتبعه جماعة من حفاظ المحدثين والفقهاء المحققين أن الطوفان لما علا الكعبة موج منها ما ¬

_ (¬1) الصارم المنكي 242.

رَبَا على وجه الماء من أصلها إلى أن وصل به إلى محل قبره الشريف، فهو - صلى الله عليه وسلم - مدفون في ترب الكعبة، وكانت الحكمة في ذلك هي ما ذكر من إفراده بالقصد والعناية، ويؤيد هذا ما روي أن سليمان - صلى الله على نبينا وعليه- زار محل قبر نبينا محمَّد - صلى الله عليه وسلم - وأخبر أنه سيقبر فيه، وترك هناك أربعمائة من أحبار بني إسرائيل ينتظرون بعثته وهجرته إليهم، {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} (¬1). ¬

_ (¬1) سورة البقرة آية 89.

الفصل الرابع في آداب الزيارة وما ينبغي للزائر أن يعمله في طريقه

الفصل الرابع في آداب الزيارة وما ينبغي للزائر أن يعمله في طريقه الأول: أن ينوي بزيارته للنبي - صلى الله عليه وسلم - (¬1) - التقرب إلى الله بسيره للوصول إلى مسجده - صلى الله عليه وسلم - للصلاة فيه والدعاء والتسليم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأن يكثر في طريقه من الصلاة والسلام عليه (أوإذا قرب من المدينة ازداد من الصلاة والسلام عليه أ) - صلى الله عليه وسلم - ويسأل الله أن ينفعه بزيارته وأن يتقبلها منه، فإن بإكثار الصلاة عليه (ب) نيل السعادات الدينية والدنيوية وتمام ما قصده من الأعمال. وقد أخرج الترمذي وصححه الحاكم عن أبي بن كعب - رضي الله عنه - قال: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا ذهب ثلثا الليل قام فقال يأيها الناس اذكروا الله جاء الموت بما فيه، قال فقلت: يا رسول الله إني أكثر الصلاة عليك فكم أجعل لك من صلاتي؟ قال: ما شئت، قلت: الربع؟ قال: ما شئت وإن زدت فهو خير لك، قلت: فالنصف؟ قال: ما شئت وإن زدت فهو خير لك، قلت: فالثلثين؟ قال: ما شئت وإن زدت فهو خير لك، قلت: أجعل لك صلاتي كلها؟ قال: إذًا تكفى همك وغفر لك ذنبك" (¬2). ¬

_ (أ، أ) سقط من ي. (ب) سقط من هـ (عليه).

وفي رواية عن أحمد وابن أبي عاصم وابن أبي شيبة قال رجل يا رسول الله أرأيت إن جعلت صلاتي كلها عليك؟ قال: "إذًا يكفيك الله تعالى ما أهمك من دنياك وآخرتك" (¬1). فالزائر له مهمات دينية ودنيوية، ومن المهمات وصوله إلى الحضرة الشريفة لأداء ما قصده، فالصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - سبب في تيسرها له، ولا بأس إذا وصل إلى الجبل الذي يسمى مفرجًا أن يصعده ليشاهد المدينة ولكن يجتنب ما يفعله كثير من العامة من التسابق المفرط الذي يؤدي إلى ضرب الدواب وإعيائها فيما لا تستطيعه من السير. الثاني: أن يعرس بالبطحاء الذي بذي الحليفة ويصلي بها بإسنانه - صلى الله عليه وسلم -، قال السبكي وينبغي أن تكون سنة، وعن مالك ومن تبعه من أهل المدينة أن ذلك واجب، ويتأول ذلك بالاستحباب المؤكد، وقال ابن فرحون: إن كان الوقت مما يصلى فيه صلى ركعتين، وإن كان مما لا يصلى فيه أقام فيه حتى يصلي فيه، فإن ذلك من السنة، وذلك لأن ابن عمر قال: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا صدر من الحج أو العمرة أناخ بالبطحاء الذي بذي الحليفة يصلي بها" (¬2) قال نافع وكان ابن عمر يفعل ذلك. الثالث: الاغتسال لدخول المدينة وقد ذكرته الهادوية والمالكية والحنابلة والحنفية، وإذا فات عليه احتمل أن له أن يفعله بعد الدخول ويحتمل عدمه، والأرجح الأول وقد صرحت به الحنفية. الرابع: أن يلبس أنظف ثيابه ويحتمل أن تكون كالعيد فيلبس الأحسن، ويحتمل أن يلبس الأنظف منها الأبيض لأن التواضع عند دخولها هو ¬

_ (¬1) أحمد 5: 136. الطبراني 4: 35 - 36 ح 3574 (الطبعة الثانية). (¬2) البخاري 3: 592 ح 1767 مسلم 2: 981 ح 430 - 1257.

الأولى، وقد ذكر بعضهم أنه يلبس الأبيض لدخول كل مسجد، وقد جاء في حديث قيس بن عاصم أنه لما وفد مع قومه أسرعوا إلى الدخول، وثبت هو حتى أزال مهنته وأنار شعره ولبس ثيابه وجاءه على تؤدة ووقار فرضي له وأثنى عليه بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إن فيه لخصلتين يحبهما الله -عز وجل- الحلم والأناة" (¬1). الخامس: التطيب بعد إزالة الروائح الكريهة وحلق الأبط والعانة وقص الأظفار وغير ذلك مما يحسن به حال الزائر ويكره أن يتشبه بالمحرم بل وإذا اعتقد شرعية ذلك عذر وزجر. السادس: النزول عن راحلته عند مشاهدة المدينة أو حرمها، صرح به المالكية، والمستند ذلك ما روي أن عبد القيس لما زار النبي - صلى الله عليه وسلم - نزلوا عن رواحلهم ولم ينكر عليهم وتعظيم حرمته وحرمة المقدس (أ) باق بعد وفاته كما في حال حياته، وإذا وصل حرم المدينة قال اللهم هذا حرم رسولك - صلى الله عليه وسلم - الذي حرمته على لسانه ودعاك أن تجعل فيه من الخير والبركة مثلي ما هو (ب) في البيت الحرام فحرمني على النار وأمني من عذابك يوم تبعث عبادك وارزقني من بركاته ما رزقته أولياءك وأهل طاعتك ووفقني لحسن الأدب وفعل الخيرات وترك المنكرات. وقد ذكر هذا جماعة من العلماء وإن لم يصح فيه شيء. السابع: إذا دخل المدينة ينبغي له أن لا يركب من حسن دخوله المدينة إلى خروجه منها، وقد روي عن مالك رحمه الله أنه ما ركب بالمدينة دابة ¬

_ (أ) هـ: (المقام المقدس). (ب) سقط من ي: (هو).

وكان يقول: أستحي من الله أن أطأ تربة فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بحافر دابة، وروي أن أبا الفضل الجوهري لما ورد المدينة زائرًا وقرب من بيوتها ترجل ومشى تأكيدًا منشدًا: ولما رأينا رسم مَنْ لم يدع لنا ... فؤادًا لعرفان الرسوم ولا لبا نزلنا على الأكوار نمشي كرامة ... لما بان عنه أن يلم به ركبا وحكي عن بعض المريدين أنه لما أشرف على مدينة الرسول - صلى الله عليه وسلم - أنشأ متمثلًا: رفع الحجاب لنا فلاح لناظري ... قمر تقطع دونه الأوهام وإذا المطي بنا بلغن محمدًا ... فظهورهن على الرحال حرام قربننا من خير من وطئ الثرى ... فلها علينا حرمة وذمام وما أحسن ما قاله القاضي في الشفاء: "وجدير لمواطن عمرت بالوحي والتنزيل وتردد بها جبرائيل وميكائيل وعرجت منها الملائكة والروح وضجت عرصاتها بالتقديس والتسبيح واشتملت تربتها على جسد سيد البشر، وانتشر عنها من دين الله وسنة رسوله ما انتشر مدارس آيات ومساجد وصلوات ومشاهد الفضل والخيرات، ومعاهد البراهين والمعجزات ومناسك الدين ومشاعر المسلمين، ومواقف سيد المرسلين ومتبوأ خاتم النبيين حيث انفجرت النبوة وأين فاض عبابها، وموطن مهبط الرسالة، وأول أرض مس جلد المصطفى ترابها أن تعظم عرصاتها وتتنسم نفحاتها وتقبل ربوعها وجدرانها": يا دار خير المرسلين ومَنْ به ... هدي الأنام وخص بالآيات عندي لأجلك لوعة وصبابة ... وتشوق متوقد الجمرات وعلي عهد إنْ ملأت محاجري ... من تلكم الجدران والعرصات

لأعفرن مصون شيبي بينها ... من كثرة التقبيل والرشفات لولا العوادي والأعادي زرتها ... أبدًا ولو سحبًا على الوجنات لكن سأهدي من حفيل تحيتي ... لقطين تلك الدار والحجرات أذكى من المسك المفتق نفحه ... تغشاه بالآصال والبكرات وتخصه بزواكي الصلوات ... ونوامي التسليم والبركات (¬1) الثامن: أن يقول عند دخوله المدينة: بسم الله ما شاء الله لا قوة إلا بالله، رب أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق، واجعل لي من لدنك سلطانًا نصيرًا، حسبي الله، آمنت بالله، توكلت على الله، لا حول ولا قوة إلا بالله، اللهم إني أسألك بحق السائلين عليك وبحق ممشاي هذا إليك فإني لم أخرج بطرًا ولا أشرًا ولا رياء ولا سمعة، خرجت اتقاء سخطك، وابتغاء مرضاتك، أسألك أن تنقذني من النار، وأن تغفر لي ذنوبي إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت. التاسع: ينبغي له أن يستحضر بقلبه شرف المدينة واختصاصها برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنه الذي أظهره كما أظهر إبراهيم حرمة مكة، وأنها أفضل الأرض مطلقًا عند مالك وجماعة من أهل العلم أو بعد مكة عند أكثر العلماء، وأن الذي شرفت به هو خير الخلائق أجمعين ويستشعر تعظيم المدينة من حين دخوله إلى أن يخرج كأنه يرى النبي - صلى الله عليه وسلم -. العاشر: أن يتصدق بما أمكنه من الرزق الحلال عملًا بقوله تعالى {إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ} (¬2) الآية وهو - صلى الله عليه وسلم - حيّ، وينبغي أن يخص بالصدقة من كان مستوطنًا للمدينة لما لهم من شرف حق الجوار إذا لم يكن غيرهم ¬

_ (¬1) الشفا للقاضي عياض 2: 58 - 59. (¬2) المجادلة الآية 12.

أحوج منهم. الحادي عشر: أن لا يعرج على غير المسجد الشريف وأن يدخله مغتسلًا متطيبًا، والمرأة تؤخر زيارتها إلى الليل، ويستحضر عند رؤية المسجد جلالته لجلالة مشرفه بالعمارة والصلاة فيه وعبادته فيه ونزول الوحي عليه فيه وملازمته للجلوس فيه وتعليمه شرائع الإِسلام والاعتكاف فيه وتأديب أصحابه فيه وهدايتهم وتربيتهم بآداب السنة والكتاب الظاهرة والباطنة واستفادتهم للعلوم التي لا حد لها ولا غاية، ويجدد التوبة والاستغفار من الذنوب والتخلص مما عليه من المظالم والحقوق، ويفرغ قلبه من أمور الدنيا وما لا تعلق له بالزيارة حتى يصلح قلبه للاستمداد منه - صلى الله عليه وسلم - فيتفرغ من ذلك بقدر وسعه وإمكانه، ويستشفع ببركة زيارة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بإمداد الله له وتوفيقه للاستقامة على التوبة ويستحضر في قلبه كونه - صلى الله عليه وسلم - حيًّا في قبره، وأن الوصول إليه كالوصول إليه في حياته، وأنه يسمع سلامه ويجيب عليه، ويعرفه بعينه وما هو عليه من الاستقامة والمخالفة (¬1)، وأنه الوسيلة وباب الله الذي لا يدخل إليه من غيره كما قال بعض العارفين: وأنت باب الله أي امرئ ... أتاه من غيرك لا يدخل ¬

_ (¬1) ما ذكره الشارح هنا فيه نظر أولًا من حيث تسمية الزيارة للرسول - صلى الله عليه وسلم - وقد كرهها بعض السلف. ثانيًا من حيث جعل زيارة القبر كزيارته حيا. يقول شيخ الإِسلام: (وأما جعل زيارة القبر كزيارته حيًّا ... فهذا قياس ما علمت أحدا من علماء المسلمين قاسه .... وليس رؤية قبره أو رؤية ظاهر الجدار الذي بنى على بيته بمنزلة رؤيته ومشاهدته ومجالسته وسماع كلامه ولو كان مثل هذا لكان كل من زار قبره مثل واحد من أصحابه ومعلوم أن هذا من أبطل الباطل ....) الصارم 68 - والزيارة الشرعية لقبر الميت مقصودها الدعاء له والاستغفار كالصلاة على جنازته والدعاء المشروع المأمور به في حق نبينا كالصلاة عليه والسلام عليه وطلب الوسيلة له مشروع في جميع الأمكنة لا يختص بقبره فليس عند قبره عمل صالح تمتاز به تلك البقعة، بل كل عمل صالح يمكن فعله في سائر البقاع ....) الصارم 70.

ويطهر نفسه من الحقد والكِبْر ويلزم التواضع والأدب مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في جميع الأحوال ومتى أراد المسجد قدم رجله اليمنى ويقول: أعوذ بالله العظيم وبوجهه الكريم وسلطانه القديم من الشيطان الرجيم، بسم الله والحمد لله ولا حول ولا قوة إلا بالله، اللهم صل على محمَّد وآل محمَّد وصحبه وسلم، اللهم اغفر لي ذنوبي، وافتح لي أبواب رحمتك رب وفقني وسددني وأصلحني وأعني على ما يرضيك عني ومنّ علي بحسن الأدب في هذه الحضرة الشريفة، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، وإذا خرج قدم رجله اليسرى وقال هذا إلا أنه يقول: وافتح لي أبواب فضلك. وقد ورد في هذا الذكر أحاديث صحيحة، وذكر الرحمة في الدخول لأن المساجد محال رحمة الله تعالى لعباده رحمة مخصوصة (أ) تناسب قصدهم (ب) وعبادتهم فطلبت، وذكر في الخروج الفضل لأن الخروج إلى محل الاكتساب والأسباب التي تجلب بها الأرزاق والغنى عن الناس، وهذا مظهر من مظاهر الفضل التي تفضل الله بها على عباده كما قال الله تعالى: {فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} (¬1) وقد جاء بسند حسن غير متصل "أنه - صلى الله عليه وسلم - كان إذا دخل المسجد صلى على محمَّد وسلم ثم قال: اللهم اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب رحمتك، وإذا (جـ) خرج صلى على محمَّد وسلم ثم قال: اللهم اغفر لي ذنوبي وافتح لي ¬

_ (أ) هـ: (رحمة الله تعالى للعبادة مخصوصة ...). (ب) ي: (تعبدهم). (جـ) هـ، ي: (فإذا).

أبواب فضلك" (¬1) وغير هذا، وقد تقدم في باب المساجد، وجاء في رواية: "إذا دخل أحدكم المسجد فليسلم على النبي - صلى الله عليه وسلم - وليقل اللهم اعصمني من الشيطان" (¬2)، قال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين، ويرد عليه بأن فيه علة خفيت على الحاكم، لكنه حسن بشواهده. وورد حديث أيضًا في أنه يقول: السلام عليك أيها النبي الكريم ورحمة الله وبركاته، وهذا يشرع لكل داخل إلى المسجد المعظم وإنْ كان من أهل المدينة. قال الجمال الطبري: ينبغي للزائر أن يدخل من باب جبريل لأنه كان يدخل منه. وقد ورد في حديث نزوله بالخروج على بني قريظة وهو راكب على فرس أبلق وعلى رأسه اللامة حتى وقف بباب الجنائز وهو الباب المسمى بباب جبريل، وتسميته بباب جبريل متواتر عند أهل المدينة تناقله الخلف عن السلف (¬3). وأن يقصد الروضة المقدسة، وإن دخل من باب جبريل قصدها من خلف الحجرة الشريفة مع ملازمته الهيبة والوقار وملابسة الخشية والانكسار والخضوع والافتقار ثم يبدأ بتحية المسجد ركعتين خفيفتين قيل: يقرأ في الأولى "الكافرون" وفي الأخرى "الإخلاص" ويصلي في مصلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو الآن محراب الشافعية (¬4) لكن فيه انحراف عنه فيتحرى الطرف ¬

_ (¬1) الترمذي الصلاة، باب ما يقول عند دخول المسجد 2: 127 - 128 ح 314 (ط. بيروت)، ابن ماجه المساجد، باب الدعاء عند دخول المسجد 1: 253 - 254 ح 771. (¬2) أبو داود الصلاة، باب فيما يقوله الرجل عند دخوله المجسد 1: 317 - 318 ح 465 (بلفظ: "اللهم افتح لي أبواب رحمتك"، ابن ماجه المساجد، باب الدعاء عند دخول المسجد 1: 254 ح 773 (واللفظ له)، والحاكم 1: 207. (¬3) ولا يزال إلى الآن بهذا الاسم في عام 1416 هـ. (¬4) لما جاءت الحكومة السعودية أيدها الله -وحدت الناس على إمام واحد وهذا من محاسنها، ومحاسنها كثيرة على الحرمين زادهم الله ووصلهم.

الغربي من ذلك المحل بحيث يصير ذلك المحراب عن يمينه، فهذا هو محل موقفه الشريف، فإن لم يتيسر له مما قرب إليه مما يلي المنبر، وقد ورد في تقديم التحية على الزيارة ما رواه مالك عن جابر - رضي الله عنه (أ) - قال: قدمت من سفرٍ فجئت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو بفناء المسجد فقال: "أدخلت المسجد فصليت فيه؟ فقلت: لا. فقال: فاذهب فادخل المسجد صل فيه ثم ائت فسلم علي" (¬1). وإذا صلى المكتوبة قامت مقام التحية، ويسن له بعد الفراغ من التحية أن يشكر الله تعالى على هذه النعمة العظيمة ثم يسأله إتمام ما قصده وقبول زيارته، وله أن يسجد سجدة الشكر على مقتضى مذهب الهادوية والحنفية، وذكره الجمال الطبري من الشافعية، ومقتضى مذهب الشافعية أن سجود الشكر إنما يكون عند مفاجأة نعمة لا تحتسب فلا يسجد بل صرح بعض الشافعية بأنها تحرم لأن التقرب إلى الله بالسجود بلا سبب محرم. الثاني عشر: أن يقصد إلى القبر الشريف، قال بعضهم: والأولى أن يأتيه من جهة أرجل الصحابة -رضي الله عنهم- لأنه أبلغ في الأدب من الإتيان من جهة رأسه المكرم. وقد تقدم عن زين العابدين أنه كان يأتي من قبل الرأس ويستدير القبلة ويستقبل الوجه الشريف، وهذا مذهب الجمهور، وقال بعض ونقل عن أبي حنيفة أن الأفضل استقبال الكعبة، وروي أيضًا عن أبي حنيفة مثل الجمهور. وقد روى ابن الهُمَام في مسنده عن ابن عمر أنه قال: "من السنة استقبال القبر المكرم وجعل الظهر إلى القبلة". ¬

_ (أ) هـ: (أيضًا).

وقد نقل الطبري عن السلف أنهم كانوا قبل إدخال الحجر في المسجد يقفون في الروضة مستقبلين الرأس الشريف، وكانوا يقفون على باب البيت يسلمون، أي لتعذر استقبال الوجه الشريف، ثم لما أدخلت حُجَر أزواجه في المسجد اتسع أمام الوجه الكريم فوقفوا فيه مستقبلين له مستدبرين القبلة (¬1)، وكما في حق الخطيب، ثم يقف وهو مستشعر للهيبة والإجلال فارغ القلب من علائق الدنيا مستحضرًا بقلبه جلالة موقفه ومنزلة من هو بحضرته، وأنه حي في قبره، ناظرًا إليه، وأنه ربما أطلعه الله على ما في قلبه. قال الكرمانيّ الحنفي: ويضع يمينه على شماله كما في الصلاة ويبعد عن القبر الشريف بنحو أربعة أذرع، ذكره النووي في الإيضاح (¬2)، قال النووي: وهو الذي أطبق عليه العلماء. وفي كتب غيره من الشافعية ويقرب الزائر من القبر كقربه منه حيا، وهو يختلف باختلاف الأشخاص والأحوال، وذكر ابن عبد السلام أنه يكون بمقدار ثلاثة أذرع، وعن جماعة من المالكية الأفضل القرب، وهذا أدخل الآن إلى داخل الحجرة، وأما من زار من خلف الشباك الحديد (أالذي وضع أ) محيطًا فهو قد زاد على ذلك، والزيارة من داخل الحجرة إذا أمكن لأن ذلك موقف السلف، ويندب له أن ينظر إلى أسفل ما يستقبله من جدار (ب) القبر، وأن يغض ¬

_ (أ , أ) سقط في هـ. (ب) هـ: (أسفل).

طرفه عما أحدث به من الزينة. الثالث عشر: أنه يندب له أن يقول وهو مستقبل القبر الشريف: السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا نبي الله، السلام عليك يا خير خلق الله، السلام عليك يا خيرة الله، السلام عليك يا حبيب الله، السلام عليك يا نبي الرحمة، السلام عليك يا هادي الأمة، السلام عليك يا بشير يا نذير يا ظهير يا ظاهر، السلام عليك يا ماحي يا عاقب يا رؤوف يا رحيم يا حاشر، السلام عليك يا رسول رب العالمين، السلام عليك يا سيد المرسلين وخاتم النبين، السلام عليك يا خير الخلائق أجمعين، السلام عليك يا قائد الغر المحجلين، السلام عليك وعلى آلك وأهل بيتك، وأزواجك وأصحابك أجمعين، السلام عليك وعلى سائر الأنبياء وجميع عباد الله الصالحين، جزاك الله يا رسول الله عنا أفضل ما جزى نبيا ورسولا عن أمته، وصلى الله تعالى عليك كما ذكرك ذاكر وغفل عن ذكرك غافل أفضل وأكمل وأطيب وأطهر وأزكى وأنمى ما صلى على أحدٍ من الخلق أجمعين، أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شرك له وأشهد أَنك عبده ورسوله وخيرته من خلقه، وأشهد أنك قد بلغت الرسالة وأديت الأمانة ونصحت الأمة وجاهدت في الله حق جهاده اللهم آته الوسيلة والفضيلة، وابعثه مقامًا محمودًا الذي وعدته، وآته نهاية ما ينبغي أن يسأله السائلون، اللهم صل على محمَّد عبدك ورسولك النبي الأمي وعلى آل محمَّد وأزواجه أمهات المؤمنين وذريته وأهل بيته كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم (¬1)، وبارك على محمَّد وعلى آل محمَّد وأزواجه وذريته (أوأهل بيته أ) كما باركت على إبراهيم وعلى آل ¬

_ (أ، أ) سقط في هـ.

إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد كما يليق بعظيم شرفه وكماله ورضاك عنه وكما تحب وترضى له دائمًا أبدًا عدد معلوماتك ومداد كلماتك ورضى نفسك وزنة عرشك أفضل صلاة (أ) وأكملها وأتمها كما ذكرك الذاكرون وغفل عن ذكرك الغافلون وسلم تسليمًا كذلك وعلينا معهم، وإذا عجز عن هذا اقتصر على بعضه، وأقله السلام عليك يا رسول الله - صلى الله عليك وسلم. واختلف حال السلف في التطويل والتقصير فروى ابن عساكر عن ابن عمر التقصير وكذلك ما مر عن الحسن بن الحسن، وذهب النووي (¬1) وجماعة من العلماء إلى أن التطويل أفضل، والأولى أنه ما دام الزائر مستحضرًا للهيبة والإجلال صادق الاستمداد فالتطويل أولى، ومتى فقد ذلك فالإسراع أولى. الرابع عشر: إذا وصاه أحد بالسلام على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يقول: السلام عليك يا رسول الله من فلان بن فلان أو نحو ذلك، وحيث كان الموصي قد قبل من الموصى له ذلك التبليغ وجب الإبلاغ لأن ذلك من تحمل الأمانة، وكذلك في حق الحي، وعلى المبلغ إليه الرد ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو سامع يرد السلام على من سلم عليه، وهذا ذكره جماعة من الشافعية في تبليغ السلام إلى الحي، وكذلك يقال في حق النبي - صلى الله عليه وسلم - فهو حيّ. الخامس عشر: يتأكد على الزائر إذا فرغ من السلام على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يتأخر إلى جهة يمينه قدر ذراع فيسلم على أبي بكر الصديق، ويقول: السلام عليك يا أبا بكر صفيّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وثانيه في الغار، ¬

_ (أ) هـ: (صلاتك).

جزاك الله تعالى عن أمة محمَّد - صلى الله عليه وسلم - خيرًا؛ لأن رأسه عند منكب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم يتأخر كذلك عن يمينه قدر ذراع للسلام على عمر لأن رأسه عند منكب أبي بكر - رضي الله عنهما - فيقول: السلام عليك يا عمر الذي أعز الله -تعالى- بك الإِسلام، جزاك الله تعالى عن أمة نبيه - صلى الله عليه وسلم - خيرًا، ثم إذا فرغ من السلام على الشيخَيْن رجع إلى موقفه الأول قبالة وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويتوسل به في حق نفسه، ويستشفع به إلى ربه، وقد استحسن العلماء من (¬1) جميع المذاهب أن يقول ما روي عن سفيان بن عيينة قال: كنتُ جالسًا عند قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - فجاء أعرابي فقال: السلام عليك يا رسول الله، سمعت الله تعالى يقول -وفي رواية يا خير الرسل- أن الله عَزَّ وَجَلَّ أنزل عليك كتابًا صادقًا قال فيه {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا} (¬2) وقد جئتك مستغفرًا بك من ذنوبي ثم بكى وأنشأ يقول: يا خير من دفنت في الترب أعظمه ... فطاب من طيبهن القاع والأكم نفسي الفداء لقبر أنت ساكنه ... فيه العفاف وفيه الجود والكرم قال: ثم استغفر وانصرف فحملتني عيني فرأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - في النوم فقال: يا سفيان الحق الأعرابي فبشره بأن الله تعالى قد غفر له فخرجت خلفه فلم أجده. وروى بعض الحفاظ عن أبي سعيد السمعاني أنه روى عن علي - كرم ¬

_ (¬1) هذه حكاية منكرة ذكرها البيهقي في شعب الإيمان بإسناد مظلم ولم أقف على ما ذكره من الاستحسان إلا لطائفة من متأخري الفقهاء من أصحاب الشافعي وأحمد. الصارم 245 - 261. (¬2) سورة النساء، الآية 64.

الله وجهه - أنهم بعد دفنه - صلى الله عليه وسلم - بثلاثة أيام جاءهم أعرابي فرمى نفسه على القبر وحثا من ترابه على رأسه وقال: يا رسول الله قلت فسمعنا قولك ووعيت عن الله سبحانه وتعالى وما وعينا عنك وكان فيما أنزل عليك {ولو أنهم ....} الآية وقد ظلمتُ نفسي وجئتك (أ) تستغفر لي فنودي من القبر أنه قد غفر لك (¬1). وجاء ذلك عن علي من طريق أخرى، ويقول بعد أن يستغفر ويجدد التوبة: ونحن وفدك يا رسول الله وزوارك جئناك لقضاء حقك والتبرك بزيارتك، والاستشفاع بك مما أثقل ظهورنا وأظلم قلوبنا فليس لنا شفيع غيرك نؤمله ولا رجاء غيرك نصله فاستغفر الله تعالى لنا، واشفع لنا إلى ربك واسأله أن يمن علينا بسائر طلباتنا ويحشرنا في زمرة عباده الصالحين والعلماء العاملين. ويكره أن يطوف بقبر النبي - صلى الله عليه وسلم - بل نقل الثوري عن إطباق العلماء تحريمه لأن الطواف كالصلاة، وقد أجمعوا أنه يحرم الصلاة إلى قبره تعظيمًا له، ويكره إلصاق البطن والظهر بجدار القبر المكرم، كذا ذكره الحليمي من الشافعية (¬2)، ويلحق به جدار الحاجز عليه المستور بالحرير الآن، ويكره وضع اليد على القبر ومسح جدار القبر باليد وتقبيله، والأدب أن يبعد منه لو كان حيًّا حاضرًا. وادعى النووي (ب) إطباق العلماء على ذلك، واعترض دعوى الإطباق ¬

_ (أ) هـ: (وجئت). (ب) ي: (النورى) - غير منقوطة.

العز بن جماعة. وقال: إنه سئل أحمد عن تقبيل القبر ومسه فقال (¬1): لا بأس به، ومثله عن المحب الطبري وابن أبي الصيف والإمام السبكي، وقد روي عن أبي أيوب الأنصاري تمريغ وجهه على القبر (أوهو ما أخرجه أحمد بسندٍ جيد أنه أقبل مروان يومًا فوجد رجلًا واضعًا وجهه على القبر فأخذ مروان برقبته (ب) ثم قال: هل تدري ما تصنع؟ فأقبل عليه فقال: نعم إني لم آت الحَجَر إنما جئت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم آت الحجر سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول "لا تبكوا على (جـ) الدِّين إذا وليه أهله ولكن ابكوا (د) على الدِّين إذا وليه غير أهله" (¬2) وما تقدم من زيارة بلال وتمريغ وجهه، وجاء عن فاطمة - رضي الله عنها - أنها لما قبر - صلى الله عليه وسلم - أخذت قبضة من تراب قبره وجعلته على عينها وبكت وأنشدت: ماذا على من شم تربة أحمد ... أن لا يشم مدى الزمان غواليا صبت عليَّ مصائب لو أنها ... صبت على الأيام عدن (هـ) لياليا وقد رد ذلك بأن قول النووي إطباق العلماء أراد من بعد عصر الصحابة يعني أنهم رأوْا ترك ذلك لمصلحة وهو سد ذريعة المفسدة التي تحصل من ¬

_ (أ - أ) سقط في ي. (ب) هـ: (فأخذ مرران بن قبيصة ...). (جـ) سقط من هـ: (علي). (د) سقط من هـ (ابكوا). (هـ) ي: (صرن).

عامة الناس من اعتقاد تعظيم الجماد من الحجر والتراب وغير ذلك وقد يفضي إلى اعتقاد أن ذلك يضر وينفع من دون الله تعالى (¬1). وذكر الخطيب في تأويل ما تقدم عن بلال وغيره أنه يكون الحامل على ذلك الاستغراق في المحبة ومقصودهم إنما هو الاحترام والتعظيم، والناس تختلف مراتبهم في ذلك كما كانت تختلف في حياته فإنه كان ناس حين يرونه لا يملكون أنفسهم ويبادرون إليه وناس يكون فيهم أناة وكلهم يقصد الخير، وعلم من هذا كراهة مس مشاهد الأولياء وتقبيلها بالطريق الأولى، وكذلك يكره أيضًا الانحناء للقبر الشريف، وأقبح منه تقبيل الأرض، وحكى هذا ابن جماعة عن بعض العلماء. السادس عشر: أنه إذا فرغ من الزيارة استقبل القبلة ووقف محاذيًا لرأس القبر المكرم والأسطوانة التي هي علم على جهة الرأس الشريف فيجعلها عن يساره، وتكون الأسطوانة المقابلة له الملاصقة للمقصورة المستديرة بالحجرة الشريفة على يمينه ويستقبل القبلة ويحمد الله -تعالى- ويمجده بأبلغ (أ) ما يمكنه ثم يصلي على النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم يدعو لنفسه بما أحب من خيري الدنيا والآخرة ولوالديه ولأقاربه ولأحبائه ولمن أوصاه ولسائر المسلمين واستقبال القبلة هو الأفضل على ما ذهب إليه جمهور العلماء، وذهب مالك إلى أن الأفضل أن يستقبل الوجه الشريف في حال الدعاء، وقد سأله المنصور الدوانيقي فقال له: يا أبا عبد الله أستقبل القبلة وأدعو أم ¬

_ (أ) ي: (ما بلغ).

أستقبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فقال له مالك: ولم تصرف وجهك عنه، وهو وسيلتك ووسيلة أبيك آدم - صلى الله على نبينا وعليه - يوم القيامة، استقبله واستشفع به فيشفعه الله تعالى قال الله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ ...} الآية (¬1)، ولمالك قول: إنه لا يستقبل القبر إلا للسلام دون الدعاء وجمع بين قوليه بأن الأول فيمن يعرف آداب الدعاء وشروطه والثاني في حق الجاهل لذلك (¬2). السابع عشر: أنه يسن بعد إتمام الزيارة إدامة الوقوف في الروضة المشرفة ويجعل صلاته مدة إقامته فيها فهو أولى لما ورد فيها في الصحيحين عن أبي هريرة أنه قال - صلى الله عليه وسلم - "ما بين منبري وقبري روضة من رياض الجنة، ومنبري على حوضي" (2) وفي رواية "ما بين منبري وبيتي" وفي أخرى "ما بين حجرتي ومنبري" ولا منافاة لأن قبره في بيته، وبيته هو الحجرة. ومعنى الحديث كما قال مالك: إنه ينقل إلى الجنة وليس كسائر الأرض يذهب ويفني أو هي من الجنة الآن حقيقة، وإن كانت في الظاهر صفتها صفة دار الدنيا كما أن الحجر الأسود ومقام إبراهيم من الجنة، وكونه على الحوض أنه ينصب على حوضه لأن الأصل بقاء اللفظ على ظاهره. ويمسح رمانة المنبر لأنه روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - يمسكها وأنها باقية، وأما الأكل من التمر الصيحاني في الروضة فبدعة تفعلها الشيعة ويروون في ¬

_ (¬1) الآية 64 من سورة النساء. (¬2) هذه الحكاية باطلة الصارم 260 ومذهب الإِمام مالك لا يختلف أنه لا يستقبل القبر عند الدعاء، وقد نص على أنه لا يقف عند الدعاء مطلقًا. الصارم 259.

تسميته صيحانيا حديثًا وهو ما رواه ابن المؤيد الحموي عن جابر - رضي الله عنه - قال: كنت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - يومًا في بعض حيطان المدينة ويد علي في يده فمررنا بنخل فصاح النخل هذا محمَّد رسول الله -هذا علي سيف الله فالتفت النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى علي وقال "سمه الصيحاني" ذكره ابن الجوزي في الموضوعات. وفضيلة المسجد كائنة لما كان في زمنه - صلى الله عليه وسلم - ولما زيد فيه وذلك لأنه - صلى الله عليه وسلم - قد اطلع على ما سيكون بعده. وقد أخبر بمضاعفة الثواب لمن صلى فيه، ويدل على ذلك أن عمر زاد فيه من جهة القبلة الرواق المتوسط بين الروضة ورواق المحراب العثماني وحده في الغرب إلى الأسطوانة السابعة من المنبر، ولم يزد شيئًا في جهة الشرق لأن الحجرة كانت هي الحدُّ في الشرق في زمنه ثم زاد عثمان في القبلة إلى موضع محرابه اليوم ولم يزد في شرقيه وزاد في غربيه قدر الأسطوانة فجدار المسجد في زمنه من جهة الغرب انتهى إلى الأسطوانة الثامنة (أ) من المنبر وما بعدها إلى الجدار أسطوانتان فقط زادهما الوليد والخامسة من المنبر هي نهاية المسجد النبوي بعد الزيادة الثانية وَحَدُّه من جهة الشام قريب من الأحجار التي عند ميزان الشمس بصحن المسجد خلف مجلس مشايخ الحرم، ويندب للزائر أن يصلي عند السواري التي كانت في زمنه - صلى الله عليه وسلم - إذ لا يخلو من صلاته أو صلاة أحد من الصحابة -رضي الله عنهم- والذي ورد له فضل خاص هن ثمان: الأولى التي جعلت علامة لمصلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وكان الجذع الذي يخطب - صلى الله عليه وسلم - أمامها كذا قال ابن زبالة ثم أسطوان ثانية صلى إليها النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد تحويل القبلة بضعة عشر يومًا وهي الثالثة من المنبر ومن القبر ومن القبلة متوسطة الروضة وتسمى أسطوانة الفرغة لما في الطبراني في "الأوسط" إن ¬

_ (أ) ي: (الثانية).

في مسجدي لبقعة قبل هذه الأسطوانة لو يعلم الناس ما صلوا إليها إلا أن تطير لهم فرغة" فكان أبو بكر وعمر وغيرهما -رضي الله عنهم- يصلون إليها والمهاجرون من قريش يجتمعون عندها، قيل والدعاء عندها مستجاب يليها لناحية القبر أسطوان التوبة وهي أسطوانة أبي لبابة التي ربط نفسه إليها حتى نزلت توبته وأسطوان السرير وهي اللاصقة بالشباك اليوم شرقي أسطوان التوبة كان سريره - صلى الله عليه وسلم - يوضع عندها مرة، وعند أسطوان التوبة أخرى، والخامسة أسطوان علي - رضي الله عنه - كان يجلس في صفحتها التي تلي القبر يحرس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو خلف أسطوان التوبة من جهة الشمال، وكانت الخوخة التي يخرج منها النبي - صلى الله عليه وسلم - من بيت عائشة إلى الروضة في مقابلتها وخلفها من الشمال أيضًا، والسادسة أسطوان الوفود كان - صلى الله عليه وسلم - يجلس عندها لوفود العرب، السابعة أسطوان مربعة القبر ويقال لها مقام جبريل وهي في حائز الحجرة الشريفة عند منحرف صفحته الغربية للشمال وبينها وبين أسطوان الوفود الأسطوان الملاصقة لشباك الحجرة وكذا ذكر ابن عساكر في أسطوان الوفود إنك إذا عددت الأسطوان التي فيها مقام جبريل كان هي الثالثة، وليحيى وابن زبالة عن مسلم بن أبي مريم كان باب بيت فاطمة - رضي الله عنها - في المربعة ولذا قال مسلم بن أبي مريم لسليمان: لا يَفتْك حظك من الصلاة إليها فإنها باب فاطمة أي وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يأتيه حتى يأخذ بعضادتيه ويقول: السلام عليكم أهل البيت إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرًا. ورواه يحيى (أ) وفي رواية له "كل يوم فيقول الصلاة الصلاة .... " الحديث، وقد حرم الناس التبرك بأسطوان السرير لعلو الشباك. ¬

_ (أ) هـ، ي: (وروي له).

الثامنة أسطوان التهجد كان يصلي - صلى الله عليه وسلم - إليها ومحلها الآن دعامة بها محراب مرحم (أ) قرب باب جبريل وقد روي أنه كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخرج حصيرًا كل ليلة إذا انكفت الناس فيطرح وراء باب عليّ - رضي الله عنه - ثم يصلي صلاة الليل فرآه رجل فصلى بصلاته ثم آخر فصلى بصلاته حتى كثروا فالتفت فإذا بهم فأمر بالحصير فطوي ثم دخل فلما أصبح جاءوه فقالوا يا رسول الله كنت تصلي بالليل فنصلي بصلاتك، فقال: "إني خشيت أن تنزل عليكم صلاة الليل ثم لا تقوون عليها" (¬1). قال عيسى بن عبد الله: وذلك موضع الأسطوان التي على طريق باب النبي - صلى الله عليه وسلم - مما يلي باب الزوراء والزوراء بالزي الموضع المزور خلف الحجرة من حائزها وهو كشكل المثلث، وكذا روي عن محمَّد بن علي بن الحنفية أنها كانت مصلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الليل. قال ابن النجار: هذه الأسطوانة وراء بيت فاطمة من جهة الشمال وفيها محراب إذا توجه المصلي إليه كانت يساره إلى باب عثمان المعروف اليوم بباب جبريل. وقال المطري: وحولها الدرابزيان أي المقصورة الدائرة على الحجرة الشريفة، وقد كتب فيها بالرخام هذا متهجد النبي - صلى الله عليه وسلم -، وبعد حصول الحريق الثاني دعامة عند بناء القبة واتخذ فيها محراب مرخمًا، وهذه الأسطوانة هي آخر الأساطين التي لها فضل خاص وإلا فجميع أساطين المسجد مشتركة في الفضل. وقد أخرج البخاري عن أنس "لقد أدركت كبار أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - يبتدرون السواري" (¬2) قد اختصت بصلاة أكابر الصحابة عندها. ¬

_ (أ) غير ظاهر بالنسخ.

الفصل الخامس في زيارة من في المدينة

الفصل الخامس في زيارة مَنْ في المدينة فيندب له أن يخرج كل يوم إلى البقيع لا سيما يوم الجمعة، والأولى أن يكون ذلك بعد السلام على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعلى صاحبيه، فإذا انتهى إلى البقيع قال: السلام عليكم دار قوم مؤمنين -وهو بتقدير مضاف محذوف أي أهل دار أو سكان أو يجوز بالدار عن أهلها إطلاقًا لاسم المحل على الحال والمراد الأرواح- وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، اللهم اغفر لأهل بقيع الغرقد، اللهم اغفر لنا ولهم ثم يسلم على من في قبة العباس (¬1) وفيها العباس وفاطمة بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على ما هو المشهور أنها بجنب العباس والحسن بن علي وزين العابدين ومحمد بن على الباقر وجعفر الصادق فيسلم على كل واحد منهم ثم سيدنا إبراهيم ابن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعنده جماعة من الصحابة ثم أمهات المؤمنين وكلهن في البقيع إلا خديجة فبمكة وميمونة بسَرَف، ويزور قبر مالك بن أنس وشيخه نافع وقبر صفية عمة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويأتي قبر عثمان بن عفان ويزوره ثم مشهد إسماعيل بن جعفر الصادق وهو بركن سور المدينة من داخله، ومالك بن سنان والد أبي سعيد الخدري وهو ملصق إلى السور غربي المدينة ثم مشهد الإِمام محمَّد بن عبد الله النفس الزكية وهو خارج السور شرقي المدينة بشرقي سلع ثم يأتي أُحُد لزيارة الشهداء فيبدأ بزيارة حمزة عم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سيد الشهداء ثم يزور الشهداء ويقصد إلى ¬

_ (¬1) اتفق الأئمة على أنه لا يشرع بناء هذه المشاهد على القبور ولا يشرع اتخاذها. والسنة لمن زار قبر مسلم ميت إما نبي أو رجل صالح أو غيرهما أن يسلم عليه ويدعو له بمنزلة الصلاة على جنازته. الفتاوى 27: 448.

جبل أحد فإنه الجبل الذي قال فيه - صلى الله عليه وسلم - "أحد نحبه ويحبنا" (¬1) ويقصد زيارتهم يوم الخميس لأن الموتى يزداد علمهم ومعرفتهم للزائر في يوم الجمعة ويومًا قبله ويومًا بعده، ويندب التبكير ليعود لصلاة الظهر، ويندب أن يخرج إلى قباء يوم السبت متطهرًا من حين خروجه إلى مسجد قباء ناويًا التقرب بزيارته والصلاة فيه للحديث الصحيح "صلاة في مسجد قباء كعمرة" (¬2). وأخرج الشيخان: "كان - صلى الله عليه وسلم - يأتي مسجد قباء راكبًا وماشيًا فيصلي فيه ركعتين" (¬3). وقد جاء في الحديث الصحيح "أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يأتيه في كل سبت، وكان يأتي إلى أحد في كل خميس" (¬4) وكان الحكمة في ذلك أنه لما كان قصد الموتى يوم الخميس ويوم الجمعة لزيادة شعورهم، فبقي السبت لزيارة قباء وأهله ويؤخذ من قصد النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه يشد الرجل إليه، وكان حقه أن يذكر مع المساجد الثلاثة، ولعل الحكمة في عدم ذكره أن القاصد إليه قاصد إلى المدينة، وكان مسجد المدينة هو الأفضل فاستغنى بذكر الأفضل وهو مسجد المدينة فإنه المسجد الذي أسس على التقوى كما قال - صلى الله عليه وسلم - "هو مسجدكم هذا" (¬5) يشير إلى مسجد المدينة ويأتي الآبار التي بالمدينة وهي مشهورة لأهل المدينة، وعدَّ النووي (¬6) سبعًا وهي التي كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ منها أو يغتسل، وذكر غيره أنها سبع عشرة ¬

_ (¬1) البخاري 13: 304 ح 7333، مسلم 2: 1011 ح 504 - 1393. (¬2) الترمذي 2: 145 - 146 ح 324 ابن ماجه 1: 452 ح 1411. (¬3) البخاري 3: 69 ح 1194 مسلم 2: 1016 ح 515 - 1399. (¬4) الشق الأول عند البخاري 3: 68 ح 1191. (¬5) مسلم 2: 1015 ح 514 - 1398. (¬6) المجموع 8: 208.

ولعل النووي أراد المشتهر (أ) منها، ويندب له أيضًا أن يأتي المساجد التي بالمدينة وهي نحو ثلاثين موضعًا وسوى علمت عينه أو جهته (¬1) وقد كان ابن عمر - رضي الله عنهما - يتحرى الصلاة والنزول والمرور حيث حل - صلى الله عليه وسلم - ونزل (¬2). وما جاء عن عمر أنه رأى الناس في الرجوع من الحج ابتدروا مسجدًا فقال: ما هذا؟ فقالوا: مسجد صلى فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: هكذا هكذا (ب) أهل الكتاب قبلكم اتخذوا آثار الأنبياء تبعًا، من عرضت له منكم الصلاة فليصل فيه، ومن لم تعرض له فليمض (¬3). وروي مثل هذا عن مالك ولكنه محمول على سد الذرائع خشية أن يتخذ ذلك العامة تشريعًا (¬4). ¬

_ (أ) هـ، ي: (المشهور). (ب) ضرب علي (هكذا) الثانية في هـ.

وقد قال القاضي عياض في "الشفا": ومن إعظامه - صلى الله عليه وسلم - وإكبَاره إعظام مشاهده (أ) وأمكنته ومعاهده وما لمسه - صلى الله عليه وسلم - بيده أو عرف به؛ انتهى. ¬

_ (أ) هـ: (مشاهد).

الفصل السادس

الفصل السادس إذا أراد السفر من المدينة المشرفة فينبغي أن يغتسل للوداع ثم يأتي إلى مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم - فيسلم كما فعل في وصوله ثم يصلي ركعتين لتوديع المسجد المكرم ويدعو ويصلي على النبي - صلى الله عليه وسلم - ويتضرع إلى الله -تعالى- في قبول زيارته (¬1) ثم يقول السلام عليك يا رسول الله سلام مودِع لا قالٍ ولا مالٍ ولا سائم للمقام عندك ولا مستبدل بك سواك، فإن أنْصرِف فلا عن ملالة بل باقٍ على ولاية لك مني ومحبة صادقة من قلبي وإيمان بك وتصديق (أ) لك فيما أخبرت به عن ربك وعن علم حقيقي بنبوتك ورسالتك ومعرفة يقينية أنك قد بلغت الرسالة وأديت الأمانة واجتهدت في النصيحة ونصحت الأمة، فجزاك الله عنا أفضل الجزاء، وألحقنا بك من الصالحين وكافأك عنا أفضل ما كافأ نبيًّا عن أمته ورسول عمن أرسل إليه، ونسأل الله تعالى أن لا يجعله آخر العهد من زيارتك يا رسول الله ومن حضور مشاهدك ومواقفك والتوسل بك إلى الله ربنا وربك وبعترتك الطاهرين وصحابتك الأبرار الصادقين، ونسأل الله تعالى خير مسئول وأكرم مأمول أن يتقبل (ب) جوارنا ويزكي أعمالنا ويغفر ذنوبنا ويدخلنا يوم القيامة في شفاعتك ويحشرنا في زمرتك ويوردنا حوضك ويسقينا بكأسك ويجعل مأوانا الجنة ولا يردنا خائبين ولا مقبوحين وأن يقبلنا مفلحين منجحين قد استجاب دعاءنا وغفر ذنوبنا وزكى أعمالنا وقبل ¬

_ (أ) هـ: (تصديقا). (ب) هـ: (يقبل).

جوارنا ربنا وشكر سعينا وردنا بأفضل ما ينقلب به وافد وخير ما يرجع به زائر وأكرم ما يؤوب به راجع وأكثر ما ينصرف به داع إنك قريب مجيب سميع الدعاء لطيف لما تشاء، اللهم صل على محمَّد (أوعلى آل محمَّد أ) عدد ما خلقت وزنة ما خلقت ولا حول ولا قوة إلا بالله (ب العلي العظيم ب) وحسبنا الله ونعم الوكيل. ثم ينصرف تلقاء وجهه ولا يمشي القهقرى، ولا يحمل شيئًا مما عمل من تراب حرم المدينة ومن أحجاره إلى خارج حرمها ولو إلى حرم مكة كما لا يخرج شيئًا من حرم مكة إلى خارجه، ولا بأس بإهداء ماء آبار المدينة. وذكر شهاب الدين بن حجر الهيثمي (جـ) أنه يحرم قال ويجب على من أخرج شيئًا من تراب حرام (د) المدينة أو أحجارها إرجاعه. ¬

_ (أ، أ) سقط من: هـ. (ب، ب) سقط: من هـ , ي. (جـ) ي، هـ: (الهيثمي، بثاء مثلثة). (د) هـ، ي: (حرم).

الفصل السابع

الفصل السابع في عقد الإجارة على زيارة النبي - صلى الله عليه وسلم - فظاهر مذهب الهادوية (¬1) وغيرهم من الأئمة صحة عقد الإجارة لأن (أ) ذلك عمل مقدور معلوم وهو الوصول إلى حضرة النبي - صلى الله عليه وسلم - والتسليم عليه، ويستحق المسمى من الأجرة إذا زار وفعل ما أمر به وإن عين له الزمان تعين عليه فإذا استؤجر للحج والزيارة فإن فعلهما استحق الأجرة المسماة، وإن حج ولم يزر سقط عليه من الأجرة بقدر مسافة طريق الزيارة من مكة، وإن لم يعين له الزمان فله أن يزور في أي وقت شاء، وله أن يستنيب إذا شرط أو كان له عذر، وقد ذكر مثل هذا في تهذيب الطالب لعبد الحق وصححه السبكي وقال: والذي ذكره أصحابنا أن الاستئجار على الزيارة لا يصح لأنه عمل غير مضبوط ولا مقدر بشرع (ب) والجعالة إذا وقعت (جـ) على نفس الوقوف لم تصح أيضًا لأن ذلك مما لا يصح فيه النيابة عن الغير، وإن وقعت على الدعاء عند القبر الشريف كانت صحيحة لأن الدعاء مما يصح النيابة فيه والجهل بالدعاء لا يبطلها، قاله الماوردي. وبقي قسم ثالث لم يذكره وهو إبلاغ السلام ولا شك في جواز الإجارة والجعالة عليه، وفي التنبيه للديمي (د) أن الاستئجار للزيارة فيه ثلاثة ¬

_ (أ) هـ: (وأن). (ب) هـ: (مشروع). (جـ) هـ: (جعلت). (د) غير ظاهر بالنسخ.

أوجه أصحها فيما قاله ابن سراقة الجواز واختاره الأصبحي صاحب المفتاح. والثاني المنع وبه قطع الماوردي. والثالث وبه قال الإِمام الحكمي واختاره الأصبحي صاحب المغني على أنه يبني على ما إذا حلف لا أكلم فلانًا. فكاتبه أو راسله، والصحيح عدم الحنث فلا يصح الاستئجار، وإن قلنا يحنث صح. قال السيد نور الدين بن علي السمهودي: والبناء ضعيف إذ الملحوظ في الأيمان العرف، وأما الزيارة وإبلاغ السلام فقربة مقصودة. والحق صحة الاستئجار للسلام على النبي - صلى الله عليه وسلم - والدعاء عنده، انتهى. وأما النذر بالزيارة للنبي - صلى الله عليه وسلم - فعلى ما تقدم من الإشارة إلى أنها واجبة، فالنذر لازم عند الجميع، وعلى القول بأنها سنة فعلى ما ذهب إليه الهادوية، وذكره الأزرقي لمذهب الهادي وهو قول أبي حنيفة وأصحابه أنه لا يجب الوفاء إلا بما جنسه واجب والزيارة جنسها ليس بواجب فلا يلزم الوفاء بالنذر، وعلى ما ذهب إليه القاسم الراسي وصاحب الوافي ومالك والشافعي وهو ظاهر قول المؤيد بالله أنه يجب الوفاء بما جنسه قربة وإن كان غير واجب، والزيارة جنسها قربة فيجب الوفاء بها. قال القاضي ابن كج من أصحاب الشافعي: إذا نذر أن يزور النبي - صلى الله عليه وسلم - فعندي أنه يلزمه الوفاء وجها واحدا وإذا نذر أن يزور غيره فيه وجهان، والقطع في زيارة النبي - صلى الله عليه وسلم - بالوجوب هو الحق لأنها قربة مقصودة للأدلة الخاصة، وقد وجب من جنس ذلك الهجرة إليه في حياته - صلى الله عليه وسلم - كما قيل بوجوب جنس الاعتكاف كوجوب الوقوف بعرفة، وإنما كان في زيارة غير النبي - صلى الله عليه وسلم - وجهان لأن جنس الزيارة ليس بقربة محضة فإنها قد تكون مباحة كزيارة آحاد الناس الأحياء فاحتمل عدم اللزوم، واحتمل اللزوم لأن زيارة القبور قربة عن نفسها مرغب فيها.

وبهذا تم الكلام في منسك الزيارة والحمد لله رب العالمين وتم بها الجزء الأول ويتلوه الجزء الثاني من كتاب البيع، وصلى الله على سيدنا محمَّد وعلى آله الطيبين الطاهرين وصحابته الأخيار الراشدين كما ذكره الذاكرون وكلما غفل عن ذكره الغافلون (أ). آخر الجزء الخامس، ويتلوه إِن شاء الله الجزء السادس وأوله: كتاب البيوع والحمد لله رب العالمين ¬

_ (أ) في هامش نسخة الأصل: "بلغ مقابلة .... الفضلاء في .... آخرها عقب صلاة ... العالية الخمس لغاية ... شهر ربيع أول سنة ... لصفر .... عفا الله عنه آمين ............................ ". وافق الفراغ من رقمه يوم الأربعاء لعله ثالث وعشرين من شهر جمادى الآخرة من شهور سنة إحدى وستين ومائة وألف سنة من الهجرة النبوية على صاحبها أفضل الصلوات والتسليم، وهو حسبي وكفى ودعم الوكيل. بعناية سيدنا الشيخ العلامة ضياء الدين ناصر بن حسين بن علي بن الهادي المحبشي، أطال الله أيامه وبلغه من خير الدارين آماله ونفع به وجزاه عنا خيرًا ووفقنا وإياه إلى رضاه آمين اللهم آمين، بخط أفقر عباد الله وأحوجهم إلى عفوه وغفرانه الحيبن بن إبراهيم بن يحيى بن القاسم بن المؤيد بالله محمَّد بن القاسم المنصور بالله وفقه الله لصالح الأعمال، وختم له بالحسنى بحق محمَّد وآله - صلى الله عليه وآله وسلم -. وفي آخر هـ: "وكان الفراغ من زبره صبح يوم الإثنين لعله ثالث يوم في شهر صفر الخير سنة إحدى وسبعين ومائة وألف سنة من الهجرة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة والسلام بمحروس مدينة صنعاء المحمية بالله تعالى بقلم العبد الفقير إلى ربه المعترف بذنبه السيد أحمد بن إسماعيل الخمري نسبًا والزيدي مذهبًا والحرة بلدًا والعدلي معتقدًا، غفر الله له ولوالديه ولجميع المسلمين بحق محمَّد وآله الطاهرين، بعناية الصنو (!) السيد الجليل السامي النبيل ................. تولى الله رعايته وشمل بالإسعاد بدايته ونهايته. آمين آمين آمين".

البدر التمام شرح بلوغ المرام للإمام القاضي الحسين بن محمد المغربي (1048 هـ - 1119 هـ) تحقيق علي بن عبد الله الزبن عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية قدم له فضيلة الشيخ صالح بن محمد اللحيدان رئيس مجلس القضاء الأعلى الجزء السادس

البدر التمام شرح بلوغ المرام

حقوق الطبع محفوظة الطبعة الأولى 1428 - هـ-2007 م

كتاب البيوع

بسم الله الرحمن الرحيم كتابُ البيوعِ البيوع جمعُ بيعٍ، جُمع دلالةً على اختلاف أنواعه، و (أالبيع والشراء أ) يُطلق أحدهما على ما يُطلق عليه الآخر. قال الأزهري (¬1): تقول العرب: بعت. بمعنى (ب) ما كنت ملكته. (جـ وبعت جـ) بمعنى اشتريت. قال: وكذلك شريت بالمعنيين. قال: وكل واحد بيِّع وبائع؛ لأنَّ الثمن والمثمن كل واحد منهما مَبيع. وكذا قال ابن قتيبةَ (¬2)، تقول: بعت الشيءَ بمعنى بعته، وبمعنى (أاشتريته. وشريت أ) الشيء. بمعنى شريته، بمعنى بعته. وكذا قاله آخرون من أهل اللغة. يقال: بعته أبيعه فهو مبيع ومبيوع. قال الجوهري (¬3): كما تقول: مَخيط ومَخيوط. حُذف من مبيع واوُ مفعول؛ لأنها زائدة. وقال الأخفش: المحذوفُ عينُ الكلمة. قال [المازني] (د): كلاهما حسنٌ، وقول الأخفش ¬

_ (أ - أ) طمس في: ب. (ب) في جـ: المعنى. (جـ- جـ) في ب: اشتريت. (د) في النسخ: المازري. وبهامش جـ: الماوردي. والمثبت من اللسان 8/ 25، والتاج 20/ 366 مادة (ب ى ع)، وغريب ألفاظ التنبيه ص 175.

أقيسُ. والابتياع الاشتراء، وتبايعا وبايعته. ويقال: [استبعته] (أ). أي: سألته البيع. و: أبعت الشيء. عرضته للبيع، وبيع الشيء بكسر الباء وضمها، وبُوع لغة. وكذا القول في قيل وكيل (¬1). وأجمع المسلمون على جواز البيع، والحكمة تقتضيه (¬2)؛ وذلك أن الله تعالى حكم ببقاء العالم إلى يوم القيامة، وبقاء النَّفس إلى أجلها إنَّما يقوم بما تقوم به مصالح المعيشة، وإنَّما يُتمكن من ذلك بالمال، فشرَع الله تعالى سبب اكتسابه، وهو التجارة عن تراضٍ. ولذلك إن جماعة من المصنفين ذكروا البيع بعد العبادات، كما فعل المصنف، وأخَّرُوا النكاحَ؛ لأنَّ احتياج النَّاس إلى البيع أَعَمُّ من احتياجهم إلى النكاح، لأنَّه يَعُم الصغيرَ والكبيرَ والذكرَ والأنثى، والبقاءُ بالبيع أقوى من البقاء بالنكاح؛ لأنَّ به تقوم المعيشة التي هي قوام الأجسام (¬3). وبعض المصنفين قدَّم النكاح على البيع، كصاحب "الهداية" من الحنفية، وكتب الهدوية كـ: "اللمع" و "التذكرة" و "الأزهار" وغيرها؛ ¬

_ (أ) في النسخ: استبيحته. والمثبت من الصحاح وغريب ألفاظ التنبيه ص 175.

لأنَّ النكاح عبادة، بل هو أفضل من الاشتغال بنفل العبادة، لأنَّه سبب إلى التوحيد بواسطة الولد الموحِّدِ، ولأن فيه قمعَ النفس من دواعي الفساد، والتسببَ إلى ما به [إرادة] (أ) الله سبحانه وتعالى، من كثرة هذا النوع الآدمي الذي عليه مدار الأحكام الشرعيّة والمعارف الإلهية والعبادة البدنية، وكان في نفس فعل النكاح ثوابُ قضاء الشهوة من الجانبين، فهو وإن لم يكن واجبًا كان مندوبًا، والإباحة فيه قليلة أو غير موجودة. والبيع في اللغة هو تمليك مال بمال، وكذا في الشرع، لكن زِيدَ فيه قَيْدُ التراضي؛ لما في التغالب من الفساد، والله لا يحب الفساد. وقيل (ب) في حَدِّه شرعًا: هو إيجابٌ وقَبُولٌ في مالَينْ ليس فيهما معنى التبرع. فيخرج من هذا المعاطاةُ. وقيل (جـ): هو مبادلةُ مالٍ بمالٍ لا على وجه التبرع. فيدخل فيه المعاطاة. وقيل: هو العقد الواقع بين جائزي التصرف المتناول لما يصح تملُّكُه بثمن معلوم، مع تعرِّيه عن سائر وجوه الفساد، بلفظين ماضيين، أو ما في حكمهما، كإشارة الأخرس، والكتابة، وكما يعتاد النَّاس في المحقر. وهذا الحدُّ أَشْمَلُ. ¬

_ (أ) في الأصل، ب: أراد. (ب) كتب فوقه في ب: العراقيون. (جـ) كتب فوقه في الأصل، ب: الخراسانيون.

واعلم أنه ذُكر في حده الإيجاب والقبول، ولابد أن يكونا (أ) على صيغة الجزم لفظًا، وذلك أن الله سبحانه وتعالى قال: {إلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُم} (¬1). وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إنما البيعُ عن تَرَاضٍ". أخرجه ابن حبان وابن ماجه (¬2). والرضا أمر خفي لا يُطَّلَعُ عليه، فوجب أن يُناط الحكم بسبب ظاهر يَدُلُّ عليه، وهو الصيغة، ولكنه استثني من ذلك المحقر؛ لجري عادة المسلمين بالدخول فيه من دون لفظ. وقد ذهب إلى ذلك الهدوية، وخُرِّج لابن سُريج من الشافعية، واختاره ابن الصباغ والمتولي والبغوي (¬3)، وادعى في "شرح القدوري" للحنفية الإجماع على كفاية التعاطي في المحقر، وعند الشافعية لا بد من اللفظين فيه كغيره. والمحقر، قال علي خليل (¬4) وأبو مضر: هو ما دون ربع لم المثقال. وقال القاضي زيد: قدر قيراط المثقال فما دون. وقال الدميري في "النجم الوهاج": مَثَّلُوا المحقَّرات بالمشابهة من البقول والرطلِ الخبزِ (ب)، ومنهم من مثَّلها بما دون نصاب السرقة، والأشبه اتِّباعُ العرف. انتهى. ¬

_ (أ) في جـ: يكون. (ب) في جـ: الخبر.

وقال في "الأثمار" (¬1): المحقَّر وما في حكمه. وأراد بما في حكمه المنقول الذي جرت العادة بعدم (أ) اللفظ فيه. وأما المعاطاة في (ب) غير المحقر، فمذهب الهدوية والشافعية أنها ليست بيعًا (¬2)، وعند الهدوية لا تُوجب المِلْكَ، بل تكون إباحةً، وهو وجهٌ للشافعية، ووجه آخر أنه كالمقبوض بعقد فاسد فيجب رده أو بدله إن تلف، ولكل منهما الفسخ، ومذهب المؤيد والخراسانيين من الحنفية أنه ينعقد البيع بالمعاطاة، وهو استحسان، والقياس ألا ينعقد، ولكنه لا يملك فيها إلا بالقبض عند المؤيد. واختلفت الحنفية أيضًا في المعاطاة، في أنه هل يشترط فيها الإعطاء من الجانبين، أو الإعطاء من أحد الجانبين يكفي؟ فأشار محمد بن الحسن في "الجامع الصغير" إلى أن تسليم البيع يكفي (¬3)، كذا في "النهاية". واعلم أنه يُحتاج إلى معرفة سبب البيع وحكمه وشروطه وركنه وأنواعه. أما سببُه: فتعلق البقاء المقدور بتعاطيه، لأن الله تعالى حكم ببقاء العالم ¬

_ (أ) في جـ: بهدر. (ب) في جـ: من.

باب شروطه وما نهي عنه منه

إلى يوم القيامة، وبقاء النفس يحتاج إلى المعاوضة كما تقدم. وأما حُكْمُه: فالمِلْك، وهو عبارة عن القدرة على التصرفات في المحلِّ شرعًا. وأما شروطُه: فأنواع؛ منها في العاقد، وهو أن يكون عاقلا أو (أ) مُميِّزا. ومنها في الآلة، وهو أن يكون بلفظ الماضي. ومنها في المحل، وهو أن يكون مالًا متقومًا، وأن يكون مقدور التسليم. ومنها التراضي. ومنها شرط النفاذ، وهو المِلْك والولاية (¬1). وأما ركنُه: فهو الإيجاب والقبول. وأما أنواعُه: فثمانية؛ بيع العين بالنقود، كالثوب بالدراهم، وبيع المقايضة (ب)؛ وهو بيع العين بالعين، كالثوب بالعبد والدار بالثوب، وبيع النقد، بالنقد حاضرين أو أحدهما، أو في الذمة وهو الصرف، وبيع الدين بالعين وهو السلم، وبيع المساومة وهو الذي لا يلتفت فيه إلى الثمن السابق، وبيع المرابحة، وبيع التولية، وبيع المواضعة وهو ضد المرابحة؛ حيث يضع من رأس المال شيئًا (¬2). باب شروطه وما نهي عنه منه الشروط جمع شرط، والشرط في اللغة العلامة، وفي اصطلاح الفقهاء ¬

_ (أ) ساقطة من: ب. (ب) في جـ: المعاوضة.

هو ما يلزم من عدمه عدم حكم أو سبب، سواء كان معلقا بكلمة شرط أو لا (¬1). وفي اصطلاح علماء العربية يطلق على تعليق جملة بأخرى، وعلى أداة التعليق، وعلى المعلق عليه بتقدير حصوله، والمراد هنا هو ما يلزم من عدمه عدم الحكم. والمذكور في هذا الكتاب من شروطه [هو] (أ) ما أشير إليه في حديث جابر (¬2) من الشرط اللازم، وفي حديث بريرة (¬3) من الشرط المنهي عنه الذي ليس في كتاب الله، وغيره مما أشير إليه في أثناء الأحاديث، واستيفاء شروط البيع مستوفاة في كتب الفروع. واختلف في ذلك عبارة الكتب، فمنهم من جعل الإيجاب والقبول شرطًا، كالإمام المهدي في "الأزهار" (¬4)، وكصاحب "المنهاج" (¬5)، ومنهم من جعل ذلك ركنًا كالغزالي (¬6). وقوله: وما نهي عنه منه. يحتمل أن يريد بذلك ما نهي عنه من البيوع، وقد ذكر جملة من المنهيات في الكتاب، ويحتمل أن يريد ما نهي عنه من ¬

_ (أ) في النسخ: هي. والمثبت يقتضيه السياق.

الشروط، وقد عرفت ذلك. وأفرد الضمير المذكور في الوجهين في قوله: عنه. اعتبارًا بلفظ "ما"، وفي قوله: منه. الضمير عائد إلى مفرد البيوع، أو إلى مفرد الشروط المتقدم معنًى. 617 - عن رفاعة بن رافع رضي الله عنه، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سئل: أي الكسب أطيب؟ قال: "عمل الرجل بيده، وكل بيع مبرور". رواه البزار وصححه الحاكم (¬1). هو (أ) أبو معاذ رفاعة بن رافع الزرقي الأنصاري (¬2)، شهد بدرًا، وشهد أبوه العَقَبتَيْن الأولى والثانية، وكان من الستة، وهو أحد النقباء الاثني عشر، وأحد السبعين، وهو ومعاذ بن عفراء (¬3) أول أنصاريين أسلما من الخزرج، وكان أول من قدم المدينة بسورة "يوسف". قيل: إنه هاجر إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى مكة. واستشهد يوم أحد، ولم يحفظ عنه رواية سوى ما ثبت في "صحيح البخاري" (¬4) أنه كان يقول لابنه رفاعة: ما يسرني أني شهدت بدرًا بالعقبة. وظاهر هذا أنه لم يشهد بدرًا. وأما رفاعة فشهد المشاهد كلها، ¬

_ (أ) في جـ: رفاعة هو.

وشهد مع علي الجملَ وصفِّين. روى عن رفاعة ابناه عبيد ومعاذ، وابن [أخيه] (أ) يحيى بن خلَّاد (¬1)، وله في "صحيح البخاري" ثلاثة أحاديث، وخرج عنه أهل "السنن" سوى ابن ماجه، توفي أول زمن معاوية. وهذا الحديث رواه المصنف في "التلخيص" (¬2) عن رافع بن خديج، وكذا صاحب "مشكاة المصابيح" (¬3) أخرجه عن أحمد (¬4)، عن رافع بن خديج، وكذا السيوطي في "الجامع الكبير" (¬5) ذكره في مسند رافع بن خديج. والله أعلم أيها أصح. ويحتمل أن المراد برفاعة هذا هو رفاعة بن رافع بن خديج، ولكنه سقط من لفظ المصنف: عن أبيه، أن النبي - صلى الله عليه وسلم -. قال في "التلخيص": الحاكم من حديث المسعودي، عن وائل بن (ب) داود، عن عباية (جـ) بن رافع بن خديج، عن أبيه، قال؛ قيل: يا رسول الله، أي المكاسب أطيب؟ فذكره. ورواه الطبراني من هذا الوجه، إلا أنه قال: عن جده. وهو صواب؛ ¬

_ (أ) في الأصل، ب: أخته. (ب) زاد في النسخ: أبي. والمثبت من التلخيص والمستدرك، وينظر تهذيب الكمال 30/ 420. (جـ) في حاشية ب: عباية بفتح وتخفيف الباء الموحدة والمثناة التحتية.

فإنه عباية بن رفاعة بن رافع بن خديج. وقول الحاكم: عن أبيه. فيه تجوُّز، وقد اختُلف فيه على وائل بن داود، فقال شريك: عنه، عن جُميع بن عمير، عن خاله أبي بُردة. وقال الثوري: عنه، عن سعيد بن عمير، عن عمه. رواهما الحاكم أيضًا. وأخرج البزار الأولَ، لكن قال: عن عمه. قال: وقد ذكر (أابن معين أ) أن عم سعيد بن عمير البراءُ بن عازب. قال (ب): وإذا اختلف الثوري وشريك فالحكم للثوري. قال المصنف رحمه الله (¬1): وقوله: جُميع بن عمير. وهم، وإنما هو سعيد، والمحفوظ رواية من رواه عن الثوري عن وائل عن سعيد مرسلًا. قاله البيهقي، وقاله قبله البخاري. وقال ابن أبي حاتم في "العلل": المرسل أشبهُ، وفيه على المسعودي اختلاف آخر. أخرجه البزار من طريق إسماعيل بن [عمر] (جـ) عنه عن وائل، عن عبيد بن رفاعة، عن أبيه، والظاهر أنه من تخليط المسعودي (¬2)، [فإن] (د) إسماعيل أخذ عنه بعد الاختلاط. ¬

_ (أ- أ) في جـ: أبو سفيان. (ب) ساقط من: جـ. (جـ) في النسخ: عمرو. وكذا وقع في التلخيص. وذكره في التقريب على الصواب. وينظر تهذيب الكمال 3/ 154. (د) في النسخ: قال. والمثبت من التلخيص.

والحديث فيه دلالة على الحث على كسب الحلال، وأن أطيب الحلال ما عمله المرء بيده وكدح فيه. وفي قوله: "كل بيع مبرور". دلالة على فضيلة التجارة، وأنها مساوية لما كسبه بيده وعمله. والمبرور يحتمل أنه ما خلص عن اليمين الفاجرة التي تُنَفَّق بها السلعة، وعن الغش في المعاملة. وفي بعض الشروح (¬1) أنه المقبول في الشرع، بألا يكون فاسدا. وهذا بناءً على أنه لا يجوز الدخول في العقد الفاسد. والله أعلم. وقد اختلف العلماء في أفضل المكاسب، فقال الماوردي (¬2): أصول المكاسب الزراعة والتجارة والصنعة. والأشبه بمذهب الشافعي أن أطيبها التجارة. قال: والأرجح عندي أن أطيبها الزراعة؛ لأنها أقرب إلى التوكل. وتعقبه النووي بما أخرجه البخاري (¬3) من حديث المقدام، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما أكل أحد طعاما قطُّ خيرًا من أن يأكل من عمل يده، وإن نبي الله داود كان يأكل من عمل يده". وأن الصواب أن أطيب الكسب ما كان بعمل اليد. قال: فإن كان زرَّاعًا فهو أطيب المكاسب؛ لما يشتمل عليه من كونه عمل اليد، ولما فيه من التوكل، ولما فيه من النفع العام للآدمي وللدواب. قال المصنف رحمه الله تعالى (¬4): وفوق ذلك ما يكتسب من أموال ¬

_ (¬1) ينظر فيض القدير 2/ 47. (¬2) ينظر روضة الطالبين 3/ 281، والفتح 4/ 304. (¬3) البخاري 4/ 303 ح 2072. (¬4) الفتح 4/ 304.

الكفار بالجهاد، وهو مكسب النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو أشرف المكاسب؛ لما فيه من إعلاء كلمة الله وحده. انتهى. وهو داخل في كسب اليد. 618 - وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه، أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول عام الفتح، وهو بمكة: "إن الله ورسوله حرم بيع الحمر والميتة والحنزير والأصنام". فقيل: يا رسول الله، أرأيت شحوم الميتة، فإنها تطلى بها السفن، وتدهن بها الجلود، ويستصبح بها الناس؟ فقال: "لا، هو حرام". قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند ذلك: "قاتل الله اليهود؛ إن الله تعالى لما حرم عليهم شحومها جَمَلوه ثم باعوه، فأكلوا ثمنه". متفق عليه (¬1). قوله: "إن الله ورسوله حرَّم". وقع هكذا في "الصحيحين" بإفراد ضمير "حرَّم"، وكان الأصل "حَرَّما". قال القرطبي (¬2): إنه - صلى الله عليه وسلم - تأدب فلم يجمع بينه وبين اسم الله في ضمير الاثنين. ولكنه جاء في بعض طرقه، في "الصحيح": "إن الله حرم". ليس فيه ذكر رسوله. وفي رواية لابن مردويه (¬3) من وجه آخر عن الليث: "إن الله ورسوله حرما". وقد وقع مثل هذا في حديث أنس في النهي عن أكل الحمر الأهلية: "إن الله ورسوله ينهيانكم" (¬4). ووقع في رواية النسائي (¬5) في هذا الحديث: "ينهاكم". وقد ¬

_ (¬1) البخاري، كتاب البيوع، باب بيع الميتة والأصنام 3/ 110 ح 2236، ومسلم، كتاب المساقاة، باب تحريم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام 3/ 1207 ح 1581/ 71. (¬2) الفتح 4/ 425. (¬3) ابن مردويه -كما في الفتح 4/ 425. (¬4) البخاري 7/ 124 ح 5528. (¬5) النسائي 7/ 232.

يجاب عنه بأن الجمع بين الضميرين إنما نُهي عنه غيرُ النبي - صلى الله عليه وسلم -، لما فيه من شائبة عدم رعاية التعطم، وأما في حقه - صلى الله عليه وسلم - فهو في أعلى مراتب المعرفة لجلال الله تعالى وتعظيمه، فلا يتوهم (أ) السامع مثل ذلك في حقه. ووقع الإفراد في هذا الحديث لما كان أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - ناشئا عن أمر الله تعالى، أو أنه حذف الخبر الأول لدلالة الثاني عليه، والتقدير: إن الله حرم، وإن رسوله حرم. كقوله (¬1): نحن بما عندنا وأنت بما عنـ ... ـدك راضٍ والرأي مُخْتَلِف وفي الحديث دلالة على تحريم بيع ما ذكر، وهو مجمع على تحريم بيع الثلاثة. والعلة في التحريم هو (ب) النجاسة، فيتعدى الحكم إلى كل نجاسة، وكذا المتنجس المائع، إلا أن أبا حنيفة قال (¬2): يجوز للمسلم أن يوكل الذمي ببيع الخمر. وقال هو والناصر: إنه يجوز بيع الأزبال، سواء كانت مما يؤكل لحمه أم لا. وذهب بعض المالكية إلى جواز ذلك للمشتري دون البائع؛ لاحتياج المشتري دونه. ويدخل في الميتة جثة الكافر إذا قتله المسلمون، كما بذل المشركون يوم ¬

_ (أ) في جـ: يتهم. (ب) كتب فوقه في الأصل: صح.

الخندق عشرة آلاف درهم للنبي - صلى الله عليه وسلم - في جثة نوفل بن عبد الله، فلم يأخذها، ودفعه إليهم بغير عوض (¬1). قال القاضي (¬2): تضمن هذا الحديث أن ما لا يحل أكله والانتفاع به لا يجوز بيعه ولا يحل أكل ثمنه، كما في الشحوم المذكورة في الحديث. ورخص بعض العلماء في القليل من شعر الخنزير. حكاه ابن المنذر (¬3) عن الأوزاعي وبعض المالكية وأبي يوسف. فعلى هذا فيجوز بيعه. واستثنى بعض العلماء من الميتة ما لا تَحُلُّه الحياة، كالشعر والصوف والوبر، فإنه طاهر (أ)، فيجوز بيعه. وهو قول أكثر المالكية والحنفية والهدوية إلا أن الهدوية قالوا (¬4): من غير نجس الذات، وهو الكلب والخنزير والكافر، فأما هذه فهو نجس. واستثنى بعضهم مع هذه العظم والسن والقرن والظلف (¬5). وقال ¬

_ (أ) ساقط من: جـ.

بنجاسة الشعور، الحسن والليث والأوزاعي، ولكنها تطهر عندهم بالغسل، فكأنها متنجسة عندهم بما (أ) يتعلق بها من رطوبات الميتة، لا نجسة العين، [نحو] (ب) قول ابن القاسم في عظم الفيل: إنه يطهر إذا سُلِقَ بالماء. والمشهور عن مالك أن الخنزير طاهر (¬1). فعلى هذا ليس العلة في منع البيع هو النجاسة، بل هو أنه ليس لهذه المذكورات منفعة مباحة مقصودة، أو المبالغة في التنفير عنها. وقد روي قول شاذ أنه يجوز بيع الخمر ويجوز بيع العنقود المستحيلِ باطنُه خمرًا (¬2). والعلة في تحريم بيع الأصنام كونها ليس لها منفعة مباحة، وإن كانت بحيث إن كسرت ينتفع برضاضها، ففي صحة بيعها خلاف مشهور للشافعية (¬3)؛ منهم من منعه لظاهر النهي وإطلاقه، ومنهم من جوزه اعتمادًا على الانتفاع برضاضه، وتأول الحديث على ما لا ينتفع برضاضه، أو على كراهة التنزيه في الأصنام، وهو قوي حيث بيع بعد تكسيره. وقوله: فقيل: يا رسول الله. قال المصنف رحمه الله (¬4): لم أقف على تسمية القائل. وفي رواية للبخاري: فقال رجل. ¬

_ (أ) في جـ: لما. (ب) في الأصل، جـ: ونحو، وفي الفتح: ونحوه.

وقوله: أرأيت شحوم الميتة. إلخ، معناه: فهل يحل بيعها لما ذكر من المنافع؟ فإنها مقتضية لصحة البيع. وقوله: "هو حرام". أي البيع. كذا فسره بعض العلماء، كالشافعي ومن تبعه. ومنهم من حمل قوله: "هو حرام". على الانتفاع، أي يحرم الانتفاع بها، وهو قول أكثر العلماء، فلا ينتفع من الميتة بشيء إلا ما خُصَّ به بدليل، كالجلد المدبوغ عند من قال به. وذهب الشافعي وأصحابه (¬1) إلى أنه يجوز الانتفاع بشحوم الميتة في طلاء السفن وفي الاستصباح بها وغير ذلك مما ليس بأكل ولا في بدن الآدمي. وبهذا قال عطاء بن أبي رباح ومحمد بن جرير. واستدل الخطابي (¬2) على جواز الانتفاع بإجماعهم على أن من ماتت له دابة ساغ له إطعامها الكلاب (¬3)، فكذلك يسوغ دهن السفينة بشحم الميتة، ولا فرق. وقال الإمام يحيى: يجوز إطعام الكلاب وتمكينها من الميتة. وقواه الإمام المهدي. وأجازت الهدوية الانتفاع بالنجاسة في الاستهلاكات، ومثلوها بتسجير التنور ونحوه. وقال الإمام شرف الدين: من ذلك الاستصباح بالدهن المتنجس، وهذا مبني على القول الأول، وهو أن الضمير عائد إلى البيع دون الانتفاع. ويتأيد ¬

_ (¬1) صحيح مسلم بشرح النووي 11/ 6. (¬2) الفتح 4/ 425. (¬3) يعني كلاب الصيد.

هذا الوجه بما أخرجه أحمد (¬1) بلفظ: "إن الله حرم بيع الخنازير، وبيع الميتة، وبيع الخمر، وبيع الأصنام". قال رجل: يا رسول الله، فما ترى في بيع شحوم الميتة؛ فإنها تدهن بها السفن والجلود، ويستصبح بها. فظهر بهذا أن السؤال وقع عن بيعها. وقوله: "لما حرم عليهم شحومها". أي أكل شحومها. والقرينة على تقدير المضاف هو أنه لو حرم عليهم العين لم يكن لهم حيلة فيما صنعوا من إذابتها. وقوله: "جملوه". بفتح الجيم والميم، أي أذابوه، يقال: جمله إذا أذابه. والجميل: الشحم المذاب. وفي رواية مسلم (¬2): "أجملوها". وهو بمعنى جملوها. وقوله: "ثم باعوه وأكلوا ثمنه". فيه دلالة على أن ما حرم بيعه حرم ثمنه. وفي هذا الجواب تنبيه على اعتبار القياس؛ فإنه قاس تحريم (أالتحيل في بيع أ) هذه المحرمات بتحيل اليهود في بيع الشحوم المحرمة عليهم، وأن الحيلة التي يتوصل بها إلى تحليل محرم لا تجدي ولا تدفع عن مبتغيها الإثم. وأما الزيت والسمن ونحوهما من الأدهان التي أصابتها نجاسة؛ فهل ¬

_ (أ- أ) في جـ: بيع التحيل في.

يجوز الاستصباح ونحوه من الاستعمال (أ) غير الأكل، أو في غير البدن، أو يجعل من الزيت صابونا، أو يطعم العسل المتنجس النحل، أو يطعم الميتة كلابه، أو يطعم الطعام النجس دوابه؟ فيه خلاف بين السلف. الصحيح من مذهب الشافعي جواز جميع ذلك (¬1)، ونقله القاضي عياض (¬2) عن مالك وكثير من أصحابه، والشافعي والثوري وأبي حنيفة وأصحابه والليث. قال: وروي مثلُه عن علي وابن عمر وأبي موسى والقاسم بن محمد وسالم بن عبد الله بن عمر. وأجاز أبو حنيفة وأصحابه والليث وغيرهم بيع الزيت النجس إذا بَيَّنَه. وقالت الهدوية: لا يجوز الانتفاع بشيء من ذلك إلا في الاستهلاكات. وقال به عبد الملك بن الماجشون، وأحمد بن حنبل، وأحمد بن صالح. والله أعلم. 619 - وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إذا اختلف المتبايعان [و] (ب) ليس بينهما بينة، فالقول ما يقول رب السلعة، أو يتتاركان". رواه الخمسةُ وصححه الحاكم (¬3). ¬

_ (أ) في ب: استعمال. (ب) الواو ساقطة من النسخ، وأثبتناها من بلوغ المرام ص 167 ح 3 ومن مصادر التخريج.

الحديث رُوي بألفاظ مختلفة، فرواه بهذا اللفظ إلا قولَه: "أو يتتاركان". فإنه بلفظ: "أو [يترادان] (أ) ". أحمد وأبو داود والنسائي (¬1)، وزاد فيه ابن ماجه: "والمبيع قائم بعينه". وكذلك لأحمد (¬2) في رواية: "والسلعة كما هي". وللدارقطني (¬3) عن أبي وائل عن عبد الله، قال: "إذا اختلَف البيعان والمبيع مستهلَك، فالقول قول البائع". ورفع الحديث إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -. وأبو وائل هذا هو عبد الله بن بَحِير (¬4) الصنعاني، بالباء الموحدة والحاء المهملة وبعدها ياء وراء، القاصُّ، شيخ لعبد الرزاق، وثقه ابن معين (¬5)، وقال ابن حبان (¬6): يروي العجائب التي كأنها معمولة، لا يحتج به، وما هو بعبد الله بن بَحِير بن رَيْسان (¬7). ولكنه مع هذا الاختلاف لا يقبل ما تفرد به بقوله: "والمبيع مستهلَك". وهي معارضة لقوله: "أو [يترادان] (ب) ". ¬

_ (أ) في ب: يتردان. (ب) في النسخ: يتردان. والمثبت مما تقدم.

ولأحمد عن الشافعي، والنسائي (¬1)، عن أبي عبيدة وأتاه رجلان تبايعا سلعة، فقال هذا: أخذتُ بكذا وكذا. وقال هذا: بعتُ بكذا وكذا. فقال أبو عبيدة: أُتي عبد الله في مثل هذا، فقال: حضرت النبي - صلى الله عليه وسلم - في مثل هذا فأمر بالبائع أن يُستحلف، ثم يخيَّرُ المبتاعُ؛ إن شاء أخذ، وإن شاء ترك. وفيه انقطاع؛ لاختلافهم في سماع أبي عبيدة من أبيه عبد الله بن مسعود. وفيه أيضًا اختلاف على إسماعيل بن أمية في عبد الملك بن عمير، فقال يحيى بنُ (أ) سليم: عبد الملك بن عمير (¬2). ووقع في النسائي: عبد الملك بن عبيد. ورجح هذا أحمد والبيهقي (¬3)، وهو ظاهر كلام البخاري (¬4)، وقد صححه ابن السكن والحاكم، ورواه الدارقطني أيضًا (¬5): عبد الملك بن عبيدة، وقد رواه الشافعي (¬6) في "المختصر" عن سفيان [بن عيينة عن محمد] (ب) بن عجلان عن عون بن عبد الله بن ¬

_ (أ) زاد في النسخ: أبي. والمثبت من سنن البيهقي. وينظر التاريخ الكبير 8/ 279، وتهذيب الكمال 31/ 365. (ب) ساقط من النسخ. واستدركته من مصدر التخريج.

[عتبة] (أ) بن مسعود عن ابن مسعود نحوه، بلفظ: "إذا اختلف المتبايعان، فالقول قول البائع، والمبتاعُ بالخيار". وفيه انقطاع. ورواه الدارقطني (¬1) من طريق القاسم بن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود عن أبيه عن جده، وفيه إسماعيل بن عياش عن موسى بن عقبة. وأخرج الطبراني في "الكبير" (¬2) عن علقمة عن عبد الله مرفوعًا: "البيعان إذا اختلفا في البيع ترادا". ورواته ثقات، لكنه اختلف في عبد الرحمن بن صالح (¬3) أحدِ رواته. وقد جزم الشافعي (¬4) أن طرق هذا الحديث عن ابن مسعود ليس فيها شيء موصول، وذكره الدارقطني في "علله" (¬5) فلم يعرِّج على هذه الطريق، وأخرجه النسائي وأبو داود والبيهقي والحاكم (¬6) من طريق عبد الرحمن بن قيس بن محمد بن الأشعث عن أبيه عن جده، قال عبد الله: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إذا اختلف البيِّعان وليس بينهما بينة، فهو ما يقول ¬

_ (أ) في النسخ: عيينة. والمثبت هو الصواب، وينظر تهذيب الكمال 22/ 453.

رب السلعة أو يَتركان". وهذا لفظ النسائي، وهو (أ) أقرب إلى ما رواه المصنف هنا. والحاكم صححه من هذا الوجه وحسَّنه البيهقي، وقال ابن عبد البر (¬1): هو منقطع إلا أنه مشهور الأصل عند جماعة العلماء، تلقَّوه بالقبول وبنوا عليه كثيرا من فروعه. وأعله ابن حزم (¬2) بالانقطاع، وتابعه عبد الحق (¬3)، وأعله هو وابن القطان بالجهالة في عبد الرحمن وأبيه (ب) وجده. وأخرجه عبد الله بن أحمد في زيادات "المسند" (¬4) بلفظ: "إذا اختلف المتبايعان والسلعة قائمة ولا بينة لأحدهما تحالفا". وهي من طريق القاسم بن عبد الرحمن عن جده. ورواها الطبراني والدارمي (¬5) من هذا الوجه فقال: عن القاسم عن أبيه عن ابن مسعود. وانفرد عن ابن مسعود بهذه الزيادة، وهي قوله: "والسلعة قائمة" (¬6). ابن أبي ليلى، وهو محمد بن عبد الرحمن الفقيه، وهو ضعيف سيئ الحفظ (¬7). وأما قوله فيه: "تحالفا". فلم يقع عند أحد منهم، وإنما عندهم: ¬

_ (أ) في جـ: هذا. (ب) في ب، جـ: ابنه.

"والقول قول البائع، أو يترادان المبيع". الحديث فيه دلالة على أن البائع والمشتري إذا اختلفا في الثمن، أو في المبيع، أو في شرط من شروطهما، ولم يكن بينهما بينة، فالقول قول البائع، ولكنه مع اليمين كما تقرر في القواعد الشرعية، أن من كان القول قوله فعليه اليمين. وقوله: "أو يتتاركان". يعني مع تراضيهما على التتارك، وظاهره: وسواء كان المبيع مستهلكًا أو قائمًا. ولا يقال: إنه مع الاستهلاك لا يتأتى التتارك؛ لأن المعنى من التتارك أن يرجع لكل واحد ما هو له. لأنا نقول: المعنى من التتارك أن يرجع لكل واحد ما هو له، وهو إما برجوع العين، أو مثل المثلي وقيمة القيمي مع التلف. وأما رواية: "والمبيع مستهلك". فقد علمت ما فيها، ولكنه يذهب إلى العمل بظاهر الحديث أحد، بل في ذلك تفصيل في كتب الفروع. وتفصيل الاختلاف؛ وهو أن القول قول البائع في نفي إقباض المبيع، والبينة على المشتري في أنه (أ) قبضه بإذن البائع حيث كان البائع ما قد قبض الثمن، وأما إذا قد قبض الثمن فالقول قول المشتري؛ لأن له أخذه كرها، والقول للبائع في عدم قبضه للثمن إلا ثمن المسلم ففي المجلس فقط، وفي قدر الثمن وجنسه ونوعه وصفته قبل تسليم المبيع، لأن له حق الحبس، لا بعده فللمشتري. وهذا لا خلاف فيه إذا كان المبيع قد تلف أو خرج عن يد المشتري ببيع ¬

_ (أ) زاد في ب: قد.

أو هبة، فإن كان باقيًّا في يد المشتري فثلاثة أقوال، فعند الهادي القول، قوله مطلقًا عند أبي العباس والفقهاء يتحالفان ويترادان المبيع، وعند المؤيد بالله إن كان الاختلاف في الجنس أو النوع أو الصفة تحالفا وترادَّا، كقول أبي العباس، وإن كان في المقدار فقولان، الأول: مثل قول الهادي، والثاني: التحالف والتراد، والخلاف في جنس الثمن ونوعه إذا لم يكن في البلاد (أ) نقد غالب، أو ادعى كل واحد غير نقد البلد، وإلا فالقول قول مدعي نقد البلد، إذ هو قرينة على صدق قوله، وأما إذا كان الاختلاف في جنس المبيع وعينه ونوعه ومكانه ولم يكن المشتري قد قبض المبيع ولا بينة لأحدهما، فإنهما يتحالفان؛ يحلف البائع: ما بعت منك كذا. ويحلف المشتري ما اشتريت منك كذا. وقيل: يحلف كل واحد منهما، يمينين: ما بعت منك كذا، والأخرى على الإثبات: لقد بعت منك كذا. وقيل: يمينًا واحدة على النفي والإثبات، فيقول: ما بعت منك كذا، ولقد بعت منك كذا. ويبطل العقد، قيل: بغير فسخ. وقيل: بفسخ الحاكم. وقيل: بفسخهما. وفي زيادة الصفة يجب على المشتري قبولها للتسامح في ذلك. والوجه في التحالف هنا أن كل واحد مدعٍ ومدعى عليه، فيجب على كل واحد اليمين لنفي ما ادعي [عليه] (ب)، وهذا مفهوم من قوله - صلى الله عليه وسلم -: "البينة على المدعي واليمين على المنكر" (¬1). ¬

_ (أ) في جـ: البلد. (ب) في الأصل، ب: إليه.

وأما إذا أقاما البينة حكم للمشتري إن أمكن عقدان، وذلك بألا يضيفا إلى وقت واحد، فيحمل على عقدين، لكنه يلزم البائع تسليم ما بين به المشتري للبينة، وهو مصادق في قدر الثمن، فأعطى ما ادعاه، وهو الذي قامت به بينة المشتري، وإن لم يمكن عقدان بطل العقد بعد التحالف بحصول الجهالة في المبيع مع تساقط البينتين، وأما إذا اختلف البيِّعان في قبضه فالقول لمنكر قبضه، إذ الأصل عدمه، وكذا منكر تسليمه كاملًا، وكذا إن قبضه من دون زيادة، وكذا [القول] (أ) لمنكر [تعيبه، إذ] (ب) الأصل عدم العيب، وكذا إن هذا المدعي عيَّب؛ ينقص القيمة، إذ الأصل عدم ذلك، وكذا في أنه من قبل القبض فيما يحتمل أنه حدث قبل القبض، فالقول لمنكر ذلك، وإما إذا كان مما يعلم أنه متقدم من عند البائع، فالقول للمشتري، وكذا في إنكار الرضا بالعيب أو ما يجري مجراه، أو أن المبيع أكثر مما أقر به البائع مع الاتفاق على الثمن، فالقول لمنكر ذلك، والقول للمسلم إليه في قيمة رأس المال إذا اختلفا بعد التلف، والله أعلم. 620 - وعن أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن ثمن الكلب ومهر البغي وحلوان الكاهن. متفق عليه (¬1). ¬

_ (أ) في الأصل، ب: يقول. (ب) في الأصل، جـ: تعيينه إذا.

الحديث فيه دلالة على تحريم ما ذكر؛ فإن النهي حقيقة في التحريم، والنهي عن ثمن الكلب عام في كل كلب، معلما كان أو غيره، مما يجوز اقتناؤه أو لا يجوز، ولا قيمة على متلفه، وبهذا قال الجمهور. وقال مالك: لا يجوز بيعه، وتجب القيمة على متلفه. وعنه كالجمهور، وعنه كقول أبي حنيفة: يجوز بيعه وتجب القيمة. وقال عطاء والنخعي: يجوز بيع كلب الصيد دون غيره. وروى أبو داود (¬1) من حديث ابن عباس مرفوعًا: [نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ثمن الكلب، وقال: "إن جاء يطلب ثمن الكلب فاملأ كفه ترابا". وإسناده صحيح، وروى أيضًا (¬2) بإسناد حسن عن أبي هريرة مرفوعًا] (أ): "لا يحل ثمن الكلب، ولا حلوان الكاهن". والعلة في تحريم بيعه عند الشافعي وغيره نجاسته، وهي حاصلة فيما يحرم اقتناؤه وفيما يجوز. ومن لا يقول بنجاسته؛ العلة النهي عن اتخاذه والأمر بقتله؛ ولذلك خص منه ما أذن في اتخاذه، ويدل عليه حديث جابر، قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ثمن الكلب إلا كلب صيد. أخرجه النسائي بإسناد رجاله ثقات، إلا أنه طعن في صحته (¬3). ¬

_ (أ) ساقط من النسخ. والمثبت من الفتح 4/ 426.

ووقع في حديث ابن عمر عند ابن أبي حاتم (¬1) بلفظ: نهى عن ثمن الكلب، وإن كان ضاريا. يعني مما يصيد، وسنده ضعيف. قال أبو حاتم: هو [منكر] (أ). وفي رواية لأحمد (¬2): نهى عن ثمن الكلب، وقال: "طعمة جاهلية". ونحوه للطبراني (¬3) من حديث ميمونة بنت سعد. وقال القرطبي (¬4): مشهور مذهب مالك جواز اتخاذ الكلب وكراهة بيعه، ولا يفسخ إن وقع، وكأنه لما لم يكن عنده نجسًا، وأذن في اتخاذه لمنافعه الجائزة كان حكمه حكم جميع المبيعات، لكن الشرع نهى عن بيعه تنزيهًا؛ لأنه ليس من مكارم الأخلاق. قال: وأما تسويته في النهي بينه وبين مهر البغي وحلوان الكاهن فمحمول على الكلب الذي لم يؤذن في اتخاذه، وعلى تقدير العموم في كل كلب فالنهي في هذه الثلاثة للقدر المشترك من الكراهة، أعم من التنزيه والتحريم، إذ كل منهما منهي عنه، ثم تؤخذ خصوصية كل واحد منهما من دليل آخر، فإنَّا عرفنا تحريم مهر البغي وحلوان الكاهن من الإجماع، لا من مجرد النهي، ولا يلزم من الاشتراك في العطف الاشتراك في جميع الوجوه، إذ قد يعطف الأمر على النهي، والإيجاب على النفي (¬5). ¬

_ (أ) في النسخ: شك. والمثبت من العلل.

وقوله: ومهر البغي. بفتح الباء الموحدة، وكسر الغين المعجمة، وتشديد التحتانية. وأصل البغاء الطلب، غير أنه أكثر ما يستعمل في الفساد. والمراد بالمهر هنا هو ما تأخذه الزانية على الزنى، سماه مهرًا مجازا، وهو مجمع على تحريمه، وللفقهاء تفصيل فيه، وهو أنه إذا أعطاها ذلك بالعقد على التمكين مظهرا أو مضمرا، [أو] (أ) حصل العقد على مباح حيلةً، فإنه يصير كالغصب إلا في أربعة أحكام، وهو أنه يطب ربحه، ويبرأ من رد إليها، ولا أجرة [عليها، إذ] (ب) لم تستعمل ذلك الذي أعطيت، ولا يتضيق عليها الرد إلا بالطلب، وإن لم يكن كذلك وإنما كان مضمرًا التمكين من الزنى لزمها التصدق بذلك. وللمؤيد بالله تفصيل، وهو أنه إن غلب في ظنها أنه إنما أعطاها لأجل التمكين لزمها التصدق، وإن غلب في ظنها أنه أعطاها لغير ذلك جاز لها الأخذ، والعبرة بقصد المعطي، واستدل بهذا على أن الأَمَةَ إذا أكرهت على الزنى، فلا مهر لها. وفي وجه للشافعية أنها تستحق المهر، واختار صاحب "الهدي" (¬1) أنه يجب التصدق في جميع الأطراف. قال: لأن الدافع قد دفعها باختياره في مقابلة عوض لا يمكن صاحب العوض استرجاعه، فهو كسب خبيث يجب التصدق به، ولا يعان صاحب المعصية بحصول غرضه ورجوع ماله. وأطال الكلام في ذلك. وروى ¬

_ (أ) في الأصل، جـ: و. (ب) في الأصل: عليها إذا، وفي جـ: عليهما إن.

عن الإمام ابن تيمية التردد في أصل المسألة، والميل إلى مثل هذا، والله أعلم. وقوله: وحلوان الكماهن. والحلوان بضم المهملة مصدر: حلوته حلوانا إذا أعطته، وأصله من الحلاوة، شبه بالشيء الحلو من حيث إنه يؤخذ سهلًا بلا كلفة، وقد يطلق على مهر البنت إذا أخذه أبوها لنفسه، قالت امرأة تمدح زوجها (¬1): لا يَأْخُذُ الحُلْوَانَ مِنْ بَنَاتِنا وقد أجمع السلمون على تحريم حُلوان الكاهن. قال الخطابي (¬2): الكاهن الذي يدعي مطالعة علم الغيب، ويخبر الناس عن الكوائن، وكان في العرب كهنة يدعون أنهم يعرفون كثيرًا من الأمور، فمنهم من كان يزعم [أن] (أ) له قرينا من الجن وتابعةً تلقي إليه الأخبار، ومنهم من كان يدعي أنه يستدرك الأمور بفهم أعطيه، وكان منهم من يسمي عرافا، وهو الذي يزعم أنه يعرف الأمور بمقدمات أسباب استدل بها على مواقعها؛ كالرجل يسرق، فيعرف أنه المظنون بالسرقة، والمرأة بالزنية فيعرف مَنْ صاحبها، ونحو ذلك، ومنهم من كان يُسمي المنجمَ كاهنا، وهو وإن لم يكن كاهنا، فحكمه حكم الكاهن. وكذلك الذي يعرف الأمور بالضرب بالحصا وغير ¬

_ (أ) في ب: أنه.

ذلك مما يتعاناه العرافون من استطلاع الغيب، فحديث النهي يشمل هؤلاء كلهم، والنهي عن تصديقهم والرجوع إلى قولهم، ومنهم من كان يدعو الطبيب كاهنا، وربما سموه عرافا، وهو غير داخل في النهي. 621 - وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه، أنه كان على جمل له أعيا، فأراد أن يسيِّبه، قال: فلحقني النبي - صلى الله عليه وسلم - فدعا لي (أ) وضربه، فسار سيرًا لم يسر مثله، قال: "بعنيه بوُقيَّة". قلت: لا. ثم قال: "بعنيه". فبعته بوقية، واشترطت حُمْلانه إلى أهلي، فلما بلغت أتيته بالجمل، فنقدني ثمنه، ثم رجعت، فأرسل في أثري فقال: "أتُراني ماكستك لآخذ جملك؟ خذ جملك ودراهمك، فهو لك". متفق عليه (¬1)، وهذا السياق لمسلم. قوله: أعيا. أي: كَلَّ عن السير. وقوله: "بعنيه بوُقيَّة". هي لغة صحيحة، وقد سبق ذلك، ويقال: أوقية. وهي أشهر. وفيه دلالة على أنه لا بأس بطلب البيع من مالك السلعة وإن لم يعرضها للبيع. وقوله: حُملانه. هو بضم الحاء المهملة، أي الحمل عليه. وقوله: "أتُراني؟ ". بصيغة المجهول، أي: تظنني. ¬

_ (أ) في جـ: له.

والماكسة، قال أهل اللغة (¬1): هي المكالمة في النقص الثمن، وأصلها النقص، ومنه مكس الظالم، وهو ما ينقصه ويأخذه من أموال الناس. وفي قوله: "بوُقيَّة" قد ورد في رواية: "بخمس أواق". وفي رواية: "بأوقيتين ودرهم أو درهمين". وفي رواية: "بأوقية ذهب". وفي بعضها: "بأربعة دنانير". وذكر البخاري اختلاف الروايات، وزاد: "بثمانمائة درهم" (¬2)، وفي رواية "بعشرين دينارا" وفي رواية أحسبه: "بأربع أواق". قال البخاري: وقول الشعبي: "بوقية". أكثر. قال القاضي عياض (¬3): قال أبو جعفر الداودي: [ليس لأوقية الذهب قدر معلوم] (أ)، وأوقية الفضة أربعون درهما. قال: وسبب اختلاف هذه الروايات أنهم رووا بالمعنى، وهو جائز، فالمراد وقية ذهب كما فسره في رواية سالم بن أبي الجعد عن جابر، ويحمل عليها رواية من روى: "أوقية". مطلقا، وأما من روى: "خمس أواق". فالمراد خمس أواق من الفضة، وهي بقدر قيمة أوقية الذهب في ذلك الوقت، فيكون الإخبار بأوقية الذهب عما وقع به العقد، وعن أواق الفضة عما حصل به [الإيفاء] (ب)، ولا يتغير الحكم، ويحتمل أن يكون هذا كله زيادة على الأوقية، كما قال في رواية: فما زال يزيدني. وأما رواية: "أربعة دنانير". فموافقة أيضًا؛ لأنه يحتمل أن ¬

_ (أ) كذا في النسخ، وفي شرح مسلم: أوقية الذهب قدرها معلوم. (ب) في النسخ: الاتفاق. والمثبت من مسلم بشرح النووي 11/ 31، 32.

تكون أوقية الذهب حينئذ وزن أربعة دنانير، وأما رواية "أوقيتين". فيحتمل أن إحداهما وقع بها البيع والأخرى زيادة، كما قال: وزادني أوقية. والحديث فيه دلالة على أنه يصح البيع للدابة واستثناء الركوب. وقد ذهب إلى هذا الجمهور مطلقا، واحتج به أحمد ومن وافقه في جواز بيع الدابة ويشترط البائع لنفسه الركوب. وقال مالك: يجوز ذلك إذا كان مسافة الركوب قريبة، وحدُّه ثلاثة أيام. وحمل هذا الحديث على هذا. وقال الشافعي وأبو حنيفة وآخرون: لا يجوز ذلك، سواء قلت المسافة أو كثرت، ولا ينعقد البيع. واحتجوا بالحديث الآتي في بيع الثُّنْيا (¬1)، وبالحديث الآتي في النهي عن بيع وشرط (¬2)، وأجابوا عن حديث جابر هذا بأنها [قضية] (أ) عين تتطرق إليها الاحتمالات، قالوا: ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أراد أن يعطيه الثمن ولم يرد حقيقة البيع. قالوا: ويحتمل أن يكون الشرط ليس في نفس العقد، وإنما يضر الشرط إذا كان في نفس العقد، فلعل الشرط كان سابقًا فلم يؤثر، ثم تبرع النبي - صلى الله عليه وسلم - بإركابه. ويمكن الجواب بأن حديث النهي عن بيع الثُّنْيا ليس مطلقا، وتمامه: "إلا أن تُعْلم". ومفهومه صحة الثنيا المعلومة، وهو المدعَى. وأما حديث النهي عن بيع وشرط ففيه مقال، مع إمكان تأويله بالشرط المجهول، أو ما يتضمن رفع المقصود بالبيع، والقرينة على التأويل هذا، ¬

_ (أ) في النسخ: قصة، وأثبته كما سيأتي في الصفحة التالية.

والجمع ما أمكن هو الواجب. وأما كونها قضية عين مع ظهور الأمر فيها فهو غير قادح، وقولهم: أراد أن يعطه الثمن. إلى آخره. يرده قوله: "أتُراني ماكستك؟ ". فإنه يدل على وقوع صورة البيع، وإن كان المقصود هو إعطاء الثمن، ولكنه قد أفاد الطلوب؛ لوقوع صورة البيع. وقولهم: إن الشرط ليس في نفس العقد. ظاهره أن الشرط متواطأ عليه عند العقد، والمتواطأ عليه في حكم المقرون بالعقد، فالأولى ما ذهب إليه الجمهور من صحة مثل هذا الشرط، وكذا كل شرط يصح إفراده بالعقد؛ كإيصال المبيع إلى المنزل، وخياطة الثوب، وسكنى الدار. وقد روي عن عثمان (أ) أنه باع دارًا واستثنى سكونها شهرًا، ولم ينكر عليه. كذا رواه في "الشفا"، والله أعلم. وفي الحديث فوائد: أحدها: هذه المعجزة الظاهرة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - في انبعاث جمل جابر وإسراعه بعد إعيائه. الثانية: جواز طلب البيع ممن لم يعرض سلعته للبيع. الثالثة: جواز المماكسة في البيع. وفي تمام القصة فوائد غير هذه. 622 - وعنه، قال: أعتق رجل منَّا عبدًا له عن [دبر] (ب)، لم يكن له مال غيره، فدعا به النبي - صلى الله عليه وسلم - فباعه. متفق عليه (¬1). ¬

_ (أ) في ب: عمر. (ب) في النسخ: دبره. والمثبت من مصدري التخريج.

وسيأتي الكلام على هذا الحديث في باب المدبر والمكاتب وأم الولد في آخر الكتاب (¬1). وفيه دلالة على صحة بيع المدبر، وسيأتي الخلاف في جواز بيعه مستوفًى إن شاء الله تعالى. 623 - وعن ميمونة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - أن فأرة وقعت في سمن فماتت فيه، فسئل النبي - صلى الله عليه وسلم - عنها، فقال: "ألقوها وما حولها وكلوه". رواه البخاري، وزاد أحمد والنسائيِ (¬2): في سمن جامد. الحديث فيه دلالة على أن الميتة نجس، وأنه ينجس [بملاقاتها] (أ) ما كان رطبا، ولذلك أمر بإلقائها وما حولها. والمراد بـ "ما حولها" ما لاصق الميتة، والقصة يتأتى (ب) وقوعها فيما لا يكون صليب الجمود؛ لأنه (جـ) لا يضر ملاقاة النجس لما كان جامدا إلا [أن] (د) تتخلله رطوبة، وإنما يكون كذلك فيما كان فيه انعقاد يتخلل أجزاءه رطوبة ينغمس فيه ما وقع فيه، وما كان مائعا لا يتأتى فيه فصل ما حول النجاسة وتمييزها عن سائر أجزائه. وفي الأمر بإلقائه دلالة على أنه لا يجوز أكل الدهن المتنجس ولا ¬

_ (أ) في النسخ: بملاقتها. وكتب في حاشية ب: كذا في نسخة المؤلف ولعله بملاقاتها. (ب) في جـ: تنافي. (جـ) بعده في جـ: ما. (د) ساقط من: الأصل، ب.

الانتفاع به في شيء، إذ لو جاز الانتفاع به لما أمر بإلقائه، وفي ذلك تفويت مال، وقد تقدم الخلاف في الانتفاع به في غير بدن الآدمي. وقوله: وزاد أحمد. الزيادة قد وقع معناها في حديث أبي هريرة [الآتي] (أ). 624 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا وقعت الفأرة في السمن، فإن كان جامدًا فألقوها وما حولها، وإن كان مائعًا فلا تقربوه". رواه (ب أحمد وب) أبو داود (¬1)، وقد حكم عليه البخاري وأبو حاتم بالوهم (¬2). الحديث أخرجه أبو داود من حديث عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة باللفظ المذكور هنا. قال أبو داود: قال الحسن: قال عبد الرزاق: ربما حدث به معمر عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس عن ميمونة. فهذا اللفظ فيه دلالة على أنه حفظ عن معمر الوجهين وأنه لم يَهِمْ، وكذا أخرجه ابن حبان في "صحيحه" (¬3)، فيندفع ما حكم به البخاري عليه من الوهم؛ لأنه إنما حكم بخطئه بناء على ¬

_ (أ) ساقط من: الأصل. (ب - ب) ساقط من: جـ.

عدم اتفاق روايته من الوجهين، ورأى أنه ثابت من حديث ميمونة: فحكم بالوهم علي الطريقة المروية عن أبي هريرة. قال الترمذي (¬1): سمعت البخاري يقوال: التفصيل في حديث أبي هريرة خطأ، والصواب أنه في حديث ميمونة. وفيه اختلاف آخر، فرواه يحيى بن أيوب عن ابن جريج عن الزهري عن سالم عن أبيه (¬2)، وتابعه عبد الجبار الأيلي عن الزهري (¬3). قال الدارقطني (¬4): وخالفهما أصحاب الزهري، فرووه عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس، وهو الصحيح. وقد أنكر جماعة فيه التفصيل اعتمادا على عدم وروده في طريق مالك ومن تبعه، لكن ذكر الدارقطني (¬5) في "العلل" أن يحيى القطان رواه عن مالك، وكذلك النسائي (¬6) رواه من طريق عبد الرحمن عن مالك مقيدا بالجامد، وأنه أمر أن تُقوَّر وما حولها فيُرمى به. وكذا ذكر البيهقي (¬7) من طريق حجاج بن منهال عن ابن [عيينة] (أ) مقيدا بالجامد، وكذا أخرجه ¬

_ (أ) في النسخ: عقبة. والمثبت من مصدر التخريج.

إسحاق بن راهويه (¬1) في "مسنده" عن ابن عيينة، ووهم مَن غلَّطه فيه ونسبه إلى التغير في آخر عمره، وقد تابعه أبو داود الطالسي في "مسنده" (¬2) عن ابن عيينة. والله أعلم. واعلم أن هذا الاختلاف إنما هو لتصحيح اللفظ الوارد، وأما الحكم فهو ثابت، فإن طرحها وما حولها والانتفاع بالباقي لا يكون إلا في الجامد، ويفهم منه أن الذائب يلقى جميعه؛ إذ العلة إنما هي المباشرة، (أولا اختصاص أ) في الذائب بالمباشرة وتمييز البعض عن البعض. والله أعلم. 625 - وعن أبي الزبير، قال: سألت جابرًا عن ثمن السنور والكلب، فقال: زجر النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك. رواه مسلم والنسائي (¬3)، وزاد: إلا كلب صيد. هو أبو الزبير محمد بن مسلم المكي، تابعي روى عن جابر بن عبد الله كثيرا. ¬

_ (أ- أ) في جـ: لاختصاص.

النهي عن ثمن الكلب متفق عليه من حديث أبي مسعود، وأخرج مسلم هذا من حديث جابر ورافع بن خديج (¬1)، وزاد النسائي استثناء كلب الصيد. ثم قال: هذا منكر. وروى الترمذي (¬2) من وجه آخر عن أبي هريرة (1) استثناء كلب الصيد. لكنه من رواية أبي المُهَزِّم عنه، وهو ضعيف (¬3). وقد تقدم الكلام في ثمن الكلب مستوفى في حديث أبي مسعود. والحديث فيه دلالة على النهي عن ثمن السنور، وظاهر النهي التحريم، لا سيما وقد قرنه بثمن الكلب. وقد ذهب إلى هذا أبو هريرة وطاوس ومجاهد وجابر بن زيد، كما حكى ابن المنذر (¬4). وقالوا: لا يجوز بيعه. محتجين بالحديث. وظاهره سواء كان له نفع أو لا، وذهب جمهور أهل العلم إلى أنه يجوز بيعه ويحل ثمنه إذا كان له نفع ولكنه يكره، وحملوا النهي على التنزيه، وكان النهي عن ذلك ليعتاد الناس هبته وإعارته والسماحة به كما هو الغالب. وما ذكر الخطابي (¬5) وابن عبد البر (¬6) أن الحديث ضعيف، فهو مردود؛ ¬

_ (أ) ساقط من: النسخ. والمثبت من مصدر التخريج. وينظر التلخيص الحبير 3/ 3، 4.

فإن الحديث كما عرفت أخرجه مسلم وغيره. وقول ابن عبد البر: لم يروه عن أبي الزبير غير حماد بن سلمة (¬1). مردود، لأن مسلما قد رواه في "صحيحه" من رواية معقل بن [عبيد] (أ) الله (¬2) عن أبي الزبير، فهذان ثقتان روياه عن أبي الزبير، وهو ثقة أيضًا، والله أعلم. 626 - وعن عائشة رضي الله عنها قالت: جاءتني بريرة فقالت: كاتبت أهلي على تسع أواق في كل عام أوقية فأعينيني (أ). فقلت: إن أحب أهلك أن أعدّها لهم ويكون ولاؤك لي فعلت. فذهبت بريرة إلى أهلها فقالت لهم، فأبوا عليها. فجاءت من عندهم ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - جالس، فقالت: إني قد عرضت ذلك عليهم فأبوا إلا أن يكون الولاء لهم. فسمع النبي - صلى الله عليه وسلم -، فأخبرت عائشة النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: "خذيها واشترطي لهم الولاء، فإنما الولاء لمن أعتق". ففعلت عائشة، ثم قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الناس فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: "أما بعد، فما بال رجال يشترطون شروطا ليست في كتاب الله تعالى؟! ما كان من شرط ليس في كتاب الله فهو باطل، وإن كان مائة شرط، قضاء الله أحق، وشرط الله أوثق، وإنما الولاء لمن أعتق". متفق عليه واللفظ للبخاري (¬3). وعند ¬

_ (أ) في النسخ: عبد. والمثبت من مسلم بشرح النووي 10/ 134. وينظر الجرح والتعديل 8/ 286، وتهذيب الكمال 28/ 274. (ب) في ب: أعيتني، وفي جـ: أعينني.

مسلم: قال: "اشتريها وأعتقيها، واشترطي لهم الولاء". قوله: جاءتني بريرة. هي بفتح الباء الموحدة وراءين مهملتين بينهما ياء مثناة من أسفل، مولاة لعائشة، قيل: إنها نَبَطيَّة. بفتح النون والباء الموحدة. وقيل: قِبْطيَّة. بكسر القاف وسكون الموحدة. وقيل: إن اسم أبيها صفوان، وإن له صحبة. واختلف في مواليها؛ ففي رواية أسامة عن عائشة أنها كانت لناس من الأنصار (¬1). وكذا عند النسائي (¬2) من رواية سماك، ووقع في بعض الشروح أنها لآل أبي لهب، وهو وهم من قائله، انتقل [وهمه من] (أ) أيمن. وقيل: لآل بني هلال. أخرجه الترمذي (¬3) من رواية جرير. ويمكن الجمع. وكانت تخدم عائشة قبل أن تعتق، وعاشت إلى خلافة معاوية، و [تفرست] (ب) في عبد الملك بن مروان أنه يلي الخلافة وبشرته بذلك، وروى هو ذلك عنها (¬4). روت عنها عائشة وابن عباس وعروة بن الزبير. قوله: كاتبت. على وزن فاعلت، من المكاتبة، وهي العقد بين السيد ¬

_ (أ) في النسخ: إلى أم. والمثبت من الفتح 9/ 405. وأيمن هو أيمن الحبشي المكي أحد رواة قصة بريرة عن عائشة كما جاء في الفتح. وينظر تهذيب الكمال 3/ 451. (ب) في الأصل: بشرت.

وعبده، وهي مأخوذة من الكَتْبِ بمعنى الجمع والضم، لضم نجوم الكتابة بعضها إلى بعض، أو من الكتب الذي هو الخط، لضم الحروف بعضها إلى بعض، أو مأخوذة من الكتب الذي هو بمعنى الإلزام، كما في قوله تعالى: {إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} (¬1). لما كان العقد لازما بين السيد والعبد، وكأن السيد ألزم نفسه عتق العبد عند الأداء، والعبد ألزم نفسه الأداء للمال الذي يكاتب عليه. وقوله: في كل عام أوقية. فيه دلالة على شرعية التنجيم في الكتابة، وأنه في بعض روايات مسلم أن عائشة رضي الله عنها قالت للنبي - صلى الله عليه وسلم -: إن بريرة قالت: إن أهلها كاتبوها على تسع أواقي في تسع سنين؛ كلَّ سنة أوقية. ولكنه لا يدل على تحتم التنجيم. وقد ذهب الشافعي والهادي وأبو طالب وأبو العباس إلى أن التأجيل والتنجيم شرط في الكتابة، وأن أقله نجمان. قال الفقيه علي الوشلي: ولو في ساعتين. وقال الفقيه حسن النحوي: بل كأقل أجل السلم وهو ثلاثة أيام. واستقواه الإمام المهدي في "البحر"، واحتج على التنجيم بقول علي رضي الله عنه: الكتابة علي نجمين (¬2). وبفعل عثمان رضي الله عنه، فإنه غضب على مملوكه فقال: لأكاتبنك على نجمين (¬3). وذهب مالك وأحمد والجمهور أنه يجوز عقد الكتابة على نجم واحد، قالوا: لقوله تعالى: {فَكَاتِبُوهُمْ} (¬4). ولم يفصل. ¬

_ (¬1) الآية 103 من سورة النساء. (¬2) ابن أبي شيبة 6/ 390. (¬3) البيهقي 10/ 320، 321. (¬4) الآية 33 من سورة النور.

وأجيب بأن ذلك مطلق، والآثار عن الصحابة في حكم المرفوعة مبينة لما لم يذكر في الآية. ولا بد في الأجل أن يكون معلومًا حذرًا من الجهالة، كسائر العقود. وقوله: فأعينيني. بصيغة الأمر للمؤنث من الإعانة، كذا لأكثر رواة البخاري، وفي رواية الكشميهني (¬1): فأعيتني. بصيغة الخبر من الإعياء، والضمير للأواق، وهو متجه المعنى، أي أعجزتني عن تحصيلها. وفي هذه القصة دلالة على أنه يجوز بيع المكاتب عند تعسر الإيفاء لمال الكتابة إلى من يعتقه برضاه، وظاهر القصة أنها لم تكن قد سلمت شيئًا، والحكم مع تسليم البعض كذلك، إلا أن فيه خلافا؛ فقد روي عن علي رضي الله عنه أنه يعتق إذا قد سلم نصف مال الكتابة ويطالب بالباقي (¬2). وفي رواية عنه أنه يعتق بقدر ما أدى من مال الكتابة (¬3). وروي عن شريح أنه يعتق إذا قد أدى شيئًا. وفي رواية عنه: الثلث (¬4). وقد اختلف العلماء في بيع المكاتب على ثلاثة أقوال، فذهب طائفة من العلماء إلى جواز بيعه، منهم عطاء (¬5) والنخعي وأحمد ومالك في رواية عنه، وفي رواية أنه يعتق بالأداء إلى المشتري، فإن عجز استرقه. وحجتهم ظاهر ¬

_ (¬1) ينظر الفتح 5/ 190. (¬2) النسائي في الكبرى 3/ 197 ح 5025. (¬3) ابن أبي شيبة 6/ 152، والبيهقي 10/ 326. (¬4) عبد الرزاق 8/ 411 ح 15737. (¬5) ينظر مصنف عبد الرزاق 8/ 428 ح 15798.

قوله - صلى الله عليه وسلم -: "المكاتب رق ما بقي عليه درهم" (¬1). وذهب ابن مسعود وربيعة وأبو حنيفة والشافعي وبعض المالكية ومالك في رواية عنه إلى أنه لا يجوز بيعه، قالوا: لأنه قد خرج عن ملك السيد، بدليل تحريم الوطء والاستخدام، وكبيع ما قد بيع. وظاهر خلافهم عدم الجواز مطلقا، سواء فسخ عقد الكتابة أو لم يفسخ، والظاهر من استدلالهم وتأويلهم خبر بريرة بأن ذلك بعد الفسخ، وأن مع الفسخ يتفقون على جواز البيع. وذهب الهادي وأبو طالب وغيرهما إلى أنه يجوز بيعه برضاه إلى من يعتقه وإن لم يفسخ، واحتجوا بما وقع في حديث بريرة، فإن البيع كان إلى من يعتق، وظاهره أنه من دون فسخ. وقد أجيب عنه بأنه يحتمل أن ذلك ليس شراء للرقبة، وإنما هو من شراء الكتابة ويدل عليه ما وقع في رواية: فإن أحبوا أن أقضي عنكِ كتابتكِ ويكون ولاؤك لي. فإنه يشعر بأن المشترى هو الكتابة لا الرقبة، وأنه من باب قضاء الكتابة خاصة، ولكنه يضعفهما ما وقع في رواية: "ابتاعي". وأنه هل قال بذلك قائل معين: إنه يصح شراء الكتابة نفسها أو يؤدي مال الكتابة ويكون الولاء للمؤدي؟ والظاهر أنه لم يقل به أحد. وفي الحديث دلالة على أن شرط البائع لهذا الأمر، وكذا ما أشبهه من الشروط، وهو ما لا يكسب البيع ولا الثمن جهالة ولا يرفع موجب العقد، لا يفسد العقد، بل يلغو الشرط ويصح العقد. وسيأتي الكلام في الشروط. ¬

_ (¬1) أبو داود 4/ 19 ح 3926 من حديث عمرو بن العاص.

وقوله: "خذيها". ظاهر في أن الشراء لنفس الرقبة، وأن ذلك صحيح. وقوله: "واشترطي لهم الولاء". ثبتت هذه اللفظة في رواية هشام بن عروة عن أبيه، وانفرد بها دون غيره، ولكنه ثَبَتٌ حافظ مقبول ما تفرد به. واختلف العلماء في تأويل هذا، فقال الشافعي والمزني (أ): معناه: اشترطي عليهم الولاء. واللام بمعنى "على". وقد ورد مثل هذا كثيرا مثل قوله تعالى: {وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} (¬1). وقوله: {وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ} (¬2). وقوله: {وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ} (¬3). وقد ضعف هذا بأنه لو كان كذلك لم ينكر عليهم - صلى الله عليه وسلم - اشتراط الولاء. وقد يجاب عنه بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما أنكر ما أرادوا اشتراطه في أول الأمر. وقيل: معناه: أظهري لهم حكم الولاء. وقيل: أراد بذلك الزجر والتوبيخ لهم؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - كان بين لهم حكم الولاء، وأن هذا الشرط لا يحل، فلما ظهر منهم المخالفة قال لعائشة ذلك. ومعناه: لا تبالي، لأن اشتراطهم مخالفة للحق وتعنت وتماد في الباطل، فلا يكون ذلك للإهانة، بل مثل قوله: {كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا} (¬4). والمقصود من ذلك الإهانة وعدم المبالاة بالاشتراط، وأن وجوده وعدمه سواء. وقيل: إن اشتراط الولاء مأذون فيه في هذه القصة بخصوصها، والغرض من الإذن فيه هو القصد إلى بيان إبطاله، مثل ما وقع منه - صلى الله عليه وسلم - الإذن بالإحرام بالحج أولًا، ¬

_ (أ) في ب: المرافي، وفي جـ: المراقي، وفي حاشية جـ كالمثبت، وينظر مختصر المزني ص 328.

ثم أمرهم بفسخه إلى العمرة لبيان حكم العمرة؛ ليكون ذلك أثبت في بيان الحكم. وقد أشكل على كثير من العلماء صدور مثل (أ) هذا من النبي - صلى الله عليه وسلم - وإباحته لعائشة، وفي ذلك بحسب ظاهره خداع وغرر للبائع من حيث إنه معتقد عند صدور البيع أنه بقي له بعض النافع، وانكشف الأمر على خلاف ذلك، حتي إنه روي عن يحيى بن أكثم (¬1) إنكار هذا اللفظ الذي فيه اشتراط الولاء، وقد روي عن الشافعي قريب منه، ولكنه بعد تحقق الوجوه في التأويل التي مرت ينزاح الإشكال بالكلية من دون ورود في بعضها، وفي بعضها يرد، وبتحقيق الجواب يذهب الإشكال. وقوله: "شروطا ليست في كتاب الله". يحتمل أن يريد بكتاب الله حكم الله، ويراد بذلك نفي كونها في كتاب الله بواسطة أو بغير واسطة، فإن الشريعة كلها في كتاب الله؛ إما بغير واسطة كالمنصوص في القرآن، وإما بواسطة كقوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} (¬2). وقوله: "قضاء الله أحق". أي بالاتباع من الشروط المخالفة لحكم الشرع. "وشرط الله أوثق". أي باتباع حدوده. وقوله: "وإنما الولاء لمن أعتق". "إنما" للحصر، بدليل أنها وقعت ردًّا لمن أراد أن يكون له الولاء من دون إعتاق، فلو لم تكن للحصر لما حصل ¬

_ (أ) ساقط من: ب، جـ

الزجر للمذكورين ومنعهم عما أرادوه. فائدة: ذكر ابن أبي شيبة (¬1) في "الأوائل" بسند صحيح أن بريرة أول مكاتب في الإسلام. ويرد عليه مكاتبة سلمان، فإنها قبل ذلك. ويجمع بينهما بأنها أول في النساء، وسلمان في الرجال. وقيل: إن أول مكاتب أبو أمية عبد عُمر (¬2). وكانت مكاتبة بريرة في السنة التاسعة أو العاشرة؛ لأن في القصة شفاعة العباس لمغيث، وهو إنما سكن المدينة بعد رجوعهم من الطائف، وكان ذلك في أواخر سنة ثمان (¬3)، ويؤيد ذلك قول ابن عباس أنه رأي مغيثا في سكك المدينة ودموعه تسيل على لحيته (¬4). 627 - وعن ابن عمر رضي الله عنه قال: نهى عمر عن بيع أمهات الأولاد، فقال: لا تباع ولا توهب ولا تورث، ليستمتع بها ما بدا له، فإذا مات فهي حرة. رواه مالك والشافعي والبيهقي (¬5)، وقال: رفعه بعض الرواة فوهم. وأخرجه الدارقطني مرفوعًا وموقوفًا (¬6)، وقال: الصحيح وقفه على ابن عمر عن عمر. وكذا قال عبد الحق (¬7). قال صاحب "الإلمام": المعروف فيه ¬

_ (¬1) ابن أبي شيبة -كما في الفتح 9/ 411. (¬2) الفتح 9/ 411. (¬3) الفتح 9/ 409. (¬4) البخاري 9/ 407 ح 5283. (¬5) مالك، كتاب العتق والولاء، باب عتق أمهات الأولاد وجامع القضاء في العتاقة 2/ 776 ح 6، والبيهقي، كتاب عتق أمهات الأولاد، باب الرجل يطأ أمته بالملك فتلد له 10/ 342. (¬6) الدارقطني 4/ 134، 135. (¬7) الأحكام الوسطى 4/ 22.

الوقف، والذي رفعه ثقة. قيل: ولا يصح مسندًا. وقد أخرج ابن ماجه (¬1) من حديث ابن عباس بلفظ: ذكرت أم إبراهيم عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "أعتقها ولدها". وفي إسناده حسين بن عبد الله (¬2)، وهو ضعيف جدا. قال البيهقي (¬3): وروي عن ابن عباس من قوله. وأخرج البيهقي (¬4) من حديث ابن لهيعة عن عبيد الله بن أبي جعفر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لأم إبراهيم: "أعتقك ولدك". وهو معضل. وقال ابن حزم (¬5): صح هذا بسندٍ رواته ثقات عن ابن عباس. ثم ذكره من طريق قاسم بن أصبغ عن محمد بن مصعب عن عبيد الله بن عمرو، وهو الرتي، عن عبد الكريم الجزري عن عكرمة عن ابن عباس. وتعقبه ابن القطان بأن قوله: عن محمد بن مصعب. خطأ، وإنما هو عن محمد -وهو ابن وضَّاح- عن مصعب -وهو ابن سعيد المصيصي- وفيه ضعف. وقد أخرج أحمد وابن ماجه والدارقطني والحاكم -وقال: صحيح الإسناد- والبيهقي عن ابن عباس مرفوعًا: "أيّما أمة ولدت من سيدها فهي حرة عن دُبُر منه" (¬6). وفي إسناده الحسين بن عبد الله بن عبيد الله بن عباس الهاشمي، قال في ¬

_ (¬1) ابن ماجه 2/ 841 ح 2516. (¬2) تقدت ترجمته في 3/ 384. (¬3) البيهقي 10/ 349. (¬4) البيهقي 10/ 350. (¬5) المحلى 10/ 253، وفيه "مصعب بن محمد" بدلا من "محمد بن مصعب". (¬6) أحمد 1/ 303، وابن ماجه 2/ 841 ح 2515، والدارقطي 4/ 130، 131، والحاكم 2/ 19، والبيهقي 10/ 346.

"الكاشف" (¬1): ضعفوه. وقد روى عنه ابن المبارك وغيره من الأئمة. وفي رواية للدارقطني والبيهقي (¬2) من حديث ابن عباس أيضًا: "أم الولد حرة وإن كان سقطًا". وإسناده ضعيف. والصحيح أنه من قول ابن عمر. وأخرج الحاكم (¬3) وابن عساكر وابن المنذر عن بريدة قال: كنت جَالسا عند عمر إذ سمع صائحةً فقال: يا يَرْفأ، انظر ما هذا الصوت. فنظر ثم جاء، فقال: جارية من قريش تُباع أمها. فقال عمر: ادع لي المهاجرين والأنصار. فلم يمكث ساعة حتى امتلأت الدار والحجرة، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد، فهل تعلمون كان فيما جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم - القطيعة؟ قالوا: لا. قال: فإنها قد أصبحت فيكم فاشية. ثم قرأ {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ} (¬4). ثم قال: وأي قطيعة أقطع من أن تُباع أم امرئ فيكم وقد أوسع الله لكم! قالوا: فاصنع ما لدا لك. فكتب إلى الآفاق ألا تباع أمُّ حرٍّ؛ فإنها قطيعة، وإنه لا يحل. وهذه الآثار والحديث فيه دلالة على أن الأمة إذا ولدت من سيدها حرُم بيعها، وقد ذهب إلى هذا الأكثر من الأمة. وسواء كان الذي يريد بيعها سيدها أو وارثه، وسواء كان الولد باقيا أو غير باق. وذهب الناصر والإمامية وبشر المَرِيسِي وداود الظاهري إلى جواز بيعها. ¬

_ (¬1) الكاشف 1/ 170. (¬2) الدارقطني 4/ 131، والبيهقي 10/ 346. (¬3) الحاكم 2/ 458. (¬4) الآية 22 من سورة محمد.

قال الصادق والباقر والإمامية: إلا أن يموت سيدها ولها منه ولد باق فإنها تَعتِق. وإن لم يكن لها ولد باق، فقال الناصر: إنه يملكها أولاد سيدها من غيرها. وفي رواية: أنها تَعتِق حيث له ولد من غيرها. قالوا: لا سيأتي من حديث جابر (¬1)؛ ولأن عليا رضي الله عنه رجع عن تحريم بيعها. فقد أخرج عبد الرزاق (¬2) عن معمر عن أيوب عن ابن سيرين عن عَبيدة السلماني المرادي: سمعتُ عليا يقول: اجتمع رأي ورأي عمر في أمهات الأولاد ألا يبعن، ثم رأيت بعدُ أن يبعن. قال عبيدة: فقلت له: فرأيك ورأي عمر في الجماعة أحبُّ إلي من رأيك وحدك في الفُرْقَةِ. وهذا الإسناد معدود في أصح الأسانيد، ورواه البيهقي (¬3) من طريق أيوب. وقال ابن أبي شيبة (¬4): حدثنا أبو خالد الأحمر عن إسماعيل بن أبي خالد عن الشعبي عن عَبيدة عن علي قال: [استشارني] (أ) عمر في بيع أمهات الأولاد، فرأيت أنا وهو أنها إذا ولدت عَتَقَتْ، فعمل به عمر حياته، وعثمان حياته، فلما وليت رأيت أن أرقهن. قال الشعبي: فحدثني ابن سيرين أنه قال لعَبيدة: فما ترى أنت؟ قال: رأي علي وعمر في الجماعة أحب إلي من قول عليٍّ حين أدركه الاختلاف. ¬

_ (أ) في النسخ: استشار. والمثبت من مصدر التخريج.

والجواب عن ذلك أن حديث جابر يحتمل أنه كان في أول الأمر، وأن ما ذُكر ناسخ، وأيضًا فإنه راجع إلى التقرير، وما ذُكر قولٌ، وعند التعارض القول أرجح، وأما رجوع علي فظاهره أنه رجوعٌ عن اجتهاد إلى اجتهاد، وهو معارض باجتهاد عمر وموافقة الصحابة له لما قال ذلك في محضر من الصحابة. مع أنه قد صرح القاسم بن إبراهيم في رواية "الجامع" أن من أدرك من أهله يكونوا يثبتون رواية بيع أمهات الأولاد عن علي. وروي في "الجامع" أن عليا رضي الله عنه أوصى لأمهات أولاده في مرضه. قال محمد بن منصور المرادي: وهذا يدل على أنهن يَعتِقن بعد موته. وقال ابن قدامة في "الكافي" (¬1): إن عليا لم يرجع رجوعًا صريحًا، إنما قال لعَبيدة وشريح: اقضوا كما كنتم تقضون؛ فإني أكره الاختلاف (¬2). وهذا واضح في أنه لم يرجع عن اجتهاده، وإنما أذن لهم أن يقضوا باجتهادهم الموافق لرأي من تقدم. قال ابن قدامة (1): وقد روى صالح عن أحمد (أ) أنه قال: أكره بيعهن، وقد باع علي بن أبي طالب. قال أبو الخطاب: فظاهر هذا أنه يصح مع الكراهة. فعرفت أنه لا حجة في ذلك لا سيما مع هذا التردد، والجزم بالقول الأول. وقد ادعى الإجماع على المنع من بيعهن جماعة من المتأخرين، وأفرد الحافظ ابن ¬

_ (أ) زاد في النسخ: بن عيسى. وهو خطأ، والمثبت من مصدر التخريج، وصالح هو ابن الإمام أحمد بن حنبل. ترجمته في السير 12/ 529، وينظر المغني 14/ 585.

كثير الكلام على هذه المسألة في جزء مفرد، قال: وتلخص لي عن الشافعي نفسه فيها أربعة أقوال، وفي المسألة من حيث هي ثمانية أقوال. والله أعلم. 628 - وعن جابر رضي الله عنه قال: كنا نبيع سراريَّنا أمهات الأولاد والنبي - صلى الله عليه وسلم - حيٌّ لا يرى (أ) بذلك بأسًا. رواه النسائي، وابن ماجه، والحاكم، وصححه ابن حبان (¬1). وأخرجه أحمد، والشافعي، والبيهقي، وأبو داود، والحاكم (¬2)، وزاد: في زمن أبي بكر. وفيه: فلما كان عمر نهانا فانتهينا. ورواه الحاكم (¬3) من حديث أبي سعيد وإسناده ضعيف. قال البيهقي: ليس في شيء من الطرق أنه اطلع على ذلك وأقرهم عليه - صلى الله عليه وسلم -. والجواب أن الرواية المذكورة تدل على اطلاعه عليه وتقريرهم، فإن قوله: حيٌّ لا يرى بذلك بأسًا. فيه دلالة على ذلك. فإنه إذا كان الرواية ¬

_ (أ) في مصادر التخريج: نرى. عدا الشافعي وابن حبان ففيهما: يرى. وينظر ما سيأتي في كلام المصنف.

بالياء في: لا يرى. فالأمر واضح في ذلك، وقد قال المصنف رحمه الله تعالى (¬1): إن في رواية ابن أبي شيبة ما يدل على ذلك. وأما إذا كانت الرواية بالنون في: لا نرى. كما ذكره ابن رسلان في "شرح سنن أبي داود"، فليس فيه تصريح باطلاع النبي - صلى الله عليه وسلم - على ذلك، فيستقيم كلام البيهقي، إلا أنه يرد عليه ما سيأتي في حديث جابر في النكاح: كنا نعزل والوحي ينزل (¬2). وأن مثل هذا له حكم المرفوع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، وسيأتي تحقيق هذا المبحث. فحينئذ يتم (أ) الاحتجاج بالحديث، وأن ذلك باطلاع النبي - صلى الله عليه وسلم -، والله أعلم. والحديث قد عرفت من احتج به والجواب. 629 - وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن بيع فضل الماء. رواه مسلم (¬3) وزاد في رواية: وعن بيع ضراب الجمل. وأخرجه أصحاب "السن" من حديث إياس بن عَبْدٍ، وصححه الترمذي (¬4)، وقال أبو الفتح القشيري (¬5): هو على شرطهما. ¬

_ (أ) زاد في جـ: هذا.

وأخرج الشافعي (¬1) عن مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة: "لا يمنع فضل الماء ليمنع به فضل الكلأ". زاد ابن حبان في "صحيحه" (¬2): "فيهزل المال ويجوع العيال" (2). قال البيهقي (¬3): هذا هو الصحيح بهذا اللفظ، وكذا رواه الزعفراني عن الشافعي. قال البيهقي: وفي حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: "من منع فضل الماء ليمنع به الكلأ منعه الله فضل رحمته يوم القيامة". وروي من وجه ضعيف من حديث أبي هريرة، ومن مرسل الحسن. الحديث فيه دلالة على أنه لا يجوز بيع ما فضل من الماء عن كفاية صاحبه. قال العلماء: وصورة ذلك أن يجتمع في أرض مباحة ماء فيسقي الأعلى، ثم يفضل عن كفايته، فليس له المنع، كذا إذا اتخذ حفرة في أرض مملوكة يجتمع فيها الماء، أو حفر بئرا فيستقي (أ) منه ويسقي أرضه فليس له منع ما فضل. وظاهر الحديث يدل على أنه يجب عليه بذل ما فضل عن كفايته لشرب أو طهور أو سقي زرع، وسواء كان في أرض مباحة أو مملوكة، وقد ذهب ¬

_ (أ) في جـ: فيسقي.

إلى هذا العموم ابن القيم في "الهدي النبوي" (¬1)، وقال: إنه يجوز دخول الأرض المملوكة لأخذ الماء والكلأ؛ لأن له حقا في ذلك، فلا يمنعه استعمال ملك الغير. وقال (¬2): إنه نص أحمد على جواز الرعي في أرض غير مباحة للراعي (أ). ومثله ذهب إليه المنصور بالله وأبو جعفر والإمام يحيى في الحطب والحشيش. ثُم قال (2): وأيضًا فإنه لا فائدة لإذن صاحب الأرض؛ لأنه ليس له منعه من الدخول، بل يجب عليه تمكينه، فغاية ما يقدر أنه لم يأذن له، وهذا حرام عليه شرعًا، لا يحل له منعه من الدخول، فلا فائدة في توقف دخوله على الإذن، وإنما يحتاج إلى الإذن في الدخول في الدار إذا كان فيها سكن؛ لوجوب الاستئذان، وأما إذا لم يكن فيها سكن فقد قال تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ} (¬3). وهذا من ذاك. هذا معناه. واعلم أن من احتفر بئرا أو نهرا فهو أحق بمائه إجماعا؛ ولكنه حق لا ملك. وقد ذهب إلى هذا أبو العباس وأبو طالب والمؤيد وأبو يوسف وأحد وجهي أصحاب الشافعي ومالك ورواية عن أحمد، فعلى هذا إن له أن ينتفع به ولا يمنع الفضلة. وذهب بعض الفقهاء والإمام يحيى وأحد قولي المؤيد وأحد وجهي أصحاب الشافعي ورواية عن أحمد أنه ملك لكن عليه بذل الفضلة لغيره؛ لما أخرجه أبو داود (¬4): يا نبي الله، ما الشيء الذي لا يحل ¬

_ (أ) في جـ: للرعي.

منعه؟ قال: "الماء". قال: يا نبي الله، ما الشيء الذي لا يحل منعه؟ قال: "الملح". قال: يا نبي الله، ما الشيء الذي لا يحل منعه؟ قال: "أن تفعل الخير خير لك". وقال عمر: ابن السبيل أحق بالماء من [التانئ] (أ) عليه (¬1). ذكره أبو عبيد (¬2). وفي حكم الماء المعادن الجارية (5) في الأملاك؛ كالقار والنفط والمومياء والملح، وكذا الكلأ النابت. وكره أحمد إجارة أرض النهر والبئر كان كانتا مملوكتين، قال: لأن ذلك حيلة إلى بيع الماء الذي فيه، وهذه إنما هي تحسين في اللفظ. وكذا من أقام على معدن فأخذ منه حاجته لم يجز له بيع باقيه بعد نزعه عنه، وكذلك من سبق إلى الجلوس في رحبة أو طريق واسعة فهو أحق بها ما دام جالسًا، فإذا استغنى عنها وأجر مقعده لم يجز له ذلك، وكذلك الأرض المباحة إذا كان فيها عشب أو كلأ فسبق بدوابه إليها فهو أحق برعيه ما دامت دوابه فيها، فإذا خرج منها وأراد بيعه منع منه. وأما الماء المحرز في الآنية والظروف فهو مخصص من ذلك بالقياس على الحطب، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: "لأن يأخذ أحدكم حبلا فيأخذ حزمة من حطب ¬

_ (أ) في النسخ: الباني. والمثبت من مصدر التخريج. (ب) بهامش ب: بيع المعادن.

فيبيع، فيكف الله بها وجهه، خير له من أنه يسأل الناس أُعطِي أو مُنع" (¬1). فالصحيح جواز بيعه، وأنه لا يجب بذله إلا لمضطر. وكذلك بيع البئر والعين أنفسهما فإنه جائز؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "من يشتري بئر رُومةُ يوسع بها على المسلمين وله (أ) الجنة؟ ". أو كما قال. فاشتراها عثمان من يهودي وسبَّلها للمسلمين، وكان اليهودي يبيع ماءها، واشترى نصفها باثني عشر ألفا، ثم قال اليهودي: اختر؛ إما أن تأخذها يومًا واخذها يومًا، وإما أن تنصب لك عليها دلوا وأنصب عليها دلوا. فاختار يومًا ويومًا، فكان الناس يستَقون منها يوم عثمان لليومين، فقال اليهودي: أفسدت علي بئري، فاشتر باقيها. فاشتراه بثمانية آلاف (¬2). فدلّ على صحة بيع البئر، وجواز تسبيلها ولو كان المسبل مشاعًا، وصحة بيع ما يغترف منها، وجواز قسمة الماء بالمهايأة (¬3)، وعلى كون المالك أحق بمائها، وجواز قسمة ما فيه حق وليس بمملوك، ولا ينقض ما مر من أنه يجوز الدخول إلى الملك لأخذ الماء والكلأ؛ لأن هذا كان في صدر الإسلام قبل ضعف شوكة اليهود في المدينة، والنبي - صلى الله عليه وسلم - صالحهم في مبادئ الأمر على ما في أيديهم، ثم استقرت الأحكام وجرت على الموافق ¬

_ (أ) في جـ: فله.

والمعاند (¬1)، ولله الحمد والمنة. وحمل الخطابي النهي على التنزيه، ولكنه لا دليل على ذلك (¬2)، والظاهر التحريم. وقوله: وعن ضراب الجمل. معناه: نهى عن أجرة ضراب الجمل. وهو عَسْبُ الفعل، بفتح العين المهملة وإسكان السين المهملة، وهو مذكور بهذا اللفظ في حديث آخر (¬3). وقد اختلف العلماء رحمهم الله تعالى في أجرة الفعل وغيره من الدواب للضرب؛ فذهب العترة والشافعي وأبو حنيفة وأبو ثور وآخرون إلى أن استئجاره لذلك باطل، والأجرة حرام، ولا يستحق مالكه عوضًا، وإذا فعل المستأجر لا يلزمه شيء من الأجرة. قالوا: وعلة النهي أنه غرر ومجهول وغير مقدور على تسليمه. وقال جماعة من الصحابة والتابعين ومالك وآخرون: إن ذلك جائز إلا أنه يستأجره للضراب مدة معلومة، أو تكون الضربات معلومة؛ لأن الحاجة تدعو إليه، وهي منفعة مقصودة. وحملوا النهي على التنزيه والحث على مكارم الأخلاق، كما وقع النهي عن إجارة الأرض للزرع لهذه العلة. ولكنه خلف الظاهر من غير دليل. والله أعلم. 630 - وعن ابن عمر رضي الله عنه قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ¬

_ (¬1) سبحان من له الأمر والنهي، وهذه الأيام يجري يهود ما يريدون على الموافق والعاند، وتلك الأيام نداولها بين الناس. (¬2) كذا قال المصنف، وقال الحافظ في الفتح 5/ 32: والنهي عند الجمهور للتنزيه. وقال الخطابي في معالم السنن 3/ 128: أما من تأول الحديث على معنى الاستحباب دون الإيجاب فإنه يحتاج إلى دليل يجوز معه ترك الظاهر، وأصل النهي على التحريم، فمنع فضل الماء محظور على ما ورد به الظاهر. (¬3) هو الحديث الآتي.

عَسْب الفحل. رواه البخاري (¬1). 631 - وعنه، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيع حبَل الحبَلة، وكان بيعًا يبتاعه (أ) أهل الجاهلية؛ كان الرجل يبتاع الجزور إلى أن تُنتَج الناقة ثم تُنتَج التي في بطنها. معلَّق عليه واللفظ للبخاري (¬2). 632 - وعنه، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيع الولاء وعن هبته. متفق عليه (¬3). قوله: نهى عن بيع حبل الحبلة. إلى آخره. هو بفتح الحاء المهملة والباء الموحدة فيهما، وهو مصدر حَبِلت تَحْبَل حَبَلا، والحبلة جمع حابل؛ مثل ظلمة وظالم، وكتبة وكاتب. وحابل بغير تاء، ويقال: حابلة بالتاء. والتاء فيه للمبالغة أو للإشعار بالأنوثة، وقد ورد نادرًا حابلة. وحَبَلة في أصله مصدر سمي به المحبول، وأكثر استعمال الحبل في الآدميات. قال أبو عبيد (¬4): ولم يرد في غير الآدميات إلا في هذا الحديث. وأثبت صاحب "المحكم" (¬5) ذلك في غير هذا الحديث. ¬

_ (أ) في جـ: تبتاعه. وفي البخاري: يتبايعه.

وقوله: وكان بيعًا. إلخ، وقع هذا التفسير في "الموطأ" (¬1) متصلا بالحديث. قال الإسماعيلي (¬2): وهو مدرج. يعني من كلام نافع، ومثله ذكر الخطب في "المدرج" (¬3)، وذكره البخاري (¬4) في ذكر أيام الجاهلية، وساقه بالتفسير المذكور عن ابن عمر، فأفهم أنه من تفسير ابن عمر، وجزم بذلك ابن عبد البر (¬5). وهذه الرواية فيها إنتاج ولد الناقة. ووقع في رواية [عبيد الله] (أ) بن عمر حمل ولد الناقة من دون اشتراط الإنتاج (¬6). وفي رواية جويرية: أن تُنتج الناقة ما في بطنها من دون أن يكون نتاجها قد حمَل أو أُنتِج (¬7). وبظاهر هذه الرواية قال سعيد بن المسيب فيما رواه عنه مالك (¬8). وعلى هذه الروايات اختلف العلماء في هذا المنهي عنه هل هو حيث يؤجل بثمن الجزور إلى أن يحصل النتاج المذكور أو أنه يبيع منه النتاج؟ وذهب إلى الأول مالك والشافعي وجماعة (¬9)، وعلة النهي هو جهالة ¬

_ (أ) في النسخ: عبيد، والمثبت من مصدري التخريج.

الأجل، وذهب إلى الثاني (أ) أبو عبيد (¬1). وأحمد وإسحاق وابن حبيب المالكي وأكثر أهل اللغة (¬2)، وبه جزم الترمذي (¬3). وعلة النهي هو كونه بيع معدوم ومجهول وغير مقدور على تسليمه، وهو داخل في بيع الغرر، وقد أشار إلى هذا البخاري، حيث صدر الباب ببيع الغرر، وأشار إلى التفسير الأول، [وذكر] (ب) الحديث في باب السَّلم، ورجح الأول لكونه موافقًا للحديث، وإن كان كلام أهل اللغة موافقًا للثاني، [لكن قد روى الإمام أحمد (¬4) من طريق ابن إسحاق عن نافع عن ابن عمر ما يوافق الثاني] (جـ) ولفظه: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الغرر، قال: إن أهل الجاهلية كانوا يتبايعون ذلك البيع، يبتاع الرجل بالشارف حبل الحبلة، فنهوا عن ذلك. فكان محصل الخلاف: هل المراد البيع إلى أجل أو بيع الجنين؟ وعلى الأول، هل المراد بالأجل ولادة الأم أو وزيادة ولدها؟ وعلى الثاني، هل المراد بيع الجنين الأول أو جنين الجنين؟ فصارت أربعة أقوال. ¬

_ (أ) زاد في النسخ: أبو عبيدة و. وكتب كلمة غير واضحة في ب فوق قوله: أبو عبيد. وينظر المغني 6/ 300. (ب) في النسخ: فذكر. والمثبت يقتضيه السياق. (جـ) ساقط من النسخ. والمثبت من الفتح 4/ 358.

وحكى صاحب "المحكم" (¬1) عن ابن كيسان أن المراد بالحبلة الكرمة، وأن المراد النهي عن بيع ثمر العنب قبل أن يصلح، كما نهى عن بيع ثمر النخلة قبل أن تُزْهِي. وعلى هذا فالحَبْلة بسكون الباء الموحدة، والروايات بالتحريك، لكنه قد حكي في الحبلة بمعنى الكرمة أيضًا فتح الباء، ولم ينفرد ابن كيسان بذلك، فقد حكاه ابن السكيت في كتاب "الألفاظ" (¬2)، ونقله القرطبي في "المفهِم" (2) عن أبي العباس المبرد. والجزور: بفتح الجيم وضم الزاي: البعير ذكرا كان أو أنثى، وهو مؤنث، وإن أطلق على مذكر تقول: هذه الجزور. وتُنْتَج: بضم أوله وفتح ثالثه؛ أي تلد ولدًا. والناقة: فاعل، وهذا الفعل وقع في لغة العرب على صيغة المجهول. وقوله: نهى عن بيع الولاء وعن هبته. فيه دلالة على عدم صحته وهبته وتحريم ذلك؛ وذلك لأن الولاء حق يثبت بوصف وهو الإعتاق ولا يُنقل عن مستحقه؛ ولذلك شبهه النبي - صلى الله عليه وسلم - بالنسب وقال: "هو لحُمة كلحمة النسب" (¬3). وقد قال بهذا جماهير العلماء من السلف والخلف رحمهم الله تعالى، وأجاز بعض السلف نقله، ولعله لم يبلغهم الحديث. كذا قال النووي في "شرح مسلم" (¬4). 633 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ¬

_ (¬1) المحكم 3/ 272. (¬2) الفتح 4/ 358. (¬3) ابن حبان 11/ 325، 326 ح 4950، والحاكم 4/ 341، والبيهقي 10/ 292، من حديث ابن عمر. (¬4) صحيح مسلم بشرح النووي 10/ 148.

عن بيع الحصاة وعن بيع الغرر. رواه مسلم (¬1). بيع الحصاة اختلف فيه فقيل: هو أن يقول: ارم بهذه الحصاة، فعلى أي ثوب وقعت فهو لك بدرهم. وقيل: هو أن يبيعه من أرضه قدر ما انتهت إليه رمية الحصاة. وقيل: هو أن يقبض على كف من حصى ويقول: لي بعدد ما خرج في القبضة من الشيء المبيع. أو يبيعه سلعة ويقبض على كف من حصى ويقول: لي بكل حصاة درهم. وقيل: أن يمسك أحدهما حصاة بيده ويقول: أي وقت سقطت الحصاة فقد وجب البيع. وقيل: هو أن يعترض القطيع من الغنم فيأخذ حصاة ويقول: أي شاة أصبتها (أ) فهي لك بكذا. وهذه الصور كلها متضمنة للغرر، لما في الثمن أو المبيع من الجهالة، ولفظ الغرر يشملها، وإنما أفردت لكونها كانت يبتاعها أهل الجاهلية، فجاء (ب) الإسلام بالنهي عنها، وأضيف البيع إلى الحصاة للملابسة لما كانت الحصاة تعتبر فيه. وقوله: وعن بيع الغرر. الغرر. بفتح الغين المعجمة والراء المهملة المكررة؛ فَعَل، وهو إما بمعنى مغرور به فيكون بمعنى اسم المفعول، وإضافة المصدر إليه من إضافته إلى المفعول، أو هو في معناه المصدري، وتكون إضافة ¬

_ (أ) في ب: أصابتها. (ب) في ب، جـ: في.

البيع إليه للملابسة، ويكون المعنى البيع الذي صحبه الغرر، ومعناه: الجذاع الذي هو مظنة ألا يرضى به عند تحققه أحد التبايعين لمنافاته لغرضه، فيكون من الأكل للمال بالباطل غير داخل في قوله تعالى: {إلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} (¬1). وهو أن يكون إما لعدم القدرة على تسليمه، كبيع العبد الآبق والفرس النافر والطير في الهواء، أو لكونه معدومًا أو مجهولًا، أو لا يتم ملك البائع له كالسمك في الماء الكثير، واللبن في الضرع، وبيع الحمل في البطن، وكذا بيع ثوب من ثياب أو شاة من شياه غير مخير فيه مدة معلومة، فإن هذا فيه غرر غير محتاج إلى ارتكابه، وقد يحتمل بعض الغرر ويصح البيع معه إذا دعت إليه الحاجة؛ كالجهل بأساس الدار، وكما إذا باع الشاة الحامل والتي في ضرعها لبن فإنه يصح البيع، أو كان الغرر حقيرا، وذلك كبيع الجبة المحشوة وإن لم ير حشوها، فإن ذلك مجمع عليه، وكذا على جواز إجارة الدار والدابة والثوب ونحو ذلك شهرًا، مع أن الشهر قد يكون ثلاثين يومًا، وقد يكون تسعة وعشرين، وعلى دخول الحمام بالأجرة مع اختلاف الناس في استعمالهم الماء وفي قدر مكثهم، وعلى جواز الشرب من السقاء بالعوض مع الجهالة، واختلاف عادة الشاربين، وعكس هذا أجمعوا على بطلان بيع الأجنة في البطون والطير في الهواء، قال العلماء: مدار البطلان على الغرر، وصح فيما ذكرنا مع وجود الغرر لكون الحاجة تدعو إليه ولا يمكن الاحتراز عنه، أو كان الغربيّ حقيرًا لقيام الإجماع على الاغتفار فيما ذكر، ووقع الخلاف في [بيع] (أ) العين ¬

_ (أ) في الأصل: مع، وفي ب: منع.

الغائبة؛ فمن جوزه فبناه على أن الغرر مغتفر حقير (أ) كالمعدوم، ومن منع منه فبناه على اعتبار ما فيه من الغرر وأنه غير حقير مغتفر، وكذا في بيع الكامن الذي يدل فرعه عليه كالجزر والبصل والثوم ونحو ذلك مما كان الكامن هو المقصود بالبيع، حيث قد بلغ حد الانتفاع به، فهي معلومة بالعادة يعرفها أهل الخبرة بها، ففيها غرر يسير وهو محتاج إلى البيع لانتفاع الناس بذلك. وقد ذهب إلى جواز بيع ذلك أبو يوسف ومحمد وصححه القاضي زيد للهدوية، وقال الناصر ومالك: إنه يجوز إذا قد ظهرت أوراقه، إذ هو علامة صلاحه للانتفاع به. وقال الإمام المهدي: إن ذلك لا يصح على ظاهر مذهب الهدوية سواء ظهرت أوراقه أم لا؛ لما فيه من الغرر والجهالة، فهو مثل بيع الحوت في الماء. ويجاب عنه بأن ذلك مغتفر وهو لا يزيد على ما في بيع الجوز واللوز والفستق والبيض من الغرر، وقد اغتفر ذلك. والله أعلم. 634 - وعنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من اشترى طعامًا فلا يبعه حتى يكتاله". رواه مسلم (¬1). وفي لفظ من حديث أبي هريرة أخرجه مسلم وأحمد (¬2) قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يُشترى الطعام ثم يباع حتى يُستوفى. وأخرج مسلم وأحمد (¬3) من حديث جابر: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا ابتعت طعامًا فلا ¬

_ (ب) زاد في النسخ: وليس. والمثبت من شرح النووي على مسلم 10/ 157.

تبعه حتى تستوفيه". وأخرج أحمد (¬1) من حديث حكيم بن حزام قال: قلت: يا رسول الله، إني أشتري بيوعا، فما يحل لي منها وما يحرم علي؟ قال: "إذا اشتريت شيئًا فلا تبعه حتى تقبضه". وأخرج الدارقطني وأبو داود من حديث زيد بن ثابت (¬2) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى أن تباع السلع حيث تبتاع حتى يحوزها التجار إلى رحالهم. وسيأتي قريبًا في حديث ابن عمر (¬3). وأخرج السبعة إلا الترمذي وابن ماجه (¬4) من حديث ابن عمر قال: كانوا يبتاعون الطعام جزافا في أعلى السوق فنهاهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يبيعوه حتي ينقلوه. وفي لفظ في "الصحيحين" (¬5): حتى يحولوه. وللسبعة إلا الترمذي (¬6): "من ابتاع طعامًا فلا يبعه حتى يقبضه". ولأحمد (¬7): "من اشترى طعاما بكيل أو وزن فلا يبعه حتى يقبضه". ولأبي داود والنسائي (¬8): ¬

_ (¬1) أحمد 3/ 403. (¬2) الدارقطني 3/ 12 ح 34، وأبو داود 3/ 280 ح 3499. (¬3) سيأتي ح 638. (¬4) البخاري 4/ 247 ح 2131، ومسلم 3/ 1161 ح 1527/ 37، وأبو داود 3/ 279 ح 3494، والنسائي 7/ 287، وأحمد 2/ 15، 21، 142، وهو عند ابن ماجه 2/ 750 ح 2229. (¬5) هو لفظ مسلم. (¬6) البخاري 4/ 347 ح 2133، ومسلم 3/ 1161 ح 36/ 1526، وأبو داود 3/ 279 ح 3492، والنسائي 7/ 285، وابن ماجه 2/ 749 ح 2226، وأحمد 2/ 46، 59، 77، 108. وعند أبي داود وابن ماجه: "يستوفيه" بدل: "يقبضه". (¬7) أحمد 2/ 111. (¬8) أبو داود 3/ 279 ح 3495، والنسائي 7/ 286.

نهي أن يبيع أحد طعامًا اشتراه بكيل حتى يستوفيه. وعن ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من ابتاع طعامًا فلا يبعه حتى يستوفيه". قال ابن عباس: ولا أحسب كل شيء إلا مثله. أخرجه السبعة إلا الترمذي (¬1). الحديث فيه دلالة على أن الطعام ليس لمشتريه أن يبيعه حتى يكتاله، والمراد منه قبضه، تدل عليه رواية: "يستوفيه". إلا أنه لما كان الأغلب في الطعام أن يكون قبضه بالكيل، ذكر لفظ الكيل في الاستيفاء، وقد اعتبر خصوصية هذا الحكم بالطعام ابن المنذر فقال: إن هذا الحكم يختص بالطعام لا غيره من سائر المبيعات. محتجًّا باتفاقهم على أن من شرى عبدًا فأعتقه قبل قبضه أن العتق صحيح، قال: والبيع كذلك. وهو مردود عليه بحديث حكيم بن حزام، فإنه عام للطعام وغيره، وأيضًا فالعلة المعتبرة مُعدية إلى الغير، وذهب مالك إلى أن الطعام إذا شُري جزافًا جاز بيعه قبل قبضه، وبه قال الأوزاعي وإسحاق، واحتج لهم (أ) بأن الجزاف يُرى فتكفي فيه التخلية، والاستيفاء إنما يكون في مكيل أو موزون. وقد روى أحمد مرة حديث ابن عمر مرفوعًا: "من اشترى طعامًا بكيل أو وزن فلا يبعه حتي يقبضه". ويجاب عنه: بحديث حكيم، وحديث زيد بن ثابت، ¬

_ (أ) في ب: لهما.

وحديث ابن عمر الذي أخرجه السبعة. وذهب ابن عباس والعترة والشافعي ومحمد إلى أنه لا يجوز البيع للمشتري قبل القبض مطلقًا، وهو الذي استنبطه ابن عباس وقال: لا أحسب كل شيء إلا مثله. وأخرج البخاري (¬1) عن طاوس: قلت لابن عباس: كيف ذاك؟ قال: ذاك دراهم بدراهم والطعام مُرْجأ. معناه: أنه استفهم عن سبب هذا النهي فأجابه ابن عباس بأنه إذا باعه المشتري قبل القبض وتأخر المبيع في يد البائع، فكأنه باع دراهم بدراهم، ويبين ذلك ما وقع في رواية سفيان عن ابن طاوس عند مسلم (¬2) قال طاوس: قلت لابن عباس: لم؟ قال: ألا تراهم يبتاعون بالذهب [والطعام] (أ) مُرْجَأ. أي فإذا اشترى طعامًا بمائة دينار مثلًا ودفعها للبائع ولم يقبض منه الطعام ثم باع الطعام لآخر بمائة وعشرين دينارًا، هذا كلامه فأفهم أن ذلك من باب الربا، وأنه كأن الدراهم هي التي بيعت متفاضلة، وحينئذ فالحكم عام في كل مبيع لوجود العلة المُعَدّية. وخص أبو حنيفة هذا الحكم بما كان ينقل، وأما غير المنقول فيحل بيعه قبل القبض، محتجًّا بحديث زيد بن ثابت فإن ذلك في المنقول (ب). وأجيب إما بعموم حديث حكيم بن حزام، أو بالقياس؛ لوجود العلّة. ¬

_ (أ) ساقطة من: الأصل. (ب) في جـ: المنقولات.

قال القرطبيُّ: وهذه الأحاديث حجة على عثمان حيث أجاز بيع كل شيء قبل قبضه. ونسب في "البحر" الخلاف هذا إلى عثمان البتي. فائدة: أخرج الدارقطني من حديث جابر (¬1): نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الطعام حتى يجري فيه الصاعان؛ صالح البائع وصاع المشتري. ونحوه للبزار (¬2) من حديث أبي هريرة بإسناد حسن. فهو يدل على أنه إذا اشترى الشيء مكايلة وقبضه ثم باعه لم يجز تسليمه بالكيل الأول حتى يكيله علي من اشتراه ثانيا. وبذلك قال الجمهور، وقال عطاء (¬3): يجوز بيعه بالكيل الأول مطلقًا. وقيل: إن باعه بنقد جاز بالكيل الأول، وإن باعه بنسيئة لم يجز بالأول. والأحاديث المذكورة ترد عليهما، وكأن العلة في ذلك هي لما يجوز من النقص في ذلك؛ فإعادة الكيل لإذهاب الخداع. وفي حديث ابن عمر: كانوا يبتاعون الطعام جزافا. هو مثلث الجيم والكسر أفصح، يدل على جواز بيع الصبرة جزافًا سواء علم البائع قدرها أم لم يعلم، إلا أنه يثبت الخيار للمشتري عند الهدوية إذا علم قدرها البائع دون المشتري، وعن مالك لا يصح فيما علم قدرها البائع فقط. قال ابن قدامة (¬4): يجوز بيع الصبرة جزافًا، لا نعلم فيه خلافًا إذا جهل البائع والمشتري قدرها، فإن اشتراها جزافا، ففي بيعها قبل نقلها روايتان عن ¬

_ (¬1) الدارقطني 3/ 8 ح 24. (¬2) كشف الأستار 2/ 86 ح 1265. (¬3) الفتح 4/ 351. (¬4) المغني 6/ 201.

أحمد، ونقلُها قبضُها. انتهى. 635 - وعنه قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن بيعتين في بيعة. رواه أحمد والنسائي وصححه والترمذي وابن ماجه (¬1). ولأبي داود (¬2): "من باع بيعتين في بيعة فله أوكسهما أو الربا". وأخرجه الشافعي (¬3)، وهو في بلاغات مالك (¬4). قال الترمذي: حسن صحيح، وفي الباب عن ابن عمر وابن عمرو وابن مسعود. وحديث ابن مسعود رواه أحمد (¬5) من طريق عبد الرحمن ابنه عنه بلفظ: نهى عن صفقتين في صفقة. وحديث ابن عمر رواه ابن عبد البر (¬6) من طريق ابن أبي خيثمة عن يحيى بن معين عن هشيم [عن] (أ) يونس بن عبيد عن نافع عن ابن عمر مثله. وحديث ابن عمرو رواه الدارقطني (¬7) في أثناء حديث. ¬

_ (أ) في النسخ: بن. والمثبت من مصدر التخريج، وينظر تهذيب الكمال 30/ 272، 32/ 517.

قال سماك في تفسيره: هو الرجل يبيع البيع فيقول: هو بنساء بكذا، وهو بنقد بكذا. رواه أحمد (¬1). وقد يفسر بأن يقول: بعتك عبدي بعشرة على أن تبيعني جاريتك بكذا. وعلة النهي على الأول، عدم استقرار الثمن ولزوم الربا على قول من يمنع بيع الشيء بأكثر من سعر يومه لأجل النّسَاء. وعلى (أ) الثاني، لتعليقه بشرط مستقبل يجوز وقوعه وعدم وقوعه، فلم يستقر الملك. وقوله: "فله أوكسهما أو الربا". يعني أنه إذا فعل ذلك فهو لا يخلو عن أحد النقصين؛ إما الأوكس الذي هو الأقل، أو الربا (ب في ذلك ب). وهذا مما يؤيد التفسير الأول. 636 - وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يحل سلف وبيع، ولا شرطان في بيع، ولا ربح ما لم يضمن، ولا بيع ما ليس عندك". رواه الخمسة وصححه الترمذي وابن خزيمة والحاكم، وأخرجه في "علوم الحديث" من رواية أبي حنيفة عن عمرٍو المذكور بلفظ: نهى عن بيع وشرط. ومن هذا [الوجه] (جـ) أخرجه ¬

_ (أ) زاد في جـ: الوجه. (ب- ب) ساقط من: ب، جـ. (جـ) ساقطة من النسخ. والمثبت من بلوغ المرام ص 171.

الطبراني في "الأوسط"، وهو غريب (¬1). حديث: نهى عن بيع وشرط. بيض له الرافعي في "التذنيب" واستغربه النووي (¬2)، وقد رواه ابن حزم في "المحلى" والخطابي في "العالم" (¬3) والطبراني في "الأوسط" و "الحاكم" في "علوم الحديث" من طريق محمد بن سليمان الذهلي، عن عبد الوارث بن (أ) سعيد، عن أبي حنيفة، عن عمرو بن شعيب في قصة طويلة مشهورة. قال المصنف (¬4) رحمه الله تعالى: ورويناه في الجزء الثالث من مشيخة بغداد للدمياطي، ونقل فيه عن ابن أبي الفوارس أنه قال: حديث غريب. انتهى. والقصة هي: قال عبد الوارث: دخلت الكوفة فوجدت ثلاثة من فقهائها وهم؛ أبو حنيفة، وابن أبي ليلى، وابن شبرمة، فسألت أبا حنيفة عن بيع وشرط فقال: يبطلان. ثم سألت ابن أبي ليلى عن ذلك فقال: يصح العقد ويبطل الشرط. ثم سألت ابن شُبرمة فقال: يصحان. فعدت إلى أبي ¬

_ (أ) في ب: عن.

حنيفة فأخبرته بما قالا فقال: لا علم لي بما قالا، ولكنه نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن بيع وشرط. ثم دخلت على ابن أبي ليلى فأخبرته بما قالا فقال: لا علم لي بما قالا، ولكنه أجاز العقد وأبطل الشرط في خبر بَريرة (¬1). ثم دخلت على ابن شبرمة فأخبرته بما قالا فقال: لا علم لي بما قالا، ولكنه - صلى الله عليه وسلم - اشترى من جابر بعيرًا واشترط ظهره إلى المدينة (¬2)، فصح البيع والشرط. وفي رواية ابن حزم: قدمت مكة. ومثله رواه الخطابي وفيها: قلت: يا سبحان الله! ثلاثة من فقهاء العراق اختلفوا في مسألة واحدة. قوله: "لا يحل سلف وبيع". هو حيث يريد الشخص أن يشتري سلعة بأكثر من ثمنها لأجل النَّساء وعنده أن ذلك لا يجوز، فيحتال بأن يستقرض الثمن من البائع ليعجله إليه حيلة، وكلتا الصورتين محرم والعقد فيهما فاسد. وقوله: "ولا شرطان في بيع". اختلف في تفسير ذلك؛ فقال أبو حنيفة وزيد بن علي: هو أن يقول: بعت هذا نقدا بكذا، وبكذا نسيئة. وقال أبو العباس: هو أن يشترط البائع ألا يبيع المشتري السلعة ولا يهبها. وقيل: هو أن يقول: بعتك هذه السلعة بكذا على أن تبيعني السلعة الفلانية بكذا. كذا ذكره الإمام المهدي في "الغيث"، والأول أقرب إلى لفظ الحديث. وقوله: "ولا ربح ما لم يضمن". قيل معناه: ما لم يملك. وذلك هو الغصب، فإنه غير ملك للغاصب، فإذا باعه وربح في ثمنه لم يحل له الربح، ووجب عليه التصدق به، نص عليه الهادي في "الأحكام"، وقال المؤيد: إنه ¬

_ (¬1) تقدم ح 626. (¬2) تقدم ح 621.

يحل له الربح؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "الخراج بالضمان" (¬1). وقواه الإمام يحيى. وقيل: معناه: ما لم يقبض. لأن السلعة المشتراة قبل قبضها هي ليست في ضمان المشتري إذا تلفت، بل تكون في ضمان البائع، بمعنى أنها تتلف من ماله، وتسمية ذلك غير مضمون مجاز. وقوله: "ولا بيع ما ليس عندك". قد فسر أيضًا بالغصب؛ لأنه لما كان الغاصب مأمورا بتفريغ ساحته وتبرئة ذمته من الغصب فهو ليس عنده، وقد فسر أيضًا [بالبيع] (أ) قبل القبض. وكلاهما محتملان. وفي حديث حكيم بن حزام في رواية أبي داود والنسائي (¬2) أنه قال: قلت: يا رسول الله، يأتيني الرجل فيريد مني البيع ليس عندي، فأبتاع له من السوق؟ قال: "لا تبع ما ليس عندك". ما يدل على أن المقصود به النهي عن بيع الشيء قبل أن يملكه وإن كان في نيته تملكه لأجل تسليمه إلى المشتري، وهو الأولى، والله أعلم. 637 - وعنه قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن بيع العُرْبان. رواه مالك قال: بلغني عن عمرو بن شعيب به (¬3). وأخرجه أبو داود وابن ماجه (¬4)، وفي إسناده راو لم يسم، وسمي في رواية لابن ماجه ضعيفة عبد الله بن عامر الأسلمي (¬5). وقيل: هو ابن ¬

_ (أ) في الأصل: بالمبيع، وفي ب: المبيع.

لهيعة (¬1). وهما ضعيفان. ورواه الدارقطني والخطيب (¬2) في "الرواية عن مالك" من طريق الهيثم بن اليمان عنه عن عمرو بن الحارث عن عمرو بن شعيب، وعمرو بن الحارث ثقة (¬3)، والهيثم ضعفه الأزدي (¬4)، وقال أبو حاتم (¬5): صدوق. وذكر الدارقطني أنه تفرد بقوله: عن عمرو بن الحارث. قال ابن عدي (¬6): إنه يقال: إن مالكا سمع هذا الحديث من ابن لهيعة. ورواه البيهقي (¬7) من طريق عاصم [بن] (أ) عبد العزيز عن (ب) الحارث [بن] (جـ) عبد الرحمن عن عمرو بن شعيب، وقال عبد الرزاق في "مصنفه" (¬8): أخبرنا الأسلمي عن زيد بن أسلم سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن العربان في البيع فأحله. قوله: عن بيع العُرْبان. هو بضم المهملة، ويقال: أربان. بالهمزة، ¬

_ (أ) في النسخ: عن. والمثبت من مصدر التخريج. وينظر الجرح والتعديل 6/ 348. (ب) بعده في النسخ: عمرو بن. والمثبت من مصدر التخريج. وينظر الجرح والتعديل 3/ 79. (جـ) في النسخ: عن.

ويقال: عربون. وذكر مالك في تفسيره هو أن يشتري الرجل العبد أو الأمة أو يكتري ثم يقول الذي اشترى أو اكترى: أعطيك دينارًا أو درهمًا على أني إن أخذت السلعة فهو من ثمن السلعة وإلا فهو لك. وكذلك فسره عبد الرزاق عن الأسلمي عن زيد بن أسلم. قد اختلف الناس في جواز هذا البيع؛ فأبطله مالك والشافعي لهذا النهي، ولما فيه من الشرط الفاسد والغرر ودخوله في أكل المال بالباطل، وأبطله أصحاب الرأي لذلك، وقد روي عن ابن عمر أنه أجاز هذا البيع (¬1)، وروي عن عمر رضي الله عنه (¬2)، ومال أحمد إلى القول بإجازته وقال: أي شيء أقدر أن أقول وهذا عمر؟ يعني أنه أجازه. والله أعلم. 638 - وعن ابن عمر رضي الله عنه قال: ابتعت زيتًا في السوق، فلما استوجبته لقيني رجل فأعطاني به ربحًا حسنًا، فأردت أن أضرب على يد الرجل، فأخذ رجل من خلفي بذراعي فالتفت فإذا زيد بن ثابت، فقال: لا تبعه حيث ابتعته حتى تحوزه إلى رحلِك؛ فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى أن تباع السلع حيث تبتاع حتى يحوزها التجار إلى رحالهم. رواه أحمد وأبو داود واللفظ له، وصححه ابن حبان والحاكم (¬3). الحديث فيه دلالة على أنه لا يصح من المشتري أن يبيع ما اشتراه قبل أن يحوزه إلى رحله، والظاهر أن المراد به القبض، ولكنه عبّر عنه بما ذكر لما كان ¬

_ (¬1) ابن أبي شيبة 7/ 305. (¬2) ابن أبي شيبة 7/ 306، وأحمد في مسائله (1230 - رواية عبد الله). (¬3) أحمد 5/ 191، وأبو داود، كتاب البيوع، باب في بيع الطعام قبل أن يستوفى 3/ 280 ح 3499، وابن حبان، كتاب البيوع، ذكر الخبر المصرح بأن حكم الطعام وغيره من الأشياء المبيعة فيه سواء 11/ 360 ح 4984، والحاكم، كتاب البيوع 2/ 39، 40.

غالب قبض المشتري هو الحيازة إلى المكان الذي يختص به، وأما نقله من مكان إلى مكان لا يختص به فعند الجمهور أن ذلك قبض، والخلاف للشافعي في ذلك مع تفصيل، وذلك أنه إذا كان مما يتناول باليد كالدراهم والدنانير والثوب فقبضه بالنقل، وما ينقل في العادة كالأخشاب والحبوب والحيوان فقبضه بالنقل إلى مكان لا اختصاص للبائع فيه. وفي قولٍ أنه يكفي فيه التخلية، وما كان لا ينقل كالعقار والثمر على الشجر فقبضه بالتخلية، والظاهر معه. وقوله: فلما استوجبته. في رواية لأبي داود: فلما استوفيته. المراد منه العقد، وظاهر اللفظ أنه قبضه ولم يكن قد حازه إلى رحله كما يدل عليه قوله: نهى أن تباع السلع حيث تبتاع حتى يحوزها التجار إلى رحالهم. والله أعلم. 639 - وعنه قال: قلت: يا رسول الله، إني أبيع الإبل بالبقيع فأبيع بالدنانير وآخذ الدراهم، وأبيع بالدراهم وآخذ الدنانير، آخذ هذا من هذه وأعطي هذه من هذا. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا بأس أن تأخذها بسعر يومها ما لم تفترقا وبينكما شيء". رواه الخمسة وصححه الحاكم (¬1). الحديث لفظ أبي داود، وغيره بلفظ: فقال: "لا بأس به بالقيمة". وفي رواية: "لا بأس إذا تفرقتما وليس بينكما شيء". وفي ¬

_ (¬1) أبو داود، كتاب البيوع، باب في اقتضاء الذهب من الورق 3/ 247 ح 3354، والترمذي، كتاب البيوع، باب ما جاء في الصرف 3/ 544 ح 1242، والنسائي، كتاب البيوع، باب بيع الفضة بالذهب وبيع الذهب بالفضة 7/ 281، 282، وابن ماجه، كتاب التجارات، باب اقتضاء الذهب من الورق والورق من الذهب 2/ 760 ح 2262، والحاكم، كتاب البيوع 2/ 44.

لفظ [للنسائي (¬1)] (أ): "ما لم يفرق بينكما شيء". قال الترمذي والبيهقي (¬2): لم يرفعه غير سماك بن حرب عن سعيد بن جبير عن ابن عمر. وعلق الشافعي في "سنن حرملة" القول به على صحته، وروى البيهقي (¬3) من طريق أبي داود الطالسي قال: سئل شعبة عن حديث سماك هذا، فقال شعبة: أيوب عن نافع عن ابن عمر. ولم يرفعه. وحدثنا قتادة، عن سعيد بن المسيب، عن ابن عمر. ولم يرفعه. وحدثنا يحيى بن أبي إسحاق، عن سالم، عن ابن عمر. ولم يرفعه، ورفعه لنا سماك (¬4). انتهى. وقوله: بالبقيع. بالباء الموحدة كما وقع عند البيهقي (¬5): في بقيع الغرقد. قال النووي (¬6): ولم يكن كثرت إذ ذاك فيه القبور. وقال ابن باطيش: لم أر مَنْ ضبطه، والظاهر أنه بالنون. الحديث فيه دلالة على أنه يجوز أن يقضي عن الذهب الفضة، وعن الفضة ذهبًا؛ لأن ابن عمر كان يبيع بالدنانير، فيلزم المشتري في ذمته له دنانير وهي الثمن، ثم يقبض (ب) عنها دراهم وبالعكس، وهذا مصرح به في ¬

_ (أ) في النسخ: لأبي داود. والمثبت من التلخيص الحبير 3/ 25. (ب) في ب، جـ: يقضي.

رواية أبي داود وتبويب "باب اقتضاء الذهب من الورق". ولفظه: كنت أبيع الإبل بالبقيع فأبيع بالدنانير وآخذ الدراهم، وأبيع بالدراهم وآخذ الدنانير؛ آخذ هذه من هذه، وأعطي هذه من هذه، فأتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو في بيت حفصة فقلت: يا رسول الله، رويدك أسألك، إني أبيع الإبل بالبقيع؛ فأبيع بالدنانير وآخذ الدراهم، وأبيع بالدراهم وآخذ الدنانير؛ آخذ هذه من هذه، وأعطي هذه من هذه. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا بأس أن تأخذها بسعر يومها ما لم تفترقا وبينكما شيء". وفي هذا تصريح بأن النقدين جميعًا غير حاضرين، والحاضر أحدهما وهو غير اللازم في الذمة، فبيَّن الحكم بأنهما إذا فعلا ذلك فحقُّه ألا يفترقا إلا وقد قبض ما هو لازم عوض ما في الذمة، ولا يجوز أن يقبض البعض من الدراهم ويبقى بعض في ذمة من عليه الدنانير عوضًا عنها ولا العكس، لأن ذلك من باب الصرف، والشرط فيه ألا يفترقا وبينهما شيء. وأما قوله: "بسعر يومها". فهو في رواية لأبي داود، والظاهر أنه غير شرط، وإن كان ذلك أمرا أغلبيا في الواقع، يدل على ذلك قوله: "فإذا اختلفت الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدًا بيدٍ". كما سيأتي في حديث عبادة (¬1)، والله أعلم. 640 - وعنه قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن النَّجْش. متفق عليه (¬2). النجش بفتح النون وسكون الجيم بعدها معجمة، وهو في اللغة تنفير ¬

_ (¬1) سيأتي ح 667. (¬2) البخاري، كتاب البيوع، باب النجش 4/ 355 ح 2142، ومسلم، كتاب البيوع، باب تحريم بيع الرجل على بيع أخيه 3/ 1156 ح 1516.

الصيد واستثارته من مكانه ليصاد. يقال: أنجشت الصيد أنجُشه بالضمة نجشًا، فسمي الناجش في السلعة ناجشا؛ لأنه يثير الرغبة فيها ويرفع ثمنها، وقال ابن قتيبة (¬1): أصل النجش [الخَتْل] (أ)، وهو الخداع، ومنه قيل للصائد: ناجش. لأنه يختل الصيد ويحتال له، وكل من استثار شيئًا فهو ناجش. أو من النجش بمعنى الاستتار، لأنه يستر قصده، ومنه قيل للصائد: ناجش لاستتاره. وقال الهروي: قال أبو بكر: النجش المدح والإطراء. وعلى هذا معنى الحديث: لا يمدح أحدكم السلعة ويزيد في ثمنها بلا رغبة. والصحيح الأول. كذا ذكره النووي (¬2). وفي الشرع: الزيادة في ثمن السلعة المعروضة للبيع؛ لا ليشتريها بل ليغر بذلك غيره، وقد يقع ذلك بمواطأة البائع، وقد لا يكون، وقد يكون من البائع وحده؛ مثل أن يخبر بأنه اشتراها بكذا ليخدع الشتري، وهو حرام لما فيه من الخديعة. قال ابن بطال (¬3): أجمع العلماء على أن الناجش عاص بفعله، واختلفوا في البيع إذا وقع على ذلك؛ فنقل ابن المنذر عن طائفة من أهل الحديث فساد ذلك البيع، وهو قول أهل الظاهر ورواية عن مالك، وهو المشهور عن الحنابلة إن كان بمواطأة البائع أو منه، والمشهور عند المالكية في مثل ذلك ثبوت الخيار، وهو وجه للشافعية. ومثل هذا ذكر الإمام الهدي في "البحر" للهدوية قياسًا على ¬

_ (أ) في الأصل: الختن.

المُصَرَّاة، والبيع صحيح عند الهدوية والشافعية والحنفية، لأن النهي عائد إلى أمر مفارق للبيع وهو قصد الخداع، فلم يقتض الفساد. وقد اتفق أكثر العلماء على تفسير النجش بما ذكر، وقيد ابن عبد البر (¬1) وابن العربي (¬2) وابن حزم (¬3) أن التحريم بأن تكون الزيادة المذكورة فوق ثمن المثل. قال ابن العربي: فلو أن رجلًا رأى سلعة رجل تباع بدون قيمتها، فزاد فيها لتنتهي إلى قيمتها لم يكن ناجشًا عاصيا، بل يُؤْجر على ذلك بنيته. وقد وافقه على ذلك بعض المتأخرين من الشافعية، لأن ذلك من النصيحة. ويجاب عن ذلك بأن النصيحة تحصل بغير إيهام أنه يريد الشراء، وأما مع هذا فهو خداع وغرور، وقد أخرج البخاري (¬4) في "الشهادات" في باب قول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا} (¬5). عن عبد الله بن أبي أوفى قال: أقام رجل سلعته فحلف بالله لقد أعطي بها ما لم يُعْط، فنزلت. قال ابن أبي أوفي: الناجش آكل ربا خائن. وأخرجه الطبراني (¬6) من وجه آخر عن ابن أبي أوفى مرفوعًا، لكن قال: "ملعون". بدل: خائن. انتهى. وأطلق ابن أبي أوفى على من أخبر بأكثر مما اشتري به أنه ناجش؛ لمشاركته لمن يزيد في السلعة وهو لا يريد أن يشتريها في غرور الغير، فاشتركا في الحكم لذلك، وحيث كان الناجش غير البائع فقد يكون آكل ربا إذا جعل له البائع جُعلا. وأخرج عبد الرزاق (¬7) من طريق عمر بن عبد العزيز أن غلامًا له باع ¬

_ (¬1) التمهيد 13/ 348. (¬2) الفتح 4/ 356. (¬3) المحلى 9/ 468. (¬4) البخاري 5/ 286 ح 2675. (¬5) الآية 77 من سورة آل عمران. (¬6) الطبراني كما في مجمع الزوائد 4/ 83، والفتح 4/ 356. (¬7) عبد الرزاق 8/ 201، 202 ح 14882.

شيئًا فقال له: لولا أني كنت أزيد فأنفِّقه لكان كاسدًا. فقال له عمر: هذا نجش لا يحل. فبعث مناديًا فنادى أن [البيع] (أ) مردود، وأن [النجش] (ب) لا يحل. وفي هذا ردٌّ على ابن عبد البر وابن العربي، والله أعلم. 641 - وعن جابر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن المحاقلة والمزابنة والمخابرة، وعن الثنيا إلا أن تعلم. رواه الخمسة إلا ابن ماجه وصححه الترمذي (جـ) (¬1). والمحاقلة؛ قال أبو عبيد (¬2): هي بيع الطعام في سنبله، مأخوذ من الحقل وهو الحرث وموضع الزرع. وقال الليث: الحقل الزرع إذا تشعب من قبل أن يغلظ سوقه. وأخرج الشافعي في "المختصر" (¬3) عن سفيان عن ابن جريج عن عطاء عن ¬

_ (أ) في الأصل: المبيع. (ب) في الأصل: المبيع، وفي ب، جـ: البيع. والمثبت من مصدر التخريج. (جـ) في هامش ب: وابن حبان في صحيحه له تلخيص.

جابر أن المحاقلة أن يبيع الرجلُ الرجلَ الزرع بمائة فَرَق (¬1) من الحنطة، والمزابنة أن يبيع الثمر على رءوس النخل بمائة فَرَق من تمر. قال ابن جريج: قلت لعطاء: أفسر لكم جابر المحاقلة كما أخبرتني؟ قال: نعم. وهو متفق عليه (¬2) من حديث سفيان نحوه. واتفقا (¬3) عن مالك عن نافع عن ابن عمر بلفظ: نهى عن المزابنة، والمزابنة بيع الثمر بالتمر كيلًا، وبيع الكرم بالزبيب كيلًا. وأخرجه عنه الشافعي في "الأم" (¬4)، قال الشافعي: وتفسير المحاقلة والمزابنة في الأحاديث يحتمل أن يكون عن النبي - صلى الله عليه وسلم - منصوصًا، ويحتمل أن يكون من رواية مَن رواه. وفي النسائي (¬5) عن رافع بن خديج، والطبراني (¬6) عن سهل ابن سعد. [إن] (أ) المحاقلة مأخوذة من الحقل جمع حقلة. قاله الجوهري، وهي الساحات جمع ساحة. وعن مالك أن المحاقلة هي أن تكرى الأرض ببعض ما تنبت، وهي المخابرة. ولكن في هذه الرواية عطف المخابرة عليها يُبْعد هذا التفسير، وسيأتي تفسير المخابرة في المزارعة إن شاء الله تعالى. والمزابنة بالزاي المعجمة والباء الموحدة والنون، مفاعلة من الزَّبْن بفتح ¬

_ (أ) كذا في النسخ، وفي التلخيص الحبير 3/ 29: تنبيه. وهو الصواب.

الزاي وسكون الموحدة وهو الدفع الشديد، ومنه سُميت الحرب الزبون لشدة الدفع فيها، وقيل للبيع الخصوص: المزابنة. كأن كل واحد من المتبايعين يدفع صاحبه عن حقه، أو لأن أحدهما إذا وقف على ما فيه من الغبن أراد دفع البيع بفسخه، وأراد الآخر دفعه عن هذه الإرادة بإمضاء البيع، وقد ورد في تفسير المزابنة غير ما ذكر؛ فأخرج البخاري (¬1) عن ابن عمر أن المزابنة أن تبيع الثمر بكيل: إن زاد فلي، كان نقص فعلي. وهذا من القمار. وأخرج مسلم (¬2) عن نافع أن المزابنة بيع ثمر النخل بالتمر كيلًا، وبيع العنب بالزبيب كيلًا، وبيع الزرع بالحنطة كيلًا. فدخل فيها المحاقلة وستأتي. وقال مالك (¬3): المزابنة كل شيء من الجزاف لا يعلم كيله ولا وزنه ولا عدده، إذا بيع بشيء مسمى من الكيل وغيره، سواء كان يجري الربا فيه أو لا، فتدخل فيه سورة القمار وما يلزم من الربا. قال ابن عبد البر (¬4): نظر مالك إلى معنى المزابنة لغةً، وهي المدافعة، ويدخل فيها القمار والمخاطرة. وبعضهم فسّر المزابنة بأنها بيع الثمر قبل بدو صلاحه، وهو خطأ. وقيل: هي المزارعة على الجزء، وقيل غير ذلك. والعلة في النهي عن جميع ¬

_ (¬1) البخاري 4/ 377 ح 2172. (¬2) مسلم 3/ 1171 ح 1542/ 72. (¬3) الموطأ 2/ 625، 626. (¬4) الاستذكار 19/ 161.

ذلك هو؛ إما الربا لعدم علم التساوي، أو القمار، أو الغرر على ما عرفت، وعلى القول بأن المزابنة تختص [بالتمر] (أ)، فالجمهور على أنه يلحقه جميع ما شاركه في العلة. وقال بعضهم: يختص بالنخل. وقد اتفق العلماء رحمهم الله تعالى علي تحريم بيع الرطب بالتمر (ب) في غير العرايا، وأنه ربا. وأجمعوا أيضًا على تحريم بيع الحنطة في سنبلها بالحنطة صافية، وهي المحاقلة، وسواء عند جمهورهم كان الرطب والعنب على الشجر أو مقطوعًا. وقال أبو حنيفة: إن كان مقطوعًا جاز بيعه بمثله من اليابس. وسيأتي في حديث سعد بن أبي وقاص (¬1) عدم جوازه، والله أعلم. وقوله: وعن المخابرة. هي من المزارعة، وهي المعاملة على الأرض ببعض ما يخرج منها من الزرع، وسيأتي الكلام عليها إن شاء الله تعالى. وقوله: وعن الثنيا إلا أن تعلم. المراد بها الاستثناء في البيع، وذلك بأن يبيع شيئًا ويستثني بعضه، ولكنه إن كان ذلك البعض معلومًا صحت؛ نحو أن يبيع أشجارًا أو أعنابًا ويستثني واحدة معينة، فإن ذلك يصح اتفاقًا، وأما لو باع الصُّبرة إلا بعضها، أو هذه الأشجار والثياب إلا بعضها، فلا يصح البيع؛ لأن الاستثناء مجهول، وأما: بعتك هذه الثياب إلا ثوبًا. فإن خير في ذلك مدة معلومة بأن يقول: أختاره في يوم أو يومين. أو نحو ذلك، صح ¬

_ (أ) في الأصل، ب: بالثمر. (ب) في ب: بالثمر.

ذلك عند الهدوية؛ لأنه باشتراط الاختيار مدة معلومة يصير المستثنى في حكم المعلوم، وذلك حيث كان المبيع مختلفًا، وأما إذا كان مستويًا فإنه لا يصح، لعدم استقرار المبيع، وكذا إذا كان المستثنى مشاعًا مثل: إلا ربعها أو ثلثها. فإنه يصح، ومنع مالك أن يستثنى ما يزيد على الثلث. وأما إذا باع الصُّبرة من الطعام أو الثمر من الشجر واستثنى آصُعًا فإنه يبطل البيع عند الجمهور من العلماء، وقال مالك وجماعة من علماء المدينة: يجوز ذلك ما لم يزد على قدر ثلث المبيع. وقال أبو مضر من الهدوية: إنه يصح الاستثناء. وظاهر كلامه مطلقًا. والوجه في النهي عن الثنيا هو الجهالة، وما كان معلومًا انتفت فيه العلة فخرج عن حكم النهي، وقد نبه النص على العلة بقوله: إلا أن تعلم. وقول أبي مضر قريب إن لم يكن قد سبقه الإجماع، والله أعلم. 642 - وعن أنس رضي الله عنه قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن المحاقلة والمخاضرة والملامسة والمنابذة والمزابنة. رواه البخاري (¬1). قوله: عن المحاقلة. تقدم الكلام فيها. قوله: والمخاضرة. هو بالخاء والضاد المعجمتين، وهي مفاعلة من الخضرة، والمراد به بيع الثمار والحبوب قبل أن يبدو صلاحها، قال يونس بن القاسم (¬2): المخاضرة بيع الثمار قبل أن تطعم والزرع قبل أن يشتد ويفرك منه. وقد اختلف العلماء فيما يصح بيعه من الثمار وما لا، فالزرع أو الثمر إذا كان قد بلغ الحد الذي ينتفع به، ولم يكن قد صلح بأخذ الثمر ألوانه واشتداد الحب؛ فذهب زيد بن علي والمؤيد بالله وأبو حنيفة والشافعي إلى ¬

_ (¬1) البخاري، كتاب البيوع، باب بيع المخاضرة 4/ 404 ح 2207. (¬2) الفتح 4/ 404.

أنه يصح البيع بشرط القطع -قال المؤيد بالله وأبو حنيفة: أو يسكت عن القطع- ويؤاخذ المشتري بالقطع، وأما إذا شرط البقاء فلا يصح اتفاقًا، وأما إذا قد بلغ حدَّ الصلاح، وذلك باشتداد الحب واسوداد العنب وأخذ الثمر ألوانه، فبيعه صحيح وفاقًا، إلا أن يشترط المشتري بقاءه. فظاهر قول المؤيد بالله وأبي طالب أنه لا يصح البيع، واختاره الإمام المهدي، وأحد قولي أبي العباس أنه لا (أ) يصح، وجمع الأستاذ بين القولين، بأنه إذا كانت المدة معلومة صحَّ عند الجميع، وإن كانت غير معلومة لم يصح، وأما إذا كان ذلك الثمر مما قد صلح بعضه وبعضه غير صالح فبيعه غير صحيح. وذهبت الحنفية إلى جواز بيع الثمار وإن لم يبد صلاحها، ولو لم يكن ينتفع بها في الحال، قالوا: لأنه مال متقوم؛ إما لكونه منتفعًا به في الحال أو في المال، كما لو اشترى ولد جارية مولودا، فإنه يجوز كان لم يكن منتفعًا به في الحال، وهذا إذا اشتراها مطلقًا أو شرط القطع، وأما شرط البقاء فيفسد البيع؛ لأنه شرط لا يقتضيه العقدُ، وهو شغل ملك البائع، أو صفقتان في صفقة، وهو إعارة وإجارة في بيع، وكذا بعد الصلاح وقد تناهى كمالها إلى وقت الجداد (¬1)، فيفسد عند أبي حنيفة وأبي يوسف، وقال محمد بن الحسن: إنه جوز ذلك استحسانًا لتعارف الناس. قال: وأما قبل الصلاح فلأنها تحدث آخرًا بعد البيع، فإذا شرط الترك فقد شرط الأجزاء المعدومة، فيفسد العقد، وما قد تناهى لا يزيد وإنما ينقص، فلم يكن شرطًا لمعدوم فيصح، وهما يقولان: شرط الانتفاع بملك غيره. وهو شرط لا يقتضيه العقد. ¬

_ (أ) ساقط من: ب، جـ.

ولو اشترى الثمرة التي لم يتناه صلاحها شراء مطلقا من غير شرط الترك وتركها بإذن البائع طاب له الفضل، وإن تركها بغير إذنه تصدق بما زاد في ذاته، بأن يقوَّم قبل الإدراك ويُقوم بعد الإدراك، فيتصدق بما زاد من قيمته إلى وقت الإدراك؛ لحصوله بجهة محظورة، كان تركها بعد ما تناهى صلاحها لم يتصدق بشيء؛ لأن هذا تغيُّر حالة لا تحقق زيادة، وهذا في الثمرة، وأما الزرع إذا اشترط بقاءه إلى الإدراك فالشرط (أ) فاسد باتفاق بين أبي حنيفة وصاحبيه (¬1)، ويقول محمد: إنه لا تعامل للناس فيه بخلاف الثمار. هكذا فصل الكلام في "شرح القُدوري". وقوله: والملامسة. هي مس الثوب ولا ينظر إليه، وأخرج البخاري (¬2) عن الزهريّ أن الملامسة لمس الرجل الثوب بيده بالليل أو بالنهار، والمنابذة أن ينبذ الرجل إلى الرجل بثوبه، ويكون بيعهما من غير نظر ولا تراض. ولأبي عوانة (¬3) هو أن يتبايع القوم السلع لا ينظرون إليها ولا يخبرون عنها، أو يتنابذ القوم السلع كذلك، فهذا من أبواب القمار. وفي رواية ابن ماجه (¬4) من طريق سفيان عن الزهريّ: المنابذة أن يقول: ألق إلي ما معك وألقي إليك ما معي. وللنسائي (¬5) من حديث أبي هريرة: ¬

_ (أ) في ب، جـ: فالشراء.

الملامسة أن يقول الرجل للرجل: أبيعك (أ) ثوبي بثوبك. ولا ينظر أحد منهما إلى ثوب الآخر، ولكن يلمسه لمسًا، والمنابذة أن يقول: أنبذ ما معي وتنبذ ما معك. فيشتري كل منهما من الآخر، ولا يدري كل واحد منهما كم مع الآخر. وأخرج أحمد (1) عن عبد الرزاق عن معمر: المنابذة أن يقول: إذا نبذت هذا الثوب فقد وجب البيع، والملامسة أن يلمس الثوب بيده [ولا ينشره] (ب) ولا يقلبه، إذا مسه وجب البيع. ولمسلم (¬2) عن أبي هريرة أن الملامسة أن يلمس كل واحد منهما (جـ ثوب صاحبه بغير تأمل، والمنابذة أن ينبذ كل واحد منهما ثوبه إلى الآخر، لم ينظر كل واحد منهما جـ) إلى ثوب صاحبه. وهذا تفسير أبي هريرة أنسب لبقاء المفاعلة على حقيقتها من الطرفين. واختلف العلماء في تفسير الملامسة على ثلاث صور، وهي أوجه للشافعية (¬3)؛ أصحها أن يأتي بثوب مطوي أو في ظلمة فيلمسه المستام، فيقول له صاحب الثوب: بعتكه بكذا بشرط أن يقوم لمسك مقام نظرك، ¬

_ (أ) في ب، جـ: أبيع. (ب) ساقط من: الأصل. (جـ- جـ) ساقط من: ب.

ولا خيار لك إذا رأيته. الثاني: أن [يجعلا] (أ) نفس اللمس بيعًا؟ بغير صيغة زائدة. الثالث: أن يجعلا اللمس شرطا في قطع خيار المجلس وغيره. والبيع باطل على التأويلات كلها، وعلة البطلان مختلفة في ذلك. فالأول: العلة فيه عند مَنْ يثبت خيار الرؤية هو أنه شرط يرفع موجب العقد، إذ موجبه ثبوت الخيار، وعند الشافعية أن ذلك في حكم بيع الغائب وهو لا يصح بيعه. والثاني: أن ذلك من باب المعاطاة، فعند من يجيزها في المحقَّرات يقول بأن ذلك النهي في غير المحقَّر. ولهذا قال الرافعي: إن الأئمة أجروا في بيع الملامسة والمنابذة الخلاف [الذي] (ب) في المعاطاة. والثالث: مثل الأول عند من يثبت خيار المجلس، وأما عند من لا يثبته فشرط عدم الخيار إذا كان خيار العيب يبطل عند الهدوية والبيع صحيح إذا لم يكسب العقد جهالة. وعند المؤيد بالله وغيره يصح الشرط، فلعلهم يحملون النهي على الكراهة. والمنابذة اختلفوا فيها على ثلاثة أقوال؛ وهي أوجه للشافعية، أصحها أن يجعلا نفس النبذ بيعًا كما تقدم في الملامسة. (جـ يعني مع صيغة البيع جـ). والثاني: أن يجعلا النبذ بيعًا بغير صيغة. والثالث: أن يجعلا النبذ قاطعًا للخيار، وفيه ما تقدم في الملامسة. واختلفوا في تفسير النبذ؛ فقيل: هو طرح الثوب. وقيل: هو نبذ الحصاة. والصحيح أنه غيره. واعلم أنه قد استدل بقوله في تفسير الملامسة، وهو أن يمس الثوب ولا ¬

_ (أ) في الأصل، ب: يجعل. (ب) في الأصل، جـ: الثاني. (جـ-جـ) ساقط من: جـ.

ينظر إليه، على بطلان بيع الغائب، وهو قول الشافعي في الجديد، وعن أبي حنيفة والعترة: يصح مطلقًا، ويثبت الخيار إذا رآه. وحكي عن مالك والشافعي أيضًا، وعن مالك: يصح إن وصفه وإلا فلا. وهو قول الشافعي في القديم وأحمد وإسحاق وأبي ثور، واختاره البغوي والروياني من الشافعية وإن اختلفوا في تفاصيله، ويؤيده قوله في رواية أبي عوانة التي تقدمت: لا ينظرون إليها ولا يخبرون عنها. واستدل به على بطلان بيع الأعمى مطلقا، وهو قول معظم الشافعية حتى من أجاز منهم بيع الغائب، لكون الأعمى لا يراه بعد ذلك فيكون كبيع الغائب مع اشتراط نفي الخيار، وقيل: يصح إذا وصف له غيره. وبه قال مالك وأحمد، وقالت الهدوية وغيرهم وأبو حنيفة: إنه يصح مطلقا. والله أعلم. 643 - وعن طاوس عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تلقَّوا الركبان، ولا حاضر لباد". قلت لابن عباس: ما قوله: "لا يبع حاضر لباد"؟ قال: لا يكون له سمسارًا. متفق عليه، واللفظ للبخاري (¬1). قوله: "لا تلقَّوا الركبان". التلقي يكون ابتداؤه من خارج السوق الذي تباع فيه السلعة. يدل عليه حديث عبد الله بن عمر، أخرجه البخاري (¬2)؛ قال: كنا نتلقي الركبان فنشتري منهم الطعام، فنهانا النبي - صلى الله عليه وسلم - أن نبيعه حتى يُبلغَ به سوقُ الطعام. وهذا اللفظ مبين في حديث آخر عن ابن عمر أن التلقي لا يكون في ¬

_ (¬1) البخاري، كتاب البيوع، باب هل يبيع حاضر لباد بغير أجر؟ وهل يعينه أو ينصحه؟ 4/ 370 ح 2158، ومسلم، كتاب البيوع، باب تحريم بيع الحاضر للبادي 3/ 1157 ح 1521/ 19. (¬2) البخاري 4/ 375 ح 2166.

السوق، وهو؛ قال: كانوا يتبايعون الطعام في أعلى السوق فيبيعونه في مكانه، فنهاهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يبيعوه في مكانه حتى ينقلوه. أخرجه البخاري (¬1). فدل على أن القصد إلى أعلى السوق لا يكون تلقِّيًا، وأن منتهى التلقي ما فوق السوق. وجمع البخاري بين الروايتين في باب منتهى التلقي لينبه على ذلك، وأن الحديث يفسر بعضه بعضًا. وذهب الهدوية والشافعية إلى أن التلقي لا يكون إلا خارج البلد، لأنهم إذا نظروا إلى المعنى المناسب للمنع، وهو تغرير الجالب أنهم إذا قدموا البلد أمكنهم معرفة السعر وطلب الحظ لأنفسهم، فإن لم يفعلوا ذلك فهو من تقصيرهم، وأما إمكان معرفتهم ذلك قبل دخول البلد فنادر. والمعروف عند المالكية اعتبار السوق مطلقًا كما هو ظاهر الحديث، وهو قول أحمد وإسحاق. وعن الليث كراهة التلقي ولو في الطريق، ولو على باب البيت حتى تدخل السلعة السوق. وظاهر النهي إطلاق التلقي باعتبار منتهاه، فيتناول طول المسافة وقصرها، وهو ظاهر إطلاق الشافعية والهدوية، وقيد المالكية محل النهي بحد مخصوص ثم اختلفوا فيه؛ فقيل: ميل. وقيل: فرسخان. وقيل: مسافة القصر .. وهو قول الثوري. والنهي ظاهر في التحريم، ولكنه حيث كان قاصدًا للتلقي عالمًا بالنهي فيه، كان خرج لشغل آخر فرآهم مقبلين فاشترى، ففي إثمه وجهان للشافعية، أظهرهما التحريم؛ والعلة في ذلك هو ما فيه من الخداع للبائع والإضرار بأهل المصر. وقال أبو حنيفة والأوزاعي: يجوز التلقي إذا لم يضر بالناس، فإن أضر كُرِه. وإذا تلقى واشترى؛ فعند الهدوية والشافعي أن البيع صحيح؛ لأن النهي لم ¬

_ (¬1) البخاري 4/ 375 ح 2167.

يرجع إلى نفس العقد ولا إلى وصف ملازم، فلا يقتضي النهي الفساد، ولكنه يثبت الخيار للبائع عند الشافعي مطلقًا، وحجته حديث أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن تلقي الجلب، فإن تلقاه فاشتراه فصاحبه بالخيار إذا أتى السوق. أخرجه أبو داود والترمذي، وصححه ابن خزيمة، من طريق (أ) أيوب (¬1). وأخرجه مسلم (¬2) من طريق هشام عن ابن سيرين بلفظ: "لا تلقَّوا الجلب، فمن تلقاه فاشترى منه، فإذا أتى سيده السوق فهو بالخيار". وسيأتي. ومقتضى أصل الهدوية أنه لا يثبت الخيار إلا مع الغبن، كالمصرّاة. واختاره النووي (¬3) قال: فإن كان الشراء بأرخص من سعر البلد أو أكثر فوجهان؛ أصحهما: أنه لا خيار له؛ لعدم الغرر (ب). والثاني: ثبوته؛ لإطلاق الحديث. والحديث فيه دلالة على أن العلة في النهي هو نفع (جـ) البائع وإزالة الضرر عنه، وقال مالك: العلة هو نفع أهل السوق. وإلى ذلك جنح الكوفيون والأوزاعي، محتجين بحديث ابن عمر (¬4): "لا تلقَّوا السلع حتى تهبطوا بها السوق". وذهب جمع من العلماء إلى أن البيع فاسدٌ للنهي، ومستندهم أن ¬

_ (أ) زاد في النسخ: أبي. وهو أيوب بن أبي تميمة السختياني راوي الحديث عن ابن سيرين. ينظر مصادر التخريج، وتهذيب الكمال 3/ 457. (ب) في شرح مسلم: الغبن. (جـ) في جـ: بيع.

النهي يقتضي الفساد مطلقا. قال الإمام أبو عبد الله المازري (¬1): فإن قيل: المنع من بيع الحاضر للبادي سببه الرفق بأهل البلد، واحتمل فيه غبن البادي، والمنع من التلقي ألا يغبن البادي؛ ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم -: "فإذا أتى سيده السوق فهو بالخيار". فالجواب: أن الشرع ينظر في مثل هذه السائل إلى مصلحة الناس، والمصلحة تقتضي أن ينظر للجماعة على الواحد لا للواحد على الواحد، فلما كان البادي إذا باع بنفسه انتفع جميع أهل السوق واشتروا رخيصا، فانتفع به جميع سكان البلد، نظر الشرع لأهل البلد على البادي، ولما كان في التلقي إنما ينتفع المتلقي خاصة وهو واحد في قبالة واحدٍ، لم يكن في إباحة التلقي مصلحة، لا سيما وينضاف إلى ذلك علة ثانية، وهو لحوق الضرر بأهل السوق في انفراد المتلقي عنهم في الرخص وقطع الموارد عنهم، وهم أكثر من المتلقي، فنظر الشرع لهم عليه، فلا، [تناقض] (أ) بين المسألتين، بل هما متفقتان في الحكمة والمصلحة. انتهى. وشرط بعض الشافعية في النهي أن يبتدئ المتلقي فيطلب من الجالب البيع، فلو ابتدأ الجالب بطلب البيع فاشترى منه المتلقي لم يدخل في النهي. وذكر إمام الحرمين في سورة التلقي المحرَّم أن يكذب في سعر البلد ويشتري منهم بأقل من ثمن المثل. وذكر المتولي فيها أن يخبرهم بكثرة المؤنة عليهم في الدخول. وذكر أبو إسحاق الشيرازي أن يخبرهم بكساد ما معهم ليغبنهم. وقد يؤخذ من هذه التقييدات إثبات الخيار لمن وقعت ¬

_ (أ) في الأصل: تنافي.

له ولو لم يكن هناك تلقٍّ، لكن صرّح الشافعية أن كون إخباره كذبًا ليس شرطًا لثبوت الخيار، وإنما يثبت له الخيار إذا ظهر له الغبن، فهو المعتبر وجودًا وعدما. وقوله: "لا تلقّوا الركبان". وصف الركبان خرج مخرج الأغلب في أن الجالب يكون عددًا ويكون راكبًا، فلو كان الجالب واحدًا أو مشاة فالحكم واحد. وقوله: "لا يبع حاضر لباد". فسره ابن عباس بقوله: لا يكون له سمسارا. بسينين مهملتين، هو في الأصل القيم بالأمر والحافظ، ثم استعمل في متولي البيع والشراء لغيره بأجرة، ولذلك بوب البخاري: باب هل يبيع حاضر لباد بغير أجر؟ وباب من كره أن يبيع حاضر لباد بأجر. وذكر حديث ابن عباس في البابين (¬1). وفي كتب الحنفية (¬2): نهي الحاضر أن يبيع للبادي في زمن الغلاء شيئًا يحتاج إليه أهل البلد. وقال بعضهم: هو أن يجيء البلد غريب بسلعة يريد بيعها بسعر الوقت في الحال، فيأتيه [بلدي] (أ) فيقول له: ضعه عندي لأبيعه لك على التدريج بأغلى من هذا السعر. فجعلوا الحكم منوطًا بالبادي ومن شاركه في معناه. قال: وإنما ذكر البادي في الحديث لكونه الغالب، فألحق به من شاركه في عدم معرفة السعر من الحاضر، وإضرار أهل البلد بالإشارة ¬

_ (أ) ساقط من النسخ. والمثبت من الفتح 4/ 371.

عليه [بألا يبادر بالبيع] (أ). وهذا تفسير الشافعية والحنابلة، وجعل المالكية البداوة قيدًا، وعن مالك: لا يلتحق بالبدوي في ذلك إلا من كان يشبهه. قال: فأما أهل القرى الذين يعرفون أثمان السلع والأسواق فليسوا داخلين في ذلك. وقال ابن المنذر (¬1): اختلفوا في هذا النهي؛ فالجمهور على أنه للتحريم بشرط العلم بالنهي، وأن يكون [المتاع] (ب) المجلوب مما تعم الحاجة إليه، وأن يعرض الحضري ذلك على البدوي، فلو عرضه البدوي على الحضري لم يمنع. وزاد بعض الشافعية عموم الحاجة، وأن يكون ذلك المتاع مما تحصل به التوسعة في البلد لا إذا كان حقيرًا. وظاهر الحديث عدم التقييد بشيء من ذلك، ولكن هذه المعاني مستنبطة لتعليل الحكم، وفي تخصيص العموم بها تفصيل؛ فصل ذلك الإمام ابن دقيق العيد في "شرح العمدة" (¬2)؛ قال: واعلم أن أكثر هذه الأحكام تدور بين اعتبار المعنى واتباع اللفظ، ولكن ينبغي أن ينظر في المعنى إلى الظهور والخفاء؛ فحيث يظهر ظهورًا كبيرًا فلا بأس باتباعه وتخصيص النص به أو تعميمه على قواعد القياسيين، وحيث يخفى أو لا يظهر ظهورًا قويًّا فاتباع اللفظ أولى، فأما ما ذكر في اشتراط أن يلتمس البدوي ذلك، فلا يقوى؛ لعدم دلالة اللفظ عليه، وعدم ظهور المعنى فيه، فإن الضرر المذكور الذي علل به النهي لا يفترق الحال فيه بين سؤال البلدي وعدمه ظاهرًا، وأما اشتراط أن يكون الطعام مما تدعو الحاجة إليه فمتوسط في الظهور وعدمه؛ لاحتمال أن يراعي ¬

_ (أ) ساقط من النسخ. والمثبت من الفتح 4/ 371. (ب) في ب: المباع.

دعوى مجرد ربح الناس في هذا الحكم على ما أشعر به التعليل من قوله: "دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض". وأما اشتراط أن يظهر لذلك المتاع المجلوب سعة في البلد، فكذلك أيضًا أنه متوسط في الظهور؛ لما ذكرناه من احتمال أن يكون المقصود مجرد تفويت الربح والرزق على أهل البلد، وهذه الشروط منها ما يقوم الدليل الشرعي عليه، كشرطنا العلم بالنهي ولا إشكال فيه، ومنها ما يؤخذ باستنباط المعنى فيخرج على قاعدة أصولية (¬1)؛ وهي أن النص إذا استنبط منه معنى يعود عليه بالتخصيص هل يصح أَوْ لا؟ ويظهر لك هذا باعتبار ما ذكرناه من الشروط. انتهى. وظاهر أقوال العلماء على أن النهي شامل لمن كان بأجرة وبغيرها؛ لإطلاق سائر الأحاديث الواردة. والبخاري جعل حديث ابن عباس مقيدًا لما أطلق من الأحاديث، فاعتبر أن يكون بأجرة، وأما بغير أجرة فهو من باب النصيحة والمعاونة، ولذلك بوب: باب هل يبيع حاضر لباد بغير أجر؟ وهل يعينه أو ينصحه؟ وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إذا استنصح أحدكم أخاه فلينصح له " (¬2). ورخص فيه عطاء. وأخرج حديث جرير مرفوعًا، وفي آخره: والنصح لكل مسلم (¬3). انتهى. وظاهر نهي بيع الحاضر للبادي التحريم، وقد ذهب إليه الشافعي والجمهور، وذهب عطاء ومجاهد والهادي وأبو حنيفة إلى أن ذلك جائز مطلقًا ولا يكره. قالوا: كتوكيله، ولحديث النصيحة. قالوا: وحديث النهي منسوخ. والجواب أن ذلك لا يصلح لإطلاقه، وهذا خاص، وغاية ما ¬

_ (¬1) ينظر شفاء الغليل للغزالي ص 80. (¬2) الفتح 4/ 370. (¬3) البخاري 4/ 370 ح 2157.

يحتمل من النسخ -لو صح- تأخره عن حديث النهي، على القول بأن الحاظر المتقدم لا يكون مخصِّصًا ولا مقيِّدًا. والصحيح خلافه، ومع عدم معرفة التاريخ، فيُرجّح الحظر إلا عند من يقول: ترجح الإباحة. وذهب المؤيد بالله وغيره إلى أنه محمول على نهي التنزيه لا التحريم. ورجح الإمام المهدي في "البحر" التحريم حيث كان فيه إضرار. وعلى القول بتحريم البيع فهو صحيح كما تقدم في التلقي، ولا يفسخ البيع، وهو مذهب الشافعية وجماعة من المالكية. وقال بعض المالكية: يفسخ البيع ما لم يفت. وكذا يكون حكم الشراء، فلا يشتري حاضر لباد، ولذلك قال البخاري (¬1): باب لا يشتري حاضر لباد بالسمسرة. استعمالًا للفظ البيع في البيع والشراء. قال ابن حبيب المالكي (¬2): الشراء للبادي مثل البيع، لقوله عليه السلام: "لا يبع بعضكم على بيع بعض". فإن معناه الشراء، وعن مالك في ذلك روايتان، وكرهه ابن سيرين. أخرج أبو عوانة (¬3) في "صحيحه" عن ابن سيرين قال: لقيت أنس بن مالك فقلت: "لا يبع حاضر لباد". أنُهِيتم أن تبيعوا أو تبتاعوا لهم؟ قال: نعم. قال محمد: وصدق، إنها كلمة جامعة. وقد أخرجه أبو داود (¬4) عن ابن سيرين عن أنس بلفظ: كان يقال: لا يبع حاضرٌ لبادٍ. وهي كلمة جامعة؛ لا يبيع له شيئًا ولا يبتاع له شيئًا. وقال إبراهيم النخعي: إن العرب تقول: بع لي ثوبًا. أي اشتر. والله أعلم. ¬

_ (¬1) الفتح 4/ 372. (¬2) تفسير غريب الموطأ 2/ 392 - 394. (¬3) أبو عوانة 3/ 274 ح 4946. (¬4) أبو داود 3/ 267 ح 3440.

644 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تلقَّوا الجلَب، فمن تلقى فاشترى منه، فإذا أتى سيده السوق فهو بالخيار". رواه مسلم (¬1). قوله: "لا تلقَّوا الجلَب". هو بفتح اللام مصدرٌ بمعنى المجلوب، يقال: جلب الشيء. جاء به من بلد إلى بلد للتجارة، وقد تقدم الكلام على حكم ذلك قريبًا. 645 - وعنه رضي الله عنه قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يبيع حاضر لباد، ولا تناجشوا، ولا يبيع الرجل على بيع أخيه، ولا يخطب على خطبة أخيه، ولا تسأل المرأة طلاق أختها لتَكفأ ما في إنائها. متفق عليه (¬2). ولمسلم: "لا يسوم المسلم على سوم المسلم" (¬3). تقدم الكلام على بيع الحاضر للبادي. وقوله: ولا تناجشوا. عطف على قوله: نهى. من حيث المعنى؛ لأن معناه: لا يبيع حاضر لبادٍ ولا تناجشوا. وأتي بصيغة المفاعلة؛ لأن الناجش إذا فعل لصاحبه ذلك كان بصدد أن يُفعل (أ) له مثله. أو (ب) أنه بمعنى: فعل؛ أي: لا تنجشوا. ¬

_ (أ) في ب: يفعله. (ب) في جـ: و.

وقوله: ولا يبيع الرجل على بيع أخيه. روي برفع المضارع على أن "لا" نافية، وهو إخبار في معنى النهي، ويحتمل الجزم على أنها ناهية، وإثبات الياء كما في قراءة: (إنه من يتقي ويصبر) (¬1). على أنه عومل المجزوم معاملة غير المجزوم فتركت الياء، ويدل على النهي رواية الكشميهني (¬2) بحذفها. وكذا الكلام في: (أولا أ) يخطب، و: لا (ب) يسوم. وصورة البيع على البيع هو أنه إذا وقع البيع بخيار فيأتي في مدة الخيار، ويقول للمشتري: افسخ هذا البيع وأنا أبيعك مثله بأرخص من ثمنه أو أحسن منه. وكذا الشراء على الشراء وهو أن يقول للبائع في مدة الخيار: افسخ البيع وأنا أشتريه منك بأكثر من هذا الثمن. ونحوه. وقوله: لا يسوم المسلم على سوم المسلم. صورته أن يكون قد اتفق مالك السلعة والراغب فيها على البيع ولم يعقدا، فيقول للبائع: أنا أشتريه منك. بعد أن كانا قد اتفقا على الثمن. وقد أجمع العلماء على تحريم ذلك جميعه، وأن فاعله عاصٍ مع التصريح بذلك، وأما إذا لم يصرح ففيه وجهان للشافعية. وليس منه بيع المزايدة وهو البيع ممن يزيد، وقد بوب على ذلك البخاري (¬3) وقال: باب بيع المزايدة. وورد في ذلك صريحًا ما أخرجه أحمد ¬

_ (أ - أ) ساقط من: ب. (ب) ساقط من: ب.

وأصحاب السنن واللفظ للترمذي (¬1)، وقال: حسن. عن أنس أنه - صلى الله عليه وسلم - باع حِلسًا وقدحًا، وقال: "مَنْ يشتري هذا الحلس والقدح؟ ". فقال رجل: آخذهما بدرهم. فقال: "من يزيد علي درهم؟ ". فأعطاه رجل درهمين، فباعهما منه. وعلق البخاري (¬2) عن عطاء: أدركت الناس لا يرون بأسًا ببيع المغانم ممن يزيد. ووصله ابن أبي شيبة (¬3) عن عطاء ومجاهد. وروى هو وسعيد بن منصور (¬4) عن ابن عيينة عن ابن أبي نجيح عن مجاهد قال: لا بأس ببيع من يزيد، كذلك كانت تباع الأخماس. وقال الترمذي (¬5) عقيب حديث أنس المذكور: والعمل على هذا عند بعض أهل العلم، لم يروا بأسًا ببيع من يزيد في الغنائم والمواريث. وكأنه نظر إلى حديث ابن عمر رضي الله عنه: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يبيع أحدكم على بيع أحد حتى يذر إلا الغنائم والمواريث (¬6). فقيَّد به حديث أنس، وقد أخذ بظاهره الأوزاعي وإسحاق، وجعَلا الجواز مختصًّا بهما. وأقول: إن حديث ابن عمر ليس في البيع فيمن يزيد، بل ظاهره أنه (أ) ولو بعد الرضا بالسوم، فيعارضه حديث السوم على السوم بعد الرضا، ¬

_ (أ) ساقط من: ب.

ويحتاج إلى النظر في ذلك وسلوك الجمع بين الخاص والعام، ويلزم الشافعي ومن ذهب إلى العمل بالخاص مطلقًا ما ذهب إليه الأوزاعي وإسحاق، ولا يقيد (أ) حديث أنس كما أشار إليه الترمذي، لاختلاف المعنى فيهما، ولذا قال ابن عبد البر (¬1): إنه لا يحرم البيع فيمن يزيد اتفاقا. وعن إبراهيم النخعي: إنه يكره. وكأنه يحتج بما أخرجه البزار (¬2) من حديث سفيان بن وهب: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - ينهى عن بيع المزايدة. ولكنه في إسناده ابن لهيعة وهو ضعيف. وأورد البخاري (¬3) في هذا الباب حديث جابر، أن رجلا أعتق غلامًا له عن دُبُر؛ فاحتاج، فأخذه النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: "من يشتريه مني؟ ". فاشتراه نعيم بن عبد الله بكذا وكذا، فدفعه إليه. واعترضه الإسماعيلي وقال: ليس من بيع المزايدة؛ فإنه أن يعطي واحد ثمنا، ثم يعطي به غيرُه زيادة عليه. وأجاب ابن بطال بأن شاهد الترجمة منه قوله في الحديث: "من يشتريه مني؟ ". قال: فعرضه للزيادة ليستقضي فيه للمفلس الذي باعه عليه، والله أعلم. وقد فسر الحاجة في رواية ابن خلان بأنها الدَّين، وذكره البخاري (¬4) في باب من باع مال الفلس فقسمه بين الغرماء [أو] (ب) أعطاه حتى ينفق على ¬

_ (أ) في ب: يعتد. (ب) في النسخ: و. والمثبت من المصدر.

نفسه، وفي رواية النسائي (¬1) أنه باعه بثمانمائة درهم فأعطاه وقال: "اقض دينك". وبيَّن مسلم وأبو داود والنسائي (¬2) اسم الرجل بأنه من الأنصار، اسمه [أبو] (أ) مذكور واسم الغلام يعقوب. وقوله: ولا يخطب على خطبة أخيه. في مسلم زيادة: "إلا أن يأذن له". وفي رواية له: "حتى يذر" (¬3). والنهي يدل على تحريم ذلك، وقد أجمعوا على تحريمها إذا كان قد صرح بالإجابة ولم يأذن ولم يترك، فإن تزوج والحال هذه عصى وصح النكاح ولم يفسخ، وهذا مذهب الجمهور. وقال داود (¬4): يفسخ النكاح. وعن مالك روايتان، وقال جماعة من أصحاب مالك: يفسخ قبل الدخول لا بعده. أما إذا عرَّض له بالإجابة ولم يصرح، ففي تحريم الخطبة على خطبته قولان للشافعي؛ أصحهما لا تحرم. وكذا مقيد في كتب الهدوية الرضا بالتصريح. وقال بعض المالكية: لا تحرم حتى يرضوا بالتزوج، ويسمي المهر. واستدل على اشتراط التصريح بالإجابة بحديث فاطمة بنت قيس (¬5) فإنها قالت: خطبني أبو جهم ومعاوية. فلم ينكر النبي - صلى الله عليه وسلم - خطبة بعضهم على بعض، بل خطبها مع ذلك لأسامة، وقد يقال: يحتمل أنه لم يعلم ¬

_ (أ) ساقط من: الأصل، ب.

أحدُهما بخطبة الآخر، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أشار بأسامة لا أنه خطب له. وهو خلاف الظاهر، والمعتبر في الرضا إن كانت المرأة بالغة وهو كُفء، فرضاها، وإن كان غير كُفء فرضا الولي مع رضاها، لأن له حقا في المنع، وإن كانت صغيرة فرضا الولي وحده. وفي قوله: أخيه. يحتمل العمل بالمفهوم، وأنه لو كان غير أخ بأن يكون كافرا فلا تحريم؛ وهو حيث تكون المرأة كتابية وكان يستجيز نكاحها، وبه قال الأوزاعي. وقال جمهور العلماء: تحرم الخطبة على خطبة الكافر أيضًا. ويجيبون بأن التقييد خرج مخرج الغالب فلا يعمل بالمفهوم. وأما الفاسق فقال الأمير الحسين في "الشفاء" و "الزوائد" على مذهب الناصر وابن القاسم المالكي: إنه يجوز؛ عملًا بالمفهوم. وقول الجمهور على خلف ذلك، وفي التقييد ما عرفتَ، وزاد في "الزوائد" الجواز إذا كان قريبا، قيل: أو علويًّا. والأول على خلاف ذلك، ولا وجه لهذا. والخِطبة هنا بكسر الخاء، وأما الخُطبة في الجمعة والعيد والحج وغير ذلك وعند عقد النكاح فبضمها. وقوله: ولا تسأل المرأة. إلى آخره، يروى مرفوعًا أيضًا ومجزوما، وكسر اللام لالتقاء الساكنين، ومعناه نهي المرأة الأجنبية أن تسأل الزوج الطلاق لزوجته، وأن ينكحها ويصير لها من النفقة والمعروف والمعاشرة ونحوها ما كان للمطلقة، فعبر عن ذلك بالإكفاء، لما كان في الصحفة من باب التمثيل، كأن ما ذكر لما كان معدودا للزوجة فهو في حكم ما قد جمعته في الصحفة لتستمع به، فإذا ذهب عنها فكأنها قد كفأت الصحفة وخرج ذلك منها، فعبر عن ذلك المجموع المركب بالمركب المذكور للشبه بينهما. قال الكسائي: كفأت الإناء كببته، وكفأته وأكفأته أَمَلته. وفي

"المصباح" (¬1) كفأته كَفْأً من باب [نفع] (أ)، أي: كببته، أي: قلبته على رأسه، وقد يكون بمعنى أملته. انتهى. والمراد بأختها غيرُها؛ سواء كانت من النسب أو أختها في الإسلام. ولعله يأتي في التقييد هنا مثل ما مر، والله أعلم. 646 - وعن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "مَنْ فَرَّق بين والدة وولدها فرَّق الله بينه وبين أحبته يوم القيامة". رواه أحمد وصححه الترمذي والحاكم (¬2)، لكن في إسناده مقال، وله شاهد. الحديث المقال في إسناده من جهة حيي بن عبد الله المعافري مختلف فيه (¬3)، وله طريق أخرى عند البيهقي (¬4) غير متصلة من طريق العلاء بن كثير الإسكندراني عن أبي أيوب، ولم يدركه، وله طريق أخرى عند الدارمي في "مسنده" (ب) كتاب "السنن (¬5) ". وفي الباب ¬

_ (أ) في الأصل، ب: منع. (ب) زاد في ب: في.

من حديث عبادة بن الصامت: "لا يفرق بين الأم وولدها". قيل: إلى متى؟ قال: "حتى يبلغ الغلام وتحيض الجارية". أخرجه الدارقطني والحاكم (¬1)، وفي سنده عندهما عبد الله بن عمرو الواقعي (¬2) وهو ضعيف، رماه علي بن المديني بالكذب، وتفرد به عن سعيد بن عبد العزيز. قال الدارقطني (¬3). وفي "صحيح مسلم" (¬4) من حديث سلمة بن الأكوع في الحديث الطويل الذي أوله: خرجنا مع أبي بكر فغزونا فزارة. الحديث. وفيه: وفيهم امرأة ومعها ابنة لها من أحسن العرب، فنفلني أبو بكر ابنتها، فطلبها النبي - صلى الله عليه وسلم - مني وأرسل بها إلى مكة ليفادى بها أسارى من المسلمين. فيستدَل به على جواز التفريق، وبوب عليه أبو داود (¬5)، والظاهر أن البنت قد كانت بلغت؛ ولذا احتج به فيما ذكر. وكذا قال في "المنتقى" (¬6): هو حجة في جواز التفريق بعد البلوغ. والحديث فيه دلالة على تحريم التفريق بين الوالدة وولدها، وظاهره عام في الملِك أو في الجهات. والظاهر أنه لم يذهب إلى هذا العموم أحد. ومثله: ¬

_ (¬1) الدارقطني 3/ 68، والحاكم 2/ 55. (¬2) عبد الله بن عمرو بن حسان الواقعي، قال أبو حاتم: ليس بشيء، ضعيف الحديث، كان لا يصدق. وكذبه الدارقطني. الجرح والتعديل 5/ 119، ولسان الميزان 3/ 320. (¬3) الدارقطني 3/ 68. (¬4) مسلم 3/ 1375 ح 1755. (¬5) أبو داود 3/ 64. (¬6) منتقى الأخبار كما في نيل الأوطار 5/ 194.

"لا تُوَلَّهُ والدة بولدها" (¬1). فيحمل ذلك على التفريق في الملك بالبيع كما هو صريح في حديث على الآتي، وهو نصٌّ في البيع (أ)، ويقاس عليه سائر الإنشاءات؛ كالهبة والنذر، وهو ما كان باختيار المفرق. أما التفريق بالقسمة فليس باختياره، فإن سبب المِلك قهري وهو الميراث، ويدل بظاهره على صحة الإخراج عن المِلك؛ لوقوع التفريق المستحق صاحبه للعقوبة، فلو كان لا يصح الإخراج عن المِلك لم يتحقق التفريق، وسيأتي استيفاء الكلام في الذي بعده. وظاهر الحديث [عدم] (ب) التفريق ولو بعد البلوغ. قال في "الغيث" (¬2): ولكنه خصه الإجماع في الكبير كما في العتق، ولعل مستند الإجماع إن صحَّ حديث عبادة بن الصامت، وهو متأيد وإن كان ضعيفًا بحديث مسلم المار. وعند المنصور بالله وأحد قولي الناصر حدُّ التحريم إلى سبع سنين، وكأنهما أخذا ذلك من الحضانة، لا وجه له. والنص ورد في الوالدة وولدها والأخوين، ويقاس سائر الأرحام المحارم على ذلك بجامع الرحامة: والعتق. 647 - وعن علي رضي الله عنه قال: أمرني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن أبيع غلامين أخوين، فبعتهما ففرَّقت بينهما. فذكرت ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: ¬

_ (أ) في جـ: المبيع. (ب) في الأصل، جـ: عموم.

"أدركهما فارتجعهما، ولا تبعهما إلا جميعًا". رواه أحمد ورجاله ثقات، وقد صححه ابن خزيمة وابن الجارود وابن حبان والحاكم والطبراني وابن القطان (¬1). الحديث أخرجوه من رواية الحكم بن عتيبة عن عبد الرحمن بن أبي ليلي، لكن حكى ابن أبي حاتم عن أبيه في "العلل" (¬2) أن الحكم إنما سمعه من ميمون بن أبي شبيب عن علي، وميمون لم يدرك عليًّا. وقال الدارقطني في "العلل" (¬3) بعد حكاية الخلاف فيه: لا يمتنع أن يكون الحكم سمعه من عبد الرحمن ومن ميمون، فحدث به مرة عن هذا ومرة عن هذا. والحديث فيه دلالة على أن هذا البيع باطل أو فاسد، فإن الارتجاع يصح فيهما. وقد ذهب إلى الأول الشافعي في أخير قوليه، والسيد يحيى من مفرعي مذهب الهادي، وذهب الفقيه يحيى من المفرعين أيضًا إلى أنه فاسدٌ، وذهب أبو حنيفة وقول الشافعي القديم (¬4) إلى أنه ينعقد مع العصيان. ولعل حجتهم ما أشير إليه في الحديث الأول، والأمر بالارتجاع للغلامين يحتمل أن يكون ذلك بعقد جديد برضا المشتري، والله أعلم. فائدة: وفي البهيمة وولدها وجهانِ؛ لا يجوز؛ لنهيه - صلى الله عليه وسلم - عن تعذيب ¬

_ (¬1) أحمد 1/ 97, 127، وابن الجارود، كتاب البيوع 2/ 162 ح 575، والحاكم، كتاب البيوع 2/ 54، وكتاب الجهاد 2/ 125، وابن القطان -كما في نصب الراية 4/ 26. (¬2) علل ابن أبي حاتم 1/ 386. (¬3) علل الدارقطني 3/ 274. (¬4) الذي في المجموع 9/ 444 في التفريق بين الأخ وسائر محارمه، فالمذهب أنه يكره ولا يحرم، ولم يتعرض للقديم، وينظر روضة الطالبين 10/ 258.

البهائم. ويجوز كالذبح، وهو الأصح، بخلاف الآدمي للحرمة، والله أعلم. 648 - وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: غلا السعر بالمدينة على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال الناس: يا رسول الله، غلا السعر فسعِّر لنا. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله هو المسعِّر القابض الباسط الرازق، إني لأرجو أن ألقى الله وليس أحد منكم يطلبني بمظلِمة في دم ولا مال". رواه الخمسة إلا النسائي، وصححه ابن حبان (¬1). وأخرجه ابن ماجه والدارمي والبزار وأبو يعلى من طريق حماد بن سلمة عن ثابت وغيره [عن] (أ) أنس (¬2)، وإسناده على شرط مسلم، وصححه الترمذي أيضًا. ولأحمد وأبي داود (¬3) من حديث أبي هريرة: جاء رجل فقال: يا رسول الله، سعِّر. فقال: "بل أدعو الله". ثم جاء آخر فقال: يا رسول الله، سعِّر. فقال: "بل الله يخفض ويرفع". وإسناده حسن. ولابن ماجه والبزار والطبراني في "الأوسط" (¬4) من حديث أبي سعيد نحو ¬

_ (أ) في النسخ: وعن. والمثبت يقتضيه السياق.

حديث أنس، وإسناده حسن أيضًا، وللبزار (¬1) من حديث علي نحوه، وعن ابن عباس في "الطبراني الصغير" (¬2)، وعن أبي جحيفة في "الكبير" (¬3)، وأخرجه ابن الجوزي في "الموضوعات" (¬4) من حديث علي، وقال: إنه حديث لا يصح. الغلاء [ممدود] (أ): هو ارتفاع الثمن على ما يعتاد. وقوله: "إن الله هو المسعِّر". يعني أن الله سبحانه يفعل ذلك هو وحده بإرادته، فإذا أراد ارتفاع السعر ارتفع، وإذا أراد انحطاطه انحط. والقابض المقتر، والباسط الموسع. وفي تقديم القابض على الباسط هنا وفي قوله تعالى: {وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ} (¬5). تأنيس لذي الحاجة لرجاء اليسر بعد العسر الذي هم فيه. والحديث فيه دلالة على أن التسعير مظلمة؛ لقوله: "وليس أحد منكم يطلبني بمظلِمة". لكون (ب) الجواب عن السؤال الذي سألوه عنه، وهو التسعير. والظاهر أن ذلك في القوت، وإذا كان مظلِمة فهو غير جائز، وقد ذهب إلى هذا جمهور العلماء. وعن مالك أنه يجوز للإمام التسعير ولو في ¬

_ (أ) في النسخ: مقصور. وهو خطأ، ينظر تهذيب اللغة 8/ 190، واللسان والتاج (غ ل و). (ب) في ب، جـ: ليكون.

القوتين (¬1). وقال في "شرح القُدُوري": لا ينبغي للسلطان أن يسعِّر علي الناس، وإذا رفع هذا الأمر إلى القاضي واضطرت الناس، فإنه يأمر المحتكر بالبيع لما فضل عن قوته وقوت أهله، وإذا خاف الإمام على أهل المصر الهلاك أخذ الطعام من المحتكر وفرقه عليهم، فإذا وجدوا ردوا مثله. انتهى. وعند الهدوية أنه يكلَّف البيع، فإن لم يبع باع عنه الإمام والحاكم. وقال الإمام شرف الدين: إن المحتكر إذا طلب زيادة على قيمة وقته سَعّر عليه، وإلا أدى إلى أن يَقصد الضرار بأن يرسم ثمنه ما لا يَقدر عليه. وذكر مثل هذا القاضي عبد الله الدواري: وإن جهل ثمن مثله كان إلى نظر الحاكم؛ بأن يقيسه على ما مضى في مثل هذه الشدة، وإن زادت زاد، وإن نقصت نقص. وهذا قريب من قول مالك. وأما في غير القوتين فقال الإمام المهدي في "الغيث": إنه استصلح الأئمة المتأخرون تقدير سعر ما عدا القوتين في بعض الأحوال؛ كاللحم والسمن، رعاية لمصلحة الناس ودفع الضرر عنهم. والحديث يرد على الجميع. 649 - وعن معمر بن عبد الله عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يحتكر إلا خاطئ". رواه مسلم (¬2). هو معمر -بفتح الميم وسكون العين وفتح الميم- بن عبد الله، من بني عدي بن كعب، القرشي العدوي، ويقال له: معمر بن أبي معمر. أسلم قديمًا، وهاجر إلى الحبشة، وتأخرت هجرته إلى المدينة، ثم هاجر إليها وسكن فيها، وحديثه في أهل المدينة، روى عنه سعيد بن المسيب وبُشر - ¬

_ (¬1) يعني بالقوتين قوت الناس وقوت البهائم. ينظر حاشية ابن عابدين 6/ 400، وما سيأتي في ص 116. (¬2) مسلم، كتاب المساقاة، باب تحريم الاحتكار في الأقوات 3/ 1228 ح 1605/ 130.

بضم الباء الموحدة وسكون المهملة- بن سعيد (¬1). [والحديث] (أ) أخرجه الترمذي (¬2) أيضًا. وفي الباب عن أبي هريرة، أخرجه الحاكم (¬3) بلفظ: "من احتكر يريد أن يغالي بها المسلمين فهو خاطئ، وقد برئ منه ذمة الله". ومن حديث ابن عمر: "الجالب مرزوق، والمحتكر ملعون". أخرجه ابن ماجه والحاكم وإسحاق والدارمي وأبو يعلى والعقيلي في "الضعفاء" بإسناد ضعيف (¬4). ومن حديث ابن عمر: "من احتكر الطعام أربعين ليلة فقد برئ من الله وبرئ الله منه". أخرجه أحمد والحاكم وابن أبي شيبة والبزار وأبو يعلى (¬5)، زاد الحاكم: "وأيما أهل عرصة أصبح فيهم امرؤ جائع فقد برئت منهم ذمة الله". وفي إسناده أصبغ بن زيد اختلف فيه (¬6)، وكثير بن مرة (¬7) جهله ابن ¬

_ (أ) في النسخ: الحديث و. والمثبت يقتضيه السياق.

حزم وعرفه غيره، وقد وثقه ابن سعد، وروى عنه جماعة، واحتج به النسائي، وأخرجه ابن الجوزي في "الموضوعات" (¬1). قال المصنف (¬2): وقد وهم. و (أ) أبو حاتم قال (ب) (¬3): هو منكر. حكاه عنه ابنه. وغير ذلك من الأحاديث. والاحتكار هو أن يشتري الشيء ليبيعه في وقت غلائه، وظاهر الحديث يدل على منع الاحتكار مطلقا؛ سواء كان في الأقوات أو في غيرها، وذهب إلى هذا العموم أبو يوسف، فقال: كل ما أضر بالناس حبسُه فهو احتكار، وإن كان ذهبًا أو ثيابًا. وعن محمد أنه لا احتكار في الثياب، وإنما هو في الحنطة والشعير والتمر (جـ) الذي هو قوت الناس. وقريب منه قول أبي حنيفة. وكذا قوت البهائم، ومذهب الهدوية أنه في قوت بني آدم وقوت البهائم، وكذا في مذهب الشافعية؛ قال أصحاب الشافعي: الاحتكار المحرم هو الاحتكار في الأقوات خاصة؛ وهو أن يشتري الطعام في وقت الغلاء للتجارة ولا يبيعه في الحال، بل يدخره ليغلو ثمنه، فأما إذا اشتراه أو جاءه من قريته في وقت الرخص وادخره، أو ابتاعه في وقت الغلاء لحاجته إلى أكله، أو ابتاعه ليبيعه في وقته، فليس باحتكار، ولا تحريم فيه. كذا ذكره النووي (¬4). ¬

_ (أ) ساقط من: ب. (ب) في جـ: وقال. (جـ) في ب: والتمر.

واعلم أن الأحاديث الواردة في الباب وردت مطلقة ومقيدة بالطعام، وما كان على هذا المنوال فالواجب عند الجمهور إلَّا يقيَّد المطلق بالمقيَّد؛ لعدم التعارض بينهما، بل يبقى المطلق على إطلاقه، إلا عند أبي ثور، فإنه يحمل المطلق على المقيد، فكان الأَولى العمل بالإطلاق في تحريم الاحتكار، ولا يقيد بالقوتين إلا أن ينظر إلى الحكمة المناسبة للتحريم، وهي دفع الضرر عن عامة الناس، والأغلب في دفع الضرر عن العامة إنما يكون في القوتين، فيقيد الإطلاق بالمناسب. وقد احتيج إلى ذلك في كثير من العمومات والمطلقات، ولعل ذلك هو الحامل للأكثر إلى تقييد الاحتكار في القوتين، ولا يصح أن يكون التقييد وقع بمذهب الصحابي الراوي كما أخرج مسلم (¬1) عن سعيد بن المسيب أنه كان يحتكر، فقيل له: فإنك تحتكر. فقال: إن معمرًا راوي الحديث كان يحتكر. قال ابن عبد البر وآخرون (¬2): كانا يحتكران الزيت. فظاهر جواب سعيد التقييد بمذهب الصحابي، وهو يحتمل أن معمرًا وسعيدًا قيَّداه بالقوتين كمذهب الجمهور. وقوله: "إلا خاطئ". الخاطئ بالهمز هو العاصي الآثم، وهو صريح في التحريم. والله أعلم. 650 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تُصَروا الإبل والغنم، فمن ابتاعها بعد فهو بخير النظرين بعد أن يحلبها؛ إن شاء أمسك، وإن شاء ردها وصاعًا من تمر". متفق عليه (¬3). ¬

_ (¬1) مسلم 3/ 1227 ح 1605/ 129. (¬2) ينظر الاستذكار 20/ 72، وشرح مسلم 11/ 43. (¬3) البخاري، كتاب البيوع، باب النهي للبائع ألا يحفل الإبل والبقر والغنم وكل محفلة 4/ 361 ح 2148، ومسلم، كتاب البيوع، باب تحريم بيع الرجل على بيع أخيه وسومه على سومه وتحريم النجش وتحريم التصرية 3/ 1155 ح 1515/ 11.

ولمسلم (¬1): "فهو بالخيار ثلاثة أيام". وفي رواية له علقها البخاري (¬2): "ورد معها صاعًا من طعام لا سمراء". قال البخاري: والتمر أكثر. قوله: "لا تُصَروا". هو بضم التاء وفتح الصاد بوزن تُزَكُّوا من صرّى يُصرّي كزُكَّى يُزَكِّي، و"الإبل" مفعوله، وضبطه بعضهم بفتح أوله وضم ثانيه من صَرَّ يَصُر. والأول أصح، أنه من صريت اللبن في الضرع إذا جمعته، وليس من: صررت الشيء إذا ربطته، يدل عليه اسم المفعول، فإنه قيل: مصرَّاة. ولم يُقل: مصرورة. وإن كان المعنيان ثابتين في اللغة. وبعضهم ضبطه بضم أوله وفتح ثانيه بغير واو على البناء للمجهول ورفع الإبل. والمصراة: التي صُرِّي لبنها وحُقِن فيه وجُمع فلم يحلب أياما. وأصل التصرية حبس الماء؛ يقال منه: صَرَّيتُ الماء. إذا حبستَه، وكذا قال البخاري، وهو قول أبي [عبيد] (أ) وأكثر أهل اللغة (¬3). وقال الشافعي (¬4): هو ربط أخلاف الناقة أو الشاة وترك حلبها حتى يجتمع لبنها فيكثر، فيظن المشتري أن ذلك عادتها. وقوله: "الإبل والغنم". لم يذكر البقر، والحكم واحد، ولذلك ترجم البخاري الباب بباب النهي للبائع ألا يحفِّل الإبل والغنم والبقر، ولعله لم يذكر في الحديث لغلبة التصرية عندهم فيهما. ¬

_ (أ) في النسخ: عبيدة. والمثبت من معالم السنن 3/ 112، وفتح الباري 4/ 362.

وقوله: "لا تصروا". ظاهره النهي عن التصرية مطلقًا، وقد جزم به بعض الشافعية، لما فيه من إيذاء الحيوان، وقد ورد تقييد ذلك في رواية النسائي (¬1): "لا تصروا الإبل والغنم للبيع". وفي رواية له (¬2): "إذا باع أحدكم الشاة أو اللقحة فلا يحفِّلها". وهذا هو أرجح عند الجمهور، ويدل عليه التعليل بالغرر والتدليس، وبأن إيذاء الحيوان لا يصلح علة للنهي، لما (أ) فيه من الضرر اليسير الذي لا يستمر فيغتفر لتحصيل المنفعة. وقوله: "فمن ابتاعها". أي اشتراها. وقوله: "بخير النظرين". أي الرأيين. وقوله: "بعد أن يحلبها". كذا في رواية ابن خزيمة والإسماعيلي، و "بعد" ظرف زمان مضاف إلى "أن يحلبها"، وفي رواية بحذف "بعد" و "إن يحلبها" بكسر "إن". على الشرطية وجزم "يحلبها"، وظاهره أن الخيار لا يثبت إلا بعد الحلب، ولو ظهرت التصرية بغير الحلب فالخيار ثابت. وقوله: "إن شاء أمسك". أي أبقاها على ملكه، وهو يقضي بصحة بيع المصراة وثبوت الخيار. وقوله: "وإن شاء رَدَّ". في الحديث دلالة على أن الرد بالتصرية فوري؛ لأن الفاء في قوله: "فهو بخير النظرين". تدل على التعقيب من دون تراخٍ، وقد ذهب إلى هذا بعض الشافعية، وذهب البعض منهم والهادي والناصر إلى أن الرد على التراخي، ونقل أبو حامد والرُّوياني على ذلك نص الشافعي (¬3) إلى أنه على التراخي، محتجين برواية: "فله الخيار ¬

_ (أ) في جـ: بما.

ثلاثا" (¬1). وهي مقدمة علي رواية الإطلاق. وأجاب الأولون بأن هذه الرواية محمولة على ما إذا لم يعلم أنها مصراة إلا في الثلاث، لكون الغالب أنها لا تُعلَم في دون ذلك، لجواز النقصان باختلاف العلف ونحوه. قال المصنف رحمه الله تعالى (¬2): ويؤيده أن في بعض روايات أحمد والطحاوي (¬3) من طريق ابن سيرين عن أبي هريرة: "فهو بأحد النظرين بالخيار إلى أن يحوزها أو يردها". واختلفوا في ابتداء الثلاثة الأيام، فقالت الحنابلة: هي من بعد بيان التصرية. وعند الشافعية هي من عند العقد، وقيل: من التفرق. ويلزم على هذا أن يكون الفور أوسع من الثلاث في بعض الصور، وهو ما إذا تأخر بيان التصرية إلى آخر الثلاث، ويلزم عليه أن تحسب المدة قبل التمكن من الفسخ، وأن يفوت المقصود من التوسع بالمدة. وقوله: "وصاعًا من تمرٍ". منصوب عطفا على الضمير المفعول في "ردها"، ولا يصح ذلك ظاهرًا؛ لأن الصاع مغروم ابتداءً لا مردود، فيتخرج على العطف بتقدير ما يصح معه المعنى [لظهوره] (أ)، فيقدر: وأعط صاعًا. مثل قوله (¬4): ¬

_ (أ) في النسخ: لظهور. والمثبت يقتضيه السياق.

* علفتها تبنًا وماءً باردًا * بتقدير: أسقيت. ويجوز أن يكون مفعولا معه على ما ذهب إليه بعضهم من صحة مصاحبته للمفعول به. واعلم أن ظاهر الحديث أن الواجب رد صاع واحد ولو تعددت المصراة، وإن اشتراها صفقتين تعدد الصاع، وإن اشتراها صفقة واحدة؛ فنقل ابن قدامة الحنبلي (¬1) عن الشافعي تعدد الصاع بتعددها، وذهب ابن حزم (¬2) إلى عدم التعدد، وقال ابن عبد البر (¬3): لا يجب في لبن شياه أو نوق أو بقر عدة إلا الصاع. وإذا كان اللبن باقيًا فذهبت الهدوية إلى أنه يتعين ردُّه، وسيأتي قريبا. وللشافعي وجهان: يجب، لأنه أقرب إلى مستحقه. والثاني: لا، لأن طراوته ذهبت، ولا (أ) يلزم البائع قبوله. واتباع لفظ الحديث أولى. والحديث يدل على أنه يثبت الخيار بالتصرية فيما ذكر من الإبل والغنم، واختلف العلماء القائلون بالرد، هل يقصر على ذلك أو يلحق به غيره؛ فذهب داود إلى الاقتصار على ذلك، وقالت الحنابلة وبعض الشافعية: يختص ذلك بالنعم. فزادوا البقر، فكأنهم جمعوا في الحكم بينها بالقطع بنفي الفارق، وكأن الوارد بناء على ما كان أغلب في ذلك العصر، وبعضهم عمم الحكم في مأكول اللحم، وأشار إلى ذلك البخاري؛ حيث ترجم الباب بباب النهي للبائع ألا يحفِّل الإبل والغنم والبقر وكل محفّلة. ¬

_ (أ) في ب: فلا.

والتحفيل بالحاء المهملة والفاء التجميع، تقول: ضرع حافل. أي عظيم، واحتفل القوم؛ إذا كثر (أ) جمعهم، ومنه سمي المَحْفِل، فعطْفُ ذلك من عطف العام على الخاص؛ لإلحاق غير النعم فيه من مأكول اللحم بالنعم. واختلفوا في غير المأكول كالأتان والجارية، فالأصح ثبوت الرد، إذ اللبن مقصود، ولا يرد به عوض، وبه قالت الحنابلة في الأتان دون الجارية. وقوله: في رواية علقها البخاري. يعني [عن] (ب) ابن سيرين ووصلها مسلم عنه. وقوله: "صاعًا من طعام لا سمراء". اختلفت الرواية عن ابن سيرين في تفسير السمراء؛ فأخرج الطحاوي (¬1) من طريق أيوب عن ابن سيرين، أن المراد بالسمراء الحنطة الشامية. وروى ابن أبي شيبة (¬2) وأبو عوانة (¬3) من طريق هشام بن حسان عن ابن سيرين: "لا سمراء". يعني الحنطة. وروى ابن المنذر (¬4) من طريق ابن عون عن ابن سيرين، أنه سمع أبا هريرة يقول: "لا سمراء". أي: ليس بِبُرٍّ. وقد اختلفت أيضًا الروايات في الحديث؛ فجاء عن ابن سيرين على أربع روايات، ذكر التمر والخيار ثلاثًا، وذكر التمر بدون الثلاث، والطعام مع ¬

_ (أ) في ب: كبر. (ب) في الأصل، ب: على.

الثلاث وبدونها. وأخرج البزار (¬1) من طريق أشعث بن عبد الملك عن ابن سيرين بلفظ: "إن ردّها ردّها ومعها صاع من بُر لا سمراء". وهذه الرواية تعارض التصريح بالتمر معارضة واضحة دون رواية الطعام، لأن الطعام يحتمل أن يراد به التمر. وأتبعه بقوله: "لا سمراء". لئلا يتوهم أن المراد بالطعام القمح، ويراد بالسمراء معنى القمح المطلق لا النوع المخصوص، ولكنه يبعده رواية أحمد (¬2) بإسناد صحيح عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن رجل من الصحابة نحو حديث البخاري، وفيه: "وإن ردها ردّ معها صاعًا من طعام أو صاعًا من تمر". فإن العطف بـ: "أو" يقتضي التخيير بين التمر والطعام، ومن لازِمِه أن يكون غيره. إلا أنه يحتمل أن تكون "أو" شكًّا من الراوي لا [تخييرًا] (أ) في الحكم، فيُرجَع إلى الروايات التي لا احتمال فيها، وهي رواية التمر، ولذلك قال البخاري: والتمر أكثر. والكثرة مرجحة، ويندفع بهذا ما قال بعض الحنفية: إن هذا الاختلاف قادح في العمل بالحديث. فإن الكثرة من وجوه الترجيح. وأما ما أخرجه أبو داود (¬3) من حديث ابن عمر بلفظ: "إن ردَّها رد معها مثل أو مثلي لبنها قمحًا". ففي إسناده ضعف. وقال ابن قدامة (¬4): إنه متروك الظاهر بالاتفاق. ¬

_ (أ) في النسخ: تخيير. والمثبت من الفتح 4/ 364.

والحديث فيه دلالة على أنه يرد بدل اللبن الصاع. وقد ذهب إلى هذا جمهور أهل العلم، وأفتى به ابن مسعود (¬1) وأبو هريرة (¬2)، ولا مخالف من الصحابة. وقال به من التابعين ومن بعدهم [من] (أ) لا يحصى عدده، وسواء كان اللبن قليلا أو كثيرا والتمر قوتا في البلد أو لا. وقال زفر: يتخير بين صاع تمر أو نصف صاع بر. وقال به ابن أبي ليلى وأبو يوسف في رواية، [وقالا] (ب): تصح قيمة الصاع من التمر. وفي رواية (جـ) عن مالك وبعض الشافعية كذلك؛ إلا أنهم قالوا: يتعين قوت البلد قياسًا على زكاة الفطر. وحكى البغوي اتفاق الشافعية أنه يصح التراضي بغير التمر من قوت أو غيره، وأثبت ابن كَجٍّ الخلاف في ذلك، وحكى الماوردي الخلاف فيما إذا عجز عن التمر، هل يلزم قيمته ببلده أو بأقرب البلاد إليه التي فيها التمر؟ وبالثاني قال الحنابلة. وذهبت الهدوية إلى أنه يجب رد اللبن بعينه إن كان باقيا، أو مثله إذا كان تالفا، أو قيمته يوم الرد حيث لم يوجد المثل، وفي مذهب الهدوية خلاف؛ هل اللبن مثلي أو قيمي؟ والخلاف للحنفية في أصل المسألة، وقالوا: لا يرد بعيب التصرية، ولا يجب رد الصاع من التمر، واعتذروا عن حديث المصراة بأعذار شتى؛ فمنهم من طعن في رواية أبي هريرة، وأنه لم يكن كابن مسعود وغيره من ¬

_ (أ) في الأصل: ما. (ب) في النسخ: وقال: لا. والمثبت موافق لما في الفتح 4/ 364. (جـ) زاد في النسخ: عمر. والمثبت من الفتح 4/ 364.

فقهاء الصحابة، فلا يؤخذ من روايته ما خالف القياس الجلي. وهو كلام بيّن الضعف، ساقط عن الاعتبار، مفصح بخذلان قائله وتنكبه عن سواء الصراط، فإن أبا هريرة هو المتسع (أ) في العلوم النبوية الذي دعا له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبسط رداءه للعلم، وحفظ وعاءً من العلم، والإقدام على الطعن على مثله من الأعلام بدعة وضلالة، وقد اعتذر أبو هريرة عن انفراده بغرائب العلوم واللطائف حيث قال: إن إخواني من المهاجرين كان يشغلهم الصفق بالأسواق، وكنت ألزم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأشهد إذا غابوا، وأحفظ إذا نسوا (¬1). مع أنه قد شارك أبا هريرة غيره في هذا الحديث؛ فأخرجه أبو داود (¬2) عن ابن عمر، وكذا الطبراني (¬3) وأبو يعلى (¬4) من حديث أنس، والبيهقي في "الخلافيات" (¬5) من حديث عمرو بن عوف المزني، وأحمد (2) من رواية رجل من الصحابة، وقال ابن عبد البر (¬6): هذا الحديث مجمع على صحته وثبوته من حيث النقل. ومنهم من أعله بالاضطراب، والجواب أن الطرق الصحيحة لا اضطراب فيها، ورواية التمر أكثر، فكان الترجيح لها. ومنهم من قال: إنه معارض لقوله تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ ¬

_ (أ) في ب: المنبع.

مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} (¬1). ويجاب عنه بأن ذلك هو مثل، بالنظر إلى أنه عوض عن المتلف، إلا أنه جُعل على مقياسٍ واحد؛ دفعا للشجار لو لم يكن كذلك، [إذ] (أ) يحصل التشاجر في مقدار الحليب، والاحتياط في قدره لا يكاد يتم، إذ الآخذ (ب) في الأغلب يتلف (جـ) الحليب عقيب حلبه؛ لعدم معرفته للتصرية، وإنما ينكشف من بعد، فضبط بهذا الضابط الذي لا يختلف، ولهذا نظائر في الشرع في أروش الجنايات من غير نظر إلى كيفية الجناية من الكبر والصغر. ومنهم من قال: هو منسوخ بحديث ابن عمر؛ النهي عن بيع الدين بالدين. أخرجه ابن ماجه وغيره (¬2). ووجه الدلالة أن لبن المصراة يصير دينًا في ذمة المشتري، فإذا ألزم بصاع من تمر نسيئة صار دينًا بدين. وهو للطحاوي (¬3). وأجيب بأن الحديث ضعيف باتفاق المحدثين، وبأن ذلك ليس مما ذكر؛ فإنه يرده مع المصراة حاضرا وليس بنسيئة، وتعلقه بذمة الراد [قبل الرد] (د) ليس بيعا، إذ لا يكون البيع إلا برضا من له ¬

_ (أ) في الأصل، ب: إذا. (ب) في جـ: لا حد. (جـ) في جـ: بتلف. (د) ساقط من: الأصل، ب.

الحق (أإذا ألزمه أ) بقبض ذلك عند الحضور. ومنهم من قال: ناسخه حديث: "الخراج بالضمان". أخرجه أصحاب "السنن" (¬1) عن عائشة، ووجه الدلالة منه أن اللبن فضلة من فضلات المصراة، ولو هلكت المصراة لكان من ضمان المشتري، فكذلك فضلاتها. والجواب بأن المغروم هو ما كان فيها قبل البيع مُصَرّى، لا الحادث بعد البيع. ومنهم من قال: ناسخه الأحاديث الواردة في [رفع] (ب) العقوبة بالمال، وقد كانت مشروعة قبل ذلك. وأجيب بأنه لا عقوبة على المشتري، فإن التصرية من البائع. ومنهم من قال: ناسخه حديث: "البيعان بالخيار ما لم يتفرّقا" (¬2). قاله محمد بن شجاع، ووجه الدلالة أن التفرق يقطع الخيار، وظاهر الخيار العموم، فيعم خيار المصراة وغيرها. ويجاب بأن الحنفية لم يقولوا بمضمون هذا الحديث ولم يثبتوا خيار المجلس، فكيف يحكمون بنسخه؟ وبأنهم يثبتون خيار العيب بعد التفرق، ويجاب عن الأول بأنهم إنما تأولوا التفرق بأن المراد به تفرق الأقوال، بأن يتم اللفظان فينبرم العقد، فيراد بالخيار هو الرجوع عن أحد الركنين قبل حصول الآخر، وبه يندفع الثاني أيضًا. ومنهم من قال: هو خبر واحد يفيد الظن، وهو مخالف لقياس الأصول المقطوع به، وذلك لأنه تقرر وعلم من الأدلة أن ضمان المتلف إن كان مثليًّا ¬

_ (أ- أ) في جـ: أو إلزامه. (ب) في الأصل: دفع.

فبالمثل، وإن كان قيميًّا فبالقيمة، فاللبن إن كان مثليًّا ضمن بمثله، وإن كان قيميًّا قوِّم بأحد النقدين وضمن (أ) بذلك، فكيف يضمن بالتمر أو [البر] (ب)؟ أيضًا فإنه كان الواجب أن يختلف الضمان بتقدير اللبن، ولا يقدَّر الصاع قلّ أو [كثر] (جـ). والجواب عنه بأن رد الخبر لمخالفته لقياس الأصول غير مسلم؛ لأن خبر الواحد هو من جملة الأصول التي تثبت بها الأحكام، وإنما كان يُرد لو خالف نصًّا قطعيًّا، فإنه يطرح لئلا يعمل بالمظنون ويترك المقطوع، وأما مخالفته لقياس الأصول فلا؛ فإن القياس هنا متضمن للعموم في جميع المتلفات، وهذا خاص، والخاص مقدم على العام، على أنه غير مسلم القياس الذي ذكر على عمومه، فإن الدية قد فرضت من الإبل والغنم والبقر وليست من أي المذكورين، وأيضًا فإنه إذا أتلف شاة فيها لبن فإن ضمانها بالتقويم، ولا يضمن اللبن الذي فيها بالمثل، وبأنه إنما سلك في ذلك بتقدير الصاع لقطع التشاجر؛ لعدم الوقوف علي حقيقته، لجواز الاختلاط بالحادث بعد البيع، فقطع الشارع النزاع وقدره بحدٍّ لا يبعد دفعًا للخصومة، وقدره بأقرب شيء إلى اللبن، فإنهما كانا قوتًا في ذلك الزمان، ولهذا نظائر، وهو في ضمان الجنايات كالموضحة، فإن أرشها مقدر مع الاختلاف في الكبر والصغر، والغرة في الجنين مع اختلافه، والحكمة في ذلك جميعه دفع التشاجر. قالوا: و (د) خالف قياس الأصول من حيث إن اللبن التالف إذا كان ¬

_ (أ) في جـ: فضمن. (ب) في الأصل، ب: اللبن و. (جـ) في الأصل، ب: أكثر. (د) زاد في جـ: ما.

موجودًا عند العقد فقد نقص جزءٌ من المبيع فيمتنع الرد، وإن كان حادثا عند المشتري فهو غير مضمون، ومن حيث إنه جعل الخيار فيه ثلاثًا مع أن خيار العيب لا يقدر بالثلاث، وكذا خيار المجلس وخيار الرؤية، ومن حيث إنه لو باع شاة بصاع تمر ثم ردها وصاعًا، فقد استحقها البائع وثمنها، ويلزم في هذه الصورة الربا، فإنه لو ردَّ الشاة وصاعًا، والبائع يرد له الصاع، فكأنه باع شاةً وصاعًا بصاع. ومن حيث إنه يلزم منه ضمان الأعيان مع بقائها حيث كان اللبن موجودًا. ومن حيث إنه يلزم [منه] (أ) إثبات الرد بغير عيب؛ لأنه لو كان نقصان اللبن عيبا لثبت به الرد من دون تصرية ولا شرط؛ لأنه لم يشرط الرد. وأجيب عن الأول بأن النقص إنما يمنع الرد إذا لم يكن لاستعلام العيب، وهو هنا لاستعلام العيب فلا يمنع. وعن الثاني بأن المصراة انفردت بالمدة المذكورة؛ لأنه لا يتبين حكم التصرية في الأغلب إلا بها بخلاف غيرها. وعن الثالث بأنه إنما استحق الصاع عوض اللبن لا عوض الشاة. وعن الرابع بأن الربا إنما يعتبر في العقود لا في الفسخ. وعن الخامس بأنه غير موجود متميز؛ لأنه مختلط باللبن الحادث، فقد تعذر ردّه بعينه بسبب الاختلاط، فيكون مثل ضمان العبد المغصوب الآبق. وعن السادس بأن الخيار يثبت بالتدليس والتغرير للمشتري، وهو أيضًا في حكم خيار الشرط من حيث المعنى، فإن المشتري لما رأى ضرعها مملوءا، فكأن البائع شرط له أن ذلك عادة لها، وقد ثبت لهذا نظائر مثل ما تقدم في تلقي الجلائب. ومنهم من حمل الحديث على سورة مخصوصة؛ وهو حيث اشترى ¬

_ (أ) ساقط من: الأصل، ب.

بشرط أنها تحلب قدرًا معلومًا وشرط فيها الخيار فالشرط فاسد. قال: فإن اتفقا على إسقاطه في مدة الخيار صحَّ العقد، وإن لم يتفقا بَطَلَ ووجب رد الصاع من التمر؛ لأنه كان قيمة اللبن يومئذ. وأجيب بأن الحديث فيه تعليق الحكم بالتصرية، وهذا القائل بفساد الشرط سواء وجدت التصرية أم لا، فهو تأويل متعسف غير مقبول. قال ابن عبد البر (¬1): هذا الحديث أصل في النهي عن الغش، وفي ثبوت الخيار لمن دلس عليه، وفي أن التدليس لا يفسد أصل العقد، وأن أمد الخيار ثلاثة أيام، وفي تحريم التصرية وثبوت الخيار بها. وقد روى أحمد وابن ماجه (¬2)، عن ابن مسعود مرفوعًا: "بيع المحفّلات خِلابة، ولا تحل الخلابة لمسلم". وفي إسناده ضعف. وقد رواه ابن أبي شيبة وعبد الرزاق [موقوفًا] (أ) بإسناد صحيح (¬3). وروى ابن أبي شيبة (¬4) من طريق قيس بن أبي [حازم] (ب) قال: كان يقال: التصرية خِلابة. وإسناده صحيح. واختلف القائلون بخيار التصرية لو كان عالما بالتصرية، هل يثبت به الخيار؟ فيه وجه للشافعية، الأرجح أنه لا يثبت، وكذا عند الهدوية لا يثبت إلا إذا جهل قدر التصرية. ولو صرّي ثم صار ذلك اللبن عادة هل له الرد؟ فيه وجه لهم، وعند ¬

_ (أ) ساقط من: الأصل، ب. (ب) في النسخ: حاتم. والمثبت من مصدر التخريج. وينظر تهذيب الكمال 24/ 10.

الهدوية لا يثبت الرد أيضًا، والحنابلة تخالف في المسألتين. ولو تصرت بنفسها أو صرّاها المالك لنفسه ثم باعها، فيه خلاف؛ مَن نظر إلى المعنى المقتضي أثبته، ومن نظر إلى أن أحكام التصرية خارجة عن القياس خصه بمورده، وكذا لو كان الضرع مملوءا لحما فظنه المشتري لبنا فاشتراها على ذلك، هل يثبت له الخيار؟ فيه وجهان حكاهما بعض المالكية. وأما لو اشترى غير مصراة وبان فيها عيب بعد الحلب؛ فعند الشافعي يردها مجانا، وعند الهدوية يرده إن كان الفسخ بحكم ويضمن التالف، وإن كان بالتراضي فلا رد. وقال البغويُّ (¬1): يرد صاعًا من تمر. والله أعلم. 651 - وعن ابن مسعود قال: من اشترى شاة محفلة فردّها، فليردّ معها صاعا. رواه البخاري (¬2)، وزاد الإسماعيلي (¬3): من تمر. الحديث أخرجه عن ابن مسعود موقوفًا من رواية يزيد بن زريع عن سليمان التيمي. وهكذا أخرجه الأكثرون عن معتمر بن سليمان التيمي موقوفًا، وأخرجه الإسماعيلي من طريق عبيد الله بن معاذ عن معتمر مرفوعًا، وذكر أن رفعه غلط، وخالف الأكثرين أبو خالد الأحمر فأخرجه عن سليمان التيمي بإسناد الأكثرين مرفوعًا، أخرجه عنه الإسماعيلي (3) وأشار إلى وهمه، وقد اعتمد المصنف رحمه الله قول الأكثرين فوقفه على ابن مسعود كما فعله البخاري. وفي قوله: فليرد معها. أي: بعدها. لأن قوله: فردها. بسبب متقدم. ¬

_ (¬1) الفتح 4/ 368. (¬2) البخاري، كتاب البيوع، باب النهي للبائع ألا يحفل الإبل والبقر والغنم 4/ 361 ح 2149. (¬3) الإسماعيلي -كما في الفتح 4/ 368.

ويحتمل أن معنى "فردها": فأراد ردّها. فتكون "مع" للمعية. وقد تقدم الكلام في ذلك مستوفى. 652 - وعن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مرَّ على صُبرة طعام، فأدخل يده فيها، فنالت أصابعه بللًا فقال: "ما هذا يا صاحب الطعام؟ ". قال: أصابته السماء يا رسول الله. قال: "أفلا جعلته فوق الطعام كي يراه الناس؟ من غش فليس مني". رواه مسلم (¬1). الصُّبْرة، بضم الصاد المهملة وسكون الباء الموحدة، وهي الكومة المجموعة من الطعام، سميت صبرة لإفراغ بعضها علي بعض، ومنه قيل للسحاب فوق السحاب: [صبير] (أ). كذا قاله الأزهري (¬2). وقوله: أصابته السماء. أي المطر. وقوله: "مَنْ غَشَّ فليس مني". بياء المتكلم. قال النووي (¬3): كذا في الأصول وهو صحيح. قال: ومعناه عند أهل العلم: ليس ممن اهتدى بهديي واقتدى بعلمي وعملي وحسن طريقتي. كما يقول الرجل لولده إذا لم يرض فعله: لست مني. وهكذا في نظائره، مثل قوله: "من حمل علينا السلاح فليس مني". وكان سفيان بن عيينة يكره تفسير مثل هذا ويقول: بئس مثل هذا القول. بل يمسك عن تأويله؛ ليكون أوقع في النفوس وأبلغ في الزجر. انتهى. وفي الحديث دلالة على تحريم الغش، وأن (ب) فاعله ليس من المقتدين ¬

_ (أ) في النسخ: صبر. والمثبت من مصدر التخريج. (ب) بعده في جـ: كان.

بالنبي - صلى الله عليه وسلم -. والغش مجمع على تحريمه عند المتَشرعين، مذموم مرتكبه بفطرة العقول. 653 - وعن عبد الله بن بريدة، عن أبيه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من حبس العنب أيام القطاف حتى يبيعه ممن يتخذه خمرا فقد تقحّم النار على بصيرة". رواه الطبراني في "الأوسط" بإسناد حسن (¬1). هو أبو سهل عبد الله بن بريدة بن الحصيب الأسلمي، قاضي مَرْو، تابعيّ من مشاهير التابعين وثقاتهم، سمع أباه وسمرة بن جندب وعمران بن حصين وعبد الله بن مُغَفّل، وروى عنه ابنه سهل وحسين المكَتِّب وعبد الله بن مسلم المروزي الأسلمي، مات بِمَرْوَ، وله عند المَراوِزة حديث كثير. والحديث أيضًا أخرجه البيهقي في "شعب الإيمان" (¬2) من حديث بريدة، وهو بزيادة: "حتى يبيعه من يهودي أو نصراني، أو ممن يعلم [أنه] (أ) يتخذه خمرا، فقد تقدم في النار على بصيرة". والزيادة هي أيضًا في رواية الطبراني. قوله: "أيام القطاف". أي الأيام التي يقطف فيها العنب للانتفاع به. وهو يدل على تحريم البيع المذكور؛ لاستحقاق [البائع] (ب) دخول النار، وهو ¬

_ (أ) في الأصل، ب: أن. (ب) ساقط من: الأصل، ب.

مع القصد محرم إجماعًا، والحديث يدل عليه، وأما من دون قصد، فذهب الهادي إلى جوازه مع الكراهة. وتأوله المؤيد بالله بأن ذلك مع الشك في فعله، وأما إذا علم فهو محرم. ويقاس على ذلك ما كان يستعان به في المعصية. وأما ما كان لا يفعل إلا للمعصية؛ وذلك مثل آلات الملاهي كالمزامير والطنابير ونحوهما، فلا يجوز بيعها ولا شراؤها إجماعًا، وكذلك بيع السلاح والكراع من الكفار والبغاة إذا كانوا يستعينون به على حرب المسلمين، فإن ذلك لا يجوز، إذ فيه إعانة لهم، إلا أن يباع بأفضل منه، جاز. وقوله: "اقتحم (أ) النار". أي: دخل النار. "على بصيرة". أي: عِلْم منه بالسبب الموجب لدخوله. والله أعلم. 654 - وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الخراج بالضمان". رواه الخمسة، وضعفه البخاري وأبو داود، وصححه الترمذي وابن خزيمة وابن الجارود وابن حبان والحاكم وابن القطان (¬1). الحديث أخرجه الشافعي وأحمد (¬2) وأصحاب "السنن" والحاكم من طريق عروة عن عائشة مطولًا، وهو أن رجلًا اشترى غلامًا في زمن ¬

_ (أ) كذا في النسخ، ولفظ الحديث في الصفحة السابقة: "تفحم".

رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، [فكان] (أ) عنده ما شاء الله، ثم ردّه من عيب وجده فيه، فقضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - برده بالعيب، فقال المقضي عليه: قد استعمله. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الخراج بالضمان". وأخرجوه مختصرًا. وأخرجه الشافعي (¬1) أيضًا من طريق أخرى عن ابن أبي ذئب عن مخلد بن خُفاف، أنه ابتاع غلامًا، فاستغله ثم أصاب به عيبا، فقضى له عمر بن عبد العزيز برده ورد غلته، فأخبره عروة عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قضى في مثل هذا أن الخراج بالضمان، فرد عمر قضاءه، وقضى لمخلد بالخراج. الخراج: الغلة والكراء. ومعناه أن المبيع (ب) إذا كان له دخل وغلة، فإن مالك الرقبة الذي هو ضامن لها يملك خراجها لضمان أصلها، فإذا ابتاع رجل أرضًا فاستغلها، أو ماشية فنُتِجها، أو دابة فركبها، أو عبدًا فاستخدمه، ثم وجد به عيبا، فله أن يرد الرقبة، ولا شيء عليه فيما انتفع به؛ لأنها لو تلفت ما بين مدة الفسخ والعقد لكانت من ضمان المشتري، فوجب أن يكون الخراج له. وقد ذهب إلى هذا الشافعي وقال: ما حدث في ملك المشتري من غلة ونتاج ماشية وولد أمة، أو كراء أو غيره من الفوائد الفرعية والأصلية، فهو سواء، ويرد المبيع ما لم يكن ناقصًا عما أخذه. وذهب أهل الرأي إلى أن المشتري يستحق الفوائد الفرعية كالكراء، وأما ¬

_ (أ) في الأصل، ب: وكان. (ب) في جـ: البيع.

الفوائد الأصلية كالثمر، فإن كانت باقية ردّها مع الأصل، وإن كانت تالفة امتنع الرد واستحق الأرش. وذهب مالك إلى التفرقة في الفوائد الأصلية فقال: الصوف والشعر يستحقهما المشتري، والولد لا يستحقه، بل يرده مع أمه. ولعله يقول: مع تلفه. مثل قول أهل الرأي. وذهبت الهدوية إلى التفرقة بين الأصلية والفرعية؛ فقالوا: يستحق المشتري الفرعية، وأما الأصلية فتصير في يد المشتري أمانة، فإن ردّ المشتري المبيع بالحكم وجب الرد ويضمن التالف، وإن كان بالتراضي لم يردها. وهذا ما لم تكن متصلة [بالمبيع] (أ) وقت الرد، فإن كانت متصلة وجب الرد لها إجماعًا. هذا تفصيل الأقوال، وظاهر الحديث يقضي بما ذهب إليه الشافعي. واختلف العلماء فيما إذا كان المعيب أمة وقد وطئها المشتري، ثم انكشف فيها العيب؛ فذهب الهدوية والحنفية إلى أنه يمتنع الرد، لأن الوطء جناية. قالوا: وكذلك المقدمات والجناية من حيث إنه لا يحل وطء الأمة لأصل المشتري ولا لفصله، فقد عيبها بذلك، ولكنه يرجع على البائع بأرش العيب. وقال بهذا الثوري وإسحاق بن راهويه. وقال ابن أبي ليلى: يردها ويرد معها مهر مثلها. وقال مالك: إن كانت ثيبًا ردّها ولا يرد معها شيئًا، وإن كانت بكرا فعليه ما نقص من ثمنها. وقال الشافعي: إن كانت ثيبًا ردّها ولا شيء عليه، وإن كانت بكرا لم يكن له ردها، ورجع بما نقص من أصل الثمن. وقاست الحنفية الغصب على البيع؛ من أجل أن ضمانها على ¬

_ (أ) في الأصل: فالبيع، وفي ب: بالبيع.

الغاضب، فلم يجعلوا عليه رد الغلة، واحتجوا بعموم الحديث. وهو إنما ورد في البيع، وهو عقد يكون بين المتعاقدين بالتراضي، وليس الغصب بعقد وعن تراض بين المتعاقدين، فيكون هذا فرقًا بينهما، فلا يصلح أن يكون من باب القياس، وأما إذا قيل: هو من باب العموم. والعموم لا يقصر على سببه، فلا يرد هذا. قال الخطابي (¬1): والحديث مبهم؛ لأن قوله: "الخراج بالضمان". يختمل أن يكون معناه أنه يملك الخراج بضمان الأصل، ويحتمل أنه في معنى أَن ضمان الخراج [بضمان] (أ) الأصل، واقتضاء العموم [من] (ب) اللفظ المبهم ليس [بالبين الجواز] (جـ)، والحديث في نفسه ليس بالقوي، إلا أن أكثر العلماء قد استعملوه في البيوع، والأحوط أن يتوقف عنه فيما سواه. انتهى. 655 - وعن عروة البارقي رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أعطاه دينارًا يشتري به أضحية أو شاة، فاشترى به شاتين، فباع إحداهما بدينار، فأتاه بشاة ودينار، فدعا له بالبركة في بيعه، وكان لو اشترى ترابًا يربح فيه. رواه الخمسة إلا النسائي (¬2)، وقد أخرجه البخاري (¬3) ضمن حديث ولم ¬

_ (أ) في النسخ: بخراج. والمثبت من مصدر التخريج. (ب) ساقط من النسخ. والمثبت من مصدر التخريج. (جـ) في الأصل: المسين، وغير منقوطة في ب، وفي جـ: المتين. والمثبت من مصدر التخريج.

يسق لفظه، وأورد (أ) له الترمذي (ب) (¬1) شاهدًا من حديث حكيم بن حزام. الحديث أخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجه والدارقطني (¬2)، وفي إسناده سعيد بن زيد (¬3) أخو حماد، مختلف فيه، عن أبي لبيد لِمَازة بن زبَّار (جـ) (¬4)، وقد قيل: إنه مجهول. لكنه وثقه ابن سعد (¬5)، وقال حرب: سمعت أحمد أثنى عليه. قال المنذري و [النووي] (د): إسناده حسن صحيح؛ لمجيئه من وجهين. وقد رواه البخاري (¬6) من طريق ابن عيينة عن شبيب بن غرقدة (هـ): سمعت الحي يحدثون عن عروة. ورواه الشافعي (¬7) عن ابن عيينة، وقال: إن صح قلت به. وقال في "البويطي" (¬8): إن صح حديث عروة فكل من باع أو ¬

_ (أ) في ب: زاد. (ب) زاد في جـ: وابن ماجه. (جـ) غير منقوطة في الأصل، وفي ب: زناد، وفي: زياد. والمثبت من التلخيص الحبير 3/ 5. وينظر التاريخ الكبير 7/ 251، والجرح والتعديل 7/ 182، والتقريب ص 464. (د) في النسخ: الثوري، والمثبت من التلخيص 3/ 5. (هـ) في ب: غرقد. وينظر تهذيب الكمال 12/ 370.

أعتق ملك غيره ثم رضي (أ)، فالبيع والعتق جائز، ونقل المزني عنه أنه ليس بثابت عنده. قال البيهقي (¬1): إنما ضعفه لأن الحي غير معروفين. وقال في موضع آخر: هو مرسل؛ لأن شبيب بن غرقدة لم يسمعه من عروة، وإنما سمعه من الحي. قال الخطابي (¬2): هو غير متصل؛ لأن الحي حدثوه عن عروة. وقال الرافعي في "التذنيب": مرسل. قال المصنف رحمة الله عليه (¬3): والصواب أنه متصل، في إسناده مبهم، وفي الشاهد الذي أورده أبو داود من حديث حكيم ضعيف؛ من حيث إن في إسناده عن شيخ من أهل المدينة وهو مجهول. قال البيهقي: ضعف من أجل هذا الشيخ. انتهى. وفيه مخالفة لهذا الحديث؛ لأن فيه أنه أعطاه دينارًا يشتري به أضحية، فاشترى به ثم باعها بدينارين، ثم اشترى بدينار، وأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - بدينار وأضحية، فتصدق به النبي - صلى الله عليه وسلم -، ودعا له أن يبارك له في تجارته. الحديث فيه دلالة على أن عروة شرى ما لم يُوكَّل بشرائه، وباع كذلك؛ لأنه أعطاه دينارًا لشراء أضحية، فلو وقف على الأمر لشرى ببعض الدينار الأضحية ورد البعض، وهذا الذي فعله هو العقد الموقوف الذي ينفذ بالإجازة وقد وقعت، وذهب إلى صحة العقد الموقوف جماعة من السلف؛ منهم علي وابن عباس وابن مسعود وابن عمر والهادي والمفرعون على ¬

_ (أ) في ب: لم يضر.

مذهبه، وذهب الشافعي وأصحابه والناصر إلى القول بعدم صحته، وأن الإجازة لا تصححه؛ محتجين بأنه - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تبع ما ليس عندك". وهو شامل للمعدوم وملك الغير، والحديث تردد الشافعي في صحته، وعلق القول به على صحته، وقد قال به في القديم، وذهب أبو حنيفة إلى أنه يجوز البيع لا الشراء، [و] (أ) لعله يفرق بينهما بأن البيع إخراج عن ملك المالك، وللمالك حق في [استبقاء] (ب) ملكه، فإذا أجاز فقد أسقط حقه؛ بخلاف الشراء، فإنه إثبات لملك (جـ)، فلا بد من تولِّي المثبت لذلك. وذهب إلى العكس مالك، ولعله للجمع بين الحديثين وهو: "لا تبع ما ليس عندك". أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي (¬1)، وحديث عروة، فيعمل منه بما لم يعارض. وذهب الجصاص إلى صحته في بعض؛ وهو ما إذا وكل بشراء شيء فشرى بعضه، لا في غير ذلك. ويدل حديث [عروة] (د) على جواز بيع الأضحية وإن تعينت بالشراء لإبدال المثل، وقد ذهب إليه الهدوية، وزيادة الثمن لا تطيب، ولذلك أمره بالتصدق. ويستنبط من هذا أن فوائد الأضحية والهدي يجب التصدق بهما، ¬

_ (أ) ساقطة من: الأصل، ب. (ب) في النسخ: استيفاء. والمثبت من سبل السلام 2/ 507. (جـ) في جـ: الملك. (د) في النسخ: حكيم. والمثبت هو الصواب، والمراد حديث الباب.

وظاهر هذا أنه يجوز التصدق ولو قبل الذبح، وإن كان الهدوية قالوا: إنه لا يتصدق إلا بعد الذبح. وفي دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - لهما بالبركة دلالة على أنه يُشكَر الصنيع لمن فعل المعروف، ويجازَى ولو بالدعاء. 656 - وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن شراء ما في بطون الأنعام حتى تضع، وعن بيع ما في ضروعها، وعن شراء العبد وهو آبق، وعن شراء المغانم حتى تقسم، وعن شراء الصدقات حتى تقبض، وعن ضربة الغائص. رواه ابن ماجه والبزار والدارقطني بإسناد ضعيف (¬1). وأخرجه أحمد (¬2) من حديث شهر بن حوشب. وللترمذي (¬3) منه شراء المغانم، وقال: حديث غريب. وكذا أخرجه النسائي (¬4) من حديث ابن عباس، وأبو داود وأحمد (¬5) من حديث أبي هريرة. وشهر تكلم (أ) فيه جماعة، كالنضر بن شميل والنسائي وابن عدي ويحيى بن سعيد وغيرهم (¬6). وقال البخاري (¬7): شهر حسن الحديث. ¬

_ (أ) في ب: يتكلم.

وقوَّى أمره. وقال يعقوب بن شيبة (¬1): شهر ثقة طعن فيه بعضهم. وروي عن أحمد أنه قال: ما أحسن حديثه (¬2). وهو حمصي. الحديث فيه دلالة على عدم صحة بيع ما ذكر، أما الحمل الذي في بطن الحيوان واللبن في الضرع فهو مجمع على ذلك؛ لما فيه من الغرر، وقد تقدم (¬3). وأما العبد الآبق فهو منهي عن بيعه، والعلة تعذر التسليم وإن كان ذاته معلومة متميزة (أ)؛ ولذلك قال الفقهاء: إنه يثبت الخيار للبائع والمشتري ويصح البيع. وأما شراء المغانم قبل القسمة فلعدم الملك، وكذا الصدقات قبل القبض، فإنه لا يصح؛ لأنه لا يستقر ملك المتصدَّق عليه إلا بعد القبض. واستثنى الفقهاء من ذلك بيع المصدق للصدقة قبل القبض بعد التخلية، فإن ذلك يصح؛ لأنهم جعلوا التخلية كالقبض في حقه. وضربة الغائص هو أن يقول: أغوص في البحر غوصة بكذا، فما خرج فهو لك. والعلة في ذلك هو الغرر. 657 - وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تشتروا السمك في الماء فإنه غرر". رواه أحمد (¬4)، وأشار إلى أن الصواب وقفه. الحديث فيه دلالة على المنع من شراء السمك وهو في الماء، والعلة في ¬

_ (أ) في الأصل: مشهرة، وكتب فوقها في جـ: مشتهرة.

ذلك هو لا فيه من الغرر؛ لأنه يتجافي في الماء، ويُرى ما هو حقير عظيما. وظاهر الحديث الإطلاق، وللفقهاء تفصيل في ذلك؛ وهو أنه إن كان في ماء كثير لا يمكن أخذه إلا بتصيد ويجوز عدم الأخذ، فالبيع غير صحيح، وإن كان فيما لا يفوت فيه ويؤخذ بتصيد، فالبيع صحيح، ويثبت فيه خيار [بعد] (أ) التسليم، وإن كان لا يحتاج إلى تصيد، فالبيع صحيح ويثبت فيه خيار الرؤية. وهذا التفصيل يؤخذ من الأدلة، والتعليل المقتضي للإلحاق مخصص للعموم، والله أعلم. 658 - وعن ابن عباس رضي الله عنه قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن تباع ثمرة حتى تُطعِم، ولا يباع صوف على ظهر، ولا لبن في ضرع. رواه الطبراني في "الأوسط" والدارقطني، وأخرجه أبو داود في "المراسيل" لعكرمة وهو الراجح، وأخرجه أيضًا موقوفًا على ابن عباس بإسناد قوي، ورجحه البيهقي (¬1). قوله: أن تباع ثمن حتى تُطعِم. تُطعِم: بضم التاء وكسر العين. أي: يبدو صلاحها ويطيب أكلها، والنسبة إليها (ب) مجاز عقلي، وسيأتي الكلام في ذلك. وقوله: ولا سماع صوف على ظهر. فيه دلالة على عدم صحة ذلك، ¬

_ (أ) في الأصل، ب: بعذر. (ب) في ب: إليه.

وقد ذهب إلى هذا العترة وأبو حنيفة والشافعي؛ لأنه يقع الاختلاف في موضع القطع من الحي ويؤدي إلى ضرر الحيوان؛ ولذلك إن ذلك إنما هو في الحي دون المذكى. وذهب الثوري ومالك وأبو يوسف إلى صحة البيع، قالوا: لأنه مشاهد يمكن تسليمه فيصح كمِن (أ) المذبوح، والحديث موقوف على ابن عباس. والجواب أنه قد روي وإن كان مرسلًا، ولكنه قد تعاضد المرسل والموقوف فقوي، فصح العمل بذلك، والغرر حاصل فيه، وقد صحَّ النهي عن بيع الغرر (¬1). وقوله: ولا لبن في ضرع. فيه دلالة كذلك على عدم الصحة في ذلك ولما فيه من الغرر. وذهب سعيد بن جبير إلى صحة ذلك؛ قال: لأنه كالمال في الكيس، ورزمة من الثياب في ظرف (ب)، ولأنه - صلى الله عليه وسلم - سمى الضرع خزانة؛ لقوله فيمن يحلب شاة غيره بغير إذنه: "يعمد أحدكم إلى خزانة أخيه فيأخذ ما فيها" (¬2). والجواب كالأول، والحديث ليس التسمية حقيقة، بل هو استعارة، والله أعلم. 659 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيع المضامين والملاقيح. رواه البزار (¬3)، وفي إسناده ضعف. الحديث أخرجه إسحاق بن راهويه والبزار من حديث سعيد بن المسيب عن أبي هريرة، وفي إسناده صالح بن أبي الأخضر عن الزهري وهو ¬

_ (أ) في جـ: لكن. (ب) في جـ: طرق.

ضعيف (¬1). وقد رواه مالك في "الموطأ" (¬2) عن الزهري عن سعيد مرسلًا، قال الدارقطني في "العلل" (¬3): تابعه معمر، ووصله عمر بن قيس عن الزهري، وقول مالك هو الصحيح. وفي الباب عن عمران بن حصين أخرجه ابن أبي عاصم (¬4)، وعن ابن عباس أخرجه الطبراني [في "الكبير"] (أ) والبزار (¬5)، وعن ابن عمر أخرجه عبد الرزاق (¬6) بإسناد قوي. المضامين: المراد بها ما في بطون الإبل. والملاقيح: هو (ب) ما في ظهور الجمال. وهو يدل على عدم صحة بيع ذلك، وهو إجماع، وقد تقدم. 660 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من أقال مسلمًا بيعته أقال الله عثرته". رواه أبو داود وابن ماجه وصححه ابن حبان والحاكم (¬7). ¬

_ (أ) ساقط من: الأصل. (ب) ساقط من: ب، جـ.

الحديث صححه الحاكم (¬1) من حديث الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة بلفظ: "من أقال مسلما أقاله الله عثرته يوم القيامة". قال أبو الفتح القشيري (أ): هو على شرطهما. وصححه ابن حزم (¬2). وقال ابن حبان (¬3): ما رواه عن الأعمش إلا حفص بن غياث (ب)، ولا عن حفص إلا يحيى بن معين، ورواه عن الأعمش أيضًا مالك بن سُعَير (جـ)، تفرد به عنه زياد بن يحيى الحساني. وأخرجه البزار (¬4)، ثم أورده من طريق إسحاق الفروي عن مالك عن [سمي] (د) عن أبي صالح بلفظ: "من أقال نادما". وقال: ابن إسحاق تفرد به. وذكره الحاكم في "علوم الحديث" (¬5) من طريق معمر عن محمد بن واسع عن أبي صالح، وقال: لم يسمعه معمر من محمد، ولا محمد من ¬

_ (أ) في ب، جـ: التسترى. وهو ابن دقيق العيد أبو الفتح محمد بن علي بن وهب بن مطيع القوصي القشيري الشافعي. ينظر طبقات الشافعية الكبرى 9/ 207، والدرر الكامنة 4/ 210. (ب) بعده بهامش ب، جـ: وهو ثبت إذا حدث من كتابه، ويتقى بعض حفظه. كذا في الكاشف. وينظر الكاشف للذهبي 1/ 180. (جـ) بعده بهامش ب، جـ: ضعفه أبو داود، وقال أبو حاتم: صدوق. كذا في الكاشف. وينظر الكاشف 3/ 101. (د) من الأصل، ب: شمر.

أبي صالح. وأخرجه عبد الرزاق (¬1) عن معمر عن يحيى بن أبي كثير مرسلًا بلفظ: "من أقال مسلما بيعته أقال الله نفسه يوم القيامة، ومن وصل صفًّا وصل الله خَطْوَه يوم القيامة". وأخرجه البيهقي (¬2) عن أبي هريرة بلفظ: "من أقال نادما أقاله الله يوم القيامة". وأخرجه ابن النجار (¬3) بلفظ: "من أقال أخاه المؤمن عثرته في الدنيا أقاله الله عثرته يوم القيامة". الحديث فيه دلالة على ندبية الإقالة. والإقالة في اللغة: الرفع (¬4). وفي الشرع: رفع العقد الواقع بين المتعاقدين، وهي مشروعة إجماعًا، ولا بد من اللفظ المفيد (أ) لذلك، وهو لفظ: أقلت. أو: أنت مُقال. أو: أقالك الله، علي ما جرى به العرف. واعلم أن الإقالة لها أحكام وشرائط مفصلة في كتب الفروع؛ فشروطها اللفظ المفيد (أ) لذلك كما عرفته، وأن تكون بين المتعاقدين مالكين أو وَليَّينْ لا وكيلين بالبيع والشراء، ويصح التوكيل بها، وأن تكون في مبيع باق جميعه ¬

_ (أ) في جـ: المقيد.

أو بعضه؛ فتصح الإقالة فيما بقي لم يزد زيادة متصلة، وأما المنفصلة فتكون للمشتري، ولا يمنع، وتكون بالثمن الأول، ويلغو (أ) اشتراط خلافه ولو في الصفة (ب)، وأحكامها أن تكون بيعًا في حق الشفيع؛ يعني أن للشفيع أن يشفع بعد الإقالة ولو كانت شفعته قد بطلت من قبلها، وهذا مجمع عليه إلا رواية عن أبي ثور أنها فسخ مطلقًا، وإنما كانت كذلك لأنها في المعنى مبادلة بمالين، وهذا هو معنى البيع، وفي حق غير الشفيع فسخ اعتبارًا باللفظ، وليس لفظها لفظ البيع فاعتبر اللفظ، وإنما لم يعكس؛ لأن اللفظ قائم بالمتعاقدين فاعتبرناه في حقهما، وتعين اعتبار المعنى في حق غير المتعاقدين وهو الشفيع عملًا بالجهتين جميعًا. ومن أحكامها إذا كانت فسخًا أنه لا يعتبر المجلس في الغائب، ولا تلحقها الإجازة، ويصح قبل القبض، ويصح البيع قبله بعد الإقالة، ويصح أن تكون مشروطة بشرط مستقبل، ويصح أن يتولى طرفيها (جـ) واحد ولا يرجع عنها قبل قبولها، وهذا إذا أتى بلفظ الإقالة. وإن أتى بلفظ الفسخ فهي فسخ في حق الشفيع وغيره، فلا تثبت فيه الشفعة. وهذه التفاصيل من الأحكام والشروط لم يدل عليها الحديث ودلالته علي كونها بين المتبايعين لقوله: "بيعته". ولفظ: "أقال" لا يدل على اشتراط هذا اللفظ (د)؛ لأن المقصود إنما هو تحصيل المعنى وهو رفع العقد، وكونه مسلمًا حكم أغلبي، أو لأنه لما كان المقصود الترغيب لإدراك الثواب ¬

_ (أ) زاد في جـ: شرط. (ب) بعده بهامش ب: يجوز أن يصله بشرط أن يسلم له الثمن دراهم بيض والثمن سود. (جـ) في ب: طرفها. (د) في ب: المعنى.

الأخروي، والثواب الكامل إنما هو في حق المسلم، فخص بالذكر لذلك. وقوله: "أقال الله عثرته". مراد به غفران الزلة، وعبّر عنه بالإقالة للمشاكلة، ولأنه يلزم من غفران الزلة رفع تبعتها. والإقالة هي رفع العقد، فهو من باب المجاز المرسل إطلاقًا للازم على الملزوم، والمشاكلة محسنة لذلك. والله أعلم.

باب الخيار

بَابُ الخِيَار الخيار: بكسر الخاء [المعجمة] (أ) اسم من الاختيار أو التخيير، وهو طلب خير الأمرين من إمضاء البيع أو فسخه. والمذكور في هذا الباب خيار المجلس وخيار الشرط. 661 - عن ابن عمر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا تبايع الرجلان فكل واحد منهما بالخيار ما لم يتفرقا، وكانا جميعًا، أو يُخيِّر أحدهما الآخر، فإن خير أحدهما الآخر فتبايعا على ذلك فقد وجب البيع، وإن تفرقا بعد أن تبايعا ولم يترك واحد منهما البيع فقد وجب البيع". متفق عليه واللفظ لمسلم (¬1). اللفظ في "الصحيحين" جميعًا من حديث الليث عن نافع عن ابن عمر. قوله: "إذا تبايع الرجلان". ظاهره أوقعا العقد بينهما لا تساوما من دون عقد. وقوله: "وكل واحد منهما بالخيار". ظاهر في أن كلا من المتبايعين له ¬

_ (أ) ساقطة من: الأصل، ب.

أن يختار الفسخ (¬1). وقوله: "مما لم يتفرقا". وقع في هذا اللفظ كذا، ووقع في لفظ للنسائي (أ): "ما لم يفترقا". بتقديم الفاء. ونقل ثعلب عن المفضل (ب) بن سلمة أنه يقال (¬2): افترقا بالكلام وتفرقا بالأبدان. ورده ابن العربي بقوله تعالى: {وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} (¬3). فإنه ظاهر في التفرق بالكلام؛ لأنه بالاعتقاد، وأجيب بأن المراد به التفرق بالأبدان؛ لأن من خالف في العقيدة كان مفارقًا لمن خالفه ببدنه بحسب الأغلب، والحق أن ما ذكره [المفضل] (جـ) هو في المعنى الحقيقي، ولكنه يخالف إلى المجاز اتساعًا. وقوله: "أو يخير أحدهما". بإسكان الراء عطف على: "يتفرقا"، ويجوز النصب على أنَّ "أو" بمعنى "إلا أن". وقوله: "أو يخير أحدهما الآخر" إلى آخره. اختلف في معنى هذا؛ فذهب الجمهور والشافعي إلى أن المراد به هو أنهما إذا اختارا إمضاء البيع قبل التفرق لزم البيع حينئذٍ، وبطل اعتبار التفرق، وحكى ابن المنذر عن أبي ثور أن المعنى أنه إذا اشترط أحدهما الخيار مدة معينة فإن الخيار لا ينقضي بالتفرق، بل يبقي حتى تمضي مدة الخيار التي شرطاها، وهذا التأويل ظاهر في هذه الرواية، ويرد رواية مالك (¬4) ¬

_ (أ) في جـ: النسائي. (ب) في الأصل، جـ: الفضل. وينظر معجم الأدباء 19/ 163. (جـ) في النسخ: الفضل.

وهي: "المتبايعان كل واحد منهما بالخيار على صاحبه ما لم يتفرقا إلا بيع الخيار". وكذا رواية أيوب عن نافع: "ما لم يتفرقا، أو يقول أحدهما لصاحبه: اختر". وربما قال: "أو يكون بيع خيار" (¬1). إلى هذا التأويل. وإن كان لفظ: "أو يقول أحدهما لصاحبه: اختر". أقرب إلى التفسير الأول. وقيل في تأويل قوله: "إلا بيع الخيار". أي: إلا أن يكون بيع خيار. أي: هما بالخيار ما لم يتفرقا، إلا أن يتخايرا ولو قبل التفرق، وإلا أن يكون البيع بشرط الخيار ولو بعد التفرق. وهو قول يجمع التأويلين (أ) الأولين. والحديث فيه دلالة على أنه يثبت خيار المجلس للمتبايعين، وأنه يمتد إلى أن يحصل الافتراق بالبدن بينهما. وقد ذهب إلى هذا علي وابن عباس وابن عمر (¬2) وغيرهم من الصحابة، ومن التابعين الشعبي والحسن البصري وعطاء والزهري، ومن الأئمة الصادق وزين العابدين والإمام يحيى والشافعي أحمد وإسحاق وأبو ثور، قالوا: والتفرق المبطل للخيار ما يسمى في العادة تفرقًا؛ ففي المنزل الصغير بخروج أحدهما، وفىِ الكبير التحول من مجلسه إلى آخر بخطوتين أو ثلاث؛ كفعل ابن عمر (¬3). فإن قاما جميعًا وذهبا معًا فالخيار باقٍ؛ لقضاء أبي برزة (¬4) بذلك مستندًا (ب) إلى قضاء النبي - صلى الله عليه وسلم -، فإن ¬

_ (أ) في جـ: المتأويلين. (ب) في ب: مسندًا.

جُعل بينهما حائط أو سترة لم ينقطع، ولا بإمضاء أحدهما من دون الآخر، ولا بإكراههما على التفرق، ولا بجنون أحدهما أو نحوه. قال الإمام يحيى: فإن استمر ناب عنه وليه، وكذا لو خرس ولم تمكنه الإشارة، ويثبت للوكيل، فإن مات انتقل إلى الأصل، وإن تقابضا ثم تبايعا صحَّ الثاني، إذ (أ) العقد الثاني إبطال للخيار، وإن مات المتعاقدان انتقل إلى الوارث وإلا فالحاكم، وييطل بإبطالهما إياه قولًا حال العقد أو بعده لا قبله، أو فعلا كبيع المبيع أو إعتاقه أو نحوه، والقول لمنكر التفرق والفسخ؛ إذ الأصل عدمهما. هذا تفريع قول من قال به. وذهب زيد بن علي والهدوية وأبو حنيفة وأصحابه ومالك والعنبري والإمامية وغيرهم إلى عدم ثبوت خيار المجلس، وأنه بعد تفرق المتبايعين بالقول لا خيار حينئذٍ إلا بالشرط (ب)، محتجين بقوله تعالى: {إلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ} (¬1). وقوله: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} (¬2). {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} (¬3). فلم يفصل، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا اختلف المتبايعان فالقول قول البائع" (¬4). ولم يفصل ولا صرّح في رواية بقدر تفرقة الأبدان. وأخرج ابن أبي شيبة (¬5) بإسنادٍ ¬

_ (أ) في ب: أو. (ب) في جـ: بما شرط.

صحيح عن إبراهيم النخعي قال: البيع جائز وإن لم يتفرقا. واختلفوا في الجواب عن حديث الباب؛ فقال بعضهم: لا يعمل (أ) به؛ لأنه معارض لما هو أقوى منه. وقال بعضهم: هو منسوخ بحديث: "المسلمون على شروطهم" (¬1). والخيار بعد لزوم العقد يفسد الشرط، وبحديث التحالف عند اختلاف المتبايعين (¬2)؛ وذلك لأن الاحتياج إلي اليمين يستلزم لزوم العقد، لأن ظاهره الإطلاق قبل التفرق [وبعده] (ب) , وبقوله تعالى: {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ}. والإشهاد إن وقع بعد التفرق لم يطابق الأمر، وإن (جـ) وقع قبل التفرق لم يصادف محلًّا. وقد أجيب عن المعارضة والنسخ (د) بأن النسخ لا يثبت بالاحتمال، والجمع بين الدليلين مهما أمكن لا يصار معه إلى الترجيح، والجمع ممكن هنا بغير تعسف ولا تكلف. وقال بعضهم: هو من رواية مالك، وقد عمل بخلافه. ويجاب عنه بأن مخالفة الراوي لا تبطل العمل به بم لأن ذلك مبني على اجتهاده، ولعله ظهر له دليل أرجح في اجتهاده وهو غير راجح في نفس الأمر. وقال بعضهم: هو معارض بعمل أهل المدينة. ونقل ابن السكن عن أشهب أنه مخالف لعمل أهل مكة أيضًا، وردّ بأنه قد عمل به جماعة من أهل المدينة كابن عمر، ثم سعيد بن المسيب ثم الزهري ثم ابن أبي ذئب، وهؤلاء من أكابر علماء المدينة في أعصارهم، ولا يحفظ خلافه عن أحد من ¬

_ (أ) في جـ: يعلم. (ب) ساقطة من: الأصل. (جـ) في جـ: إذا. (د) في جـ: الفسخ.

علماء المدينة إلا ما روي عن ربيعة. وأما أهل مكة فإنه قد قال به عطاء وطاوس وغيرهما، ولم يعلم مخالف منهم، وقال ابن العربي (¬1): إنما لم يأخذ به مالك لأن وقت التفرق غير محدود، فأشبه بيع الغرر. ورد عليه بأن مالكا أثبت خيار الشرط وإن لم يحد بوقت معينٍ، فالغرر فيه موجود مع أنه غير مسلم أن في ذلك غررًا؛ لأن كلًّا [منهما] (أ) متمكن من إمضاء البيع أو فسخه بالقول أو [بالفعل] (ب). وقال بعضهم: لا يعمل به لأنه خبر واحد فيما تعم به البلوى. ورد بأن الذي تعم به البلوى إنما هو البيع، وأما الفسخ فلا؛ فإنه بحسب الأغلب أن البيعين [يرضيان] (جـ) بما ابتاعا، وبأن ذلك غير مسلم، فإن المعتمد في قبول الرواية إنما هو عدالة الراوي وضبطه لما روى من غير فرق، وأن ذلك إنما هو إذا كانت العادة تقضي بأن مثل المنقول حقه ألا يخفى [كقتل] (د) خطب على منبر وغيره، وأما الأحكام الجزئية فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يبلغها إلى الآحاد والجماعة وهذا منها. وقال بعضهم: هو مخالف للقياس الجلي في إلحاق ما قبل التفرق بما بعده. ورد بأن القياس مع النص لا يعتبر. وقال بعضهم: إنه محمول على الاستحباب تحسينًا للمعاملة. وقال بعضهم: هو محمول على الاحتياط للخروج من الخلاف. وكلاهما خلاف الظاهر. وقالت طائفة: المراد بالتفرق هو التفرق بالقول كما في عقد النكاح ¬

_ (أ) ساقطة من النسخ. والمثبت من الفتح. (ب) في الأصل، ب: بالعقد. (جـ) في الأصل: مرضيان. (د) في الأصل: كفعل.

والإجارة والعتق. ورد بأنه قياس مع الفرق؛ لأن البيع ينقل منه ملك رقبة المبيع [ومنفعته] (أ) بخلاف النكاح ونحوه. وقال بعضهم: المراد بالمتبايعين المتساومان. ورد بأنه مجاز والحمل علي الحقيقة أو ما يقرب منها أولى. وقال الطحاوي (¬1) (ب): استعمال البائع في المساوم شائع في اللغة. واحتج بآيات وأحاديث، ورد بأن استعماله مجاز عند القرينة لا تقتضي حمله عليه عند عدم القرينة كما في غيره من المجازات. وقال من قال بهذا القول: وقت التفرق في الحديث هو ما بين قول البائع: بعتك هذا بكذا. و [بين] (جـ) قول المشتري: اشتريت. قالوا: فالمشتري بالخيار في قوله: اشتريت. أو تركه، والبائع بالخيار إلى (د) أن يوجب المشتري. وهكذا حكاه الطحاوي عن عيسى بن أبان من الحنفية، وحكاه ابن خويزمنداد عن مالك. قال عيسي بن أبان: وفائدته تظهر فيما لو تفرقا قبل القبول؛ فإن القبول يتعذر. قالوا: لا بد من الرجوع إلى المجاز على المذهبين، أما على القول بالتفرق بالأقوال فلأنه لا يسمى بيعا قبل تمام العقد؛ لأنه مستقبل، واسم الفاعل حقيقة في الحال مجاز في المستقبل، وعلى القول بأن التفرق بالأبدان هو بعد تمام الصيغة قد مضى، فهو مجاز في الماضي. ورد بأنا لا نسلم أنه مجاز في الماضي بل هو حقيقة فيه كما ذهب إليه الجمهور بخلاف المستقبل فمجاز اتفاقًا، وعلى قول من يقول: إنه مجاز في الماضي. فهو ¬

_ (أ) في الأصل: وشفعته. (ب) زاد في الأصل: روي. (جـ) ساقط من الأصل. (د) في جـ: إلا.

أقرب المجازين؛ لقربه من الحقيقة، لتحقق قيام الفاعل بالوصف، وفي المستقبل مجاز بعيد، فالحمل على القريب عند تعذر الحقيقة هو الأولى. وقال بعضهم: العمل بظاهر الحديث متعذر فيتعين التأويل؛ وذلك لأن المتبايعين إن اتفقا في الفسخ أو الإمضاء لم يثبت لواحد منهما على الآخر خيار، وإن اختلفا فالجمع بين الفسخ والإمضاء جمع بين النقيضين وهو مستحيل. وأجيب بأن الخيار إنما هو في الفسخ، وأما الإمضاء فلا حاجة إلى اختياره فإنه مقتضى العقد مع السكوت. وقال بعضهم: هذا الحديث معارض بحديث ابن عمرو؛ أخرجه أبو داود مرفوعًا (¬1): "البيعان بالخيار ما لم يتفرقا إلا أن تكون صفقة خيار، ولا يحل له أن يفارق صاحبه خشية أن يستقيله". فإن قوله: "أن يستقيله". يدل على نفوذ البيع وأن تُؤول الاستقالة بالفسخ، فللمعترض أن يتأول قوله: "بالخيار". أي: بالاستقالة. فإذا تعارض التأويلان رجع إلى الترجيح. ويرد عليه بأن الترجيح مع المثبت لخيار المجلس؛ وذلك لأن حمل الاستقالة على الفسخ أوضح من حمل الخيار على الاستقالة؛ لأنه لو كان المراد بها الاستقالة حقيقة لم يكن للمفارقة معنى، فتعين حملها على الفسخ، وعلى ذلك حمله الترمذي وغيره من العلماء؛ فقالوا (¬2): معناه: لا يحل له أن يفارقه بعد البيع خشية أن يختار فسخ البيع (أ)، فالمراد بالاستقالة فسخ النادم. وحملوا نفي الحل على الكراهة؛ لأنه لا يليق [بالمروءة] (ب) وحسن معاشرة ¬

_ (أ) في جـ: المبيع. (ب) في الأصل: في المروءة.

المسلم، إلا (أ) أن اختيار الفسخ حرام. قال ابن حزم (¬1): احتجاجهم بحديث ابن عمرو على أن التفرق بالقول تذهب معه فائدة الحديث؛ لأنه يلزم منه حل التفرق، سواء خشي أن يستقيله أو لا؛ لأن الإقالة تصح قبل التفرق وبعده. قال ابن عبد البر (¬2): قد أكثر المالكية والحنفية من الكلام لرد الحديث بما يطول ذكره، وأكثره لا يحصل منه شيء. 662 - وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "البائع والمبتاع بالخيار حتَّى يتفرقا إلا أن تكون صفقة خيار، ولا يحل له أن يفارقه خشية أن يستقيله". رواه الخمسة إلا ابن ماجة، والدارقطني وابن خزيمة وابن الجارود (¬3). وفي رواية (¬4): "حتَّى يتفرقا عن مكانيهما". تقدم الكلام في الحديث قريبًا، روي أن ابن عمر كان إذا بايع رجلًا فإن أراد أن يتم بيعه قام فمشى هنيهة فرجع إليه. وقد ذكره الرافعي أيضًا وهو متفق عليه (¬5). ¬

_ (أ) في جـ: لا.

وللترمذي (¬1): وكان ابن عمر إذا ابتاع بيعًا وهو قاعد قام ليجب له. وفي البخاري (¬2) قصة لابن عمر مع عثمان في ذلك. ولعل ابن عمر لم يبلغه النهي المذكور. 663 - وعن ابن عمر قال: ذكر رجل لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنَّه يُخْدَع في البيوع، فقال: "إذا بايعت فقل: لا خِلابة". متفق عليه (¬3). الرجل سماه ابن الجارود في "المنتقى" (¬4) من طريق سفيان عن نافع أنَّه حَبَّان بفتح الحاء المهملة والباء الموحدة، وكذلك في رواية ابن إسحاق، وذُكر في رواية ابن إسحاق أنَّه شكا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ما يلقى من الغَبْن (¬5). وقد أخرجه أحمد وأصحاب "السنن" وابن حبان والحاكم (¬6) من حديث أنس بلفظ: أن رجلًا كان يبايع وكان في [عقدته] (أ) - أي إدراكه - ضعف. وقوله: "لا خِلَابة". بكسر الخاء المعجمة وتخفيف اللام، أي: لا خديعة. و"لا" لنفي الجنس، أي: لا خديعة في الدين؛ لأن الدين ¬

_ (أ) في الأصل: عقله.

النصيحة. زاد ابن إسحاق في رواية يونس بن بكير وعبد الأعلى (¬1) عنه: "ثم أنت بالخيار في كل سلعة ابتعتها ثلاث ليال، فإن رضيت فأمسك، وإن سخطت فاردد". فبقي حتَّى أدرك زمان عثمان وهو ابن مائة وثلاثين سنة، فكثر الناس في زمان عثمان، فكان إذا اشترى شيئًا فقيل له: إنك غبنت فيه. رجع فيشهد له رجل من الصحابة بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد جعله بالخيار ثلاثا، فيرد له دراهمه. والحديث فيه دلالة على أنَّه يثبت الخيار لمن يُغبن في الشراء والبيع جميعًا إذا حصل الغبن، وقد ذهب إلى هذا أحمد ورواية عن مالك، ولكن إذا كان الغبن فاحشا لمن لم يعرف قيمة السلعة، وذهب إليه المنصور والإمام يحيى، وقيده البغداديون من المالكية بأن يبلغ الغبن ثلث القيمة. وكأن هذا التقييد فهموه لما علم من أنَّه لا يكاد يسلم أحد من مطلق الغبن في كثير من الأحوال، ولأن القليل يُتسامح به في مجرى العادات، وأن من رضي بالغبن بعد معرفته فذلك لا يُسمى غبنًا، وإنما هو من باب المساهلة في البيع وقد أثني على ذلك. وقد روي في "البحر" عن الناصر مثل هذا ولكنه أطلق. وذهب الجمهور من العلماء إلى عدم ثبوت الخيار بذلك؛ لعموم أدلة البيع ونفوذه من غير فرق بين أن يحصل غبن أو لا. وأجابوا عن حديث حَبَّان بأنه - صلى الله عليه وسلم - إنما جعل لي الخيار لضعف عقله؛ لما روي أنَّه رمي بحجر في ¬

_ (¬1) البيهقي 5/ 273 من طريق يونس بن بكير. والحربي في غريب الحديث 1/ 29، وابن ماجة 2/ 789 ح 2355، والدارقطني 3/ 55 ح 220، والبيهقي 5/ 274 من طريق عبد الأعلى.

بعض مغازيه مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في بعض الحصون، فأصاب رأسَه مأمومةٌ فتغير بها لسانه وعقله، لكن لم يخرج بذلك عن حد التمييز فيكون حكمه حكم الصبي المأذون له، فيثبت له الخيار مع الغبن، ولأنه - صلى الله عليه وسلم - لقنه اشتراط الخيار بقوله: "لا خِلابة". فكأنه قال: الشراء والبيع مشروط بعدم الخديعة. فإذا انتفى الشرط بطل البيع، أو أن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما لقنه ذلك ليقول عند المعامل له لينبهه بأنه ليس من أهل البصيرة، ليَعْمل معامله بما حث عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - من نصيحة المتبايعين كما في حديث (أ) حكيم بن حزام: "فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما" الحديث (¬1). وقال ابن العربي (¬2): الخديعة في هذه [القصة] (ب) يحتمل أن تكون في العيب، أو في الكذب، أو في الثمن، أو في الغبن، فلا يحتج بها في الغبن بخصوصه، وهي قضية خاصة لا عموم فيها. قال: وأما ما روي عن عمر أنَّه كلم في البيوع فقال: ما أجد لكم شيئًا أوسع مما جعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لحبان بن منقذ ثلاثة أيام. فمداره على ابن لهيعة وهو ضعيف. انتهى، وهو كما قال. أخرجه الطبراني والدارقطني وغيرهما (¬3) من طريقه. ويرد عليه بأن في الرواية أنَّه كان يغبن في البيوع، فتعين أن العلة الغبن من المحتملات. واستدل بعضهم بالحديث أنَّه إذا قال: لا خِلابة ثبت الخيار وإن لم ¬

_ (أ) في ب، جـ: خبر. (ب) في الأصل، ب: الصفة.

يكن فيه غبن، والجواب عنه بالتقييد في الرواية أنَّه كان يغبن، واستدل به البعض على أن أمد الخيار المشترط ثلاثة أيام من غير زيادة، ولأنه حكم ورد على خلاف الأصل فيقتصر به على أقصى ما ورد فيه مثل المُصَرَّاة. وبعض المالكية قال: إنما قصره على ثلاث لأنه كان معظم بيعه في الرقيق، وكأنه ما يتبين الخديعة في ذلك إلا فيها، وهذا يحتاج إلى ثبت. واعلم أن الهدوية أثبتوا الخيار لمن تصرف عن الغير، وفي الصبي المميز، واحتجوا بهذا الحديث، وهو يستقيم إذا صح أن حَبَّان حصل في عقله نقص حتَّى صار كالصبي المميز الَّذي ينفذ عقده بالإذن أو الإجازة. وروي أن أهله أتوا النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: يا رسول الله، احجر عليه. فدعاه فنهاه، فقال: لا أصبر عليه. فقال: "إذا بايعت فقل: لا خِلابة" (¬1). وفي هذا احتمال أنَّه طُلب الحجر لضعف التمييز أو للسفه، وفيه دلالة على صحة منع من هذا حاله من التصرف ونفوذه بالإذن إذا لم يغبن. فائدة: روى مسلم تمام الحديث: فكان إذا بايع يقول: لا [خيابة] (أ). بمثناة من تحت بدل اللام، هكذا في جميع نسخ مسلم (¬2)، قال القاضي (¬3): ورواه بعضهم: "لا خيانة". بالنون بدل الباء الموحدة. قال: وهو تصحيف. قال: ووقع في بعض الروايات في غير مسلم (¬4): خذابة. بالذال ¬

_ (أ) في الأصل، ب: خلابة.

المعجمة، والصواب الأول، وكان الرجل ألثغ لا يفصح باللام. وهذا اللفظ غير متعين عند من أثبت العمل به، فيصح أن يبدل بلفظ: لا خديعة، أو لا غش، أو غير ذلك. وقال ابن حزم (¬1) من الظاهرية: لا بد أن يأتي بلفظ: لا خلابة. ويرد عليه بما ورد في مسلم من إبداله اللام بالياء كما عرفت، وله أن يفرق دين ما فات فيه جوهر الكلمة جميعه وما فات فيه البعض. والله أعلم. عدة أحاديث الباب ثلاثة. ¬

_ (¬1) المحلى 9/ 400.

باب الربا

باب الربا الربا (¬1) مقصور، وهو من ربا يربو، فيكتب بالألف، وتثنيته ربوان، وأجاز الكوفيون كتابته وتثنيته بالياء بسبب الكسر في أوله، وغلَّطهم البصريون، قال العلماء رحمهم الله: وقد كتبوه في المصحف بالواو. وقال الفراء: إنما كتبوه بالواو؛ لأن أهل الحجاز تعلموا الخط من أهل الحيرة، ولغتهم الربو، فعلموهم الخط على صورة لغتهم. قال: وكذا قرأه أبو سمالٍ العدوي بالواو، وقرأ حمزة والكسائي بالإمالة بسبب كسرة الراء، وقرأ لباقون بالتفخيم لفتحة الباء (¬2)، قال: ويجوز كتبه بالألف والواو والياء. قال أهل اللغة: والرماء بالميم والمد هو الربا، وكذا الرُّبية بضم الراء والتخفيف لغة في الربا. وأصل الربا الزيادة، يقال: ربا الشيء يربو. إذا زاد في نفسه كقوله تعالي: {اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ} (¬3). أو زاد مقابله كدرهم بدرهمين، يقال: أربي الرجل وأرْمَى. إذا عامل بالزيادة، فقيل: هو حقيقة فيهما. وقيل: حقيقة في الأول مجاز في الثاني. زاد ابن سريج أنَّه في الثاني حقيقة شرعية. ويطلق الربا على كل - صلى الله عليه وسلم - حرام، وقد أجمع المسلمون على تحريم ¬

_ (¬1) ينظر شرح مسلم 11/ 8، 9، والفتح 4/ 313. (¬2) ينظر مختصر الشواذ لابن خالويه ص 24، والنشر 2/ 29، 39، والبحر المحيط 2/ 333. (¬3) الآية 39 من سورة فصلت.

الربا في الجملة وإن اختلفوا في ضابطه وتفاريعه، [قال الله تعالى: {وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الَرِّبَا}] (أ) (¬1). والأحاديث فيه كثيرة مشهورة، وروى (ب) مالك (¬2) عن زيد بن أسلم في تفسير قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً} (¬3). أنه كان الربا في الجاهلية أن يكون للرجل على الرجل حق إلى أجل، فإذا حلَّ قال: أتقضي أم تربي؟ فإن قضاه أخذ، وإلا زاده في حقه وزاد الآخر في الأجل. ورواه [الطبري] (جـ) (¬4) من طريق عطاء ومن طريق مجاهد نحوه، ومن طريق قتادة، أن ربا [أهل] (د) الجاهلية؛ يبيع الرجل البيع إلى أجل مسمى، فإذا حل ولم يكن عند صاحبه قضاء زاد وأخّر عنه. 664 - عن جابر قال: لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه وقال: "هم سواء". رواه مسلم (¬5). ¬

_ (أ) في الأصل: في نفسه كقوله تعالى: {وَحَرَّمَ اللهُ الْرِّبَا}. وفي ب: قال الله تعالى: {وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعُ} كقوله تعالى: {وَحَرَّمَ الْرِّبَا}. (ب) زاد في النسخ: النسائي عن. (جـ) في الأصل، جـ: الطبراني. (د) ساقط من: الأصل.

وللبخاري (¬1) نحوه من حديث أبي جُحيفة. الحديث فيه دلالة على شمول الإثم لمن ذكر، فأما آكل الربا فلأنه المقصود أولًا وبالذات، وهو قابض الربا المنتفع به، وخص الأكل بالذكر لأنه الأغلب في الانتفاع، وغيره مثله، وأما الموكل فهو الَّذي أعطى الربا، وكان داخلًا في الإثم، لأنه ما يحصل الربا إلا منه، وأما الكاتب والشاهد فلإعانتهما على المحظور، وهذا إنما يكون مع قصدهما ومعرفتهما للربا، "وشاهديه". بلفظ التثنية، وفي رواية الترمذي (¬2) (أ) بلفظ الإفراد، وفي رواية النسائي (¬3) من وجه عن ابن مسعود: آكل الربا، وموكله، وشاهداه، وكاتبه، ملعونون على لسان محمد - صلى الله عليه وسلم -. 665 - وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "الربا ثلاثة وسبعون بابًا، أيسرها مثل أن ينكح الرجل أمه، وإن أربى الربا عرض الرجل المسلم". رواه ابن ماجة مختصرًا، والحاكم بتمامه وصححه (¬4). ومثل هذا من حديث البراء أخرجه ابن جرر إلا أنَّه قال: "اثنان ¬

_ (أ) زاد بعده في الأصل، جـ: وفي رواية مسلم. وينظر الفتح 4/ 314.

وستون". وقال: "أدناها مثل إتيان الرجل أمه". وأخرج البيهقي (¬1) من حديث أبي هريرة: "الربا سبعون بابًا، أدناها كالذي يقع على أمه". وأخرج ابن جرير عن أبي هريرة: "الربا سبعون حوبا، أهونها مثل وقوع الرجل على أمه". وأخرج ابن أبي الدنيا (¬2) عن أبي هريرة: "الربا سبعون حُوبًا (أ)، أيسرها كنكاح الرجل أمه، وإن أربى الربا عرض الرجل المسلم". وهذه الأحاديث فيها دلالة على تغليظ تحريم الربا. وفي قوله: "ثلاثة وسبعون بابًا". الظاهر أن المراد بها (ب) أنواع الربا، وأنه قد يطلق الربا على تناول ما لا يحل وإن لم يكن من باب الربا، ولذلك قال: "إن أربى الربا الاستطالة". يعني في عرض المسلم، فسماها ربا، وكذلك ما سيأتي (¬3) في حديث أبي أمامة، في قوله: "فقد أتى بابًا عظيمًا من أبواب الربا". فسمى الهدية ربا. وكذلك لفظ "حوبا" يحتمل أنَّه أراد بقوله: "سبعون حوبا". أي نوعا من أنواع المأثم، ويحتمل أنَّه أراد: سبعون إثما. أي جزءًا من الإثم. والله أعلم. وفيه أيضًا تعظيم لغيبة المسلم وأذاه، وأن إثمها أعظم من إثم الربا الَّذي ¬

_ (أ) زاد في الأصل، ب: و. (ب) في ب، جـ: به.

قد عرف أن أدناه نكاح الأم. 666 - وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلًا بمثل، ولا تبيعوا بعضها على بعض، ولا تبيعوا الوَرِق بالوَرِق إلا مثلًا بمثل، ولا تُشِفُّوا بعضها على بعض، ولا تبيعوا منها غائبا بناجز". متفق عليه (¬1). الحديث فيه دلالة على أنَّه يحرم بيع الذهب بالذهب متفاضلًا، وكذا الوَرق بالورق، وسواء كان حاضرا أم غائبا، لقوله: "إلا مثلًا بمثل". فإنه استثناء من أعم الأحوال، وتقديره: لا تبيعوه في حال من الأحوال إلا حال كونه مثلًا. أي: مساويًا لمثل. والمساواة باعتبار القدر، وأكد ذلك بقوله: "ولا تُشِفُّوا". أي: لا تَفْضُلوا. وهو رباعي من أشَفَّ، والشَّفُّ بالكسر الزيادة، ويطلق على النقص، وقد ذهب إلى هذا العترة جميعًا والفقهاء، وقال به ثلاثة عشر من الصحابة، والخلاف في ذلك لابن عمر وابن الزبير وابن عباس وأسامة بن زيد وزيد بن أرقم وسعيد بن المسيب وعروة بن الزبير، فقالوا: إنه يجوز التفاضل في الحاضر ولا يجوز في النسيئة. لا رواه أسامة وهو قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا ربا إلا في النسيئة" (¬2). وهو حديث صحيح اتفق العلماء على صحته، وأجاب عنه العلماء بأجوبة؛ فمنهم من قال: معنى "لا ربا إلا في النسيئة". المراد به لا ربا أعظم، شديد التحريم المتوعد عليه بالعقاب الشديد، كما تقول العرب: لا عالم في البلد إلا زيد. مع أن فيها علماء غيره، والمقصود نفي الكمال لا نفي الأصل، أو أن المعارضة لحديث ¬

_ (¬1) البخاري، كتاب البيوع، باب بيع الفضة بالفضة 4/ 379 ح 2177، ومسلم، كتاب المساقاة، باب الربا 3/ 1208 ح 1584 - 75. (¬2) البخاري 4/ 381 ح 2178، 2179 واللفظ له، ومسلم 3/ 1217 ح 1596.

أبي سعيد إنما هي بالمفهوم، وحديث أبي سعيد يدل بالمنطوق، والمفهوم على القول به يطرح مع المنطوق، وأجاب الشافعي بأنه يحتمل أن سائلًا سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الجنسين المختلفين مثل الورق بالذهب والتمر بالحنطة متفاضلا، فقال: "إنما الربا في النسيئة". ولعل السؤال سبق قبل حضور أسامة، وحضر أسامة على الجواب فروى الجواب، أو أنَّه لم يحفظ المسألة، أو شك فيها فروى ما حفظه، وليس في حديثه ما ينفي هذا. قال الشافعي (¬1): ومن روى خلاف حديث أسامة وإن لم يكن أشهر بالحفظ للحديث من أسامة، فليس به تقصير عن حفظه، وعثمان بن عفان وعبادة أشد تقدما بالصحبة وأَسن من أسامة، وأبو هريرة أسن وأحفظ من روى الحديث في دهره، وحديث اثنين أولى في الظاهر بالحفظ والبعد عن الغلط من حديث الواحد، فكيف حديث [الأكبر] (أ) الَّذي هو أشبه أن يكون أولى بالحفظ من حديث من هو أحدث منه، مع أنَّه قد رجع عنه ابن عباس - أخرجه عنه الحاكم (¬2) - واستغفر الله من ذلك، وأخرج الحازمي (¬3) نحوه في "الناسخ والمنسوخ"، وما وقع بين عكرمة وأبي سعيد الرؤاسي قال في آخر ذلك: ثم جلس ابن عباس وقال: أستغفر الله، والله ما كنت أرى إلا ما تبايع به المسلمون من شيء يدا بيد إلا حلالًا، حتَّى سمعت عبد الله بن عمر وعمر بن الخطاب حفظا من رسول الله ما لم أحفظ، فأستغفر الله. ¬

_ (أ) في النسخ: الأكثر. والمثبت يقتضيه السياق. وينظر اختلاف الحديث ص 204.

وأخرج (¬1) من حديث أبي الجوزاء سؤاله ذلك ابن عباس بعد أن أفتاه بالحل في العام الأول، ثم سأله في العام الثاني بمكة فقال: وزنا بوزن. فقلت له: سألتك عام أول فأفتيتني أن لا بأس به يدًا بيد، فأفتيت به حتَّى يومي هذا حتَّى قدمت عليك. فقال: إن كان ذلك برأي. وهذا أبو سعيد الخدري يحدثني عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فتركت رأي إلى حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وقوله: "الذهب". هو يطلق على جميع أنواعه المضروبة وغيرها، "والوَرق" الفضة، وهو بفتح الواو وكسر الراء وبإسكانها على المشهور ويجوز فتحهما، وقيل: بكسر الواو المضروبةُ، وبفتحها المالُ. والمراد هنا جميع أنواع الفضة مضروبة وغير مضروبة نصا، ويحرم التفاضل إجماعًا، إلا ما روي عن معاوية فإنه كان يجيز التفاضل بين التبر والمصنوع لمكان زيادة الصنعة، وإلا ما روي عن مالك أنَّه سُئل عن الرجل يأتي دار الضرب بورقه فيعطيهم أجرة الضرب ويأخذ دنانير أو دراهم وزن ورقه، قال: إذا كان لضرورة خروج [الرفقة] (أ) ونحو ذلك فأرجو ألا يكون به بأس. وبه قال ابن القاسم من أصحابه، وأنكر ذلك ابن وهب من أصحابه وعيسى بن دينار وجمهور العلماء، وأجاز مالك بدل الدينار الناقص الوزن أو الدينارين، على اختلاف بين أصحابه في العدد الَّذي يجوز فيه ذلك. وقوله: "لا تبيعوا منها غائبًا بناجز". هو بنون وجيم وزاي؛ أي مؤجل بحالٍّ، أو المراد بالغائب أعم من المؤجل، كالغائب عن المجلس مطلقًا ¬

_ (أ) في الأصل: الرأفة. وفي ب، جـ: الزائفة. والمثبت من الهداية في تخريج أحاديث بداية 7/ 378.

مؤجلًا كان أو حالًّا. والناجز الحاضر، وقد ذهب إلى هذا العلماء كافة في أنَّه يجب التقابض وإن اختلف الجنس، إلا ما روي عن إسماعيل ابن عُلية أنَّه جوز التفرق عند اختلاف الجنس، وهو محجوج بهذه الأحاديث الصحيحة ولعلها لم تبلغه. 667 - وعن عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، مثلًا بمثل سواء بسواء يدًا بيد، فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد". رواه مسلم (¬1). قوله: "مثلًا بمثل سواء بسواء". يحتمل أن يكون الجمع بين هذه الألفاظ توكيدًا و (أ) مبالغة في الإيضاح. الحديث فيه دلالة على تحريم التفاضل في الجنس المتفق، وقد وقع النص على هذه الستة؛ فقال أهل الظاهر: لا ربا فيما عداها. بناءً على أصلهم في نفي القياس، وقال جميع العلماء سواهم: لا يختص بالستة بل يتعدى الحكم إلى ما في معناها وما يشاركها في العلة. واختلفوا في العلة التي هي سبب تحريم الربا في الستة؛ فقال الشافعي (¬2): العلة في الذهب والفضة كونهما جنس الأثمان، فلا يتعدي الربا منهما إلى غيرهما من الموزونات وغيرها لعدم المشاركة. قال: والعلة في الأربعة الباقية كونها مطعومة فيتعدي الربا منها إلى كل مطعوم. وقال مالك مثل قول ¬

_ (أ) في ب: أو.

الشافعي في الذهب والفضة، وفي الأربعة الباقية كونها مدخرة للقوت وتصلح له، فَعَدَّاه إلى الزبيب لأنه كالتمر. وقال أبو حنيفة: العلة في الذهب والفضة الوزن، وفي الأربعة كونها مطعومة موزونة أو مكيلة. فشرط الأمرين، فعلى هذا لا ربا في البطخ والسفرجل؛ لأنهما لا يكالان ولا يوزنان، وقالت العترة جميعًا: بل العلة في الستة اتفاق الجنس والتقدير، إذ نبَّه على ذلك بقوله: "فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم". وقال ربيعة: اتفاق الجنس ووجوب الزكاة. إذ [قصره] (أ) على ما تجب فيه، فيحرم شاة بشاتين ونحوه. وقال سعيد بن جبير: العلة تقارب النفعة؛ فيحرم التفاضل بين الزبيب والتمر، والبر والشعير، والذرة والدخن (¬1). ويجاب بأنه لا دليل عليهما (ب). وقال ابن شبرمة: اتفاق الجنس فقط، فيحرم قريق بقرشين. وأجمع العلماء على جواز بيع الربوي بربوي لا يشاركه في العلة متفاضلًا ومؤجلًا؛ كبيع الذهب بالحنطة، وبيع الفضة بالشعير، وغيره من المكيل. وأجمعوا على أنَّه لا يجوز بيع الربوي بجنسه وأحدهما مؤجل، وعلى أنَّه يجوز التفاضل عند اختلاف الجنس، [إلا ابن جبير فيما تقاربت فيه النفعة] (جـ). إذا كان يدًا بيد كصاع حنطة بصاعي شعير، قال العلماء: وإذا بيع الذهب بالذهب أو الفضة بالفضة سمي مُراطلة، وإذا بيع الذهب بالفضة سمي صرفًا، وإنما سُمِّي صرفًا؛ لصرفه عن ¬

_ (أ) في الأصل، ب: نص. (ب) في جـ: عليها. (جـ) ساقط من: الأصل.

مقتضي المبايعات من جواز التفاضل وتحريم التفرق قبل التقابض والتأجيل، وقيل: من صرفهما وهو تضويتهما في الميزان، وإذا بيع العزض بالنقد سمي النقد ثمنًا والعرض عوضًا، وبيع العَرْض بالعرض يسمي مقايضة. ولفظ البُر بضم الباء الموحدة ومن أسمائه الحنطة والشعير بفتح الشين وهو معروف، وقد حكي جواز كسره، واستدل بقوله: "فإذا اختلفت الأصناف". على أن البُر والشعير صنفان، وهو قول الجمهور، وخالف في ذلك مالك والليث والأوزاعي فقالوا: هما صنف واحد لا يجوز بيع أحدهما بالآخر متفاضلًا. ويرد عليهم ما أخرجه أبو داود والنسائي (¬1) من حديث عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا بأس ببيع البر بالشعير - والشعير أكثرهما - يدًا بيد". والعمل بهذا أرجح مما أخرجه مسلم (¬2) عن معمر بن عبد الله أنَّه أرسل غلامه بصاع قمح فقال: بعه ثم اشتر به شعيرًا. فذهب الغلام فأخذ صاعًا وزيادة بعض صاع، فلما جاء معمرًا أخبره بذلك، فقال له معمر: لم فعلت ذلك؟ انطلق فرده ولا تأخذن إلا مثلًا بمثل فإني كنت أسمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "الطعام بالطعام مثلًا بمثل". وكان طعامنا يومئدٍ الشعير، فقيل له: إنه ليس بمثله. قال: فإني أخاف أن يضارع. فظاهر هذا أنَّه اجتهاد من معمر، وأنه تورع عن ذلك احتياطًا لا لاتحاد الجنس حقيقة. والله أعلم. 668 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الذهب بالذهب وزنًا بوزن مثلًا بمثل، والفضة لم بالفضة وزنًا بوزن مثلًا ¬

_ (¬1) أبو داود 3/ 245، 246 ح 3349، والنسائي في الكبرى 4/ 28 ح 6156. (¬2) مسلم 4/ 1213 ح 1592.

بمثل، فمن زاد أو استزاد فهو ربا". رواه مسلم (¬1). قوله: "وزنًا بوزن". منصوب على الحالية، والمراد منه معرفة المساواة بالوزن بأن يكون ذلك على جهة التيقن، ولا يكفي تقدر المساواة بالخرص والتخمين، بل لا بد من اختيار ذلك بالقياس الذي يفيد التيقن. وقوله: "فمن زاد". أي أعطى الزيادة. وقوله: "أو استزاد". أي أخذ الزيادة. وقوله: "فهو ربًا". يعني فعل الربا المحرم، والمعنى أنهما جميعًا مشتركان في إثم الربا، الآخذ والمعطي. 669 - وعن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة رضي الله عنهما، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - استعمل رجلًا على خيبر، فجاءه بتمر جنيب، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أكل تمر خيبر هكذا؟ ". فقال: لا والله يا رسول الله، إنا لنأخذ الصاع من هذا بالصاعين والثلاثة. فقال - صلى الله عليه وسلم -: "لا تفعل، بعِ الجَمْع بالدراهم ثم ابتع بالدراهم جنيبًا". وقال في الميزان مثل ذلك. متفق عليه (¬2). ولمسلم: "وكذلك الميزان". قوله: استعمل رجلًا. اسمه سَوَاد، بفتح السين المهملة وتخفيف الواو وآخره دال مهملة، ابن غَزِية، بفتح الغين المعجمة وزاي مكسورة وياء تحتانية ثقيلة بوزن عطة، وهو من الأنصارِ من بني عدي، كذا صرح باسمه أبو عوانة والدارقطني (¬3). ¬

_ (¬1) مسلم، كتاب المساقاة، باب الصرف وبيع الذهب بالورق نقدا 3/ 1212 ح 84 - 1584. (¬2) البخاري، كتاب البيوع، باب إذا أراد بيع تمر بتمر خيبر منه 4/ 399 ح 2201، 2202، ومسلم، كتاب المساقاة، باب بيع الطعام مثلًا بمثل 3/ 1215 ح 1593. (¬3) أبو عوانة 3/ 392 ح 5441، والدارقطني 3/ 17 ح 54.

و"الجَنيب". بالجيم المفتوحة والنون بوزن عظيم، قال الطحاوي: هو الطيب، وقيل: الصلب. وقيل: الَّذي أخرج منه حشَفه ورديئه. وقيل: هو الَّذي لا يختلط بغيره. و"الجَمْع". بفتح الجيم وسكون الميم، هو تمر رديء، وقد فسر في رواية أخرى لمسلم بأنه الخلط من التمر، ومعناه: مجموع من أنواع مختلفة. الحديث فيه دلالة على أن بيع الجنس بجنسه يجب فيه التساوي، سواء اتفقا في الجودة والرداءة أو اختلفا في ذلك. وفي قوله: "بعِ الجَمْع بالدراهم ثم ابتع بالدراهم جنيبًا" إلى آخره. قد يستدل به على جواز بيع العينة، وأنه يصح أن يشتري ذلك البائع له ويعود له عين ماله؛ لأنه لما لم يفصل ذلك في مقام الاحتمال دلّ على صحة البيع مطلقًا؛ سواء كان من البائع أو من غيره. وقد ذهب إلى جواز ذلك الشافعي وغيره، وهذا أصل للشافعي، أن ترك الاستفصال في مقام الاحتمال يجري مجرى العموم. قال القرطبي (¬1): استدل بهذا الحديث من لم يقل بسد الذرائع؛ فإن بعض صور هذا البيع تؤدي إلى بيع التمر بالتمر متفاضلًا ويكون الثمن لغوًا. قال: ولا حجة في هذا الحديث؛ لأنه لم ينص على جواز ما ذكر، وهو مطلق، والمطلق يحتمل التقييد، وقد دلَّ الدليل على سد الذرائع، فلتكن هذه الصورة ممنوعة. انتهى. ولكنه يتأيد ما ذهب إليه الشافعي بما أخرجه سعيد بن منصور (¬2) من طريق ابن سيرين، أن عمر خطب فقال: إن الدراهم بالدراهم سواء بسواء، ¬

_ (¬1) ينظر الفتح 4/ 400. (¬2) سعيد بن منصور -كما في الفتح 4/ 401.

يدًا بيد. فقال له ابن عوف: فنعطي الخبيث ونأخذ غيره؟ قال: لا، ولكن ابتع بهذا عرضًا، فإذا قبضته وكان لك فبعه، واهضم ما شئت وخذ ما شئت. وأراد بقوله: فنعطي الخبيث. أنَّه إذا كان أحد الدرهمين غير جيد فكيف يؤخذ به درهم جيد سواء بسواء؟ فأجاب بتعليم الحيلة المسوغة، وبما قام عليه الإجماع بأنه يجوز البيع من البائع بعد مدة لا لأجل التوصل إلى عوده بالزيادة، وقد ذكرته الهدوية فقالوا: يجوز البيع من البائع إذا كان غير حيلة، فلا فرق بين التعجيل والتأجيل، وعلى أن المعتبر في ذلك وجود الشرط في أصل العقد وعدمه؛ فإذا كان مشروطًا عند العقد أو قبله على عوده إلى البائع، فالبيع فاسد أو باطل على الخلاف، وإن كان مُضْمرًا غير مشروط فهو صحيح، فهو كمن أراد أن يزني بامرأة فعدل إلى أن عقد بها ليواقعها، فقد عدل عن الحرام إلى الحلال بالطريق التي شرعها الله تعالى. وذهب مالك وأحمد إلى منع ذلك؛ لما فيه من التوصل إلى تفويت مقصد الشارع من المنع من الربا. وسد الذرائع مقصود مدلول عليه بالأدلة الشرعية، كتحريم ما قلَّ من الخمر وغيره، ولما سيأتي من الحديث في العِينة وإن كان فيه مقال. وقوله: وقال في الميزان مثل ذلك. أي وقال فيما كان يوزن إذا بيع بجنسه مثل ما قال في المكيل؛ لأنه لا يباع متفاضلًا، وإذا أريد مثل ذلك بيع بالدراهم وشري ما يراد بها، والإجماع قائم بأنه لا فرق بين المكيل والموزون في ذلك الحكم. وقال ابن عبد البر (¬1): إنهم أجمعوا أن ما كان أصله الوزن لا يصح أن ¬

_ (¬1) التمهيد 20/ 57.

يباع بالكيل، بخلاف ما كان أصله الكيل، فإن بعضهم يجيز فيه الوزن ويقول: إن المماثلة تدرك بالوزن في كل شيء. واحتجت الحنفية بهذا الحديث أن ما كان في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - مكيلًا لا يصح أن يباع ذلك بالوزن متساويًا، بل لا بد من اعتبار كيله وتساويه كيلًا، وكذلك الوزن، وغيرهم يعتبرون الكيل والوزن بعادة البلد ولو خالف ما كان عليه في ذلك الوقت، فإن اختلفت العادة اعتبر بالأغلب، فإن استوى الأمران كان له حكم المكيل إذا بيع بالكيل، وإن بيع بالوزن كان له حكم الموزون. واعلم أنَّه لم يذكر في هذه الرواية أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمره برد المبيع، بل ظاهره أنَّه قرر البيع، وإنما أعلمه بالحكم وعذره هنا لأجل الجهل. وقد خرج المؤيد بالله على أصل الهادي أنَّه يملك الربا بالقبض، ولكنه قال ابن عبد البر (¬1)؛ إن سكوت الراوي عن رواية فسخ العقد ورده لا يدل على عدم وقوعه، وقد أُخرج من طريق أخرى. وكأنه أشار إلى ما أخرجه [مسلم] (أ) (¬2) من طريق أبي نضرة عن سعيد نحو هذه القصة، فقال: "هذا الربا فردوه". قال: ويحتمل تعدد القصة وأن التي لم يقع فيها الرد كانت متقدمة. وفي الحديث دلالة على الترفيه على النفس باختيار الأفضل. والله أعلم. ¬

_ (أ) ساقط من النسخ، والمثبت من فتح الباري 4/ 400.

670 - وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الصُّبْرة من التمر لا يُعلَم مكيلها بالكيل المسمى من التمر. رواه مسلم (¬1). الصبرة، بضم الصاد المهملة: الطعام المجتمع كالكومة. ووجه النهي عدم علم التساوي، وقد تقدم اشتراطه. 671 - وعن معمر بن عبد الله رضي الله عنه قال: إني كنت أسمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "الطعام بالطعام مثلًا بمثل". وكان طعامنا يومئذ الشعير. رواه مسلم (¬2). ظاهر لفظ الطعام أنَّه يشمل كل مطعوم، ويدل على أنَّه لا يباع متفاضلًا وإن اختلف الجنس، والظاهر أنَّه لا يقول أحدٌ بالعموم، وإنما الخلاف في البر والشعير كما تقدم عن مالك، ولكن معمرًا خصص الطعام بالشعير، وهذا من التخصيص بالعادة الفعلية حيث لم يغلب الاسم. وقد ذهب إلى التخصيص بها الحنفية، والجمهور لا يخصصون بها إلا إذا اقتضت غلبة الاسم، وإلا حمل اللفظ على العموم، ولكنه مخصوص بما تقدم من قوله: "فإذا اختلفت الأصناف". وغيره وبقي مقصودًا من الطعام ما اتفق منه جنسًا، وقد تقدم سياق حديث معمر وما كان يذهب إليه احتياطًا من عدم جواز التفاضل في البر بالشعير. والله أعلم. 672 - وعن فَضَالة بن عبيد رضي الله عنه قال: اشتريت يوم خيبر ¬

_ (¬1) مسلم، كتاب البيوع، باب تحريم - صلى الله عليه وسلم - صبرة التمر المجهولة القدر بتمر 3/ 1162 ح 42 - 1530. (¬2) مسلم، كتاب البيوع، باب بيع الطعام مثلًا بمثل 3/ 1214 ح 93 - 1592.

قلادة باثني عشر دينارًا فيها ذهب وخرز، ففصَّلتها فوجدت فيها أكثر من اثني عشر دينارًا، فذكرت ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: "لا تباع حتَّى تفصَّل". رواه مسلم (¬1). وأخرج الحديث الطبراني في "الكبير" (¬2) بطرق كثيرة، وفي بعضها: قلادة فيها خرز وذهب. وفي بعضها: ذهب وجوهر. وفي بعضها: [خرز وذهب، (5). وفي بعضها: خرز مغلفة بذهب. وفي بعضها: اثنا عشر دينارا. وفي أخرى: ابتاعها بتسعة دنانير. بتقديم التاء على السين، وفي أخرى: سبعة دنانير. بتقديم السين على الباء الموحدة، وهو شك من الراوي، وفي كثير من نسخ مسلم: قلادة فيها اثنا عشر دينارًا. وأجاب البيهقي (¬3) عن هذا الاختلاف، بأنها كانت بيوعًا شهدها (جـ) فضالة. قال المصنف رحمه الله تعالى (¬4): والجواب المسدد عندي أن هذا الاختلاف لا يوجب ضعفًا، بل المقصود من الاستدلال محفوظ لا اختلاف فيه؛ وهو النهي عن بيع ما لم يفصَّل، وأما جنسها وقدر ثمنها فلا يتعلق به في هذه الحالة ما يوجب الحكم بالاضطراب، وحينئذ ينبغي (د) ¬

_ (أ) التفصيل: التبيين. يريد تبين الذهب من الخرز. وينظر اللسان (ف ص ل). (ب) كذا في النسخ، والتلخيص 3/ 9، وفي معجم الطبراني 18/ 302: ذهب وخرز. (جـ) في جـ: يشهدها. (د) في جـ: ينتفي.

الترجيح بين رواتها وإن كان الجميع ثقات، فيحكم بصحة رواية أحفظهم وأضبطهم، فتكون رواية الباقين بالنسبة إليه شاذة. وهذا جواب حسن يجاب به فيما شابه هذا، مثل حديث جابر وقصة جَمَله ومقدار ثمنه (¬1). والحديث فيه دلالة على أنَّه لا يجوز بيع ذهب مع غيره بذهب حتَّى يفصَّل، فيباع الذهب بوزنه ذهبًا، ويباع الآخر بما زاد، وكذا غيره من الربويات، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يباع حتَّى يفصَّل". وصرح ببطلان العقد، وأنه (أ) يجب التدارك له، وهذه المسألة المذكورة في كتب الشافعية (¬2) المعروفة بمسألة مُدّ عَجْوة؛ وصورتها: باع مد عجوة ودرهما بمدي (ب) عجوة أو بدرهمين. وقد ذهب إلى العمل بظاهر الحديث الشافعي وأحمد وإسحاق ومحمد بن الحكم المالكي، وهو منقول عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وابنه وجماعة من السلف. والخلاف في ذلك للعترة جميعًا، وأبو حنيفة والثوري والحسن بن صالح، فقالوا: يجوز ذلك بأكثر مما فيه من الذهب، ولا يجوز بمثله ولا بدونه. وقال مالك وأصحابه وآخرون: يجوز بيع السيف المحلى بذهب، وكذا غيره مما فيه ذهب، بذهب، إذا كان الذهب في المبيع تابعًا لغيره، وقدروه بأن يكون الثلث فما دونه. وقال حماد بن أبي سليمان: يجوز ¬

_ (أ) في جـ: فإنه. (ب) في جـ: بمد.

بيعه بالذهب مطلقًا، سواء باعه بمثله من الذهب أو أقل أو أكثر. وهو منابذ للحديث. ووجه قول العترة والحنفية أنَّه لما حصل مقابلة الذهب بالذهب، وكان الزائد من الذهب في مقابلة المصاحِب، صحَّ العقد، لأنه إذا احتمل العقد وجه صحة وبطلان حُمل على الصحة. وحديث القلادة الذهب فيها أكثر من اثني عشر دينارًا، وهي الرواية التي صححها أبو علي الغساني، وكذلك رواية: اثنا عشر. ومثل هذا، لا يجيزه أهل القول المذكور، وهم يشترطون أن يكون المنفرد أكثر من المصاحب؛ ليكون ما زاد من المنفرد في مقابلة المصاحب. وأجاب [الطحاوي] (أ) بأنه إنما نهي عنها لأنه كان في بيع الغنائم؛ لئلا يقع المسلمون في بيعها. وأجاب الشافعية عن الجوابين بأن الحديث فيه دلالة على علة النهي، وهو عدم الفصل، حيث قال: "لا يباع حتَّى يفصَّل". وظاهره الإطلاق في المُساوي وغيرها، والغنائم وغيرها، مع أن في الروايات الأخرى ما يدل على أن الذهب المصحوب أقل من المنفرد، ففيها تأييد للتعليل المذكور، فظهر صحة ما ذهب إليه الشافعي، ولعل الحكمة في اعتبار الفصل هو سد الذريعة إلى وقوع التفاضل في الجنس الربوي، ولا يكون إلا بتمييزه بعقد، واختبار المساواة بالوزن أو الكيل، وعدم الكفاية بالظن في التغليب كما أجازه أهل القول الثاني، فإنهم صرحوا بجواز بيع الحنطة في سنبلها بحنطة خالصة، وكذلك الزُّبد الخالص بالزيت، والتغليب إنما هو بالظن، مع أن الهدوية خالفوا في هذا الحكم أصلهم، وهم يصرحون (ب) بأن هذا الضرب -وهو بيع ¬

_ (أ) في النسخ: الخطابي، والمثبت من شرح مسلم 11/ 18، وينظر شرح مشكل الآثار 15/ 378. (ب) في جـ: مصرحون.

الجنس بجنسه- لا يُكتفى في المساواة بالظن، وأنه من الضروب التي لا يعمل فيها إلا بالعلم. وأما وجه قول مالك فلعله إذا كان الجنس المقابل لجنسه الثلث فما دون، فهو مغلوب ومكثور بالجنس الخالف، والأكثر ينزل في غالب الأحكام منزلة الكل، فكأنه لم يبع (أ) ذلك الجنس بجنسه. والله أعلم. 673 - وعن سمُرة بن جندب رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيع الحيوان بالحيوان نسيئة. رواه الحمسة وصححه الترمذي وابن الجارود (¬1). الحديث قال الترمذي: حسن صحيح. وقال غيره: رجاله ثقات. إلا أن الحفاظ رجحوا إرساله؛ لما في سماع الحسن من سمُرة من النزاع، لكن رواه ابن حبان والدارقطي عن ابن عباس رضي الله عنه (¬2). وأخرج الحديث أحمد وأبو يعلى والضياء في "المختارة" (ب)، كلهم من حديث الحسن عن سمرة، ورجاله ثقات أيضًا، إلا أنَّه اختلف في وصله وإرساله؛ فرجح البخاري وغير واحد إرساله. ¬

_ (أ) في جـ: يقع. (ب) زاد في النسخ: و. وينظر سبل السلام 3/ 21.

وعن جابر عند الترمذي وغيره (¬1) وإسناده لين، وعن جابر بن سمرة عند عبد الله في زيادات "المسند" (¬2)، وعن ابن عمر عند الطحاوي والطبراني (¬3). الحديث فيه دلالة على عدم صحة بيع الحيوان بالحيوان نسيئة، واللفظ محتمل بأن يراد بنسيئة من الطرفين جميعًا، فيكون من بيع الكالئ بالكالئ (¬4)، وهو لا يصح، وبهذا فسر الشافعي الحديث، توفيقًا (أ) بين هذا وبين حديث أبي رافع في استسلاف النبي - صلى الله عليه وسلم - بَكرًا وقضي رَباعيًّا (¬5). وسيأتي (¬6) -وأن يراد أنَّه لا يصح أن يكون أحد الطرفين معدومًا والآخر موجودًا، وقد تعلق (ب) بهذا الحنفية والهدوية والحنابلة، [حيث منعوا قرض الحيوان بحيوان] (جـ)؛ قالوا: لعموم حديث سمرة. وجعلوه ناسخًا لحديث أبي رافع. ويجاب عنه بأن النسخ لا يثبت مع الاحتمال، والجمع بين الدليلين ما أمكن هو الواجب، وقد أمكن الجمع بما تقدم، ويؤيد ذلك آثار عن الصحابة ¬

_ (أ) في جـ: توقيفًا. (ب) في ب: فعلوا. (جـ) ساقط من: الأصل، جـ. والعبارة بهامش ب.

أخرجها البخاري، قال (¬1): واشترى ابن عمر راحلة بأربعة أبعرة مضمونة عليه يوفيها صاحبها بالرَّبَذة. وقد وصله مالك والشافعي عنه عن نافع عن ابن عمر بهذا (¬2). وأخرجه ابن أبي شيبة (¬3) من طريق أبي [بشر] (أ) عن نافع. والراحلة: ما أمكن ركوبه من ذكر أو أنثى. وقوله: مضمونة. صفة راحلة، أي تكون في ضمان البائع حتَّى يوفيها، أي يسلمها للمشتري. بالربذة. بفتح الراء، موضع معروف بين مكة والمدينة. قال (1): وقال ابن عباس: قد يكون البعير خيرا من البعيرين. وهذا وصله الشافعي (¬4) من طريق طاوس، [أن] (ب) ابن عباس سئل عن بعير ببعيرين، فقاله. قال (¬5): واشترى رافع بن خديج بعيرا ببعيرين، فأعطاه أحدهما وقال: آتيك بالآخَر غدًا رَهْوًا إن شاء الله تعالى. وصله عبد الرزاق (¬6) من طريق مطرف بن عبد الله. وقوله: رَهوًا. بفتح الراء وسكون الهاء، أي سهلًا، والرهو: السير اليسير، ¬

_ (أ) في الأصل، ب: نسر. (ب) في الأصل، ب: أو.

والمراد هنا أنَّه يأتيه به سريعًا بغير مطل. قال: وقال ابن المسيب: لا ربا في الحيوان؛ البعير بالبعيرين، والشاة بالشاتين إلى أجل. هذا وصله مالك (¬1) عن ابن شهاب عنه: لا ربا في الحيوان. ووصله ابن أبي شيبة (¬2) من طريق أخرى عن الزهري عنه: لا بأس البعير بالبعيرين نسيئة. فهذه الآثار تقوي أن العمل بحديث أبي رافع باق غير منسوخ. واعلم أن الهدوية إنما يعللون منع ذلك في البيع (¬3)؛ لأن المبيع القيمي يجب أن يكون موجودًا عند العقد في ملك البائع له، والحيوان قيمي مبيع مطلقًا، فيجب كونه موجودًا وإن لم يكن حاضرًا مجلس العقد، ولابد أن يكون متميزًا عند البائع، إما بإشارة أو لقب أو رصف، ويمنعون قرض الحيوان لعدم إمكان ضبطه. وقال مالك: يجوز بيع الحيوان بالحيوان إن اختلف الجنس لا إن اتَّحد. وجمع بين الحديثين بهذا. 674 - وعن ابن عمر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إذا تبايعتم بالعينة، ليأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد، سلط الله عليكم ذُلًّا لا ينزعه حتَّى ترجعوا إلى دينكم". رواه أبو داود (¬4) من رواية نافع عنه، وفي إسناده مقال، ولأحمد (¬5) نحوه من رواية ¬

_ (¬1) مالك في الموطأ 2/ 654 ح 63. (¬2) ابن أبي شيبة 7/ 219 ح 20689. (¬3) يعني منع بيع الحيوان الموجود بالحيوان المفقود. ينظر سبل السلام 3/ 23. (¬4) أبو داود، كتاب البيوع، باب في النهي عن العينة 3/ 272 ح 3462. (¬5) أحمد في الزهد -كما في نصب الراية 4/ 17.

عطاء، ورجاله ثقات، وصححه ابن القطان. في إسناد أبي داود أبو عبد الرحمن الخراساني، واسمه إسحاق، عن عطاء الخراساني، قال الذهبي في "الميزان" (¬1): هذا من مناكيره. وأصل الحديث: قال ابن عمر: أتى علينا زمان وما يرى أحدنا أنَّه أحق بالدينار والدرهم من أخيه المسلم، ثم أصبح الدينار والدرهم أحب إلى أحدنا من أخيه، سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. الحديث. والحديث له طرق كثيرة، عقد لها البيهقي بابًا وبيّن عللها (¬2). وقال المصنف رحمه الله تعالى (¬3): وعندي أن إسناد الحديث الَّذي صححه ابن القطان معلول؛ لأنه لا يلزم من كون رجاله ثقات أن يكون صحيحًا، لأن الأعمش مُدَلسٌ، ولم يُذكَر (أ) سماعه من عطاء، وعطاء يحتمل أن يكون هو عطاء الخراساني، فيكون فيه تدليس التسوية؛ بإسقاط نافع بين عطاء وابن عمر، فيرجع الحديث إلى الإسناد الأول، وهو المشهور. انتهى. وقوله: "بالعِينة". بكسر العين وسكون الياء المثناة من تحت؛ هي أن يبيع سلعة بثمن معلوم إلى أجل، ثم يشتريها من المشتري بأقل، ليبقي الكثير في ذمته، فسميت عِينة لحصول العين - أي النقد - فيها، أو لأنه (ب) يعود إلى ¬

_ (أ) في التلخيص الحبير: ينكر. (ب) في جـ: لأنها.

البائع عين ماله. والأخذ بأذناب البقر كناية عن الاشتغال عن الجهاد بالحرث. والرضا بالزرع كناية عن كونه قد صار [همهم] (أ) ونُهمتهم. وترك الجهاد يعم جهاد العدو من الكفار والغزو في سبيل الله، وجهاد النفس ومخالفة الشيطان والهوى. وتسليط الله مجاز عن جعلهم أذلاء، عبر بالتسليط لما في ذلك من الغلبة والقهر، والذُّل بضم الذال المعجمة وكسرها: الاستهانة والضعف. وقوله: "لا ينزعه". أي لا يزيله ويكشفه عنكم. والرجوع إلى الدين: أي (ب) الاشتغال بأعمال الدين. وفي هذا دلالة على الزجر البالغ والتقريع الهائل، حيث جعل ذلك بمنزلة الردة والخروج عن الدين. وفيه دلالة على تحريم العِينة، ولظهور هذا المآخذ قال بذلك بعض الشافعية، وقال: أوصانا الشافعي باتباع الحديث إذا صحَّ بخلاف مذهبه. وقد تقدم الكلام في ذلك في حديث شراء عامل خيبر الجَمْع بالجنيب (¬1). والله أعلم. 675 - وعن أبي أمامة رضي الله عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من شفع لأخيه شفاعة فأهدى له هدية فقبلها فقد أتى بابًا عظيمًا من أبواب الربا". رواه أحمد وأبو داود (¬2)، وفي إسناده مقال. ¬

_ (أ) في الأصل، ب: همتهم. (ب) في جـ: و.

الحديث فيه دلالة على تحريم الهدية في مقابلة الشفاعة للأخ، وظاهر الحديث، سواء كان قاصدًا لذلك عند الشفاعة أو لم يكن كذلك، فإن القبول محرم، وجعله من باب الربا، ووصفه بأنه باب عظيم، مما يؤكد التحريم، ولعل تسميته بالربا من باب الاستعارة؛ للشبه بينهما؛ وذلك لأن الربا هو الزيادة في المال من الغير لا في مقابلة عوض مال، وهذا مثله، وتقدم نظيره. والله أعلم. 676 - وعن عبد الله بن [عمرو] (أ) رضي الله عنه قال: لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الراشي والمرتشي. رواه أبو داود والترمذي وصححه (¬1). وأخرجه أيضًا أحمد، [وابن حبان] (ب) في [القضاء] (جـ)، وابن ماجة في الأحكام، والطبراني في "الصغير" (¬2)، قال الهيثمي (¬3): ورجاله ثقات. قوله: لعن. اللعن هو البعد من مظان الرحمة ومواطنها، وقد لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أصنافًا كبيرة تزيد على عشرين. وفيه دلالة على جواز لعن أهل ¬

_ (أ) في الأصل، جـ: عمر. (ب) ساقط من النسخ ومن سبل السلام 3/ 26. والمثبت من التلخيص الحبير 4/ 189 ويقتضيه السياق، فإن الإمام أحمد ليس له مصنف في القضاء، وابن حبان أخرجه في صحيحه في كتاب القضاء. (جـ) في الأصل، جـ: القضاة. والمثبت من صحيح ابن حبان، وسبل السلام.

المعاصي من أهل القبلة. قال بعض المحققين ما محصوله أن اللعن إما أن يتعلق بمعيَّن أو بالجنس، فإن كان الثاني فهو جائز، لتعليق الحكم بالوصف، وإن كان الأول فهو غير جائز، وإنما يوقف على الإذن من الشارع ولا يقاس على ما ورد. والراشي: هو الَّذي يبذل المال للتوصل إلى الباطل، مأخوذ من الرَّشاء الَّذي هو الحبل يتوصل به إلى الماء في البئر. سمي منحة الحاكم رشوة بضم الراء وكسرها، لما كان يتوصل بها إلى أن يحكم له على خصمه، وعلى هذا فبذل المال للتوصل إلى الحق لا يكون رشوة. والمرتشي: آخذ الرشوة وهو الحاكم، فكانت اللعنة عليهما (أ) جميعًا، فالراشي لتوصله إلى الباطل، والمرتشي للحكم بغير الحق. وفي الباب أحاديث كثيرة عن أبي هريرة وعن ثوبان (¬1)، وفي حديث ثوبان بزيادة: والرائش. بالشين المعجمة، وهو الَّذي يمشي بينهما، والرشوة على تبديل أحكام الله نشأت عن اليهود المستحقين اللعنة، وقد جاء في التوراة في السفر الثاني منها (¬2): لا تقبلن الرشوة؛ فإن الرشوة تعمي أبصار الحكماء في القضاء. ¬

_ (أ) في جـ: بينهما.

وجه ذكر المصنف لهذا الحديث في هذا الباب، هو أنَّه لما كان متعاطي ما ذكر ملعونا (أ) لأجل أخذ المال الَّذي يشبه الربا، فكذلك آخذ الربا وموكله. 677 - وعنه، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمره أن (5) يجهز جيشًا، فنفدت الإبل، فأمره أن يأخذ على قلائص الصدقة. قال: فكنت آخذ البعير بالبعيرين إلى إبل الصدقة. رواه الحاكم والبيهقي (¬1) ورجاله ثقات. الحديث فيه دلالة على جواز اقتراض الحيوان، وفيه ثلاثة مذاهب، الشافعي ومالك وجماهير العلماء من السلف والخلف، ورواه في "شرح الإبانة" عن الصادق والباقر، أنَّه يجوز قرض جميع الحيوانات، إلا جارية لمن (جـ) يملك وطءها، فإنه لا يجوز، ويجوز لمن لا يملك وطءها، كمحارمها والمرأة والخنثى. والثاني، مذهب المزني وابن جرير وداود، أنَّه يجوز قرض الجارية وسائر الحيوانات لكل أحد. والثالث، مذهب الهدوية وأبي حنيفة والكوفيين، أنَّه لا يجوز قرض شيء من الحيوان (د). وهذا الحديث يرد عليهم، وقد تقدم الكلام في دعواهم النسخ. وحكم السلَم حكم القرض في الجواز، وهذا الحديث محله باب القرض، وذكره المصنف هنا للتنبيه أنَّه لا ربا في الحيوان. ¬

_ (أ) في النسخ: ملعون. والمثبت هو الصواب. (ب) ساقط من: ب، جـ. (جـ) في جـ: لم. (د) في الأصل، جـ: الحيوانات.

678 - وعن ابن عمر رضي الله عنه قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن المزابنة، أن يبيع ثمر حائطه إن كان نخلا بتمر كيلًا، وإن كان كرمًا أن يبيعه بزبيب كيلًا، وإن كان زرعًا أن يبيعه بكيل طعام، نهى عن ذلك كله. متفق عليه (¬1). المزابنة؛ بالزاي والباء الموحدة والنون: مفاعلة من الزَّبْن بفتح الزاي وسكون الباء، وهو الدفع الشديد، ومنه سميت الحربُ الزَّبون؛ لشدة الدفع فيها، وسمي البيع الخصوص بالمزابنة؛ لأن كل واحد من المتبايعين يدفع صاحبه عن حقه، أو لأن أحدهما إذا وقف على ما فيه من الغبن أراد دفع البيع بفسخه وأراد الآخر دفعه عن هذه الإرادة بإمضاء البيع، وقد تقدم. قوله: ثمر حائطه. بالثاء المثلثة وفتح الميم، يشمل الرطب وغيره، والمراد ما كان في أصله رطبا من هذه الأمور المذكورة، وأراد بالكرم العنب. والحق الشافعي بذلك كل بيع مجهول بمجهول أو بمعلوم من جنسه إذا كان يجري فيه الربا. قال: فأما من قال: أضمن لك صبرتك هذه بعشرين صاعًا مثلًا فما زاد فلي وما نقص فعلي. فهو من القمار وليس من المزابنة، إلا أنَّه قد أخرج البخاري (¬2) عن ابن عمر في تفسير المزابنة أن يبيع الثمر (أ) بكيل؛ إن زاد فلي، وإن نقص فعلي. ولا منع من أن يسمي مزابنة وإن كانت قمارا. ¬

_ (أ) في جـ: التمر.

وقال مالك (¬1): المزابنة كل شيء من الجزاف لا يعلم كيله ولا وزنه ولا عدد؛ إذا بيع بشيء مسمى من الكيل وغيره، سواء كان يجري الربا في نقده (أ) أو لا، وسبب النهي ما يدخله من القمار والغرر. قال ابن عبد البر (¬2): نظر مالك إلى معنى المزابنة لغةً وهي المدافعة، فيدخل فيها القمار والمخاطرة. وفسر بعضهم المزابنة بأنها بيع الثمر (ب) قبل بدو صلاحه. وهو خطأ، وقيل: هي المزارعة على الجزء. وقيل غير ذلك. والتفسير الوارد في الحديث هو الأولى، لأن ظاهر الروايات أنها من المرفوع، وعلى تقدير أن يكون من كلام الصحابي فهم أعرف بتفسيره من غيرهم. وقال ابن عبد البر (¬3): لا مخالف لهم في أن مثل هذا مزابنة. وإنما اختلفوا هل يلحق بذلك كل ما لا يجوز إلا مثلًا بمثل؟ فالجمهور على الإلحاق، للمشاركة في العلة، وقيل: يخصص ذلك بالنخل والكرم. وفي كلام الهدوية في تفسير المزابنة: هي بيع الرطب على النخل بتمر مكيل أو غير مكيل. والعلة في ذلك هو عدم العلم بالتساوي مع الاتفاق في الجنس والتقدير، ولكنه يصح الإلحاق، لمشاركة ذلك في العلة في الحكم لا في الاسم، لأن الأسماء لا تثبت بالقياس. 679 - وعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سئل عن اشتراء الرطب بالتمر فقال: "أينقص الرطب إذا ¬

_ (أ) كتب فوقه في جـ: أي حاضره. (ب) في جـ: التمر.

ييس؟ ". قالوا: نعم. فنهى عن ذلك. رواه الخمسة وصححه ابن المديني والترمذي وابن حبان والحاكم (¬1). و (أ) في روايةٍ: "فلا إذنْ". وأخرج الحديث مالك والشافعي وأحمد وابن خزيمة والدارقطني والبيهقي والبزار (¬2)، كلهم من حديث أبي عياش واسمه زيد، أنَّه سأل سعد ابن أبي وقاص عن البيضاء بالسُّلت، فقال: أيتهما أفضل؟ فقال: البيضاء. فنهى عن ذلك. وذكر الحديث. والبيضاء ضربٌ من الشعير ليس فيه قشر. كذا في "الصحاح" (¬3)، وفي "الغريبين": البيضاء حب بين الحنطة والشعير (¬4). انتهى (ب). والسُّلت: ضرب من الشعير قشرته رقيقة وحبه صغار. كذا في "الضياء"، وفي ¬

_ (أ) ساقط من: ب، جـ. (ب) ساقط من: الأصل.

"القاموس" (¬1): السُّلت بالضم: الشعير أو ضرب منه. وفي رواية لأبي داود والحاكم (¬2) مختصرة: نهي عن بيع الرطب بالتمر نسيئة. وصححه ابن المديني، وإن كان مالك علقه عن داود بن الحصين، إلا أن مالكا لقي شيخه بعد ذلك فحدث به مرة عن داود، ثم استقر رأيه على التحديث به عن شيخه، قال ابن المديني (¬3): إن والده حدث به عن مالك بتعليقه عن داود، إلا أن سماع والده من مالك قديم، ثم حدث به مالك عن شيخه، فصح من طريق مالك. ورواه البيهقي (¬4) مرسلًا عن عبد الله بن أبي سلمة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، إلا أنَّه مرسل قوي، وأعله الطحاوي (¬5) والطبري (أ) وأبو محمد بن حزم (¬6) بجهالة حال زيد أبي عياش، ولا علة، فإن الدارقطني قال (¬7): إنه ثبت ثقة. وقال المنذري (¬8): قد روى عنه ثقات، وقد اعتمده مالك مع شدة نقده. قال الحاكم (8): ولا أعلم أحدا طعن فيه. وجزم الطحاوي (¬9) بوهم من زعم بأنه أبو عياش الزرقي زيد بن الصامت، أو زيد بن ¬

_ (أ) في ب: الطبراني. وينظر التلخيص الحبير 3/ 10.

زيد بن النعمان الصحابي المشهور، وصحح أنَّه غيره، وهو كما قال. والحديث فيه دلالة على عدم جواز ما ذكر لعدم العلم بالتساوي، وقد تكرر الكلام في نظائره. 680 - وعن ابن عمر رضي الله عنه، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيع الكالئ بالكالئ. يعني الدين بالدين. رواه إسحاق والبزار بإسناد ضعيف (¬1). ورواه الحاكم والدارقطني (¬2) من دون تفسيره، ولكن في إسناده موسى بن عُبيدة الرَّبَذِي وهو ضعيف (¬3)، وقد وقع الوهم من الحاكم بتصحيفه موسى بن عقبة، فصححه على شرط مسلم، وقد تعجب البيهقي من تصحيفه على الحاكم. وقد أخرجه البيهقي (¬4) عن علي بن محمد المصري شيخ الدارقطني فقال: عن موسي غير منسوب. ورواه أيضًا المصري وصرح بموسى بن عبيدة الربذي، ورواه ابن عدي (¬5) من طريق الدراوردي عن موسة بن عبيدة، وقال: تفرد به موسى بن عبيدة. وقال أحمد بن حنبل (¬6): لا تحل عندي الرواية عنه، ولا أعرف هذا الحديث عن غيره. وقال أيضًا: ليس في هذا حديث يصح، لكن [إجماع] (أ) الناس على أنَّه لا يجوز بيع دين ¬

_ (أ) في الأصل: أجمع.

بدين. وقال الشافعي (¬1): أهل الحديث يوهنون هذا الحديث. وقد جزم الدارقطني في "العلل" (¬2) بأن موسى بن عبيدة تفرد به. وأخرج الطبراني (¬3) من طريق عيسى بن سهل بن رافع بن خديج عن أبيه عن جده: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن المحاقلة والمزابنة، ونهى أن يقول الرجل: أبيع هذا بنقد وأشتريه بنسيئة. حتَّى يبتاعه ويحرزه، ونهى عن كالئ بكالئ، دين بدين. ولكنه من طريق موسى بن عبيدة أيضًا عن عيسى بن سهل. والكالئ من: كلأ الدّين كلئًا فهو كالئ، إذا تأخر، ومنه قولهم: بلغ الله بك أكلأ العمر. أي: أطولَه وأكثره تأخرا. وكلاله إذا أنسأته، وبعض الرواة لا يهمز "الكالئَ" تخفيفا. قال في "النهاية" (¬4): وذلك أن يشتري الرجل شيئًا إلى أجل، فإذا حل الأجل لم يجد ما يقضي به، فيقول: بعنيه إلى أجل آخر بزيادة شيء. فيبيعه ولا يجري بينهما تقابض. وقال الحاكم عن أبي الوليد حسان: هو بيع النسيئة بالنسيئة. كذا نقله أبو عبيد في "الغريب" (¬5)، وكذا نقله الدارقطني (¬6) عن أهل اللغة. وروى البيهقي (¬7) عن نافع: هو بيع الدين بالدين. وقد رواه الشافعي (¬8) في باب الخلاف فيما يجب به البيع، بلفظ: نهى عن بيع الدين بالدين. والحديث المذكور في الأصل ظاهره أن التفسير ¬

_ (¬1) الشافعي في الأم 3/ 8. (¬2) الدارقطني في العلل الجزء الرابع (ق 74 - مخطوط). (¬3) الطبراني في الكبير 4/ 317 ح 4376. (¬4) النهاية 4/ 194. (¬5) غريب الحديث 1/ 20. (¬6) الدارقطني 3/ 71. (¬7) البيهقي 5/ 290. (¬8) الشافعي في الأم 3/ 8.

مرفوع. والحديث فيه دلالة على أنَّه منهي عن بيع النسيئة بالنسيئة، والبيع إذا وقع على هذا فهو فاسد، والظاهر أن ذلك إجماع، وإن اختلف العلماء هل الفاسد غير الباطل أو هما في معنى واحد؟ والله أعلم. عدة أحاديث الباب ثمانية عشر حديثًا.

باب الرخصة في العرايا وبيع الأصول والثمار

باب الرخصة في العرايا وبيع الأصول والثمار 681 - عن زيد بن ثابت رضي الله عنه، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رخص في العرايا أن تباع بخرصها كيلًا. متفق عليه (¬1). ولمسلم (¬2): رخص في العَرِيَّة يأخذها أهل البيت بخرصها تمرا يأكلونها رطبا. قوله: رخص. الترخيص في الأصل بمعنى التسهيل والتيسير، والرخصة في اصطلاح أهل الشرع ما شرع من الأحكام لعذر مع بقاء دليل الإيجاب والتحريم لولا ذلك العذر. وهذا فيه دلالة على أن حكم العرايا مخرج من بين المحرمات مخصوص بالحكم، ويؤخذ منه الرد على من قال من الحنفية: إن دليل تحريم المزابنة عام، وهذا تحليل في شيء آخر. وعلى من قال منهم: إنه منسوخ بالنهي عن بيع الثمر بالتمر. أي الرطب بالتمر؛ لأن المنسوخ لا يكون بعد الناسخ، وهو مصرح باستثنائه في حديث جابر، أخرجه البخاري (¬3)، قال: نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الثمر حتَّى يطب، ولا يباع شيء منه إلا بالدنانير والدراهم، إلا العرايا. وقوله: في العرايا. أي في بيع [ثمر] (أ) العرايا؛ لأن العرية هي النخلة، ¬

_ (أ) في الأصل، جـ: تمر.

والعرايا جمع العرية، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه. واختلف العلماء في تفسير العرايا؛ فقال مالك: العرية أن يُعرِيَ الرجلُ الرجلَ النخلة، ثم يتأذى المُعْرِي بدخول المعرَى عليه، فرخص له أن يشتريها -أي رطبها- منه بتمر؛ أي يابس. ذكره البخاري عنه معلقا (¬1). والعرية في الأصل عطية [ثمر] (أ) النخل دون الرقبة، كانت العرب في الجدب يتطوع أهل النخل منهم بذلك على من لا ثمر له كما كانوا يتطوعون بمنيحة الشاة والإبل، واستشهد لذلك بقول حسان بن ثابت أو سويد بن [الصامت] (ب) على اختلاف الروايتين (¬2): وليست بسَنهاء ولا رُجَّبية ... ولكن عرايا في السنين الجوائح والسنهاء: التي لا تحمل في سنين الجدب، والرجبية التي تدعم حتَّى لا تميل من الضعف، والعرية فعيلة بمعنى مفعولة أو فاعلة، يقال: عَرَى النخل. بفتح العين والراء، يعروها، إذا أفردها عن غيرها، بأن أعطاها الآخر على سبيل المنحة ليأكل ثمرها. ويقال: عَرِيت النخلة، بفتح العين وكسر الراء، تُعري لأنها عُريت عن حكم أخواتها. ورجح هذا قول مالك بالاشتقاق، وبأن هذا الإطلاق مشهور بين أهل المدينة متداول فيما بينهم، ومالك هو ¬

_ (أ) في الأصل جـ: تمر. (ب) في النسخ: الصلت. وهو تحريف، والمثبت من اللسان (ر جـ ب، س ن هـ، ع ر ي)، ونسب البيت إليه. وتنظر ترجمته في أسد الغابة 2/ 489.

أعرف بحال أهل المدينة، وهذا التعليق عن مالك وصله ابن عبد البر (¬1) من طريق ابن وهب عن مالك. وأخرج الطحاوي (¬2) عن مالك أن العرية النخلة للرجل في حائط غيره، وكانت العادة أنهم يخرجون بأهليهم في وقت الثمار إلى البساتين، فيكره صاحب النخل الكثير دخول الآخر عليه، فيقول: أنا أعطيك بخرص نخلتك تمرا. فيرخص له في ذلك. ومن شرط العرية عند مالك أن تكون بهذه المثابة؛ لما يدخل على المالك من الضرر بدخول حائطه، أو لدفع الضرر عن الآخر بقيام صاحب النخل عليها بما يحتاج إليه من السقي وغيره، وأن يكون البيع بعد بدو الصلاح، وأن يكون بتمر (أ) مؤجل. وخالف الشافعي في الأخير فاشترط التقابض. ومثل قول مالك ما أخرجه أبو داود (¬3) من حديث ابن إسحاق معلقا، وعلق بعضه البخاري (¬4)، قال: العرايا أن يهب الرجلُ للرجل النخلات، فيشق عليه أن يقوم عليها، فيبيعها بمثل خرصها. وقال يزيد بن هارون عن سفيان بن حسين - أخرجه الإمام أحمد (¬5) عنه-: العرايا نخل كانت توهب للمساكين، فلا يستطعون أن ينتظروا بها، فرُخِّص لهم أن يبيعوها بما شاءوا من التمر. وهذا أيضًا إحدى الصورتين ¬

_ (أ) في جـ: بثمن.

اللتين في تفسير مالك. وقال الشافعي (¬1) في تفسير العرايا: هو بيع الرطب على رءوس النخل بقدر كيله من التمر خرصا فيما دون خمسة أوسق. ولا بد من قبض التمر عنده. قال البخاري (¬2): وقال ابن إدريس: العرية لا تكون إلا بالكيل من التمر يدًا بيد، لا تكون بالجزاف. والمراد بابن إدريس الشافعي، كما جزم به [المزي] (أ) في "التهذيب" (¬3)، والذي في "الأم" للشافعي (¬4)، وذكره عنه البيهقي في "المعرفة" (¬5) من طريق الربيع عنه قال: العرايا أن يشتري الرجل ثمر النخلة وأكثر بخرصه من التمر (ب)؛ بأن يخرص الرطب، ثم يقدر كم ينقص إذا يبس، ثم يشتري بخرصه تمرا، فإن تفرقا قبل أن يتقابضا فسد البيع. انتهى. وفي مذهب الشافعي وجه أنَّه يختص جواز بيع العرايا بمحاويج الناس، وقد ورد ذلك في حديث زيد بن ثابت أنَّه سمى رجالا محتاجين من الأنصار، شكوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا نقد في أيديهم يبتاعون به رطبا، ويأكلون مع الناس، وعندهم فضول قوتهم من التمر، فرخص لهم أنَّه يبتاعوا العرايا بخرصها من التمر. أخرجه الشافعي في ¬

_ (أ) في النسخ: المزني. والمثبت من الفتح 4/ 391. (ب) في جـ: الثمر.

"مختلف الحديث" (¬1) عن محمود بن لبيد. ففي الحديث الترخيص لمن كان محتاجًا مع حضور التمر، وهو وجه ظاهر لما اشترطه الشافعي. قال الإمام المهدي في "البحر": وما ذكره الشافعي موافق لما ذكرنا، ولا دليل على اشتراط التقابض، وقد عرفت مأخذه من حديث زيد؛ لأن الترخيص إنما وقع في بيع ما ذكر مع عدم تيقن التساوي فقط، وأما التقابض فلم يقع فيه الترخيص، فبقي على الأصل من اعتباره، وأيد الشافعي ما ذهب إليه بأن في قوله: يأكلونها رطبًا. مشعرٌ بأن مشتري العرية يشريها ليأكلها، وأنه ليس له رطب غيرها. وعلى تفسير مالك لصاحب الحائط رطب غيرها، فلم يفتقر إلى أكل العرية. ورد هذا القول ابنُ المنذر وقال (¬2): لا أعرف أحدًا ذكره غير الشافعي. قال: ولعل الشافعي أخذه من "سير الواقدي". قال: وعلى تقدير صحته فلا حجة فيه، إذ لم يقع ذلك [في] (أ) كلام الشارع، وإنما ذُكِر في القصة، فيحتمل أن تكون الرخصة وقعت لأجل الحاجة المذكورة، ويحتمل أن يكون للسؤال، فلا يتم الاستدلال مع إطلاق الأحاديث المنصوصة من الشارع. وقد جمع بين الأمرين الحنابلة، فعندهم تجوز العرية لحاجة صاحب الحائط إلى البيع أو لحاجة المشتري إلى الرطب. وقال القرطبي (2): كأن الشافعي اعتمد في تفسير العرية على قول يحيى ¬

_ (أ) في النسخ: من، والمثبت من الفتح 4/ 393.

ابن سعيد، وليس بصحابي حتَّى يعتمد عليه مع معارضة رأي غيره؛ مع أن المتمكن من التمر يمكنه أن يبيعه بدراهم ثم يشتري بذلك رطبا، فالترخيص غير محتاج إليه للضرورة. انتهى. ويظهر وجه الترخيص على قول من لم يشترط التقابض ويجوز النسيئة، بأن الفقير قد لا يكون معه تمر وقت شرائه الرطب، ويرجو حصوله عند الجداد (أ)؛ لما يحصل له من الصدقة، فتظهر حكمة الترخيص من دفع الحاجة. وقال أبو حنيفة: العرايا هو أن يهب الرجل لغيره تمر نخلة من نخلاته ولا يسلم ذلك إليه، ثم يبدو له في ارتجاع تلك الهبة، فرخص له أن يحتبس ذلك ويعطيه بقدر ما وهب له من الرطب بخرصه تمرا. وحمله على هذا تبقية النهي عن بيع التمر (ب) بالتمر على عمومه، ولكنه لم يرد عليه أنَّه يلزم أن يحمل الاستثناء على الانقطاع، وهو خلاف الظاهر. ونسب هذا القول في "البحر" إلى أبي يوسف ومحمد، ونسب إلى أبي حنيفة مثل قول الشافعي إلا في التقابض. ويرد على قول أبي حنيفة أن لفظ الحديث: رخص في العرايا أن تباع. إلى آخره، والرخصة إنما هي بعد منع البيع، والمنع إنما وقع في البيع لا الهبة، وبأن الرخصة قيدت بخمسة أوسق أو ما دونها، على ما سيأتي، والهبة غير مقيدة، وأيضًا فذلك سواء كان على ذي رحم أو غيره، فلو كان من باب الهبة لاحتاج إلى التفصيل، ولا يكون ذلك من باب البدل، بل إعطاء التمر ¬

_ (أ) في ب، جـ: الجذاذ. وكلاهما بمعنى. (ب) في ب: التمر.

بجديد هبة. واعتذر الطحاوي (¬1) لتصحيح الرخصة، هو أن الإنسان مأمور بإمضاء ما وعد به وإن لم يكن واجبًا عليه، فلما أذن له أن يحبس ما وعد به ويعطي بدله ولا يكون في حكم من أخلف وعده، ظهر بذلك معنى الرخصة. ولا يخفى تعسف هذا الاعتذار. وقوله: بخَرصها. بفتح الخاء المعجمة مصدر، أي بقدر ما فيها، وبكسرها: اسم للشيء المخروص. 682 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رخص في بيع العرايا بخرصها فيما دون خمسة أوسق، أو في خمسة أوسق. متفق عليه (¬2). قوله: فيما دون خمسة أوسق أو في خمسة. بالشك من الراوي، وقد بين مسلم أن الشك فيه من داود بن الحصين، والبخاري كذلك في آخر باب الشرب (¬3)، من وجه عن مالك، وقد وقع الاتفاق بين مالك والشافعي في صحة ما دون الخمسة، وامتناع ما زاد على الخمسة، ووقع الخلاف في الخمسة، فللشافعي قولان فيها، والراجح عند المالكية الجواز في الخمسة فما دونها، وعند الشافعية الجواز فيما دون الخمسة ولا يجوز في الخمسة. وهو قول الحنابلة وأهل الظاهر. ونسبه في "البحر" إلى القاسم، وأبي العباس، ¬

_ (¬1) شرح معاني الآثار 4/ 32. (¬2) البخاري، كتاب البيوع، باب بيع الثمر على رءوس النخل بالذهب أو الفضة، وكتاب المساقاة، باب الرجل يكون له ممر أو شرب في حائط أو في نخل 4/ 387 ح 2190، 5/ 50 ح 2382، ومسلم، كتاب البيوع، باب تحريم بيع الرطب بالتمر في العرايا 3/ 1171 ح 1541/ 71. (¬3) البخاري 5/ 50 ح 2382.

وأبي حنيفة، ومالك. ومنشأ الخلاف أن النهي عن بيع المزابنة هل ورد متقدمًا ثم وقعت الرخصة في العرايا، أو النهي عن بيع المزابنة وقع مقرونًا بالرخصة في بيع العرايا؟ فعلى الأول، لا يجوز في الخمسة للشك في رفع التحريم فيقتصر علي المتيقن، وعلى الثاني، يجوز للشك في قدر التحريم. ويرجح الأول أن سالمًا قال بعد أن ذكر: "ولا تبيعوا الثمر بالتمر" (¬1). وأخبرني عبد الله عن زيد بن ثابت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رخص بعد ذلك في بيع العرية بالرطب أو بالتمر، ولم يرخص في غيره (¬2). فأفْهَمَ أن التحريم متقدم والترخيص بعده متأخر. ويُحتج للمالكية بقول سهل بن أبي حثمة: إن العرية تكون ثلاثة أوسق أو أربعة أو خمسة (¬3). ولكنه موقوف. وحكى ابن عبد البر (¬4) عن قوم تحديد ذلك بالأربعة الأوسق، قال: واحتجوا بحديث جابر. انتهى. وحديث جابر أخرجه الشافعي، وأحمد وصححه، وابن خزيمة، وابن حبان، والحاكم، من طريق ابن إسحاق، حدثني محمد بن يحيى بن حَبَّان، عن عمه واسع بن حَبَّان، عن جابر: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول حين أذن لأصحاب العرايا أن يبيعوها بخرصها يقول: "الوسق والوسقين والثلاثة والأربعة" (¬5). لفظ أحمد، وترجم عليه ابن حبان: الاحتياط [أن] (أ) ¬

_ (أ) ساقطة من النسخ، والمثبت من الفتح 4/ 289، وعنوان الباب عند ابن حبان ذكر الاستحباب للمرء أن يكون بيعه العرايا فيما دون خمسة أوسق ولا يجاوز به إلى أن يبلغ خمسة أوسق احتياطا.

لا يزيد على أربعة أوسق. وهذا الَّذي يتعين المصير إليه، وأما جعله حدا لا يجوز تجاوزه فليس بالواضح. كذا قال المصنف (¬1) رحمه الله تعالى. وأقول: مع فرض صحة الحديث والقول بمفهوم العدد يتعين المصير إليه، لأن حديث: "فيما دون خمسة أوسق". مجمل في الدون، وهذا مبين للقدر المراد، فهو غير معارض، وحديث سهل لا يعارضه، لأنه موقوف كما عرفت، ولعل الشافعي ومالكًا لم يعملا بهذا لما في ابن إسحاق من المقال، والله أعلم. فلا يلزم الشافعي القول به، وقد وهم (أ [المازري] (ب) فنقل عن ابن المنذر القول بذلك وأنه قال: إن المزني ألزم الشافعي القول به أ). قال المصنف رحمه الله تعالى (¬2): وليس في كتب ابن المنذر شيء من ذلك، وإنما فيها ترجيح القول بأن الخمسة لا تجوز وإنما يجوز ما دونها، وهو الَّذي ألزم المزني أن يقول به الشافعي كما هو بين من كلامه. انتهى. وإذا زاد في صفقة علي القدر الذي أبيح، فإن البيع يبطل في الجميع، ولو فرق الصفقة واشترى في صفقتين أكثر من خمسة جاز عند الشافعية، وخرج بعض الشافعية من هذه أنَّه لا يبطل في الصورة الأولى، وهو تخريج بعيد. وقال أحمد وأهل الظاهر: لا تجوز الزيادة ولو في صفقتين. واعلم أن الحديث ورد في الرطب بالتمر على رؤوس الشجر، وأما شراء ¬

_ (أ - أ) ساقط من: جـ. (ب) في الأصل، ب: الماوردي. والمثبت من الفتح 4/ 388.

الرطب بعد قطعه (أ) بالتمر، فألحق جوازه كثير من الشافعية، وكذا قال في "المهذب" (¬1) بجواز العنب بالزبيب. وفي سائر الثمار قولان للشافعي، وهذا الإلحاق فيما زاد على المنصوص من باب القياس، ولكن الأصل المقيس عليه على خلاف القياس، ومن شرط صحة. القياس أن يكون الأصل على سَنن القياس، وذلك لأن القياس في الجنس المتفق تقرر على أنه لا يباع بمثله غير معلوم التساوي، واستثناء العرايا من ذلك في الصورة المخصوصة، والمعنى وإن كان معقولًا لكنه لم يعتبر في أصل آخر، فالواجب الاقتصار على محل النص إلا في الطرف الأول، وهو الرطب بعد قطعه، فإذا ألغي وصف كونه على رءوس النخل، كما بوب بذلك البخاري (¬2)، كان محل للرخصة هو الرطب نفسه مطلقا أعم من كونه على رءوس النخل، أو قد قطع فيشمله النص ولا يكون قياسًا، ولا منع من أن تدعو (ب) حكمة الترخيص إلى شراء الرطب الحاصل، فإنه قد يدعو إليه الحاجة في الحال، وقد يكون مع المشتري تمر فيأخذه به، فيندفع ما قاله ابن دقيق العيد في "شرح العمدة" (¬3): إن ذلك لا يجوز وجهًا واحدًا؛ لأن (جـ) أخذ المعاني في الرخصة أن يأكل الرطب على التدريج طريًّا، وهذا المقصود لا يحصل مما على وجه الأرض، والله أعلم. 683 - وعن ابن عمر رضي الله عنه قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ¬

_ (أ) في جـ: قطفه. (ب) في جـ: تكون بدعوى. (جـ) في جـ: إلا أن.

فائدة خطية

بيع الثمار حتى يبدو صلاحها، نهى البائع والمبتاع. متفق عليه (¬1). وفي رواية: وكان إذا سُئل عن صلاحها قال: "حتى تذهب عاهته" (¬2). قوله: الثمار. هو بالثاء المثلثة جمع ثمرة بالتحريك، وهو أعم من الرطب وغيره. وقوله: حتى يبدو صلاحها. بغير همز؛ أي يظهر. واختلف السلف في بدو الصلاح؛ فقيل: المراد به جنس الثمار حتى لو بدا الصلاح في جنس آخر غير المبيع، أو في كل جنس على حدة، أو في كل شجرة على حدة، على أقوال؛ فذهب الليث والمالكية أنه يكفي بدو الصلاح في جنس الثمار بشرط أن يكون الصلاح متلاحقا. والقول الثاني رواية عن أحمد أنه لا بد أن يكون في جنس تلك الثمرة المبيعة. والقول الثالث قول الشافعية، أنه يعتبر الصلاح في الشجرة المبيعة، ويفهم من قوله: يبدو الصلاح. ألا يعتبر بكامله، فيكفي زهو بعض الثمرة وبعض الشجرة مع حصول المعنى المقصود، وهو الأمان من العاهة، وقد منَّ الله سبحانه بجعل الثمار لا تطيب دفعة واحدة لتطول مدة التفكه بها. فائدة خَطِّيَّة: قال النووي في "شرح مسلم" (¬3): ومما ينبغي أن ينبه عليه أنه يقع في كتب المحدثين وغيرهم: حتى يبدوا. هكذا بألف في الخط، وهو خطأ، والصواب حذفها في مثل هذا للناصب، وإنما اختلفوا في إثباتها إذا لم يكن ناصب، مثل: زيد يبدوا. والاختيار حذفها أيضًا، ويقع ¬

_ (¬1) البخاري، كتاب البيوع، باب بيع الثمار قبل أن يبدو صلاحها 4/ 394 ح 2194، ومسلم، كتاب البيوع، باب النهي عن بيع الثمار قبل بدو صلاحها بغير شرط القطع 3/ 1165 ح 1534/ 49. (¬2) مسلم 3/ 1166 ح 1534/ 52. (¬3) شرح مسلم 10/ 178.

(أأمثله في أ): حتى يزهوا. والصواب حذف الألف. انتهى. والحديث فيه دلالة على أنه منهي عن البيع قبل بدو الصلاح، ولم يظهر كون البيع باطلا أو لا، وفي المسألة خلاف، ولذلك لم يجزم البخاري في التبويب بشيء، وقال (¬1): باب بيع الثمار قبل أن يبدو صلاحها. والإجماع على أنه لا يصح بيع الثمر قبل خروجه؛ لأنه بيع معدوم، وعلى هذا المعنى (ب) حمل النهي في هذا، وكذا بعد خروجه قبل نفعه، إلا أن الإمام المهدي في "البحر" روى عن المؤيد بالله صحة ذلك بشرط القطع؛ لعموم قوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} (¬2). وقد اعترض عليه في الرواية عنه وأنه روي ذلك في "الغيث"، وفي "الزهور" عن أبي مضر وحده، وكذا بعد نفعه قبل صلاحه بشرط البقاء إجماعًا، وأما من دون شرطه فقال ابن أبي ليلى والثوري، ونسبه في "البحر" إلى أحمد وإسحاق: إنه يبطل البيع. قال المصنف رحمه الله (¬3): ووهم من نقل الإجماع فيه. وقال الشافعي وأحمد والجمهور: إنه يصح إن شرط القطع. وقال المؤيد والإمام يحيى وأبو حنيفة: إنه يصح وإن لم يشرط. قال أبو حنيفة: ويؤمر بالقطع. كذا رواه في ¬

_ (أ- أ) في ب: في مثله. (ب) ساقط من: ب.

"البحر". وقال المصنف في "الفتح" (¬1): الذي صرح به أصحاب أبي حنيفة أنه صحح البيع حالة الإطلاق قبل بدو الصلاح وبعده، وأبطله بشرط الإبقاء قبله وبعده، وأهل مذهبه أعرف به من غيرهم. وأما بعد صلاحه، فذهب العترة والفقهاء إلى أنه يصح مع شرط القطع إجماعًا، ومع شرط البقاء يفسد إجماعًا وإن جهلت المدة. قال الإمام يحيى: فإن عُلمت صح عند الهدوية؛ إذ لا غرر. وقال المؤيد: لا يصح للنهي عن بيع وشرط، فإن أطلق صح عند الهدوية وأبي حنيفة، إذ ما تردد بين وجهي صحة وفساد، عمل بالصحة إذ هي الظاهر. قال الإمام المهدي: إلا أن يجري عرف بالبقاء مدة مجهولة فسد، ومثله ذكر النووي في "شرح مسلم" (¬2). وقوله: نهى البائع والمبتاع. أما البائع فلئلا يأكل مال أخيه بالباطل، وأما المشتري فلئلا يضيع ماله، وفيه أيضًا قطع التخاصم والنزاع. والعاهة: العيب والآفة، والمراد ما يصيب الثمر، وقد بين ذلك زيد بن ثابت (¬3) قال: كان الناس في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتبايعون (أ) الثمار، فإذا أجذ الناس -بالجيم والذال المعجمة، وهو قطع ثمر النخل- وحضر ¬

_ (أ) في ب، جـ: يبتاعون.

تقاضيهم قال المبتاع: إنه أصاب الثمر (أ) الدَّمانُ. بفتح الدال وتخفيف الميم، وضبطه الخطابي (¬1) بضمها، ورُوي فيهما الكسر، وهو فساد الطلع وسواده. وفي رواية يونس: الدمار. بالراء بدل النون، وهو تصحيف كما قال عياض (¬2). ووجهه غيره بأنه أراد الهلاك. وقال الأصمعي (¬3): الدمال، باللام، العفن. [أصابه] (ب) مراض؛ بكسر أوله. وقال الخطابي (¬4): بالضم، وهو داء يقع في الثمرة فتهلك، وهو اسم لجميع الأمراض، يقال: أمرض. إذا وقع في ماله عاهة. زاد الطحاوي في روايته (¬5): أصابه عفن. قشام، بضم القاف بعدها شين معجمة مخففة، وهو شيء يصيبه حتى لا يرطب، وقال الأصمعي (¬6): هو أن ينقص ثمر النخل قبل أن يصير بلحا. وقشام المائدة: ما ينقص مما بقي على المائدة مما لا خير فيه. عاهات يحتجون بها: أي هذه عاهات أو بدل من المذكورات قبله. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما كثرت عنده الخصومة في ذلك: "فإما لا فلا تتبايعوا حتى يبدو صلاح الثمر". كالمشورة يشير بها لكثرة خصوماتهم. انتهى. ويفهم من قوله: كالمشورة. أن النهي للتنزيه لا للتحريم، فلا يدل على ¬

_ (أ) في جـ: التمر. (ب) ساقطة من. النسخ، والمثبت من الفتح 4/ 395.

بطلان البيع، وفي حديث زيد بن ثابت أنه كان لا يبيع ثمار أرضه حتى تطلع الثريا فيتبين الأصفر من الأحمر. وقد أخرج أبو داود (¬1) مرفوعًا عن أبي هريرة قال: "إذا طلع النجم صباحًا رُفعت العاهة عن كل بلد". والنجم هو الثريا، والمراد طلوعها صباحًا، وهو في أول فصل الصيف، وذلك عند اشتداد الحر في بلاد الحجاز وابتداء نضج الثمار، وهو المعتبر حقيقة، وطلوع الثريا علامة له. وفي قوله: كان إذا سُئل عن صلاحها. إلخ ما يدل على أن ذلك موقوف على ابن عمر، والله أعلم. 684 - وعن أنس بن مالك رضي الله عنه، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيع الثمار حتى تُزهي. قيل: وما زَهْوها؟ قال: "تحمارُّ وتصفارُّ". متفق عليه واللفظ للبخاري (¬2). قوله: تُزهي. يقال: أزهى يُزهي. إذا احمر واصفر، زها النخل يزهو. إذا ظهرت ثمرته. وقيل: هما بمعنى الاحمرار والاصفرار. ومنهم من أنكر يزهو، ومنهم من أنكر يُزهي. كذا في "النهاية" (¬3). وقال الخطابي (¬4): هذه الرواية هي الصواب ولا يقال في النخل: يزهو. إنما يقال: يُزهي. لا غير. ومنهم من أثبت ما نفاه فقال: زها. إذا طال واكتمل، و: أزهى. إذا احمرَّ واصفرَّ. ¬

_ (¬1) أبو داود -كما في الفتح 4/ 395 - وينظر مجمع الزوائد 4/ 103. (¬2) البخاري، كتاب البيوع، باب بيع النخل قبل أن يبدو صلاحها 4/ 397 ح 2197، ومسلم، كتاب المساقاة، باب وضع الجوائح ح 1554/ 15. (¬3) النهاية 2/ 323. (¬4) معالم السنن 3/ 83.

وقوله: قيل: وما زهوها؟. لم يسم السائل في هذه الرواية ولا المسئول أيضًا، وقد رواه النسائي (¬1) بالتصريح بالمسئول بلفظ قيل: يا رسول الله. وظاهر الرواية التي هنا الرفع، وقد رواه إسماعيل بن جعفر وغيره عن حميد موقوفًا على أنس (¬2). وقوله: "تحمارَّ وتصفارَّ". قال الخطابي (¬3): لم يُرِدْ بذلك اللون الخالص من الصفرة والحمرة، وإنما أراد حمرة أو صفرة بكمودة، فلذلك قال: "تحمار وتصفار". قال: ولو أراد اللون الخالص لقال: تحمر وتصفر. وبه فسر التشقيح الوارد في الرواية الأخرى، قال ابن التين (¬4): أي تغير ألوانها إلى الصفرة والحمرة، فأراد بقوله: "تحمار وتصفار". ظهور أوائل الحمرة والصفرة قبل أن تنضج (أ). قال: وإنما يقال: تفعالّ في اللون المتغير إذا كان يزول ذلك. وأنكر هذا بعض أهل اللغة وقال: لا فرق إلا أنه قد يقال في هذا المحل المراد به ما ذكر، بقرينة قوله: يبدو صلاحها. في الرواية الأخرى وبدو الصلاح بتميز (ب) الألوان، وهو يحصل بما ذكر. والزهو؛ قال الجوهري (¬5): بفتح الزاي، وأهل الحجاز يقولونه بالضم، ¬

_ (أ) في ب، جـ: تنصع، وفي الفتح: تشبع. (ب) في ب: تميز، وفي جـ: تتميز.

وهو البسر الملون، يقال إذا ظهرت الحمرة والصفرة في النخل: قد ظهر فيه الزهو. وقد زها النخل زهوا، [وأزهى] (أ) لغة. انتهى. وهذا في اسم العين (ب)، والمصدر بالفتح كما وقع في الحديث. والله أعلم. 685 - وعن أنس بن مالك رضي الله عنه، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيع العنب حتى يسود، وعن بيع الحب حتى يشتد. رواه الخمسة إلا النسائي، وصححه ابن حبان والحاكم (¬1). صححه من حديث حماد عن حميد عن أنس. وقال الترمذي والبيهقي (¬2): تفرد به حماد. الكلام في هذا مثل ما تقدم في الثمر. والمراد باسوداد العنب واشتداد الحب بدو صلاحه وأمن الآفة عليه. وفي رواية لمسلم (¬3): وعن السنبل حتى يبيض. والمعنى في ذلك اشتداد الحب وهو بدو صلاحه. قال النووي (¬4): فيه دليل لمذهب مالك والكوفيين وأكثر العلماء أنه يجوز ¬

_ (أ) في النسخ: وهي. والمثبت من مقدمة الصحاح، وشرح مسلم 10/ 178. (ب) في جـ: المعنى.

بيع السنبل المشتد، وأما مذهبنا ففيه تفصيل؛ فإن كان السنبل شعيرا أو ذرة أو ما في معناهما مما تُرى حبَّاته خارجة صح بيعه، وإن كان حنطة ونحوها مما تستتر حباته بالقشور التي تزال [بالدياس] (أ) (¬1) ففيه قولان للشافعي رحمه الله تعالى؛ الجديد أنه لا يصح وهو أصح قوليه، والقديم أنه يصح. وأما قبل الاشتداد فلا يصح بيعه إلا بشرط القطع كما ذكرنا، فإذا باع الزرع قبل الاشتداد مع الأرض بلا شرط صح تبعًا للأرض، وكذا الثمر قبل الصلاح إذا بيع مع الشجر جاز بلا شرط تبعًا، وهكذا حكم [البقول] (ب) في الأرض، لا يجوز بيعها دون [الأرض] (جـ) إلا بشرط القطع، وكذا لا يصح بيع البطيخ ونحوه قبل بدو صلاحه. وفروع المسألة كثيرة، وقد نقحت مقاصدها في "روضة الطالبين" و "شرح المهذب" (¬2)، وجمعت فيها جملًا مستكثرةً، وبالله التوفيق. انتهى. 686 - وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لو بعت من أخيك ثمرا (د) فأصابته جائحة، فلا يحل لك أن تأخذ منه شيئًا، بم تأخذ مال أخيك بغير حق؟ ". رواه مسلم (¬3). ¬

_ (أ) في الأصل، جـ: في الدياس. (ب) في النسخ: القول. والمثبت من شرح مسلم. (جـ) في النسخ: الزرع. والمثبت من شرح مسلم. وينظر روضة الطالبين 3/ 558. (د) في ب: "تمرا".

وفي رواية له (¬1) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بوضع الجوائح. الجائحة هي الآفة التي تصيب الثمرة، من الجَوْح، وهو الاستئصال. الحديث فيه دلالة على أن الثمر الذي على رءوس الشجر إذا باعه المالك وأصابته الجائحة، أن تلفه من مال البائع، وأنه لا يستحق على المشتري في ذلك شيئًا، وظاهر الحديث فيما باعه بيعًا غير منهي عنه وأنه بعد بدو الصلاح؛ لوقوع النهي عن بيعه قبل بدو الصلاح، وإن كان هذا يحتمل وروده قبل النهي، وقد تقدم حديث زيد بن ثابت في بيان ورود أصل النهي وما كان عليه أهل المدينة من الشجار، إلا أنه وقع في رواية حديث زيد بن ثابت من طريق أبي الزناد عن خارجة عن أبيه، أنه قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة ونحن نبتاع الثمار قبل أن يبدو صلاحها، فسمع خصومة، فقال: "ما هذا". فذكر الحديث (¬2)، فأفاد مع ذكر سبب النهي تاريخ ذلك، فيكون هذا الحديث متأخرًا، فيحمل على البيع بعد بدو الصلاح. وقد ذهب إلى العمل بظاهر الحديث حيث أصابت الجائحة الثمر جميعه أنه يوضع الثمر جميعه، محمد وأبو عبيد، وأن التلف يكون من مال البائع. وقال الشافعي في أصح قوليه وأبو حنيفة والليث بن سعد: إن تلف ذلك يكون من مال المشتري ولا يجب على البائع أن يضع شيئًا، وإنما يستحب له. وهو قول الهدوية؛ لأن التخلية في العقد الصحيح بمنزلة القبض حيث كان العقد صحيحًا، وقد سلمه البائع بالتخلية بينه وبين المشتري، ¬

_ (¬1) مسلم 3/ 1191 ح 1554/ 17. (¬2) البخاري 4/ 393 ح 2193 معلقا، وأحمد 5/ 190.

فكأنه قد قبضه، واحتجوا على ذلك بما سيأتي [في التفليس] (أ) في حديث أبي سعيد (¬1) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر الناس أن يتصدقوا على الذي أصيب في ثماره. الحديث. فلو كانت توضع لم يفتقر إلى الأمر بالصدقة عليه، وهذا الحديث المذكور محمول على استحباب الوضع أو أنه فيما بيع قبل صلاحه، فالبيع فيه فاسد ولا تكفي التخلية فيه، ولكنه يجاب عن الأول بأن قوله: "فلا يحل لك أن تأخذ منه شيئًا". تصريح بالتحريم، وهو أولى بأن يكون قرينة على تأويل حديث أبي سعيد بأن التصدق على الغريم من باب الاستحباب؛ ليكون فيه وفاء بغرضين؛ جبر البائع، وتعريض المشتري لمكارم الأخلاق، ويدل عليه قوله في آخر الحديث لما طلبوا الوفاء: "ليس لكم إلا ذلك". فلو كان لازما لأمرهم بالنَّظِرة إلى ميسرة. وعن الثاني بما عرفت أن النهي عن بيع الثمار قبل بدو الصلاح كان قد تقدم، ومن البعيد أن يحصل من الصحابة رضي الله عنهم تعمد مخالفة النهي. وقال مالك: يوضع الثلث. وقول للشافعي: إن كان الذاهب من الثمر دون الثلث لم يجب وضع شيء، وإن كان الثلث فأكثر وجب الوضع وكانت من ضمان البائع. وجنح البخاري إلى مثل تأويل من قال: إن البيع كان قبل بدو الصلاح. وبوب على ذلك، قال: باب إذا باع الثمار قبل أن يبدو صلاحها ثم أصابته عاهة فهو من البائع. ثم أخرج حديث أنس (¬2) أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيع الثمار حتى ¬

_ (أ) ساقط من: الأصل، جـ.

تُزْهي. فقيل له: وما تزهي؟ قال: "حتى تحمرَّ". فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أرأيت إذا منع الله الثمرة، بم يأخذ أحدكم مال أخيه؟ ". وهذا بناء من البخاري أن بيع الثمار قبل الصلاح صحيح، ولذلك بوب قبل هذا: باب بيع الثمار قبل أن يبدو صلاحها. وذكر في هذا الباب حديث زيد (¬1)، وجعل ذلك كالمشورة عليهم، على أن النهي ليس للتحريم. 687 - وعن ابن عمر رضي الله عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من ابتاع نخلًا بعد أن تؤبَّر، فثمرتها للبائع الذي باعها إلا أن يشترط المبتاع". متفق عليه (¬2). "ابتاع" أي اشترى، والنخل اسم جنس يذكر ويؤنث والجمع نخيل. وقوله: "تؤبر". مضارع أُبِرَت بوزن أكلت مخففًا على المشهور، ومشددًا؛ تقول: أبّرته أُؤبره تأبيرًا. بوزن علمته تعليمًا، والتأبير التشقيق والتلقيح (أ)، ومعناه شق طلع النخلة الأنثى ليذر فيها شيء من طلع النخلة الذكر، والحكم مستمر بمجرد التشقيق ولو لم يضع فيه شيئًا، بل ولو تشققت بنفسها فالحكم فيها (ب) هذا. ¬

_ (أ) في ب، جـ: فالتلقيح. (ب) في ب: فيه.

والحديث ذهب إلى العمل بظاهره الجمهور أن الثمرة بعد التأبير للبائع، وهذا منطوقه، ودليل الخطاب أنها قبل التأبير للمشتري وهو مفهوم صفة معمول به. وقال أبو حنيفة: هي للبائع قبل التأبير وبعده. فعمل بمنطوق الحديث بعد التأبير، ولم يعمل بمفهومه قبل التأبير بناء على مذهبه من عدم العمل بمفهوم المخالفة. ورُد على أبي حنيفة بأن الظاهر يخالف المستتر في البيع، أي أن الفوائد الظاهرة تخالف المستترة، فإن الأمَة ولدها المنفصل لا يتبعها والحمل يتبعها. وقال ابن أبي ليلى: هي للمشتري قبل التأبير وبعده. وقوله منابذ للسنة، ولعله لم يبلغه الحديث. وقوله: "إلا أن يشترط المبتاع". أي المشتري بأن يقول: اشتريت الشجرة بثمرتها. كانت الثمرة له، وسواء كان الشرط للكل أو للبعض. وقال ابن (أ) القاسم: لا يجوز اشتراط البعض. وقالت الشافعية: لو باع نخلة بعضها مؤبَّر وبعضها غير مؤبَّر فالجميع للبائع، وإن باع نخلتين فكذلك بشرط اتحاد الصفقة، وإن أفرد فلكلٍّ حكمُه، ويشترط كونهما في بستان واحد، وإن تعدد فلكلٍّ حكمُه، ونص أحمد على أن الذي يؤبَّر للبائع والذي لا يؤبَّر للمشتري، ووجه قول الشافعية هو دفع ضرر اختلاف الأيدي وسوء المشاركة، وجعل المالكية الحكم للأغلب، واختلفوا فيما إذا باع نخلة وبقيت ثمرتها له ثم خرج طلع آخر من تلك النخلة؛ فقال ابن أبي هريرة (¬1): هو للمشتري؛ لأنه ليس للبائع إلا ما وجد دون ما لم يوجد. وهذا ¬

_ (أ) زاد في النسخ: أبي. والمثبت من الفتح 4/ 403.

هو المختار عند الهدوية، فإن التبس فوجهان عندهم؛ يفسد العقد. والثاني: يقسم الثمر. ويبين مدعي الزيادة والفضل وهو المعمول عليه. وقال الجمهور من الشافعية: هو للبائع؛ لكونه من ثمرِه المؤبرة دون غيرها. ويدل الحديث أن الشرط الذي لا ينافي مقتضى العقد لا يفسد البيع فيخُص النهي عن بيع وشرط. وفي الحديث جواز التأبير، ويقاس عليه ما يعتاده أهل الحراثة من الأسباب التي أجرى الله العادة بحصول الثمرة معها، وهذا النص ورد في النخيل، ويقاس سائر الأشجار على ذلك، والله أعلم.

أبواب السلم والقرض والرهن

أبواب السلم والقرض والرهن 688 - عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - المدينة وهم يُسلِفون في الثمار السنة والسنتين، فقال: "من أسلف في تمر فلْيُسلف في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم". متفق عليه (¬1)، وللبخاري: "من أسلف في شيء". قوله: وهم يُسْلفون. السَّلَف بفتحتين هو السلَم وزنًا ومعنى، وذكر الماوردي (¬2) أن السلف لغة أهل العراق، والسلم لغة أهل الحجاز. وقيل: السلف. لتقديم رأس المال، و: السلم. لتسليمه في المجلس. والسلم شرعًا: بيع موصوف في الذمة ببدل (أ) يعطى عاجلًا. واتفق العلماء على مشروعيته إلا ما حكي عن ابن المسيب، والخلاف في بعض الشروط، والاتفاق على أنه يشترط فيه ما يشترط في البيع وعلى تسليم رأس المال في المجلس، إلا مالكًا فأجاز تأجيل الثمن مدة يسيرة يومًا أو يومين. ¬

_ (أ) في جـ: يبذل.

واختلفوا هل هو عقد غرر جوز للحاجة أم لا؟ وقوله: السنة والسنتين. منصوبان (أ) بنزع الخافض أي: إلى السنة والسنتين، أو قائمان (ب) مقام المصدر العددي. وقوله: "من أسلف في تمر". بالتاء المثناة، وقد روي بالمثلثة وهي أعم، ووقع بهذا اللفظ لابن علية. وفي رواية ابن عيينة: "من أسلم في شيء". وهي أعم. وقوله: "في كيل معلوم". إذا كان مما يكال، "أو (جـ) وزن معلوم". إذا كان مما يُوزن، وإن كان من غير ذلك فلا بد من ذكر وزنه عند الهدوية، ولا يكفي العدد إلا حيث علم تساويه كالجوز، كذا ذكره الإمام المهدي في "البحر". قال المصنف رحمه الله تعالى في "الفتح" (¬1): فإن كان مما لا يكال ولا يوزن فلا بد فيه من عدد معلوم. رواه عن ابن بطال (¬2)، وادعى عليه الإجماع. قال المصنف (¬3): أو ذرع معلوم، والعدد والذرع ملحق بالكيل والوزن ¬

_ (أ) في ب: منصوب. (ب) في ب: قائم. (جـ) كذا في النسخ. قال النووي: ووزن معلوم بالواو لا بـ "أو". ينظر شرح مسلم 11/ 42.

للجامع بينهما؛ وهو ارتفاع الجهالة بالقدار، وفي (أ) البخاري إشارة إلى أن ما يوزن لا يُسلَم فيه بالكيل، وبالعكس، وهو أحد وجهين عند الشافعية، والأصح الجواز. واتفقوا على اشتراط تعيين الكيل فيما يُسلَم فيه بالكيل، كصاع الحجاز وقفيز العراق وإردب مصر، وهذه المكاييل مختلفة، فإذا أطلق انصرف إلى الأغلب في الجهة التي كان فيها عقد السَّلَم. وأجمعوا على أنه لا بد من معرفة صفة الشيء المسْلَم فيه صفة تميزه عن غيره، ولم يتعرض له في الحديث؛ لأنهم كانوا يعملون به، فتعرض لما كانوا يهملونه. وقوله: "إلى أجل معلوم". ظاهره كون الأجل شرطا في صحة السَّلَم، فإن كان حالًّا لم يصح، أو كان الأجل مجهولا، وعند الشافعية يصح في الحال، وحملوا هذا بأن المراد أنه إذا أسلم إلى أجل فليكن الأجل معلومًا لا مجهولًا، وأما السَّلَم في الحالِّ فجوازه بطريق الأولى؛ لأنه إذا جازت مع الأجل وفيه غرر جاز في الحالِّ بالأَولى لبعده عن الغرر. ورُد عليهم بعقد الكتابة، وأجيب بالفرق؛ لأن الأجل في الكتابة شرع لعدم قدرة العبد على التأدية غالبا، وذهب ابن عباس إلى اختصاص السلم بالأجل، وأبو سعيد والأسود والحسن، هكذا علق الرواية البخاري (¬1)، وقد وصل الشافعي (¬2) حديث ابن عباس قال: أشهد أن السلف المضمون إلى أجل مسمى قد أحله الله في كتابه وأذن فيه. ثم قرأ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ¬

_ (أ) في جـ: رواه.

تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ} الآية (¬1). وقد أخرجه الحاكم (¬2) من هذا الوجه وصححه. وروى ابن أبي شيبة (¬3) عن ابن عباس: لا سلف إلى العطاء ولا إلى الحصاد، واضرب أجلًا. وأما قول أبي سعيد الخدري، فوصله عبد الرزاق (¬4) قال: السلم بما (أ) يقوم به السعر ربا، ولكن السلف في كيل معلوم إلى أجل معلوم. وأما قول الحسن، فوصله سعيد بن منصور (¬5) أنه كان لا يرى بأسا بالسلف في الحيوان إذا كان سِنًّا معلومًا إلى أجل معلوم. ويفهم من قول ابن عباس: لا سلف إلى العطاء. أنه يشترط تعيين وقت الأجل بحد لا يختلف، فإن كان وقت العطاء لا يختلف صح التوقيت به، وقد صرح بذلك المهدي في "البحر"، وقال مالك وأبو ثور: يصح التوقيت بالحصاد ونحوه. واختار ابن خزيمة (¬6) من الشافعية التوقيت بالميسرة، واحتج بحديث عائشة رضي الله عنها، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعث إلى يهودي: "ابعث إليَّ ثوبين إلى الميسرة". وأخرجه النسائي (¬7)، وسيأتي قريبًا (¬8)، وطعن ابن ¬

_ (أ) في ب: ما.

المنذر (¬1) في صحته بما وهم فيه، وقد يجاب عنه بأنه لا يدل على مطلوبه؛ لأنه ليس في الحديث إلا مجرد الاستدعاء، فلا يمتنع أنه إذا وقع العقد قيد بشرطه، فلذلك لم يصف الثوبين. ويجاب عن هذا بأن هذا خلاف الظاهر، وأنه بين له - صلى الله عليه وسلم - الأجل الذي يسلم فيه الثمن ليختبر رضا البائع هل يرضى بذلك فيتم البيع عليه أو يأبى فلا بيع؟ وقال المؤيد: أقل الأجل ثلاثة أيام لاعتبارها في كثير من التأجيلات كتأجيل الشفيع ونحوه. وقال المنصور بالله: بل أربعون يومًا إذ هو أقل ما يحصل فيه ثمرة كالطَّهْف (¬2) والجُعْرة (¬3). وقال الناصر: بل أقله ساعة إذ يحصل بها (أ) أجل. قال الإمام يحيى: ولا نص للقاسمية، والمختار قول المؤيد. وأقول: الظاهر أنه يحمل التأجيل في الحديث على ما يعد أجلا عرفًا، فالساعة والساعتان لا يُعَدان، والعرف يختلف؛ فكما اعتبر في الكيل والوزن بما يعتاده أهل الجهة فكذلك هذا. وقد زيد على ما ذكر في الحديث تعيين المكان الذي يسلم فيه؛ ذهب إلى ذلك زيد بن علي والهدوية والناصر والثوري وزفر قياسًا على الكيل والوزن والأجل. وذهب الحسن بن صالح وشريك والعنبري وأبو يوسف ¬

_ (أ) في جـ: لها.

ومحمد إلى أنه لا يشترط اقتصارًا على الوارد. والجواب القياس دليل فيعتبر (أ). وقال أبو حنيفة: إن كان لحمله مؤنة اشترط وإلا فلا، إذ لا فائدة. وقال أصحاب الشافعي: إنْ عَقَدا حيث لا يصلح للتسليم كالطريق اشترط، وإلا فقولان، وعلى القول باعتباره فلا يلزم المسلم قبوله في غير المكان المشروط، ولو بذل المسلَم إليه الأجرة لم يحل أخذها؛ إذ لا يحل أخذ العوض عن المسلَم فيه، فكذا عن موضع تسليمه، فإن عين السوق وبما إليه، وإن قال: إلى البلد. وجب إلى خلف السور إن كان، وإلا فأطرف دارٍ منها. 689 - وعن عبد الله بن أبي أوفى وعبد الرحمن بن أبزى رضي الله عنهما قالا: كنا نصيب الغنائم مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكان يأتينا أنباط من أنباط الشام فنسلفهم في الحنطة والشعير والزبيب -وفي رواية: [والزيت] (ب) إلى أجل مسمى. قيل: أكان لهم زرع؟ قالا: ما كنا نسألهم عن ذلك. رواه البخاري (¬1). عبد الرحمن بن أبزى، بفتح الهمزة وسكون الباء الموحدة وفتح الزاي، الخزاعي مولى نافع بن عبد الحارث الخزاعي، سكن الكوفة واستعمله علي بن أبي طالب على خراسان، أدرك النبي - صلى الله عليه وسلم - وصلى خلفه، وأكثر روايته عن عمر بن الخطاب وأبي بن كعب، روى عنه ابناه سعيد وعبد الله، ومحمد ¬

_ (أ) في ب: فتعين. (ب) في ب: والزبيب.

ابن أبي المجالد، ومات بالكوفة، ولأبزى أيضًا صحبة على المختار (¬1). قوله: أنباط من أنباط الشام. وفي رواية: نَبِيط أهل الشام. وهم قوم من العرب دخلوا في العجم والروم واختلطت أنسابهم وفسدت ألسنتهم، وكان الذين اختلطوا بالعجم منهم ينزلون [البطائح] (أ) بين العراقين، والذين اختلطوا بالروم ينزلون بوادي الشام، ثم استعمل في أخلاط الناس وعوامهم. ويقال لهم: النَّبَط. بفتحتين، والنبيط بفتح أوله وكسر ثانيه وزيادة تحتانية، قيل: سموا بذلك لمعرفتهم بأنباط الماء، أي استخراجه لكثرة معالجتهم الفلاحة. والحديث فيه دلالة على صحة السلف وإن كان المسْلَف فيه معدومًا حال العقد، فإن قولهما: ما كنا نسألهم عن ذلك. يدل على صحته مطلقا؛ لأنه لو كان من شرطه وجوده لاستفصلوهم، وترك الاستفصال في مقام الاحتمال ينزل منزلة العموم، وقد جرى على ذلك الشافعي في كثير من المواضع، وقد ذهب إلى هذا العترة والشافعي ومالك، واشترطوا إمكان وجوده عند حلول الأجل ولا يضر انقطاعه قبل حلول الأجل. وقال الناصر وأبو حنيفة: بل يشترط وجوده قبل حلول الأجل، ولا يصح فيما ينقطع قبله؛ إذ ما بعد العقد محل للتسليم، إذ يجب قبول المعجل، [ونقده فيه كنقده] (ب) عند حلول الأجل. والجواب ما عرفت من ترك الاستفصال، ¬

_ (أ) في النسخ: البطاح. والمثبت من الفتح 4/ 431. والبطاح جمع البطحاء وهو مسيل فيه دقاق الحصى. وقيل: بطحاء الوادي: تراب لين مما جرته السيول. والبطائح جمع البَطيحة، وهو ما بين واسط والبصرة، وهو ماء مستنقع لا يرى طرفاه من سعته. ينظر معجم البلدان 1/ 668، اللسان (ب ط ح). (ب) في الأصل: ففقده فيه كفقده، وفي ب: يعذره فقده فيه كعقده.

وأيضًا فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - أقر أهل المدينة على إسلام السنة والسنتين، والرطب ينقطع في ذلك، وكون عقيب العقد محلا للتسليم لا يوجبه؛ إذ لا يتضيق بخلاف وقت الحلول، كذا ذكر الإمام في "البحر"، فإن تعذر عند حلول الأجل لم ينفسخ عند الجمهور، وفي وجه للشافعية ينفسخ، ومثله في "البحر"، قال: كما لو قارن، وكتلف المبيع قبل التسليم، فإن انقطع الجنس قبل حلول الأجل وغلب في الظن استمرار انقطاعه ففي انفساخه قبل الحلول تردد. قال الإمام يحيى: الأصح أنه لا ينفسخ إلا بعده. وفي الحديث. دلالة على جواز مبايعة أهل الذمة والسلم إليهم، ورجوع المختلفين عند التنازع إلى السنة، والاحتجاج بتقرير النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأن السنة إذا وردت بتقرير حكم كان أصلًا برأسه، والله أعلم. 690 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه، ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله". رواه البخاري (¬1). قوله: "من أخذ أموال الناس". ظاهره العموم لوجوه الأخذ، فيشمل من أخذها بطريق المعاملة أو بطريق الحفظ لها. وقوله: "يريد أداءها". جملة حالية. "أدى الله عنه". هذا جواب الشرط، والمراد بالتأدية هو تيسير قضائها في الدنيا، أو في الآخرة إذا تعذر ¬

_ (¬1) البخاري، كتاب الاستقراض وأداء الديون والحجر والتفليس، باب من أخذ أموال الناس يريد أداءها أو إتلافها 5/ 53، 54 ح 2387.

عليه القضاء بالإفلاس أو نحوه، ويدخل فيه مَن فجَأه الموتُ ومعه مال مخبوء وكان نيته وفاء دينه ولم يمكنه الوصية بذلك، خلافًا لابن عبد السلام (¬1) في هذا، ويدل عليه حديث ميمونة أخرجه ابن ماجه وابن حبان والحاكم (¬2): "ما من مسلم يَدَّان دَينًا يعلم الله أنه يريد أداءه إلا أداه الله عنه في الدنيا والآخرة". وقوله: "ومن أخذها". أي أموالهم. "يريد إتلافها" على أهلها بإنفاقه لها في أي نفقة. "أتلفه الله". ظاهره أن الله تعالى يتلفه في الدنيا، وهو يشمل إتلاف معاشه بالمحن والمصائب ومحق البركة، وإتلافه في نفسه بالقتل وتسليط الآفات التي يكون بها حتفه، ويحتمل أن يراد الإتلاف في الآخرة بالعذاب. قال ابن بطال (¬3): فيه [الحض] (أ) على ترك استئكال أموال الناس والترغيب في حسن التأدية إليهم عند المداينة، وأن الجزاء قد يكون من جنس العمل. وقال الداودي (3): فيه أن من عليه دين لا يُعتق ولا يتصدق، وإن فعل رُد. وفي المأخذ بُعْدٌ. وقال ابن المنير (¬4): إن من اشترى شيئًا بدين وتصرف فيه وأظهر أنه قادر ¬

_ (أ) في النسخ: الحط. والمثبت من مصدر التخريج.

على الوفاء ثم تبين الأمر بخلافه، أن البيع لا يرد بل يُنتظر به حلول الأجل؛ لاقتصاره - صلى الله عليه وسلم - على الدعاء عليه، ولم يلزمه رد البيع. وفي الحديث الترغيب في حسن النية والترهيب من ضد ذلك، وأن مدار العمل عليها، وأن المستدين مع نية الوفاء مرغوب في عمله، وقد أخذ بذلك عبد الله بن جعفر فيما رواه ابن ماجه والحاكم (¬1) من رواية محمد بن على عنه أنه كان يستدين، فسئل عن ذلك فقال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إن الله مع الدائن حتى يقضي دينه". إسناده حسن، لكن اختلف فيه على محمد بن علي، [ورواه] (أ) الحاكم (¬2) من طريق القاسم بن المفضل عنه (5) عن عائشة بلفظ: "ما من عبد كانت له نية في وفاء دينه إلا كان له من الله عون". قالت: فأنا ألتمس ذلك العون. وساق له شاهدًا من وجه آخر عن القاسم عن عائشة. 691 - وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قلت: يا رسول الله، إن فلانًا قدم له بَزٌّ من الشام، فلو بعثت إليه فأخذت منه ثوبين بنسيئة إلى ميسرة. فأرسل إليه فامتنع. أخرجه الحاكم والبيهقي (¬3) ورجاله ثقات. الحديث فيه دلالة على صحة التأجيل بالميسرة، وقد تقدم الكلام فيه ¬

_ (أ) في الأصل: وروى، وفي ب: وزاد. (ب) سقط من: جـ.

قريبًا فراجعه (¬1). 692 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الظهر يُركب بنفقته إذا كان مرهونا، ولبن الدَّرِّ يشرب بنفقته إذا كان مرهونا، وعلى الذي يَركب ويشرب النفقة". رواه البخاري (¬2). قوله: "الظهر يُركب". بضم أوله على البناء للمفعول، وكذلك "يشرب". وهو محتمل أن يكون الفاعل الراهن أو المرتهن؛ فقد قيل: إنه مجمل غير متعَيَّن المراد. وأجيب عن ذلك بأنه لا إجمال، وأنه متعين أن يكون هو المرتهن؛ لقرينة العوض، وهو الركوب واللبن، والراهن النفقةُ واجبة عليه لأجل ملكه الرقبة. وقد دل على أنه يستحق المرتهن الانتفاع بالرهن في مقابلة المؤنة، وقد ذهب أحمد وإسحاق إلى العمل بظاهر الحديث، وخصوا ذلك بالركوب والدَّرِّ، فقالوا: ينتفع بهما بقدر قيمة النفقة ولا يقاس غيرهما. وذهب الجمهور إلى أن المرتهن لا ينتفع من المرهون بشيء، وتأولوا الحديث لكونه ورد علي خلاف القياس من وجهين؛ أحدهما التجويز لغير المالك أن يركب ويشرب بغير إذنه. والثاني تضمينه ذلك بالنفقة لا بالقيمة. قال ابن عبد البر (¬3): هذا الحديث عند جمهور الفقهاء ترده أصول مجتمعة وآثار ثابتة لا يختلف في صحتها، ويدل على نسخه حديث ابن عمر: "لا تحلب ماشية امرئ بغير إذنه". أخرجه البخاري في أبواب المظالم (¬4). ¬

_ (¬1) تقدم ص 225 - 227. (¬2) البخاري، كتاب الرهن، باب الرهن مركوب ومحلوب 5/ 143 ح 2512. (¬3) التمهيد 14/ 215. (¬4) البخاري 5/ 88 ح 2435.

انتهى. وقال الشافعي: يشبه أن يكون المراد: من رهن رهنا ذات ظهر ودر لم يمنع الراهن من درها وظهرها، فهي محلوبة ومركوبة له كما كانت قبل الرهن. بجعل الفاعل المحذوف هو الراهن، وهو بعيد. واعترضه الطحاوي (¬1) بأنه قد صرح بالمراد في رواية هشيم عن زكريا في هذا الحديث ولفظه: "إذا كانت الدابة مرهونة فعلى المرتهن علفها" الحديث. قال: فعين أن المراد المرتهن لا الراهن، ثم أجاب عن الحديث بأنه محمول على أنه كان قبل تحريم الربا، فلما حرم الربا حرم أشكاله؛ من بيع اللبن في الضرع وقرض يجر نفعًا. قال: فارتفع بتحريم الربا ما أبيح في هذا للمرتهن. وتُعقب بأن هذا احتمال للنسخ، والنسخ لا يثبت بالاحتمال، والتاريخ غير معروف، والجمع بين الأحاديث ممكن، وبأن طريق هشيم المذكورة زعم ابن حزم (¬2) أن إسماعيل بن سالم الصائغ تفرد عن هشيم بالزيادة وأنها من تخليطه. وتعقب بأن أحمد رواها في "مسنده" (¬3) عن هشيم كذلك، وكذلك أخرجه الدارقطني (¬4) من طريق زياد بن أيوب عن هشيم. وذهب الأوزاعي والليث وأبو ثور (¬5) إلى حمل الحديث على ما إذا امتنع الراهن من الإنفاق على المرهون، فيباح حينئذ للمرتهن الإنفاق على الحيوان حفظا ¬

_ (¬1) شرح معاني الآثار 4/ 99، 100. (¬2) المحلى 8/ 488. (¬3) أحمد 2/ 228. (¬4) الدارقطني 3/ 34 ح 135. (¬5) ينظر الفتح 5/ 144.

لحياته ولإبقاء المالية فيه، وجعل له في مقابلة نفقته الانتفاع بالركوب أو شرب اللبن، بشرط ألا يزيد قدر ذلك أو قيمته على قدر علفه. وهذا تأويل حسن، وبه يتم الجمع بين الأحاديث. وقد أجرى العلماء هذا الحكم في العين الشتركة إذا غاب الشريك واحتاجت إلى المؤن، وكذلك الوديعة والعارية والمؤجرة، وكان الضابط لذلك: كل عين لغيره في يده بإذن الشرع فإنه ينفق عليها بنية الرجوع على المالك، وله أن يؤجرها أو يتصرف في لبنها في قيمة العلف، إلا أنه إذا كان في البلد حاكم ولم يفعل بإذن الحاكم، فلا رجوع له بما أنفق وتلزمه غرامة المنفعة واللبن، وإن لم يكن في البلد حاكم أو كان يتضرر (أ) الحيوان بمدة الرجوع إلى الحاكم فله ولاية في ذلك ويرجع بما أنفق. وعلى ما حكى الإمام المهدي عن أبي حنيفة والشافعي أنه لا يرجع الشريك إلا إذا كان ما فعله (ب) بإذن الحاكم وكذلك غيره. وقال الموفق (جـ) في "المغني" (¬1): إن نفقة الحيوان واجبة، وللمرتهن فيه حق وقد أمكنه استيفاء حقه من نماء الرهن والنيابة (د) عن المالك فيما غرمه عليه واستفاد ذلك من منافعه، فجاز ذلك كما يجوز للمرأة أخذ مؤنتها من مال زوجها عند امتناعه بغير إذنه والنيابة في الإنفاق عليها. انتهى. وهذا راجع إلى تأويل الأوزاعي المار، والله أعلم. ¬

_ (أ) في جـ: يتصرف. (ب) في ب: نقله. (جـ) في ب: المؤلف. (د) في ب: أو النيابة.

693 - وعنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يَغْلَق الرهنُ من صاحبه الذي رهنه، له غُنْمُه وعليه غُرْمُه". رواه الدارقطني والحاكم (¬1) ورجاله ثقات، إلا أن المحفوظ عند أبي داود وغيره إرساله (¬2). والبيهقي (¬3) أيضًا من طريق زياد بن سعد عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة مرفوعًا. وأخرجه ابن ماجه (¬4) من طريق إسحاق بن راشد مرفوعًا. وأخرجه الحاكم (¬5) من [طرق] (أ) موصولة أيضًا. ورواه الأوزاعي وابن أبي ذئب ويونس عن الزهري عن سعيد مرسلًا. ورواه الشافعي (¬6) عن ابن أبي فديك، وابن أبي شيبة (¬7) عن وكيع، وعبد الرزاق (¬8) عن الثوري، كلهم عن ابن أبي ذئب كذلك. قال الشافعي: غنمه زيادته (ب)، وغرمه هلاكه. وصحح أبو داود والدارقطني إرساله، وأخرجه ابن حزم (¬9) من طريق قاسم بن أصبغ موصولًا إلى سعيد بن المسيب و [أبي] (جـ) سلمة بن ¬

_ (أ) في الأصل، جـ: طريق. (ب) في جـ: زيادة. (جـ) ساقط من: النسخ. والمثبت من المحلى، وينظر تهذيب الكمال 33/ 370.

عبد الرحمن، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يغلق الرهن، الرهن (أ) لمن رهنه، له غُنْمُه (ب) وعليه غُرْمُه". قال ابن حزم: هذا إسناد حسن. قال المصنف رحمه الله (¬1): وأخرجه (جـ) الدارقطني (¬2) من طريق عبد الله بن نصر الأصم الأنطاكي عن شبابة بالإسناد المذكور، وصححها عبد الحق (¬3)، وعبد الله بن نصر له أحاديث منكرة ذكرها ابن عدي (¬4)، وقد وقع في إسناد ابن حزم تصحيفه إلى نصر بن عاصم؛ حذف عبد الله وصحف الأصم بعاصم. انتهى. وقوله: "له غُنْمُه وعليه غُرْمُه". اختلف العلماء في رفعها ووقفها على سعيد بن المسيب؛ فرفعها ابن أبي ذئب ومعمر وغيرهما مع كونهم أرسلوا الحديث على اختلاف على ابن أبي ذئب، ووقفها (د) غيرهم، وقد روى ابن وهب هذا الحديث فجوده، وبين أن هذه اللفظة من قول سعيد بن المسيب، وقال أبو داود في "المراسيل": قوله: "له غُنْمُه وعليه غُرْمُه". من كلام سعيد، نقله عنه الزهري. ¬

_ (أ) ساقط من: جـ. (ب) في النسخ: غرمه. وأثبت الصواب فوقها في الأصل. (جـ) في ب: أخرج. (د) في جـ: ودفعها.

وقال عبد الرزاق (¬1): أنبأنا معمر، عن الزهري، عن ابن المسيب، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يغلق الرهن ممن رهنه". قلت: أرأيت [قول النبي - صلى الله عليه وسلم -] (أ): "لا يغلق الرهن". أهو الرجل يقول: إن لم آتك بمالك فالرهن لك؟ قال: نعم. قال معمر: ثم بلغني عنه أنه قال: إن هلك لم يذهب حق هذا؛ إنما هلك من رب الرهن، له غُنْمُه وعليه غُرْمُه. قوله: "لا يغلق". لا نافيه أو ناهية، يقال: غلِق الرهن [غَلَقا] (ب). إذا بقي في يد المرتهن لا يقدر راهنه على تخليصه، والمعنى أنه لا يستحقه المرتهن إذا لم يَسْتَفكّه صاحبه، وكان هذا من فعل الجاهلية أن الراهن إذا لم يؤد ما عليه في الوقت المعين ملك المرتهن الرهن، فأبطله الإسلام. قال الأزهري (¬2): يقال: غَلِق البابُ وانْغلق واستغلق. إذا عسر فتحه، والغلق في الرهن ضد الفك، فإذا فك الراهن الرهن فقد أطلقه من وَثاقه عند مرتهنه. وقد أغلقتُ الرهنَ فغَلِق أي أوجبته فوجب للمرتهن. و"الرَّهْن" بفتح أوله وسكون الهاء معناه في اللغة الاحتباس، من قولهم: رهن الشيءُ. إذا دام وثبت، ومنه قوله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} (¬3). وفي الشرع: جعل مال وثيقة على دين، ويطلق أيضًا على العين ¬

_ (أ) في النسخ: قول الرجل، وفي المصنف: قوله. والمثبت من التلخيص الحبير 3/ 36. (ب) في الأصل، ب: غلوقا. وينظر التاج (غ ل ق).

المرهونة تسمية للمفعول باسم المصدر، ويجمع على رُهُن بضمتين، وعلى رِهان بكسر الراء، وقرئ بهما (¬1)، وهو مشروع في الحضر والسفر، وتقييده بالسفر في الآية الكريمة خرج مخرج الغالب. وذهب إلى هذا الجمهور، ويدل على الرهن في الحضر رهن النبي - صلى الله عليه وسلم - درعه من يهودي، واشترى منه شعيرًا إلى أجل -أخرجه البخاري (¬2) - وهو في المدينة. قالوا: ولأن الرهن شرع للاستيثاق، ولما كان السفر مظنةَ فقْدِ الكاتب فأخرجه مخرج الغالب، والخلاف في ذلك لمجاهد والضحاك فيما نقله الطبري عنهما (¬3)، فقالا: لا يشرع إلا في السفر حيث لا يوجد الكاتب. وبه قال داود وأهل الظاهر. وقال ابن حزم (¬4): إن شرط المرتهن الرهن في الحضر لم يكن له ذلك، وإن تبرع به الراهن جاز. و (أ) حمل حديث الباب عليه (¬5). وأحكام الرهن وتفصيل ضمانه والخلاف في ذلك مستوفى في كتب الفروع من الفقه. ¬

_ (أ) ساقط من: ب.

694 - وعن أبي رافع، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - استسلف من رجل بَكْرًا، فقَدِمَتْ عليه إبل من إبل الصدقة، فأمر أبا رافع أن يقضي الرجل بَكْرَه، فقال: لا أجد إلا خِيَارًا رَبَاعِيًّا. فقال: "أعطه إياه، فإن خيار الناس أحسنهم قضاء". رواه مسلم (¬1). قوله: استسلف. أي اقترض، والبكر بفتح الباء وسكون الكاف: الصغير من الإبل كالغلام من الآدميين، والأنثى بكرة وقلوص وهي الصغيرة كالجارية، وإذا استكمل ست سنين ودخل في السابعة وألقى رَباعيَته -بتخفيف الياء التحتانية- فهو رَبَاع، والأنثى رَبَاعيَة، وقد تقدم الخلاف في اقتراض الحيوان قريبًا (¬2). وفي الحديث دلالة على أنه يستحب لمن عليه دين من قرض أو غيره أن يرد أجود من الذي عليه، وأن ذلك من مكارم الأخلاق المحمودة في العرف وفي الشرع، وليس هذا من القرض الذي يجر نفعا؛ لأنه لم يكن بشرط من المقرِض، وإنما ذلك تبرع من المستقرِض، وظاهره العموم للزيادة في الصفة وفي العدد، وهو مذهب الجمهور، والخلاف لمالك أن الزيادة في العدد لا تحل وأنها منهي عنها، والله أعلم. 695 - وعن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "كل قرض جر منفعة فهو ربا". رواه الحارث بن أبي أسامة (¬3)، وإسناده ساقط، وله شاهد ضعيف عن فَضالة بن عبيد عند البيهقي (¬4)، [وآخر ¬

_ (¬1) مسلم، كتاب المساقاة، باب من استسلف شيئًا فقضى خيرا منه 3/ 1224 ح 1600. (¬2) ينظر ما تقدم ص 191. (¬3) الحارث بن أبي أسامة، كتاب البيوع، باب في القرض يجر المنفعة، ح 436 - بغية الباحث. (¬4) البيهقي، كتاب البيوع، باب كل قرض جر منفعة فهو ربا 5/ 350.

موقوف عن] (أ) عبد الله بن سلَام عند البخاري (¬1). الحديث في إسناده سَوَّار بن مصعب وهو متروك (¬2)، وحديث فَضالة أخرجه البيهقي في "المعرفة" (¬3) موقوفًا بلفظ: كل قرض جر منفعة فهو وجه من وجوه الربا. ورواه في "السنن الكبير" (¬4) عن ابن مسعود وأبي بن كعب وعبد الله بن سلام وابن عباس موقوفًا عليهم. والحديث محمول على أن المنفعة مشروطة من المقرِض أو في حكم المشروطة، وأما لو كانت تبرعًا من المقترض فلا منع من ذلك؛ جمعًا بينه وبين الحديث الذي مرَّ، والله أعلم. هذان الحديثان محلهما قبل الكلام على الرهن. ¬

_ (أ) في النسخ: وآخره موقوف وعن. والمثبت من بلوغ المرام ص 183.

باب التفليس والحجر

باب التفليس والحجر التفليس: مصدر فلَّبسه؛ أي نسبه إلى الإفلاس الذي هو مصدر أفلس، أي صار إلى حالة يقال: ليس معه فلس. والحجر: مصدر حجر، ومعناه في اللغة: المنع والتضييق، وفي الشرع: أن يقول الحاكم للمديون: حجرت عليك التصرف في مالك. 696 - عن أبي بكر بن عبد الرحمن عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "من أدرك ماله بعينه عند رجل قد أفلس فهو أحق به من غيره". متفق عليه (¬1). ورواه أبو داود ومالك (¬2) من رواية أبي بكر ابن عبد الرحمن مرسلًا بلفظ: "أيما رجل باع متاعًا وأفلس الذي ابتاعه، ولم يقبض الذي باعه من ثمنه شيئًا، فوجد متاعه بعينه فهو أحق به، وإن مات المشتري فصاحب المتاع أُسْوَةُ الغرماء (¬3) ". ووصله البيهقي (¬4) وضعفه تبعًا لأبي داود. وروى أبو داود وابن ماجه (¬5) من رواية عمر بن خَلَدة قال: أتينا ¬

_ (¬1) البخاري، كتاب الاستقراض، باب إذا وجد ماله عند مفلس في البيع والقرض ... 5/ 62 ح 2402، ومسلم، كتاب المساقاة، باب من أدرك ما باعه عند المشتري وقد أفلس فله الرجوع فيه 3/ 1193 ح 1559/ 22، 23. (¬2) أبو داود، كتاب البيوع، باب في الرجل يفلس فيجد الرجل متاعه بعينه عنده 3/ 284، 285 ح 3519 - 3522، ومالك، كتاب البيوع، باب ما جاء في إفلاس الغريم 2/ 678 ح 87. (¬3) أسوة الغرماء: أي أنهم مساوون ومشاركون في المال الوجود للمفلس. عون المعبود 3/ 101، 309. (¬4) البيهقي، كتاب التفليس، باب المشتري يموت مفلسا بالثمن 6/ 47. (¬5) أبو داود، كتاب البيوع، باب في الرجل يفلس فيجد الرجل متاعه بعينه عنده 3/ 285، 286 ح 3523، وابن ماجه، كتاب الأحكام، باب من وجد متاعه بعينه عند رجل قد أفلس 2/ 790 ح 2360.

أبا هريرة في صاحب لنا قد أفلس، فقال: لأقضين فيكم بقضاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من أفلس أو مات فوجد رجل متاعه بعينه فهو أحق به". صححه الحاكم (¬1)، وضعفه أبو داود وهذه الزيادة في ذكر الموت. هو أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام الخزومي، اسمه كنيته، وقيل: إن اسمه أبو بكر، وكنيته أبو عبد الرحمن. قاضي المدينة، تابعي، سمع عائشة وأبا هريرة، روى عنه الشعبي والزهري (¬2). الحديث فيه دلالة على أن البائع إذا أفلس المشتري ولم يقدر على تسليم ثمن ما اشتراه أنه أحق بالمبيع، فيأخذه دون سائر الغرماء إذا كان له غرماء، وذلك لأن: "من أدرك ماله". عام لما كان قد خرج عن ملكه ببيع أو قرض أو كان وديعة، إلا أن الوديعة لا يحتاج إلى ذكرها؛ لأن المال باقٍ على ملك المالك، سواء كان الوديع مفلسًا أو غير مفلس، وهو إجماع. وأما القرض، فإذا أقرض وانكشف له إعسار المقترض؛ فذهب الشافعي وآخرون إلى أن المقرض أولى بماله وله استرجاعه، وذهب غيرهم إلى أن ذلك الحكم يختص بالبيع، ولفظ هذه الرواية وإن كان فيه عموم، فقد وقع التصريح في غيرها بلفظ البيع، وقد صرح به سفيان في "جامعه" (¬3)، وأخرجه من طريقه (أ) ابن خزيمة وابن حبان وغيرهما (¬4) عن يحيى بن سعيد ¬

_ (أ) في ب: طريق.

بإسناد الحديث المذكور، ولفظه: "إذا ابتاع الرجل سلعة ثم أفلس وهي عنده بعينها فهو أحق بها من الغرماء". ولابن حبان (¬1) من طريق هشام بن يحيى المخزومي عن أبي هريرة بلفظ: "إذا أفلس الرجل فوجد البائع سلعته". والباقي مثله. ولمسلم (¬2): إذا وجد عنده المتاع "أنه لصاحبه الذي باعه". وفي مرسل ابن أبي مليكة عند عبد الرزاق (¬3): "من باع سلعة من رجل لم ينقده، ثم أفلس الرجل، فوجدها بعينها فليأخذها من بين الغرماء". فالحديث وارد في صورة البيع، وتُحمل الرواية العامة على الصورة الخاصة، إلا أن قول الأكثر من الأصوليين أن الخاص الموافق للعام في الحكم لا يخصص العام. [وضعف] (أ) هذا الجواب، ولا يتم إلا على قول أبي ثور، وقياس القرض على البيع لا يتم؛ لأن القرض شرعيته لدفع الحاجة، ولا يكون ذلك في الأغلب إلا مع الإفلاس، فلو كان مثل البيع لم يستقرض أحد في الأغلب، بخلاف البيع فإن البائع إنما يبيع ليقبض الثمن، والمشتري كذلك إنما يشتري (ب) ليسلم الثمن، فإذا انكشف معسرا لم يحصل الغرض المقصود من البيع. وقوله: "بعينه". يدل على أنه إذا كان المال قد تغير في صفة من الصفات أو بزيادة أو نقصان فليس صاحبه الأول أولى به، بل يكون فيه أسوة الغرماء، وذهب الهدوية والشافعي إلى أنه إن تغيرت صفته بعيب فللبائع ¬

_ (أ) في الأصل: يضعف، وفي جـ: فضعف. (ب) في ب: اشترى.

أخذه، ولا أرش [يلزم] (أ) له، وإن تغيرت بزيادة كان للمشتري غرامة تلك الزيادة؛ وهي ما أنفق عليه حتى حصلت، وكذلك الفوائد للمشتري ولو كانت متصلة، لأنها نماء حادث في ملكه، و [يلزم له] (ب) قيمة ما لا حدَّ لبقائه كالشجر إذا غرسها، وإبقاء ما له حدٌّ بلا أجرة كالزرع، وكذلك [إذا نقصت] (جـ) العين بأن هلك بعضها فله أخذ الباقي بحصته من الثمن، وهو يتناوله لفظ الحديث؛ لأن الباقي مبيع باق بعينه، وقيل: إنه يرجع بجميع الثمن. ولا دلالة في لفظ الحديث في كيفية الرجوع، وحديث أبي بكر بن عبد الرحمن المرسل قد وصله أبو داود (¬1) من طريق أخرى وفيها إسماعيل بن عياش (¬2)، إلا إنه رواه عن الزُّبَيدي وهو شامي، قال أبو داود: المرسل أصح. وقد وصله عبد الرزاق في "مصنفه" (¬3) عن مالك، لكن المشهور عن مالك إرساله، وكذا عن الزهري، وقد وصله [الزبيدي] (د) عن الزهري. قال المصنف رحمه الله (¬4): واختلف على إسماعيل فيه، فأخرجه ابن الجارود من وجه آخر (¬5) عنه عن موسى بن عقبة عن الزهري موصولًا، وقال ¬

_ (أ) في الأصل: يلزمه. (ب) في الأصل: يلزمه. (جـ) في الأصل، ب: إذا نقص، وفي جـ: إذ نقص. والمثبت هو الصواب. (د) في النسخ: الترمذي. وتقدم على الصواب، وينظر الفتح 5/ 63.

الشافعي (¬1): هو منقطع. وقال البيهقي (¬2): لا يصح وصله. وذكر ابن حزم (¬3) أن عِراك بن مالك رواه أيضًا عن أبي هريرة، وفي "غرائب مالك" وفي "التمهيد" (¬4) أن بعض أصحاب مالك وصله عنه. وأخرج ابن أبي شيبة (¬5) عن عمر بن عبد العزيز قال: قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه أحق به من الغرماء، إلا أن يكون اقتضى من ماله شيئًا فهو أسوة الغرماء. وفيه دلالة على أن البائع إذا كان قد قبض بعض الثمن فليس له حق في استرجاع المبيع، بل يكون أسوة الغرماء، وقد أخذ بهذا جمهور العلماء، وذهبت الهدوية -والقول الراجح للشافعي- إلى أنه أحق به وإن قد قبض بعض الثمن، يعني يأخذ بقدر ما بقي من الثمن، ولعل الشافعي لما لم يصح له هذا الحديث رجع إلى عموم حديث الباب المتفق على صحته ولم يفرق فيه بين قبض بعض الثمن وغيره. وفي قوله: "أو مات" إلخ. فيه دلالة على أنه إذا مات المشتري قبل أن يسلم الثمن. فالبائع أولى بالمتاع، وظاهره: ولو خلَّف وفاءً. وقد ذهب إلى هذا الشافعي، واحتج بما رواه (¬6) من طريق عمر بن خَلَدة قاضي المدينة، قال: وهو حديث حسن يحتج بمثله. وقد أخرجه أحمد (¬7) أيضًا. وقد زاد ¬

_ (¬1) الأم 3/ 215. (¬2) البيهقي 6/ 47. (¬3) المحلى 8/ 637. (¬4) التمهيد 8/ 406. (¬5) ابن أبي شيبة 6/ 36، 10/ 163. (¬6) الشافعي في الأم 3/ 199. (¬7) أحمد 2/ 287.

بعضهم في [آخرِه] (أ): "إلا أن يترك صاحبه وفاء" (¬1). قال الشافعي (¬2): يحتمل أن تكون الزيادة من رأي أبي بكر بن عبد الرحمن (¬3)؛ لأن الذين وصلوه عنه لم يذكروا قضية الموت، وكذلك الذين رووه عن أبي هريرة، بل في رواية عمر بن خَلَدة التسوية بين الموت والإفلاس، فتعين المصير إليه. وجزم ابن العربي (¬4) بأن الزيادة التي في مرسل مالك من قول الراوي. وذهب مالك وأحمد إلى أنه إذا مات وهو مفلس فالمتاع أسوة الغرماء، وقد ورد في مرسل مالك (¬5): "وإن مات الذي ابتاعه فصاحب المتاع فيها أسوة الغرماء". وفرَّق بين الفَلَس (ب) والموت بأن الميت خربت ذمته وليس للغرماء محل رجعون إليه، فاستووا في ذلك، بخلاف الفَلَس. وظاهر كلام الهدوية والمؤيد وغيرهم أن الميت إذا خلف الوفاء لم يكن صاحب المتاع أولى به، بل الورثةُ، ويسلِّمون الثمن من التركة. والحديث يرد عليهم، وتأويله ¬

_ (أ) في النسخ: آخر حديث أبي بكر بن عبد الرحمن. وهو خطأ، والمثبت من الفتح 5/ 64، وهذه الزيادة هي في حديث عمر بن خلدة وحده. (ب) في ب: المفلس.

بأنه إذا لم يخلف الوفاء يَبعُد عَطْفُ الموت على الإفلاس، فإن ظاهره أن ذلك سبب مستقل من دون إفلاس، وإذا أراد الغرماء أو الورثة إعطاء صاحب السلعة الثمن؛ فقال مالك: يلزمه القبول. وقال الشافعي وأحمد: لا يلزمه ذلك؛ لما فيه من المنة، ولأنه ربما ظهر غريم آخر يزاحمه فيما أخذ. وأغرب ابن التين (¬1) وحكى عن الشافعي أنه قال: لا يجوز له ذلك وليس له إلا سلعته. والخلاف في أصل المسألة للحنفية فقالوا: إن البائع وغيره على سواء في أن المتاع يكون أسوة الغرماء. قالوا: والحديث لا يحمل على ظاهره، بل يجب تأويله بما إذا كان المتاع وديعة أو عارية أو لقطة؛ لكونه خبر واحد خالف الأصول، لأن السلعة صارت بالبيع ملكا للمشتري ومن ضمانه، واستحقاق البائع أخذها منه نقض لملكه. وأجيب عن ذلك بأنه لو كان المقصود ما ذكر في التأويل لم يقيد بالفَلَس ولا جعل "أحق بها" بصيغة التفضيل المقتضية للمشاركة في الحقية، ولا يتصور التأويل هذا فيما تقدم من رواية سفيان: "إذا ابتاع الرجل". فذلك نص في البيع، فكيف يصح حمله على الوديعة ونحوها؟ وتأوله بعض الحنفية بتأويل أقرب وهو ما إذا أفلس قبل أن يقبض المتاع، ورُدَّ عليه بقوله: "عند رجل". في الحديث المصدر، فإنه يدل على أن المتاع قد صار في غير يد صاحبه الأول، وقولهم: إنه خبر واحد. غير صحيح، فإنه مشهور، فقد روى ابن حبان (¬2) ذلك من حديث ابن عمر وإسناده صحيح، وأخرجه أحمد وأبو داود (¬3) من حديث سمرة وإسناده حسن، وقضى به عثمان (¬4) وعمر بن عبد العزيز (¬5)، فخرج عن ¬

_ (¬1) الفتح 5/ 65. (¬2) ابن حبان 11/ 415، 416 ح 5039. (¬3) أحمد 5/ 13، وأبو داود 3/ 287 ح 3531. (¬4) البيهقي 6/ 46. (¬5) ابن أبي شيبة 6/ 36.

كونه فردًا غريبًا. وقال ابن المنذر: إنه لا يعرف لعثمان مخالف من الصحابة. وتعقب بما رواه ابن أبي شيبة (¬1) عن عليٍّ أنه أسوة الغرماء. وأجيب عنه بأنه اختلف على عليٍّ في ذلك ولم يختلف على عثمان، ويلتحق بذلك المؤْجِرُ، فيرجع مُكري الدابة والدار إلى عين (أ) دابته وداره، وهذا هو الوجه الصحيح عند الشافعية والمالكية، وإدراج الإجارة في هذا الحكم يتوقف على أن المنافع يطلق عليها اسم المتاع أو المال، أو يقال: اقتضى الحديث أن يكون أحق بالعين. ومن لوازم ذلك الرجوع في المنافع، فثبت بطريق اللزوم. واستدل بالحديث على حلول الدين المؤجل بالفَلَس؛ من حيث إن صاحب الدين أدرك متاعه بعينه فيكون أحق به، ومن لوازم ذلك أنه يجوز له المطالبة بالمؤجل، وهو قول الجمهور، وعند الهدوية، وهو الراجح عند الشافعية، أن المؤجل لا يحل بذلك؛ لأن الأجل حق مقصود له فلا يفوت، وعلى هذا القول قال بعض المفرعين: إنه يقضي مالُه أهلَ الديون الحالّة، وحق أهل المؤجل في ذمته، بخلاف ما إذا مات، فإنه يعزل حصة أهل المؤجل؛ لأنه لا ذمة له. وقال بعضهم: بل يعزل نصيب أهل المؤجل إلى وقت حلول الأجل؛ لأن دينه قد دخل ضمنًا في الحجر، فكان كالمعجل، وللمدين حق في التأخير، وله فائدة؛ لو أيْسَر ورأى الحاكم رجوع ذلك إليه، لا سيما حيث كان من غير الجنس، وقد يكون انقضاء الأجل يسيرا، ويعرف الحاكم أنه لا معنى لذلك، فله دفعه إليه، لا سيما حيث كان يخشى عليه، فيكون ¬

_ (أ) في جـ: غير.

بنَظِرة. وبني على هذا في "الأثمار" و "البحر"، واستدل به على أن لصاحب المتاع أن يأخذ متاعه من دون حكم، وهو الأصح من قول العلماء، والقول الآخر يتوقف (أ) على حكم الحاكم كما يتوقف ثبوت الفَلَس. واستدل به على فسخ المبيع إذا امتنع المشتري من أداء الثمن مع قدرته بمطل أو هرب؛ قياسًا على الفَلَس بجامع تعذر الوصول إليه حالا، والأصح من أقوال العلماء أنه لا يفسخ، واستدل به على أن الرجوع إنما يقع في عين المتاع دون زوائده؛ لأنها حدثت على ملك المشتري وليست بمتاع البائع. 697 - وعن عمرو بن الشَّريد عن أبيه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لَيُّ الواجد يُحل عرضه وعقوبته". رواه أبو داود والنسائي، وعلقه البخاري، وصححه ابن حبان (¬1). هو عمرو بن الشريد، بفتح الشين المعجمة وكسر الراء، بن سويد الثقفي، تابعي، عداده في أهل الطائف، سمع ابن عباس، وأباه، وأبا رافع مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، روى عنه صالح بن دينار، وإبراهيم بن ميسرة، [ومحمد بن ميمون] (ب). وأخرج الحديث أيضًا أحمد وابن ماجه والحاكم والبيهقي (¬2)، وقال ¬

_ (أ) في ب: متوقف. (ب) في الأصل: ضد ميمنة، وفي ب: رصد ميمنة، وفي جـ: عند ميمنة. والمثبت من تهذيب الكمال 22/ 63.

الطبراني في "الأوسط" (¬1): لا يروى عن الشريد إلا بهذا الإسناد، تفرد به ابن أبي دُلَيْلَة. وقوله: "لَيُّ الواجد". هو بفتح اللام والياء المشددة، مصدر من لوَى يَلوي؛ أي مَطْلُ. و "الواجد" بالجيم: الغني، من الوُجد، بالضم، أي القدرة. و "يُحل" بضم الياء أي يُجَوِّز. وقد فسر البخاري حِلَّ العِرض بما علقه عن سفيان، قال: يقول: مطلني، وعقوبته حبسه. ووصله البيهقي (¬2) من طريق الفريابي، وهو من شيوخ البخاري، عن سفيان بلفظ: عرضه؛ أن يقول: مطلني حقي. وعقوبته أن يسجن. وقال إسحاق (¬3): فسر سفيان عرضه أذاه بلسانه. وقال أحمد، لما رواه عن وكيع بسنده، قال وكيع: عرضه شكايته. وقال كل منهما: وعقوبته حبسه. واستدل به على مشروعية حبس المدين إذا كان قادرًا على الوفاء؛ تأديبًا له وتشديدًا عليه. وهو حجة لأبي حنيفة وزيد بن علي أنه يحبس حتى يقضي دينه، ولا يحجر عليه. وأجاز الجمهور الحجرَ وبيعَ الحاكم عليه ماله، وسيأتي في حديث معاذ (¬4). ويدل الحديث بالمفهوم أن المعسر ليُّه لا يُحل شيئًا من ذلك، وهو قول الجماهير من العلماء. وحكي عن شريح حبسه حتى يقضي الدين وإن كان قد ثبت إعساره (¬5). وعن أبي حنيفة ملازمته. وقوله تعالى: {فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} (¬6). رد عليهم. ¬

_ (¬1) الأوسط 3/ 46 عقب ح 2428. (¬2) البيهقي 6/ 59. (¬3) إسحاق كما في الفتح 5/ 62. (¬4) سيأتي ح 699. (¬5) عبد الرزاق 8/ 305، 306 ح 15309، 15310. (¬6) الآية 280 من سورة البقرة.

واختلف العلماء في مَطْل الواجد هل يبلغ إلى حد الكبيرة فيُفَسَّق الماطل وترد شهادته بمطله مرة واحدة؟ فذهب الهدوية إلى أنه يفسَّق بذلك. واختلفوا في قدر ما يُفَسِّق؛ فذهب الجمهور منهم إلى أنه يفسَّق بمطل عشَرة دراهم فما فوق؛ قياسًا على نصاب السرقة، وفي كلام الهادي وولده أحمد ما يقضي بأنه يفسق بدون ذلك، وكذلك المالكية والشافعية، إلا أنهم ترددوا في اشتراط التكرار، ومقتضى مذهب الشافعي اشتراطه، والله أعلم. 698 - وعن أبي سعيد الخدري قال: أصيب رجل في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ثمار ابتاعها فكثر دينه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "تصدقوا عليه". فتصدق الناس عليه ولم يبلغ ذلك وفاء دينه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لغرمائه: "خذوا ما وجدتم وليس لكم إلا ذلك". رواه مسلم (¬1). تقدم الكلام في ضمان الثمرة إذا أصيبت (¬2)، والجمعُ بين هذا وحديثِ جابر وقولِه: "فلا يحل لك أن تأخذه". أن هذا على جهة الاستحباب والحث على جبر من حدث عليه حادث، ويدل أيضًا قوله: "وليس لكم إلا ذلك". على أن الثمرة غير مضمونة، إذ لو كانت مضمونة لقال: وما بقي نظرة إلى ميسرة. أو نحو ذلك؛ إذ الدين لا يسقط بإعسار المدين، وإنما تتأخر عنه المطالبة في الحال، ومتى أيسر وجب عليه القضاء، والله أعلم. 699 - وعن ابن كعب بن مالك عن أبيه، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حجر على معاذ ماله وباعه في دين كان عليه. رواه الدارقطني وصححه ¬

_ (¬1) مسلم، كتاب المساقاة، باب استحباب الوضع من الدين 3/ 1191 ح 1556/ 18. (¬2) تقدم ص 217 - 219.

الحاكم، وأخرجه أبو داود مرسلًا (¬1) ورجح [إرساله] (أ). ابن كعب اسمه عبد الرحمن، كذا سماه عبد الرزاق. أخرجه الدارقطني والحاكم والبيهقي (¬2) من طريق هشام بن يوسف عن معمر عن الزهري عن ابن كعب بن مالك، وخالفه عبد الرزاق (¬3) وعبد الله بن المبارك (¬4) عن معمر فأرسلاه، قال عبد الحق: المرسل أصح من المتصل. وقال ابن الطلَّاع في "الأحكام" (¬5): هو حديث ثابت، وكان ذلك في سنة تسع، وجعل لغرمائه خمسة أسباع حقوقهم، فقالوا: يا رسول الله، بعه لنا. قال: "ليس لكم إليه سبيل". وأخرجه البيهقي (¬6) من طريق الواقدي، وزاد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعثه بعد ذلك إلى اليمن ليجبره. وزاد (ب) الطبراني في "الكبير" (¬7) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما حج بعث معاذًا إلى اليمن، وأنه أول من تاجر في مال الله. الحديث فيه دلالة على أن المدين يحجر عليه الحاكم التصرف في ماله ¬

_ (أ) ساقط من النسخ، والمثبت من بلوغ المرام ص 185. (ب) في ب، جـ: روى.

ويبيعه عنه لقضاء الغرماء، وهو حكاية فعل عرف وجهه، فيتأسى بالنبي - صلى الله عليه وسلم - فيه، وظاهر القصة أنه كان ماله مستغرقا بالدين، فإذا اقتصر على قدر ما ورد لم يكن الحجر إلا على المستغرق ماله، ولكنه إذا ظهر المقتضي المناسب جاز الإلحاق، والمقتضي لذلك هو عدم مسارعة المدين بالقضاء، وهو حاصل مع من استغرق ماله، ومن لم يستغرق فيلحق به، وقد ذهب إلى هذا جمهور العترة والشافعي وأبو يوسف ومحمد. وقال زيد بن علي والناصر وأبو حنيفة: إنه لا يحجر ولا يبيع، وإنما الواجب أن يحبس حتى يقضي دينه. قالوا: لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيبة من نفسه" (¬1). وقوله تعالى: {إلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ} (¬2). ومقتضى الحجر والبيع إخراج المال من دون طيبه، ولم يكن تجارة عن تراض، وحديث معاذ حكاية فعل، وأيضًا فإنه مرسل. وأجيب بأن ذلك عموم، وحديث معاذ خاص، وأن الفعل إذا ظهر وجهه فهو حجة كالقول، وقد ظهر هنا وهو أنه فعل لدفع الخصومة واستيفاء الحق، فكان ظاهره الوجوب على الحاكم أن يفعل ذلك لما ذكر، وقد يجاب عن ذلك بأن حجر النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما كان لطلب من معاذ من النبي - صلى الله عليه وسلم - لما فعله، وقد روى ذلك إمام الحرمين في "النهاية" (¬3)، قال: قال العلماء: [ما] (أ) كان في حجر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على معاذ من جهة استدعاء غرمائه، والأشبه أن ذلك جرى باستدعائه. وتبعه الغزالي (¬4) في ذلك، وقد روى الدارقطني (¬5) أن معاذًا أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فكلمه ليكلم غرماءه، ولكن هذا لا يدل على ما ذكر؛ لأن ¬

_ (أ) في الأصل: لما.

تكليم الغرماء ظاهره ليس لطلب الحجر، وإنما هو لأجل الإنظار والتحلل منهم إلى وقت اليسار، وما ادعاه إمام الحرمين هو خلاف ما صح من الروايات المشهورة، فإن في "مراسيل (أ) أبي داود" التصريح بأن الغرماء هم الذين طلبوا ذلك. وفي هذا دلالة على أنه لا يحجر الحاكم حتى يطلب الغرماء ذلك في دين مؤجل إذ الحق لهم، وقال الشافعي: يصح قبل الطلب لمصلحة. وذكر بعض الهدوية أنه يصح في المؤجل إذا رأى الحاكم في ذلك صلاحًا، وقال أبو جعفر: الدين المؤجل كالمعدوم حتى يحل الأجل. قال المؤيد بالله: ويصح الحجر قبل التثبيت بالدين مدة قريبة. وقدرها المهدي في "البحر" ثلاثة أيام. ويؤيد شرعية الحجر ما وقع من عمر في حق أسيفع جهينة وهو ما أخرج مالك في "الموطأ" (¬1) بسند منقطع أن رجلًا من جهينة كان يشتري الرواحل فيُغالي بها؛ فيسرع المسير فيسبق الحاج، فأفلس فرفع أمره إلى عمر بن الخطاب فقال: أما بعد أيها الناس، فإن الأسيفع أسيفع جهينة قد رضي من دينه وأمانته أن يقال: سبق الحاج. وفيه: ألا إنه ادّان مُعْرِضًا (¬2)، فأصبح وقد رِينَ به -أي أحاط به الدين- فمن كان له عليه دين؛ فليأتنا بالغداة فنقسم ماله بين غرمائه، ثم إياكم والدَّينَ فإن أوله هَمٌّ وآخره حَرَب (¬3). ¬

_ (أ) في ب، جـ: مرسل.

وقد وصله الدارقطني (¬1) عن بلال بن الحارث عن عمر، المتروك في حديث مالك، وكذا عند ابن أبي شيبة (¬2). وأخرج البيهقي (¬3) القصة من طريق مالك وقال: رواه ابن عُلية عن أيوب قال: نُبِّئت (1) عن عمر. فذكر نحوه، وقال فيه: فقسم ماله بينهم بالحصص. وقد أخرجه عبد الرزاق (¬4) عن معمر عن أيوب. ورواه الدارقطني (¬5) في "غرائب مالك" بإسناد متصل، (ب وهذا واقع في محضر من الصحابة ولم ينكر عليه أحد فدل على أن ذلك كان معلومًا عندهم معروف الحال إذ لو كان ابتداء نظر لطلب من الناس الاجتهاد كما كانت عادة عمر رضي الله عنه ب). واعلم أن ظاهر الحديث أنه لا يمهل المدين مع وجود المال، وقد ورد في حديث جابر أخرجه البخاري (¬6) أن أباه قتل يوم أحد شهيدًا وعليه دين، فاشتد الغرماء في [حقوقهم] (جـ) فأتيت النبي - صلى الله عليه وسلم -، فسألهم أن يقبلوا ثمر ¬

_ (أ) في جـ: ثبت. (ب- ب) ساقط من: ب. (جـ) في الأصل: ديونهم.

حائطي ويحللوا أبي، فأبوا فلم يعطهم النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - حائطي، وقال: "سنغدو عليك". فغدا علينا حين أصبح، فطاف في النخل ودعا في ثمرها بالبركة، [فجَددتها] (أ) فقضيتهم وبقي لنا من ثمرها. وبوّب البُخاريّ (¬1) على ذلك: باب من أخر الغريم إلى الغد أو نحوه ولم يَر ذلك مطلًا، وزاد في رواية: فلم يعطهم الحائط ولم يكسر لهم. فهو يدل على أن انتظار حصول الغلة والتمكن منها [لا يعد مطلًا] (ب) وعلى أن من كان له دخل يُنظر إلى دخله وإن طالت مدته؛ إذ لا فرق بين المدة الطويلة والقصيرة في حق الآدمي، ومن لا دخل له لا ينظر، ويبيع الحاكم ماله لأهل (جـ) الدين. وبهذا يجمع بين الأدلة، ويؤيّد هذا ما ذكره الرازي في "مفاتح الغيب" (¬2) وغيره من المفسرين في قوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} (¬3). أن الآية نزلت في بني المغيرة؛ لما سألهم الأربعة الإخوة من ثقيف قضاء الدين وطلبوا الإمهال إلى إدراك الغلة، فأبوا، فنزلت الآية، وإن كانت الآية محتملة أن تكون مختصة بدين الرِّبا وأن الضمير في قوله تعالى: (وإن كان ذا عسرة) في قراءة عثمان (¬4)، عائد إلى من عليه المال المذكور، كما ذهب إليه شريح ¬

_ (أ) في جـ: فخذذتها. (ب) في الأصل: إلَّا بعد بطلان. (جـ) في ب: لأجل.

وابن عباس (¬1) والضَّحَّاك والسدي وإبراهيم النَّخعيُّ؛ أن الآية مختصة بالربا، وروي أن شريحًا حبس المدين فقيل له: إنه معسر. فقال: ذلك في الرِّبا. وقراءة الجمهور: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ}. والمعنى: وإن وجد أو ثبت ذو عسرة. فسياق الآية. وإن كان في الرِّبا، إلَّا أن غير الرِّبا مشارك في المعنى، فهو إما بالنص إذا اعتبر عموم المعسر، أو من باب القياس إذا اعتبر خصوص دين الرِّبا، وأن الإنظار إلى الميسرة وهو إدراك الغلة معتبر في الجميع، وقريب من هذا ما ذكره بعض المتأخرين من (أ) المفرعين على مذهب الهادي، أنَّه يمهل من عليه الدين الأيَّام التي تعرض سلعته للبيع فيها بالقيمة، ولا يجب عليه أن يبيع بدون ذلك، حيث يمكن البيع من دون غبن (ب). 700 - وعن ابن عمر رضي الله عنه قال: عرضت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم أحد وأنا ابن أربع عشرة سنة فلم يجزني، وعرضت عليه يوم الخندق وأنا ابن خمس عشرة سنة فأجازني. متَّفقٌ عليه (¬2)، وفي رواية للبيهقي (¬3): فلم يجزني ولم يرني بلغت. وصححها ابن خزيمة. الحديث فيه دلالة على أن البلوغ يثبت بخمس عشرة سنة، وهو مذهب الجمهور قالوا: وباستكمال خمس عشرة سنة يصير مكلفًا وإن لم يحتلم، فتجري عليه الأحكام من وجوب العبادات وغيرها، ويستحق سهم الرجل ¬

_ (أ) زاد في ب: أن. (ب) في جـ: غيره.

من الغنيمة، ويُقتل إن كان محاربًا. وفيه دليل على أن الخندق كانت سنة أربع من الهجرة وهو الصَّحيح، وقال جماعة من أهل التواريخ والسير: كانت سنة خمس. وهذا الحديث يرد؛ لأنهم أجمعوا على أن أحدًا كانت سنة ثلاث، فيكون الخندق سنة أربع؛ لأنَّه جعلها في هذا الحديث بعدها بسنة. وقوله: فأجازني. وقوله: فلم يجزني. المراد بالإجازة جعل له حكم الرجال المقاتلين، ووجه ذكر الحديث هنا أن الصَّغير الذي لم يبلغ ليس له حكم البالغ، فيندرج في ذلك عدم نفوذ معاملاته وعقوده، والله أعلم. 701 - وعن عطية القرظي رضي الله عنه قال: عرضنا على النَّبيِّ - صَلَّى الله عليه وسلم - يوم قريظة وكان من أنبت قتل، ومن لم ينبت خلِّي سبيله، فكنت فيمن لم ينبت فخلي سبيلي. رواه الأربعة وصححه ابن حبان والحاكم (¬1). هو عطية القرظي من سبي بني قريظة قال ابن عبد البر (¬2): لم أقف على اسم أبيه. رأى النَّبيَّ - صَلَّى الله عليه وسلم - وسمع منه، روى عنه مجاهد بن جبر وعبد الملك بن عمير. الحديث أخرجه أصحاب "السنن" من حديث عبد الملك بن عمير عنه بلفظ: ومن لم ينبت لم يقتل. وفي رواية: جعل في السبي. وللترمذي: ¬

_ (¬1) أبو داود، كتاب الحدود، باب في الغلام يصيب الحد 4/ 139 ح 4404، والترمذي، كتاب السير، باب ما جاء في النزول على الحكم 4/ 123 ح 1584، والنَّسائيُّ، كتاب الطلاق، باب متى يقع طلاق الصبي 6/ 155، وابن ماجه، كتاب الحدود، باب من لا يجب عليه الحد 2/ 849 ح 2541، وابن حبان، كتاب السير، باب الخروج وكيفية الجهاد 11/ 103 ح 4780، والحاكم، كتاب الجهاد 2/ 123، وكتاب المغازي 3/ 123. (¬2) الاستيعاب 3/ 1072.

خلي سبيله. وله طرق أخرى عن عطية، وصححه التِّرمذيُّ وابن حبان والحاكم وقال: على شرط "الصحيحين". وهو كما قال إلَّا أنهما لم يخرجا لعطية، وما له إلَّا هذا الحديث الواحد. والحديث فيه دلالة على أن الإنبات يحصل به البلوغ، ويجري على من أنبت أحكام المكلفين والله أعلم. ولم يذكر المصنف الحجر للتبذير والسفه، وقد قال به الشَّافعي وأبو يوسف ومحمد، وهو مذهب مالك وجماهير العلماء فقالوا: يجب الحجر لأجلهما. وقال البيهقي في "السنن الكبري" (¬1)، في باب الحجر على البالغين بالسفه، أن عبد الله بن جعفر اشترى أرضًا بستمائة ألف درهم، فهم علي وعثمان أن يحجرا عليه. قال: فلقيت الزُّبير فقلت: ما اشترى أحد بيعًا أرخص ممَّا اشتريت. قال: فذكر له عبد الله الحجر. قال: لو أن عندِي مالًا لشاركتك. قال: فإني أقرضك نصف المال. قال: فإني شريكك. فأتاهما علي وعثمان وهما يتراوضان. قال: ما تراوضان؟ فذكرا له الحجر على عبد الله بن جعفر، فقال: أتحجران (أ) على رجل أنا شريكه؟! وفي رواية: فقال عثمان: كيف أحجر على رجل في بيع شريكه فيه (ب) الزُّبير؟! قال الشَّافعي رحمه الله تعالى: لا يطلب الحجر إلَّا وهو يراه، والزبير لو كان الحجر باطلًا قال: لا يحجر على بالغ حر. وكذلك عثمان، بل كلهم يعرف الحجر. ثم ذكر قصة عائشة حين هم عبد الله بن الزُّبير بالحجر عليها، فنذرت ألا تكلمه إلخ. رواه البُخاريّ في "صحيحه" (¬2) عن أبي اليمان. فهذه عائشة لا تنكر ¬

_ (أ) في ب: أتحجر. (ب) زاد في جـ: ابن.

الحجر، وابن الزُّبير يراه. وقد كان الحجر معروفًا على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من غير أن يروى عنه إنكاره. ثم ذكر الذي كان يبتاع على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفي عقدته ضعف، فأتى أهله فقالوا: يا نبي الله، احجر على فلان. إلى آخر ما ذكر (¬1) رحمة الله عليه. وقال زيد بن علي وأبو حنيفة: لا يحجر بذلك. قال ابن القصار وغيره: الصَّحيح الأول وكأنه إجماع. قال النواوي (¬2): والصغير لا ينقطع عنه حكم اليتم بعلو السنن، ولا بمجرد البلوغ، بل لا بد أن يظهر منه الرشد في دينه وماله. وقال أبو حنيفة: إذا بلغ خمسًا وعشرين سنة زال عنه حكم الصبيان وصار رشيدًا يتصرف في ماله، ويجب تسليمه إليه وإن كان غير ضابط له. والله أعلم. 702 - وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم - قال: "لا تجوز لامرأة عطية إلَّا بإذن زوجها". وفي لفظ: "لا يجوز للمرأة أمرٌ في مالها إذا ملك زوجها عصمتها". رواه أحمد وأصحاب "السنن" إلَّا التِّرمذيُّ وصححه الحاكم (2). الحديث فيه دلالة على أن المرأة محجورة عن التصرف في مالها إذا كانت مزوجة إلَّا فيما أذن لها فيه الزوج، وهذا صريح في الرّواية الثَّانية لزيادة لفظ: "في مالها". وقد ذهب إلى هذا طاوس ولو كانت رشيدة، وأمَّا إذا كانت سفيهة ففيها ما تقدم من الحجر بالسفه، وذهب مالك إلى أن تصرفها ¬

_ (¬1) السنن الكبرى 6/ 62. والحديث تقدم تخريجه ص 160، وينظر ص 163. (¬2) أحمد 2/ 221، وأبو داود، كتاب البيوع، باب في عطية المرأة بغير إذن زوجها 3/ 291 ح 3547 باللفظ الأول، وح 3546 باللفظ الثَّاني، والنَّسائيُّ، كتاب الزكاة، باب عطية المرأة بغير إذن زوجها 5/ 65، 66 باللفظ الأول، وفي كتاب العمرى، باب عطية المرأة بغير إذن زوجها 6/ 278 باللفظ الثَّاني، وابن ماجه، كتاب الهبات، باب عطية المرأة بغير إذن زوجها 2/ 798 ح 2388 باللفظ الثَّاني، والحاكم، كتاب البيوع 2/ 47 باللفظ الثَّاني.

من الثُّلث، وذهب اللَّيث إلى أنَّه لا يجوز تصرفها إلَّا في الشيء التافه، وذهب الجمهور إلى أنَّه لا حجر عليها في مالها، وأدلة الجمهور كثيرة من الكتاب والسنة؛ إلَّا أنها عموم وهذا خاص، والجمع بين العام والخاص هو الواجب. قال ابن بطال (¬1): إن الأحاديث التي أوردها البُخاريّ في صحة تصرَّف المرأة بغير إذن زوجها حملها مالك على الشيء اليسير وجعل حده الثُّلث فما دونه. والله أعلم. 703 - وعن قبيصة بن مخارق قال: قال رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم -: "إن المسألة لا تحل إلَّا لأحد ثلاثة؛ رجل تحمل حمالة فحلت له المسألة حتَّى يصيبها ثم يمسك، ورجل أصابته جائحة اجتاحت ماله فحلت له المسألة حتَّى يصيب قوامًا من عيش، ورجل أصابته فاقة حتَّى يقوم ثلاثة من ذوي الحجا من قومه: لقد أصابت فلانًا فاقة فحلت له المسألة". رواه مسلم (¬2). الحديث قد تقدم بلفظه في باب قسمة الصدقات، وهو أليق به من هذا، ولا مناسبة لإيراده هنا، فليرجع في شرحه إلى ذلك الباب (¬3)، ولعل وجه ذكره أن الرجل الذي تحمل الحمالة قد لزمه دين، ولا يكون له حكم المفلس في الحجر عليه بل يترك حتَّى يسأل النَّاس فيقصي دينه، وهذا الحكم مستقيم على القواعد إذا لم يكن قد ضمن بذلك المال، والله أعلم. ¬

_ (¬1) شرح صحيح البُخاريّ 7/ 107، 109. (¬2) مسلم، كتاب الزكاة، باب من تحل له المسألة 2/ 722 ح 1044/ 109. (¬3) تقدم في 4/ 388 - 391.

باب الصلح

باب الصلح أعلم أن الصلح له أقسام (أ): صلح المسلم مع الكافر، والصلح بين الزوجين، والصلح بين الفئة الباغية والعادلة، والصلح بين المتغاضبين كالزوجين، والصلح في الجراح كالعفو على مالٍ، والصلح لقطع الخصومة إذا وقعت في الأملاك والحقوق، وهذا القسم هو المراد هنا، وهو ما يذكره أهل الفروع في باب الصلح. 704 - عن عمرو بن عوف المزني رضي الله عنه أن رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم - قال: "الصلح جائز بين المسلمين إلَّا صلحًا حرم حلالًا أو أحل حرامًا، والمسلمون على شروطهم إلَّا شرطًا حرم حلالًا أو أحل حرامًا". رواه التِّرمذيُّ وصححه، وأنكروا عليه؛ لأنَّ راويه كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف ضعيف (¬1) وكأنه اعتبره بكثرة طرقه، وقد صححه ابن حبان من حديث أبي هريرة (¬2). كثير المذكور أكذبه الشَّافعي (¬3)، وتركه أحمد، وقال في "الميزان" (¬4) عن ابن حبان: له عن أبيه عن جده نسخة موضوعة. قال: ولهذا لم يعتمد ¬

_ (أ) زاد في النسخ: أربعة. وينظر الفتح 5/ 298.

العلماء على تصحيح التِّرمذيِّ؛ لكونه صحح حديثه، وقد قال الشَّافعي وأبو داود: هو ركن من أركان الكذب. وابن حبان والحاكم (¬1) أخرجاه من طريق الوليد بن رباح عنه، ورواه أحمد أيضًا (¬2) من حديث سليمان بن بلال عن العلاء عن أبيه عن أبي هريرة دون الاستثناء، وأخرجه البيهقي في "المعرفة" (¬3) من طريق أبي (أ) العوام البصري موقوفًا على عمر كتبه إلى أبي موسى. ورواه (¬4) في ["السنن"] (ب) من طريق أخرى إلى سعيد بن أبي بُرْدة قال: هذا كتاب عمر إلى أبي موسى. فذكره فيه. والحديث فيه دلالة على شرعية الصلح وندبه، وكيف وفي ذلك قوله تعالى: {أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ} (¬5). ومعناه لغة: قطع النزاع، وشرعًا كذلك: هو عقد وضع [لرفع] (جـ) النزاع بين المتخاصمين. وقوله: "جائز". يدل على أن وضعه مشروط فيه المراضاة، وليس بحكم لازم حتَّى يقضي به وإن لم يرض الخصم. وخصّ (د) المسلمين بالذكر؛ لأنهم هم المنقادون للأحكام، المعتبرون لتعريف الحلال والحرام، ¬

_ (أ) في جـ: ابن. وينظر تهذيب الكمال 18/ 129. (ب) في الأصل، جـ: السير. (جـ) في الأصل: لدفع. (د) في جـ: جعل.

وإن كان غيرهم من الكفار كذلك تعتبر أحكام الصلح فيما بينهم، وظاهر الحديث عموم صحة الصلح سواء كان قبل إيضاح الحق للخصم أو بعده، كما في حكومة الزُّبير والأنصاري (¬1)؛ فإن ظاهر القصة أن النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - لم يكن قد أبان للزبير ما يستحقه وأمره بأن يأخذ بعض ما يستحقه، ثم أبان الأمر لما لم يقبل الأنصاري الصلح وطلب مُرَّ الحق، ولا يكون الصلح فيما بين المتخاصمين إلَّا هكذا، وأمَّا بعد إبانة الحق فإنَّما هو طلب صاحب الحق أن يحل صاحبه بعض الحق الذي له، وقد ذهب إلى هذا الفقهاء الثلاثة أبو حنيفة ومالك وأحمد، والخلاف في ذلك للعترة والشّافعيّ فقالوا: لا يصح الصلح مع الإنكار، ومعنى أنَّه لا يصح، هو اُنه لا يطيب مال الخصم مع إنكار (1) المصالح، وذلك حيث يدعي عينا (أ) أو دينًا فيصالح ببعض العين أو الدين مع إنكاره، فإن الباقي لا يطيب له، بل يجب عليه تسليمه، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يحل مال امرئ مسلم إلَّا بطيبة من نفسه" (¬2) وقوله تعالى: {إلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ} (¬3). ويجاب عنه بأنه قد وقع طيبة النَّفس بالرضا بالصلح، وعقد الصلح قد صار في حكم عقد المعاوضة، فيحل له ما بقي. وقوله: "إلَّا صلحًا حرم حلالًا". وذلك مثل أن تصالحه المرأة بشيء على ألا يطأ أمته أو زوجةً غيرها ونحو ذلك، فإن هذا لا يصح ولا يحل ¬

_ (أ) في جـ: عيبًا.

العوض. وقوله: "أو أحل حرامًا". كأن تصالحه على وطء أمته أو نحوها ممن لا يحل وطؤها، وليس من ذلك المصالحة ببعض الدين أو ببعض العين؛ إذ سبب التحريم غير باق بعد الصلح، وهذه الصورة المذكورة سبب التحريم باق بعد الصلح، فهي المقصودة بالاستثناء. وقوله: "والمسلمون على شروطهم". وفي رواية لأبي داود: "والمؤمنون" -هو جمع شرط بفتح الشين وسكون الراء، والشرط في اللغة (¬1) بمعنى العلامة، وفي الشرع (¬2): هو ما يلزم من عدمه عدم حكم أو سبب. وقوله: "على شروطهم". أي: ثابتون عليها وواقفون، وهذا اللائق بهم، وعدَّاه بـ: "على" إشارة إلى علو مرتبتهم، وفي وصفهم بالإسلام أو الإيمان ما يقتضي الوفاء بالشّرط، ويجب عليه؛ فلذا خصهم بالذكر وإن كان كل أحد مأمورًا بذلك، [فدل] (أ) على لزوم الشرط إذا شرطه المسلم إلَّا الشرط المستثنى، وهذا الحديث عام وظاهره صحة اعتبار الشروط، وقد وردت أحاديث فيما يلزم منه وفيما لا يلزم، وفصل الققهاء في الفروع أحكام الشروط، وأن منها ما يصح في نفسه ويلزم حكمه، ومنها ما لا يصح ولا يلزم، ومنها ما يصح ويلزم منه فساد العقد؛ ولذلك التفصيل أدلة مستوفاة وعلل مناسبات، وفصل كثيرًا منها البُخاريّ (¬3) في "كتابه" في ¬

_ (أ) في الأصل، جـ: يدل، وغير واضحة في: ب. والمثبت يقتضيه السياق.

كتاب الشروط، وجعل من الشروط الجائزة في البيع، إذا اشترط المشتري ثمرة النخل المؤبَّرة (¬1)، وشراء المكاتبة لتعتق، واشتراط البائع ظهر الدابة إلى مكان مسمى، وفيه حديث جابر (1)، والشرط في العاملة شرط النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - على الأنصار في النخيل أن يكفوا المؤنة في عملها ويشركهم في الثمرة (¬2)، ومعاملة أهل خيبر بشطر ما يخرج منها (¬3)، وفي النكاح قوله - صلى الله عليه وسلم -: "أحق الشروط أن توفوا به ما استحللتم به الفروج" (¬4). والتي لا تجوز في النكاح جعل منها قوله - صَلَّى الله عليه وسلم -: "ولا تسأل المرأة طلاق أختها لتستكفئ إناءها" (¬5). وفي الحدود قصة العسيف وزوج المرأة التي زنى بها العسيف (¬6)، وغير ذلك. وقوله: "إلَّا شرطًا حرم حلالًا". مثل اشتراط البائع ألّا يطأ الأمة، "أو أحل حرامًا". مثل أن يشترط أن يطأ الأمة التي يحرم عليه وطؤها، ونحو ذلك. والله أعلم. 705 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يمنع جار جاره أن يغرز خشبة في جداره". ثم يقول أبو هريرة: ما لي أراكم عنها معرضين؟ والله لأرمين بها بين أكتافكم. متَّفقٌ عليه (¬7). ¬

_ (¬1) تقدم ح 621. (¬2) البُخاريّ 5/ 8 ح 2325. (¬3) سيأتي ح 736. (¬4) سيأتي ح 815. (¬5) تقدم ح 645. (¬6) سيأتي ح 1002. (¬7) البُخاريّ، كتاب المظالم، باب لا يمنع جار جاره أن يغرس خشبة في جداره 5/ 110 ح =

هذا لفظ البخاري، وفي رواية أبي داود (¬1) عن [ابن عيينة] (أ): فنكسوا رءوسهم. ولأحمد (¬2): فلما حدثهم أبو هريرة بذلك طأطئوا رءوسهم. و"لا يمنع" بالجزم على أنها ناهية، ولأبي ذر في لفظ البخاري بالرفع على أنَّه خبر بمعنى النَّهي. ولأحمد (¬3): "لا يمنعن". بزيادة نون التأكيد، وهو يؤيد رواية الجزم. و"خشبة". لأبي ذر في رواية البخاري بالإفراد والتنوين، ولغيره بصيغة الجمع، قال ابن عبد البر (¬4): [رُوي اللفظان] (ب) في "الموطأ" والمعنى واحد، لأنَّ (جـ) المراد بالواحد الجنس، فالمؤدى متحد في الروايتين. إلَّا أنَّه قد يقال: إن المعنى مختلف، فإن أمر الخشبة الواحدة يسير مغتفر بخلاف الكثير. وروى الطحاوي (¬5) عن جماعة أنهم رووه بالإفراد، وأنكر ذلك عبد الغني بن سعيد فقال: النَّاس كلهم يقولونه بالجمع إلَّا ¬

_ (أ) في الأصل: أبي عيينة، وفي جـ: ابن عتبة. (ب) في النسخ: رواية القطان. والمثبت من التمهيد. (جـ) في جـ: كأن.

الطحاوي. واختلاف الرواة في "الصَّحيح" يرد على عبد الغني، إلَّا إن أراد بالنَّاس خاصًّا وهم من روى عنه الطحاوي. وقد أخرجه أحمد (¬1) وعبد الرَّزاق من حديث ابن عباس: "لا ضرر ولا ضرار، وللرجل أن يضع خشبته في حائط جاره، والطريق الميتاء (¬2) سبعة أذرع". والحديث فيه دلالة على أنَّه ليس للجار أن يمنع جاره من وضع خشبة على جداره، وأنه إذا امتنع من وضع الخشب على جداره أجبر، وقد ذهب إلى هذا أحمد وإسحاق وغيرهما من أهل الحديث وابن (أ) حبيب من المالكية والشّافعيّ في القديم، وعنده في الجديد قولان، أشهرهما اشتراط إذن المالك، فإن لم يأذن لم يجبر، ولكنه مشروط هذا الحكم عندهم بأن يكون الجار محتاجًا إليه، ولا يضع ما يتضرر به مالك الجدار، ولا يقدم على حاجة المالك، ولا فرق بين أن يحتاج في وضع الجذع إلى فتح الجدار أو لا؛ لأنَّ رأس الجذع يسد المنفتح ويقوي الجدار، وذهبت الحنفية وأبو العباس وقول للشافعي إلى أنَّه لا يضع خشبة إلَّا بإذن مالك الجدار، فإن لم يأذن لم يجبر، والحديث محمول النَّهي على التنزيه؛ جمعًا بينه وبين الأحاديث الدالة على تحريم مال المسلم إلَّا بطيبة من نفسه، وبعضهم حمل الحديث بما إذا تقدم ¬

_ (أ) في جـ: أبي.

استئذان الجار بذلك وأذن، فليس له المنع مستندًا أنَّه ذكر الإذن في بعض طرقه، وهو في رواية ابن عيينة عند أبي داود وعقيل أيضًا. ولأحمد (¬1) عن عبد الرحمن بن (أمهدي عن مالك: "من سأله جاره" وكذا لابن حبان (¬2) من طريق اللَّيث عن مالك، وكذا لأبي عوانة (¬3) من طريق أ) زياد بن سعد عن الزُّهريّ، وأخرجه البزار (¬4) من طريق عكرمة عن أبي هريرة. ومنهم من حمل الضمير في "جداره" علي صاحب الجذع؛ أي لا يمنعه أن يضع جذعه على جدار نفسه، ولو تضرر به من جهة منع الضوء مثلًا، ولا خفاء في بعدهما. ويجاب على استدلالهم بأن تلك عمومات، كما قال البيهقي (¬5): لم نجد في السنن الصحيحة ما يعارض هذا الحكم إلَّا عمومات لا يستنكر أن يخصها، وقد حمله الراوي على ظاهره من التحريم، وهو أعلم بالمراد بما حدث به. يشير إلى قول أبي هريرة: ما لي أراكم عنها معرضين. فإن استنكار أبي هريرة لإعراضهم يدل على أن ذلك على التحريم، واستدلال المهلب من المالكية بهذا على أن العمل كان في ذلك العصر على خلاف ما ذهب إليه أبو هريرة، فدل على أنَّه محمول على الاستحباب؛ إذ لو كان النَّهي للتحريم لما جاز على الصّحابة جهل هذه الفريضة-غير صحيح؛ لأنَّه لا دلالة على أن المخاطبين كانوا صحابة فقهاء، مثلهم لا ¬

_ (أ - أ) ساقط من: ب.

يجهل هذا الحكم؛ فإنَّه وقع ذلك من أبي هريرة أيَّام إمارته للمدينة في زمن مروان كان يستخلفه فيها، فالمخاطب بذلك ممن يجوز عليه جهل ذلك، لأنَّه لو كان المخاطب من أعيان الصّحابة لما واجههم بمثل هذا الخطاب، وقد جزم بهذا إمام الحرمين تبعًا لغيره مع أن مثل هذا الحكم قضى به عمر في أيَّام وفور الصّحابة، وتقوَّى الشافعي به في القول القديم وقال: إن عمر لم يخالفه أحد من الصّحابة. وذلك ما أخرجه مالك (¬1)، ورواه بسند صحيح أن الضَّحَّاك بن خليفة سأل محمد بن مسلمة أن يسوق خليجًا له فيمر به في أرض محمد بن مسلمة فامتنع، فكلمه عمر في ذلك فأبى، فقال: والله ليمرن به ولو على بطنك. فحمل عمر الأمر على ظاهره وعداه إلى كل ما يحتاج الجار إلى الانتفاع به من دار جاره وأرضه. وروى ابن ماجه (¬2) والبيهقيّ (¬3) من طريق عكرمة بن سلمة أن أخوين من بني المغيرة أعتق أحدهما إن غرز أحد في جداره خشبة، فأقبل مجمِّع بن حارثة ورجال كثير من الأنصار فقالوا: نشهد أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: الحديث، فقال الآخر: يا أخي، قد علمت أنك مقضي لك عليّ، وقد حلفت فاجعل أسطوانًا دون داري فاجعل عليه خشبك. وروى إسحاق في "مسنده" والبيهقيّ (¬4) من طريقه عن يَحْيَى بن جعدة أحد التّابعين قال: أراد رجل أن يضع خشبة على جدار صاحبه بغير إذنه فمنعه، فإذا من شئت من الأنصار يحدث أن رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم - نهاه أن يمنعه فأجبر على ذلك. ¬

_ (¬1) الموطأ 2/ 746 ح 33. (¬2) ابن ماجه 2/ 783 ح 2336. (¬3) البيهقي 6/ 69. (¬4) إسحاق بن راهويه -كما في الفتح 5/ 111 - والبيهقيّ 6/ 69، ووقع في الفتح: ابن إسحاق.

وقوله: عنها. أي عن السنة أو المقالة، وقوله: لأرمين. وفي رواية أبي داود: لألقينها. أي: لأفزعنكم بها. كما يضرب الإنسان بالشيء بين كتفيه ليستيقظ (أ) من غفلته. وأكتافكم. قال ابن عبد البر (¬1): رويناه في "الموطأ" بالمثناة وبالنون. والأكناف بالنون جمع كنف بفتحها وهو الجانب، قال الخطابي (¬2): معناه إن لم تقبلوا هذا الحكم وتعملوا به راضين لأجعلنها -أي الخشبة- على رقابكم كارهين. قال: وأراد بذلك المبالغة. وقد وقع عند ابن عبد البر (¬3) من وجه آخر: لأرمين بها بين أعينكم وإن كرهتم. 706 - وعن أبي حميد الساعدي رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يحل لامرئ أن يأخذ عصا أخيه بغير طيبة نفس منه". رواه ابن حبان والحاكم في "صحيحهما" (¬4). تمامه: "وذلك لشدة ما حرم الله مال المسلم على المسلم". وهو من رواية سهيل بن أبي صالح عن عبد الرحمن بن أبي سعيد عن أبي حميد. وقيل: عن عبد الرحمن عن عمارة بن حارثة عن عمرو بن يثربي، رواه أحمد والبيهقيّ (¬5). وقوَّى ابن المديني رواية سهيل، وفي الباب أحاديث ¬

_ (أ) في جـ: ليسقط.

كثيرة عن ابن عمر بلفظ: "لا يحلبنَّ أحد ماشية أحد بغير إذنه". متَّفقٌ عليه (¬1)، وعن عبد الله بن مسعود رفعه: "حرمة مال المؤمن كحرمة دمه". أخرجه البزار (¬2). وروى أبو داود والترمذي والبيهقيّ (¬3) من حديث عبد الله بن السَّائب بن يزيد عن أبيه عن جده بلفظ: "لا يأخذ أحدكم متاع أخيه لاعبًا ولا جادًّا". والحديث فيه دلالة على تحريم مال المسلم إلَّا بطيبة منه وإن قل، وكفى في ذلك قوله تعالى: {إلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} (¬4). والإجماع واقع على ذلك. والمصنف أورد هذا في هذا الباب يشير إلى تأويل حديث أبي هريرة (¬5) بأن ذلك محمول على التنزيه. ويرد عليه أن التأويل يُحتاج إليه إذا لم يمكن الجمع بالتخصيص، وهو ممكن؛ فإن هذا خاص والأدلة المذكورة عامة، وقد أُخرج منها أشياء كثيرة؛ مثل أخذ الزكاة كرهًا، ومثل الشفعة، وإطعام المضطر والقريب المعسر والزوجة، وكثير من الحقوق المالية التي لا يخرجها المالك برضاه، فإنَّها (أ) تؤخذ منه (ب) بغير طيبة نفس، وحل ذلك، وهذا منها، لا سيما وهذا مجرد انتفاع، والعين بقية لا يحتاج إليها المالك. والله أعلم. ¬

_ (أ) في جـ: فإنَّه. (ب) في جـ: منها.

باب الحوالة والضمان

باب الحوالة والضمان الحوالة بفتح الحاء وقد تكسر، مشتقة من التحويل أو من الحِوَل (أ)، تقول: حال عن العهد. إذا انتقل عنه، حِوَلًا. وهي عند الفقهاء: نقل دين من ذمة إلى ذمة. واختلفوا هل هي بيع دين بدين رخص (ب) فيه واستثني من النَّهي عن بيع الدين بالدين، أو هي استيفاء؟ وقيل: هي عقد إرفاق مستقل، ويشترط في صحتها لفظها ورضا المحيل بلا خلاف، والمحتال عند الأكثر، والمحال عليه عند البعض، ويشترط أيضًا تماثل الحقين في الصفات، وأن يكون في شيء معلوم، ومنهم من خصها بالنقدين ومنعها في الطَّعام، لأنَّه بيع طعام قبل أن يستوفى. 707 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم -: "مطل الغني ظلم، فإذا أُتْبع أحدكم على مَلِيء فليتْبع". متَّفقٌ عليه (¬1). وفي رواية لأحمد (¬2): "فليحتل". قوله: "مطل الغني ظلم". عند النَّسائيّ وابن ماجه (¬3) من حديث ابن ¬

_ (أ) في جـ: حول. (ب) في جـ: أرخص.

عيينة عن أبي الزناد: "والظلم مطل الغني". والمعنى أنَّه من الظلم، ولكنه بولغ في التنفير عنه. وقد رواه الجوزقي (¬1) من طريق همام عن أبي هريرة بلفظ: "إن من الظلم مطل الغني". وهو (أ) تفسير الذي قبله. وأصل المطل: المد. قال ابن فارس (¬2): مطلت الحديدة أمطلها مطلًا إذا أمددتها لتطول. وقال الأزهري (¬3): المطل المدافعة. والمراد هنا تأخير ما استحق أداؤه لغير عذر، والمراد هنا من قدر على الأداء فأخره ولو كان فقيرًا (5). وهل يتصف بالمطل مَن قدر على تحصيله بالتكسب؟ أطلق أكثر الشَّافعية وهو قول الهدوية أنَّه لا يجب عليه التكسب ولا يتصف بالمطل، وصرح بعضهم بوجوب ذلك عليه، وفصل بعضهم بين أن يكون أصل الدين وجب بسبب يقضي به فيجب وإلا فلا. ومطل الغني من إضافة المصدر إلى الفاعل عند الجمهور، والمعنى أنَّه يحرم على الغني القادر أن (جـ) يمطل بالدين بعد استحقاقه بخلاف العاجز. وقيل: هو من إضافة المصدر إلى المفعول، والمعنى أنَّه يجب وفاء الدين ولو كان مستحقه غنيًّا، ولا يكون غناه سببًا لتأخير حقه، وإذا كان كذلك في حق الغني فهو في حق الفقير أولى. ولا يخفى بعده. وقوله: "فإذا أُتْبع أحدكم على مليءٍ فلْيتْبع". المشهور في اللغة كما ¬

_ (أ) في جـ: وهذا. (ب) كاتب فوقها في جـ: يشترط. (جـ) في جـ: أنَّه.

قال النووي (¬1) إسكان التاء المثناة في اللفظين، وهما على البناء للمجهول، تقول تبَعِت (أ) الرجل بحقي أَتْبعه تَباعة بالفتح إذا طلبته. وقال القرطبي (¬2): أما "أتبع" فبضم الهمزة وبسكون التاء مبنيًّا للمجهول عند الجميع، وأمَّا "فليتبع" فالأكثر على التخفيف، وقيّده بعضهم بالتشديد، والأول أجود. انتهى. ودعوى الاتفاق على "أتبع" يرده قول الخطابي (¬3): إن أكثر المحدثين يقولونه بتشديد التاء، والصّواب التخفيف. ومعنى ذلك إذا أحيل فليحتل، وقد رواه بهذا اللفظ أحمد (¬4) [عن] (ب) وكيع عن سفيان الثوري عن أبي الزناد. وأخرج البيهقي (¬5) مثله من طريق [معلى] (جـ) بن منصور عن ابن (د) أبي الزناد عن أبيه، وأشار إلى تفرد معلى به، ولم ينفرد كما ترى، ورواه ابن ماجه (¬6) من حديث ابن عمر بلفظ: "فإذا أحلت على مليء فاتَّبعه". وهذا بتشديد التاء بلا خلاف. ¬

_ (أ) في ب: أتبعت. (ب) في النسخ: و. والمثبت من مصدر التخريج، والفتح 4/ 464. (جـ) في النسخ: يعلى. وكذا وقع في الفتح، وسيأتي على الصواب بعده، وينظر تهذيب الكمال 28/ 291. (د) ساقط من: جـ، والفتح.

والمليء بالهمز: مأخوذ من الملْء. يقال: ملؤ الرجل بالضم: أي صار مليئًا، وقال الكرماني (¬1): الملي كالغني لفظًا ومعنى. فهو بغير همزة. وقال الخطابي (¬2): هو في الأصل بالهمز لكنَّه خفف. والأمر في قوله: "فليتبع" للاستحباب عند الجمهور، ووهم من نقل الإجماع عليه، وقيل: هو أمر إباحة وإرشاد. وهو شاذ، وحمله أكثر الحنابلة وأبو ثور وابن جرير وأهل الظاهر على ظاهره وهو الوجوب. والحديث فيه دلالة على أن مطل الغني ظلم يجب الاحتراز عنه، واختلف هل يعد إذا كان عمدًا كبيرة أم لا؟ فالجمهور علم أن فاعله يفسق، لكن هل يثبت فسقه بمطله مرَّة واحدة أو لا؟ قال النووي (¬3): مقتضى مذهبنا [اشتراط التكرار. ورده السبكي في "شرح المنهاج" بأن مقتضى مذهبنا] (1) عدمه، واستدل بأنه منع الحق بعد طلبه، وانتفاء العذر عن أدائه كالغصب، وتسميته ظلمًا يشعر بكونه كبيرة، والكبيرة لا يشترط فيها التكرار، نعم لا يحكم عليه بذلك إلَّا بعد أن يظهر عدم عذره. انتهى. واختلفوا هل يفسق قبل الطّلب أو لا بد منه؟ والذي يشعر به الحديث هو أنه لا بد من الطّلب؛ لأنَّ المطل لا يكون إلَّا معه. ويشمل المطل كل من لزمه حق؛ كالزوج لزوجته والسيد في نفقة عبده. ومفهوم الحديث أن مطل العاجز عن الأداء لا يدخل في الظلم، وهو بطريق مفهوم المخالفة، ومن لم يقل بالمفهوم يقول: العاجز ¬

_ (أ) ساقط من النسخ، والمثبت من الفتح 4/ 466.

لا يسمى ماطلًا، والغني الذي ماله غائب عنه حكمه حكم المعدم؛ بدليل أن له سهمًا في الزكاة، وإن كان عند الهدوية يختص بالمنقطع عن وطنه فقط، ويؤخذ من هذا أن المعسر لا يحبس ولا يطالب حتَّى يوسر. قال الشَّافعي: لو جازت مؤاخذته لكان ظالمًا والفرض أنَّه ليس بظالم؛ لعجزه. وقال بعضهم: له أن يحبسه. وبعضهم قال: يلازمه. ويؤخذ منه أنَّه إذا تعذر على المحال عليه التسليم لفقر لم يكن للمحتال الرجوع على المحيل؛ لأنَّه لو كان له الرجوع لم يكن لاشتراط الغِنَى فائدة، فلما شُرط علم أنَّه انتقل انتقالًا لا رجوع له، كما لو عوض عن دينه بعوض ثم تلف العوض يزيد صاحب الدين. وقالت الحنفية: يرجع عند التعذر؛ وشبهوا الحوالة بالضمان، وأمَّا إذا جهل الإفلاس حال الحوالة فله الرجوع. وأعلم أن قوله: "فإذا اتبع". بالفاء وقع في "صحيح البُخاريّ" في باب الحوالة، والكلام عليه جملة واحدة، لأنَّه متفرع على كون المطل ظلمًا؛ أي إذا كان المطل ظلمًا فليقبل من يحال بدينه عليه، فإن المؤمن من شأنه أن يحترز عن الظلم، فلا يمطل الغريم بسبب عدم قبول الحوالة فيكون سببًا في ظلمه. وفي رواية مسلم بالواو وكذا في البُخاريّ (¬1) في الباب الثَّاني بلفظ: "ومن أتبع". ومناسبة (أالجملة للتي أ) قبلها، لأنَّه لما دل على أن مطل الغني ظلم عقبه بأنه ينبغي قبول الحوالة على المليء، لما في قبولها من دفع الظلم الحاصل بالمطل، فإنَّه قد تكون مطالبته بالمال عليه سهلة على المحال عليه دون المحيل، ففي قبول الحوالة إعانة على كفه عن الظلم. 708 - وعن جابر رضي الله عنه قال: توفي رجل منا، فغسلناه ¬

_ (أ - أ) في ب: الجملة التي، وفي جـ: للجملة التي.

وحنطناه وكفناه، ثم أتينا به رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم - فقلنا: تصلي عليه؟ فخطا خطى، ثم قال: "أعليه دين؟ ". قلنا: ديناران. فانصرف، فتحملهما أبو قتادة، فأتيناه فقال أبو قتادة: الديناران علي. فقال رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم -: "حق الغريم، وبريءٌ منهما الميت". قال: نعم، فصلَّى عليه، رواه أحمد وأبو داود والنَّسائيُّ وصححه ابن حبان والحاكم (¬1). الحديث أخرجه البُخاريّ (¬2) من حديث سلمة بن الأكوع. وقوله: توفي رجل منا. قال المصنف رحمه الله (¬3): لم أقف على اسم هذا الرجل. وفي رواية الحاكم زيادة بعد قوله: وحنطناه. وهي: ووضعناه حيث توضع الجنائز عند مقام جبريل، ثم آذنا رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم -. وقوله: فقال: "هل عليه دين؟ ". في حديث أبي هريرة الآتي عند البُخاريّ (¬4): أن رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم - كان يؤتى بالرجل المتوفى عليه الدين فيسأل: "هل ترك لدينه قضاء؟ ". فإن حدث أنَّه ترك لدينه وفاء صَلَّى عليه، وإلا قال للمسلمين: "صلوا على صاحبكم" الحديث. وقوله: ديناران. في حديث سلمة: ثلاثة دنانير. وكذا أخرجه أبو داود (¬5) من وجه آخر من حديث جابر، وكذا أخرجه الطّبرانيّ (¬6) من حديث ¬

_ (¬1) أحمد 3/ 330، وأبو داود، كتاب البيوع، باب في التشديد في الدين 3/ 244 ح 3343، والنَّسائيُّ، كتاب الجنائز، باب الصَّلاة على من عليه دين 4/ 65، وابن حبان، كتاب الجنائز، باب فضل الصَّلاة على الجنازة 7/ 334 ح 3064، والحاكم، كتاب البيوع 2/ 58. (¬2) البُخاريّ 4/ 466 ح 2289. (¬3) الفتح 2/ 467. (¬4) سيأتي ح 709. (¬5) أبو داود 3/ 137 ح 2954، 2956. (¬6) الطّبرانيّ 24/ 184 ح 466.

أسماء بنت يزيد، ويُجمع بينهما بأنهما كانا دينارين وشطرًا، فمن قال: ثلاثة. جبر الكسر، ومن قال: ديناران. ألغاه. أو كان الأصل ثلاثة فوفَّى قبل موته دينارًا وبقى عليه ديناران، فمن قال: ثلاثة. فباعتبار الأصل، ومن قال: ديناران. فباعتبار الباقي. ووقع عند ابن ماجه (¬1) من حديث أبي قتادة: ثمانية عشر درهمًا. وهذا دون دينارين، وفي "مختصر المزني" (¬2) من حديث أبي سعيد الخدري: درهمين. ويجمع بينها إن ثبت فيما لا يمكن فيه التأويل الأول بالتعدد. وقوله: فقال أبو قتادة. إلخ، في البُخاريّ في حديث سلمة: فقال أبو قتادة: صلِّ عليه يا رسول الله (أ) وعلي دينه. فصلَّى عليه. وفي رواية ابن ماجه من حديث أبي قتادة نفسه: فقال أبو قتادة: أنا أتكفل به. ولفظ الحاكم في حديث جابر فقال: "هما عليك وفي [مالِكَ] (ب) والميت منهما بريء؟ " قال: نعم. فصلَّى عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فجعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا لقي أبا قتادة يقول: "ما صنعَتِ الديناران؟ ". حتَّى كان آخر ذلك أن قال: [قد قضيتهما] (جـ) يا رسول الله. قال: "الآن حين بردت عليه جلده". وروى الدارقطني (¬3) من حديث علي: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أُتي بجنازة ¬

_ (أ) زاد في الأصل: صَلَّى الله عليك. (ب) في النسخ: رواية. والمثبت من المستدرك. وينظر الفتح 4/ 468. (جـ) في النسخ: أرضيتهما. والمثبت من المستدرك. وينظر الفتح 4/ 465.

لم يسأل عن شيء من عمل الرجل [و] (أ) يسأل عن دَينه؛ فإن قيل: عليه دين. كفّ، وإن قيل: ليس عليه دين. صلَّى، فأتي بجنازة، فلما قام ليكبر، سأل: "هل عليه دين؟ ". فقالوا: ديناران. فعدل عنه، فقال علي: هما علي يا رسول الله وهو بريء منهما. فصلَّى عليه، ثم قال: "جزاك الله خيرًا وفك الله رهانك". الحديث. قال ابن بطال (¬1): ذهب الجمهور إلى صحة هذه الكفالة عن الميت، ولا رجوع له في مال الميت، وعن مالك: له أن يرجع إن قال: إنَّما ضمنت لأرجع. فإذا لم يكن للميت مال وعلم الضامن (ب) بذلك فلا رجوع له عن الضمانة، وعن أبي حنيفة إن ترك الميت وفاء جاز الضمان بقدر ما ترك، وإن لم يترك وفاء لم يصح ذلك. وفي الحديث دلالة على صعوبة الدين، وأنه يصح أن يتحمل الواجبَ غيرُ من وجب عليه وينفعه ذلك. وعلى أن صلاة الجنازة واجبة، وأن ترك النَّبيِّ - صَلَّى الله عليه وسلم - الصَّلاة على المدين؛ لأنَّ صلاته شفاعة مقبولة لا ترد، والدين لا يسقط إلَّا بالتأدية، والله أعلم. وقوله: "حقَّ الغريم" منصوب على المصدر، مؤكِّد (جـ) لمضمون قوله: الديناران علي. بفعل مضمر محذوف وجوبًا؛ أي: حق عليك الحق وثبت ¬

_ (أ) في النسخ: أو. والمثبت من الدارقطني. وينظر الفتح 4/ 468. (ب) في جـ: أيضًا من. (جـ) في جـ: مؤكدًا.

عليك، وكنت غريمًا (أ). أو العامل فيه مضمون الجملة كما ذهب إليه سيبويه (ب). وفيه دلالة على أن لزوم الحق للغير لا يكتفى فيه بالمحتمل من اللفظ، وأنه لا بد للحاكم في إلزام الحق من تحقيق ألفاظ العقود والإقرارات، وأنه إذا ادعى من عليه الحكومة أنَّه قصد باللفظ معنى يحتمله -وإن بعد الاحتمال- لم يحكم عليه بظاهر اللفظ، وعطْف: "وبريء منهما الميت" على ذلك ممَّا يؤيد هذا المستنبط، والله أعلم. 709 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم - كان يؤتى بالرجل المتوفى عليه الدين فيسأل: "هل ترك لدينه من قضاء؟ " فإن حُدِّث أنَّه ترك وفاءً صلَّى عليه، وإلا قال: "صلوا على صاحبكم". فلما فتح الله عليه الفتوح قال: "أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم، فمن توفي وعليه دين فعلي قضاؤه". معلَّق عليه، وفي رواية البُخاريّ: "فمن مات ولم يترك وفاء" (¬1). الحديث فيه دلالة على (جـ) أنَّه كان من النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في أول الأمر ترك الصَّلاة على من لم يخلِّف الوفاء، ثم نسخ الحكم وتحمل الدين من بعد. قال العلماء (¬2) رحمهم الله تعالى: كأن الذي فعله رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم - من ترك ¬

_ (أ) بهامش الأصل: لا يلزم معنى اللفظ إلَّا بعد تحقيقه. (ب) رسمت في ب هكذا: سَ. (جـ) ساقط من: ب.

الصَّلاة على من عليه دين ليحرض النَّاس على قضاء الديون في حياتهم، والتوصل إلى البراءة منها؛ لئلا تفوتهم صلاة النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -. وهل كانت صلاته على من عليه دين محرمة أو جائزة؟ وجهان، قال النووي (¬1): الصواب الجزم بجوازه (أ) مع وجود الضامن. وحكى القرطبي (¬2) أنَّه ربما كان يمتنع من الصَّلاة على من ادّان دينًا غير جائز، وأمَّا من استدان لأمر جائز فما كان يمتنع. وفيه نظر؛ لأنَّ في الحديث المذكور ما يدل على امتناعه مطلقًا؛ إلَّا أنَّه جاء من حديث ابن عباس أن النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - لما امتنع من الصَّلاة على من عليه دين، جاءه جبريل فقال: إن الله تعالى يقول: إنَّما الظالم في الديون التي حملت في البغي والإسراف والمعصية، فأمَّا المتعفف ذو العيال فأنا ضامن أن أؤدي عنه. فصلَّى عليه النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -، فقال النَّبيُّ - صَلَّى الله عليه وسلم - بعد ذلك: "من ترك ضياعًا أو دينًا فإلي وعلي، ومن ترك ميراثًا فلأهله". وصلى عليهم (2). قال الحازِمي (¬3): هذا الحديث بهذا السياق غير محفوظ، وهو جيد في باب المتابعات. إلَّا أنَّه ليس فيه التفصيل المذكور كان مستمرًّا، وإنَّما طرأ بعد ذلك، وقضاء النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - لذلك من مال المصالح، وقيل: بل كان يقضيه من خالص نفسه. وهل كان القضاء واجبًا عليه أم لا؟ فيه وجهان. وقال ابن بطال (¬4): ¬

_ (أ) في جـ: لجوازه.

قوله: "من ترك دينًا فعلي". ناسخ لترك الصَّلاة على من مات وعليه دين. وقوله: "فعلي قضاؤه". أي ممَّا يفيء الله عليه من الغنائم والصدقات. قال: وهكذا يلزم المتولي لأمر المسلمين أن يفعله فيمن مات وعليه دين، فإن لم يفعل، فالإثم عليه إن كان حق الميت (أ) في بيت المال يفي بقدر ما عليه من الدين، وإلا فبقسطه. وقد ذكر الرافعي في آخر الحديث: قيل: يا رسول الله، وعلى كل إمام بعدك؟ قال: "وعلى كل إمام بعدي". وسبقه إلى ذكره القاضي حسين والجويني والغزّالي (¬1)، وقد وقع معناه في "الطّبرانيّ الكبير" (¬2) من حديث زاذان عن سلمان قال: أمرنا رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم - أن نفدي سبايا المسلمين ونعطي سائلهم، ثم قال (5): "من ترك مالًا فلورثته، ومن ترك دينًا فعليّ وعلى الولاة من بعدي من بيت مال (جـ) المسلمين". وفيه [عبد الغفور] (د) بن سعيد الأنصاري (¬3) متروك ومتَّهم أيضًا، والله أعلم. 710 - وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا كفالة في حد". رواه البيهقي بإسناد ضعيف (¬4). ¬

_ (أ) في جـ: للميت. (ب) ساقط من: ب. (جـ) ساقط من: جـ. (د) في النسخ: عبد الله، وفي التلخيص 3/ 49: عبد الرحمن. والمثبت من مصدر التخريج. وينظر مجمع الزوائد 5/ 332، وتاريخ بغداد 11/ 130، وميزان الاعتدال 2/ 641.

وأخرجه ابن عدي، وبيض له الديلمي، وقال البيهقي وابن عدي: منكر. وأخرجه الخطيب وابن عساكر (¬1). الحديث فيه دلالة على أنَّه لا يصح أن يكفل أحد على من عليه حد بإقامة الحد عليه في وقت، سواء كان في مجلس الحكم عليه بالحدار في مجلس آخر، وقد ذهب إلى هذا الهدوية وأبو حنيفة والشّافعيّ؛ للحديث، ولأنه لا يمكن الاستيفاء من الكفيل، وكذا القصاص، قالوا: إلَّا أن يتبرع مَن عليه الحق بالكفالة ببدنه وأنه يصح منه ذلك، وذلك لجواز أن يُدعى عليه حد (أ) غير الحد، أو قدر مجلس الحكم في حد القذف؛ وهو ما بين قعود الحاكم للحكم في الوقت الذي يعتاد القعود فيه للحكم إلى أن يقوم من ذلك المجلس. ذكره الإمام يَحْيَى والحنفية، وذلك لأنَّ حد القذف يشبه الأموال باعتبار أنَّه حق لآدمي، وكذا حد السرقة والقصاص. وذهب أبو يوسف ومحمد إلى صحة الكفالة بالحد والقصاص، وأشار إلى صحة ذلك البُخاريّ وبوب عليه بباب الكفالة في القرض والديون بالأبدان وغيرها (¬2)؛ أي غير الأموال. وقال بعده (¬3): وقال أبو الزناد عن محمد بن حمزة بن [عمرٍو] (ب) الأسلمي عن أبيه، أن عمر بعثه مصدقًا، فوقع رجل على جارية امرأته، فأخذ حمزة من الرجل كُفَلاء حتَّى قدم على عمر، وكان عمر قد جلده ¬

_ (أ) في جـ: حق. (ب) في النسخ: عمر. والمثبت من مصدر التخريج.

مائةً، فصدَقهم وعذره بالجهالة. وصدقهم بالتخفيف؛ أي اعترف بما وقع، لكن اعتذر بأنه لم يكن عالمًا، أو صدَّق عمر الكفلاء فيما كانوا يدعونه أنَّه قد جلده مرَّة لذلك، ولم يرجمه عمر؛ لأنَّه ربما لم يكن قد أصاب امرأته. كذا في الكرماني (¬1). وقال المصنف في "الفتح" (¬2): إن الجلد هنا المذكور إنَّما هو تعزير له من عمر بهذه الفعلة، وهو حجة لمالك في جواز أن يتجاوز التعزير حدًّا، أو كأن مذهبه أن المحصن الجاهل لا يرجم والعالم يرجم. ثم قال البُخاريّ (¬3): وقال جرير والأشعث لعبد الله بن مسعود في المرتدين: استتبهم وكفِّلْهم. [فتابوا وكفلهم] (أ) عشائرهم. وهذا في قصة ابن النواحة، أخرجها البيهقي (¬4) بطولها من طريق [أبي] (ب) إسحاق عن حارثة بن [مُضَرِّب] (جـ) قال: صليت الغداة مع عبد الله بن مسعود، فلما سلم قام رجل فأخبره أنَّه انتهى إلى مسجد بني حنيفة، فسمع مؤذنه عبد الله بن النواحة يشهد أن مسيلمة رسول الله، فقال عبد الله: علي بابن النواحة وأصحابه. فجيء بهم، فأمر قرظة بن كعب بضرب عنق ابن النواحة، ثم استشار النَّاس في أولئك النفر، فأشار إليه عدي بن حاتم بقتلهم، فقام جرير والأشعث ¬

_ (أ) ساقط من: النسخ. والمثبت من مصدر التخريج. (ب) في النسخ: ابن. والمثبت من مصدر التخريج. وأبو إسحاق هو عمرو بن عبد الله السبيعي. ينظر تهذيب الكمال 22/ 103. (جـ) في النسخ: مصرف. والمثبت من مصدر التخريج. وينظر تهذيب الكمال 5/ 317.

فقالا: بل استتبهم وكفِّلْهم عشائرهم. وروى ابن أبي شيبة (¬1) من طريق قيس بن أبي حازم، أن عدة المذكورين كانت مائة وسبعين رجلًا. فالقصة الأولى صريحة في الكفالة بالحد، والقصة الثَّانية متضمنة لذلك؛ لأنَّ التكفيل عنهم بأنهم إذا عادوا إلى الردة أقيم عليهم الحد، والفائدة في الكفالة في الحدود مثل الكفالة بالوجه، أنَّه يجب على الكفيل إحضار المكفول عليه لإقامة الحد عليه والقصاص؛ للإجماع من القائلين بها أنَّه لا يقام الحد والقصاص على الكفيل نفسه إذا غاب المكفول عليه (أ) أو مات. والحديث إما على القول بضعفه فهذه الآثار العمل بها أرجح، أو ربما يُدَّعَى الإجماع السكوتي من الصّحابة والقياس أيضًا على الكفالة في الأموال، وإذا فرض صحة العمل به فالتأويل ممكن بأنه لا كفالة في الحدود على وجه يقام الحد على الكفيل، كما في المال يسلمه الكفيل. والله أعلم. ¬

_ (أ) في ب، جـ: عنه.

باب الشركة والوكالة

باب الشركة والوكالة الشركة بفتح الشين المعجمة وكسر الراء المهملة وبكسر أوله وسكون الراء، وقد تحذف الهاء وقد يفتح أوله مع ذلك، وهي مصدر شرِك بكسر الراء، والاشتراك مصدر اشترك، وبضم الشين اسم للشيء المشترك، وهي الحالة التي تحدث بالاختيار بين اثنين فصاعدًا، وإن أردت شمول (أ) الشركة بين الورثة في مال المورث حذفت بالاختيار. والوكالة بفتح الواو وقد تكسر مصدر وكل، وهي بمعنى التفويض والحفظ، تقول: وكلت فلانًا. إذا استحفظته، ووكَلت الأمر إليه. بالتخفيف، إذا فوضته إليه، وهي في الشرع إقامة الشخص غيره مقام نفسه مطلقًا أو مقيدًا، والوكيل فعيل بمعنى مفعول. 711 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "قال الله تعالى: أنا ثالث الشريكين ما لم يخن أحدهما صاحبه، فإذا خان خرجت من بينهما". رواه أبو داود -أي تنتزع البركة من مالهما- وصححه الحاكم (¬1). أعله ابن (ب) القطان بالجهل بحال سعيد بن حيّان (¬2)، وقد رواه عنه أيضًا ولده أبو حيان بن سعيد، لكنَّه ذكره ابن حبان في "الثقات" (¬3)، وذكر أنَّه ¬

_ (أ) في جـ: شمولة. (ب) ساقط من: جـ.

روى عنه أيضًا الحارث بن [سويد] (أ)، لكن أعله الدارقطني (¬1) بالإرسال فلم يذكر فيه أبا هريرة وقال: إنه الصواب، ولم يسنده غير أبي همام محمد بن الزبرقان. وفي الباب عن حكيم بن حزام رواه أبو القاسم الأصبهاني في "الترغيب والترهيب" (¬2). ولفظ أبي داود: "إن الله تعالى يقول" الحديث. ومعناه أنَّه تعالى معهما في الحفظ والرعاية والإمداد بمعونتهما في مالهما وإنزال البركة في تجارتهما، فإذا حصلت الخيانة نزعت البركة من مالهما، والتفسير بقوله: أي تنتزع البركة. ليس من الحديث، وإنَّما هو تفسير من المصنف رحمه الله تعالى. 712 - وعن السَّائب المخزومي، أنَّه كان شريك النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قبل البعثة، فجاء يوم الفتح فقال: مرحبًا بأخي وشريكي. رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه (¬3). هو السَّائب بن أبي السَّائب، واسم أبي السَّائب صَيفيٌّ بفتح الصاد المهملة وسكون الياء تحتها نقطتان وكسر الفاء وتشديد الياء، المخزومي القرشي شريك رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم -، ويقال له: السَّائب بن نُمَيلة. بضم النون وفتح الميم وسكون الياء تحتها نقطتان، كذا قاله ابن منده، وقال ابن عبد ¬

_ (أ) في النسخ: شريد. وفي التلخيص 3/ 49: يزيد. والمثبت من الثقات، وينظر التاريخ الكبير 2/ 269.

البر (¬1): السَّائب بن نميلة غير السَّائب بن أبي السَّائب. وجعله صحابيًّا آخر. وقال: أخشى أن يكون حديثه مرسلًا. وقد اختلف في إسلامه وصحبته وشركته؛ فقال ابن إسحاق أنَّه قتل يوم بدر كافرًا. وروى ابن هشام (¬2) عن ابن عباس أنَّه ممن هاجر مع النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وأعطاه يوم الجعرانة من غنائم حنين. قال ابن عبد البر (¬3): وهذا أولى ما عول عليه في هذا الباب. وكذلك اختلف في شركته النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم -؛ فقيل: إنه الشريك. وقيل: الشريك ابنه عبد الله. وقيل: هو قيس بن السَّائب. وقال ابن عبد البر (¬4): السَّائب بن أبي السَّائب من المؤلفة قلوبهم وممن حسن إسلامه، وكان من المعمرين؛ عاش إلى زمن معاوية، روى عنه مجاهد بن جبر، وكان مولى مجاهد بن جبر من فوق. والحديث لفظ الحاكم (¬5) عنه أنَّه كان شريك النبي - صلى الله عليه وسلم - في أول الإسلام في التجارة، فلما كان يوم الفتح قال: مرحبًا بأخي وشريكي، لا يداري ولا يماري. وصححه الحاكم. ولابن ماجه: كنت شريكي في الجاهلية. ورواه أبو نعيم في "المعرفة" (¬6)، والطبراني في "الكبير" (¬7) من طريق قيس بن السَّائب. وروي أيضًا من طريق عبد الله بن السَّائب (¬8)، قال أبو حاتم في "العلل" (¬9): ¬

_ (¬1) الاستيعاب 2/ 572 - 574، 576. (¬2) سيرة ابن هشام 1/ 712. (¬3) الاستيعاب 2/ 573. (¬4) الاستيعاب 2/ 574. (¬5) الحاكم 2/ 61. (¬6) معرفة الصّحابة 4/ 115 ح 5751. (¬7) الطبراني 18، 363 ح 929. (¬8) ابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني 2/ 33 ح 708، والطبراني في الأوسط 1/ 268 ح 871، وأبو نعيم في المعرفة 3/ 164 ح 4211. (¬9) العلل 1/ 126، 127.

وعبد الله ليس [بالقديم] (أ). 713 - وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: اشتركت أنا وعمار وسعد (ب) فيما نصيب يوم بدر. الحديث. رواه النَّسائيّ وغيره (¬1). وأخرجه ابن أبي شيبة وابن عساكر (¬2)، وتمامه: فجاء سعد بأسيرين، ولم أجئ أنا وعمار بشيء. الحديث فيه دلالة على صحة الشركة في المكاسب، وهي المسماة عند الفقهاء بشركة الأبدان، وحقيقتها أن يوكل كل منهما صاحبه أن يتقبل ويعمل عنه في قدر معلوم ويعينان الصنعة. وقد ذهب إلى صحتها العترة جميعًا وأبو حنيفة وأصحابه، وذهب الشَّافعي وابن حي إلى أنها لا تصح؛ لبنائها على الغرر؛ إذ لا يقطعان بحصول الربح لتجويز تعذر العمل. والجواب بأن العبرة بالغالب، وتعذره نادر فلا حكم له. وأعلم أن الشركة على أربعة أنواع، ودل على شرعيتها على جهة العموم الحديث المذكور في أول الباب، وعلى تفاصيلها أدلة خاصة بشركة الأبدان؛ هذا الحديث، وحديث البراء، وهو ما أخرجه البُخاريّ (¬3) عن ¬

_ (أ) في النسخ: بالقوي. والمثبت من العلل. قال في العلل: عبد الله بن السَّائب ليس بالقديم وكان على عهد النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - حدثًا، والشركة بأبيه أشبه. (ب) زاد في جـ: وسعيد. وضرب عليها في ب.

سليمان بن أبي مسلم قال: سألت أبا المنهال عن الصرف يدًا بيد، فقال: اشتريت أنا وشريك لي شيئًا يدًا بيد ونسيئة، فجاءنا البراء بن عازب فسألناه فقال: فعلت أنا وشريكي زيد بن أرقم وسألنا النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك فقال: "ما كان يدًا بيد فخذوه، وما كان نسيئة فردُّوه". فهذه الشركة تحتمل شركة المفاوضة؛ وهي أن يخرج حران مكلفان مسلمان جميع نقدهما السواء جنسًا وقدرًا ثم يخلطا ويعقدا غير مفضلين في الربح والوضيعة، أو شركة العنان؛ وهي أن يعقدا على النقد بعد الخلط أو العرض بعد التشارك ولو متفاضلي المالين، فيتبع الربح والخسر بالمال، قال ابن بطال (¬1): أجمعوا أن الشركة الصحيحة أن يخرج كل واحد مثل ما أخرجه صاحبه ثم يخلطا ذلك حتَّى لا يتميز ثم يتصرفا جميعًا، إلَّا أن يقيم كل منهما الآخر مقام نفسه، وأجمعوا على أن الشركة بالدراهم والدنانير جائزة لكن اختلفوا إذا كانت الدنانير من أحدهما والدراهم من الآخر؛ فمنعه الشَّافعي ومالك في المشهور عنه والكوفيون إلَّا الثوري. انتهى. [وزاد] (أ) الشَّافعي: ألا (ب) تختلف الصفة أيضًا؛ كالصحاح والكسرة. وجنح البُخاريّ إلى قول الثوري حيث قال في التبويب: باب الاشتراك في الذَّهب والفضة وما يكون فيه الصرف. وأراد بقوله: وما يكون فيه الصرف. أي كالدراهم المغشوشة والتبر وغير ذلك. وقد اختلف العلماء في ذلك؛ فقال الأكثر: يصح في كل مِثلي. وهو الأصح عند الشَّافعية، وقيل: يختص بالنقد المضروب. وعند ¬

_ (أ) في الأصل: وأراد. (ب) في ب، جـ: إلَّا أن.

الهدوية التفصيل المذكور في حدي الشركتين. والنوع الرابع من الشركةِ هو شركة الوجوه؛ وهي أن يوكل كل من جائزي التصرف الآخر أن يجعل له فيما استدان أو اشترى جزءًا معلومًا. واختلف العلماء في اعتبار العقد في الشركة؛ فظاهر إطلاق الجمهور أنَّه لا بد من العقد الذي يستكمل الشروط كغيرها من العقود، وعلق البُخاريّ (¬1) عن عمر ما يدل على عدم الاشتراط حيث قال: ويذكر أن رجلًا ساوم شيئًا فغمزه آخر، فرأى عمر أن له شركة. قال المصنف (¬2) رحمه الله: لم أقف على اسم الرجل، وهذا التعليق قد رواه سعيد بن منصور من طريق إياس بن معاوية، أن عمر أبصر (أ) رجلًا يساوم سلعة وعنده رجل فغمزه حتَّى اشتراها، فرأى عمر أنها شركة. وهذا يدل على أنَّه كان (ب لا يشترط ب) للشركة صيغة ويكتفى فيها بالإشارة إذا ظهرت القرينة، وهو قول مالك، وقال مالك أيضًا في السلعة تعرض للبيع فيقف من يشتريها للتجارة، فإذا اشتراها واحد منهم واستشركه الآخر لزمه أن يشركه؛ لأنَّه انتفع بترك الزيادة عليه. 714 - وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: أردت الخروج إلى خيبر، فأتيت النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فقال: "إذا أتيت وكيلي بخيبر فخذ منه خمسة عشر وَسقًا". رواه أبو داود (¬3) وصححه. ¬

_ (أ) في ب، جـ: رأى. (ب) في ب: لاشتراط، وفي جـ: لاشترط.

تمام الحديث: "فإن ابتغى منك آية فضع يدك على تَرْقُوَته". أخرجه أبو داود من طريق وهب بن كيسان عنه بسند حسن، ورواه الدارقطني (¬1) لكن قال: "خذ منه ثلاثين وسقًا، فوالله ما لمحمد تمرة غيرها". وعلق البُخاريّ (¬2) طرفًا منه في آخر كتاب الخمس. الحديث فيه دلالة على شرعية الوكالة، والإجماع على اعتبارها وتعلق الأحكام بالوكيل، وتمام الحديث فيه دلالة على العمل بالقرينة في مال الغير، وأنه يصدق الرسول لقبض العين، وقد ذهب إلى تصديق الرسول في القبض محمد وإحدى الروايتين عن أبي حنيفة، وحكاه في "شرح الإبانة" عن أبي طالب، قال الإمام المهدي في "الغيث": يعني مع غلبة الظن بصدقه. وإحدى الروايتين عن أبي حنيفة، وقد ذكره الأزرقي لذهب الهادي، وبنت عليه الهدوية أنَّه لا يجوز مصادقة الرسول؛ لأنَّه مال الغير فلا يصح التصديق فيه. قال الفقيه محمد بن سليمان من الهدوية: إلَّا أن يغلب في الظن صدق الرسول جاز الدفع إليه. وعلى تتميم القول بما ذكر يحصل الاتفاق وينتفي الخلاف. 715 - وعن عروة البارقي رضي الله عنه أن رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم - بعث معه بدينار يشتري له أضحية. الحديث. رواه البُخاريّ (¬3) في أثناء حديثًا، وقد تقدم. الحديث تقدم في كتاب البيع وما يتعلق به من الفقه (¬4). ¬

_ (¬1) سنن الدارقطني 4/ 154، 155 ح 1. (¬2) البُخاريّ 6/ 236. (¬3) البُخاريّ، كتاب الشركة، باب الشركة في الطعام وغيره 5/ 137، وذكر الحافظ في الفتح 5/ 137 أن هذه الزيادة وقعت في نسخة الصغاني، قال: ولم أرها في شيء من النسخ غيرها. وأصل الحديث في كتاب المناقب 6/ 632 ح 3642. (¬4) تقدم ص 137 - 141.

716 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: بعث رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم - عمر على الصدقة. الحديث متفق عليه (¬1). تمام الحديث: فقيل: منع ابن جميل وخالد بن الوليد والعباس عم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فقال رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم -: "ما ينقم ابن جميل إلَّا أنَّه كان فقيرًا فأغناه الله تعالى، وأمَّا خالد فإنكم تظلمون خالدًا؛ قد احتبس أدراعه وأعتاده في سبيل الله، وأمَّا العباس فهي عليّ ومثلها معها". ثم قال: "يا عمر، أما شعرت أن عمَّ الرجلِ صنوُ أبيه؟ ". قوله: بعث. وفي لفظ للبخاري: أمر رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم - بصدقة. وفي لفظ له: بالصدقة. والمراد بالصدقة هنا هي غير صدقة الفطر؛ لأنَّه لم يكن يبعث لها ساعيًا، ويحتمل أنها الزكاة كما هو الظاهر، وقال ابن القصار المالكي (¬2): الأليق أنها صدقة تطوع؛ لأنَّه لا يظن بهؤلاء الصّحابة أنهم يمنعون الفرض. وقوله: فقيل. القائل عمر، وقد ورد مصرحًا به في رواية ابن عباس. وابن جميل قيل: إنه كان منافقًا ثم تاب بعد ذلك. حكاه المهلب وجزم القاضي حسين في "تعليقه" أن فيه نزل قوله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ} (¬3) الآية. انتهى. والمشهور أنها نزلت في ثعلبة (¬4)، ووقع في رواية ابن أبي الزناد عند أبي عبيد (¬5): فقال بعض من يلمز. أي يعيب. قال المصنف (¬6) ¬

_ (¬1) البُخاريّ، كتاب الزكاة، باب قوله تعالى: {وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} 3/ 331 ح 1468، ومسلم، كتاب الزكاة، باب تقديم الزكاة ومنعها 2/ 676، 677 ح 983. (¬2) ينظر شرح ابن بطال على صحيح البُخاريّ 3/ 500. (¬3) الآية 75 من سورة التوبة. (¬4) تفسير البغوي 4/ 75، وتفسير القرطبي 8/ 210. (¬5) الأموال ص 705. (¬6) الفتح 3/ 333.

رحمة الله تعالى عليه: وابن جميل لم أقف على اسمه في كتب الحديث، لكن وقع في تعليق القاضي حسين المروزي الشَّافعي وتبعه الروياني أن اسمه عبد الله، ووقع في شرح الشَّيخ سراج الدين بن الملقن أن ابن [بَزِيزة] (أ) سماه حميدًا، ولم أر ذلك في كتاب ابن بَزِيزة، ووقع في رواية [ابن جريج] (ب): أبو جهم بن حذيفة. بدل ابن جميل، وهو خطأ؛ لإطباق الجميع على ابن جميل، وقول الأكثر أنَّه كان أنصاريًّا. وقوله: "ما ينقم". بكسر القاف؛ أي ما ينكر أو ما يكره. وقوله: "أغناه الله ورسول". إنَّما ذكر - صلى الله عليه وسلم - نفسه؛ لأنَّه كان سببًا لدخوله في الإسلام، فأصبح غنيًّا بعد فقره بما أفاء الله على رسوله وأباح لأمته من الغنائم، وهذا من باب تأكيد المدح بما يشبه الذم؛ لأنَّه إذا لم يكن عذر إلَّا ما ذكر من أن الله أغناه، فلا عذر له. وفيه التعريض بكفران النعمة وتقريع بسوء الصنيع في مقابلة الإحسان. وقوله: "احتبس". أي حبس. وقوله: "أعْتُده". بضم المثناة جمع عَتَد بفتحتين، ووقع في رواية مسلم كما ساقه المصنف "أعتاده"، وهو جمعه أيضًا، وهو ما يعده الرجل من الدواب والسلاح، وقيل: الخيل خاصة. يقال: فرس عتد. أي صلب، أو معد للركوب، أو سريع الوثوب، أقوال، ولبعض الرواة "أعبده" بالموحدة جمع عبد، حكاه عياض، والأول هو المشهور، وقد استدل بهذا البُخاريّ على إخراج العروض في الزكاة، أو أنَّه ¬

_ (أ) غير منقوطة في الأصل، ب، وفي جـ: بريره. والمثبت من الفتح 3/ 333. وهو عبد العزيز بن إبراهيم بن بزيزة المالكي. ينظر شجرة النور الزكية ص 190، وتبصير المنتبه 1/ 79. (ب) في النسخ: ابن جرير. والمثبت من مصنف عبد الرَّزاق 4/ 18 ح 6826، وتغليق التعليق 3/ 27.

شرى بالزكاة السلاح وغيره إعانة في سبيل الله، ويحتمل أن النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أجاز له ذلك، أو جعله وكيلًا في قبض زكاته ولشراء ممَّا ذكر نيابة عن النَّبيِّ - صَلَّى الله عليه وسلم - بالوكالة له منه. وأجاب الجمهور بأجوبة؛ أحدها أن المعنى أنَّه - صلى الله عليه وسلم - لم يقبل إخبار من أخبره بمنع خالد؛ حملًا على أنَّه لم يصرح بالمنع، وإنَّما نقلوه عنه بناء على ما فهموه، ويكون قوله: "تظلمون خالدًا". أي بنسبتكم إياه إلى المنع وهو لم يمنع، وكيف يمنع الفرض وقد تطوع بتحبيس سلاحه؟! وثانيها أنهم ظنوا أنها للتجارة فطالبوه بزكاة قيمتها، فأعلمهم عليه الصَّلاة والسلام بأنه لا زكاة عليه. ثالثها أنَّه جعلها زكاة ماله وصرفها في سبيل الله كما هو جواب البُخاريّ، وهو حجة للحنفية في جواز إخراج القيمة عن الزكاة، وسيأتي في كتاب الوقف، ويؤخذ منه صحة تحبيس الحيوان والسلاح، وأن الوقف يجوز بقاؤه تحت يد الواقف، وقال ابن دقيق العيد (¬1): إن القضية عينية محتملة لما ذكر ولغيره، فلا ينهض الاستدلال بها في شيء. قال: ويحتمل أن يكون تحبيس خالد إرصادًا وعدم تصرف، إذ (أ) قد يطلق التحبيس على ذلك، فلذلك لم ينهض الاستدلال، إذ الاستدلال إنما يكون بنص أو ظاهر. وقوله: "فهي عليَّ ومثلها معها". هذا لفظ مسلم من رواية ورقاء عن أبي الزناد، وفي البُخاريّ من رواية شعيب عن أبي الزناد: "فهي عليه صدقة ومثلها معها". وفي رواية ابن إسحاق عن أبي الزناد: "هي عليه ومثلها معها". وتابعه ابن جريج عن الأعرج بمثله، فعلى رواية: "عليَّ" يحتمل أن ¬

_ (أ) في ب: أو.

يكون تحمل عنه بها، فيستفاد منه صحة أن يتبرع الغير بالزكاة، وقد ورد نظير ذلك في حديث تحمل أبي قتادة عن الميت، وقوله: "الآن بردت عليه" (¬1). ويحتمل أنَّه قد كان استسلفها منه صدقة تلك السنة والسنة المستقبلة، وقد أخرج التِّرمذيُّ وغيره (¬2) من حديث عليٍّ ذلك، وفي إسناده مقال، وفي الدارقطني (¬3) من طريق موسى بن طلحة أن النَّبيَّ - صَلَّى الله عليه وسلم - قال: "إنا كُنَّا احتجنا، فتعجلنا من العباس صدقة ماله سنتين". وهو مرسل. وروي أيضًا في الدارقطني (¬4) موصولًا بذكر طلحة فيه، وإسناد المرسل أصح، وفي الدارقطني (¬5) أيضًا من حديث ابن عباس رضي الله عنه، أن النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - بعث عمر ساعيًا، فأتى العباس فأغلظ له، فأخبر النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم -، فقال: "إن العباس قد أسلفنا زكاة ماله العام والعام المقبل". وفي إسناده ضعف، وأخرجه أيضًا هو والطبراني (¬6) من حديث أبي رافع نحو هذا، وإسناده ضعيف أيضًا. ومن حديث ابن مسعود (¬7): تعجل من العباس صدقة سنتين. وفي إسناده محمد بن ذكوان (¬8)، وهو ضعيف، ولو ثبت -أي رواية التعجيل- لكان رافعًا للإشكال. وقيل: المعنى أنَّه استلف منه قدر صدقة عامين، فأمر أن يعاض ¬

_ (¬1) تقدم ص 283. (¬2) التِّرمذيُّ 3/ 63 ح 679، والدارقطني 2/ 124 ح 5. (¬3) الدارقطني كما في الفتح 3/ 333. (¬4) الدارقطني 2/ 124 ح 6. (¬5) الدارقطي 2/ 124، 125 ح 7، 8. (¬6) الدارقطني 2/ 125 ح 9، والطبراني في الأوسط 8/ 28 ح 7862. (¬7) البزار 4/ 303، 304 ح 1482، والطبراني 10/ 87، 88 ح 9985. (¬8) محمد بن ذكوان البصري، الأزدي الجهضمي مولاهم، خال ولد حماد بن زيد ووهم من جعله اثنين. ضعيف. التقريب ص 477، وضعفه أيضًا البُخاريّ وأبو حاتم والنَّسائيُّ ووثقه ابن معين. ينظر تهذيب الكمال 25/ 180، والكامل لابن عدي 6/ 2206.

بذلك، وقد استبعد ما ذكر من الاحتمالين بأنه لو كان كذلك لنبه النَّبيُّ - صَلَّى الله عليه وسلم - عمر ألا يطالب العباس، وهو مدفوع؛ لأنَّه يجوز أنَّه ترك ذلك اعتمادًا على حسن ظن عمر بالعباس، أو أن العباس يبين لعمر مثل ذلك فيقبل منه، ولم يقع من العباس البيان، فبين ذلك النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -، ولا محذور في ذلك. وأمَّا رواية: "عليه صدقة ومثلها". فالمعنى أنها عليه صدقة لازمة ومثلها، فقيل: إنه أخرها عنه في ذلك العام إلى العام القابل، فيكون عليه صدقة عامين. قاله أبو عبيد (¬1). وفعل ذلك رفقًا به، وقيل: لأنَّه كان استدان حين فادى عقيلًا وغيره، فصار من جملة الغارمين. فالمعنى: هي عليه صدقة ينتفع بها مصروفة فيه ومثلها، وإن ذلك كان قبل تحريم الزكاة على بني هاشم، ويدل عليه رواية موسى بن عقبة عن أبي الزناد عند ابن خزيمة (¬2) بلفظ: "فهي له ومثلها". وقال البيهقي (¬3): اللام بمعنى "على" لتتفق الروايات؛ لأنَّ المخرج إليه واحد. وإليه مال ابن حبان (¬4). وقيل: معناه: فهي له؛ أي القدر الذي كان يراد منه أن يخرجه؛ لأنني التزمت عنه بإخراجه، فيوافق رواية: "فهي عليَّ ومثلها". وقال بعضهم: كان هذا في الوقت الذي كان فيه التأديب بالمال، فألزم العباس بامتناعه من أداء الزكاة [بأن] (أ) يؤدي ضعف ما وجب عليه كما في قوله تعالى: {يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ} (¬5). ولكن ¬

_ (أ) في الأصل، ب: وأن. وينظر الفتح 3/ 334.

التعليل بقوله: "أما علمت يا عمر" إلى آخره. ممَّا يؤيد أن النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - تحمل ذلك عنه؛ لما له من الحق العظيم وتنزيله منزلة الأب، فلا ينبغي أن ينسب إليه ترك الواجب، وزيادة المثل تنبيه للعباس أن حق مثله الزيادة على الواجب فضلًا عن إخراج الواجب. والله سبحانه أعلم. وفي الحديث دلالة على بعث العمال على قبض الزكاة، وتنبيه الغافل على ما أنعم الله به من نعمة الغني بعد الفقر ليقوم بحق الله عليه، [والعتب] (أ) على من منع الواجب، وجواز ذكره في غيبته بما ينقصه، وعدم العاجلة بالعقوبة، وأخذ الزكاة كرهًا عسى أن يرجع إلى الامتثال وتسليم ما يجب عليه، وتحمل الإمام عن بعض المسلمين، والاعتذار عن البعض، وحسن التأويل، وذكر الحديث في هذا الباب لكون العامل وكيلًا عن الإمام. والفقهاء اختلفوا في تصرَّف العامل؛ هل هو بالوكالة أو بالولاية، أو لما في إخراج النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - عن العباس، ونيابته في الزكاة هو جار مجرى الوكالة وإن كان ذلك بالضمانة ألصق. والله أعلم. 717 - وعن جابر رضي الله عنه أن النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - نحر ثلاثًا وستين، وأمر عليًّا أن يذبح الباقي. الحديث. رواه مسلم. تقدم (¬1) الكلام عليه بطوله في كتاب الحج، والبدن التي نحرها - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع مائة بدنة؛ ساق من المدينة ثلاثًا وستين، والتتمة من البدن التي وصل بها على رضي الله عنه من اليمن، والنبي - صلى الله عليه وسلم - قد كان وصل مكّة، وفي ¬

_ (أ) في الأصل: والعيب.

الحديث دلالة على صحة التوكيل في ذبح الهدي، وهو مجمع عليه إذا كان الذابح مسلمًا، وإن كان كافرًا كتابيًّا صح عند الشَّافعية بشرط أن ينوي صاحب الهدي عند دفعه إليه أو عند ذبحه، ولفظ مسلم: ثم انصرف إلى المنحر فنحر ثلاثًا وستين بيده، ثم أعطى عليًّا فنحر ما غَبَر وأشركه في هديه. وقوله: ما غير. بالغين المعجمة والباء الموحدة المفتوحة؛ أي: ما بقي. وقوله: وأشركه في هديه. ظاهره أنَّه شاركه في نفس الهدي. قال القاضي عياض (¬1): وعندي أنَّه لم يكن شريكًا حقيقة بل أعطاه قدرًا يذبحه. قال: والظاهر أن النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - نحر البُدن التي جاءت معه من المدينة وكانت ثلاثًا وستين كما جاء في رواية التِّرمذيِّ (¬2)، وأعطى عليًّا عليه السَّلام البدن التي جاءت معه من اليمن، وهي تمام البدن، ويكون المراد أنَّه جعل عليًّا شريكًا في ثواب الهدي لا أنَّه ملكه بعد أن جعله هديًا، ويحتمل أن عليًّا أحضر الذي جاء به، فرآه النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - فملكه نصفه فصار شريكًا له، وساق الجميع هديًا فصارا شريكين فيه لا في الذي ساقه النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أولًا. وفيه أيضًا دلالة على أنَّه يستحب تعجيل ذبح الهدايا وإن كانت كثيرة في يوم واحد، ولا يؤخر بعضها إلى بعد يوم النحر. 718 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه في قصة العَسيف قال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "اغد يا أنيس على امرأة هذا، فإن اعترفت فارجمها" الحديث. متَّفقٌ عليه (¬3). ¬

_ (¬1) شرح صحيح مسلم 8/ 192. (¬2) التِّرمذيُّ 3/ 178، 179 ح 815. (¬3) البُخاريّ، كتاب الوكالة، باب الوكالة في الحدود 4/ 491، 492 ح 2314، 2315، ومسلم، كتاب الحدود، باب من اعترف على نفسه بالزنى 3/ 1324، 1325 ح 1697، 1698.

الحديث سيأتي الكلام عليه مستوفى إن شاء الله تعالى في كتاب الحدود (¬1)، وذكره في هذا الباب؛ لأنَّ المأمور وكيل عن الإمام في إقامة الحد، والظاهر أن ذلك من باب الولاية وليس من الوكالة، والفرق بين تصرَّف الوكيل والمولى مستوفى في كتب الفروع، وبوب البُخاريّ: باب الوكالة في الحدود. وأورد هذا الحديث وغيره وقال المصنف (¬2) رحمه الله تعالى بعد أن ساق الكلام على أحاديث الباب: فإن الإمام لما لم يتول إقامة الحد بنفسه وولاه غيره، كان ذلك بمنزلة توكيله لهم في إقامته. انتهى. ¬

_ (¬1) سيأتي ح 1002. (¬2) الفتح 4/ 492.

باب الإقرار

باب الإقرار الإقرار في اللغة الإثبات، يقال: قر الشيء. إذا ثبت، و: أقره غيره. إذا أثبته (¬1)، وهو في الشرع (¬2) عبارة عن الإخبار بما عليه من الحقوق، وهو ضد الجحود. 719 - عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم -: "قل الحق ولو كان مرًّا". صححه ابن حبان (¬3) في حديث طويل. وأخرجه أحمد والطبراني (¬4) من حديث عبد الله بن الصَّامت، وأخرجه الروياني وأبو نعيم (¬5)، والحديث بكماله: قال: أوصاني خليلي رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم - أن أنظر إلى من هو أسفل مني ولا أنظر إلى من هو فوقي، وأن أحب المساكين وأن أدنو منهم، وأن أصل رحمي وإن قطعوني وجفَوني، وأن أقول الحق وإن كان مرًّا، وألا أخاف في الله لومة لائم، وألا أسأل أحدًا شيئًا، وأن أستكثر من: لا حول ولا قوة إلَّا بالله، فإنَّها من كنز الجنة. وفي لفظ الطّبرانيّ زيادة: بتسع. وساقها. وفي الباب من حديث علي بن الحسين عن جده علي بن أبي طالب، أخرجه أبو علي بن شاذان عن أبي عمرو بن السماك من حديث علي بن الحسين قال: ضممت إلى سلاح النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فوجدت في قائم سيفه رقعة ¬

_ (¬1) القاموس (ق ر ر). (¬2) ينظر مغني المحتاج 2/ 238، وحاشية ابن عابدين 8/ 97، 98. (¬3) ابن حبان، كتاب البر والإحسان، باب ذكر الاستحباب للمرء أن يكون له من كل خير حظ ... 2/ 76 - 79 ح 361. (¬4) أحمد 5/ 159، والطبراني 2/ 166 ح 1648. (¬5) الروياني - ومن طريقه ابن عساكر 11/ 465 - وأبو نعيم 1/ 166 - 168.

فيها: "صل من قطعك، وأحسن إلى من أساء إليك، وقل الحق ولو على نفسك" (¬1). قال ابن الرفعة في "المطلب" (¬2): ليس فيه إلا الانقطاع إلا أنَّه يقوى بالآية. قال المصنف رحمه الله تعالى (2): وفيما قال نظر؛ لأن في إسناده الحسين بن زيد بن علي (¬3)، وقد ضعفه ابن المديني وغيره. والحديث فيه دلالة على اعتبار إقرار الإنسان على نفسه في جميع الأمور، وأن ذلك معمول به يجري عليه حكمه، وهو أمر عام لجميع الأحكام، ولذلك ذكره المصنف تبعًا للرافعي في باب الإقرار؛ لأن قول الحق على النفس هو الإخبار بما عليها مما يلزمها التخلص منه بمال أو بدن أو عرض. وقوله: "ولو كان مرًّا". من باب التشبيه؛ لأن الحق قد يصعب إجراؤه على النفس كما يصعب عليها [إساغة] (أ) المر -وهو الشيء الكريه- لمرارته. وفي خصوصيات الأحكام أحاديث كثيرة واردة في الإقرار في الحدود والقصاص وغيرها. ¬

_ (أ) في النسخ: إصاغة. وهو تصحيف، وينظر سبل السلام 3/ 80.

باب العارية

باب العارية العارية فيها ثلاث لغات؛ عاريَّة بالتشديد للياء، وعاريَة بالتخفيف، وعارَة، وهي مأخوذة من: عار الفرس إذا ذهب؛ لأن العارية تذهب من يد المعير، أو من العار؛ [لأن أحدًا لا] (أ) يستعير إلا وبه عار من الحاجة، أو من: عار، إذا ذهب وجاء، ومنه قيل للغلام الخفيف: عيّار (¬1). وقال في "النهاية" (¬2): العارية مشددة الياء، كأنها منسوبة إلى العار؛ لأن طلبها عار وعيب، وتجمع على العواريّ مشددًا، وأعاره بعيره، واستعاره ثوبًا فأعاره إياه، وأصلها الواو. وهي في الشرع (¬3) عبارة عن إباحة المنافع من دون ملك العين. 720 - عن سمرة بن جندب رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "على اليد ما أخذت حتَّى تؤديه". رواه أحمد والأربعة وصححه الحاكم (¬4). أخرجوه من حديث الحسن عن سمرة، ورواه أبو داود والترمذي بلفظ: ¬

_ (أ) في الأصل: لأن لا أحد.

"حتَّى تؤدي". والحسن مختلف في سماعه من سمرة، وزاد فيه أكثرهم: ثم نسي الحسن فقال: هو أمينك لا ضمان عليه. الحديث فيه دلالة على وجوب رد ما قبضه المرء وهو ملك لغيره، ولا يبرأ إلا بمصيره إلى مالكه أو من يقوم مقامه؛ لقوله: "حتَّى تؤديه". ولا تتحقق التأدية إلا بذلك، وهو عام في الغصب والوديعة والعارية، وذكره المصنف هنا لدخول العارية في ذلك لعموم لفظ: "ما أخذت". ويفهم منه أن العارية مضمونة على المستعير، وقد ذهب إلى هذا ابن عباس وزيد بن علي وعطاء وأحمد وإسحاق والشافعي وأشهب وأحد قولي مالك، وحجتهم هذا وما يذكر بعده من الأحاديث، وذهب الهادي وداود والعنبري إلى أن العارية أمانة لا يجب ضمانها إن لم يشرط الضمان، فإن شرط الضمان ضمن، واحتجوا بالحديث الآتي في أدرع صفوان وقال: "بل عارية مضمونة". وحملوا الوصف على التقييد لا على تبيين ماهية العارية، وذهب الحسن البصري والنخعي وشريح وأبو حنيف وأصحابه إلى أنها أمانة لا تضمن وإن شرط الضمان، واحتجوا بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "ليس على المستودع غير المُغلّ (¬1) ولا (أ) على المستعير غير المغل ضمان". أخرجه الدارقطني والبيهقي (¬2) وضعفاه عن ابن عمرو، وصححا وقفه على شريح. وأجاب الأولون بأن هذا الحديث ضعيف لا يقاوم الأحاديث الصحيحة، وصحة وقفه على شريح لا تقوم به الحجة؛ لجواز الاجتهاد ومساغه في هذا. وذهب ¬

_ (أ) ساقط من: ب، جـ.

مالك في القول المشهور وابن القاسم وأكثر أصحابه إلى أنَّه إذا كان مما يعاب على المالك منع عاريته ولم يقم على التلف بينة فإنه يضصن، وإذا كان مما لا يعاب عليه فلا ضمان، ولا فيما قامت على التلف بينة فإنه لا يضمن. وكأنه يقول: إذا كان مما يعاب عليه لأنه واجب عليه إعارته. كما روي عن جماعة من السلف القدماء، وروي عن ابن عباس وعبد الله بن مسعود (¬1) أنهما فسرا قوله تعالى: {وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} (¬2) أنَّه متاع البيت الَّذي يتعاطاه الناس بينهم؛ من الفأس والدلو والحبل والقدر وما أشبه ذلك. 721 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أد الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك". رواه أبو داود والترمذي وحسنه، وصححه الحاكم، واستنكره أبو حاتم الرازي (¬3). وأخرجه البخاري في "التاريخ"، وأخرجه مالك والبيهقي من حديث أبي هريرة (¬4)، وأخرجه الطبراني في "الكبير"، والدارقطني، وأبو نعيم في "الحلية"، ومالك، والبيهقي، والضياء، عن أنس (¬5)، وأخرجه الطبراني في "الكبير" والبيهقي عن أبي أمامة (¬6)، والدارقطني عن أبي بن ¬

_ (¬1) ينظر تفسير الطبري 30/ 316 - 319. (¬2) الآية 7 من سورة الماعون. (¬3) أبو داود، كتاب البيوع، باب في الرجل يأخذ حقه من تحت يده 3/ 288 ح 3535، والترمذي، كتاب البيوع، باب (38)، 3/ 564 ح 1264، والحاكم، كتاب البيوع 2/ 46، وابن أبي حاتم في العلل 1/ 375 ح 1114. (¬4) البخاري في التاريخ الكبير 4/ 360، والبيهقي 10/ 271. والحديث ليس في الموطأ. (¬5) الطبراني 1/ 234 ح 760، والدارقطني 3/ 35 ح 143، وأبو نعيم 6/ 132، والبيهقي 10/ 271، والضياء في المختارة 7/ 281، 282 ح 2738. والحديث ليس في الموطأ. (¬6) الطبراني 8/ 150 ح 7580، والبيهقي 10/ 271.

كعب (¬1)، وأحمد وأبو داود عن رجل من الصحابة (¬2). والحديث أظهر في الوديعة. وفي قوله: "لا تخن من خانك". المراد به ألَّا تجازي بالإساءة. وهو محمول على الندب عند جماعة من أهل العلم، وهو من يجيز استيفاء ما هو له من الغير ولو من غير جنس ما أخذ عليه بقدر ما أخذ عليه، ويدل عليه قوله تعالي: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} (¬3). وقوله تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} (¬4). وهو الأشهر من قولَي الشافعي، وسواء كان من جنس ما أُخذ عليه أو من غير جنسه بقدره، والظاهر أنَّه يملكه ويتصرف فيه. وقال أصحاب الشافعي: لا يملكه بمجرد الأخذ، بل يبيعه الحاكم على قول، أو يبيعه الآخذ على قول فيملك ثمنه، وإذا أمكنه المحاكمة لم يجز ذلك وفاقا. وذهب أبو حنيفة والمؤيد بالله إلى أنَّه لا يجوز له أن يأخذ إلا من جنس ما أخذ عليه، وهو ظاهر قوله: {بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ}. وقوله: {مِثْلُهَا}. وإن كان ذلك يحتمل صدق المماثلة إذا كان بقدر ما أخذ عليه، لا أزْيد. وذهب الهادي إلى أن ذلك لا يجوز إلا بحكم حاكم؛ لظاهر قوله: "ولا تخن من خانك". وظاهر النهي التحريم، ولقوله تعالى: {لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} (¬5). وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيبة من نفسه" (¬6). ويجاب عنه بأن ذلك ليس ¬

_ (¬1) الدارقطني 3/ 35 ح 141. (¬2) أحمد 3/ 414، وأبو داود 3/ 288 ح 3534. (¬3) الآية 40 من سورة الشورى. (¬4) الآية 126 من سورة النحل. (¬5) الآية 29 من سورة النساء. (¬6) تقدم تخريجه ص 255.

أكلًا بالباطل، وقوله: "لا تخن من خانك". محمول على الندب، وأن الأَوْلى الصبر لتحصيل ما هو خير للصابرين، وتخصيص حديث: "لا يحل مال امرئ مسلم". بما ذُكر من دليل الجمهور، وهو قرينة تأويل النهي وصرفه عن التحريم. وقال المؤيد بالله: إن قول الهادي مسبوق قبله بالإجماع. والله أعلم. 722 - وعن يعلى بن أمية قال: قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا أتتك رسلي فأعطهم ثلاثين درعًا". قلت: يا رسول الله، أعارية مضمونة أو عارية مؤدَّاة؟ قال: "بل عارية مؤدَّاة". رواه أحمد وأبو داود والنسائي وصححه ابن حبان (¬1). الحديث فيه دلالة على ما ذهب إليه الهادي وداود أن العارية لا تضمن إلا إذا شرط الضمان، والعارية المؤداة هي التي يجب تأديتها مع بقاء عينها، فإن تلفت لم يضمن القيمة. والله أعلم. 723 - وعن صفوان بن أمية أن النبي - صلى الله عليه وسلم - استعار منه دروعًا يوم حنين، فقال: [أغصب] (أ) يا محمد؟ قال: "بل عارية مضمونة". رواه أبو داود والنسائي وصححه الحاكم وأخرج له شاهدًا ضعيفًا (5) عن ابن عباس رضي الله عنه (¬2). ¬

_ (أ) في ب: أغصبا. (ب) ساقط من: جـ.

هو أبو أمية وأبو وهب صفوان بن أمية بن خلف بن وهب الجمحي القرشي، هرب يوم الفتح، فاستأمن له عمير بن وهب وابنه وهب بن عمير رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأمّنه وأعطاهما رداءه أو بُرده أمانًا له، فأدركه وهب بن عمير فرده إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلما وقف عليه قال له: إن هذا وهب بن عمير يزعم أنك أمَّنتني على أن أسير شهرين. فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "انزل أبا وهب". فقال: لا، حتَّى تبين لي. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أنزل ولك أن تسير أربعة أشهر". فنزل وخرج معه إلى حنين فشهدها، وشهد الطائف كافرًا، وأعطاه من الغنائم فأكثر، فقال صفوان: أشهد بالله ما طابت بهذا إلا نفس نبي. فأسلم يومئذ وأقام بمكة، ثم هاجر إلى المدينة ونزل على العباس، فذكر ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا هجرة بعد الفتح". وكان صفوان أحد أشراف قريش في الجاهلية، وكانت امرأته أسلمت قبله بشهر، فلما أسلم صفوان أُقرّا على نكاحهما، مات صفوان بمكة سنة اثنتين وأربعين، روى عنه ابنه عبد الله وابن أخيه حميد وعبد الله بن الحارث وعامر بن مالك وطاوس، وكان من المؤلفة قلوبهم، وحسن إسلامه، وكان من أفصح قريش لسانًا (¬1). قوله: وأخرج له شاهدًا من حديث ابن عباس، ولفظه: "بل عارية مؤداة". وزاد أحمد والنسائي (¬2): فضاع بعضها، فعرض عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - أن ¬

_ = الكبرى، كتاب العارية، باب تضمين العارية 3/ 409، 410 ح 5778، 5779، والحاكم، كتاب البيوع 2/ 47. (¬1) ينظر الإصابة 3/ 432. (¬2) أحمد 3/ 401، والنسائي في الكبرى 3/ 410 ح 5779.

يضمنها له، فقال: أنا اليوم يا رسول الله والله أرغب في الإسلام. وفي رواية لأبي داود (¬1) الأدراع كانت ما بين الثلاثين إلى الأربعين. وزاد فيه معنى ما تقدم. ورواه البيهقي (¬2) من حديث جعفر بن محمد عن أبيه، عن "صفوان مرسلًا، وبين أن الأدراع كانت ثمانين، ورواه الحاكم (¬3) من حديث جابر، وذكر أنها مائة درع وما يصلحها، أخرجه في أول المناقب. وأعل ابن حزم وابن القطان طرق هذا الحديث، زاد ابن حزم (¬4): إن أحسن ما فيها حديث يعلى بن أمية. يعني الَّذي رواه أبو داود. وفي الباب عن ابن عمر أخرجه البزار (¬5) بلفظ: "العارية مؤداة". وفيه العُمَرِي (¬6) وهو ضعيف. الحديث فيه لفظ: "مضمونة" محتمل كما عرفت أن يكون وصفًا كاشفًا لحقيقة العارية، فيكون دليلًا على أن العارية تُضْمَن وإن لم تُضَمَّن (5)، ويحتمل أن يكون الوصف مخصِّصًا، فيكون دليلًا على أن العارية من أنواعها المضمونة ومن أنواعها غير المضمونة، فيحتمل أن يُخَرَّج عليه أي المذهبين من مذهب الهادي ومذهب مالك، ومع الاحتمال يكون مجملًا غير واضح الدلالة، ويقوم حجة على من يقول: إن العارية لا تضْمَن ¬

_ (أ) في ب، جـ: بن. (ب) في ب: يضمن.

وإن ضمِّنت (أ). وفي تمام حديث صفوان: فضاع بعضها، فعرض عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يضمنها له. فيه دلالة على أن الضياع تفريط، فتضمن العارية بالضياع، ولا تقوم (ب) حجةٌ على ضمان العارية مطلقًا. والله أعلم. ¬

_ (أ) في هامش ب: الأصل في الوصف أن كون مقيدًا فيكون الأظهر عدم الضمان إذا لم يضمن. (ب) في ب: يقوم.

باب الغصب

باب الغصب 724 - عن سعيد بن زيد رضي الله عنه، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من اقتطع شبرًا من الأرض ظلمًا طوقه الله (أ) يوم القيامة إياه من سبع أرَضين". متفق عليه (¬1). هذا لفظ مسلم. قوله: "من اقتطع". الاقتطاع الافتعال من القطع، والمعنى: أخذ لنفسه ذلك تملكًا. وكأنه لما فصله عن ملك صاحبه وجعله لنفسه قطع الملك قِطَعًا وأخذ قطعة لنفسه، وفي لفظ في "الصحيحين" (¬2) بلفظ: "من أخذ". وقوله: "شبرًا". أي مقدار شبر، وفي لفظ في "الصحيحين" (¬3): "قِيد شبر". بكسر القاف، أي قدره، وذكر الشبر تنبيهًا على استواء القليل والكثير في الوعيد. وقوله: "طوقه الله". وفي رواية: "طُوِّقه". بضم أوله على البناء للمجهول، وفي رواية: "فإنه يُطوِّقه". وقوله: "من سبع أرضين". بفتح الراء، ويجوز إسكانها في لغة قليلة. كذا قال الجوهري (¬4). ¬

_ (أ) زاد في ب، جـ: به، وضرب عليها في الأصل.

وفي التطويق وجوه؛ أحدها، أن معناه أنَّه يعاقب بالخسف إلى سبع أرضين، أي فيكون كل أرضن في تلك الحالة طوْقًا في عنقه، ويؤيد هذا حديث ابن عمر: "خسف به يوم القيامة إلى سبع أرضين" (¬1). والثاني، أنَّه يكلف نقل ما ظلم منها في يوم القيامة إلى المحشر، ويكون كالطوق في عنقه، لا أنَّه طوق حقيقة. وقد روى الطبراني وابن حبان (¬2) من حديث يعلى بن مرة مرفوعًا: "أيما رجل ظلم شبرًا من الأرض كلفه الله أن يحفره حتَّى يبلغ آخر سبع أرضين، ثم يطوقه حتَّى يُقضَى بين الناس". ولأبي يعلى (¬3) بإسناد حسن عن الحكم بن حارث السلمي مرفوعًا: "من أخذ من طريق المسلمين شبرًا جاء يوم القيامة يحمله (أ) من سبع أرضين". ونظير ذلك حديث الغالّ للزكاة في حق من غل بعيرًا: "جاء يوم القيامة يحمله" (¬4). والثالث، أن معنى "يطوِّقه": يكلّف أن يجعل له طوقًا ولا يستطيع ذلك فيعذب بذلك. كما جاء في حق من كذب في منامه: "كُلِّف أن يعقد شعيرة" (¬5). والرابع، أن يكون التطويق بطريق الإثم، والمراد به أن الظلم المذكور لازم في عنقه [لزوم] (ب) إثمه، ومنه قوله تعالى: {أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهٌ فِي ¬

_ (أ) في النسخ: يحمل. وأثبت الصواب فوقها في الأصل. (ب) ساقط من: النسخ، والمثبت من الفتح 5/ 105.

عُنُقِهِ} (¬1). وبالوجه الأول جزم أبو الفتح القشيري (¬2) وصححه البغوي (¬3)، ويحتمل أن تتنوع هذه الصفات لصاحب هذه الجناية، أو ينقسم أصحاب هذه الجناية؛ فيعذب بعضهم بهذا وبعضهم بهذا بحسب قوة المفسدة وضعفها، وقد روى ابن أبي شيبة (¬4) بإسناد حسن من حديث أبي مالك الأشعري: "أعظم الغُلول عند الله يوم القيامة ذراع أرض يسرقه رجل، فيطوَّقه من سبع أرضين". وفي الحديث تحريم الظلم والغصب وتغليظ عقوبته، وإمكان غصب الأرض، وأنه من الكبائر. قاله القرطبي (2)، وكأنه فرعه على أن الكبيرة ما ورد فيه وعيد شديد. وأن من ملك أرضًا ملك أسفلها إلى منتهى الأرض، وله أن يمنع من يحفر تحتها سَرَبًا أو بئرًا بغير رضاه. وفيه أن [من] (أ) ملك ظاهر الأرض ملك باطنها بما فيه من حجارة وأبنية ومعادن وغير ذلك، وأن له أن ينزل بالحفر ما شاء ما لم يضر بمن يجاوره. وفيه أن الأرضين السبع متراكمة لم يفتق بعضها من بعض؛ لأنها لو فتقت لاكتفي في حق هذا الغاصب بتطويق التي غصبها؛ لانفصالها عما تحتها. أشار إلى ذلك الداودي (2). ¬

_ (أ) ساقط من: النسخ. والمثبت كما في الفتح 5/ 105.

وفيه أن الأرضين السبع طباق كالسماوات، وهو ظاهر قوله تعالى: {وَمِنَ الْأَرْضِ مِثلَهُنَّ} (¬1). خلافًا لمن قال: إن المراد بقوله: "سبع أرضين". سبعة أقاليم؛ لأنه لو كان كذلك لم يطوق الغاصب شبرًا من إقليم آخر. قاله ابن التين، وهو والذي قبله مبني على أن العقوبة متعلقة بما كان بسببها، وإلا فمع قطع النظر عن ذلك لا تلازم بين ما ذكروه. وفيه دلالة على أن الأرض تصير مغصوبة بالاستيلاء عليها ويجري عليها أحكام الغصب، واختلف العلماء في ضمانها إذا تلفت بعد الاستيلاء؛ فذهب الهادي وأبو حنيفة وأبو يوسف إلى أنها لا تضمن بالغصب، قالوا: لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "على اليد ما أخذت حتَّى ترد" (¬2). وهو غير مأخوذ، ولا يقاس ثبوت اليد على النقل في المنقول؛ لافتراقهما في التصرف، وذهب الناصر والمؤيد والإمام يحيى والشافعي ومحمد والجمهور إلى أن الأرض تضمن بالغصب، وهو ثبوت اليد؛ قياسًا على المنقول المتفق عليه أنَّه يضمن بعد النقل، بجامع الاستيلاء الحاصل في نقل المنقول، وفي ثبوت اليد على غير المنقول، وللحديث المذكور في الباب، وهو الأولى. والله أعلم. 725 - وعن أنس رضي الله عنه، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان عند بعض نسائه، فأرسلت إحدى أمهات المؤمنين مع خادم لها بقصعة فيها طعام، فضربت بيدها فكسرت القصعة، فضمَّها وجعل فيها الطعام وقال: "كلوا". ودفع القصعة الصحيحة للرسول وحبس المكسورة. ¬

_ (¬1) الآية 12 من سورة الطلاق. (¬2) تقدم ح 720.

رواه البخاري والترمذي (¬1) وسمى الضاربة عائشة، وزاد: فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "طعام بطعام، وإناء بإناء". وصححه. قوله: بعض نسائه. في رواية الترمذي من طريق سفيان الثوري عن حميد عن أنس بلفظ: فضربت عائشة القصعة بيدها. الحديث. وأخرجه أحمد (¬2) في ابن أبي عدي ويزيد بن هارون عن حميد قال: وأظنها عائشة. قال الطيبي (أ): إنما أُبهمت عائشة؛ تفخيما لشأنها، وأنه مما لا يخفى ولا يلتبس أنها هي؛ لأن الهدايا إنما كانت تُهدي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - في بيتها. والمرسِلة ذكر ابن حزم المالكي (ب) (¬3) من طريق الليث بن سعد عن جرير بن حازم عن حميد بلفظ: أن زينب بنت جحش أهدت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو في بيت عائشة ويومها جَفنة من حيس. الحديث، فصرح بذكر الزوج المرسِلة والطعام المهدَى. قال المصنف (¬4): ولم أطلع على اسم الخادم. وقد وقع مثل هذه القصة ¬

_ (أ) في الأصل، ب: الطيب، وفي جـ: الطيب. والمثبت من الفتح 5/ 124. (ب) كذا في النسخ، والمعلوم أنَّه ظاهري المذهب، تفقه أولًا للشافعي، ثم أداه اجتهاده إلى القول بنفي القياس كله جليه وخفيه، والأخذ بظاهر النص وعموم الكتاب والحديث، والقول بالبراءة الأصلية واستصحاب الحال. ينظر السير 18/ 186، والبداية والنهاية 15/ 795.

من عائشة في صحفة أم سلمة فيما أخرجه النسائي (¬1) عن أم سلمة، أنها أتت بطعام في صحفة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، فجاءت عائشة متزرة بكساء ومعها فِهر (¬2) ففلقت به الصحفة. الحديث، وقد اختلف فيه على ثابت؛ فقيل: عن أنس. وقيل: عن أم سلمة. وفي الطبراني (¬3) عن أنس أنهم كانوا عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بيت عائشة، إذ أُتي بصحفة خبز ولحم من بيت أم سلمة، قال: فوضعنا أيدينا وعائشة تصنع طعامًا عَجِلة، فلما فرغنا جاءت به ورفعت صحفة أم سلمة فكسرتها. الحديث. وأخرجه الدارقطني (¬4) من طريق عمران بن خالد عن ثابت عن أنس قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - في بيت عائشة معه بعض أصحابه ينتظرون طُعَيما، فسبقتها -قال عمران: أكثر ظني أنها حفصة- بصحفة فيها ثريد فوضعتها، فخرجت عائشة، وذلك قبل أن يحتجبن، فضربت بها فانكسرت. الحديث. ولم يصب عمران في ظَنِّه أنها حفصة، بل هي أم سلمة كما تقدم، ولكنه وقع لحفصة أيضًا مثل ذلك فيما أخرجه ابن أبي شيبة وابن ماجة (¬5) من طريق رجل من بني [سُواءة] (أ) غير مسمى عن عائشة قالت: كان رسول الله ¬

_ (أ) في النسخ: سواده. والمثبت من مصدري التخريج، وينظر التقريب ص 736.

- صلى الله عليه وسلم - مع أصحابه، فصنعتُ له طعامًا، وصنعت له حفصة طعامًا، فسبقتني، فقلت للجارية: انطلقي فأكفئي قصعتها. [فأكفأتها] (أ) فانكسرت وانتشر الطعام، فجمعه على النطع فأكلوه، ثم بعث بقصعتى إلى حفصة فقال: "خذوا ظرفًا مكان ظرفكم". وبقية رجاله ثقات، وهي قصة أخرى بلا ريب، لأن [في] (ب) هذه القصة أن الجارية هي التي كسرت الصحفة، وفي الَّذي تقدم أن عائشة هي التي كسرتها. ووقع مثل هذه القصة لصفية فيما أخرجه أبو داود والنسائي (¬1) من طريق جَسْرة -بفتح الجيم وسكون السين المهملة- عن عائشة قالت: ما رأيت صانعة طعامًا مثل صفية، أهدت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - إناءً فيه طعام، فما ملكت نفسي أن كسرته، فقلت: يا رسول الله، ما كفارته؟ قال: "إناء كإناء، وطعام كطعام". إسناده حسن. ولأحمد (¬2) وأبي داود عنها: فلما رأيت الجارية أخذتني رِعدة. فهذه قصة أخرى. وتحرّر من هذا أن المبهم في الحديث المراد به زينب؛ لمجيء الحديث من مخرجه، وهو حميد عن أنس، وما عدا ذلك فقصص أخرى، فلا يشتبه المبهم بغيرها. ¬

_ (أ) في النسخ: فأكفتها. وفي مصنف ابن أبي شيبة: فكفأتها. والمثبت من ابن ماجة. (ب) ساقط من النسخ. والمثبت من فتح الباري 5/ 125.

وقوله: بقصعة. هي بفتح القاف، [إناء من خشب، وقد جاء في البخاري (¬1) في هذا الحديث في النكاح: بصحفة. وهي قصعة مبسوطة وتكون من غير الخشب. قوله: فضربت بيدها فكسرت القصعة. زاد أحمد: نصفين. فبين أن كسرها كان نصفين] (أ)، وفي رواية ابن علية: فضربت التي في بيتها يد الخادم، فسقطت الصحفة فانفلقت. والفلق بالسكون الشق، فيحمل بأنها انشقت أولًا ثم انفصلت. قوله: فضمها. في رواية ابن علية: فجمع النبي - صلى الله عليه وسلم - فِلَق الصحفة، ثم جعل يجمع فيها الطعام الَّذي كان في الصحفة ويقول: "غارت أمكم". ولأحمد (¬2): فأخذ الكسرتين فضم إحداهما إلى الأخرى فجعل فيها الطعام. ولأبي داود والنسائي (¬3) من طريق خالد بن الحارث عن حميد نحوه، وزاد: فأكلوا. بعد قوله: "كلوا". قوله: ودفع القصعة الصحيحة للرسول. لفظ البخاري: وحبس الرسول والقصعة حتَّى فرغوا، فدفع القصعة الصحيحة. زاد ابن علية: حتَّى أُتي بصحفة من التي هو في بيتها. وزاد ابن علية أيضًا: حتَّى أتى إلى التي ¬

_ (أ) في النسخ: زاد أحمد نصفين فبين أن كسرها كان نصفين وقد جاء في البخاري في هذا الحديث في النكاح بصحفة وهي قصعة مبسوطة وتكون من غير الخشب قوله فضربت بيدها. وهذا سياق مضطرب، صوبناه من الفتح 5/ 125.

كسرت صحفتها وأمسك المكسورة في بيت التي كسرت. زاد الثوري: وقال: "إناء كإناء، وطعام كطعام". والحديث فيه دلالة على أن من استهلك على غيره شيئًا كان مضمونًا بمثله، وهو متفق عليه في المثليّ من الحبوب وغيرها، ومختلف فيه في القيميّ؛ فذهب الشافعي والكوفيون إلى أن من استهلك عرْضًا أو حيوانًا فعليه مثل ما استهلك. قالوا: ولا يقضي بالقيمة إلا عند عدم المثل. وذهب مالك إلى وجوب القيمة [مطلقًا] (أ)، وعنه في رواية كالأول، وعنه: ما صنعه الآدمي فالمثل، وأما الحيوان فالقيمة. وعنه: ما كان مكيلًا أو موزونًا فالقيمة، والا فالمثل. وهو المشهور عند المالكية، وفي "نهاية المجتهد" (¬1) حكى عن مالك قولًا واحدًا، وهو أن المثليّ يضمن بمثله والقيمي بقيمته. فتحقق هذه الأقوال، والله أعلم. وما ذهب إليه مالك هو مذهب الهدوية وغيرهم من الأئمة، واحتج مالك (¬2) بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "من أعتق شِقْصًا (¬3) من عبد قُوِّم عليه قيمة العدل" الحديث. فلم يلزم المثل ورجع إلى القيمة. وأجيب عنه بالحديث المذكور وبقوله تعالى: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} (¬4). فلم يعدل في الجزاء إلى القيمة إلا عند عدم المثل، وهو دليل واضح، وأما حديث القصعة؛ فإن كان من بعض زوجات النبي - صلى الله عليه وسلم -، فالظاهر أنه ليس من باب التضمين الحقيقي؛ لأن المالك للبيت وما فيه هو ¬

_ (أ) ساقط من: الأصل، جـ.

النبي - صلى الله عليه وسلم -، فالعوض والمعوض عنه ملكه، وإن كان من بيت غيرهن -كما في رواية- فلعلمه بالمسامحة فيما بينهم في ذلك وعدم التقصي، ولكن يخدش فيه عموم قوله: "إناء كإناء، وطعام كطعام". فإن اللفظ لا يقصر على سببه، وأن ذلك هو حكم المتلف مطلقًا، ويتأيد بما وقع في رواية ابن أبي حاتم (¬1): "من كسر شيئًا فهو له وعليه مثله". زاد في رواية الدارقطني: فصارت قضية. أي من النبي - صلى الله عليه وسلم -، وذلك يقتضي أن يكون حكمًا عامًّا لكل من وقع له مثل ذلك، فيندفع قول من قال: إنها قضية عين لا عموم فيها. وفي إمساك المكسورة في بيت التي كَسرت حجة للهدوية والحنفية في أن العين المغصوبة إذا زال بفعل الغاصب اسمها ومعظم منافعها، أنها تصير ملكًا للغاصب ويضمنها. وقوله: بعض أمهات المؤمنين. إشارة إلى السبب الَّذي حصل به غيرة عائشة؛ وهو أن الهدية من بيت ضَرتها. وفي قوله في الرواية: "غاربت أمكم". اعتذار منه - صلى الله عليه وسلم - لها؛ لئلا يحمل صنيعها على قصد الأذية؛ فإن (أ) ذلك من العادة المتقررة في نفس الضرة من الغيرة بحيث لا تقدر على دفعها. وفي الحديث دلالة على حسن خلقه - صلى الله عليه وسلم - وإنصافه وحلمه. قال ابن العربي (¬2): وكأنه إنما لم يؤدب الكاسرة ولو بالكلام لما وقع منها من التعدي؛ ¬

_ (أ) في ب، جـ: وأن.

لما فهم من أن التي أهدت أرادت بذلك أذى التي هو في بيتها والمظاهرة عليها، واقتصر على تغريمها القصعة ولم يغرمها المأم؛ لأنه كان مهدًى لهم، فقد خرج عن ملكها بالتخلية. والله سبحانه أعلم. 726 - وعن رافع بن خَديج رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من زرع في أرض قوم بغير إذنهم، فليس له من الزرع شيء، وله نفقته". رواه أحمد والأربعة إلا النسائي، وحسنه الترمذي، ويقال: إن البخاري ضعفه (¬1). الحديث نقل الترمذي عن البخاري تحسينه، لكن قال أبو زرعة وغيره (¬2): لم يسمع عطاء بن أبي رباح من رافع بن خديج. وضعفه الخطابي (¬3) ونقل تضعيفه عن البخاري، وهو خلاف ما نقله عنه الترمذي، وضعفه البيهقي أيضًا (¬4)، وكان موسى بن هارون الحمال (أ) ينكر هذا الحديث ويضعفه، ويقول: لم يروه [عن أبي إسحاق] (ب) غير شريك، ولا رواه عن ¬

_ (أ) في ب، جـ: الحمار، وفي معالم السنن: الجمال. وينظر الأنساب 2/ 253، والسير 12/ 116. (ب) ساقط من النسخ. والمثبت من معالم السنن.

عطاء غير أبي إسحاق. نقله الخطابي، لكن قيل: إن قيس بن الربيع (¬1) تابعه، لكنه سيئ الحفظ. كذا ذكره ابن الملقن النحوي رحمه الله تعالى. وأخرجه ابن أبي شيبة والطيالسي وابن ماجة وأبو يعلى والطبراني في "الكبير" والبيهقي وضعفه والضياء (¬2). ورواه ابن أيمن في "مصنفه" (¬3) بلفظ: إن رجلًا غصب رجلًا أرضًا فزرع فيها، فارتفعوا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقضى لصاحب الأرض بالزرع، وقضى للغاصب بالنفقة. وأخرج الطبراني في "الكبير" (¬4) أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أتى بني حارثة، فرأى زرعًا في أرض ظُهير فقال: "ما أحسن زرع ظهير! ". فقالوا: ليس لظهير. قال: "أليست أرض ظهير؟ ". قالوا: بلى، ولكنه زرع فلان. قال: "فردوا عليه نفقته وخذوا زرعكم". فرددنا عليه نفقته وأخذنا زرعنا. ومثله أخرج ابن أبي شيبة (¬5) عن سعيد بن المسيب. وهو وإن لم تكن الأرض مغصوبة إلا أنَّه جعل الزرع تابعًا للأرض، فهو يقوي الحديث المذكور في الغصب. في الحديث دلالة على أن غاصب الأرض إذا زرع فيها أنَّه لا يملك الزرع وأنه يتبع الأرض، وله ما غرم على الزرع في النفقة والبذر. وهذا ذهب إليه أحمد بن حنبل وإسحاق ومالك، وهو قول أكثر علماء المدينة، وذهب إليه ¬

_ (¬1) تقدمت ترجمته في 3/ 122. (¬2) ابن أبي شيبة 7/ 89، 14/ 219، والطيالسي 2/ 265 ح 1002، والطبراني 4/ 339 ح 4437، والبيهقي 6/ 136. (¬3) ابن أيمن -كما في التلخيص الحبير 3/ 54. (¬4) الطبراني 4/ 289 ح 4267. (¬5) ابن أبي شيبة 7/ 90.

القاسم بن إبراهيم. وذهب الأكثر من الأمة إلى أن الزرع لصاحب البذر الغاصب وعليه أجرة الأرض، قالوا: لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "ليس لعرق ظالم حق" الحديث الآتي. ولقوله: "الزرع للزارع وإن كان غاصبًا". أخرجه (أ)، فدل ذلك على أنَّه لصاحبه، ووضعه في الأرض (ب) المغصوبة لا يخرجه عن ملكه، والحديث متأول، قال المؤيد بالله: إنه أراد: حيث زرع ببذرهم. قال الإمام المهدي: وبأمرهم أيضًا ولكنه خالف في الأرض المعينة. وقال أبو العباس: بل أراد أنَّه يدفع الزرع بالكراء، ورَدُّ النفقة بمعنى أخْذِه لما زاد على كراء المثل. قال: ويجب عليه أن يتصدق به. وكلا التأويلين بعيد متكلف، وحديث: "ليس لعرق ظالم حق". عموم وحديث رافع خصوص، وحديث: "الزرع للزارع وإن كان غاصبًا" -على فرض استقامة طريقه- غير معارض؛ لأن الظاهر فيه أن الزرع للزارع وإن كان غاصبًا أنَّه غاصب للبذر وبذر به في أرضه، لا أنَّه غاصب للأرض، وهو إذا غصب البذر وبذر به مَلَكه بالاستهلاك. فلا تقوَى (جـ) حجة المذكور (د). والله أعلم. 727 - وعن عروة بن الزبير قال: قال رجل من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن رجلين اختصما إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أرض، غرس أحدهما فيها نخلًا والأرض للآخر، فقضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالأرض لصاحبها، وأمر صاحب النخل يخرج نخله، وقال: "ليس لعرق ظالم حق". رواه ¬

_ (أ) بعده في النسخ بياض بمقدار ثلاث كلمات. قال الصنعاني في سبل السلام 3/ 92: لم يخرجه أحد، قال في المنار: وقد بحثت عنه فلم أجده. والشارح نقله وبيض لمخرجه. اهـ. وقال الشوكاني في نيل الأوطار 5/ 383: ولم أقف على هذا الحديث. (ب) في جـ: أرض. (جـ) غير منقوطة في الأصل، وفي ب: يقوى. (د) في جـ: المذكورين.

أبو داود (¬1)، وإسناده حسن، [وآخره] (أ) عند أصحاب "السنن" (¬2) من رواية عروة عن سعيد بن زيد، واختلف في وصله وإرساله وفي تعيين صحابيه. الحديث رواه أبو داود مرسلًا من طريق هناد بن السري عن عبدة عن محمد بن إسحاق عن عروة مرسلًا. ورواه (¬3) من طريق أحمد بن سعيد الدارمي عن وهب عن أبيه عن محمد بن إسحاق بإسناده متصلًا، وقال: فقال رجل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأكثر ظني أنَّه أبو سعيد الخدري. وفسر هشام (¬4) العرق الظالم أن يغرس الرجل في أرض غيره فيستحقها بذلك. وقال مالك: العرق الظالم كل ما أخذ واحتفر وغرس بغير حق. و [علقه] (ب) البخاري (¬5) عن عمرو بن عوف عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ووصله إسحاق بن راهويه (¬6)، قال: أخبرنا أبو عامر العَقَدي، عن كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف، حدثني أبي أن أباه حدثه، أنَّه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: "من أحيا أرضًا مواتًا من غير أن يكون فيها حق مسلم فهي له، وليس لعرق ظالم ¬

_ (أ) في ب: وأخرج، وفي جـ: وأخرجه. (ب) في النسخ: علق. والمثبت يقتضيه السياق.

حق". وهو عند الطبراني والبيهقي (¬1)، وكثير هذا ضعيف (¬2)، وليس لجده عمرو بن عوف في "البخاري" سوى هذا الحديث وهو غير عمرو بن عوف الأنصاري البدري. وفي الباب عن عائشة أخرجه أبو داود الطيالسي (2)، وعن سمرة عند أبي داود (أوالبيهقي أ) (¬3)، وعن عبادة وعبد الله بن عمرو عند الطبراني (¬4)، وعن أبي أسيد عند يحيى بن آدم في كتاب "الخراج" (¬5)، وفي أسانيدها مقال، لكن يقوي بعضها بعضًا. و: "عرق ظالم" يرويه الأكثر بتنوين "عرق"، و"ظالم" نعت له، وقد وصفه بصفة صاحبه من المجاز العقلي، ورواية الإضافة إضافة العرق إلى صاحبه الغاصب، وبالأول جزم مالك والشافعي والأزهري وابن فارس وغيرهم (¬6)، وبالغ الخطابي (¬7) فغلط رواية الإضافة (ب). قال ربيعة: العرق ¬

_ (أ - أ) ساقط من: جـ. (ب) زاد في جـ: و.

الظالم يكون ظاهرًا ويكون باطنًا؛ فالباطن ما احتفره الرجل من الآبار (أ) [أو] (ب) استخرجه من المعادن، والظاهر ما بناه أو غرسه. وقال غيره: الظالم من غرس أو زرع أو بنى أو حفر في أرض غيره بغير حق ولا شبهة (جـ). والحديث فيه دلالة على أن الغاصب إذا غرس في أرض الغير كان الغرس للغاصب ولا يخرج عن ملكه (د)، وقد تقدم الكلام في الزرع، والجمع بين هذا الحديث والحديث الَّذي قبله. 728 - [وعن أبي] (هـ) بكرة رضي الله عنه، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في خطبته يوم النحر [بمنى] (و): "إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا". متفق عليه (¬1). الحديث فيه دلالة على تحريم مال المسلم وأن حرمته كدمه، وهذا إجماع وافق الشرع فيه التحريم العقلي عند من قال به. ¬

_ (أ) في جـ: الآثار. (ب) في الأصل: و. (جـ) في جـ: شبه. (د) في ب: مملكه. (هـ) ساقط من: الأصل، وفي ب: عن. (و) ساقط من: الأصل، جـ.

باب الشفعة

باب الشفعة الشفعة بضم الشين العجمة وسكون الفاء وغلط من حركها، وهي مأخوذة لغة من الشفع وهو الزوج خلاف الوتر؛ لأنه ضم الشيء إلى الشيء، وسُميت الشفاعة بذلك؛ لأنها تضم المشفوع له إلى أهل الثواب، ولما كان الشفيع يضم الشيء المشفوع إلى ملكه سُمي ذلك شفعة. وقيل: من الزيادة. وقيل: من الإعانة، [وفي الشرع] (أ) ضم حصة إلى حصة بسبب شرعي كانت انتقلت إلى أجنبي بمثل العوض المسمى (¬1). وحدَّها في "الغيث" بالحق السابق للك المشتري للشريك أو من في حكمه. والحد الأول أولى. والشفعة معتبرة إجماعًا، وروي الخلاف عن الأصم، لأنها أخذ مال الغير كرها، وقد دل (ب) الدليل على أنَّه لا يجوز. والجواب أنها مخصوصة بالأدلة الثابتة، وهي عند أكثر الفقهاء واردة على خلاف القياس؛ لأنها تؤخذ كرها، ولأن الأذية لا تدفع عن واحد بضرر آخر، والظاهر من مذهب العترة والحنفية أنها واردة على القياس، إذ المعنى المعتبر فيها من دفع الضرر عن واحد بضرر آخر معتبر في غيرها، وذلك كأخذ سلعة الفلس وبيع ماله، ومال المتمرد لقضاء دينه ونفقة زوجته وأولاده، وغير ذلك. وقال بعض العلماء: هي ثابتة استحسانًا بالقياس الخفي، إذ هي لدفع ضرر الخليط ¬

_ (أ) ساقطة من: الأصل. (ب) في ب: يدل.

والجار، وهو مراد من قال: إنها موافقة للقياس، (أوهي مخالفة للقياس أ) الجلي إذ هي أخذ مال الغير بغير رضاه، وهو مراد من قال: إنها مخالفة للقياس. 729 - عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: قضى النبي - صلى الله عليه وسلم - بالشفعة في كل ما لم يقسم، فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة. متفق عليه (¬1)، واللفظ للبخاري، وفي رواية مسلم: "الشفعة في كل شرك في أرض أو ربع أو حائط، لا يصلح أن يبيع حتَّى يعرض على شريكه". وفي رواية الطحاوي (¬2): قضى النبي - صلى الله عليه وسلم - بالشفعة في كل شيء. ورجاله ثقات. قوله: في كل ما لم يقسم. فيه دلالة على ثبوت الشفعة للشريك في الدور والعقار والحوانيت والبساتين، وهذا مجمع عليه إذا كانت مما يقسم، وإن كان مثل الحمام الصغير فلا يصح الشفعة فيه عند مالك والشافعي، وكذا المدقة والطاحونة والبيت الصغير والبئر والحوض والبركة وغير ذلك مما لا يقسم، وقد ورد في البئر حديث: "لا شفعة في بئر" (¬3). وذهب العترة ¬

_ (أ - أ) ساقط من: ب، جـ.

وأبو حنيفة وأصحابه إلى ثبوت الشفعة في جميع ذلك، وقد يتأول (أ) حديث: "لا شفعة في بئر". على آبار الصحاري التي تكون في الأرض الموات، لا التي تكون في أرض متملكة، وهو مستقيم، حيث لم تكن محفورة، وإلا ملكها الحافر وصحت الشفعة فيها، وكذا عند مالك لا شفعة في الطريق وعَرْصة الدار (¬1)، ووافقه الشافعي أيضًا. وهذا الحديث فيه دلالة على أن الشفعة إنما تكون في العقار والدور، لقوله: فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة. والحدود والطرق إنما تكون في ذلك. وذهب العترة جميعًا إلى أنها تصح الشفعة في غير العقار من المنقولات كلها، وهو مروي عن عطاء، ورواه في "البحر" عن مالك، وفي "فتح الباري" قال (¬2): رواية عن مالك. وفي كتب المالكية خلافه إلا المنصور بالله، فخالف في المكيل والموزون، قال: لأنه لا ضرر فيه. ومالك أثبت الشفعة في الثمار التابعة للأرض في البيع، ودليلهم عموم قوله - صلى الله عليه وسلم -: "الشريك شفيع، الشفعة في كل شيء". أخرجه الترمذي (¬3) عن ابن عباس. وذهب الجمهور من العلماء إلى أن الشفعة لا تثبت في المنقول، وحجتهم ما مر، وهذا الحديث مخصص بالمعنى المعلل به وهو دفع الضرر، والضرر في المنقول نادر، وروى في "البحر" عن عطاء أنَّه لا شفعة في المنقول إلا الحيوان والثياب. وعن داود: الشفعة في الثياب فقط. انتهى. وعن أحمد ثبوت ¬

_ (أ) في ب: تناول.

الشفعة في الحيوان. وقوله: صُرفت الطرق. أي بينت مصارف الطرق وشوارعها، كأنه من التصرف أو من [التصريف] (أ). وقال ابن مالك: معناه خلصت وبانت، وهو مشتق من الصِّرف، بكسر المهملة: الخالص من كل شيء. وقوله: الشفعة في كل شرك. أي مشترك (ب). وقوله: أو ربع. بفتح الراء وإسكان الباء، والربع الدار والمسكن، وتطلق على الأرض، وأصله المنزل الَّذي كانوا يَربَعون فيه، والربعة تأنيث الربع، وقيل: واحدُه. كتمرة وتمر. وقوله: لا يصلح أن يبيع. إلى آخره، وفي رواية: لا يحل له أن يبيع حتَّى يؤذن شريكه. وفي رواية: ليس له أن يبيع. وهو محمول على الندب إلى إعلامه، وكراهة بيعه قبل إعلامه كراهة تنزيه لا تحريم، وقال في "شرح الإرشاد" (¬1): الحديث يقتضي أنَّه يحرم البيع قبل العرض على الشريك. قال ابن الرفعة: ولم أظفر به عن أحد من أصحابنا، ولا محيد عن الخبر، وقد قال الشافعي: إذا صح الحديث فاضربوا بقولي عرض الحائط. وقال الأذرعي: إنه الَّذي يقتضيه نص "الأم" في باب صيغة نهى النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد ظفر به الزركشي فقال: صرح به الفارقي، وقال -يعني الفارقي-: وهذا التحريم لا يمنع صحة العقد؛ لأنه لو فسد لم يأخذه الشفيع بالشفعة. انتهى. ¬

_ (أ) في الأصل: الصرف. (ب) في جـ: مشتركة.

واختلف العلماء فيما إذا أذن الشريك له بالبيع فباع ثم أراد أن يشفع؛ فقال الشافعي ومالك وأبو حنيفة وأصحابه وعثمان البتي وابن أبي ليلى وغيرهم وهو مذهب الهدوية، أنَّه (أ) له أن يشفع. وقال الحكم (ب) والثوري وأبو عبيد وطائفة من أهل الحديث: ليس له الأخذ. وعن أحمد روايتان كالمذهبين. وقوله في رواية الطحاوي: في كل شيء. فيه تأييد ثبوت الشفعة في غير العقار، ولكنه عام مخصوص بما تقدم، وهذا حديث الطحاوي له شاهد من حديث ابن عباس أخرجه البيهقي (¬1) مرفوعًا: "الشفعة في كل شيء". ورجاله ثقات، إلا أنَّه أعل بالإرسال. وظاهر ثبوت الشفعة للشريك أنَّه عام لكل شريك مسلمًا أو كافرًا. وقد ذهب إلى هذا زيد بن علي والمؤيد بالله والحنفية والشافعية، وذهب الحسن والشعبي والهادي والناصر والمنصور بالله وأحمد بن حنبل إلى أنها لا تثبت لكافر على مسلم ولو في خططهم؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا شفعة للذمي على المسلم". أخرجه (جـ). وقوله: "لا شفعة لليهودي ولا للنصراني". ذكر الحديثين في "البحر"، [وأخرج ابن عدي والبيهقي (¬2) عن أنس بلفظ: "لا شفعة للنصراني"] (د). ¬

_ (أ) في جـ: أن. (ب) في جـ: الحاكم. (جـ) في النسخ بياض بمقدار كلمتين. وهذا النص ليس بحديث مرفوع، وإنما ذكره النووي في شرح مسلم 11/ 46 قولا للشعبي والحسن وأحمد بن حنبل. (د) ساقط من: الأصل.

أخرجه (أ). وأما شفعة الكافر على مثله في خططهم فتثبت إجماعًا، وأما في خطط المسلمين فلا يثبت عند الآخِرين ويثبت عند الأولين، واحتج على التفرقة بين الخطط بما روي عن علي رضي الله عنه أنَّه كان يأمر مناديًا ينادي كل يوم: لا يَبْنِيَنَّ يهودي ولا نصراني ولا مجوسي، الحقوا بالحيرة. وفي هذا دلالة علي أنَّه لا حق لهم في خطط المسلمين، وإذا لم يثبت لهم حق لم يثبت لهم (ب) الشفعة فيما بينهم، ولكنه يلزم على هذا ألا يُمكَّنوا من التملك (جـ) في خطط المسلمين، وهو خلاف ما ذهبوا إليه، وذهب الشعبي إلى أنَّه لا شفعة لمن لم يمكن من أهل المصر. وهو محجوج بالدليل العام. واعلم أن الشفعة تثبت فيما ملك بالشراء إجماعًا، وأما ما ملك بغيره، فإن كان بعوض مال فحكمه حكم الشراء، وإن كان بغير ذلك فمالك والشافعي أثبتاها فيما كان انتقال الملك بعوض، وإن لم يكن مالا؛ كالصلح والمهر وأرش الجنايات وغير ذلك، ورواية عن الشافعي أنها تجب في كل ملك انتقل بعوض أو غير عوض؛ كالهبة لغير الثواب والصدقة ما عدا الميراث، فإنه لا شفعة فيه إجماعًا، والحنفية تخص الشفعة بالبيع فقط، وذلك لأن ظاهر الأدلة إنما تتناول البيع، وحجة المالكية أن كل ما انتقل بعوض فهو في معنى البيع، والشافعي يخالف في الهبة التي للثواب لأنها باطلة عنده، وأما مالك فهو يثبت الشفعة فيها اتفاقًا بينه وبين أصحابه، والهدوية يثبتون الشفعة فيها إذا كان الثواب يملك بعقد الهبة لا إذا كان ¬

_ (أ) بياض في النسخ بمقدار ثلاث كلمات. (ب) ساقط من: جـ. (جـ) في جـ: التمليك.

مضمرًا أو لا يملك بعقد الهبة (أ)، وإذا كان البيع فيه خيار للمشتري شفع عليه عند الهدوية والكوفية والشافعي؛ لأن البائع قد قطع عن نفسه الملك. وقال جماعة من المالكية: إنه لا شفعة فيه؛ لأنه غير ضامن له. وهذا التعليل ممنوع؛ لأنه عند غيرهم مضمون على المشتري إذا كان قد قبضه. ولمالك في المساقاة ثلاث روايات في ثبوت الشفعة فيها؛ جواز الأخذ بالشفعة، والمنع، والثالثة أن تكون المساقاة من الجنيب، فإن الشريك يشفع عليه ولا يشفع على الشريك الآخر. واختلف عن مالك في ثبوت الشفعة في الإجارة في الدور، وظاهر عموم قوله: الشفعة في كل شيء. شمول ذلك للإجارة، إلا أن يوجد دليل يقيد ذلك بالبيع. 730 - وعن أبي رافع رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الجار أحق بصقبه". أخرجه البخاري، وفيه قصة (¬1). قوله: "بصقبه". هو بالصاد المهملة المفتوحة وفتح القاف: القُرب؛ تقول: صَقِبت داره صقبًا. قربت قربًا، وكذا سقب (ب) بالسين المهملة [المفتوحة] (جـ) وفتح القاف بمعناه. كذا في "القاموس" (¬2) و "الضياء". والحديث نذكر الكلام عليه وذكر القصة في شرح الحديث الَّذي بعده. 731 - وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ¬

_ (أ) في ب: للهبة. (ب) في ب: أسقب. وهما بمعنى. ينظر اللسان (س ق ب). (جـ) ساقط من: الأصل، ب.

"جار الدار أحق بالدار". رواه النسائي وصححه ابن حبان (¬1)، وله علة. الحديث أخرجه أبو بكر بن أبي خيثمة في "تاريخه" والطحاوي وأبو يعلى والطبراني في "الأوسط" والضياء (¬2) عن قتادة عن أنس. وأخرجه الطيالسي وأحمد وأبو داود والترمذي وقال: حسن صحيح. والبيهقي والضياء (¬3) عن قتادة عن الحسن عن سمرة، قالوا: وهو المحفوظ، والأول مقلوب. وصحح ابن القطان الوجهين. وأخرج الطبراني (¬4) عن سمرة مرفوعًا: "جار الدار أحق بالشفعة". وأخرج ابن سعد (¬5) عن قتادة عن عمرو بن شعيب عن الشريد بن سويد الثقفي مرفوعًا: "جار الدار أحق بالدار من غيره". الحديث فيه دلالة على ثبوت الشفعة بالجوار في الدار وفي غيرها من الأراضي بالحديث الآتي العام وبالقياس على الدار أيضًا، إذ العلة القرب بالجوار وهو حاصل، وقد ذهب إلى هذا العترة وأبو حنيفة وأصحابه وابن سيرين وابن أبي ليلى لهذا ولغيره من الأحاديث. وذهب علي وعمر وعثمان وسعيد بن المسيب وسليمان بن يسار وعمر بن عبد العزيز وربيعة ومالك والشافعي وأحمد وإسحاق وعبيد الله بن الحسن والإمامية إلى أنَّه لا شفعة ¬

_ (¬1) النسائي في الكبرى، كتاب الشروط -كما في تحفة الأشراف 1/ 318 - وابن حبان، كتاب الشفعة، باب ذكر خبر أوهم من جهل صناعة الحديث 11/ 585 ح 5182. (¬2) ابن أبي خيثمة 3/ 256، والطحاوى في شرح المعاني 4/ 122، والطبراني في الأوسط 8/ 118 ح 8146، والضياء في المختارة 7/ 122، 123 ح 2550 - 2553. (¬3) الطيالسي 2/ 223 ح 946، وأحمد 5/ 8، 12، 13، 17، 18، 22، وأبو داود 3/ 256 ح 3517، والترمذي 3/ 650 ح 1368، والبيهقي 6/ 106، والضياء في المختارة 7/ 124 عقب ح 2553. (¬4) الطبراني في الكبير 7/ 237 ح 6803. (¬5) ابن سعد في الطبقات 5/ 513.

بالجوار ولا يكون إلا بالاشتراك، وتأولوا الحديث بأن المراد بالجار الشريك؛ لأنه ورد مثل ذلك في قصة أبي رافع، وكان شريك سعد في البيتين، ولذلك دعاه إلى الشراء منه، كما أخرجه البخاري (¬1)، ولفظه بعد سياق الإسناد: إذ (أ) جاء أبو رافع مولى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا سعد، ابتع مني بيتيَّ في دارك. فقال سعد: والله ما أبتاعهما. فقال المسور (5): والله لتبتاعنَّهما. فقال سعد: والله لا أزيدك على أربعة آلاف منجَّمة أو مقطعة (جـ). قال أبو رافع: لقد أُعطيت بها (د) خمسمائة دينار، ولولا أني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "الجار أحق بسقبه". ما أعطيتكها بأربعة آلاف و [أنا] (هـ) أُعطَى بها خمسمائة دينار. فأعطاه إياها. انتهى، لفظ البخاري. وما أجابوا [على] (و) التأويل بأنه ليس في اللغة ما يقتضي تسمية الشريك جارًا - فمردود، فإن كل شيء قارب شيئًا قيل له: جار. وقد قالوا لامرأة الرجل: جارة. لما بينهما من المخالطة. ولكنه يرد علي هذا أن ظاهر حديث أبي رافع أنَّه كان يملك بيتين في دار سعد، لا أنَّه كان يملك شقصًا شائعا من منزل سعد، مع أن عمر بن [شبة] (ز) (¬2) ذكر أن سعدا كان اتخذ دارين ¬

_ (أ) في جـ: إذا. (ب) ساقط من: جـ. (جـ) بحاشية ب: شك من الراوي من خط المؤلف. (د) في الأصل، جـ: بهما. (هـ) في الأصل، ب: أني. (و) في الأصل، ب: عن. (ز) في النسخ: بن أبي شيبة. والمثبت من مصدر التخريج.

بالبلاط متقابلتين (أ)، بينهما عشرة أذرع، وكانت التي عن يمين المسجد منهما لأبي رافع، فاشتراها سعد منه. ثم ساق هذا الحديث، فهو صريح بأن سعدًا كان جارًا لأبي رافع قبل أن يشتري منه داره لا شريكًا، ولكن هذه الرواية تخالف رواية البخاري، وهو أرجح عند التعارض، بل مقتضى حديث أبي رافع أن الشفعة تثبت لجار البيت إذا كان الاشتراك في الطريق حاصلا، وهذا قول أخذ بطرف من القولين؛ وهو أن الجوار مقتض للشفعة (ب) مع الاشتراك في الطريق، ولا يكون مقتضيًا إذا تجرد عن الاشترك في الطريق، وهو غير رافع للقولين المشهورين، وقد قال به بعض الشافعية، حكى القول ابن الملقن النحوي في "عجالة المنهاج" ولم يصرح بقائله، وكذا ابن حجر في "شرح المشكاة"، ولا يبعد اعتباره، أما من حيث الدليل فللتصريح بالشرط في حديث جابر الآتي، وهو إذا كان طريقهما واحدًا، ومفهوم المخالفة يقتضي أنَّه إذا كان الطريق مختلفًا فلا شفعة، وهو معمول به عند المحققين، وإن كان ذلك لا يلزم الحنفية؛ لعدم العمل بالمفهوم عندهم، وأما من حيث التعليل فلأن شرعية الشفعة لمناسبة دفع الضرر، والضرر بحسب الأغلب إنما يكون مع شدة الاختلاط وشبكة الانتفاع، وذلك إنما هو مع الشركة في الأصل أو (جـ) في الطريق، ويندر الضرار مع عدم ذلك، ولو اعتبر ذلك النادر لاعتبر مع عدم ملاصقة الملك، فإنه قد يحصل التضرر مع غير (د) الملاصق؛ إما بتعلية تحجب عنه ضوء الشمس، أو روائح كريهة ¬

_ (أ) في النسخ: متقابلين. والمثبت من مصدر التخريج. (ب) في جـ: الشفعة. (جـ) في ب: و. (د) ساقط من: جـ.

تكون مع بعض الناس في بيته، أو اطلاع على العورة وقصد الأذية، ولكن الشرع علق الأحكام بما هو غالب لا نادر في كثير من المناسبات، وحديث جابر المقيد بالشرط لا يحتمل التأويل المذكور أولًا؛ لأنه إذا كان المراد بالجار الشريك فلا فائدة لاشتراط كون الطريق واحدًا وكون القيد واقعا خلاف الظاهر، ولكن حديث جابر الَّذي مر يدل أيضًا على أن المعتبر هو عدم تصريف الطرق، وذلك إذا كانت الطريق متحدة، فيتعين القول بالتفصيل المتقدم. وأورد على قوله: "جار الدار أحق بالدار". أنَّه إذا كان المراد هو المعنى الحقيقي لزم أن يكون أحق من الشريك؛ لأن المفضل عليه المحذوف هو الغير، وكان التقدير: أحق من غيره. وهذا خلاف الإجماع، بخلاف ما إذا كان مجازًا عن الشريك، فإنه لا محذور فيه. ويجاب عنه بأنه مقدر (أ)؛ المفضل عليه هو المشتري الَّذي لا مشاركة له، والتقدير: أحق من المشتري الَّذي لا جوار له. ومثل هذا التقدير الخاص بالقرينة كثير. 732 - وعن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الجار أحق بشفعة جاره، ينتظر بها وإن كان غائبًا إذا كان طريقهما واحدًا". رواه أحمد والأربعة (¬1) ورجاله ثقات. الحديث قال فيه أحمد (¬2): حديث منكر. و (ب) الزيادة - وهي قوله: ¬

_ (أ) في جـ: يقدر. (ب) في ب: في.

"إذا كان طريقهما واحدًا" - من رواية (عبد الملك بن أبي سليمان) (أ) العَرْزَمي، وهو ثقة مأمون مقبول الزيادة. تقدم الكلام في شفعة الجار. وفي قوله: "ينتظر بها وإن كان غائبًا". فيه دلالة على أن شفعة الغائب لا تبطل وإن تراخى، وأنه لا يجب عليه السير متى بلغه الشراء لأجلها، وقد ذهب إلى هذا مالك وسيأتي، والهدوية فصَّلوا في ذلك فقالوا: إن كان (ب) مسافة الثلاث أو دون وجب عليه السير لأجلها، وإن كان فوق مسافة الثلاث لم يجب عليه السير. والحديث يحتمل تنزيله على هذا، ويكون المراد بـ "ينتظر بها" هو أنه لا يبطل لأجل بُعْده، (جـ بل ينتظر بها جـ) حيث قصد إلى طلبها. وقوله: "إذا كان طريقهما واحدًا". قد عرفت ما دل عليه بمفهومه. قال ابن حجر في "شرحه على المشكاة": احتج به من يثبت الشفعة في المقسوم إذا كان الطريق مشتركًا. قال: ومرَّ أنَّه ضعيف. ثم قال: ومع تسليم الاحتجاج به محمول على جارٍ هو شريك، لكن مع هذا الحمل كيف ¬

_ (أ) في النسخ: سليمان بن عبد الملك. وفي حاشية ب: هذا وهم وراوي الحديث هذا كما في المنتقى عبد الملك بن أبي سليمان عن عطاء عن جابر، قال فيه: وعبد الملك هذا ثقة مأمون ولكن قد أنكر عليه هذا الحديث. قال شعبة: سها فيه عبد الملك فإن روى حديثًا مثله طرحت حديثه، ثم ترك شعبة التحديث عنه، وقال أحمد: هذا الحديث منكر. وقال ابن معين: لم يروه غير عبد الملك، وقد أنكروه عليه. قلت: ويقوي ضعفه رواية جابر الصحيحة المشهورة المذكورة في أول الباب. انتهى. وينظر التحقيق في أحاديث الخلاف 2/ 216، وتهذيب الكمال 18/ 322. (ب) في جـ: كانت. (جـ - جـ) ساقطة من: جـ.

يصح قوله: "إذا كان طريقهما واحدًا"؟ ويجاب بأنه (أ) عندنا لبيان الواقع لا للاحتراز، وأما مثبتوها للجار فيقولون بأنه للاحتراز؛ لأنهم يقدمون الشريك مطلقًا، ثم المشارك في الطريق، ثم الجار، على من ليس بجار. انتهى كلامه. 733 - وعن ابن عمر رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "الشفعة كحل العقال". رواه ابن ماجة والبزار وزاد: "ولا شفعة لغائب" (¬1). وإسناده ضعيف. ولفظ الحديث من روايتهما: "لا شفعة لغائب ولا لصغير، والشفعة كحل العقال". قال البزار (¬2): في رواته (ب) محمد بن عبد الرحمن بن البيلماني (¬3)، له مناكير كثيرة. ورواه ابن عدي (¬4) في ترجمة محمد بن الحارث (¬5) راويه (جـ) عن ابن البيلماني، وحكى تضعيفه وتضعيف شيخه، وقال ابن حبان (¬6): لا أصل له. وقال أبو زرعة (¬7): منكر. وقال البيهقي (¬8): ¬

_ (أ) في جـ: بأن. (ب) في جـ: رواية. (جـ) ساقط من: ب، وفي جـ: برواية.

ليس بثابت. وفي الباب حديث ذكره القاضي أبو الطيب وابن الصباغ والماوردي بلا إسناد عن عمر مرفوعًا: "الشفعة لمن واثبها" (¬1). ويروى: "الشفعة كنشط العقال". وذكر عبد الحق في "الأحكام" (¬2) عن ابن حزم من حديث ابن عمر بلفظ: "الشفعة كحل العقال، فإن قيدها مكانه ثبت حقه، وإلا فاللوم عليه". وتعقبه ابن القطان بأنه لم يره في "المحلى" (¬3). وأخرج عبد الرزاق (¬4) من قول شريح: إنما الشفعة لمن واثبها. وذكره قاسم بن ثابت في "دلائله" (¬5). الحديث فيه دلالة على أن الشفعة تبطل بالتراخي، فإن تشبيهها بحل العقال يدل على تقليل وقتها وأنه وقت قصير يسير، ورواية نشطة العقال؛ أي شد العقال منشوطًا، كعقد التِّكَّة في سهولة الانحلال، وأنشطها: أي حلها، ومنه: "كأنما نُشِط من عقال" (¬6). أي حُلَّ. وهو مَثَلٌ في سرعة وقوع الأمر، ورواية نَشْطَة مصدر نَشِط للوحدة، أو اسم مصدر أنشط، أي حَلَّ. وقد اختلف الفقهاء في تحديد الوقت الَّذي يعفى للشفيع؛ فبعض الهدوية اعتبر بالمجلس (أ)، وقال: إنه إذا شفع بعد أن علم بالبيع وهو باق في ¬

_ (أ) في جـ: في المجلس.

مجلس الخبر فهو غير متراخ ولو طال المجلس. وبعضهم قال: لا يعتبر المجلس، بل إذا علم بالبيع والمشتري حاضر وتراخى عقيب العلم بطلت شفعته، ولا يكون متراخيًا بتمام صلاة الفرض، ولا بتقديم السلام، ومثل هذا قول أبي حنيفة والشافعي، فإنهما قالا في حق الحاضر: هي واجبة له على الفور، بشرط العلم وإمكان الطلب، فإن علم وأمكن الطلب ولم يطلب بطلت شفعته. إلا أن أبا حنيفة قال: إن أشهد بالأخذ لم تبطل شفعته وإن تراخى. وقال مالك: ليست على الفور، بل وقت وجوبها متسع. واختلف قوله في هذا الوقت هل هو محدود أم لا؟ فمرة قال: هو غير محدود، وأنها لا تنقطع أبدًا، إلا أن يحدث المبتاع بناء أو تغييرًا كبيرًا بمعرفته وهو حاضر عالم ساكت. ومرة حدد هذا الوقت، فروي عنه السنة، وهو الأَشهَر، وقيل: أكثر من سنة. وقيل عنه: إن الخمسة الأعوام لا تنقطع فيها الشفعة. وقد روي عن الشافعي ثلاثة أيام. هذا ما ذكره في "نهاية المجتهد" (¬1)، ثم قال: وأما من لم يسقط الشفعة بالسكوت، فاعتمد على أن السكوت لا يبطل حق امرئ ما لم يظهر من قرائن أحواله ما يدل على إسقاطه، [كأن هذا] (أ) أشبه بأصول الشافعي؛ لأن عنده أنَّه ليس يجب أن ينسب إلى ساكت قول قائل وإن اقترنت به أحوال تدل على رضاه، ولكنه فيما أحسب اعتمد الأثر. انتهى. وأراد بالأثر هو قوله: "كحل عقال". وأما الغائب فأجمع أهل العلم على أن الغائب على شفعته ما لم يعلم ببيع ¬

_ (أ) في النسخ: هذا كان. والمثبت من بداية المجتهد.

شريكه، واختلفوا إذا علم وهو غائب؛ فقال قوم: تسقط شفعته. وقال قوم: لا تسقط. وهو مذهب مالك؛ ودليله حديث جابر المتقدم، وأيضًا فإن الغائب في الأغلب معوق (أ) عن الأخذ بالشفعة، فوجب عذره، وعمدة القائلين بسقوطها أن سكوته مع العلم قرينة تدل على رضاه بإسقاطها. اشتمل الباب على ثمانية أحاديث. ¬

_ (أ) في ب: معرب.

باب القراض

باب القراض 734 - عن صهيب رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ثلاث فيهن البركة؛ البيع إلى أجل، والمقارضة، وخلط البر بالشعير للبيت لا للبيع". رواه ابن ماجة (¬1) بإسناد ضعيف. وأخرجه ابن عساكر (¬2) عن صالح بن صهيب عن أبيه. إنما كان البركة في الثلاث؛ لما في البيع إلى أجل من المساهلة والمسامحة، والمقارضة لما في ذلك من انتفاع الناس بعضهم ببعف، وخلط البر بالشعير إذا كان قوتًا، وأما إذا كان للبيع فلا؛ فإنه لا يؤمن من الغرر والغش، فإنه قد يظن المشتري أن فيه مثلًا النصف من البر، ولا يصدق الظن. والمقارضة المراد بها القراض، والقراض هو معاملة العامل بنصيب من الربح، وهي في لغة أهل الحجاز تسمى قراضًا، وتسمى مضاربة مأخوذة من الضرب في الأرض، لما كان تحصيل الربح في الأغلب بالسفر، أو مأخوذة من الضرب في المال وهو التصرف فيه والتقلب. 735 - وعن حكيم بن حزام رضي الله عنه أنَّه كان يشترط على الرجل إذا أعطاه مالًا مقارضة: ألا تجعل مالي في كبد رطبة، ولا تحمله في بحر، ولا تنزل به في بطن مسيل؛ فإن فعلت شيثًا من ذلك فقد ضمنت مالي. رواه الدارقطني (¬3) ورجاله ثقات، وقال مالك في "الموطأ" (¬4): عن العلاء بن ¬

_ (¬1) ابن ماجة، كتاب التجارات، باب الشركة والمضاربة ح 2289. (¬2) تاريخ دمشق 21/ 263. (¬3) الدارقطني، كتاب البيوع 3/ 63 ح 242. (¬4) الموطأ، كتاب القراض، باب ما جاء في القراض 2/ 688 ح 2.

عبد الرحمن بن يعقوب عن أبيه عن جده، أنَّه عمل في مال لعثمان على أن الربح بينهما. وهو موقوف صحيح. حديث حكيم أخرجه البيهقي (¬1) أيضًا بإسناد قوي. الحديث فيه وفيما قبله دلالة على اعتبار المقارضة وشرعيتها، وقد روي عن علي رضي الله عنه فيما أخرجه عبد الرزاق (¬2) عنه أنَّه قال في المضاربة: الوضيعة على المال والربح على ما اصطلحوا عليه. وأخرج الشافعي (¬3) في كتاب اختلاف العراقيين عن ابن مسعود أنَّه أعطى زيد بن خليدة مالا مقارضة. وأخرجه البيهقي في "المعرفة" (¬4). وروى البيهقي (¬5) عن العباس بسند ضعيف، والطبراني (¬6) في "الأوسط" عن ابن عباس قال: كان العباس إذا دفع مالًا مضاربة. فذكر القصة، وفيه أنَّه رفع الشرط إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فأجازه. وقال: لا يروى إلا بهذا الإسناد، تفرد به محمد بن عقبة عن يونس بن أرقم عن أبي الجارود عن حبيب بن يسار عن ابن عباس. وأخرج البيهقي (¬7) عن جابر بلفظ أنَّه سئل عن ذلك فقال: لا بأس بذلك. وفي إسناده ابن لهيعة. فهذا الوارد فيه آثار من الصحابة وهو في حكم المجمع عليه لاشتهاره بين الصحابة من غير نكير. وقال ابن حزم في "مراتب ¬

_ (¬1) البيهقي 6/ 111. (¬2) عبد الرزاق 8/ 248 ح 15087. (¬3) ينظر الأم 7/ 108. (¬4) المعرفة 4/ 499 ح 3703. (¬5) البيهقي 6/ 111. (¬6) الأوسط 1/ 231 ح 760. (¬7) البيهقي 6/ 111.

الإجماع" (¬1): كل أبواب الفقه فلها أصل من الكتاب والسنة حاشا القِراض فما وجدنا له أصلًا فيهما البتة، ولكنه إجماع صحيح مجرد، والذي يقطع به أنَّه كان في عصر النبي - صلى الله عليه وسلم - فعلم به وأقره، ولولا ذلك لما جاز. وقال في "نهاية المجتهد وغاية المقتصد" (¬2)، ومثله في "البحر" أنَّه لا خلاف بين المسلمين في جواز القِراض، وأنه مما كان في الجاهلية فأقره الإسلام، وهي نوع من الإجارة إلا أنَّه عفي فيها جهالة الأجرة، وكانت الرخصة في ذلك لموضع الرفق بالناس، ولها أركان وشروط، فأركانها العقد بالإيجاب أو ما في حكمه، والقبول أو ما في حكمه، وهو الامتثال بين جائزي التصرف، إلا من مسلم لكافر، على مال نقد عند الجمهور، خلافًا لابن أبي ليلى، فجوز ذلك في العروض، وظاهره أنَّه يجوز أن يقارض الغير على أن يبيع له الثوب ويكون الربح بينهما، ويكون هذا من باب القراض، وإن كان كلامه يحتمل أنَّه يأمر العامل ببيع ذلك العرض ويكون ثمنه رأس مال القراض، وهذا أجازه أيضًا الهدوية. ولها أحكام مجمع عليها؛ فمنها أن الجهالة مغتفرة فيها، وأنه لا ضمان على العامل فيما تلف من رأس المال إذا لم يتعدّ، وأنها تصح بالدراهم والدنانير المضروبة، واختلفوا في غير المضروب، واختلفت الرواية عن مالك؛ فروى أشهب المنع مطلقًا، وروى ابن القاسم الجواز إلا في المصوغ، والمانع شبَّهها بالعروض، والمجوز شبهها بالنقد والفلوس، منع ذلك فيها الهدوية وابن (أ) القاسم من المالكية، وأجازه أشهب ومحمد بن الحسن ¬

_ (أ) زاد في النسخ: أبي. والمثبت من بداية المجتهد 7/ 494.

الشيباني، وأما إذا كان رأس المال دينًا على العامل فالجمهور على منعه، واختلفوا في العلة، فعند مالك لتجويز إعسار العامل بالدين فيكون تأخيره عنه لأجل الربح، فيكون من الربا المنهي عنه، وعند أبي حنيفة والشافعي لأن ما في الذمة لا يتحول عن الضمان ويصير أمانة، وعند الهدوية العلة أن ما في الذمة ليس بحاضر حقيقة، فلم يتعين كونه مال المضاربة، ومن شرط المضاربة أن تكون على مال من صاحب المال، واتفقوا أيضًا على أنَّه إذا شرط أحدهما من الربح لنفسه شيئًا زائدًا معينًا، أنَّه لا يجوز ويلغو. وفي اشتراط حكيم بن حزام ما ذكر دلالة على أنَّه يجوز للمالك للمال أن يحجر العامل عما شاء، فإن خالف ضمن إذا تلف المال، وإن سلم المال فالمضاربة باقية -إذا كان رجع إلى الحفظ، وأما إذا كان الاشتراط لا يرجع إلى الحفظ بل كان يرجع إلى التجارة وذلك بأن ينهاه ألا يشتري نوعًا معينًا أو لا يبيع من فلان، فإنه يصير فضوليًّا إذا خالف، فإن أجاز المالك نفذ البيع، وإن لم يجز لم ينفذ البيع، والله أعلم. اشتمل الباب على ثلاثة أحاديث.

باب المساقاة والإجارة

باب المساقاة والإجارة 736 - عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عامل أهل خيبر بشطر ما يخرج منها من ثمر أو زرع. متفق عليه (¬1)، وفي رواية لهما (¬2): فسألوا أن يقرهم بها على أن يكفوا عملها ولهم نصف الثمر، فقال لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "نقركم بها على ذلك ما شئنا". فقروا بها حتَّى أجلاهم عمر رضي الله عنه. ولمسلم (¬3): أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دفع إلى يهود خيبر نخل خيبر وأرضها على أن يعتملوها من أموالهم ولهم شطر ثمرها. قوله: عامل أهل خيبر. هذا الحديث هو عمدة في ثبوت الزارعة والمخابرة والمساقاة، واختلف في تفسيرها؛ ففي وجه للشافعية أن المزارعة والمخابرة بمعنى واحد، وأشار إلى ذلك البخاري، والوجه الآخر أنهما مختلفا المعنى، فالزارعة العمل في الأرض ببعض ما يخرج منها والمذر من المالك، والمخابرة كذلك إلا أن البذر من العامل، وفي كتب الهدوية مثل الوجه الأول. والمساقاة ما كان في النخل والكرم وجميع الشجر الَّذي من شأنه أن يثمر بجزء معلوم يجعل للعامل من الثمرة، وبه قال الجمهور، وخصه الشافعي في الجديد بالنخل والكرم، إلحاقًا للكرم بالنخل بجامع أنَّه خرصهما ¬

_ (¬1) البخاري، كتاب الحرث والمزارعة، باب المزارعة بالشطر ونحوه، وباب إذا لم يشترط السنين في المزارعة 5/ 10، 13 ح 2328، 2329، ومسلم، كتاب المساقاة، باب المساقاة والعاملة بجزء من الثمر والزرع 3/ 1186 ح 1551/ 1، 2. (¬2) البخاري، كتاب الحرث والمزارعة، باب إذا قال رب الأرض: ما أقرك الله 5/ 21، وكتاب فرض الخمس، باب ما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعطي المؤلفة قلوبهم وغيرهم من الخمس ونحوه 6/ 252 ح 2338، 3152، ومسلم، كتاب المساقاة، باب المساقاة والمعاملة بجزء من الثمر والزرع 3/ 1187 ح 1551/ 5. (¬3) صحيح مسلم بشرح النووي 10/ 209.

عتاب بن أسيد (أفي الزكاة أ)، وخصه داود بالنخل، وقال مالك: يجوز في كل أصل ثابت؛ نحو الرمان والتين والزيتون وما أشبه ذلك، وهذا يجوز فيه من غير ضرورة، وفي غير ذلك كالبطخ يجوز مع عجز صاحبها عنها وكذلك الزرع. ولا يجوز في شيء من البقول عند الجميع، إلا ابن دينار، فإنه أجازها فيها إذا نبتت قبل أن تستقل (¬1)، ومرجع الخلاف هذا هل شرعيتها على خلاف القياس، وإنما ذلك رخصة؛ لأن فيه مخالفة للأصول، لأنه بيع ما لم يخلق، ولأنه من المزابنة وهو بيع الثمر بالثمر متفاضلان، لأن القسمة بالخرص بيع بالخرص؟ أو هي من الأحكام المشروعة ابتداءً لمصالح العباد، كالبيع وغيره؟ والظاهر هو الأول، ولذلك قصرها البعض على المنصوص، وبعضهم الحق ما شارك في العلة الخاصة، وبعضهم الحق ما عرف من الشارع تسوية الحكم بينه وبين المنصوص عليه وهو الكرم عند الشافعي؛ لما عرف من التسوية بينهما في الخرص للزكاة. واختلف العلماء في حكم المساقاة والمزارعة؛ فذهب الجمهور إلى جوازهما، واحتجوا بهذا الحديث، وذهب أبو حنيفة والهدوية إلى أنها لا تصح وهي فاسدة، وتأولوا هذا الحديث وغيره بأن خيبر فتحت عَنْوَة، فكان أهلها عبيدًا له - صلى الله عليه وسلم -، فما أخذه فهو له وما تركه فهو له، وأجاب الجمهور بأن قوله: "أقركم على ما أقركم الله". صريح في أنهم ليسوا بعبيد، قال القاضي (¬2): وقد اختلفوا في خيبر؛ هل فتحت عنوة أو صلحًا أو أجلي عنها ¬

_ (أ- أ) ساقطة من: ب.

أهلها بغير قتال، أو بعضها صلحًا وبعضها عنوة وبعضها جلا عنه أهله، أو بعضها صلحًا وبعضها عنوة؟ وهذا أصح الأقوال، [وهي] (أ) رواية مالك ومن تابعه، وبه قال ابن عيينة. قال: وفي كل قول أثر مروي، وفي رواية لمسلم (¬1) أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما ظهر على خيبر أراد إخراج اليهود منها وكانت الأرض حين ظهر عليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لله ولرسوله وللمسلمين، وهذا يدل على قول من قال: إنها فتحت عنوة. إذ حق المسلمين إنما هو في العنوة، وظاهر قول من قال: صلحًا. أنهم صولحوا على كون الأرض للمسلمين. واختلفوا فيما تجوز عليه المساقاة من الأشجار، فقال داود: تجوز على النخل خاصة. وقال الشافعي: تجوز على النخل والعنب خاصة. وقال مالك: تجوز على جميع الأشجار. وهو قول للشافعي، فأما داود فرآها رخصة فلم يتعد المنصوص عليه، وأما الشافعي فوافق داود في كونها رخصة، لكن قال: حكم العنب حكم النخل في معظم الأبواب. وأما مالك فقال: سبب الجواز الحاجة والمصلحة، وهذا يشمل الجميع فيقاس عليه. والله أعلم. وقوله: بشطر ما يخرج منها. فيه بيان الجزء المساقَى عليه من نصف أو ربع أو غيرهما من الأجزاء المعلومة، ولا يجوز على مجهول إجماعًا، كقولك: على أن لك بعض الثمرة. واتفق المجوزون للمساقاة بأنها تصح بما رضي به المتعاقدان من قليل أو كثير. وقوله: من ثمر أو زرع. فيه دلالة على جواز المزارعة تبعًا للمساقاة، ¬

_ (أ) في النسخ: وفي، والمثبت من مصدر التخريج. (ب) بعده في ب: على.

والقائل به الأكثرون، فيساقيه على النخل ويزارعه على الأرض كما جرى في خيبر. وقال مالك: يجوز فيما كان بين الشجر من الزرع، ولا يجوز في غيره، والخلاف لأبي حنيفة والهدوية وزفر في أن المزارعة والمساقاة فاسدتان سواء جمعهما أو فرقهما، ولو عقدتا صح الفسخ وكان العقد فاسدًا، وقال ابن أبي ليلى وأبو يوسف ومحمد وسائر الكوفيين وفقهاء المحدثين وأحمد وابن خزيمة وابن سريج وآخرون وهو قول علي وأبي بكر وعمر وابن المسيب: تجوز المساقاة والمزارعة مجتمعتين، وتحوز كل واحدة منهما منفردة. وهذا هو الظاهر المختار، ولا يقبل دعوى كون المزارعة في خيبر إنما جاءت تبعًا للمساقاة، بل جاءت مستقلة، ولأن المعنى الموجود في المساقاة موجود في المزارعة، وقياسًا على القراض فإنه جائز بالإجماع، فهو كالمزارعة في كل شيء، ولأن المسلمين في جميع الأمصار والأعصار مستمرون على العمل بالمزارعة. قوله: "ما شئنا". وفي رواية الموطأ (¬1): "أقركم على ما أقركم الله". قال العلماء رحمهم الله: وهو عائد إلى مدة العهد. والمراد: إنما نمكنكم من المقام في خيبر ما شئنا ثم نخرجكم إذا شئنا؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - كان عازمًا على إخراج الكفار من جزيرة العرب، كما أمر به في آخر أمره - صلى الله عليه وسلم - على ما دل به الحديث وغيره (¬2)، واحتج به أهل الظاهر على جواز المساقاة مدة مجهولة، وقال الجمهور: لا تجوز المساقاة إلا إلى مدة معلومة كالإجارة. وتأولوا الحديث على مدة العهد، وقيل: كان ذلك في أول الإسلام خاصة للنبي - صلى الله عليه وسلم -. ¬

_ (¬1) الموطأ 2/ 703 ح 1. (¬2) البخاري 6/ 170، 270، 8/ 132 ح 3053، 3168، 4431، ومسلم 3/ 1257 ح 1637/ 20.

وقيل: معناه أن لنا إخراجكم بعد انقضاء المدة المسماة. وكانت سميت مدة، ويكون المراد بيان أن المساقاة ليست بعقد دائم كالبيع والنكاح، بل بعد انقضاء المدة تنقضي المساقاة، فإن شئنا عقدنا عقدًا آخر، وإن شئنا أخرجناكم، وقال أبو ثور: إذا [أطلقا] (أ) المساقاة اقتضي ذلك سنة واحدة. وعن مالك: إذا قال: ساقيتك كل سنة بكذا. [جاز (ب) ولو] لم يذكر أمدًا، وحمل قصة خيبر على ذلك. واتفقوا على أن الإجارة لا تجوز إلا بأجل معلوم، وهي من العقود اللازمة بخلاف الزارعة. وقال ابن القيم في "الهدي النبوي" (¬1): في قصة خيبر دليل على جواز المساقاة والمزارعة بجزء من الغلة؛ تمر (جـ) أو زرع، كما عامل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أهل خيبر على ذلك، واستمر ذلك إلى حين وفاته لم ينسخ البتة، واستمر عمل خلفائه الراشدين عليه، وليس هذا من باب المؤاجرة في شيء، بل من باب المشاركة، وهو نظير المضاربة سواء، فمن أباح المضاربة وحرم ذلك فقد فرق بين متماثلين، وأنه - صلى الله عليه وسلم - دفع إليهم الأرض على أن يعملوها من أموالهم، ولم يدفع إليهم البذر، ولا كان يحمل إليهم البذر من المدينة قطعًا، فدل على أن هديه عدم اشتراط كون البذر من رب الأرض، وأنه يجوز أن يكون من العامل، وهذا كان هدي خلفائه الراشدين من بعده، وكما أنَّه هو المنقول فهو الموافق للقياس، فإن الأرض بمنزلة رأس المال في المضاربة، والبذر يجري مجرى سقي الماء، ¬

_ (أ) في النسخ: أطلق. والمثبت من شرح النووي على صحيح مسلم 10/ 211، والفتح 5/ 141. (ب) في النسخ: أجاز ولم. والمثبت من الفتح 5/ 14. (جـ) في زاد المعاد: ثمر.

ولهذا يموت في الأرض، ولا يرجع إلى صاحبه، ولو كان بمنزلة رأس المال في المضاربة لاشْتُرِطَ (أ) عودُه إلى صاحبه، وهذا يفسد المزارعة، فعلم أن القياس الصحيح هو الموافق لهدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وخلفائه الراشدين في ذلك. انتهى. وهذا الذي قاله ابن القيم كلام متين، العمل عليه في جميع بلاد الإسلام من غير إنكار خلفًا عن سلف. وقوله: على أن يعتملوها من أموالهم. بيان [لوظيفة] (ب) عامل المساقاة؛ وهو أن عليه جميع ما يحتاج إليه في إصلاح الثمر واستزادته مما يتكرر كل سنة؛ كالسقي وتنقية الأنهار، وإصلاح منابت الشجر وتلقيحه، وتنحية الحشيش والقضبان (¬1) عنه، وحفظ الثمرة وجذاذها ونحو ذلك، وأما ما يقصد به حفظ الأصل ولا يتكرر كل سنة، كبناء الحيطان وحفر الأنهار، فعلى المالك. والله أعلم. 737 - وعن حنظلة بن قيس قال: سألت رافع بن خَديج رضي الله عنه عن كراء الأرض بالذهب والفضة، فقال: لا بأس به، إنما كان الناس يؤاجرون على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الماذيانات، وأقبال الجداول، وأشياء من الزرع، فيهلك هذا ويسلم هذا، ويسلم هذا ويهلك هذا، (جـ ولم يكن جـ) للناس كراء إلا هذا، فلذلك زجر عنه، فأما شيء معلوم مضمون فلا ¬

_ (أ) في ب، جـ: لاشتراط. (ب) في الأصل: لو صنقه، وفي ب: لوصفية. (جـ - جـ) في ب، جـ: وليس.

بأس به. رواه مسلم (¬1)، وفيه بيان لما أجمل في المتفق عليه (¬2) من إطلاق النهي عن كراء الأرض. هو حنظلة بن قيس الزُّرَقي الأنصاري من ثقات أهل المدينة وتابعيهم، سمع رافع بن خديج وأبا هريرة وابن الزبير، روى عنه ربيعة بن أبي عبد الرحمن ويحيى بن سعيد الأنصاري. والزُّرَقي، بضم الزاي وفتح الراء وبالقاف (¬3). هذا الحديث فيه دلالة على صحة إكراء الأرض بأجرة معلومة من الذهب والفضة، ويقاس عليهما غيرهما من سائر الأشياء المتقومة، وقد اختلف العلماء في إكراء الأرض؛ فقال طاوس والحسن البصري رحمهما الله تعالى: لا يجوز، سواء أكراها بطعام أو ذهب أو فضة أو بجزء من زرعها؛ لإطلاق أحاديث النهي عن كراء الأرض. وقال الشافعي وأبو حنيفة والهدوية وسائر أئمة العترة: تجوز إجارتها بالذهب والفضة وبالطعام والثياب (أ) وسائر الأشياء، سواء كانت من جنس ما يزرع فيها أم من غيره، ولكن لا تجوز إجارتها بجزء مما يخرج منها؛ كالثلث والربع، وهي المخابرة، ولا يجوز أيضًا أن يشرط له قطعة معينة. وقال ربيعة: يجوز بالذهب والفضة فقط. وقال أحمد وأبو يوسف ومحمد بن الحسن وجماعة من المالكية وغيرهم: يجوز إجارتها بالذهب والفضة، وتجوز الزارعة بالثلث والربع ¬

_ (أ) في ب: النبات.

وغيرهما. وبهذا قال ابن [سريج] (أ) وابن خزيمة والخطابي وغيرهم من محققي الشافعية، وهو مروي عن علي وابن مسعود وعمار بن ياسر وسعيد ابن المسيب ومحمد بن سيرين وعمر بن عبد العزيز وابن أبي ليلى وابن شهاب، وأما طاوس والحسن فقد سبق حجتهما، وأما الشافعي وموافقوه فاحتجوا [بصريح] (ب) حديث رافع بن خديج، وتأولوا أحاديث النهي على تأويلين؛ أحدهما حملها على إجارتها بما على الماذيانات، أو بزرع قطعة معينة، أو بالثلث أو بالربع، ونحو ذلك. والثاني حملها على كراهة التنزيه، والإرشاد إلى إعارتها كما نهي عن بيع الهرِّ نهي تنزيه، ورغبوا في تواهبه، ونحو ذلك، وهذان التأويلان لا بد منهما أو من أحدهما للجمع بين الأحاديث، وقد أشار إلى هذا التأويل الثاني البخاري (¬1) وغيره عن ابن عباس رضي الله عنه. وقوله: على الماذيانات. هو بذال معجمة مكسورة ثم ياء مثناة تحت ثم ألف ثم نون ثم ألف ثم مثناة فوق. هذا هو المشهور، وحكى القاضي عياض (¬2) عن بعض الرواة فتح الذال في غير "صحيح مسلم" وهي مسايل المياه. وقيل: ما ينبت على حافتي مسيل الماء. وقيل: ما ينبت حول السواقي. وهي لفظة معربة ليست عربية. و: أقبال. بفتح الهمزة أي أوائل الجداول ورءوسها. والجداول جمع جدول وهو النهر الصغير كالساقية. ¬

_ (أ) في الأصل، ب: شريح. (ب) في النسخ: بهذا. والمثبت من شرح النووي 10/ 198.

وأما الربيع فهو الساقية الصغيرة وجمعه أربعاء كنبي وأنبياء، وربعان كصبي وصبيان. والمعنى أنهم كانوا يدفعون الأرض إلى من يزرعها ببذر من عنده على أن يكون لمالك الأرض ما ينبت على الماذيانات وأقبال الجداول، أو هذه القطعة، والباقي للعامل، فنهوا عن ذلك لما فيه من الغرر، فربما هلك هذا دون ذاك. واعلم أن الأحاديث وردت في إباحة إكراء الأرض على ما يخرج من الأرض من ثلث أو ربع أو نحوه؛ فمنها عن ابن عمر قال: قد علمت أن الأرض كانت تكرى على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بما على الأرْبعَاءِ وشيء من التبن لا أدري كم هو. أخرجه مسلم (¬1)، وأخرج (¬2) عن عبد الملك [أبي زيد] (أ) قال: كان ابن عمر يعطي أرضه بالثلث والربع، ثم تركه ابن عمر. وأخرج الحازمي [في] (ب) "الناسخ والمنسوخ" (¬3) قال (جـ): أخبرنا إبراهيم بن محمد، فقلنا لطاوس: ما بال ابن عمر ترك الثلث وأنت لا تدعه وإنما ¬

_ (أ) في النسخ: بن يزيد، وفي مصدر التخريج: بن زيد. والتصويب من تحفة الأشراف 5/ 18 ح 5732، وتهذيب الكمال 18/ 421، ومسند أبي عوانة 3/ 328. (ب) في النسخ: من. (جـ) بعده في مصدر التخريج: "عن علي بن عمر أخبرنا إبراهيم بن محمد.

[سمعتما] (أ) حديثًا واحدًا؟ يعني حديث رافع، فقال: إني والله لو أعلم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قاله ما فعلته، ولكن ابن عباس قال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من كانت له أرض فإنه إن يمنحها أخاه خير له". هذا حديث له طرق وفيه اختلاف ألفاظ لا يمكن حصرها في هذا المختصر، ووردت أحاديث النهي منها ما أخرجه مسلم (¬1) عن ابن شهاب أنه قال: أخبرني سالم ابن عبد الله أن عبد الله بن عمر كان يكري أرضه حتى بلغه أن رافع بن خديج الأنصاري كان ينهى عن كراء المزارع، فلقيه عبد الله فقال: يا بن خديج، ماذا تحدث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في كراء الأرض؟ قال رافع بن خديج لعبد الله: سمعت عَمَّيَّ -وكانا قد شهدا بدرًا- يحدثان أهل الدار، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن كراء الأرض. قال عبد الله: لقد كنت أعلم في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن الأرض تكرى. ثم خشي عبد الله أن يكون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحدث في ذلك شيئًا لم يكن [علمه] (ب) فترك كراء الأرض. وأخرج مسلم (¬2) عن نافع، أن ابن عمر كان يكري مزارعه على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفي إمارة أبي بكر وعمر وعثمان وصدرًا من خلافة معاوية، حتى بلغه في آخر خلافة معاوية أن رافع بن خديج يحدث فيها بنهي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، فدخل عليه وأنا معه، فسأله فقال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينهى عن كراء المزارع. فتركها ابن عمر بعدُ، وكان إذا سئل عنها بعد، قال: ¬

_ (أ) في النسخ: سمعنا. والتصويب من مصدر التخريج. (ب) ساقط من النسخ. والمثبت من مصدر التخريج.

زعم ابن خديج أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عنها .. وحاول الخطابي (¬1) رحمة الله تعالى عليه الجمع بين الأحاديث، وأن حديث النهي مجمل تفسيره بالأخبار التي رويت عن رافع بن خديج وغيره من طرق أخر، وقد عقل ابن عباس المعنى من الخبر وأنه ليس المراد به تحريم المزارعة بشطر ما تخرج الأرض، وإنما أراد بذلك أن يتمانحوا أرضهم وأن يرفق بعضهم ببعض، وقد ذكر رافع بن خديج في رواية أخرى النوع الذي حرم منها والعلة التي من أجلها نهي عنها، وذكر الخطابي الحديث الذي ذكره المصنف هنا، ولكنه يقال للخطابي: فأين أنت من الرواية الأخرى التي أخرجها مسلم (¬2) عن سليمان بن يسار، عن رافع بن خديج، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من كانت له أرض فليزرعها أو ليُزرعها أخاه، ولا يُكْرِها أخاه، ولا يُكْرِها بالثلث ولا بالربع ولا بطعام مسمى"؟ وروي سعيد بن أبي عروبة [عن يعلى بن حكيم] (أ) عن سليمان مثله (¬3). وأخرج مسلم (¬4) من حديث جابر قال: كان لرجال من الأنصار فضول أرض وكانوا يكرونها بالثلث والربع، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "من كانت له أرض فليزرعها أو ليمنحها أخاه فإن أبي فليمسكها". وهذا الحديث مروي عن جابر من وجوه، فتعين [الوجه الأول؛ أن] (ب) النبي - صلى الله عليه وسلم - نهاهم عن المؤاجرة في أول الأمر لحاجة الناس، وكون المهاجرين لم ¬

_ (أ) ساقط من النسخ. والمثبت من مصدر التخريج. (ب) في الأصل: الوجوه الأول أن، وفي جـ: الوجه الأول وأن.

يكن لهم أرض، فأمروا بالتكرم للمواساة، مثل ما نهوا عن ادخار لحوم الأضاحي ليتصدقوا بذلك، ثم بعد توسع الملك للمسلمين زال الاحتياج، فأبيح لهم المؤاجرة وتصرف المالك في ملكه بما شاء من إجارة أو غيرها، ويدل على ذلك ما وقع من المؤاجرة في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - والخلفاء الراشدين، ومن البعيد غفلتُهم عن النهي وترك إشاعة رافع لذلك في هذه المدة، وذكره في آخر خلافة معاوية، مع أنه قد رُوي عن عروة بن الزبير، عن زيد بن ثابت أنه قال: يغفر الله لرافع، أنا والله أعلم بالحديث منه، إنما أتاه رجلان من الأنصار قد اقتتلا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن كان هذا شأنكم فلا تُكْرُوا المزارع" (¬1). فهو مقيد بما حصل فيه الخصام، فهو محتمل أن يكون ذلك على وجه المشورة والإرشاد دون الإلزام والإيجاب، ولكنه يجاب عنه بأنه لما كان مثل هذه المؤاجرة تؤدي إلى الخصام، وكان وجه النهي والمنع والعقود المنهي عنها التي كان سبب النهي عنها الغرر ونحوه، إنما نهي عنها لأجل ما تفضي إليه من الخصام، وتعلق النهي بالمظنة وإن لم تحصل المائنة (¬2) في بعض المواد، فيكون وجه النهي عن هذه المزارعة هو ما قد يفضي إليه من الخصام، وهذا يقتضي فساد المعاملة إلا أن يمنع كون ذلك مظنة، وإنما هو أمر نادر فيتم الاحتجاج، وهذا حاصل ما ورد، والله أعلم. 738 - وعن ثابت بن الضحاك رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن المزارعة، وأمر بالمؤاجرة. رواه مسلم أيضًا (¬3). ¬

_ (¬1) أحمد 5/ 182، 187، وأبو داود 3/ 255 ح 3390، وابن ماجه 2/ 822 ح 2461، والنسائي 6217. (¬2) المائنة: المؤونة. اللسان (م ون). (¬3) مسلم، كتاب البيوع، باب في المزارعة والمؤاجرة 3/ 1184 ح 1549/ 119.

هو أبو زيد ثابت بن الضحاك بن أمية الخزرجي الأنصاري (¬1) كان رديف النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم الخندق ودليله إلى حمراء الأسد، وكان ممن بايع تحت الشجرة بيعة الرضوان وهو صغير، ومات في فتنة ابن (أ) الزبير، روى عنه أبو قلابة، وأمية بضم الهمزة وفتح الميم وتشديد الياء. تقدم الكلام في الحديث. 739 - وعن ابن عباس رضي الله عنه قال: احتجم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأعطى الذي حجمه أجره، ولو كان حرامًا لم يعطه. رواه البخاري (¬2). هذا اللفظ أخرجه البخاري في كتاب البيع وفي كتاب الإجارة (¬3) بلفظ: ولو علم كراهيةً (ب) لم يعطه. فقوله: ولو إلخ. كأنه قصد به ابن عباس الرد على من قال: إن كسب الحجام حرام. وقد اختلف العلماء بعد ذلك في هذه المسألة؛ فذهب الجمهور إلى أنه حلال، واحتجوا بهذا الحديث، وقالوا: هو كسب فيه دناءة، وليس بمحرم. فحملوا النهي عنه على التنزيه، ومنهم من ادعى النسخ وأنه كان حرامًا ثم أبيح. وجنح إلى ذلك الطحاوي (¬4)، وهذا مستقيم إذا عرف التاريخ والتأخر وإلا كان متعارضًا، واحتيج إلى الجمع بينهما بما ذكر، وذهب أحمد وجماعة إلى ¬

_ (أ) ساقطة من: ب. (ب) في جـ: كراهيته.

الفرق بين الحر والعبد فكرهوا للحر الاحتراف بالحجامة، ويحرم عليه الإنفاق على نفسه منها، ويجوز له الإنفاق على الرقيق والدواب، وأباحوها للعبد مطلقًا، وعمدتهم حديث محيصة أنه سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن كسب الحجام فنهاه، فذكر له الحاجة فقال: "اعلفه نواضحك". أخرجه مالك وأحمد وأصحاب "السنن" (¬1) ورجاله ثقات، وذكر ابن الجوزي (¬2) أن أجرة الحجام إنما كرهت لأنه من الأشياء التي تجب للمسلم على المسلم إعانته له عند الاحتياج إليه، فما كان ينبغي له أن يأخذ على ذلك أجرًا. وجمع ابن العربي (¬3) بين قوله - صلى الله عليه وسلم -: "كسب الحجام خبيث". وبين إعطائه الحجام أجرته، بأن محل (أ) الجواز ما (ب) إذا كانت الأجرة على عمل معلوم، ومحل الزجر ما إذا كانت على عمل مجهول. وفي الحديث دلالة على إباحة الحجامة، ويلتحق بها ما يتداوى به من إخراج الدم وغيره، وحل الأجرة على المعالجة بالطب. 740 - وعن رافع بن خديج رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "كسب الحجام خبيث". رواه مسلم (¬4). ¬

_ (أ) في جـ: يحمل. (ب) في جـ: بما.

قوله: "خبيث". [الخبيث] (أ) ضد الطيب، والحديث فيه دلالة على أنه يجتنب كسب الحجام، ولا يدل على تحريم الكسب، وإنما يدل على أنه ينبغي التنزه منه، وقد تقدم الخلاف في ذلك ولعله يمكن أن يتأول بهذا (ب) الحديث حديث: "من السحت كسب الحجام" (¬1). بأنه لعدم طيبه شبه بالسحت الذي هو الحرام فأطلق عليه، وقد يطلق السحت أيضًا على ما خبث من المكاسب فيكون في معنى الخبيث. 741 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "قال الله عزَّ وجلَّ: ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة؛ رجل أعطى بي ثم غدر، ورجل باع حرًّا فأكل ثمنه، ورجل استأجر أجيرًا فاستوفى منه ولم يعطه أجره" رواه مسلم (¬2). قوله: "خصمهم". الخصم مصدر خصمته أخصمه، نعت به للمبالغة، ووقع خبرًا عن المبتدأ كالعدل والصوم. وقوله: "أعطى بي". أي حلف باسمي وعاهد، أو أعطى الأمان باسمي، أو بما شرعته من ديني، وهو مجمع على تحريم الغدر والنكث، والأدلة عليه من الكتاب والسنة متظافرة ظاهرة، وكذلك بيع الحر وأكل الثمن فهو محرم بالإجماع. ¬

_ (أ) ساقطة من: الأصل، ب. (ب) في جـ: لهذا.

وقوله: "فاستوفى منه". أي استوفى عمل الأجير فيما استأجره لأجله، والله أعلم. 742 - وعن ابن عباس رضي الله عنه (أ): إن أحق ما أخذتم عليه أجرًا كتاب الله. أخرجه البخاري. هذا طرف من حديث ذكره البخاري هنا في الإجارة معلقًا موقوفًا، ووصله في كتاب الطب (¬1)، وفيه دلالة على أنه يجوز أخذ الأجرة على تعليم القرآن، وقد ذهب إلى ذلك عطاء ومالك والشافعي والقاسم وأبو ثور، وهو قول الجمهور، وسواء كان المتعلم كبيرًا أو صغيرًا، ولو تعين على المعلم، ويقوي هذا الحديث الذي يأتي في النكاح في جعل المهر تعليمها (ب) ما معه من القرآن (¬2)، وذهب الهدوية والزهري وأبو حنيفة وإسحاق بن راهويه إلى أنه لا يحل أخذ الأجرة ولا العوض على تعليم القرآن، واحتجوا بحديث عبادة بن الصامت أخرجه أبو داود (¬3)، ولفظه: علمت ناسًا من أهل الصفة الكتاب والقرآن فأهدى إليَّ رجل منهم قوسًا، فقلت: ليست بمال وأرمي عليه (جـ) في سبيل الله [لآتين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلأسألنه] (د)، فأتيته فقلت: يا رسول الله، رجل أهدى إليَّ قوسًا ممن كنت أعلمه القرآن والكتاب، ¬

_ (أ) زاد في الأصل: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وينظر تعليق المصنف الآتي. (ب) في جـ: تعليما. (جـ) في جـ: عليها. وفي مصدر التخريج: عنها. (د) ساقطة من النسخ. والمثبت من مصدر التخريج.

وليست بمال فأرمي عليها في سبيل الله؟ فقال: "إن كنت تحب أن تطوق طوقًا من نار فاقبلها". فهذا فيه دلالة على تحريم أخذ الأجرة على تعليم القرآن، وظاهره العموم سواء كان مما يتعين على المعلم أو لا؛ لأنه لم يستفصل الأمر في ذلك، وترك الاستفصال في مقام الاحتمال ينزل منزلة العموم، كما نص عليه الشافعي وبنى عليه جمع كثير من أهل الأصول. وأجاب الجمهور عن هذا الحديث بأنه كان متبرعًا بالتعليم، ناويًا للإحسان، غير قاصد لأخذ الأجر، فحذره النبي - صلى الله عليه وسلم - من إبطال أجره وتوعده، وكان سبيل عبادة في ذلك سبيل من رد ضالة لرجل أو استخرج له متاعًا قد غرق في البحر تبرعًا وحسبةً، فليس له أن يأخذ عليه عوضًا، ولو أنه طلب لذلك أجرة قبل أن يفعل حسبةً كان ذلك جائزًا، وفي أخذ العوض من أهل الصفة بخصوصهم كراهة ودناءة (أ)؛ فإنهم قوم فقراء كانوا يعيشون بصدقة الناس، فأخذ المال منهم مكروه، ودفعه إليهم مستحب. وبعضهم أجاب بأن هذا منسوخ بحديث ابن عباس، وأجيب بأن النسخ يحتاج إلى معرفة التاريخ وتأخر الناسخ، وقد يجاب عنه بأن حديث عبادة لا يعارض حديث ابن عباس، فإن ذلك حديث صحيح وله شواهد أيضًا، وهذا الحديث من رواية مغيرة بن زياد عن عبادة بن نُسيٍّ عن الأسود بن ثعلبة عنه، ومغيرة مختلف فيه، واستنكر أحمد حديثه (¬1)، وناقض الحاكم وصحح حديثه في "المستدرك" (¬2)، واتهمه به في موضع آخر (¬3) فقال: يقال: إنه حدث عن ¬

_ (أ) في جـ: ريادة.

عبادة بن نسي بحديث موضوع. والأسود بن ثعلبة (¬1) قال ابن المديني في كلامه على هذا الحديث: إسناده معروف إلا الأسود فإنه لا يحفظ عنه إلا هذا الحديث. كذا قال مع أن له حديثًا آخر من روايته عن عبادة بن الصامت أيضًا، رواه أبو الشيخ (¬2) في كتاب "ثواب الأعمال"، وثالثًا أخرجه الحاكم (¬3) عنه في النفساء تطهر، ورابعًا أخرجه البزار (¬4) في الفتن، كلاهما من حديث معاذ بن جبل ولم ينفرد به عن عبادة، بل تابعه ابن أبي أمية، رواه أبو داود والحاكم والبيهقي (¬5)، لكن قال البيهقي: اختلف فيه على عبادة؛ فقيل: عنه، عن الأسود بن ثعلبة. وقيل: عنه، عن جنادة. ورواه الدارمي (¬6) بسند على شرط مسلم من حديث أبي الدرداء، لكن شيخه عبد الرحمن بن يحيى بن إسماعيل (¬7) لم يخرج له مسلم، وقال فيه أبو حاتم (¬8): ما به بأس. وقال دُحَيم (¬9): حديث أبي الدرداء في هذا ليس له أصل. فمع هذا المقال في رواية هذا الحديث لا يعارض الحديث الثابت، وعلق البخاري (¬10) آثارًا عن الشعبي وعن الحكم وعن الحسن، ووصل ابن أبي شيبة (¬11) أثر الشعبي بلفظ: وإن أعطي شيئًا فليقبله. ولفظ البخاري: لا يشترط إلا أن يُعطَى فيقبل. ولفظ البخاري قول الحكم: لم أسمع أحدًا كره ¬

_ (¬1) الأسود بن ثعلبة، الكندي، الشامي، مجهول. التقريب ص 111، وينظر تهذيب الكمال 3/ 220. (¬2) التلخيص 4/ 8. (¬3) المستدرك 1/ 176. (¬4) البزار 7/ 80 ح 2631. (¬5) أبو داود 3/ 262 ح 3417، والحاكم 3/ 356، والبيهقي 6/ 125. (¬6) الدارمي -كما في نصب الراية 4/ 138 - ومن طريقه البيهقي 6/ 126. (¬7) عبد الرحمن بن يحيى بن إسماعيل بن عبيد الله بن أبي المهاجر المخزومي، أبو محمد الدمشقي ذكره ابن حبان في الثفات. الثقات 8/ 378، وتهذيب التهذيب 6/ 294. (¬8) الجرح والتعديل 5/ 302. (¬9) سنن البيهقي 6/ 126. (¬10) البخاري 4/ 452. (¬11) ابن أبي شيبة 6/ 221.

أجرة المعلم. وصله البغوي في "الجعديات" (¬1)، حدثنا علي بن الجعد عن شعبة: سألت معاوية بن قرة في أجر المعلم فقال: أرى له أجرًا. وسألت الحكم فقال: ما سمعت فقيهًا (أ) يكرهه. ولفظ البخاري قول الحسن: وأعطى الحسن عشرة دراهم. ووصله ابن سعد في "الطبقات" (¬2) من طريق يحيى بن سعيد بن أبي (ب) الحسن قال: لما حذقت (جـ) قلت لعمي: يا عماه، إن المعلم يريد شيئًا. قال: ما كانوا يأخذون شيئًا. ثم قال: أعطه خمسة دراهم. فلم أزل به حتى قال: أعطه عشرة دراهم. وروى ابن أبي شيبة (¬3) من طريق أخرى عن الحسن قال: لا بأس أن يأخذ على الكتابة أجرة. وكره الشرط. فائدة تلحق بأجر المعلم: قال البخاري (¬4) رحمه الله: ولم ير ابن سيرين بأجر القسام بأسًا، وكان يقال: السحت الرشوة في الحكم. وكانوا يعطون على الخرص. انتهى. قال الحافظ (¬5) رحمه الله تعالى في "شرحه": أما قوله في أجرة القسام فاختلفت الرواية عنه؛ فروى عبد بن حميد في "تفسيره" من طريق يحيى عن ابن سيرين أنه كان يكره أجور القسام، ويقول: كان يقال: السحت الرشوة على الحكم. وأرى هذا حكمًا يؤخذ عليه الأجر. وروى ¬

_ (أ) في مصدر التخريج: أحدًا. (ب) في الطبقات: أخي. (جـ) في جـ: حدثت.

ابن أبي شيبة (¬1) من طريق قتادة (أ) قال: قلت لابن المسيب: ما ترى في كسب القسام؟ فكرهه. وكان الحسن يكره كسبه، وقال ابن سيرين: إن لم يكن [خبيثًا] (5) فلا أدري ما هو. وجاءت عنه رواية يجمع بها بين هذا الاختلاف؛ قال ابن سعد (¬2): حدثنا عارم حدثنا حماد عن يحيى [عن] (جـ) محمد، هو ابن سيرين، أنه كان يكره أن يشارط القسام. فكأنه كان يكره له أخذ الأجرة على سبيل المشارطة، ولا يكرهها إذا كانت بغير اشتراط كما تقدم عن الشعبي، وظهر بما أخرجه ابن أبي شيبة أن قول البخاري: وكان يقال: السحت الرشوة. بقية كلام ابن سيرين، وأشار ابن سيرين بذلك إلى ما جاء عن عمر وعلي وابن مسعود وزيد بن ثابت من قولهم في تفسير السحت أنه الرشوة في الحكم. وأخرجه ابن جرير (¬3) بأسانيده عنهم وأورده من وجه آخر مرفوعًا ورجاله ثقات، ولكنه مرسل (¬4)، ولفظه: "كل لحم أنبته السحت فالنار أولى به". قيل: يا رسول الله، وما السحت؟ قال: "الرشوة في الحكم". والقسام بفتح القاف وهو الذي يقسم، وفي "شرح الكرماني" (¬5) بضم ¬

_ (أ) كذا في النسخ، والفتح 4/ 454. وفي المصنف: قتادة، عن يزيد الرشك، عن القاسم قال: قلت لسعيد .. وفي العلل ومعرفة الرجال 2/ 271، 272 وتغليق التعليق 3/ 285: قتادة، عن يزيد الرشك قال: قلت لابن المسيب ... ولعله الصواب. (ب) في النسخ، والفتح وتغليق التعليق: حسنا. والمثبت من مصدر التخريج. (جـ) في النسخ: بن. والمثبت من مصدر التخريج الفتح 4/ 454.

القاف جمع قاسم، والسحت بضم السين وسكون الحاء الهملتين، [وحكي ضم الحاء] (أ) وهو شاذ، وفسر بعضهم السحت بما يلزم من أكله العار، فهو أعم من الحرام، ويدخل فيه مثل كسب الحجام على ما تقدم إذا قيل بحله، والرشوة بفتح الراء وقد تكسر وتضم، وقيل: بالفتح المصدر، وبالكسر الاسم. وقوله: وكانوا يعطون على الخرص. وهو بفتح الخاء المعجمة وسكون الراء ثم صاد مهملة، هو الحزر وزنًا ومعنى. وكانوا يعطون أجرة الخارص، وفي ذلك دلالة على جواز أجرة القسام لاشتراكهما في أن كلَّا منهما يفصل التنازع يبن المتخاصمين، ولأن الخارص يقصد القسمة. وكره مالك أخذ الأجرة على عقد الوثائق لكونها من فروض الكفايات، وكره أيضًا أجرة القسام. وقيل: إنما كرهها لأنه كان يرزق من بيت المال، فكره له أن يأخذ أجرة أخرى. وأشار سحنون إلى الجواز عند فساد أمور بيت المال، وقال عبد الرزاق (¬1): أخبرنا معمر عن قتادة: أحدث الناس ثلاثة أشياء لم يكن يؤخذ عليهن أجر؛ ضراب الفحل، وقسمة الأموال، والتعليم. انتهى. وهذا مرسل وهو يشعر بأنهم كانوا قبل ذلك يتبرعون بها، فلما فشا الشح طلبوا الأجرة، فعد ذلك من غير مكارم الأخلاق، ولعله يحمل كراهة من قال بها على التنزيه والله أعلم. ثم ذكر البخاري (¬2) أخذ الأجرة على الرقية، وأخرج من حديث أبي ¬

_ (أ) ساقط من النسخ. والمثبت من الفتح 4/ 454.

سعيد قال: انطلق نفر من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سفرة سافروها حتى نزلوا على حي من أحياء العرب فاستضافوهم، فأبوا أن يضيفوهم، فلدغ -هو بالدال المهملة- سيد ذلك الحي، فسعوا له بكل شيء، لا ينفعه شيء، فقال بعضهم: لو أتيتم هؤلاء الرهط الذين نزلوا لعله أن يكون عندهم شيء. فأتوهم فقالوا: يا أيها الرهط، إن سيدنا لدغ، وسعينا له بكل شيء لا ينفعه، فهل عند أحد منكم من شيء؟ فقال بعضهم: نعم والله، إني لأرقي، ولكن والله قد استضفناكم فلم تضيفونا، فما أنا براق لكم حتى تجعلوا لنا جُعلًا. فصالحوهم على قطع من الغنم، فانطلق يتفل عليه ويقرأ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}. فكأنما نشمط من عقال، فانطلق يمشي وما به قلبة -أي علة- قال: فأوفوهم جُعلهم الذي صالحوهم عليه، فقال بعضهم: اقسموا. فقال الذي رقى: لا تفعلوا حتى نأتي النبي - صلى الله عليه وسلم - فنذكر له الذي كان، فننظر ما يأمرنا. فقدموا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذكروا له، فقال: "وما يدريك أنها رقية؟ ". ثم قال: "قد أصبتم، اقسموا واضربوا لي معكم سهمًا". فضحك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وإيراد البخاري لهذا الحديث في هذا الباب لتأييد جواز أخذ الأجرة على تعليم القرآن، وإن كان هذا ليس من باب التعليم، ولكن فيه دلالة على جواز أخذ العوض في مقابلة قراءة القارئ للقرآن تعليمًا أو غيره؛ إذ لا فرق بين قراءته للتعليم وقراءته للتطبيب، والله أعلم. 743 - وعن ابن عمر (أ) رضي الله عنهما (ب) قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أعطوا الأجير أجره قبل أن يجف عرقه". رواه ابن ماجه (¬1). وفي ¬

_ (أ) في جـ: عن عمر. (ب) في جـ: عنه.

الباب عن أبي هريرة رضي الله عنه عند أبي يعلى والبيهقي (¬1)، وجابر عند الطبراني (¬2)، وكلها ضعاف. حديث ابن عمر فيه عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، وحديث جابر فيه شرَقي بن قطامي ومحمد بن زياد الراوي عنه، وذكر البغوي في "المصابيح" (¬3) هذا الحديث [في] (أ) الحسان، وغلط بعض الحنفية فعزاه إلى "صحيح البخاري"، وليس فيه، وإنما فيه حديث أبي هريرة مرفوعًا: "ثلاثة أنا خصمهم". فذكر فيه: "ورجل استأجر أجيرًا فاستوفى منه ولم يعطه أجره" (¬4). والله أعلم. 744 - وعن أبي سعيد رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من استأجر أجيرًا فليسم (أ) له أجرته". رواه عبد الرزاق وفيه انقطاع، ووصله البيهقي من طريق (ب) أبي حنيفة (¬5). ¬

_ (أ) في الأصل: من. (ب) في ب: فليسلم. (جـ) زاد في جـ: ابن.

رواه من طريق أبي حنيفة عبد الله بن المبارك عن أبي حنيفة عن حماد عن إبراهيم عنه قال. وخالفه حماد بن سلمة فرواه عن حماد بن أبي سليمان عن إبراهيم عن أبي سعيد الخدري، وهو منقطع، وتابعه معمر عن حماد مرسلًا أيضًا (¬1). وقال عبد الرزاق (¬2): عن الثوري ومعمر عن حماد عن إبراهيم عن أبي هريرة وأبي سعيد أو أحدهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من استأجر أجيرًا فليَسُنَّ (¬3) له أجرته". أخرجه إسحاق في "مسنده" عن عبد الرزاق، وهو عند أحمد (¬4) وأبي داود في "المراسيل" (¬5) من وجه آخر، وهو في لفظ أبي حنيفة: "فليعطه أجره". فهو بهذا اللفظ مؤيد للحديث المتقدم في التوصية بإيفاء الأجير. وفي لفظ: "فليسم له أجره". أمر بتسمية الأجرة؛ لئلا تكون مجهولة فيؤدي إلى الشجار والخصام، ولفظ: "فلْيَسُنّ". في معنى: "فليسم". والله أعلم. ¬

_ (¬1) البيهقي 6/ 120. (¬2) عبد الرزاق 8/ 235 ح 15023 بلفظ: فليس. (¬3) سَنَّ الأمر سنًّا: إذا بيَّنه. تاج العروس (س ن ن). (¬4) أحمد 3/ 59. (¬5) أبو داود ص 133.

باب إحياء الموات

باب إحياء الموات الموات بفتح الميم والواو الخفيفة قال الفراء: الموات الأرض التي لم تعمر، شبهت العمارة بالحياة وتعطيلها بفقد الحياة، وإحياؤها هو عمارتها، فالإحياء استعارة أصلية، والموات استعارة أصلية [أيضًا] (أ)، وإحياؤه هو عمارة الأرض وسقيها وزرعها وغرسها وقلع ما فيها من الخَلَا (¬1) وتنقيتها ونحو ذلك، قال الإمام يحيى: الإحياء ورد مطلقًا من جهة الشرع، وما كان كذلك وجب الرجوع فيه إلى العرف؛ لأنه قد تبين مطلقات (ب) الشارع، كما قلنا في قبض المبيعات والحرز في السرقة مما يحكم به العرف، والمستعمل في الإحياء عرفًا هي أسباب خمسة؛ وهي تبييض الأرض وتنقيتها حتى تصلح للزرع أو غيره، وبناء الحائط على الأرض، وحفر الخندق القعير (¬2) الذي لا يطلع من نزله إلا بمطلع، وقالت الفقهاء الأربعة: ليس ذلك شرطًا، بل المعتبر فيه كالحائط؛ ما يمنع الداخل والخارج كما في الجَرِين (¬3) لا في غيره، والمسُنَّاة (¬4) للغدير من ثلاث جهات، والحفر في المعدن والبئر وإن لم يصل إلى الماء، واعتبر الإمام يحيى الوصول إلى الماء في البئر. 745 - وعن عروة عن عائشة رضي الله عنها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ¬

_ (أ) ساقطة من: ب. (ب) في جـ: مطلقا.

"من عمر أرضًا ليست لأحد فهو أحق بها". قال عروة: وقضى به عمر في خلافته. رواه البخاري (¬1). قوله: "عمر". بلفظ الفعل الثلاثي ذكره الحميدي (¬2) في "جامعه"، وكذا عند الإسماعيلي من وجه آخر عن يحيى بن بكير شيخ البخاري، وفي البخاري: "من أعمر" بفتح الهمزة والميم من الرباعي، قال القاضي عياض (2): كذا وقع والصواب: "عمر" ثلاثيًّا. قال الله تعالى: {وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا} (¬3). إلا أن يريد أنه جعل فيها عمارًا. قال ابن بطال (¬4): ويمكن أن يكون أصله: من اعتمر أرضًا. أي اتخذها، وسقطت التاء من الأصل. وقال غيره: قد سمع (أ) الرباعي، يقال (ب): أعمر الله بك منزلك. فالمراد (جـ): من أعمر أرضًا بالإحياء فهو أحق بها من غيره. وحذف متعلق "أحق" للعلم به (¬5)، ووقع (د) في رواية أبي ذر (¬6): "من أُعمر" بضم ¬

_ (أ) زاد في جـ: أبيه. ولعل الصواب: فيه. وينظر الفتح 5/ 20. (ب) في ب، جـ: فقال. (جـ) في جـ: يقال المراد. (د) سقط من: جـ.

الهمزة، أي: أعمره غيره، وكأن المراد بالغير هو الإمام. الحديث فيه دلالة على أن الإحياء مملك ولكنه شرط ألا يكون قد ملكها مسلم أو ذمي، وكذلك إذا كان تعلق بها حق للغير، وسواء كان الحق خاصًّا كالطريق المخصوص وكالمتحجر بما لا يفيد الملك، أو كان عامًّا كالمحتطب والمرعى والميدان وغير ذلك، وظاهر الحديث أنه لا يحتاج إلى إذن الإمام إلا على رواية "أعمر" [مغير الصيغة] (أ) كما عرفت، وهو قول الجمهور، وعن أبي حنيفة: لا بد من إذن الإمام مطلقًا، وعن مالك أنه يحتاج إلى إذن الإمام فيما قرب، وضابط القرب [أنه] (ب) ما بأهل القرية إليه حاجة من رعي ونحوه، واحتج الطحاوي (¬1) للجمهور مع هذا الحديث بالقياس على ماء البحر والنهر وما يصاد من طير وحيوان، فإنهم اتفقوا على أن أخذه لا يحتاج إلى إذن الإمام سواء قرب أو بعد، وسواء أذن أم لم يأذن. وأما ما تقدم عليها يد لغير معين ثم ماتت فلا يجوز إحياؤها إلا بإذن الإمام. ولا يمكن الكافر من الإحياء، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "عاديّ (¬2) الأرض لله ولرسوله ثم هي لكم" (¬3). فلا يمكن الكافر لأن الخطاب للمؤمنين، وأما ¬

_ (أ) غير منقوط في: ب، جـ. (ب) ساقطة من: ب.

إحياء ما تعلق به حق لغير معين كبطون الأودية فلا يجوز إلا بإذن الإمام بما لا ضرر فيه لمصلحة عامة، كذا ذكره بعض الهدوية، وقال أبو طالب: يجوز إحياؤها بغير إذن الإمام مع أنه يشترط في إحياء الموات إذن الإمام، قال: لأنها جارية مجرى الغيطة المباحة، وفرق بين بطون الأودية والأرض الموات لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "موتان (5) الأرض لله ولرسوله ثم هي لكم مني" (¬1) بخلاف بطون الأودية فإنه قال فيها: "من أحيا أرضًا ميتة فهي له". ولم يشترط إذنه فيها، فهذا هو الفرق عنده. ذكره الإمام يحيى عنه، وقال المؤيد بالله والإمام يحيى وأبو حنيفة: لا يجوز؛ لجريها مجرى الأملاك لتعلق [حق] (ب) المسلمين بها؛ إذ هي مجرى السيول. قال الإمام المهدي: وهو قوي، فإن تحول عنها جري الماء جاز إحياؤها بإذن الإمام لانقطاع الحق وعدم تعين أهله، وليس للإمام الإذن بعد ذلك إلا لمصلحة عامة لا ضرر فيها. وقال المؤيد بالله وأبو طالب: يحرم إحياء محتطب القرية ومرعاها لتعلق حقهم به، وهو مفهوم من قوله: "ليست لأحد". إذ هو يعم ما كان حقًّا وما كان ملكًا. قال المؤيد بالله: ومن فعل ملك وإن أثم. وحمل قوله على أنها متسعة بحيث لا ضرر، هكذا في "الانتصار" عن المؤيد بالله، وروى في "الزهور" عنه أنه لا إثم عليه، قيل: وهو قول الشافعي. وقال القاضي زيد: يفصل فإن أضر لم يجز، وإلا جاز. وجعل كلامه هذا تأويلًا لقول المؤيد بالله، قال الفقيه يحيى: وفي تأويله نظر؛ لأن المؤيد بالله صرح في الزيادات أنه يجوز وإن أضر بهم. ¬

_ (أ) في جـ: موات. (ب) في الأصل: سعوا، وفي ب: سعو. وفي جـ: سقط. وفي سبل السلام 3/ 115: سيول. ولعل المثبت أنسب للسياق.

وقوله: وقضى به عمر. هذا في حكم المرسل؛ لأن عروة ولد في آخر خلافة عمر، قال خليفة: وهو قضيةُ قولِ ابن أبي خيثمة؛ أنه كان يوم الجمل ابن ثلاث عشرة سنة؛ لأن يوم الجمل كان سنة ست وثلاثين، وعمر توفي سنة ثلاث وعشرين. وروى أبو أسامة عن هشام بن عروة عن أبيه قال: رددت يوم الجمل؛ استصغرت (¬1). 746 - وعن سعيد بن زيد رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من أحيا أرضا ميتة فهي له". رواه الثلاثة (¬2)، وحسنه الترمذي وقال: روي مرسلًا. وهو كما قال، واختلف في صحابيه (أ)، فقيل: جابر. وقيل: عائشة. وقيل: عبد الله بن عمر. والراجح (ب) الأول. وهو أبو الأعور سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل، بضم النون وفتح الفاء، العدوي القرشي، أحد العشرة المشهود لهم بالجنة، أسلم قديمًا قبل أن يدخل النبي - صلى الله عليه وسلم - دار الأرقم، وشهد المشاهد كلها مع النبي - صلى الله عليه وسلم - غير بدر، فإنه كان مع طلحة بن عبيد الله يطلبان خبر عير قريش، وضرب له النبي - صلى الله عليه وسلم - ¬

_ (أ) في ب، جـ: صحابته. (ب) في جـ: الأرجح.

بسهم، كان آدمَ طويلًا أشعر، مات بالعقيق قريبًا من المدينة، فحمل إليها، ودفن بها سنة إحدى وخمسين، وقيل: سنة اثنتين وخمسين. وله بضع وسبعون سنة. وقيل: مات بالكوفة ودفن بها. يلقى النبي - صلى الله عليه وسلم - في كعب بن لؤي، روى عنه عمرو بن حُرَيث -بحاء مهملة مضمومة وفتح الراء المهملة وسكون الياء المنقوطة باثنتين من أسفل وبالثاء المثلثة- وعروة بن الزبير، وقيس بن أبي (أ) حازم، وعباس بن سهل بن سعد (¬1). الحديث أخرجه أبو داود عن سعيد بن زيد من رواية هشام، عن أبيه عروة، عن سعيد. وأخرجه أيضًا من رواية ابن إسحاق (¬2)، عن يحيى بن عروة، عن أبيه مرسلًا، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذكر مثله. قال: فلقد خبرني الذي حدثني هذا الحديث أن رجلين اختصما إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، غرس أحدهما نخلًا في أرض الآخر، فقضى لصاحب الأرض بأرضه، وأمر صاحب النخل أن يخرج نخله منها. قال: فلقد رأيتها وإنها لتُضرب أصولها بالفئوس، وإنها لنخل عُمٌّ (¬3)، حتى أخرجت منها. وأخرجه أحمد والعدني وأبو يعلى وابن أبي عاصم والبيهقي والضياء (¬4)، عن (ب) سعيد بن زيد. ¬

_ (أ) ساقطة من: جـ. (ب) في جـ: أيضًا عن.

وأخرجه الشافعي ومالك عن [كثير] (أ) بن عبد الله المزني، عن أبيه، عن جدِّه (¬1). وأخرجه البيهقي (¬2) عن عروة أيضًا مرسلًا. وأخرجه العسكري في "الأمثال" عن ابن عمر. تقدم الكلام على فقه هذا الحديث. 747 - وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن الصعب بن جَثَّامة رضي الله عنه أخبره أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا حمى إلا لله ولرسوله". رواه البخاري (¬3). الحمى مقصور وممدود، والأكثر القصر، وهو المكان المحمي، وهو خلاف المباح، والمراد هنا هو منع الرعي في أرض مخصوصة من المباحات، فيجعلها الإمام مخصوصة برعي بهائم الصدقة مثلًا، وأصله عند العرب، أن الرئيس منهم كان إذا نزل منزلًا مخصبًا استعوى كلبًا على مكان عالٍ، فإلى حيث انتهى صوته حماه من كل جانب، فلا يرعى فيه غيره، [ويرعى هو مع غيره] (ب) فيما سواه، وهذه كانت عادة جاهلية أماتها الإسلام. والحديث فيه دلالة على أن جواز الحمى مختص بالرسول، قال الشافعي: يحتمل معنى الحديث شيئين؛ أحدهما: ليس لأحد أن يحمي للمسلمين إلا ما حماه ¬

_ (أ) في النسخ: سعيد. وتقدم ح 704. (ب) ساقط من: الأصل.

النبي - صلى الله عليه وسلم -، والآخر معناه: إلّا على مثل ما حماه عليه النبي - صلى الله عليه وسلم -. فعلى الأول ليس لأحد من الولاة بعده أن يحمي، وعلى الثاني يختص الحمى بمن (أ) قام مقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو الخليفة خاصة، وأخذ أصحاب الشافعي من هذا أن له في المسألة قولين، والراجح عندهم الثاني، والأول أقرب إلى ظاهر اللفظ، لكن رجحوا الثاني بما ذكره البخاري (¬1) عن الزهري تعليقًا، أن عمر حمى الشرف (ب) والربذة. وهو بالشين (جـ) المعجمة المفتوحة والراء بعدها والفاء في المشهور. وذكر عياض (¬2) أنه [عند] (د) البخاري بفتح المهملة وكسر الراء. قال: وفي "موطأ ابن وهب" بفتح [المعجمة] (هـ) والراء. قال: وكذا رواه بعض رواة البخاري أو أصلحه، وهو الصواب. وأما سرف بكسر الراء فهو موضع بقرب مكة ولا تدخله الألف واللام، والربذة بفتح الراء والموحدة بعدها ذال معجمة، موضع معروف بين مكة والمدينة. وقد أخرج أيضًا ابن أبي شيبة (¬3) بإسناد صحيح عن نافع عن ابن عمر، أن عمر حمى الربذة لنعم الصدقة. ولكن الأرجح عند الشافعية أن الحمى يختص بالخليفة، ومنهم من ألحق به ولاة الأقاليم، إلا أنه يشترط ألا يضر بكافة المسلمين. والنبي - صلى الله عليه وسلم - حمي النقيع -بالنون- وهو على عشرين فرسخًا من المدينة، وقدره ¬

_ (أ) في جـ: لمن. (ب) في جـ: السرف. (جـ) في جـ: بالسين. (د) في النسخ: عن. والتصويب من الفتح. (هـ) في النسخ: المهملة. والتصويب من الفتح.

ميل في ثمانية أميال. ذكر ذلك ابن وهب في "موطئه" (¬1). وأصل النقيع كل موضع يستنقع فيه الماء، وهو غير نقيع [الخَضِمات] (أ) الذي جَمَّع فيه أسعد بن زرارة بالمدينة. وحكى ابن الجوزي (1) أن بعضهم قال: إنهما واحد. قال: والأول أصح. قال الإمام المهدي في "البحر": وكان للنبي - صلى الله عليه وسلم - أن يحمي لنفسه وللمسلمين، لكنه - صلى الله عليه وسلم - لم يحم لنفسه؛ إذ لم يملك ما يُحْمى لأجله. ثم قال الإمام يحيى، والمذهب، ومالك، والفريقان: ولا يحمي الإمام لنفسه، بل لخيل المجاهدين وأنعام الصدقة ومن ضعف من المسلمين عن الانتجاع؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا حمى" الحديث. وإذ حمى عمر موضعًا وولى عليه مولاه هُنيًّا، وأمره بألا يمنع رب الصُّرَيمة -تصغير صِرْمة، وهي ما بين الثلاثين إلى العشرين (ب) من الإبل، أو من العشر إلى أربعين- والغُنَيمة. والقصة مشهورة، انتهى. والقصة أخرجها مالك، وأبو (جـ) عبيد في "الأموال"، وابن أبي شيبة، والبخاري، والبيهقي (¬2)، عن أسلم، أن عمر بن الخطاب استعمل مولى له يسمى هُنيًّا على الحمى؛ فقال له: يا هُنَيُّ، اضمم جناحك عن المسلمين، واتق دعوة المظلوم؛ فإن دعوة المظلوم مجابة، وأدخل رب الصُّرَيمة والغُنَيمة، وإيَّايَ ونَعَم ابن عوف ونَعَم ابن عفان؛ فإنهما إن تهلك ماشيتهما يرجعان (د) إلى نخل وزرع، وإن رب ¬

_ (أ) في الأصل: الحصمان، وفي ب: الخصمات. وينظر النهاية 2/ 44، 5/ 108، ومعجم البلدان 2/ 452، 4/ 808. (ب) في ب: العشر. وينظر النهاية 3/ 27. (جـ) في جـ: ابن. (د) في البخاري: يرجعا. ورفع جواب الشرط، وإن كان فعل الشرط مضارعا لغة. النحو الوافي 4/ 474.

الصُّريمة والغُنَيمة إن تهلك ماشيتهما يأتيني (أ) ببنيه يقول: يا أمير المؤمنين. أفتاركهم أنا لا أبا لك؟! فالكلأ أيسر علي من الذهب والورِق، وايم الله، إنهم يرون أني ظلمتهم؛ إنها لبلادهم، قاتلوا عليها في الجاهلية، وأسلموا عليها في الإسلام، والذي نفسي بيده، لولا المال الذي أحمل عليه في سبيل الله، ما حمَيت على الناس في بلادهم. انتهى. فهذا تصريح منه رضي الله عنه أن الحِمى إنما هو لمصلحة المسلمين، فلا يجوز أن يحمي لنفسه، ولا لأحد غير الإمام أن يفعل ذلك. والله أعلم. 748 - وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا ضرر (ب) ولا ضرار". رواه أحمد وابن ماجه (¬1). وله من حديث أبي سعيد مثله، وهو في "الموطأ" مرسل (¬2). وأخرج الحديث الطبراني (¬3) عن ابن عباس رضي الله عنهما، وأخرجه ابن ماجه والبيهقي (¬4)، عن عبادة بن الصامت، والطبراني في "الكبير" وأبو نعيم (¬5)، عن ثعلبة بن مالك القرظي، وأخرجه مالك، عن عمرو بن يحيى ¬

_ (أ) في البخاري: يأتني. (ب) في النسخ: ضر. والمثبت من مصادر التخريج.

المازني عن أبيه مرسلًا بزيادة: "من ضارَّ ضارَّه الله، ومن شاقَّ شَقَّ الله عليه" (¬1). وأخرجه بالزيادة الدارقطني والحاكم والبيهقي (¬2)، عن أبي سعيد مرفوعًا. وأخرجه عبد الرزاق (¬3) وأحمد (¬4) أيضًا عن ابن عباس بزيادة: "وللرجل أن يضع خشبته في حائط جاره، والطريق الميتاء سبعة أذرع". وقوله: "لا ضرر". الضرُّ ضد النفع، تقول: ضرَّه يضره ضرًّا وضرارًا، وأضر به يضر ضرارًا. فمعنى قوله: "لا ضرر". أي لا يضر الرجل أخاه، فينقصه شيئًا من حقه، والضرار فعال من الضر، أي لا يجازيه على إضراره بإدخال الضرر عليه، [والضرر] (أ) فعل الواحد، والضرار فعل الاثنين. [والضرر] (أ) ابتداء الفعل، والضرار الجزاء عليه. وقيل: الضرر ما تضر به صاحبك وتنتفع أنت به، والضرار أن تضره من غير أن تنتفع. وقيل: هما بمعنى، وتكرارهما للتأكيد. والحديث فيه دلالة على تحريم الضرر؛ لأنه إذا نفي (ب) ذات الضرر دل على النهي عنه، إذ النهي لطلب الكف عن الفعل، وهو يلزم منه عدم ذات الفعل، فاستعمل اللازم في الملزوم. وتحريم الضر معلوم عقلًا وشرعًا، إلا ما دل الشرع على إباحته، رعاية للمصلحة التي تربو على مفسدة الضر، مثل إقامة الحدود وغيرها كما ذلك معلوم في تفاصيل الشريعة. وفي عطف: ¬

_ (أ) في النسخ: الضر. والمثبت من النهاية 3/ 81، 82. (ب) في جـ: بقي. (جـ) في جـ: الأخير.

"وللرجل" إلخ (أ). كما في رواية عبد الرزاق، تنبيه أن ذلك ليس بإضرار بجدار الجار، وأنه نفع بما لا يضر، وإن أوهم الضر. والله أعلم. 749 - وعن سمُرة بن جندب رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من أحاط حائطًا على أرض فهي له". رواه أبو داود (¬1)، وصححه ابن الجارود (¬2). وأخرجه أحمد والطبراني والبيهقي (¬3) من حديث الحسن عنه، وفي صحة سماعه منه خلاف. ورواه عبد بن حميد من طريق سليمان اليشكري عن جابر. الحديث فيه دلالة على أن عمارة الأرض المحياة مُملكة للعامر كما تقدم، والمراد بالأرض في قوله: "على أرض". هي الأرض المباحة، وذلك معلوم. 750 - وعن عبد الله بن مغفل رضي الله عنه، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من حفر بئرًا فله أربعون ذراعًا عطنًا (¬4) لماشيته". رواه ابن ماجه (¬5) بإسناد ضعيف. ¬

_ (أ) في جـ: الأخير.

في الإسناد إسماعيل بن مسلم (¬1). وقد أخرجه الطبراني من طريق [أشعث] (أ) عن الحسن. وفي الباب عن أبي هريرة عند أحمد (¬2): "حريم البئر البَدِيء خمسة وعشرون ذراعًا وحريم البئر العاديِّ خمسون ذراعًا". والبديء بفتح الموحدة وكسر الدال بعدها مدة وهمزة، هي التي ابتدأتها أنت، والعاديَّة القديمة. وقال في "النهاية" (¬3): البديء بوزن البديع، البئر التي حفرت في الإسلام وليست بعاديَّة قديمة. وأخرجه الدارقطني (¬4) من طريق سعيد بن المسيب عنه، وأعله بالإرسال، وقال: من أسنده فقد وهم. وفي سنده محمد بن يوسف المقري شيخ شيخ الدارقطني، وهو متهم بالوضع، وأطلق عليه [ذلك] (ب) الدارقطني وغيره (¬5). ورواه البيهقي (¬6) من طريق يونس عن الزهري عن ابن المسيب مرسلًا، وزاد: "وحريم بئر الزرع ثلاثمائة ذراع من نواجيها كلها". ورواه (¬7) ¬

_ (أ) في ب: أشعب. (ب) ساقطة من النسخ، والمثبت من التلخيص الحبير 3/ 63.

من طريق مراسيل أبي داود أيضًا. وأخرجه الحاكم (¬1) من حديث أبي هريرة موصولًا ومرسلًا، والموصول من طريق عمر بن قيس عن الزهري، وعمر فيه ضعف (¬2). ورواه البيهقي (¬3) من وجه آخر عن أبي هريرة، وفيه رجل لم يسم. الحديث فيه دلالة على ثبوت حريم البئر، والمراد بالحريم أنه يمنع المحيي والمحتفر لإضراره. وفي "النهاية" (¬4): سُمِّي بالحريم لأنه يَحْرُم منع صاحبه منه (أ)، [أو] (ب) لأنه يحرم على غيره التصرف فيه. وهذا نص في حريم البئر. وظاهر حديث عبد الله أن العلة في ذلك هو ما يحتاج إليه صاحب البئر عند سقي إبله، لاجتماعها على الماء، وحديث أبي هريرة يدل على أن العلة في ذلك هو ما يحتاج إليه البئر، لئلا تحصل المضرة عليها بقرب الإحياء منها، ولذلك اختلف الحال في البديء والعادي. وفيما رواه في "شرح مختصر الحنفية" (¬5): حريم (ب) بئر العطن أربعون ذراعًا، وحريم بئر الناضح ستون ذراعًا. وذهب إليه أبو يوسف ومحمد. كذلك دلالة على اختلاف حال ¬

_ (أ) في جـ: فيه. (ب) في النسخ: و. والمثبت من النهاية. (جـ) بعده في جـ: ثم.

البئر في العمق، فيكون الحريم على قدر ذلك لحاجة البئر إليه، ويمكن أن يجمع بين هذه الأحاديث، [ويؤخذ من ذلك] (أ) قدر مشترك بينها، وهو ما يحتاج إليه؛ إما لأجل البئر أو لسقي الماشية. وقد اختلف الأئمة في ذلك؛ فذهب الهادي وأبو حنيفة والشافعي إلى أن حريم البئر الإسلامية أربعون ذراعًا، وذهب أحمد بن حنبل إلى أن الحريم خمسة وعشرون، ويقاس على البئر غيرها مثل العين، وقد ذهب الهادي وأبو يوسف إلى أن حريم العين الكبرى الفوارة خمسمائة ذراع من كل جانب، استحسانًا، وكأنه نظر إلى ذلك في أرض رخوة، تحتاج إلى ذلك القدر، وأما في الأرض الصلبة فدون ذلك. وبهذا تأول أبو طالب إطلاق كلام الهادي وهو الأولى، إذ ثبوت ذلك بالقياس على البئر، وكذلك الدار المنفردة حريمها فناؤها، وهو مقدار أطول جدار في الدار. وقيل: ما تصل إليه الحجارة إذا انهدمت. وقد ذهب إلى هذا زيد بن علي وغيره من الأئمة، وحريم النهر قدره ما يُلقَى فيه طينُ كَشحِه، صرح بذلك الهدوية. وقال أبو يوسف: مثل نصفه من كل جانب. وقال محمد بن الحسن: بل بقدر أرض النهر جميعًا. وكذا الأرض، حريمها ما يحتاج إليه وقت عملها، وإلقاء كَسْحِها. وكذا المسيل، حريمه مثل النهر، على الخلاف، وثبوت هذا جميعه بالقياس على البئر بجامع الحاجة، وهذا في الأرض المباحة، وأما الأرض المملوكة فلا حريم في شيء من ذلك، بل لكل أن يفعل في ملكه ما شاء. والله أعلم. 751 - وعن علقمة بن وائل، عن أبيه، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أقطعه أرضًا ¬

_ (أ) ساقط من: جـ.

بحضرموت. رواه أبو داود، والترمذي، وصححه ابن حبان (¬1). وصحح الحديث الترمذي والبيهقي (¬2)، وعنده قصة لمعاوية (أ) معه في ذلك، وأخرجه الطبراني (¬3). قوله: أقطعه أرضًا. أي جعل الأرض له قطيعة، والمراد به أنه خصه (ب) ببعض الأرض الموات، فيختص به، ويصير أولى بإحيائه ممن لم يَسبق إلى إحيائه. واختصاص الإقطاع بالموات متفق عليه في كلام الشافعية والهدوية وغيرهم، كما أطلقه الإمام المهدي في "البحر" قال: مسألة: وللإمام إقطاع الموات، لإقطاع النبي - صلى الله عليه وسلم - الزبير حُضْر فرسه، ولفعل أبي بكر وعمر. انتهى. وحكى القاضي عياض أن الإقطاع تسويغ الإمام من مال الله شيئًا لمن يراه أهلًا لذلك. قال: وأكثر ما يستعمل في الأرض، وهو أن يُخرج منها لمن يراه ما يحوزه، إما بأن يملكه إياه فيعمره، وإما بأن يجعل له غلته مدة. انتهى. قال السبكي: والثاني هو الذي يسمى في زماننا هذا إقطاعًا، ولم أر أحدًا من أصحابنا ذكره، وتخريجه على طريق فقهي مشكل. قال: والذي يظهر أنه يحصل للمقطع بذلك اختصاص كاختصاص المتحجر، ولكنه لا ¬

_ (أ) في جـ: بمعاوية. (ب) في جـ: خص.

يملك الرقبة بذلك. انتهى. وبهذا جزم المحب الطبري. وادعى الأذرعي نفي الخلاف في جواز تخصيص الإمام بعض الجند بغلة أرض، إذا كان مستحقًّا لذلك، وقال ابن التين: إنما يسمى إقطاعًا إذا كان من أرض أو عقار، وإنما يقطع من الفيء ولا يقطع من حق مسلم ولا معاهد. قال: وقد يكون الإقطاع تمليكًا وغير تمليك، وعلى الثاني يحمل إقطاعه - صلى الله عليه وسلم - الدور؛ أي أنزل المهاجرين دور الأنصار برضاهم. انتهى. قال في "البحر": وللإمام أيضًا إقطاع بقاع في الأسواق والطرق الواسعة، بغير إضرار؛ بأن يقطع حق من سبق إليها، بعد رفع قماشه (¬1)، ويجعل غيره أولى فلا يستحق العود إليها، بل المُقْطَع أحق. قلت: ووجهه القياس على حق المتحجر. (أوفيه نظر. انتهى. ولعل وجه النظر: أن المتحجر إنما للإمام إبطال حق المتحجر أ) دفعًا للضرر عن (ب) المسلمين؛ لعدم إحياء المتحجر، وهنا لا ضرر عليهم، والأولى أن يقال: إن البقاع لما كان الحق فيها للمسلمين على العموم، أشبهت المباح، وكان للإمام أن يقطع ما لا ضرر فيه للمصلحة. والله أعلم. 752 - وعن ابن عمر رضي الله عنهما، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أقطع الزبير حُضْر فرسه، فأجرى الفرس حتى قام، ثم رمى بسوطه، فقال: "أعطوه حيث بلغ السوط". رواه أبو داود وفيه ضعف (¬2). وأخرجه أحمد (¬3) من حديث أسماء بنت أبي بكر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أقطع ¬

_ (أ- أ) ليس في: ب. (ب) في ب: على.

الزبير أرضًا من أموال بني النضير. وقوله: حضر فرسه. بضم الحاء وإسكان الضاد المعجمة، هو العدو. وقوله: ثم رمى بسوطه. أي بعد أن قام الفرس ولم يَعْدُ، رمى سوطه طلبًا للزيادة على مقدار حضر الفرس فزاده النبي - صلى الله عليه وسلم - قدر ذلك، والله أعلم. 753 - وعن رجل من الصحابة رضي الله عنه قال: غزوت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فسمعته يقول: "الناس شركاء في ثلاث؛ الكلأ والاء والنار". رواه أحمد وأبو داود ورجاله ثقات (¬1). ورواه أحمد في "المسند" من حديث أبي خداش أنه سمع رجلًا من المهاجرين (أ) الحديث، بلفظ: "المسلمون شركاء". ورواه أبو نعيم في "الصحابة" (¬2) في ترجمة أبي خداش، ولم يذكر الرجل. وقد سئل أبو حاتم (¬3) عنه فقال: أبو خداش لم يدرك النبي - صلى الله عليه وسلم -. وهو كما قال، فقد سماه أبو داود في روايته حبان بن زيد الشامي، وهو الشرعبي (¬4)، من قريش، وهو تابعي معروف. وروي من حديث ابن عباس (¬5) أيضًا بلفظ: "المسلمون". ¬

_ (أ) بعده في جـ: قال.

وفيه عبد الله بن خراش وهو متروك (¬1)، وقد صححه ابن السكن، ورواه الخطيب في "الرواة عن مالك" عن نافع عن ابن عمر وزاد: "والملح". وفيه: [عبد الحكم] (أ) بن ميسرة راويه عن مالك وهو عند الطبراني بسند حسن عن زيد بن جبير عن ابن عمر كالأول، وله عنده طرق أخرى. ولابن ماجه (¬2) من حديث أبي هريرة بسند صحيح: "ثلاث لا تمنعهن (ب)؛ الماء والكلأ والنار". ولأبي داود (¬3) من حديث بُهَيْسة، عن أبيها، أنه قال: يا رسول الله، ما الشيء الذي لا يحل منعُه؟ قال: "الماء". ثم أعاد، فقال: "الملح". وفيه قصة. وأعله عبد الحق (¬4) وابن القطان بأنها لا تعرف، لكن ذكرها ابن حبان وغيره في الصحابة (¬5)، ولابن ماجه (¬6) من حديث عائشة أنها قالت: يا رسول الله، ما الشيء الذي لا يحل منعه؟ قال: "الملح والماء والنار" الحديث. وإسناده ضعيف. وللطبراني في "الصغير" (¬7) من حديث أنس: "خصلتان لا يحل منعهما؛ الماء والنار". قال أبو حاتم في "العلل" (¬8): هذا حديث منكر. وللعقيلي في "الضعفاء" (¬9) عن عبد الله ¬

_ (أ) في النسخ: عند الحاكم. والمثبت من التلخيص الحبير 3/ 65. وينظر ميزان الاعتدال 2/ 537. (ب) في الأصل، جـ: يمنعهن. وفي مصدر التخريج: يمنعن.

ابن سرجس نحو حديث بهيسة. ولابن ماجه (¬1) من حديث ابن عباس وزاد فيه: "وثمنه حرام". وروى ابن ماجه (¬2) من طريق سفيان عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا: "ثلاث لا يمنعن (أ)؛ الماء والكلأ والنار". وإسناده صحيح. قوله: "الكلأ". قال أهل اللغة (¬3): الكلأ، مهموز مقصور، هو النبات، سواء كان رَطْبًا أو يابسًا، وأما الحشيش والهشيم فمختص باليابس، وأما الخلا فمقصور غير مهموز، والعشب فمختص بالرَّطْب، ويقال له أيضًا: الرُّطْب. بضم الراء وإسكان الطاء. و "الماء" ظاهر معناه. و "النار" قيل: أراد بها الشجر الذي يحتطبه الناس. وقيل: المراد بالنار هنا هو الاستصباح من النار والاستضاءة بضوئها. وقيل: المراد بها الحجارة التي توري النار إذا كانت في موات. والمراد بالكلأ هنا هو الكلأ الذي يكون في الأرض المباحة والجبال الذي لم يحرزه (ب) أحد بقطعه، فليس لأحد أن يتملكه وهو في منابته، والظاهر أن ذلك إجماع، وما تقدم من الحمى للإمام ونحوه فهو ليس من باب التمليك، وإنما هو من رعاية المصلحة العامة وتقديمها على الخاصة. وأما النابت في الأرض المملوكة والمتحجرة ففيه خلاف بين العلماء؛ فعند الهدوية وغيرهم أن ذلك مباح؛ من سبق إلى قطعه كان له، وظاهر الحديث العموم فهو حجة لهم، وعند المؤيد بالله وغيره أن ذلك تابع للأرض النابت فيها؛ ¬

_ (أ) في ب: يمنعهن. (ب) في جـ: يحزه.

فإن كانت مملوكة كان ملكًا لصاحبها، وإن كانت وقفًا كان له حكم غلة الأرض الموقوفة، وإن كانت مباحة كان مباحًا، ولعله نظر إلى أن ذلك نماء الأرض فيكون تابعًا لأصله ويجعل (أ) ذلك مخصوصًا من عموم الحديث قياسًا على المتفق عليه من سائر نماء الأشياء المملوكة، والتخصيص بالقياس صحيح. وأما الكلام في إباحة الماء وتملكه فقد تقدم (¬1) في ذلك شطر صالح، وهو باق على عمومه في حق الشرب لبني آدم وغيرهم من الحيوان والاستعمال به. وأما النار فإن كانت من الحطب المملوك (ب فجرم الجمر ب) يكون حكمه حكم أصله، ولعله يجيء فيه الكلام الذي في الماء، وذلك لعموم الحاجة إلى النار، وتسامح الناس بذلك في العادة، وقد فسر "الماعون" في قوله تعالى: {وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} (¬2). بالماء والملح والنار، وإن كان المراد بها الضوء فذلك اتفاق أنه لا يختص به صاحبه، وأن للغير الاستضاءة بذلك، لأنه لم يأخذ شيئًا من ملك غيره وإنما أجزاء الهواء اكتست النور، والله أعلم. ¬

_ (أ) في ب: ويكون. (ب) في ب، جـ: فالجمر.

باب الوقف

باب الوقف الوقف في اللغة بمعنى الحبس، يقال: وقفت كذا. أي: حبسته. وأوقفته لغة رديئة، وهو في الشرع حجر مال يمكن الانتفاع به مع بقاء عينه؛ بقطع التصرف في رقبته على تصرف مباح. وجمعه وقوف وأوقاف، وهو قربة مندوب إليها. 754 - عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلا من ثلاث؛ من صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له". رواه مسلم (¬1). الحديث فيه دلالة على أنه لا ينقطع ثواب هذه الثلاثة الأشياء بالموت، وأنه يجري بعد الموت، قال العلماء رحمهم الله تعالى: معنى الحديث أن عمل الميت ينقطع بموته وينقطع تجدد الثواب له إلا في هذه الأشياء الثلاثة؛ لكونه [كان سببها] (أ)؛ فإن الولد من كسبه، وكذلك الذي خلَّفه من تعليم أو تصنيف، وكذلك الصدقة الجارية وهي الوقف. وفيه دلالة على فضيلة الزواج لرجاء ولد صالح، وسيأتي في كتاب النكاح إن شاء الله تعالى، اختلاف أحوال الناس فيه (¬2)، وعلى فضيلة العلم والحث على الاستكثار منه، والترغيب في توريثه بالتعليم والتصنيف والإيضاح، وأنه ينبغي أن يختار من العلوم الأنفع فالأنفع، وعلى أن الدعاء ¬

_ (أ) في الأصل: كاسبها.

يصل ثوابه إلى الميت من الولد، وكذلك غيره؛ وهو الصدقة وقضاء الدين، وهو مجمع على ذلك، وأما الحج فيجزئ عن الميت وإن كان بغير وصية عند الشافعي. وذهب إليه المنصور بالله، وهو داخل في قضاء الدين إذا كان واجبًا، كما في خبر الخثعمية وقد تقدم (¬1)، وإن كان تطوعًا، فإن كان بوصية فهو كغيره من الوصايا، وإن كان بغير وصية فهو كذلك من الولد، وقد تقدم ذلك (¬2)، وأما الصيام فكذلك تقدم الكلام فيه (¬3)، وأما قراءة القرآن وجعل ثوابها للميت فقد تقدم ذلك في آخر الجنائز (¬4). 755 - وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: أصاب عمر أرضًا بخيبر فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - يستأمره فيها، فقال: يا رسول الله، أصبت أرضًا بخيبر، لم أصب مالًا قط هو أنفس عندي منه. قال: "إن شئت حبست أصلها وتصدقت بها". قال: فتصدق بها عمر؛ أنه لا يباع أصلها ولا يورث ولا يوهب، فتصدق بها في الفقراء، وفي القربى، وفي الرقاب، وفي سبيل الله، وابن السبيل، والضيف، لا جناح على من وليها أن يأكل منها بالمعروف، أو يُطعم صديقًا غير متموِّل مالًا. متفق عليه، واللفظ لمسلم، وفي رواية البخاري: "تصدق بأصله؛ لا يباع ولا يوهب ولكن ينفق ثمره" (¬5). قوله: أصاب أرضًا. اسم الأرض ثَمَغُ، بالثاء المثلثة المفتوحة وفتح الميم. ¬

_ (¬1) تقدم 5/ 185 ح 554. (¬2) ينظر ما تقدم في 5/ 194. (¬3) ينظر ما تقدم في 5/ 94 - 98. (¬4) ينظر ما تقدم في 4/ 275 - 278. (¬5) البخاري، كتاب الشروط، باب الشروط في الوقف، وكتاب الوصايا، باب ما للموصي أن يعمل في مال اليتيم 5/ 354، 355، 392 ح 2737، 2764، ومسلم، كتاب الوصية، باب الوقف 3/ 1255 ح 1632.

كذا في "الفائق" (¬1). وفي "شرح مسلم" (¬2) بسكون الميم والغين المعجمة، وقد صرح به البخاري (¬3) في رواية، ولأحمد (¬4) من رواية أيوب، أن عمر أصاب أرضا من يهود بني حارثة يقال لها: ثمغ. ونحوه (أ)، وفي رواية ابن [شبة] (ب) بإسناد صحيح أن عمر رأى في المنام ثلاث ليالٍ أن يتصدق بثمغَ. وفي رواية النسائي (¬5): جاء عمر فقال: يا رسول الله، إني أصبت مالًا لم أصب مثله قط كان لي مائة رأس فاشتريت بها مائة سهم من خيبر من أهلها. فيحتمل أن يكون ثمغ من جملة أراضي خيبر، وأن مقدارها مائة سهم من السهام التي قسمها النبي - صلى الله عليه وسلم - بين من شهد خيبر، وهذه المائة سهم غير التي كانت لعمر بن الخطاب بخيبر التي حصلها من الغنيمة، والقصة هذه كانت في سنة سبع من الهجرة. قوله: هو أنفس منه. أي أجود، والنفيس الجيد المغتبط به، يقال: نفُس -بفتح النون وضم الفاء- نفاسة. قال الداودي (¬6): يسمى نفيسًا لأنه يأخذ بالنفس. وفي رواية صخر بن جويرية (¬7): إني استفدت مالًا وهو عندي نفيس، فأردت أن أتصدق به. ووقع في رواية الدارقطني (¬8) بإسناد ضعيف، ¬

_ (أ) كذا في النسخ، ونص كلامه في الفتح: ونحوه في رواية سعيد بن سالم المذكورة، وكذا للدارقطني من طريق الدراوردي عن عبد الله بن عمر، وللطحاوي من رواية يحيى بن سعيد ... (ب) في النسخ: أبي شيبة. والمثبت من الفتح 5/ 400.

أن عمر رضي الله عنه قال: يا رسول الله، إني نذرت [أن] (أ) أتصدق بمالي. ولم يثبت هذا وإنما كانت صدقة تطوع. وقوله: "إن شئت حبست أصلها وتصدقت بها". أي بمنفعتها، ويوضحه ما في رواية (¬1): "احبس أصلها وسبل ثمرتها". وفي رواية (¬2): "تصدق بثمره وحبِّس أصله". قوله: فتصدق بها عمر؛ أنه لا يباع أصلها ولا يوهب ولا يورث. زاد الدارقطني (¬3): حبيس ما دامت السماوات والأرض. وظاهر هذه الرواية أن هذا إنما وقع من كلام عمر. قال السبكي (¬4): اغتبطت بما وقع في رواية يحيى بن سعيد عن نافع عند البيهقي (¬5): "تصدق بثمره، وحبس أصله؛ لا يباع ولا يورث". وهذا ظاهر أن الشرط من كلام النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهذا أيضًا وقع في البخاري من طريق صخر بن جويرية عن نافع بلفظ: فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "تصدق بأصله؛ لا يباع ولا يوهب ولا يورث، ولكن ينفق ثمره". وهي أتم الروايات وأصرح في المقصود فعزوها إلى البخاري أولى، وقد علقه أيضًا البخاري في المزارعة (5) بلفظ: قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لعمر: "تصدق بأصله؛ لا يباع ولا يوهب، ولكن ينفق ثمره". فتصدَّقَ به. فعلمت أن ¬

_ (أ) في ب: إني.

الشرط من قول النبي - صلى الله عليه وسلم - مع أنه ولو كان الشرط من قول عمر فما فعله إلا لما فهمه من النبي - صلى الله عليه وسلم - حيث قال له: "احبس أصلها، وسبل ثمرها". وقوله: فتصدق بها. إلى آخر الستة المذكورين، قد تقدم ذكر هؤلاء في الزكاة (¬1) إلا الضيف. وقوله: ولذي القربى. يحتمل أنه أراد من ذكر في الخمس، ويحتمل أن يكون المراد بهم قربى الواقف، وبهذا الثاني جزم القرطبي (¬2) وهو الظاهر. والضيف، المراد به من نزل بقوم يريد منهم القِرى. أن يأكل منها بالمعروف. أفهم البخاري (¬3) أن المعروف هنا هو ما ذكر في والي اليتيم، ووجه الشبه بينهما أن النظر للموقوف عليهم من الفقراء كالنظر لليتامى. وقد اختلف السلف في قدر المعروف الذي يحل لوالي اليتيم فذهبت عائشة (¬4) وعكرمة والحسن وغيرهم إلى أن ذلك قدر عُمالته، وقيل: لا يأكل إلا عند الحاجة. ثم اختلفوا فقال سعيد بن جبير ومجاهد (¬5): إذا أكل ثم أيسر قضى. وقيل: لا يجب عليه القضاء. وقيل: إن كان ذهبًا أو فضة لم يجز له أن يأخذ منه شيئًا إلا على سبيل القرض، وإن كان غير ذلك جاز بقدر الحاجة. وهذا أصح الأقوال عن ابن عباس (¬6)، وبه قال الشعبي وأبو العالية. وذهب الشافعي إلى أنه يأخذ أقل الأمرين من أجرته ونفقته، ¬

_ (¬1) ينظر ما تقدم في 4/ 381 - 387. (¬2) ينظر الفتح 5/ 401. (¬3) البخاري 5/ 392. (¬4) البخاري 5/ 392 ح 765. (¬5) تفسير ابن جرير 4/ 256، 257. (¬6) ينظر تفسير ابن جرير 4/ 258.

ولا يجب الرد على الصحيح (¬1). وتعقب ابن المنير على البخاري بأن الواقف هو المالك لمنافع ما وقفه، فإذا شرط لمن يليه شيئًا ساغ له ذلك، والموصي ليس كذلك، لأن ورثته يملكون المال بعده بقسمة الله تعالى، فلم يكن في ذلك كالواقف. انتهى (¬2). ويلزم من هذا أن الموصي إذا عين للوصي أن يأكل من مال الموصى عليهم لا يصح ذلك، وليس كذلك بل هو سائغ، وإنما الخلاف حيث لم يعين. قال القرطبي (¬3): جرت العادة بأن العامل يأكل من ثمرة الوقف حتى لو اشترط الواقف ألّا يأكل منه العامل لاستقبح منه ذلك، والمراد بالمعروف القدر الذي جرت به العادة. وقيل: القدر الذي يدفع الشهوة. وقيل: المراد أن يأخذ منه بقدر عمله. والأول أولى. قوله: أو يطعم. في رواية للبخاري: أو يؤكل، بإسكان الواو بمعنى يطعم. قوله: غير متموِّل فيه. هكذا لفظ مسلم، وفي رواية للبخاري: غير متمِّول مالًا. كما في "بلوغ المر 4 ام". والمعنى غير متخذ منها مالًا أي ملكًا، والمراد أنه لا يتملك (أ) شيئًا من رقابها. وقال ابن سيرين: غير متأثل مالًا. كذا رواه عنه ابن عون (¬4)، وقال ابن عون (¬5): أنبأني من قرأ هذا ¬

_ (أ) في ب، جـ: يملك.

الكتاب أن فيه: غير متأثل مالًا. وأخرج أبو داود (¬1) صفة كتاب وقف عمر من طريق يحيى بن سعيد الأنصاري قال: نسخها لي (أ) عبد الحميد بن عبد الله بن عمر فذكره، وفيه: غير متأثل مالًا. والمتأثِّل (ب)، بمثناة ثم مثلثة مشددة بينهما همزة، هو [المتخذ] (جـ)، والتأثل اتخاذ أصل المال حتى كأنه عنده قديم، وأثلة كل شيء أصله؛ قال امرؤ القيس (¬2): وقد يدرك المجد المؤثل أمثالي واشتراط نفي التأثل يقوي ما ذهب إليه من فسَّر الأكل بالمعروف بالأكل نفسه، لا بأخذ أجرة العمالة، كذا قال القرطبي. وهو ظاهر وزاد أحمد (¬3) [من طريق حماد بن زيد عن أيوب، فذكر الحديث، قال حماد: وزعم عمرو بن دينار أن عبد الله بن عمر كان يهدي إلى عبد الله بن صفوان من صدقة عمر. وكذا رواه عمر بن شبة من طريق حماد بن زيد عن عمر، وزاد عمر بن شبة] (د) بإسناده عن ابن عون في آخر هذا الحديث: وأوصى بها عمر إلى حفصة أم المؤمنين ثم إلى الأكابر من آل عمر. ونحوه عند الدارقطني (¬4) ¬

_ (أ) زاد في النسخ، والفتح: عبد الله بن. والمثبت من سنن أبي داود، وينظر تهذيب الكمال 16/ 446. (ب) في الأصل: التأثل. (جـ) في النسخ: صفه المجد. والمثبت من الفتح 5/ 401. (د) ساقط من النسخ، والمثبت من الفتح 5/ 402.

عن عبيد الله بن عمر، وفي رواية أيوب عن نافع عند أحمد (¬1): يليه ذوو الرأي من آل عمر. فكأنه كان أولًا اشترط أن النظر لذوي الرأي من أهله، ثم عين عند الوصية حفصة، وفي رواية عمر بن [شبة] (أ) عن أبي غسان المدني قال: هذه نسخة صدقة عمر، أخذتها من كتابه الذي عند آل عمر فنسختها حرفًا حرفًا؛ هذا ما كتب عبد الله عمرُ أمير المؤمنين في ثمغ أنه إلى حفصة ما عاشت، تنفق ثمره حيث أراها الله، فإن توفيت فإلى أولي الرأي من أهلها. فذكر الشرط كله نحو الذي تقدم، ثم قال: والمائة وسق الذي أطعمني النبي - صلى الله عليه وسلم - فإنها مع ثمغ على سننه الذي أمرت به، وإن شاء وليُّ ثمغ أن يشتري من ثمره رقيقًا يعملون فيه فعل. وكتب مُعَيقيب وشهد عبد الله بن الأرقم، وفي رواية أبي داود زيادة: وصرمة (¬2) ابن الأكوع، والعبد الذي فيه صدقة كذلك. وهذا يقتضي أن عمر إنما كتب كتاب وقفه في خلافته؛ لأن مُعَيْقيبا كان كاتبه في أيام الخلافة، ووصفه بأنه أمير المؤمنين، وهذا لا ينافي أن يكون وقفه في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - باللفظ، وتولى النظر عليه إلى أن حضرته الوفاة وكتب الكتاب المذكور، ويحتمل أن يكون أخَّر وقفيته ووقع منه في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - الاستشارة في كيفيته، ويؤيد ذلك ما رواه الطحاوي وابن عبد البر (¬3) من طريق مالك عن ابن شهاب قال: قال عمر: لولا أني ذكرت صدقتي لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - لرددتها. فهذا يشعر بالاحتمال الثاني، وأنه لم ينجز الوقف إلا عند الوصية، وإن كان الطحاوي استدل بقول عمر هذا لأبي ¬

_ (أ) في النسخ: شيبة. والمثبت من الفتح 5/ 402.

حنيفة وزفر أن إيقاف الأرض لا يمنع من الرجوع فيها، ويجاب عنه بأن هذا منقطع؛ لأن ابن شهاب لم يدرك عمر، وبأنه يحتمل أنه لم يكن قد نجز الوقف كما تقدم، وأنه كره أن يفارق النبي - صلى الله عليه وسلم - على ما أمر به، ثم يخالفه إلى غيره، ويحتمل أن يكون عمر يذهب إلى أن الواقف إذا شرط الرجوع فله أن يرجع، ولعله قد وقع ذلك منه، وقد روى الطحاوي (¬1) عن علي رضي الله عنه مثل ذلك، فلا تتم حجة أبي حنيفة مع الاحتمال، وأما تعليق الوقف؛ فقد قال بصحته المالكية. وبه قال ابن سُريج، وقال: تعود منافعه بعد المدة المعينة إلى الواقف ثم إلى ورثته. وظاهر مذهب الهدوية أنه يصح تقييده بالشرط، وإذا عدم الشرط رجع ملكًا لمالكه، وإن كان صاحب "الهداية" جعل ذلك مخصوصًا بعلي والحسين عليهم السلام، فإنه جعل الوقف مشروطًا بعدم الاحتياج إليه، ويجاب عنه بأنه لا وجه لما ادعاه من الاختصاص، ولا يقوم ذلك إلا بدليل. واعلم أن حديث عمر هذا أصل في مشروعية الوقف. قال أحمد (¬2) بإسناده عن ابن عمر: أول صدقة، أي موقوفة، كانت في الإسلام صدقة عمر. وروى عمر بن [شبة] (أ) عن [عمرو] (ب) بن سعد بن معاذ قال: سألنا عن أول حبس في الإسلام، فقال المهاجرون: صدقة عمر. وقال الأنصار: صدقة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وفي إسناده الواقدي (¬3). وفي "مغازي الواقدي": أن أول صدقة موقوفة كانت في الإسلام أرض مخيريق -بالمعجمة مصغر- ¬

_ (أ) في النسخ: أبي شيبة. والمثبت من الفتح 5/ 402. (ب) في النسخ: عمر. والمثبت من الفتح 5/ 402، وينظر تهذيب الكمال 2/ 246.

التي أوصى بها إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فوقفها النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال الترمذي (¬1): لا نعلم بين الصحابة والمتقدمين من أهل العلم خلافًا في جواز وقف الأرضين. وجاء عن شريح أنه أنكر الحبس، وقد تُؤول. وقال أبو حنيفة: لا يلزم. وخالفه جميع أصحابه إلا زفر بن الهذيل. وحكى الطحاوي عن عيسى بن أبان قال: كان أبو يوسف يجيز بيع الوقف فبلغه حديث عمر هذا، فقال: من سمع هذا من ابن عون؟ فحدثه به ابن علية، فقال: هذا لا يسع أحدًا خلافه، ولو بلغ أبا حنيفة لقال به. فرجع عن بيع الوقف حتى صار كأنه لا خلاف فيه بين أحد. انتهى، مع أن الطحاوي انتصر لمذهب أبي حنيفة، وتأول قوله: "حبس الأصل، وسبل الثمرة". بأن ذلك لا يستلزم التأبيد، بك يحتمل أن يكون أراد مدة اختياره لذلك. وهذا بعيد، إذ لا يفهم من التحبيس إلا التأبيد، مع أنه قد ورد في رواية: "حُبُس ما دامت السماوات والأرض". قال القرطبي: رفى الوقف مخالف الإجماع فلا يلتفت إليه، وأحسن ما يعتذر به عمن رده ما قاله أبو يوسف، فإنه أعلم بأبي حنيفة من غيره. وأشار الشافعي إلى أن وقف الأراضي والعقار من خصائص أهل الإسلام، ولا يعلم مثل ذلك في الجاهلية. وفي قوله: "حبس الأصل". دلالة على أن التحبيس من [صرائح] (أ) الوقف، وقال بعضهم: صريح الوقف هو لفظ (وقفت). وقد ذكر أصحاب ¬

_ (أ) في الأصل: صريح.

الشافعي في الألفاظ تفصيلًا فقالوا: وقفت، وحبست، وسبلت، وأبَّدت صريح في الوقف قولًا واحدًا، وكناية قولًا واحدًا وهي (تصدقت)، ومختلف فيه؛ وهو (حرَّمت)، ففيه قولان؛ أحدهما أنه صريح، والآخر أنه ليس بصريح. قال أبو طالب: يجب أن يكون قول الهدوية مثل ذلك. وقال المصنف رحمه الله تعالى قريبًا من ذلك، قال (¬1): لا يكفي في الوقف لفظ الصدقة سواء قال: تصدقت بكذا أو جعلته صدقة، حتى يضيف إليها شيئًا آخر؛ لتردد الصدقة بين أن تكون تمليك الرقبة أو وقف المنفعة، فإذا أضاف إليها ما يميز المحتملين صح، بخلاف ما لو قال: وقفت. أو: حبست. فإنه صريح في ذلك على الراجح، وتمسك من أجاز الاكتفاء بقوله: تصدقت بكذا. بقوله: فتصدق بها عمر. ولا حجة في ذلك لما أتبعه من قوله: لا تُباعُ إلخ. مع احتمال أن يكون ذلك راجعًا إلى الثمرة على حذف مضاف، أي: فتصدق بثمرتها. وبهذا الاحتمال جزم القرطبي. انتهى. فهذا كلامه مثل ما ذكر. وفي الحديث فوائد؛ جواز ذكر الولد أباه باسمه المجرد من غير كنية ولا لقب، وفي رواية إسناد الوصية إلى حفصة جواز جعل النظر في الوقف للمرأة، وتقديمها على أقرانها من الرجال، وصحة إسناد النظر إلى غير معين إذا وصفه بصفة معتبرة تميزه، وأن الواقف يلي وقفه إذا لم يسنده إلى غيره، قال الشافعي: لم يزل العدد الكبير من الصحابة فمن بعدهم يلون أوقافهم؛ نقل ذلك الكواف عن الكواف لا يختلفون فيه. وقال مالك: ليس للواقف أن يلي وقفه سدًّا للذريعة؛ إذ قد يطول الوقت فينسى الوقف، أو يفلس ¬

_ (¬1) الفتح 5/ 403.

الواقف فيتصرف فيه لنفسه، أو يموت فيتصرف فيه ورثته. واستشارة أهل العلم والدين والفضل في طرق الخير سواء كانت دينية أو دنيوية، وأن المشير يشير بأحسن ما يظهر له في جميع الأمور. وفيه فضيلة ظاهرة لعمر لرغبته في امتثال قوله تعالى: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} (¬1). وفيه فضل الصدقة الجارية، وصحة شرط الواقف واتباعه فيه، وأنه لا يشترط تعيين [المصرف] (أ) لفظًا. وجواز الوقف على الأغنياء؛ لأن ذوي القربى والضيف لم يقيد بالحاجة، وهو الأصح عند الشافعية وغيرهم. وأن للواقف أن يشترط لنفسه جزءًا من غلة الوقف؛ لأن عمر شرط أن لمن ولي وقفه أن يأكل منه بالمعروف، ولم يستثن أن الناظر هو أو غيره، وإذا جاز في المبهم الذي تعينه العادة كان فيما يعينه الواقف أولى. ويستنبط منه صحة الوقف على النفس. وهو قول ابن أبي ليلى وأبي يوسف وأحمد في [الأرجح] (5) والهادي. وقال به من المالكية ابن شعبان، وذهب الشافعي والناصر والجمهور إلى منع ذلك، إلا إذا استثنى لنفسه شيئًا يسيرًا، بحيث لا يتهم أنه قصد حرمان ورثته، واستدل محمد بن عبد الله الأنصاري شيخ البخاري لذلك بقصة عمر هذه، وبقصة راكب البدنة (¬2)، وبحديث أنس (¬3) في أنه - صلى الله عليه وسلم - أعتق صفية وجعل ¬

_ (أ) في النسخ: الصرف. والمثبت من الفتح 5/ 403. (ب) في الأصل: الأصح.

عتقها صداقها، وذللث لأنه أخرجها عن ملكه بالعتق وردها إليه بالشرط، وبما فعل عثمان من استثناء دلوه في بئر رومة (¬1). وحجة المنع من ذلك هو ما يفهم من قوله: "سبل الثمرة" أن تسبيل الثمرة هو جعلها للغير ولا يصح من الإنسان أن يجعل لنفسه شيئًا يتملكه من ملكه، لأن فيه تحصيل الحاصل، ويجاب عن ذلك بأن وجه المنع هو عدم الفائدة، وفي الوقف فائدة؛ وهو أن استحقاقه ملكًا غير استحقاقه وقفًا، وقد يقال: لا يؤخذ منه ما ذكر؛ لأن عمر اشترط لناظر الوقف أن جمل منه بقدر عمالته، فإذا عمل أخذ منه بقدر عمالته، وليس ذلك من باب الاشتراط حتى إذا لم يشترط كان للعامل أن يأخذ بقدر أجرته على أرجح قولي العلماء. ويستنبط منه جواز الوقف على الوارث في مرض الموت، فإن زاد على الثلث رد، وإن خرج من الثلث لزم؛ لأن عمر جعل النظر بعده لحفصة وهي ممن يرثه، وجعل للناظر أن يأكل منه، وتعقب بأن الوقف صدر منه في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم -، والذي أوصى به إنما هو تعيين الناظر. ويستنبط من قوله: "حبس الأصل". أن تعليق الوقف لا يصح لأن التحبيس يناقضه التعليق، وعن مالك وابن سُريج (أ) يصح، وقد تقدم. ويستنبط منه صحة وقف المشاع؛ لأن المائة سهم التي لعمر لم تكن منقسمة. ويستنبط منه أن الوقف لا يسري إذ لم ينقل أنه سرى من حصة عمر إلى غيرها من باقي الأرض بخلاف العتق، وحكي عن بعض الشافعية أنه حكم فيه بالسراية، وهو منكر. إلا أن هذا المستنبط من وقف المشاع هو كما ذكر الرافعي أن المائة سهم كانت ¬

_ (أ) في ب: شريح.

مشاعة. قال المصنف (¬1) رحمه الله: لم أجده صريحًا، بل في مسلم ما يشعر بغير ذلك، فإنه قال: إن المال المذكور يقال له: ثمغ. وكان نخلًا. وأقول: في "سنن أبي داود" (¬2) أن ثمغًا وصرمة ابن الأكوع والعبد الذي فيه والمائة السهم الذي بخيبر ورقيقه الذي فيه والمائة الوسق الذي أطعمه النبي - صلى الله عليه وسلم - بالوادي تليه حفصة. ثم ساق نسخة الوصية من عمر، فدل على أن ثمغًا غير المائة السهم، فيصح أن تكون المائة السهم غير مقسومة. ويستنبط منه أن خيبر فتحت عنوة. 756 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عمر على الصدقة. الحديث وفيه: "وأما خالد فقد احتبس أدراعه وأعتاده في سبيل الله". متفق عليه (¬3). قوله: "احتبس". أي: حبس، "أدراعه": جمع درع. و "أعتاده": هذا لفظ مسلم، وفي البخاري: و "أعتُده". بضم التاء المثناة من فوق، وهما جمع "عَتَد" بفتحتين و (أهو ما يُعده أ) الرجل من الدواب والسلاح، وقيل: الخيل خاصة. يقال: فرس [عتيد] (ب) أي صلب أو معد للركوب أو سريع الوثوب، وحكى عياض (¬4) رواية: "أعبده". بالباء الموحدة جمع عبد والأول هو الشهور. ¬

_ (أ- أ) في جـ: وهما ما يعد. (ب) في النسخ: عتد. والمثبت من الفتح 3/ 333.

والحديث فيه دلالة على أنه يصح وقف العين عن الزكاة أوأنه يأخذ بزكاته آلات الحرب للجهاد في سبيل الله كما أشار إليه البخاري، ذكر ذلك في باب قول الله تعالى: {وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} (¬1)، وعلى أنه يصح وقف العروض، وفيه خلاف أبي حنيفة؛ قال: لأن العروض تتبدل وتتغير والوقف موضوع للتأبيد، وأجاب الجمهور المانعون من إجزاء الوقف عن الزكاة بأجوبة؛ أحدها: أن المعنى الرد على من نسب إلى خالد منع الزكاة فقال: إنكم تظلمون خالدًا بنسبتكم إياه إلى المنع وهو لم يمنع، وكيف يمنع الفرض وقد تطوع بتحبيس سلاحه. والثاني: أنهم ظنوها للتجارة فطالبوه بزكاة قيمتها فأعلمهم - صلى الله عليه وسلم - بأنه لا زكاة عليه فيما حبس، وهذا يحتاج إلى نقل خاص فيكون حجة لمن أوجبها في عروض التجارة. ثالثها: أنه كان نوى بإخراجها عن الزكاة تمليكًا للمجاهدين، وهذا يقوله من يجيز إخراج القيمة في الزكاة كالحنفية، ومن يجيز التعجيل. وفي الحديث أيضًا دلالة على مشروعية تحبيس الحيوان والسلاح، وأن الوقف يجوز بقاؤه تحت يد محبسه، وعلى صرف الزكاة (أإلى صنف أ) واحد من الثمانية، وتعقب ابن دقيق العيد جميع ذلك بأن القصة واقعة محتملة لما ذكر ولغيره فلا ينهض الاستدلال بها على شيء مما ذكر. قال: ويحتمل أن يكون تحبيس خالد إرصادًا وعدم تصرف ولا يكون وقفًا. وفي الحديث دلالة على بعث الإمام العمال لجباية الزكاة. وقد تقدم تمام الكلام في باب الشركة والوكالة (¬2). ¬

_ (أ- أ) ساقط من: جـ، وفي ب: إلى جنس.

باب الهبة

باب الهبة الهبة بكسر الهاء مصدر وهب محذوف الفاء معوض عنه الهاء قياسًا، ويطلق على الشيء الموهوب، وهي في الشرع تمليك عين بعقد على غير عوض معلوم في الحياة، وقد تطلق بالمعنى الأعم على الإبراء من الدين والصدقة، وهي هبة ما يتمحض به طلب الثواب في الآخرة. والهدية وهي ما يلزم (أ) المهدي له عوضه حسب العرف، وزيادة لفظ: في الحياة. لإخراج الوصية، وهي تكون أيضًا بالأنواع الثلاثة، وظاهر ما ذكره المصنف هنا في هذا الباب أنه قصد بالهبة المعنى الأعم. 757 - عن النعمان بن بشير رضي الله عنه أن أباه أتى به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: إني نحلت ابني هذا غلامًا كان لي. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أكل ولدك نحلته مثل هذا؟ ". فقال: لا. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "فارجعه". وفي لفظ: فانطلق أبي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ليشهده على صدقتي، فقال: "أفعلت هذا بولدك كلهم؟ ". قال: لا. قال: "اتقو االله واعدلوا بين أولادكم". فرجع أبي فرد تلك الصدقة. متفق عليه، وفي رواية لسلم: قال: "فأشهد على هذا غيري". ثم قال: "أيَسُرُّك أن يكونوا لك في البر سواء". قال: بلى. قال: "فلا إذن" (¬1). ¬

_ (أ) زاد في جـ: من.

الحديث مروي عن النعمان بن بشير من رواية أصحاب الزهري، وأخرجه النسائي (¬1) من طريق الأوزاعي عن الزهري، أن محمد بن النعمان وحميد بن عبد الرحمن [حدثا] (أ) عن بشير بن [سعد] (5) والد النعمان. وقد شذَّ بذلك، والمحفوظ أنه عنهما عن النعمان. وبشير والد النعمان هو ابن سعد بن ثعلبة بن الجلاس -بضم الجيم وتخفيف اللام- الخزرجي، صحابي شهير من أهل بدر، وشهد غيرها، ومات في خلافة أبي بكر سنة ثلاث عشرة، ويقال: إنه أول من بايع أبا بكر من الأنصار، وقيل: عاش إلى خلافة عمر (¬2). وقد روى هذا الحديث عن النعمان عدد كبير من التابعين؛ منهم عروة بن الزبير عند مسلم والنسائي وأبي داود (¬3)، وأبو الضحى عند النسائي وابن حبان وأحمد والطحاوي (¬4)، والمفضل بن المهلب عند أحمد وأبي داود والنسائي (¬5)، وعبد الله بن عتبة بن مسعود عند أحمد (¬6)، وعون ابن عبد الله عند أبي عوانة (¬7)، والشعبي في "الصحيحين" وأبي داود وأحمد ¬

_ (أ) في الأصل، ب: حدثنا. (ب) في الأصل، جـ: سعيد.

والنسائي وابن ماجه وابن حبان وغيرهم (¬1)، ورواه عن الشعبي عدد كبير أيضًا (¬2). قوله: أن أباه أتى (أبه إلى أ) رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. هكذا في رواية الزهري، وفي رواية الشعبي بلفظ: أعطاني أبي عطيةً، فقالت عمرة بنت رواحة: لا أرضى حتى تشهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فأتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: إني أعطيت ابني من عمرة عطة. وفي رواية للبخاري في الشهادات عن الشعبي بلفظ: سألت أبي بعض الموهبة من ماله. زاد مسلم من هذا الوجه: فالتوى بها سنة. أي: مطلها. وفي رواية ابن حبان من هذا الوجه: بعد حولين. ويجمع بينهما بأن المدة كانت سنتين، فذكر الكثير تارة، وتارة ذكر القليل وهو السنة، قال: ثم بدا له فوهبها لي، فقالت له: لا أرضى حتى تشهد النبي - صلى الله عليه وسلم -. فأخذ بيدي وأنا غلام. ولمسلم من طريق الشعبي أيضًا: انطلق بي أبي يحملني إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ويجمع بينهما بأنه أخذ بيده فمشى معه بعض الطريق وحمله في بعضها لصغر سنه، أو عبَّر باستتباعه أباه بالحمل. وقوله: نَحَلت. بفتح النون والهملة؛ أي أعطيت. والنحلة بكسر النون وسكون المهملة: العطية بغير عوض. وقوله: غلامًا كان لي. هكذا في رواية الزهري، وفي رواية الشعبي في البخاري: عطية. بدل: غلامًا. وفي رواية ابن حبان وأبي داود عن ¬

_ (أ- أ) ساقط من: جـ.

الشعبي بلفظ: غلام. ولمسلم في رواية عروة وجابر معًا، ووقع في رواية أبي حريز -بمهملة وراء وزاي بوزن عظيم- عند ابن حبان والطبراني (¬1) عن الشعبي، أن النعمان خطب بالكوفة فقال: إن والدي بشير بن سعد أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: إن عمرة بنت رواحة نُفِست بغلام، وإني سميته النعمان، وإنها أبت أن تُربيه حتى جعلْتُ له حديقة من أفضل مال هو لي، وإنها قالت: أشهِدْ على ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وفيه قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا أشهد على جور". وجمع ابن حبان بين الروايتين بالحمل على واقعتين؛ إحداهما عند ولادة النعمان، وكانت العطية حديقة، والأخرى بعد أن كبر النعمان، وكانت العطية عبدًا، وهو جمع لا بأس به، إلا أنه يعكر عليه أنه يبعد أن ينسى بشير بن سعد مع جلالته الحكم في المسألة حتى يعود إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فيستشهده (أ) على العطية الثانية بعد أن قال له في الأولى: "لا أشهد على جور". وجوز ابن حبان أن يكون بشير ظن نسخ الحكم. وقال غيره: يحتمل أن يكون حمل النهي الأول على كراهة التنزيه، أو ظن أنه لا يلزم من الامتناع في الحديقة الامتناع في العبد؛ لأن ثمن الحديقة في الأغلب أكثر من ثمن العبد. قال المصنف رحمه الله تعالى (¬2): وظهر لي وجه آخر حاصله أنه وهب الحديقة تطييبًا لخاطر عمرة، وارتجعها لأنها لم تخرج من يده، ثم طالبته بعد ذلك فمطلها سنة أو سنتين، ثم طابت نفسه أن يهب له بدل الحديقة غلامًا ورضيت عمرة بذلك؛ إلا أنها خشيت أن يرتجعه أيضًا، فأمرته أن يشهد ¬

_ (أ) في جـ: فيشهده.

على ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ لتأمن رجوعه فيها، ويكون مجيئه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - في المرة الأخيرة فقط، واختلاف الرواة لجواز أنه حفظ البعض ما لم يحفظ البعض، أو أن النعمان كان يقتصر في قصص القضية على بعض الواقع، فيقص في وقت بعضًا وفي وقت آخر بعضًا آخر. وعمرة هذه هي أخت عبد الله بن رواحة الصحابي المشهور، ووقع عند أبي عوانة من طريق [عون بن عبد الله] (أ) أنها بنت عبد الله بن رواحة، والصحيح الأول، وهي ممن بايع النبي - صلى الله عليه وسلم - من النساء. قوله: فقال: "أكل ولدك نحلت؟ ". زاد في رواية [أبي حيان] (ب): فقال: "ألك ولد سواه؟ ". قال: نعم. وقال مسلم لما رواه من طريق الزهري: أما يونس ومعمر فقالا: "أكل بنيك؟ ". وأما الليث وابن عيينة فقالا: "أكل ولدك؟ ". ولا منافاة بينهما؛ لأن لفظ الولد يشمل ما لو كانوا ذكورًا وإناثًا، ولفظ البنين يختص بالذكور، إلا أنه إذا كان فيهم إناث فيحمل على تغليب الذكور على الإناث، وقد ذكِر له بنت (¬1). وقوله: "نحلت مثله". في رواية أبي حيان عند مسلم فقال: "أكلهم وهبت له مثل هذا؟ ". قال: لا. وله من طريق إسماعيل بن أبي خالد عن الشعبي: فقال: "ألك بنون سواه؟ ". قال: نعم. قال: "فكلهم أعطت مثل هذا؟ ". قال: لا. وفي رواية ابن القاسم في "الموطآت" للدارقطني عن مالك قال: لا والله يا رسول الله. قوله: قال: "فارجعه". ولمسلم من طريق إبراهيم بن سعد عن ابن شهاب: قال: "فاردده". وله وللنسائي من طريق عروة مثله. وفي رواية ¬

_ (أ) في النسخ: ابن عون. والمثبت من الفتح 5/ 213. وينظر ما تقدم ص 416. (ب) في النسخ: ابن حبان. والمثبت من الفتح 5/ 213 وينظر ما سيأتي.

الشعبي في الباب الذي يليه (¬1) قال: فرجع فرد عطيته. ولمسلم: فرد تلك الصدقة. زاد في رواية أبي حيان في الشهادات قال: "لا تشهدني على جور". ومثله لمسلم في (أ) رواية عاصم عن الشعبي. وفي رواية أبي حريز: "لا أشهد على جور". وقد علق منها البخاري (5) هذا القدر في الشهادات. ومثله لمسلم من طريق إسماعيل عن الشعبي. وله في رواية أبي حيان: فقال: "فلا تشهدني إذنْ، فإني لا أشهد على جور". وله (جـ) في رواية المغيرة عن الشعبي: "فإني لا أشهد على جور، أشهِدْ على هذا غيري". وله وللنسائي في رواية داود بن أبي هند قال: "فأشهد على هذا غيري". وفي حديث جابر (¬2): "فليس يصلح هذا، واني لا أشهد إلا على حق". ولعبد الرزاق (¬3) من طريق طاوس مرسلًا: "لا أشهد إلا على الحق، لا أشهد". وفي رواية عروة عند النسائي: فكره أن يشهد له. وفي رواية [المغيرة] (د) عن الشعبي عند مسلم: "اعدلوا بين أولادكم في النحل كما تحبون أن يعدلوا بينكم في البر". وفي رواية مجالد عن الشعبي عند أحمد (¬4): "إن لبنيك عليك من الحق أن تعدل بينهم، فلا تشهدني على جور، أيسرك أن يكونوا إليك في البر سواء؟ ". قال: ¬

_ (أ) في ب، جـ: من. (ب) زاد في النسخ: على. والمثبت من الفتح 5/ 213. (جـ) كذا في النسخ، والفتح 5/ 213 وهو خطأ؛ فإن مسلما لم يخرج هذا الحديث من طريق مغيرة عن الشعبي، وقد أخرجه من هذا الطريق أحمد 4/ 270، وأبو داود 3/ 290 ح 3542، وابن حبان 11/ 503 ح 5104، والنسائي في الكبرى 3/ 493 ح 6023. وينظر تحفة الأشراف 9/ 23. (د) في النسخ: لغيره، والمثبت من الفتح.

بلى. قال: "فلا إذن". ولأبي داود من هذا الوجه: "إن لهم عليك من الحق أن تعدل بينهم كما أن [لك] (أ) عليهم من الحق أن يبروك". وللنسائي من طريق أبي الضحى: "ألا سويت بينهم؟ ". وله ولابن حبان من هذا الوجه: "سو بينهم". واختلاف الألفاظ في هذه القصة الواحدة يرجع إلى معنى واحد، فليس ذلك من الاضطراب القادح في الرواية. والحديث فيه دلالة على أن الهبة لا تحتاج إلى قبول، إذ لم يذكر في رواية أنه قبل لولده، وقد ذهب إلى هذا المؤيد بالله في أحد قوليه وبعض الحنفية، أو أن القبض يغني عن القبول في حق الأب إذا وهب لولده الصغير شيئًا تحت يده؛ لقوة ولايته، كما نسبه الإمام يحيى لمذهب الهدوية، وذهب إليه أبو حنيفة، وذهب الناصر والشافعي إلى أنه لا يغني عن القبول كالبيع، وقواه الإمام المهدي، ويجاب عن الحديث أن سؤال عمرة الهبة لولدها قائم مقام القبول، وقد ذهب إلى هذا الهدوية والشافعي، قالوا: كالنكاح. والخلاف لأبي حنيفة وأصحابه، فلا بد من لفظين ماضيين كالبيع، وأجيب بأن البيع معاوضة فافترقا. قال الإمام يحيى: اتفقوا في النكاح والخلع والصلح أنه كاف، إذ ليس بمعاوضة، واختلفوا في البيع والإجارة والكتابة؛ فقال الشافعي: إن السؤال كاف. وقالت الهدوية والحنفية: إنه ليس بكاف. وأنه تجب المساواة بين الأولاد في الهبة. وقد صرح به البخاري، وهو قول طاوس والثوري وأحمد وإسحاق، وقال به بعض المالكية، والشهور عن هؤلاء أنها باطلة، وعن أحمد: تصح، ويجب أن يرجع. وعنه: يجوز التفاضل إن كان له سبب؛ كأن يحتاج ¬

_ (أ) في الأصل، ب: لكم.

الولد لزمانته (¬1) أو دَينه أو نحو ذلك دون الباقين. وقال أبو يوسف: تجب التسوية إن قصد بالتفضيل الإضرار. وذهب الجمهور إلى أن التسوية مستحبة، فإن فضل بعضًا صح وكره، وقد ذهب إليه العترة جميعًا، واستحبت المبادرة إلى التسوية أو الرجوع، فحملوا الأمر على الندب، والنهي على التنزيه، وأجاب الموجبون أنه مقدمة الواجب؛ لأن قطع الرحم والعقوق محرمان، فما يؤدي إليهما محرم، وأيضًا فإن الأمر ظاهر في الوجوب، والنهي في التحريم، إلا لقرينة تصرفه، و [التفضيل] (أ) [مما] (ب) يؤدي إليه من التسبيب إلى المعصية يؤيد بقاءه على ظاهره. وأجاب الجمهور عن ذلك بعشرة أجوبة؛ أولها: أن الموهوب للنعمان جميع المال، فلا تقوم حجة على منع التفضيل. حكاه ابن عبد البر (¬2) عن مالك. أجاب القرطبي (¬3) أن الموهوب هو الغلام كما هو صريح في الحديث لما سألته والدته، وفي رواية الشعبي (جـ) تصريح بذلك حيث قال: سألت أبي بعض الموهبة لي من ماله. قال: وهذا يعلم منه قطعًا أنه كان له مال غيره. والمانع من هبة جميع المال سحنون من المالكية. ثانيها: أن العطية لم تكن قد وقعت، وإنما جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - يستشير، فأشار عليه بألا يفعل، فترك. ¬

_ (أ) في النسخ: والتعليل. والمثبت من الفتح 5/ 214. (ب) في الأصل: بما. (جـ) ساقط من: ب.

حكاه الطحاوي (¬1). ويجاب عنه بأن ألفاظ الرواة تدل على أنها قد وقعت. ثالثها: أن النعمان كان كبيرًا ولم يكن قبض الوهوب، فجاز لأبيه الرجوع. ذكره الطحاوي (¬2). ويجاب عنه أن في قوله: "ارجعه". ما يدل على القبض، والذي تظاهرت عليه الروايات أنه كان صغيرًا، وكان أبوه قابضًا له لصغره، فأمره برد العطية المذكورة بعد ما كانت في حكم المقبوضة. رابعها: أن قوله "ارجعه". دليل على الصحة، ولو لم تصح الهبة لم يصح الرجوع، وإنما أمره بالرجوع لأن للوالد أن يرجع فيما وهبه لولده وإن كان الأفضل خلاف ذلك، لكن استحباب التسوية رجح على ذلك، فلذلك أمره به. ويجاب عنه بأن قوله: "ارجعه". يحتمل أن يكون معناه: لا تمض الهبة المذكورة. ولا يلزم من ذلك تقدم صحة الهبة. خامسها: أن قوله "أشهد على هذا غيري". إذنٌ بالإشهاد على ذلك، وإنما امتنع من ذلك لكونه الإمام، وكأنه قال: لا أشهد؛ لأن الإمام ليس من شأنه أن يشهد، وإنما من شأنه أن يحكم. حكاه الطحاوي أيضًا، وارتضاه ابن القصار. وأجيب بأنه وإن كان الإمام من شأنه الحكم، فلا يمتنع أن يتحمل الشهادة ويؤديها عند بعض [نوّابه] (أ) أو يحكم بعلمه. وقوله: "أشهد على هذا غيري". لا يكون إذنا بالشهادة، بل الأمر للتهديد، والمراد به (ب) نفي الجواز، وهو كقوله لعائشة: "اشترطي لهم الولاء" (¬3). ¬

_ (أ) في الأصل: قومه. وفي ب, جـ: قوامه. والمثبت مما سيأتي ص 428، وينظر الفتح 5/ 216. (ب) في ب: بها.

سادسها: التمسك بقوله: "ألا سويت بينهم؟ ". على أن المراد بالأمر الاستحباب، وبالنهي التنزيه. وهذا جيد لولا ورود تلك الألفاظ الزائدة على هذه اللفظة، ولا سيما أن تلك الرواية بعينها وردت بصيغة الأمر أيضًا، حيث قال "سوِّ بينهم". سابعها: وقع عند مسلم عن ابن سيرين ما يدل على أن المحفوظ في حديث النعمان: "قاربوا بين أولادكم". لا: سوُّوا. وتُعُقب بأن المخالفين لا يوجبون المقاربة كما لا يوجبون التسوية. ثامنها: في التشبيه الواقع في التسوية بينهم بالتسوية منهم في بر الوالدين قرينة تدل على أن الأمر للندب، لكن إطلاق الجور على عدم التسوية بعيد، وكذا قوله: "لا أشهد إلا على حق". يدل على أن ذلك خلاف الحق، وقد قال في آخر الرواية التي وقع فيها التشبيه، قال: "فلا إذن". تاسعها: عمل الخليفتين أبي بكر وعمر بعد النبي - صلى الله عليه وسلم -[على] (أ) عدم التسوية قرينة ظاهرة في أن الأمر للندب؛ فأما أبو بكر فرواه في "الموطأ" (¬1) بإسناد صحيح عن عائشة رضي الله عنها، أن أبا بكر قال لها في مرض موته: إني كنت نحلتك جداد عضرين وسقًا من أرضي التي [بالغابة] (ب)، وأنت لو كنت حزتيه كان لك، فإذ لم تفعلي فإنما هو للوارث، وإنما هو أخواك (جـ) وأختاك. وأخرجه البيهقي في "شعب الإيمان" وابن سعد وابن أبي شيبة (¬2). وأما عمر فذكر ¬

_ (أ) في ب: في. (ب) في النسخ: بالعالية. والمثبت من الموطأ، والغابة: موضع قريب من المدينة من عواليها، وبها أموال لأهلها. النهاية 3/ 399. (جـ) زاد في الأصل: هما أسماء والحمل الذي كان في بطن زوجته بنت خارجة.

الطحاوي وغيره أنه نحل ابنه عاصمًا دون سائر ولده. وقد أجاب عروة عن قصة عائشة رضي الله عنها بأن إخوتها كانوا راضين بذلك، ويجاب بمثل ذلك عن قصة عاصم. عاشرها: أن الإجماع انعقد على جواز عطية الرجل ماله لغير ولده، فإذا جاز له أن يخرج جميع ولده من ماله بتمليك الغير جاز له أن يخرج بعض أولاده بتمليك البعض. ذكر ذلك ابن عبد البر (¬1)، ولا يخفى ضعفه؛ لأنه قياس مع مصادمة النص. وحكى ابن التين عن الداودي (¬2) أن بعض المالكية احتج بالإجماع على خلاف ظاهر حديث النعمان، ثم رد عليه. واختلف القائلون بوجوب التسوية أو ندبها (أفي كيفية التسوية أ)؛ فقال محمد بن الحسن وأحمد وإسحاق وبعض الشافعية والمالكية وهو قول الهدوية: إن التسوية تكون على حسب التوريث؛ للذكر مثل حظ الأنثيين. قالوا: لأن المال لو بقي لكان لها ذلك ميراثًا. وقال غيرهم: يسوى بين الذكر والأنثى. وظاهر الأمر بالتسوية يشهد بذلك، واستأنسوا بحديث ابن عباس رضي الله عنه رفعه: "سووا بين أولادكم في العطية، فلو كنت مفضلًا أحدًا لفضلت النساء". أخرجه سعيد بن منصور والبيهقي (¬3) من طريقه وإسناده حسن. واستُدل بالحديث على أن للأب أن يرجع فيما وهب لابنه، وظاهره ولو ¬

_ (أ- أ) ساقط من: ب.

كان الولد كبيرًا، وخص الهدوية الحكم بالطفل، ولعلهم نظروا إلى حديث النعمان وهو كان صغيرًا، ولكنه قد ورد من حديث ابن عباس وحديث ابن عمر مرفوعًا: "لا يحل لرجل يعطي عطة أو يهب هبة فيرجع فيها، إلا الوالد فيما يعطي ولده". أخرجه أبو داود وابن ماجه (¬1) بهذا اللفظ، ورجاله ثقات. فهذا لفظ عام للصغير والكبير، ويعم الهبة وغيرها من الصدقة والنذر، ومن العلماء من فرق بين الصدقة والهبة، فلا يرجع في الصدقة ويرجع في الهبة؛ لأن الصدقة يراد بها ثواب الآخرة. وقالت المالكية: للأب الرجوع إذا كان الولد لم ينكح ولا ادَّان دَيْنًا. وقال بذلك إسحاق، ولعلهم احتجوا بما روي عن عمر أنه قال: يعتصر (¬2) الرجل من ولده ما أعطاه من ماله ما لم يمت، أو يستهلكه، أو يقوم فيه دين. أخرجه عبد الرزاق والبيهقي (¬3). وعند مالك والشافعي والمنصور بالله أن حكم ابن الابن حكم الابن في صحة الرجوع فيما وهبه له جده، وهل يتناوله لفظ الابن حقيقة أو مجازًا؟ فيه خلاف عندهم، وعند الهدوية أنه ليس له الرجوع فيما وهبه لابن ابنه مطلقًا، سواء كان صغيرًا أو كبيرًا. والأم حكمها حكم الأب في قول أكثر العلماء، إلا أن المالكية قالوا: لها الرجوع ما دام الأب حيًّا دون ما إذا مات. وقال أحمد: لا يحل للواهب أن يرجع في هبته ولو أبًا، وذلك لعموم الأحاديث الواردة في تقبيح الرجوع ¬

_ (¬1) أبو داود 3/ 289 ح 3539، وابن ماجه 2/ 795 ح 2377. (¬2) يعتصره: أي يحبسه عن الإعطاء ويمنعه منه. وكل شيء حبسته ومنعته فقد اعتصرته. وقيل: يعتصر: يرتجع. واعتصر العطية إذا ارتجعها. والمعنى أن الوالد إذا أعطى ولده شيئًا فله أن يأخذه منه. النهاية 3/ 247. (¬3) عبد الرزاق 9/ 129 ح 16622، والبيهقي 6/ 179.

وتمثيله بالكلب يرجع في قيئه. وقال الكوفيون: إن كان الموهوب له صغيرًا لم يكن للأب الرجوع، وكذا إن كان كبيرًا وقبضها. قالوا: وإن كانت الهبة لزوج من زوجه أو بالعكس أو لذي رحم محرم لم يجز الرجوع في شيء من ذلك. وخص الهادي ما وهبته الزوجة لزوجها من صداقها، أنه ليس لها الرجوع في ذلك، وعلق البخاري أثرين، قال (¬1): قال إبراهيم -يعني النخعي: هي جائزة. يعني لا رجوع فيها. وقال: قال عمر ابن عبد العزيز: لا يرجعان. وقال: قال الزهري فيمن قال لامرأته: هبي لي بعض صداقك أو كله. ثم لم يمكث إلا يسيرًا حتى طلقها فرجعت فيه. قال: يرد إليها إن كان خلبها -أي خدعها- وإن كانت أعطته عن (أ) [طيب] (ب) نفس ليس في شيء من أمره خديعة، جاز، قال الله عزَّ وجلَّ: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا} (¬2) انتهى. وأخرج عبد الرزاق (¬3) عن عمر بسند منقطع أن النساء يعطين رغبة ورهبة، فأيَّما امرأة أعطت زوجها فشاءت أن ترجع رجعت. وفي الحديث دلالة على أنه يندب التأليف بين الإخوة وترك ما يوقع بينهم الشحناء ويورث العقوق للآباء. وأن عطية الأب لابنه الصغير في حجره لا تحتاج إلى قبض، وأن الإشهاد فيها يغني عن القبض، وقيل: إن كانت العطية ذهبًا أو فضة فلا بد من عزلها وإفرادها. وفيه كراهة تحمل الشهادة فيما ليس بمباح، وأن الإشهاد في الهبة مشروع وليس بواجب. وفيه ¬

_ (أ) في جـ: من. (ب) في الأصل، جـ: طيبة.

جواز الميل إلى بعض الأولاد والزوجات دون بعض وإن وجبت التسوية بينهم في غير ذلك. وفيه أن للإمام الأعظم أن يتحمل الشهادة، وفائدتها إما للحكم بذلك عند من يجيز للحاكم أن يحكم بعلمه، أو يؤديها عند بعض نوابه. وفيه مشروعية استفصال الحاكم والمفتي عما يحتمل الاستفصال؛ لقوله: "ألك ولد غيره؟ ". فلما قال: نعم. قال: "أوكلهم أعطيت مثله؟ ". فلما قال: لا. قال: "لا أشهد". فيفهم منه أنه لو قال: نعم. لشهد. وفيه جواز تسمية الهبة صدقة، وأن للأم (أ) نظرًا في مصلحة الولد والمبادرة إلى قبول الحق، وأمر الحاكم والمفتي بتقوى الله في كل حال. وفيه إشارة إلى سوء عاقبة الحرص والتنطع؛ لأن عمرة لو رضيت بما وهبه زوجها لولده ما رجع فيه، فلما اشتد حرصها في سبب ذلك أفضى إلى بطلانه. وقال المهلب (¬1): فيه أن للإمام أن يرد الهبة والوصية ممن يعرف منه. هربًا عن بعض الورثة. 758 - وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "العائد في هبته كالكلب يقيء ثم يعود في قَيْئه". متفق عليه (¬2). وفي رواية للبخاري (¬3): "ليس لنا مَثَل السوء، الذي يعود في هبته كالكلب يرجع في قيئه". ¬

_ (أ) في حاشية الأصل والفتح 5/ 216: للإمام.

الحديث فيه دلالة على كراهة الرجوع في الهبة، والظاهر أنه لا خلاف في ذلك، وأما تحريم الرجوع فذهب الجمهور من العلماء إلى أنه يحرم الرجوع، وبوب البخاري بقوله: باب لا يحل لأحد أن يرجع في هبته وصدقته. وإنما جزم بذلك لقوة الدليل عنده فيها، وأورد الحديث المذكور، وأخرجه أبو داود (¬1) وقال في آخره: قال همام: قال قتادة: ولا أعلم القيء إلا حرامًا. واستثنى الجمهور هبة الوالد لولده؛ جمعًا بين هذا الحديث وحديث النعمان الماضي (¬2). وذهب أبو حنيفة والهدوية إلى حل الرجوع في الهبة دون الصدقة إلا إذا حصل مانع من الرجوع؛ كالهبة لذي الرحم، والزيادة في الموهوب، ونحو ذلك، كما فصل ذلك في الفروع، وأجابوا عن الحديث بأن المراد بذلك التغليظ في الكراهة. قال الطحاوي (¬3): قوله: "كالعائد في قيئه". وإن اقتضي التحريم لكون القيء حرامًا، لكن الزيادة في الرواية الأخرى وهي قوله: "كالكلب". يدل على عدم التحريم؛ لأن الكلب غير متعبَّد، فالقيء ليس حرامًا عليه، والمراد التنزيه عن فعل يشبه فعل الكلب. وتعقب باستبعاد التأويل ومنافرة سياق الحديث له، وبأن عرف الشرع في مثل هذه الأشياء يريد به المبالغة في الزجر؛ كقوله: "من لعب بالنردشير فكأنما غمس يده في لحم خنزير" (¬4). ويجاب عنه بأن قوله - صلى الله عليه وسلم -: "من وهب هبة فهو أحق بها حتى يثاب عليها، فإن رجع في هبته فهو كالذي يقيء ويأكل قيئه". ¬

_ (¬1) أبو داود 3/ 289 ح 3538. (¬2) تقدم ح 757. (¬3) شرح معاني الآثار 4/ 77، 78. (¬4) أحمد 5/ 352، ومسلم 4/ 1770 ح 2260، وأبو داود 4/ 286 ح 4939، وابن ماجه 2/ 1238 ح 3763 من حديث بريدة الأسلمي.

أخرجه الطبراني في "الكبير" (¬1) عن ابن عباس. يدل على جواز الرجوع، فاقتضى ذلك الجمع بين الأحاديث بحمل حديث النهي على الكراهة دون التحريم، لا سيما مع ذكر التشبيه في هذه الرواية بعد ذكر الأحقية. وأخرج الحديث مالك والبيهقي عن ابن عمر (¬2) من دون التشبيه. وقوله: "ليس لنا مثل السوء". أي لا ينبغي لنا معشر المؤمنين أن نتصف بصفة ذميمة يشابهنا فيها أخس الحيوانات في أخس أحوالها، قال الله تعالى: {لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى} (¬3). وهذا أبلغ في الزجر مما لو قال مَثَلًا: لا تعودوا في الهبة. ولكن ذلك محمول على الكراهة الشديدة؛ تحبيبًا للمسلمين في الاتصاف بمحاسن الأخلاق وأعالي الصفات وهي الجود، وتنزيهًا لهم من الارتباك في رذيلة الشح التي جبلت النفوس عليها وأعمى بصيرتها عن التأمل لحقارة الدنيا وقبح الإخلاد إليها. 759 - وعن ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يحل لرجل مسلم أن يعطي العطية ثم يرجع فيها، إلا الوالد فيما يعطي ولده". رواه أحمد والأربعة وصححه الترمذي وابن حبان والحاكم (¬4). ¬

_ (¬1) الطبراني 11/ 147 ح 11317. (¬2) الموطأ 2/ 754 ح 42 من قول عمر، والبيهقي 6/ 180، 181 من حديث ابن عمر مرفوعًا. (¬3) الآية 60 من سورة النحل. (¬4) أحمد 1/ 237، 2/ 27، 78، وأبو داود، كتاب البيوع، باب الرجوع في الهبة 3/ 289 ح 3539، والترمذي، كتاب الولاء والهبة، باب ما جاء في كراهية الرجوع في الهبة 4/ 384 ح 2132، وابن ماجه، كتاب الهبات، باب من أعطى ولده ثم رجع فيه 2/ 795 ح 2377، والنسائي، كتاب الهبة، باب رجوع الوالد فيما يعطي ولده ... ، وباب ذكر الاختلاف لخبر عبد الله بن عباس فيه، وباب ذكر الاختلاف على طاوس في الراجع في هبته 6/ 265، 267، 268، وابن حبان، كتاب الهبة، باب ذكر البيان بأن هذا الزجر الذي أطلق بلفظ العموم لم يرد به كل الهبات ... 11/ 524 ح 5123، والحاكم، كتاب البيوع 2/ 46.

الحديث رواه الشافعي (¬1) بلفظ: "لا يحل لواهب أن يرجع فيما وهب، إلا الوالد فإنه يرجع فيما وهب لولده". عن مسلم بن خالد الزنجي عن ابن جريج عن الحسن بن مسلم عن طاوس مرسلًا، وقال: لو اتصل لقلت به. انتهى. وقد رواه أبو داود، والترمذي، وابن ماجه، وابن حبان، والحاكم من حديث طاوس عن ابن عباس، وهو عنده من رواية عمرو بن شعيب عن طاوس، وقد اختلف عليه فيه، فقيل: عن أبيه عن جده. رواه النسائي وغيره بلفظ: "لا يحل لرجل أن يعطي عطية أو يهب هبة فيرجع فيها، إلا الوالد فيما يعطي ولده، ومَثَل الذي يعطي العطية ثم يرجع فيها كمثل الكلب يأكل، فإذا شبع قاء ثم عاد في قيئه" (¬2). قوله: "لا يحل". ظاهر في التحريم، ويجاب بأنه مجاز عن الكراهة الشديدة، جمعًا بينه وبين ما مر من جواز الرجوع. قال الطحاوي (¬3): قوله: "لا يحل". لا يستلزم التحريم، وهو كقوله: "لا تحل الصدقة لغني" (¬4). وإنما معناه: لا تحل له من حيث تحل لغيره من ذوي الحاجة. وأراد بذلك التغليظ في الكراهة، والله أعلم. 760 - وعن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقبل الهدية ويثيب عليها. رواه البخاري (¬5). ¬

_ (¬1) الشافعي 2/ 351 ح 585 - شفاء العي، واختلاف الحديث ص 160، 162. (¬2) ينظر التلخيص الحبير 3/ 72. (¬3) شرح معاني الآثار 4/ 79. (¬4) تقدم ح 490. (¬5) البخاري، كتاب الهبة، باب المكافأة في الهبة 5/ 210 ح 2585.

الحديث فيه دلالة على أنه كان عادته - صلى الله عليه وسلم - قبول الهدية والمكافأة عليها، لأن قولها: ويثيب عليها. أي يُهدي بدلها، والمراد بالثواب المجازاة، وقد ورد في رواية ابن أبي شيبة (¬1) بلفظ: ويثيب ما هو خير منها. وقد يستدل بهذا على وجوب المكافأة؛ لأن كون مثل ذلك عادة مستمرة يقضي بلزومه، ويحتمل أن تَعَوُّده - صلى الله عليه وسلم - لذلك إنما هو لما كان عليه من مكارم الأخلاق وسماحة النفس ببذل الإحسان، فلا يدل على الوجوب، وقد ذهب إلى القول بالوجوب الهدوية؛ فقالوا: يجب تعويضها حسب العرف. واستدل بعض المالكية بهذا الحديث على وجوب الثواب على الهدية إذا أطلق (أ) الواهب وكان ممن يطلب مثله الثواب كالفقير للغني، بخلاف ما يهبه الأعلى للأدنى، ووجه الدلالة منه مواظبته - صلى الله عليه وسلم -، ومن حيث التعليل أن الذي أهدى قصد أن يُعْطَى أكثر مما أهدى، فلا أقل من أن يعوض بالمثل، وبه قال الشافعي في القديم، وذهب إليه أيضًا الهدوية فقالوا: الأصل في الأعيان الأعواض. وقال الشافعي في الجديد كالحنفية: الهبة للثواب باطلة لا تنعقد؛ لأنها بيع بثمن مجهول، ولأن موضوع الهبة التبرع، فلو أوجبناه (ب) لكان في معنى المعاوضة، وقد فرق الشرع والعرف بين البيع والهبة؛ فما استحق العوض أطلق عليه لفظ البيع بخلاف الهبة. وقال ابن رشد المالكي (¬2): وأما هبة الثواب فأجازها مالك وأبو حنيفة ومنعها الشافعي، وبه قال داود وأبو ثور، وسبب الخلاف هل هو بيع مجهول الثمن أم ليس ببيع مجهول الثمن؟ ¬

_ (أ) زاد في ب: على. (ب) في فتح الباري 5/ 210: أبطلناه.

فمن رآه بيعًا مجهول الثمن قال: هو من بيوع الغرر التي لا تجوز. ومن لم ير أنها بيع مجهول قال: يجوز. وكأن مالكًا جعل العرف فيها بمنزلة الشروط، وهو ثواب مثلها، وكذلك اختلف القول عندهم إذا لم يرض الواهب بالثواب (أما الحكم أ)؟ فقيل: تلزمه الهبة إذا أعطاه الموهوب له القيمة. وقيل: لا يلزم إلا أن يرضيه. وهو قول عمر، فإذا اشترط فيه (5) الرضا فليس هنالك بيع انعقد، والأول هو المشهور عند مالك، وأما إذا ألزم القيمة فهنالك بيع انعقد، وإنما يحمل مالك الهبة على الثواب إذا اختلفوا في ذلك إذا دلت قرينة الحال على ذلك؛ مثل أن يهب الفقير للغني أو نحو ذلك. انتهى. وقال الإمام المهدي في "البحر": ويجب تعويضها حسب العرف. الإمام يحيى: بل المثلي مثله والقيمي قيمته، ويجب الإيصاء بها كالدين، ويعمل بظه ويحتاط بالزيادة؛ لفعله - صلى الله عليه وسلم - في قضاء ديونه. انتهى. وقد تُعُقِّب بأن الزيادة من النبي - صلى الله عليه وسلم - كانت على جهة التفضل كما جبل عليه من الخلق الكريم وبذل من لا يخشى إملاقًا. والله أعلم. 761 - وعن ابن عباس رضي الله عنه قال: وهب رجل لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ناقة فأثابه عليها، فقال: "رضيت؟ ". قال: لا. فزاده، فقال: "رضيت؟ ". فقال: لا. فزاده، فقال: "رضيت؟ ". فقال: نعم. رواه أحمد وصححه ابن حبان (¬1). ¬

_ (أ- أ) في جـ: بالحكم. (ب) في ب: فيها.

وروى أصل الحديث أبو داود (¬1) من حديث أبي هريرة، وطوله الترمذي ورواه من وجه آخر (¬2)، وبيّن أن الثواب كان ست بَكْرات. وكذا رواه الحاكم وصححه على شرط مسلم (¬3). وتمام الحديث قال: "لقد هممت أن ألا أَتَّهب إلا من قرشي أو أنصاري أو ثقفي". وإنما استثنى هؤلاء، لأنهم أكرم العرب، وقيل: لأنهم ليس فيهم غلظ البدو لأنهم حاضرة. 762 - وعن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "العُمْرَى لمن وُهبت له". متفق عليه (¬4). ولمسلم (¬5): "أمسكوا عليكم أموالكم ولا تفسدوها؛ فإنه من أعمر عمرى فهي للذي أعمرها حيًّا وميتًا ولعقبه". وفي لفظ: إنما العمرى التي أجاز رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يقول: هي لك ولعقبك. فأما إذا قال: هي لك ما عشت. فإنها ترجع إلى عاحبها (¬6). ولأبي داود والنسائي (¬7): "لا تُرقِبوا ولا تُعمِروا، فمن أرقب شيئًا أو أعمر شيئًا فهو لورثته". العُمرى بضم المهملة وسكون الميم، وحكي فتح العين مع السكون، وحكي ضم الميم مع ضم أوله، مأخوذة من العُمر، والرُّقْبى بوزن العُمْرى مأخوذة من المراقبة؛ لأنهم كانوا يفعلون ذلك في الجاهلية، فيعطي الرجل ¬

_ (¬1) أبو داود 3/ 289 ح 3537. (¬2) الترمذي 5/ 686 ح 3945. (¬3) الحاكم 2/ 62، 63. (¬4) البخاري، كتاب الهبة، باب ما قيل في العمرى والرقبى 5/ 238 ح 2625، ومسلم، كتاب الهبات، باب العمرى 3/ 1246 ح 1625/ 25. (¬5) مسلم، كتاب الهبات، باب العمرى 3/ 1246، 1247 ح 2625/ 16. (¬6) مسلم, كتاب الهبات, باب العمرى 3/ 1246 ح 1625/ 23. (¬7) أبو داود 3/ 293 ح 3556, والنسائي 6/ 273.

الدار ويقول له: أعمرتك إياها. أي: أبحتها لك مدة عمرك. فقيل لها عمرى لذلك، وكذا قيل لها رقبى؛ لأن كلًّا منهما يَرقب متى يموت الآخر لترجع إليه. وكذا ورثته يقومون مقامه في ذلك. هذا أصلها لغة. قوله: "العُمرى لمن وُهبت له" الحديث. فيه دلالة على شرعية العُمْرى وأنها مُمَلَّكة لمن وهبت له، وصحتها. وقد ذهب إلى هذا العلماء قاطبة إلا ما حكاه الطبري عن بعض الناس، والماوردي عن داود الظاهري وطائفة، لكن ابن حزم قال بصحتها وهو شيخ الظاهرية، ثم اختلف القائلون بصحتها إلى ما يتوجه التمليك؛ فالجمهور أنه يتوجه إلى الرقبة كسائر الهبات، حتى لو كان المعمَر عبدًا فأعتقه الموهوب له نفذ، بخلاف الواهب. وقيل: يتوجه إلى المنفعة دون الرقبة. وهو قول مالك والشافعي في القديم. وهل يسلك به مسلك العاريَّة أو الوقف؟ روايتان عند المالكية، وعند الحنفية التمليك في العُمْرى يتوجه إلى الرقبة وفي الرُّقْبى إلى المنفعة، وعنهم أنها باطلة (¬1). وهي على ثلاثة أقسام؛ إما أن تكون مؤبدة بأن يقول: أبدًا. أو نحو ذلك؛ بأن يقول: لك ولعقبك. فهذه لها حكم الهبة عند العترة والحنفية والشافعية، ولا ترجع إلى الواهب، إلا أن مالكًا يقول: إذا انقرضوا رجعت إلى الواهب؛ لأن لها حكم الوقف. في رواية. وإما أن تكون مطلقة عن التقييد، فلها عند الهدوية والناصر وأبي حنيفة والقول الجديد للشافعي ومالك حكم المؤبدة. وقال الشافعي في القديم: العقد باطل من أصله؛ لأنه تمليك عين قدر مدة عمره، فأشبه ما إذا قال: سَنَة. وعنه كقول مالك، وقيل: القديم للشافعي كالجديد. ويحتج للقول الأول بحديث الباب؛ فإن قوله: "العمرى لمن وهبت له". على إطلاقه، ¬

_ (¬1) ينظر الفتح 5/ 238، 239.

وكذا ما أخرجه مسلم (¬1)، الحديث المذكور، وهو من طريق أبي الزبير عن جابر قال: جعل الأنصار يُعْمِرون المهاجرين، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أمسكوا عليكم أموالكم ولا تفسدوها، فإنه من أعمر عمرى فهي للذي أُعْمِرها حيًّا وميتًا [ولعقبه] (أ) ". ولا يعارضه ما جاء في رواية الزهري عن أبي سلمة عن جابر عند مسلم (¬2): "أيما رجل أُعْمر عُمْرى له ولعقبه، فإنها للذي أُعطيَها، لا ترجع إلى الذي أعطاها؛ لأنه أعطى عطاء وقعت فيه المواريث". هذا لفظه من طريق مالك عن الزهري، وله نحوه من طريق ابن جريج عن الزهري (¬3)، وله من طريق الليث عنه (¬4): "فقد قطع قوله حقه فيها، وهي لمن أُعْمِر ولعقبه". ولم يذكر التعليل الذي في آخره، وله من طريق معمر عنه (¬5): إنما العُمْرى التي أجاز رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يقول: هي لك ولعقبك. فأما إذا قال: هي لك ما عشت. فإنها ترجع إلى صاحبها. قال معمر: كان الزهري يفتي به. ولم يذكر التعليل أيضًا؛ لأن التقييد في رواية بالزيادة المذكورة لا يقيد بها الرواية الأخرى المطلقة؛ لاحتمال أنهما واقعتان، والخاص الموافق للعام في الحكم لا يقيد العام ولا يخصصه إلا عند أبي ثور. والقسم الثالث: أن تكون مقيدة؛ بأن يقول: ما عشتَ، فإذا متَّ رجَعتْ إلى. أو يقول: مدة عُمُرك. فهذه عاريَّة مؤقتة، وقد دل على هذا ¬

_ (أ) في النسخ: لعقبه. والمثبت من صحيح مسلم.

ما في رواية معمر، وقد ذهب إلى هذا الهدوية. وقال النووي في "شرح مسلم" (¬1): في صحته خلات عند أصحابنا، منهم من أبطله، والأصح عندهم صحته، ويكون له حكم الحال الأول، واعتمدوا على الأحاديث الصحيحة المطلقة، وهي: "العُمْرى جائزة" (¬2). وعدلوا به عن قياس الشروط الفاسدة، والأصح الصحة في جميع الأحوال، وأن الموهوب له يملكها ملكًا تامًّا يتصرف فيها بالبيع وغيره من التصرفات. هذا مذهبنا. وقال أحمد: تصح العمرى المطلقة دون المؤقتة. وقال مالك في أشهر الروايات عنه: العُمْرى في جميع الأحوال تمليك لمنافع الدار مثلًا، ولا يملك فيها رقبة الدار بحال. وقال أبو حنيفة بالصحة كنحو مذهبنا، وبه قال الثوري والحسن بن صالح وأبو عبيد رحمهم الله، وحجة الشافعي [ومُوافقيه] (أ) هذه الأحاديث الصحيحة. انتهى كلامه. وأجاب الإمام المهدي في "البحر" بأن الأحاديث إنما تدل على العمرى المطلقة لا المقيدة، فإن التقييد يدل على أنه لم يخرجها عن ملكه بل أعارها. وقد يجاب عنه بأن الإطلاق في الأحاديث يتناول المقيدة، لوجود المطلق عند وجود المقيد، وفي ذلك مخالفة لما كان عليه الجاهلية من اعتبار التقييد، فجاء الإسلام على إبطاله، وتكون فائدة النهي بقوله: "لا تفسدوا أموالكم". فإنهم كان في ظنهم بقاء الحكم الجاهلي، فقيل لهم: الإسلام بخلافه. والله أعلم. وأما العمرى المقيدة بشهر أو سنة فعاريَّة إجماعًا، وأما ¬

_ (أ) في الأصل، ب: موافقته، وفي جـ: وموافقته. والمثبت من شرح مسلم.

المقيدة بعُمر الرقبة المعمرة فلها حكم المطلقة. ذكر ذلك الإمام المهدي في "البحر"، وهو قوي. وقوله: "أمسكوا عليكم أموالكم" الحديث. المراد به إعلامهم أن العمرى هبة صحيحة ماضية يملكها الموهوب له ملكًا تامًّا لا [يعود] (أ) إلى الواهب أبدًا، فإذا علموا ذلك فمن شاء أعمر ودخل على بصيرة ومن شاء ترك؛ لأنهم كانوا يتوهمون أنها كالعارية يرجع فيها، وهذا ظاهر في مذهب الشافعي. قوله: ولعقبك. العقب بفتح العين المهملة وكسر القاف، ويجوز سكونها، والمراد به أولاد الإنسان ما تناسلوا، وأصله أن كلما رفع عَمرٌو عَقِبا وضع زيد قدما. ثم كثر حتى قيل (ب): جاء عقبه. ثم كثر حتى استعمل بمعنى المتابعة. قوله: فإنها ترجع إلى صاحبها. ظاهر هذا الحديث حجة للهدوية وأحد أقوال الشافعي؛ أن التقييد بقوله: ما عشتَ. يخرجها إلى حكم العاريّة ولا يكون لها حكم الهبة، ولعل المخالفين يجيبون عن ذلك بأن يكون المراد بذلك هو ما إذا قصد بقوله: ما عشت. أن تعود إلى الواهب بعد موته فيكون لها حكم ما إذا صرح بذلك الشرط، فكأنه قال: ما عشتَ. أي مدة حياتك وبعد ذلك تعود إلي. والمؤنس بهذا التقييد هو ورود الأحاديث المطلقة في العُمْرى، مع أن في لفظ العُمْرى ما يدل على معنى قوله: ما عشت. فإن العُمْرى مأخوذة من العمر، وكان ذلك مع الإطلاق محتملا ¬

_ (أ) في الأصل: تعود، وغير منقوطة في ب. (ب) زاد في جـ: قد.

لهذا القصد، وهو متفق عليه. وقوله: "لا تُرقِبوا". الرُّقْبى في معنى العُمْرى كما تقدم في الاشتقاق، وقد فسرها عطاء لمّا قال له عبد الكريم: ما الرقْبى؟ قال: يقول الرجل للرجل: هي لك حياتك. فإن فعلتم فهو جائز. هكذا أخرجه النسائي مرسلًا (¬1). وأحكام الرُّقْبى أحكام العُمْرى. واختلف العلماء في توجيه النهي في قوله: "لا تُرقِبوا" (¬2). فالأظهر أنه يتوجه إلى الحكم، وقيل: يتوجه إلى اللفظ الجاهلي والحكم المنسوخ، وقيل: النهي وإن توجه إلى الحكم فلا يمنع الصحة إذا كان صحة المنهي عنه ضررًا (أ) على مرتكبه كالطلاق في زمن الحيض، وصحة الرقبى والعمرى ضرر على المُرْقِب والمُعْمِر، لأن مِلكه يزول بغير عوض، وهذا إذا حمل النهي على التحريم، وإن حمل على الكراهة أو الإرشاد لم يحتج إلى ذلك، وهو الظاهر، لوجود القرينة الصارفة إلى ذلك، وهو ما ذكر في آخر الحديث من بيان الحكم. وقوله: "العُمْرى جائزة لأهلها، والرُّقْبَى جائزة لأهلها". أخرجه الترمذي (¬3). وقال بعض المحققين: العُمْرى والرُّقْبَى بعيدتان عن قياس الأصول، ولكن الحديث معمول به، ولو قيل بتحريمهما للنهي وصحتهما للحديث [لم يبعد] (ب)، وكأنَّ النهي لأمر خارج وهو حفظ الأموال، ولو ¬

_ (أ) في جـ: ضرارا. (ب) ساقط من النسخ. والمثبت من الفتح 5/ 240.

كان المراد فيهما المنفعة كما قال مالك لم ينه عنهما، والظاهر أنه ما كان مقصود العرب بهما إلا تمليك الرقبة بالشرط المذكور، فجاء الشرع بمراغمتهم، فصحح العقد على طريقة الهبة وأبطل الشرط المضاد لذلك، فإنه يشبه الرجوع في الهبة، وقد صح النهي عنه، وشبه بالكلب يعود في قيئه (¬1)، وقد روى النسائي (¬2) من طريق أبي الزبير عن ابن عباس رضي الله عنهما رفعه: "العُمْرى لمن أعمرها والرُّقْبَى لمن أرقبها، والعائد في هبته كالعائد في قيئه". فشرط الرجوع المقارن للعقد مثل الرجوع الطارئ بعده، فنهى عن ذلك وأمر صاحب المال أن يبقيه مطلقًا أو يخرجه مطلقًا، فإن أخرجه على خلاف ذلك بطل الشرط وصحّ العقد مراغمة له، وهو مثل شرط الولاء. 763 - وعن عمر رضي الله عنه قال: حمَلت على فرس في سبيل الله، فأضاعه صاحبه، فظننت أنه بائعه برخص، فسألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "لا تبتعه وإن أعطاكه بدرهم" الحديث. متفق عليه (¬3). تمامه: "فإن العائد في صدقته كالكلب يعود في قيئه". قوله: حملت. أي: جعلته له ملكًا ليجاهد عليه. ولم يرد أنه وقفه للجهاد؛ إذ لو كان حملَ تَحبيس لم يجز بيعه، ويدل على ذلك قوله: برخص. فلو كان محبَّسًا لما رغب إلى أخذه، ولو جاز بيع الوقف إذا بطل ¬

_ (¬1) تقدم ح 758. (¬2) النسائي 6/ 269، 270. (¬3) البخاري، كتاب الهبة، باب لا يحل لأحد أن يرجع في هبته وصدقته 5/ 235 ح 2623، ومسلم، كتاب الهبات، باب كراهة شراء الإنسان ما تصدق به ممن تصدق عليه 3/ 1239 ح 1620.

نفعه في المقصود لإضاعته كما قد قيل هنا، لكنه لا يسوّغ شراءه إلا بالقيمة الوافرة، وليس له أن يسامح منها بشيء ولو كان المشتري هو المحبس، وقد استشكله الإسماعيلي (¬1) وقال: إذا كان شرط الوقف ما تقدم ذكره في حديث ابن عمر في وقف عمر لا يباع أصله ولا يوهب، فكيف يجوز أن يباع الفرس الموهوب وكيف لا ينهى بائعه أو يمنع من بيعه؟ وأجاب بأنه لعل معناه أن عمر جعله صدقة يعطها من يرى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إعطاءه، فأعطاها النبي - صلى الله عليه وسلم - الرجل المذكور، فجرى منه ما ذكر، ويستفاد من التعليل المذكور أيضًا أنه لو وجده مثلًا يباع بأعلى من ثمنه لم يتناوله النهي. انتهى. وفي الجواب بُعد. وهذا الفرس يسمي الورد، أهداه تميم الداري للنبي - صلى الله عليه وسلم -، فأعطاه عمر، فحمل عليه عمر في سبيل الله. أخرجه ابن سعد (¬2) عن الواقدي. وأخرج مسلم وساقه أبو عوانة (¬3) في "مستخرجه" عن ابن عمر، أن عمر حمل على فرس في سبيل الله، فأعطاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجلًا. وهذا لا يعارض ما ذكر وإن كان مناسبًا لتأويل الإسماعيلي؛ لأنه يُحمَل على أن عمر لما أراد أن يتصدق به فوض إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اختيار من يتصدق به عليه، واستشاره في ذلك، فأشار إليه بتعيين الرجل المملَّك، فنسب العطية إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -. وقوله: فأضاعه. أي لم يحسن القيام عليه وقصَّر في مؤنته وخدمته. وقيل: أي لم يعرف مقداره، فأراد بيعه بدون قيمته. وقيل: معناه: استعمله في غير ما جعل له. والأول أظهر، ويؤيده رواية مسلم (¬4) عن زيد بن أسلم: ¬

_ (¬1) ينظر الفتح 5/ 236. (¬2) الطبقات الكبرى 1/ 490. (¬3) مسلم 3/ 1240 ح 1621، وأبو عوانة 3/ 451 ح 5656. (¬4) مسلم 3/ 1239 ح 1620/ 2.

فوجده قد أضاعه، وكان قليل المال. فأشار إلى علة ذلك وإلى العذر المذكور في إرادة بيعه. وقوله: "لا تبتعه". أي: لا تشتره. وفي رواية البخاري: "ولا تعد في صدقتك". وسمى الشراء عودًا في الصدقة؛ لأن العادة جرت بالمسامحة من البائع في مثل ذلك للمشتري، فأطلق على القدر الذي تسامح به رجوعًا، وأشار إلى الرُّخص بقوله: "وإن أعطاكه بدرهم". وظاهر النهي التحريم، وقد ذهب إليه قوم، والجمهور حملوا النهي على التنزيه، قال القرطبي (¬1) رحمه الله تعالى: وهو الظاهر. ثم الزجر المذكور مخصوص بصورة الشراء وما أشبهها لا ما رجع بالميراث، ولعل ضابط ذلك ما رجع الملك إليه بالاختيار. قال الطبري (¬2): يخص من عموم هذا الحديث من وهب بشرط الثواب، ومن كان الواهب الوالد لولده، والهبة التي لم تقبض، والتي ردها الميراث إلى الواهب، لثبوت الأخبار باستثناء ذلك، وأما ما عدا ذلك كالغني يثيب الفقير، ونحو من يصل رحمه، فلا رجوع لهؤلاء. قال: ومما لا رجوع فيه مطلقًا الصدقة يراد بها ثواب الآخرة، وإنما ذكر عمر مثل هذا العمل الصالح مع أن الكتم أفضل؛ لأمنه من الرياء، ولأن في ذلك بيان حكم شرعي، والتصريح بنسبته إلى نفسه؛ ليكون في روايته تحقيق القصة وتثبيت الحكم. 764 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "تهادَوا ¬

_ (¬1) ينظر الفتح 5/ 237، ويعني بقوله: وهو الظاهر. التحريم فقد جاءت العبارة في الفتح هكذا: حمل الجمهور هذا النهي في صورة الشراء على التنزيه، وحمله قوم على التحريم قال القرطبي وغيره: وهو الظاهر. وينظر سبل السلام 3/ 136. (¬2) ينظر الفتح 5/ 237.

تحابوا". رواه البخاري في "الأدب المفرد" وأبو يعلى بإسناد حسن (¬1). وأخرجه البيهقي وأورده ابن طاهر (¬2) في "مسند الشهاب" من طريق محمد بن بكير عن ضمام بن إسماعيل عن موسى بن وردان عن أبي هريرة، وإسناده حسن، وقد اختلف فيه على ضمام؛ فقيل: عنه عن أبي قبيل، عن [عبد الله بن عمرو. أورده] (أ) ابن طاهر، ورواه في "مسند الشهاب" من حديث عائشة رضي الله عنها بلفظ: "تهادَوا تزدادوا حبًّا". وإسناده غريب، فيه محمد بن سليمان (¬3)، قال ابن طاهر: لا أعرفه. وأورده أيضًا من وجه آخر عن أم حكيم بنت وداع الخزاعية، وقال ابن طاهر: إسناده أيضًا غريب وليس بحجة. وروى مالك في "الموطأ" (¬4) عن عطاء الخراساني رفعه: "تصافحوا يذهب الغلّ، وتهادَوا تحابوا وتذهب الشحناء". ذكره في أواخر الكتاب، وفي "الأوسط" للطبراني (¬5) من حديث عائشة رفعه: "تهادوا تحابوا، وهاجروا تورثوا أولادكم مجدًا، وأقيلوا الكرام عثراتهم". وفي إسناده نظر. 765 - وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "تهادَوا؛ فإن الهدية تسلُّ السخيمة". رواه البزار بإسناد ضعيف (¬6). ¬

_ (أ- أ) في الأصل، ب: عبيد الله بن عمر ورده. وفي جـ: عبد الله بن عمر ورده. والمثبت من مسند الشهاب ح 657، والتلخيص الحبير 3/ 70. وينظر تهذيب الكمال 7/ 491، 15/ 357.

ورواه ابن حبان في "الضعفاء" (¬1) من طريق بكر بن بكار عن عائذ بن شريح عن أنس بلفظ: "تهادَوا؛ فإن الهدية قلَّت أو كثرت تذهب السخيمة". وضعفه بعائذ، قال ابن طاهر: تفرد به عائذ، وقد رواه عنه جماعة من الثقات والضعفاء. قال: ورواه كوثر بن حكيم (¬2) عن مكحول عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسلًا، وكوثر متروك. وروي الترمذي (¬3) من حديث أبي هريرة: "تهادوا؛ فإن الهدية تذهب وحر الصدور (¬4) ". وفي إسناده أبو معشر المدني (¬5)، وتفرد به، وهو ضعيف، ورواه ابن طاهر في "أحاديث الشهاب" من طريق عصمة بن مالك بلفظ: "الهدية تذهب بالسمع والبصر". ورواه ابن حبان في "الضعفاء" (¬6) من حديث ابن عمر بلفظ: "تهادَوا؛ فإن الهدية تذهب الغل". ورواه محمد ابن [أبي] (أ) الزُّعَيزِعة وقال: لا يجوز الاحتجاج به. وقال فيه البخاري (¬7): منكَر الحديث. وروى أبو موسى المديني في "الذيل" (¬8) في ترجمة زَعْبل، بالزاي والباء بعد العين المهفلة، يرفعه: "تزاوروا وتهادَوا؛ فإن الزيارة تثبت الود، والهدية تذهب السخيمة". وهو مرسل؛ وليس لزعبل صحبة. 766 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يا ¬

_ (أ) ساقط من النسخ، والمثبت من التلخيص الحبير 3/ 69. وينظر الضعفاء لابن الجوزي 3/ 59، وميزان الاعتدال 3/ 548.

نساء المسلمات، لا تحقرن جارة لجارتها ولو فِرْسِن شاة". متفق عليه (¬1). قوله: "يا نساء". قال القاضي عياض (¬2): الأصح الأشهر نصب النساء على أنه منادى مضاف إلى المسلمات، وهو من باب إضافة الموصوف إلى صفته كـ: مسجد الجامع. وقد أجازه الكوفيون اكتفاءً بمغايرة اللفظ بين المضاف والمضاف إليه، والبصريون يتأولون ذلك بتقدير المضاف إليه محذوفًا، وهو موصوف بالصفة المذكورة، ولكنه أقيم الصفة مقام الموصوف بعد حذفه، وتقديره الأنفس والطوائف. قال ابن بطال (¬3): والمراد بالأنفس والطوائف الرجال. واستبعده لأنه يصير مدرجا للرجال، وهو - صلى الله عليه وسلم - إنما خاطب النساء وحدهن. ولكنه يجاب عنه بأن ذلك لا يصيِّر الرجال مخاطبين، إنما المخاطب المضاف، والمضاف إليه ليس بمخاطب، كما في قولك: يا غلام زيد. وقيل: إنه عنى بالنساء الفاضلات، فتقديره: يا فاضلات المسلمات. كما يقال: هؤلاء رجال القوم. أي: أفاضلهم. وقال ابن [رُشيد] (أ): إن الخطاب لنساء بأعيانهن، فكأنه قال: يا خيّرات المسلمات. وتعقب بأنه لم يخصهن بالحكم؛ لأن غيرهن شاركهن في الحكم. وأجيب بأن المشاركة إنما كانت بطريق الإلحاق، والخطاب لمعيّن. ¬

_ (أ) في النسخ: رشد. والمثبت من فتح الباري 5/ 198، وهو محمد بن عمر بن محمد بن عمر بن رُشَيد أبو عبد الله الفهري السبتي، توفي سنة إحدى وعشرين وسبعمائة. وينظر الدرر الكامنة 4/ 229.

وأنكر ابن عبد البرّ (¬1) رواية الإضافة، وردّه ابن السيد بأنها قد صحت نقلًا واستقامت من حيث المعنى. وقال السهيلي وغيره: جاء برفع الهمزة في النساء على أنه منادى مفرد، ويجوز في المسلمات الرفع على اللفظ والنصب على المحل. وقد رواه الطبراني (¬2) من حديث عائشة: "يا نساء المؤمنين". قوله: "لجارتها". كذا في رواية الأكثر. ولأبي ذر: "لجارة". من دون إضافة. وقوله: "ولو فرسن". لا بد من تقدير متعلق لقوله: "تَحقِرنَّ". وهو: هدية مهداة. والفِرسن بكسر الفاء والمهملة بينهما راء ساكنة وآخره نون، وهو عظم قليل اللحم، وهو للبعير موضع الحافر من الفرس، ويطلق على الشاة مجازًا، ونونه زائدة، وقيل: أصلية. والمراد المبالغة في إهداء الشيء اليسير وقبوله لا حقيقة الفرسن؛ لأنها لم تجر العادة بإهدائه، والمعنى أن الجارة لا تمنع هدية ما عندها وإن حقرت، وهو خير من العدم، هذا إذا كان النهي للمهدي، ويحتمل أن يكون للمُهدَى إليها، والمعنى أنها لا تحتقر (أ) ما أهدي إليها وإن كان قليلًا، وحمله على الأعم من ذلك أولى، ولعل تخصيص النساء بذلك لما كان النساء بحسب الأغلب إنما يتصرفن فيما يملكه الزوج، فنبهن بالمهاداة بالشيء اليسير الذي تطيب نفوس الأزواج بإهدائه من أموالهم من متاع البيت. وفي الحديث الحث على التهادي ولو باليسير؛ لأن الكثير قد لا يتيسر، وإذا تواصل اليسير عاد كثيرًا مع الاجتماع. وفيه استجلاب المودة وإسقاط التكلف. 767 - وعن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من ¬

_ (أ) في ب: تحقر.

وهب هبة فهو أحق بها ما لم يُثَب عليها". رواه الحاكم وصححه (¬1). والمحفوظ من رواية ابن عمر عن عمر قوله. الحديث رواه مالك (¬2) عن داود بن الحصين، عن أبي غطفان [بن طريف] (أ) أن عمر قاله وأتم منه. ورواه البيهقي (¬3) من حديث ابن وهب، عن حنظلة، عن سالم بن عبد الله، عن أبيه، عن عمر نحوه. قال: ورواه [عبيد الله] (ب) بن موسى، عن حنظلة مرفوعًا، وهو وهم. قال المصنف رحمه الله (¬4): صححه الحاكم وابن حزم، قال ابن حزم (¬5): وقيل عن عبيد الله بن موسى، عن إبراهيم بن إسماعيل بن مجمع، عن عمرو بن دينار، عن أبي هريرة مرفوعًا: "الواهب أحق بهبته ما لم يُثَب منها". قال المصنف رحمه الله: رواه ابن ماجه (¬6) من هذا الوجه، والمحفوظ عن عمرو بن دينار عن سالم عن أبيه عن عمر. قال البخاري: هذا أصح. ورواه الدارقطني (¬7) من هذا الوجه، ورواه الحاكم (¬8) من حديث الحسن عن سمرة مرفوعًا: "إذا كانت الهبة لذي رحم محرم لم يرجع". ورواه الدارقطني (¬9) ¬

_ (أ) في النسخ: من طريق. والمثبت من الموطأ. (ب) في النسخ: عبد الله. والمثبت من سنن البيهقي، وينظر تهذيب الكمال 19/ 164.

من حديث ابن عباس، وسنده ضعيف. انتهى. وقال ابن الجوزي (¬1): حديث ابن عمر وأبي هريرة وسمرة كلها ضعيفة وليس منها ما يصح. الحديث فيه دلالة على جواز رجوع الواهب في هبته، وقد تقدم الكلام في ذلك (¬2)، ومفهوم قوله: "ما لم يثب عليها". أنه لا يصح الرجوع في الهبة التي أثاب الواهبَ الموهوبُ له، وقد قال بهذا من العلماء من ذهب إلى صحة الهبة لقصد الثواب، وقد تقدم الخلاف في صحتها (¬3)، ومقتضى قول من قال: إنها لا تصح وإنها حكم البيع الباطل - صحةُ الرجوع. ولكن مفهوم هذا الحديث ينابذ قوله. والله أعلم. ¬

_ (¬1) التحقيق في أحاديث الخلاف 2/ 231. (¬2) تقدم 429 - 431. (¬3) تقدم ص 432، 433.

باب اللقطة

باب اللقطة اللقطة بضم اللام وفتح القاف على المشهور عند أهل اللغة والمحدثين. وقال عياض (¬1): لا يجوز غيره. وقال الزمخشري في "الفائق" (¬2): بفتح القاف، والعامة تسكنها. كذا قال. وجزم الخليل (¬3) بأنها بالسكون، قال: وأما بالفتح فهو اللاقط. وقال الأزهري (¬4): هذا الذي قاله هو القياس، ولكن الذي سمع من العرب وأجمع أهل اللغة والحديث عليه هو الفتح. وقال ابن بري (¬5): التحريك للمفعول. وقال بعضهم (¬6): اسم للملتقط كالضُّحَكة والهُمَزة، وأما المال الملقوط فهو بسكون القاف، نادر، فاقتضى أن الذي قاله الخليل هو القياس، وفيها لغتان أخريًان أيضًا، لقاطة بضم اللام، ولَقَط بفتح اللام والقاف بغير هاءٍ، [ووجه] (أ) بعض المتأخرين فتح القاف في لقطة في المأخوذ أنه للمبالغة، وذلك لمعنى فيها اختصت به، وهو أن كل من يراها يميل لأخذها، فسميت باسم الفاعل لذلك. 768 - عن أنس رضي الله عنه قال: مر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بتمرة في الطريق فقال: "لولا أني أخاف أن تكون من الصدقة لأكلتها". متفق عليه (¬7). ¬

_ (أ) في الأصل، ب: ورجح.

الحديث فيه دلالة على جواز أخذ الشيء الحقير الذي يتسامح به ولا يجب التعريف به، لأنه - صلى الله عليه وسلم - ذكر أنه لم يمنعه من أكلها إلا تورعًا؛ خثسية أن تكون من الصدقة التي حرمت عليه، لا لكونها مرمية في الطريق، ولم يذكر تعريفًا، فدل على أن الآخذ يملكها بمجرد الأخذ، والظاهر أن جواز الأخذ إنما هو فيما كان (أ) لقطة مجهولة المالك، وأما ما كان مالكه معلومًا فلا يجوز أخذه وإن كان يسيرًا إلا بإذن من مالكه. وقد روى مثل هذا ابن أبي شيبة (¬1) عن ميمونة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم -، أنها وجدت تمرة فأكلتها وقالت (5): لا يحب الله الفساد. يعني أنها لو تُركت فلم تؤخذ وتؤكل لفسدت، ومثل هذا هو مجزوم به عند الأكثر، وأشار الرافعي إلى تخريج وجه فيه. وقد يورد إشكال؛ وهو أنه كيف تركها - صلى الله عليه وسلم - في الطريق مع أن إلى الإمام حفظ المال الضائع وحفظ ما كان من الزكاة [و] (جـ) صرف ذلك في مصرفه؟! وأجيب باحتمال أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - أخذها للحفظ، وإنما تورع من أكلها، وليس في الحديث ما يدل على مخالفة ذلك، أو أنه تركها عمدًا لينتفع بها من يأخذها ممن تحل له الصدقة، وإنما يجب على الإمام حفظ المال الذي يعلم طلب صاحبه له، لا ما جرت العادة بالإعراض عنه لحقارته. والله أعلم. 769 - وعن زيد بن خالد الجهني قال: جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فسأله ¬

_ (أ) في جـ: يكون. (ب) في ب: قال. وفي جـ: قلت. (جـ) في الأصل، ب: أو.

عن اللقطة، فقال: "اعرف عفاصها ووكاءها ثم عرِّفها سنة، فإن جاء صاحبها، وإلا فشأنك بها". قال: فضالة الغنم؟ قال: "هي لك أو لأخيك أو للذئب". قال: فضالة الإبل؟ قال: "ما لك ولها؟ معها سقاؤها وحذاؤها، ترد الماء وتأكل الشجر حتى يلقاها ربها". متفق عليه (¬1). 770 - وعنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من آوى ضالة فهو ضال، ما لم يعرِّفها". رواه مسلم (¬2). هو أبو طلحة، وقيل: أبو عبد الرحمن. زيد بن خالد الجهني، من جهينة بن زيد، نزل الكوفة، روى عنه عبيد الله بن عبد الله بن عتبة وعطاء بن يسار، مات بالكوفة سنة ثمان وسبعين، ويقال: مات في آخر أيام معاوية وهو ابن خمس وثمانين سنة. وقيل في وفاته غير ذلك (¬3). قوله: جاء رجل. هكذا في رواية مالك عن ربيعة، وجاء في البخاري (¬4): جاء أعرابي. وزعم ابن بشكوال (¬5) وعزاه لأبي داود وتبعه بعض المتأخرين أن السائل المذكور هو بلال المؤذن. قال المصنف (¬6) رحمه الله: ولم أر عند أبي داود في شيء من النسخ شيئًا من ذلك، وفيه بُعْد أيضًا، لأنه لا يوصف بأنه أعرابي. وقيل: السائل هو الراوي. ¬

_ (¬1) البخاري، كتاب اللقطة، باب لا تحتلب ماشية أحد بغير إذنه 5/ 91 ح 2436، ومسلم، كتاب اللقطة 3/ 1346 ح 1722. واللفظ لمسلم. (¬2) مسلم، كتاب اللقطة 3/ 1351 ح 1725. (¬3) ينظر الاستيعاب 2/ 549، وأسد الغابة 2/ 284، والإصابة 2/ 603. (¬4) البخاري 5/ 80 ح 2427. (¬5) غوامض الأسماء 2/ 841، 842. (¬6) الفتح 5/ 80.

وفيه بُعْد إيضًا؛ لما ذكرناه، ومستند من قال ذلك ما رواه الطبراني (¬1) من وجه آخر (أ) عن ربيعة بهذا الإسناد فقال فيه: إنه سأل النبي - صلى الله عليه وسلم -. وجاء في رواية أحمد (¬2) عن زيد بن خالد بالشك أنه السائل، أو رجل آخر. وفي رواية ابن وهب (¬3) عن زيد بن خالد: أتى رجل وأنا معه. فدل هذا على أنه غيره، ولعله نسب السؤال إلى نفسه لكونه كان مع السائل، ثم [ظفرت] (ب) بتسمية السائل فيما أخرجه الحميدي والبغوي وغيرهما عن عقبة بن سويد الجهني عن أبيه قال: سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن اللقطة فقال: "عرِّفها سنة ثم أوثق وعاءها". فذكر الحديث، وقد ذكر أبو داود (¬4) طرفًا منه تعليقًا ولم يسق لفظه، وكذلك البخاري في "تاريخه" (¬5). وروى ابن أبي شيبة والطبراني (¬6) من طريق أبي ثعلبة الخشني قال: قلت: يا رسول الله، الورق يوجد عند القرية؟ قال: "عرفها حولًا" الحديث. وفيه سؤاله عن الشاة والبعير وجوابه، وهو في أثناء حديث طويل أخرج أصله النسائي (¬7). وروى الإسماعيلي في "الصحابة" من طريق مالك عن ابن عمر عن أبيه، أنه سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن اللقطة فقال: "إن وجدت من يعرفها فادفعها" الحديث. ¬

_ (أ) في ب: أخرجه. (ب) في النسخ: ظفر، والمثبت من الفتح 5/ 80.

وإسناده واهٍ جدًّا. وروى الطبراني (¬1) من حديث الجارود العبدي قال: قلت: يا رسول الله، اللقطة نجدها؟ قال: "انشُدها ولا تكتم ولا تغيِّب" الحديث. قوله: فسأله عن اللقطة. هكذا في أكثر الروايات، وفي لفظ البخاري: عما يلتقطه. وزاد مسلم في رواية: والذهب والفضة. وهو كالمثال، وإلا فاللقطة تشمل ذلك وغيره. وقوله: "اعرف عفاصها ... " إلخ. هذا لفظ مسلم، والعِفاص بكسر المهملة وتخفيف الفاء وبعد الألف مهملة: الوعاء الذي يكون فيه النفقة، جلدًا كان أو غيره. وقيل له: العفاص. أخذًا من العفص وهو [الثني؛ لأن الوعاء] (أ) يثنى على ما فيه. وقد وقع في زوائد "المسند" لعبد الله بن أحمد: "وخرقتها" [بدل] (5) "عفاصها". والعفاص أيضًا الجلد الذي يكون على رأس القارورة، وأما الذي يدخل فم القارورة من جلد أو غيره فهو الصمام بكسر الصاد المهملة، فحيث ذكر العفاص مع الوعاء فالمراد الثاني كما جاء في بعض روايات مسلم، وحيث لا يذكر فالمراد به الأول، والغرض منه معرفة الآلات التي تحفظ النفقة، و [يلتحق] (جـ) بذلك حفظ الجنس والقدر، والكيل فيما يكال، والوزن فيما يوزن، والذرع فيما يذرع، والعدد فيما يعدّ. وقد جاء في رواية لمسلم: "عفاصها ووكاءها وعددها". وقال جماعة من الشافعية: [يستحب] (د) تقييدها بالكتابة خوف النسيان. وقد اختلفت ¬

_ (أ) في النسخ: المثنى لأن العفص. والمثبت من الفتح 5/ 81. (ب) في النسخ: تعدل. والمثبت من الفتح. (جـ) في الأصل: يلحق. (د) في النسخ: يستحق. والمثبت من الفتح 5/ 81.

روايات الحديث، فقد جاء معرفة هذه الأشياء قبل التعريف كما جاء في رواية مسلم، كما ذكر في هذا الكتاب، وقد جاء التعريف مقدمًا كما في البخاري، وعطف معرفة هذه الأشياء بـ "ثم"، وهو يقتضي أن التعريف سابق. قال النووي (¬1): يمكن الجمع بينهما بأن يكون مأمورًا بالمعرفة في حالتين؛ فيعرفها بالعلامات وقت الالتقاط (أ) حتى يعلم صدق واصفها إذا وصفها، ثم بعد تعريفها سنة إذا أراد أن يتملكها فيعرفها معرفة أخرى تَعَرُّفًا وافيًا محققًا؛ ليعلم قدرها وصفتها حتى يردها إلى صاحبها إذا أتى. قال المصنف رحمه الله تعالى (¬2): ويحتمل أن تكون "ثم" بمعنى الواو فلا تقتضي ترتيبًا (ب [فلا مخالفة ولا] ب) يحتاج إلى الجمع، ويقويه كون القصة واحدة والمخرج واحدا، وإنما يحسن ذلك لو كان المخرج مختلفًا أو تعددت القصة، واختلف في هذه المعرفة على قولين للعلماء؛ الأظهر الوجوب؛ لظاهر الأمر، وقيل: مستحب. وقال بعضهم: يجب عند الالتقاط ويستحب بعده. وظاهر الحديث أن اللقطة يجوز ردها للواصف بل يجب ذلك، وأصرح من حديث الباب ما في البخاري (¬3): "فإن (جـ) جاء أحد يخبرك بها". وفي ¬

_ (أ) في ب: التقاطه. (ب- ب) في الفتح: ولا تخالفا. (جـ) في جـ: فإذا.

لفظ: "فإن جاء أحد يخبرك بعددها ووعائها ووكائها فأعطها إياه". أخرجه مسلم وأخرجه أحمد وأبو داود (¬1)، وقال أبو داود (¬2): إن هذه الزيادة رواها حماد بن سلمة وهي غير محفوظة. وقد تمسك [به] (أ) من حاول تضعيفها فلم يصب، بل هي صحيحة، مع أنه قد وافق حمادَ بنَ سلمة الثوريُّ، أخرجه النسائي وأحمد (¬3)، فزال عن الزيادة الشذوذ. وقد ذهب إلى ذلك أحمد ومالك فقالا: يجب الرد للواصف. إلا أن مالكًا وأصحابه فصَّلوا في ذلك فقالوا: إنه يجب مع العفاص والوكاء صفة الدنانير والعدد. قالوا: وذلك موجود في بعض روايات الحديث. قالوا: ولا يضره الجهل بالعدد إذا عرف العفاص والوكاء، وكذلك إذا زاد فيه. واختلفوا إن نقص من العدد على قولين، وكذلك اختلفوا إذا جهل الوصف وجاء بالعفاص والوكاء، وأما إذا غلط فيها فلا شيء له، وأما إذا عرف أحد العلامتين اللتين وقع النص عليهما وجهل الأخرى؛ فقيل: لا شيء له إلا بمعرفته لهما جميعًا. وقيل: يدفع إليه بعد الاستبراء. وقيل: إن ادعى الجهالة استبرئ، وإن غلط لم يدفع إليه. واختلفوا هل تحتاج إلى يمين بعد الوصف؟ فقال ابن القاسم: بغير يمين. وهو ظاهر الحديث. وقال أشهب: بيمين. وقد ذكر مثل ذلك أبو مضر للهادي والمؤيد بالله، وأنه يجب الرد إذا غلب في ظنه صدق الواصف فيما بينه وبين الله؛ لأن العمل بالظن واجب. وقد ضعف ¬

_ (أ) في جـ: بها.

هذا التعليل بأنه لا يجب فيما يخشى من عاقبته التضمين. وذهب أبو حنيفة والشافعي إلى أنه يجوز الرد للواصف إذا غلب في الظن الصدق، ولا يجب إلا ببينة. وذكر مثل هذا في "شرح الإبانة" وقال: هو قول عامة أهل البيت وعلماء الفريقين. يعني الحنفية والشافعية. قال ابن رشد في "نهاية المجتهد" (¬1): وسبب الخلاف معارضة الأصل في اشتراط الشهادة في صحة الدعوى؛ لظاهر الحديث، فمن غلَّب الأصل قال: لا بد من البينة. ومن غلَّب ظاهر الحديث قال: لا يحتاج إلى بينة. وإنما اشترط الشهادة أبو حنيفة والشافعي؛ لأن قوله - صلى الله عليه وسلم -: "اعرف عفاصها ووكاءها". يحتمل أن يكون ذلك لأجل ألا تلتبس بماله، وليس لأجل الرد، فلما وقع الاحتمال وجب الرجوع إلى الأصل، فإن الأصول لا تعارض بالاحتمال المخالف لها إلا أن تصح الزيادة المذكورة في الحديث. قال المصنف رحمه الله تعالى (¬2): قد صحت هذه الزيادة فتعين المصير إليها. قال: وما اعتل به بعضهم من أنه إذا وصفها فأصاب فدفعها إليه، فجاء شخص آخر فوصفها فأصاب، لا يقتضي الطعن في الزيادة، فإن ذلك الاحتمال حاصل مع البينة. وقال الخطابي (¬3): إن صحت الزيادة لم تجز مخالفتها، وهي فائدة قوله: "اعرف عفاصها ... " إلخ. وإلا فالاحتياط مع من لم ير الرد إلا بالبينة. قال: ويتأول قوله: "اعرف عفاصها". على أنه أمره بذلك لئلا يختلط بماله، أو لتكون الدعوى فيها معلومة. والله أعلم. وذكر غيره من الفوائد أيضًا أن يعرف صدق المدعي من كذبه، وأن فيها تنبيهًا على حفظ المال، فإنه إذا نبّه على حفظ الوعاء، كان فيه تنبيه على حفظ المال من باب الأولى. ¬

_ (¬1) بداية المجتهد 2/ 230. (¬2) الفتح 5/ 79. (¬3) معالم السنن 2/ 86.

وقوله: "ووكاءها". الوكاء بالمد وبكسر الواو وقد تضم كالوعاء. وقرأ بها الحسن (¬1) في قوله تعالى: (وُعاء أخيه) (¬2). وقرأ سعيد بن جبير: (إعاء). بقلب الواو همزة (¬3). وقول: "ثم عرفها سنة". هو بالتشديد للراء وكسرها، أي اذكرها للناس. قال العلماء: محل ذلك المحافل؛ كأبواب المساجد والأسواق ونحو ذلك، يقول: من ضاعت له [نفقة] (أ). ونحو ذلك من العبارات، ولا يذكر شيئًا من الصفات. وقوله: "سنة". أي متوالية، فلو عرفها سنة متفرقة لم يكف، ويكون التعريف في كل يوم مرتين، ثم مرة في كل أسبوع، ثم في كل شهر. وقال في "الانتصار": ولا يجب الإفراط في التعريف حتى يشغل أوقاته به ولا يفرط. والأولى أن يوكل ذلك إلى ظن الملتقط، وهو إن جوز وجود من سمع الإنشاد غير من قد سمعه أوَّلًا فجل ذلك، وأما إذا كان الحاضرون عنده هم من كان قد سمع الإنشاد فلا تحب الإعادة. والله أعلم. وقوله: "سنة". ظاهر هذا أنه لا يجب التعريف بعد السنة، وهو في حديث زيد بن خالد الجهني في جميع طرقه. وادَّعى القاضي زيد من الهدوية الإجماع أنه لا يجب التعريف بعد السنة، وتبعه الإمام المهدي في "البحر"، ولكنه قد ورد في حديث أبي بن كعب ثلاثة أحوال من رواية سلمة بن كهيل، ولكنه قال شعبة: إنه سأله بعد عشر سنين فقال: عرفها عامًا واحدًا. وقد ¬

_ (أ) في النسخ: سنة. والمثبت من الفتح 5/ 82.

بينه أبو داود الطيالسي (¬1) في "مسنده" أيضًا، فقال في آخر الحديث: قال شعبة: فلقيت سلمة بعد ذلك فقال: لا أدري ثلاثة أحوال أو حولًا واحدًا. وقد رواه بغير شك عن شعبة عن سلمة بن كهيل جماعة، وأخرجها مسلم (¬2) من طريق الأعمش والثوري وزيد بن أبي أنيسة وحماد بن سلمة كلهم عن سلمة. وقال: قالوا في حديثهم جميعًا: ثلاثة أحوال. إلا حماد بن سلمة فإن في حديثه: عامين أو ثلاثة. وجمع بعضهم بين الزيادة المذكورة في حديث أبي وبين حديث الجهني، بأن حديث أبي مبني على الورع والتعفف من التصرف في اللقطة، وحديث زيد بن خالد على القدر الواجب، ويدل عليه أنَّه جاء في بعض رواياته أنَّه أتى بعد أن عرَّف سنة، فقال له: "عرفها عامًا". ثم جاء بعد العام، فقال: "عرفها عامًا". فما أمره أولًا إلا بعام، ثم نبَّهَهُ على الأحوط والمسلك الَّذي ينبغي لمثله، فلو كان الثلاثة واجبة لبينها له أولًا؛ إذ هو وقت الحاجة. قال المنذري (¬3): لم يقل أحد من أئمة الفتوى: إن اللقطة تُعَرَّف ثلاثة أعوام. إلا شريحًا عن عمر. انتهى. وقد حكاه [الماوردي عن شواذ] (ب) من الفقهاء، وحكى ابن المنذر عن عمر أربعة أقوال؛ يجب ثلاثة أحوال، عام واحد، ثلاثة أشهر، ثلاثة أيام. وزاد ابن حزم (¬4) عن عمر قولًا خامسًا وهو أربعة أشهر، وغلَّط ابن الجوزي الزيادة هذه، وقال ابن الجوزي (¬5): ¬

_ (أ) في جـ: لبنها. (ب) في الأصل، ب: المادري عن سواد. وفي جـ: المادري على سواد. والمثبت من الفتح 5/ 79، وقد ذكر الماوردي ذلك في كتابه الحاوي. ينظر حاشية ابن القيم 5/ 88.

لم ويتأول حديث أُبَيٍّ بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - عرف منه أنَّه لم يُعَرفها التعريف الكامل، فأمر بالإعادة كما أمر المسيء صلاته وقال: "ارجع فصلِّ فإنك لم تصل" (¬1). ولا يخفى بُعد هذا التأويل، وكيف يكون ذلك مع أبي وهو من فقهاء الصحابة وفضلائهم؟! وحمل بعضهم قول عمر على اختلاف حال اللقطة في عظمها وحقارتها، وقد ذهب إلى ذلك الحنفية؛ فقالوا: في العظيمة سَنَة والحقيرة ثلاثة أيام. وقد أخرج أحمد والطبراني والبيهقي واللفظ لأحمد (¬2) من حديث عمر بن عبد الله بن يعلى عن جدته حكيمة -بضم الحاء المهملة- عن يعلى بن مبرة مرفوعًا: "من التقط لقطة يسيرةً؛ حبلًا أو درهمًا أو شبه ذلك، [فليعرفه] (أ) (1) ثلاثة أيام، فإن كان فوق ذلك فليعرفه (ب) ستة أيام". زاد الطبراني: "فإن جاء صاحبها، وإلا فليتصدق بها، فإن جاء صاحبها فليخبره". وعمر ضعيف، قد صرح بضعفه جماعة (¬3)، وقد أخرج له ابن خزيمة متابعة (¬4)، وروى عنه [جماعة] (جـ) وزعم ابن حزم (¬5) أنَّه مجهول، وزعم هو وابن القطان أن حكيمة ويعلى مجهولان، ويعلى صحابي معروف الصحبة. وقد ورد من حديث الشافعي (¬6) أخرجه عن علي رضي الله عنه أنَّه وجد ¬

_ (أ) في النسخ: فليعرفها. والمثبت من مصادر التخريج. (ب) في ب: فليعرفها. (جـ) في الأصل، جـ: جماعات.

دينارًا، فسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "هو رزق، فاشتر به دقيقًا ولحمًا". فأكل منه هو وعلي وفاطمة، ثم جاء صاحب الدينار ينشد الدينار، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "علي، أد الدينار". وفيه أن أمره أن يعرّفه. ورواه عبد الرزاق (¬1) وزاد: فجعل أجل الدينار وشبهه ثلاثة أيام. ولكن الزيادة من طريق أبي بكر بن أبي سبرة وهو ضعيف جدًّا (¬2). ورواه أبو داود (¬3) من طريق بلال بن يحيى العبسي عن علي بمعناه، وإسناده حسن. وقال المنذري: في سماعه من علي نظر. ورواه أبو داود (¬4) أيضًا من حديث سهل بن سعد مطولًا، وفيه موسى بن يعقوب [الزَّمْعي] (أ) مختلف فيه. وأعلّ البيهقي (¬5) هذه الروايات؛ لاضطرابها ومعارضتها لأحاديث اشتراط السنة في التعريف بها؛ لأنها أصح. قال: ويحتمل أن يكون إنما أباح له الأكل قبل التعريف للاضطرار. والله أعلم. وأما حديث: "من وجد طعامًا فليأكله ولا يعرفه" (¬6). فهو حديث لا أصل له. وهذا في كتب الفقه أخذه الفقهاء من قوله في الشاة: "إنما هي لك [أو] (ب) لأخيك أو للذئب". أن الطعام الَّذي يفسد في مدة التعريف يتصرف به واجده. وحكى صاحب "الهداية" ¬

_ (أ) في النسخ: الربعي. والمثبت من مصدر التخريج، وينظر تهذيب الكمال 29/ 171. (ب) في النسخ: و. وهو جزء من حديث الباب المتقدم 451.

[من] (أ) الحنفية (¬1) أن الأمر في التعريف مفوض إلى الملتقط، فعليه أن يعرفها إلى أن يغلب على ظَنِّه أن صاحبها لا يطلبها، ومثله ذكر المؤيد بالله. قوله: "فإن جاء صاحبها". جواب الشرط محذوف، وتقديره: فأدها إليه. وقوله: "وإلا فشأنك". منصوب على المفعولية بفعل محذوف من باب الإغراء، ويجوز الرفع على الابتداء، والخبر قوله: "بها". والمعنى أن ذلك إلى اختيارك من بعد في الحفظ لها أو استنفاقها، وقد جاء لفظ الاستنفاق في كثير من روايات هذا الحديث في "الصحيحين". وقد استدل بهذا على أن الملتقط يتصرف لنفسه في اللقطة بعد التعريف سواء كان غنيًّا أو فقيرًا، وقد ذهب إلى هذا الشافعي وأصحابه، ولهم أربعة أوجه ثم يتملكها، أصحها: لا يملكها حتَّى يتلفظ بالتملك بأن يقول: تملكتها. أو: اخترت تملكها. والثاني: لا يملكها إلا بالتصرف فيها بالبيع ونحوه. والثالث: يكفيه نية التملك ولا يحتاج إلى لفظ. والرابع: يملك بمجرد مضي السنة. فإذا تملكها ولم يظهر لها صاحب فلا شيء عليه؛ لأنها كسب من أكسابه لا مطالبة عليه في الآخرة، وإن جاء صاحبها بعد تملكها أخذها بزيادتها المتصلة دون المنفصلة، وإن كانت قد تلفت بعد التملك لزم الملتقط بدلها، والخلاف في ذلك للكرابيسي صاحب الشافعي، ووافقه صاحباه البخاري وداود بن علي إمام الظاهرية، وذهب "الهدوية" إلى أنَّه يجب التصدق بها أو يصرفها في مصلحة عامة، وله أن يصرفها في نفسه إذا كان فقيرًا أو فيه ¬

_ (أ) في النسخ: عن. والمثبت من الفتح 5/ 80.

مصلحة، وذهب أبو حنيفة إلى أنَّه يتصدق بها إذا كان غنيًّا، فإن جاء صاحبها خيّر بين إمضاء الصدقة أو تغريمه. قال صاحب "الهداية" من الحنفية (¬1): إلا إذا كان بأمر الإمام، فيجوز للغني كما في قصة أبي بن كعب. وبهذا قال عمر وعلي وابن مسعود وابن عباس وغيرهم من الصحابة والتابعين. واعلم أن الأحاديث تعارضت في ذلك، فقد جاء في مسلم (¬2): "ثم عرفها سنة، فإن لم يجئ صاحبها كانت وديعة عندك". وفي الرواية الأخرى (¬3): "ثم عرفها سنة، فإن لم تعرف استنفقتها، ولتكن وديعة عندك، فإن جاء طالبها يومًا من الدهر فأدها إليه". ويمكن الجمع بينها بأن المعنى من كونها وديعة بعد السنة هو إذا لم يتملكها وبقيت عينها، فإنها إذا تلفت بغير تفريطه لا ضمان فيها، وفي الرواية الثانية أن لها بعد الاستنفاق حكم الوديعة في وجوب ضمانها وأدائها إلى صاحبها، وأن حقه لا ينقطع منها وإن تلفت ولو تملكها، وصريح في ذلك رواية أبي داود (¬4) بلفظ: "فإن جاء باغيها فأدها إليه، وإلا فاعرف عفاصها ووكاءها ثم كلها، فإن جاء باغيها فأدها إليه". فأمر بأدائها إليه بعد الإذن في أكلها. وفي رواية أيضًا لأبي داود (¬5) في حديث زيد بن خالد: "فإن جاء صاحبها دفعتها إليه، وإلا عرفت وكاءها وعفاصها، ثم أفِضْها في مالك، فإن جاء صاحبها فادفعها إليه". و"أَفِضْها" ¬

_ (¬1) الهداية 6/ 131، 132. (¬2) مسلم 3/ 1349 ح 1722/ 4. (¬3) مسلم 3/ 1349 ح 1722/ 5. (¬4) أبو داود 2/ 139 ح 1706. (¬5) أبو داود 2/ 139 ح 1707.

بفتح الهمزة وكسر الفاء وسكون الضاد العجمة؛ أي: ألقها في مالك واخلطها. من قولهم: فاض الأمر وأفاض هو فيه. وفي بعض نسخ أبي داود (¬1): "ثم اقبضها". بالقاف وكسر الباء الموحدة، من الإقباض، أي: اقبضها واخلطها في مالك. قال ابن رشد المالكي (¬2): اختلفوا في حكمها بعد السنة، فاتفق فقهاء الأمصار، مالك والثوري والأوزاعي وأبو حنيفة والشافعي أن له أن يتصرف فيها، ثم قال مالك والشافعي: له أن يتملكها. وقال أبو حنيفة: ليس له إلا أن يتصدق بها. وروي مثل قوله عن علي وابن عباس وجماعة من التابعين رضي الله عنهم. وقال الأوزاعي: إن كان مالًا كثيرًا جعله في بيت المال. وروي مثل قول مالك والشافعي عن عمر وابن مسعود وابن عمر رضي الله عنهم، وكلهم متفقون على أنَّه إن أكلها ضمنها لصاحبها، إلا أهل الظاهر. استدل مالك والشافعي بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "فشأنك بها". وغيره من حديث أبي، فسبب الخلاف معارضة ظاهر لفظ حديث اللقطة لأصل الشرع، وهو أنَّه: "لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس منه" (¬3). فمن غلَّب الأصل على ظاهر الحديث قال: لا يجوز له فيها تصرف إلا بالصدقة فقط على أن يضمن أيضًا. ومن غلَّب ظاهر الحديث على هذا الأصل ورأى أنَّه مستثنى منه قال: تحلُّ له بعد العام، وهي مال من ماله لا يضمنها إن جاء صاحبها. ومن توسط قال: لا يتصرف بعد العام وإن كان غنيًّا إلا على جهة الضمان. ¬

_ (¬1) الفتح 5/ 81، 85، وعون المعبود 2/ 65. (¬2) بداية المجتهد 2/ 229. (¬3) تقدم تخريجه ص 255.

قوله: فضالة الغنم؟. أي ما حكمها؟ فحذف المبتدأ للعلم به، والضالة لا تقع إلا على الحيوان. وما سواه يقال له: لقطة. ويقال للضوال: الهوامي والهوافي -بالميم والفاء- والهوامل. وقوله: "لك أو لأخيك أو للذئب". إشارة إلى جواز أخذها، كأنه قال: هي ضعيفة لعدم الاستقلال، معرضة للهلاك، مترددة بين أن تأخذها أنت أو أخوك، والمراد به ما هو أعم من صاحبها أو من ملتقط آخر، والمراد بالذئب جنس ما يأكل الشاة من السباع، وفيه حث على أخذها، لأنه إذا علم أنَّه لا يأخذها بقيت للذئب كان ذلك أدعى له إلى أخذها. وقد جاء في رواية (¬1): "خذها، فإنما هي لك" إلخ. وفي هذا رد على إحدى الروايتين عن أحمد أنَّه يترك التقاط الشاة. وتمسك مالك بذلك أنَّه يملكها (أ) بالأخذ، ولا يلزمه غرامة ولو جاء صاحبها، واحتج له بالتسوية بين الذئب والملتقط، والذئب لا غرامة عليه، فكذلك الملتقط. وأجيب بأن اللام ليست للتمليك؛ لأن الذئب لا يملك، وإنما يأكلها الملتقط على شرط ضمانها. وقد أجمعوا على أنَّه لو جاء صاحبها قبل أن يأكلها الملتقط فهي باقية على ملك صاحبها. قوله: "معها سقاؤها وحذاؤها". المراد بسقائها جوفها، وقيل: عنقها. وحذاؤها بكسر الحاء المهملة ثم الذال المعجمة مع المد، والمراد خفها، وأشار بذلك إلى استغنائها عن الحفظ لها بما ركب في طباعها من الجلادة على العطش وتناول المأكول بغير تعب؛ لطول عنقها، فلا تحتاج إلى ملتقط، خلاف الغنم فهي مترددة بين أن تأخذها أنت أو صاحبها، أو ¬

_ (أ) زاد في جـ: لا.

يهلكها الذئب أو [ما يشبهه] (أ) ثم من السباع، وفي ذلك زيادة الحث على الالتقاط عند خشية هلاك اللقطة؛ إما بأن تهلك في نفسها، أو يلتقطها من لا يردها على (ب) صاحبها، وأنه ينبغي حفظ مال المؤمن إذا خشي هلاكه وإن لم يكن له غلبة يد؛ معاونة على الخير ورعاية لحق الأخوة في الدين. وقد ذهب الجمهور إلى العمل بظاهر الحديث في أن الإبل لا تلتقط. وقالت الحنفية وغيرهم: الأولى أن تلتقط. وحمل بعضهم النهي على من التقطها ليأخذها، وأما من التقطها ليحفظها ويردها على صاحبها فيجوز له. وهو قول للشافعية. وكذا إذا وجدت في قرية، فيجوز التملك على الأصح عندهم، والخلاف عند المالكية أيضًا. قال العلماء: حكمة النهي عن التقاط الإبل أن بقاءها حيث ظلت أقرب إلى وجدان مالكها لها من تطلبها في رحال الناس. وقالوا (جـ): في معنى الإبل كل ما امتنع بقوته من صغار السباع. وقوله: "من آوى ضالة" إلخ. فيه دلالة على وجوب التعريف، وأنه لا يجوز له أن يلتقط ضالة ليحفظها لنفسه. وقال النووي (¬1): يجوز أن يكون المراد بالضالة هنا ضالة الإبل ونحوها مما لا يجوز له التقاطه للتملك، بل إنما يلتقطها للحفظ على صاحبها فيكون معناه: من آوى ضالة فهو ضال ما لم يعرفها أبدًا، ولا يتملكها. وهذا مخصوص بالإبل، والتأويل الأول أولى، يدل عليه ما أخرجه النسائي مرفوعًا (¬2): "ضالة المسلم حرق النار". وإسناده ¬

_ (أ) في الأصل: شبهه. (ب) في جـ: إلى. (جـ) في ب: قوله.

صحيح، وهو محمول على من لا يُعرِّفها. 771 - وعن عِياض بن حمار رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من وجد لُقَطة فليُشهِد ذَوَي عدل، وليحفظ عِفاصها ووكاءها، ثم لا يكتم ولا يُغَيِّبْ، فإن جاء ربها فهو أحق بها، وإلا فهو مال الله يؤتيه من يشاء". رواه أحمد والأربعة إلا الترمذي، وصححه ابن خزيمة وابن الجارود وابن حبان (¬1). الحديث فيه دلالة على وجوب الإشهاد على اللُّقَطة، وقد ذهب إلى ذلك أبو حنيفة وأحد قولي الشافعي أنَّه يجب الإشهاد على اللقطة والأوصاف، وذهب الهادي والقاسم والإمام يحيى ومالك والشافعي في أحد قوليه وأبو يوسف ومحمد إلى أنَّه لا يجب الإشهاد، قالوا: لورود الأحاديث الصحيحة في اللُّقَطة ولم يذكر فيها الإشهاد، وهذا الحديث الأمر فيه محمول على الندب، جمعًا بينه وبين ما أطلق. وقد يجاب بأن هذه الزيادة لا تخالف ما لم تذكر فيه من الأحاديث، وهي معمول بها إذا كمل فيها شروط جواز العمل بالرواية، فكان الظاهر قول من أوجب، ويتفرع على الخلاف ما إذا تلفت ولم يشهد عليها، فعند أبي حنيفة يضمن؛ لأنه يصير في حكم خيانة الوديعة، والوديع مع الخيانة تكون يده يد غصب فيضمن وإن لم يجن (أ) ولم يفرط. والله أعلم. ¬

_ (أ) في ب: يخن.

وقوله: "وإلا فهو مال الله يؤتيه من يشاء". فيه دلالة على أنَّه يملك الملتقط من دون أن يتملك بعد مضي المدة. 772 - وعن عبد الرحمن بن عثمان التيمي رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن لُقَطة الحاج. رواه مسلم (¬1). هو عبد الرحمن بن عثمان التيمي القرشي، وهو ابن أخي طلحة بن عبيد الله، صحابي، وقيل: إنه أدرك النبي - صلى الله عليه وسلم - وليست له رواية. وأسلم يوم الحديبية، وقيل: يوم الفتح. وقتل مع ابن الزبير في يوم واحد. روى عنه ابناه معاذ وعثمان، ومحمد بن المنكدر وأبو سلمة بن عبد الرحمن وسعيد بن المسيب (¬2). الحديث فيه دلالة على أنَّه لا تلتقط ضالة الحاج، وظاهره ولو كان في الجبل أو في غيره، وقد حكى الماوردي في "الحاوي" وجهًا للشافعية في عرفة أنها تلتحق بحكم مكة؛ لأنها تجمع الحاج بمكة، ولم يرجح شيئًا. وليس ذلك الوجه مذكورًا في "الروضة" ولا في أصلها، والظاهر أن المراد به اللقطة في مكة؛ لتطابق الحديث الصحيح الوارد في ذلك كما تقدم في الحج من حديث أبي هريرة (¬3)، والحديث هذا تأوله الجمهور بأن المراد النهي عن التقاط ذلك للتملك، وأما للإنشاد بها فيحل كما في رواية: "ولا تحل ساقطتها إلا لمنشد". وكما تقدم في حديث أبي هريرة. قالوا: وإنما اختصت لقطة الحاج بذلك؛ لإمكان إيصالها إلى أربابها، لأنها إن كانت لمكيٍّ ¬

_ (¬1) مسلم، كتاب اللقطة، باب في لقطة الحاج 3/ 1351 ح 1724. (¬2) ينظر أسد الغابة 3/ 472، والإصابة 4/ 332. (¬3) تقدم في 5/ 273 ح 574.

فظاهرٌ، وإن كانت لآفاقيٍّ فلا يخلو أفق غالبًا من وارد منه إليها، فإذا عرفها واجدها في كل عام سهل التوصل إلى معرفة صاحبها. قاله ابن بطال (¬1). وقال أكثر المالكية وبعض الشافعية: هي كغيرها من البلاد، وإنما تختص مكة بالمبالغة في التعريف، لأن الحاج يرجع إلى بلده وقد لا يعود، فاحتاج الملتقط إلى المبالغة في التعريف. و [قد] (أ) قيل: إن لقطة مكة تختص بأن واجدها لا يتملكها أبدًا وإن لم يجد مالكها، ويجب عليه التصدق بها. ويكون الغرض من هذا التشديد قطع طمع الملتقط في تملكها؛ لأنه ربما يدخله طمع في تملكها من أول الأمر لبعد معرفة صاحبها، فنهي عن الالتقاط ثم أبيح للمنشد. 773 - وعن المقدام بن مَعْدِ يكَرِب رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ألا لا يحل ذو ناب من السباع، ولا الحمار الأهلي، ولا اللقطة من مال معاهد إلا أن يستغنى عنها". رواه أبو داود (¬2). الحديث سيأتي الكلام في تحريم ذي الناب وما عطف عليه في باب الأطعمة (¬3). وقوله: "ولا اللقطة من مال المعاهد". فيه دلالة على أن اللقطة من مال المعاهد كاللقطة من مال السلم، إلا أنَّه يقال: اللقطة مجهولة المالك، فهي عند الالتقاط لا يعلم من مال من هي. ولعله يستقيم لو التقطت في محل ¬

_ (أ) في النسخ: لو. والمثبت يقتضيه السياق.

غالب أهله أو جميعهم معاهدون. وقوله: "إلا أن يستغنى عنها". متأول بلُقَطة الحقير الَّذي لا يطلبه صاحبه كما تقدم الكلام في التمرة وما شابهها، أو محمول الاستغناء على عدم معرفة مالكها بعد التعريف بها، وسبب عدم المعرفة بحسب الأغلب هو استغناء صاحبها عنها فلم يطلبها، وإن كان عدم الطلب قد يكون مع الحاجة إليها وعدم التمكن من الطلب، والمحوج إلى التأويل ما تقرر من عمومات الأدلة لتحريم مال المعاهد كمال المسلم. والله أعلم. فائدة: قال النووي في "شرح المهذب" (¬1): اختلف العلماء فيمن يمر ببستان أو زرع أو ماشية؛ فقال الجمهور: لا يجوز أن يأخذ منه شيئًا إلا في حال الضرورة فيأخذ، ويغرم عند الشافعي (ح) والجمهور. وقال بعض السلف: لا يلزمه شيء. وقال أحمد: إذا لم يكن على البستان حائط جاز له الأكل من الفاكهة الرطبة في أصح الروايتين ولو لم يحتج لذلك. وفي الأخرى: إذا احتاج. ولا ضمان عليه في الحالين. وعلق الشافعي القول بذلك على صحة الحديث. قال البيهقي (¬2): فعلى حديث ابن عمر مرفوعًا: "إذا مرّ أحدكم بحائط فليأكل ولا يتخذ [خُبنَة] " (ب). أخرجه الترمذي (¬3) واستغربه. قال البيهقي: لم يصح وجاء من أوجه أخر غير قوية. ¬

_ (أ) في ب، جـ: الشافعية. (ب) في النسخ: خبيئة. والمثبت من مصدر التخريج. يقال: أخبن الرجل إذا خبأ شيئًا في خبنة ثوبه أو سراويله، والخبنة معطف الإزار وطرف الثوب. النهاية 2/ 9.

قال المصنف (¬1) رحمه الله تعالى: والحق أن مجموعها لا يقصر عن درجة الصحيح، وقد احتجوا في كثير من الأحكام بما هو دونها، وقد بينت ذلك في كتابي "المنحة فيما علق الشافعي القول به على الصحة". انتهى. وروى الإمام المهدي في "البحر" عن الإمام يحيى أن سواقط الثمار إن جرت عادة أهلها بإباحتها جاز أخذها، إذ للعرف تأثير في مثل ذلك. انتهى. وأخرج مسلم (¬2) عن ابن عمر رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يحلُبَنَّ أحد ماشية أحد إلا بإذنه، أيحب أحدكم أن تؤتى مَشرُبتُه فتكسر خزانته فينقل (أ) طعامه؟ فإنما تخزُن عليهم ضروع مواشيهم أطعمتهم، فلا يحلبن أحد ماشية أحد إلا بإذنه". وقد أخرج نحوه البخاري (¬3). قال ابن عبد البر (¬4): في الحديث النهي عن أن يأخذ المسلم للمسلم شيئًا إلا بإذنه. وإنما خص اللبن بالذكر لتساهل الناس فيه، فنبه به على ما هو أولى منه، وبهذا أخذ الجمهور، لكن سواء كان بإذن خاص أو إذن عام، واستثنى كثير من السلف ما إذا علم طيب نفس صاحبه وإن لم يقع منه إذن خاص ولا عام، وذهب كثير منهم إلى الجواز مطلقًا في الأكل والشرب سواء علم طيب نفسه أم لم يعلم، والحجة لهم ما أخرجه أبو داود والترمذي (¬5) وصححه من ¬

_ (أ) في مصدري التخريج: فيُنْتَقَل، وفي بعض الروايات: فيُنْتَثَل.

رواية الحسن عن سمرة مرفوعًا: "إذا أتى أحدكم على ماشية، فإن لم يكن صاحبها فيها فليصوِّت ثلاثًا، فإن أجاب فليستأذنه، فإن أذن له، وإلا فليحلب وليشرب ولا يحمل". إسناده صحيح إلى الحسن، ومن صحيح سماعه من سمرة صححه، ومن لا أعلّه بالانقطاع. وأجيب عنه بأن حديث النهي أصح، لكن له شواهد، من أقواها حديث أبي سعيد مرفوعًا: "إذا أتيت على راعٍ فناده ثلاثًا، فإن أجابك، وإلا فاشرب من غير أن تفسد، وإذا أتيت على حائط بستان" وذكر مثله. أخرجه ابن ماجة والطحاوي، وصححه ابن حبان والحاكم (¬1). وأجيب عنه بأن حديث النهي أصح، فهو أولى بأن يعمل به، وبأنه معارض للقواعد القطعية في تحريم مال المسلم بغير إذنه، فلا يلتفت إليه. ومنهم من جمع بين الحديثين بوجوه، منها حمل الإذن على ما إذا علم طيب نفس صاحبه، والنهي على ما إذا لم يعلم، ومنها تخصيص الإذن بابن السبيل دون غيره، أو بالمضطر، أو بحالة المجاعة مطلقًا، وهي متقاربة. وحكى ابن بطال (¬2) عن بعض شيوخه أن حديث الإذن كان في زمنه - صلى الله عليه وسلم -، وحديث النهي أشار به إلى ما يكون بعده من التشاح وترك المواساة. ومنهم من حمل حديث النهي على ما إذا كان المالك أحوج من المار، لحديث أبي هريرة رضي الله عنه: بينما نحن مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سفر إذ رأينا إبلًا مصرورة (¬3) فثبنا إلها، فقال لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن هذه الإبل لأهل بيت من المسلمين هو قُوتُهم، أيسركم لو رجعتم إلى ¬

_ (¬1) ابن ماجة 2/ 771 ح 2300، والطحاوي في شرح المعاني 4/ 240، وابن حبان 12/ 87 ح 5281، والحاكم 4/ 132. (¬2) شرح ابن بطال على صحيح البخاري 6/ 559. (¬3) قال ابن الأثير: من عادة العرب أن تصر ضروع الحلوبات إذا أرسلوها إلى المرعى سارحة، ويسمون ذلك الرباط صرارا ... فهي مصرورة ومصرَّرة. النهاية 3/ 22.

مزاودكم فوجدتم ما فيها قد ذهب؟ ". قلنا: لا. قال: "فإن ذلك كذلك". أخرجه أحمد وابن ماجة (¬1) واللفظ له. وحديث أحمد: فابتدرها القوم ليحلبوها. قالوا: فيحمل حديث الإذن على ما إذا كانت غير مصرورة، والنهي على ما إذا كانت مصرورة، لهذا الحديث. لكن وقع عند أحمد في آخره: "فإن كنتم لا بد فاعلين فاشربوا ولا تحملوا". فدل على عموم الإذن في [المصرور] (أ) وغيره ولكن بشرط عدم الحمل، ولابد منه. واختار ابن العربي (¬2) الحمل على العادة، قال: وكانت عادة أهل الحجاز والشام وغيرهم المسامحة في ذلك بخلاف بلدنا. قال (¬3): و [رأى] (ب) بعضهم أن مهما كان على [طريق] (جـ) لا يعدل [إليه] (د) ولا يقصد، جاز للمار الأخذ منه. وفيه إشارة إلى قصر ذلك على المحتاج، وأشار أبو داود في "السنن" إلى قصر ذلك على المسافر في الغزو، وآخرون إلى قصر الإذن على ما إذا كان لأهل الذمة، والنهي على ما كان للمسلمين، واستأنس بما شرط الصحابة لأهل الذمة من الضيافة للمسلمين، وصح ذلك عن عمر (¬4)، وذكر ابن وهب عن مالك في المسافر ينزل بالذمي قال: لا يأخذ منه إلا بإذنه. قيل له: فالضيافة التي ¬

_ (أ) في الأصل، ب: الحصر. وفىج: الحضر. والمثبت من الفتح 5/ 90. (ب) في النسخ: روى. والمثبت من عارضة الأحوذي 5/ 90. (جـ) في النسخ: الطريق. (د) في النسخ: يعدل عليه.

جعلت عليهم؟ قال: كانوا يومئذٍ يخفف عنهم بسببها وأما الآن فلا. وجنح بعضهم إلى نسخ الإذن، وحملوه على أنَّه كان قبل إيجاب الزكاة. قالوا: وكانت الضيافة حينئذٍ واجبة ثم [نسخ ذلك بفرض الزكاة. قال الطحاوي (¬1): وكان ذلك حين كانت الضيافة واجبة، ثم] (أ) نسخت فنسخ ذلك الحكم. وأورد الأحاديث في ذلك. والله أعلم. ¬

_ (أ) ساقط من النسخ. والمثبت من الفتح 5/ 90.

باب الفرائض

باب الفرائض الفرائض جمع فريضة كحديقة وحدائق، والفريضة فعيلة بمعنى مفعولة، مأخوذة من الفرض وهو القطع، يقال: فرضت لفلان كذا. أي قطعت له شيئًا من المال. قاله الخطابي (¬1). وقيل: هو من فرض القوس، وهو الحز (أ) الَّذي في [طرفيه] (5) حيث يوضع الوتر ليثبت فيه ويلزمه ولا يزول. وقيل: الثاني خاص بفرائض الله سبحانه، وهي ما ألزم به عباده؛ لمناسبته لمعنى اللزوم لما كان الوتر يلزم محله. وقال الراغب (¬2): الفرض قطع الشيء الصلب والتأثير فيه. وخصت المواريث باسم الفرائض، من قوله تعالى: {نَصِيْبًا مَّفْرُوضًا} (¬3). أي {مقدرًا} (جـ)؛ [أو] (د) معلومًا أو مقطوعًا عن غيرهم. وقد ورد في الحث على تعلم الفرائض أحاديث، منها عن ابن مسعود رفعه: "تعلموا الفرائض وعلموها الناس، فإني امرؤ مقبوض، وإن العلم سيقبض، حتَّى يختلف الاثنان في الفريضة فلا يجدان من يفصل بينهما". أخرجه أحمد والترمذي والنسائي وصححه الحاكم (¬4)، ورواته موثقون، إلا ¬

_ (أ) في ب، جـ: الجر. (ب) في النسخ: طرفه. والمثبت من الفتح 12/ 3. (جـ) في الأصل: مقررًا. (د) في النسخ: أي. والمثبت من الفتح 12/ 3.

أنَّه اختلف فيه على عوف (أ) الأعرابي اختلافًا كثيرًا؛ فقال الترمذي: إنه مضطرب. والاختلاف عنه أنَّه جاء عنه من طريق ابن مسعود، وجاء عنه من طريق أبي هريرة (¬1): "تعلموا الفرائض فإنها نصف العلم، وإنه أول ما ينزع من أمتي". وأخرج الطبراني (¬2) عن أبي بكرة رفعه: "تعلموا القرآن والفرائض وعلموه الناس، أوشك أن يأتي على الناس زمان يختصم الرجلان في الفريضة فلا يجدان من يفصل بينهما". أخرجه من طريق راشد الحمَّاني (¬3) وهو مقبول، لكن الراوي عنه مجهول. وعن أبي سعيد الخدري (¬4) بلفظ: "تعلموا الفرائض وعلموها الناس". وفي لفظ عنه: تعلموا الفرائض فإنها من دينكم (¬5). وعن ابن مسعود (¬6) موقوفًا أيضًا: من قرأ القرآن فليتعلم الفرائض. ورجالها ثقات، إلا أن في أسانيدها انقطاعًا. قال ابن الصلاح (¬7): لفظ النصف في هذا الحديث بمعنى أحد القسمين وإن لم يتساويا. وقد قال ابن عيينة إذ سئل عن ذلك: لأنه يبتلى به كل الناس. ¬

_ (أ) في ب، جـ: عون.

وقال غيره: لأن لهم حالين، حال الحياة وحال الموت، والفرائض تتعلق بأحكام الموت؛ [وقيل] (أ): لأن الأحكام تتلقى من النصوص ومن القياس، والفرائض لا تتلقى إلا من النصوص. ولذلك البخاري (¬1) ذكر في باب تعلم الفرائض حديث أبي هريرة مرفوعًا: "إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث". وأورد قول عقبة بن عامر (¬2): تعلموا قبل الظانين. يعني الذين يتكلمون بالظن، وفيه إشعار بأن أهل ذلك العصر كانوا يقفون عند النصوص ولا يتجاوزونها. وقد روي عن أبي بكر التحيُّر في تفسير الكلالة، وكذا عن ابن مسعود (¬3) في ميراث الجد، وغيرهما. وقال جماعة من العلماء بجواز الرأي في الفرائض في بعض المسائل التي لم يرد فيها نص، وهو قليل. قال ابن المنير (¬4): الغالب في الفرائض التعبد وانحسام وجوه الرأي. 774 - عن ابن عباس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ألحِقوا الفراض بأهلها، فما بقي فهو لأَوْلَى رجل ذَكَر". متفق عليه (¬5). قوله: "ألحقوا الفرائض بأهلها". المراد بالفرائض هنا الأنصباء المقدرة في كتاب الله العزيز؛ وهي النصف ونصفه ونصف نصفه، والثلثان ¬

_ (أ) ساقطة من النسخ، والمثبت من الفتح 12/ 5.

ونصفهما ونصف نصفهما، والمراد بأهلها: من يستحقها بنص كتاب الله تعالى، ووقع في رواية عن ابن طاوس: "اقسموا المال بين أهل الفرائض على كتاب الله تعالى" (¬1). لم أي على وَفق ما أنزل الله في كتابه. وقوله: "فما بقي". وقع في رواية روح بن القاسم: "فما تركتْ" (¬2). أي: أبقت. وقوله: "لأَوْلَى". علي زنة أفعل تفضيل، كذا في رواية الكُشْمِيهَني للبخاري، وهو مشتق من الوَلْي يعني القرب، أي لمن يكون أقرب في النسب إلى الموروث، وليس المراد هنا الأحقَّ، وقد حكى عياض (¬3) أن في بعض روايات مسلم: "فهو لأدنى". بدال ونون وهو بمعنى الأقرب. قال الخطابي (¬4): المعنى أقرب رجل من العصبة. وقال ابن بطال (¬5): المراد بـ "أولى رجل" أن الرجال من العَصَبة بعد أهل الفروض إذا كان فيهم من هو أقرب إلى الميت استحق دون من هو أبعد، فإن استووا اشتركوا، ولم يقصد في هذا الحديث من يدلي بالآباء والأمهات مثلًا، لأنه ليس فيهم من هو أولى من غيره إذا استووا في المنزلة. كذا قال (¬6). وقال ابن التين (¬7): المراد به العمة مع العم، وبنت الأخ مع ابن الأخ، وبنت العم مع ابن العم، وخرج من ذلك الأخ والأخت لأبوين أو لأب، فإنهم يرثون بنص قوله تعالى: {وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ ¬

_ (¬1) مسلم 3/ 1234 ح 1615/ 4. (¬2) مسلم 3/ 1233، 1234 ح 1615/ 3. (¬3) الفتح 12/ 11. (¬4) معالم السنن 4/ 97. (¬5) شرح صحيح البخاري 8/ 347. (¬6) زاد بعده في الفتح 12/ 11 بعد أن ذكر كلام ابن بطال: ابن المنير. (¬7) الفتح 12/ 12، 13.

حَظِّ الْأُنثَيَيْنِ} (¬1). ويستثنى من ذلك من يُحجب كالأخ للأب مع البنت والأخت لأبوين، وكذا يخرج الأخ والأخت للأم بقوله تعالى: {فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ} (¬2). وقد نقل الإجماع على أن المراد بها الإخوة من الأم (¬3). وقوله: "رجل ذكر". هكذا في جميع الروايات، ووقع في كتب الفقهاء كصاحب "النهاية" وتلميذه الغزالي (¬4): "فلأَولى عصَبة ذكر". قال ابن الجوزي (¬5) والمنذري (¬6): هذه اللفظة ليست محفوظة. وقال ابن الصلاح (6): فيها بعد عن الصحة من حيث اللغة فضلًا عن الرواية؛ فإن العصبة في اللغة اسم للجمع لا للواحد. كذا قال. قال المصنف رحمه الله (6): والذي يظهر أن العصبة اسم جنس يقع على الواحد وأكثر، وقد جاء في رواية أبي هريرة في غير هذا الحديث: "فإلى العصبة مَن كان" (¬7). فالظاهر الإفراد، ووصف الرجل بأنه ذكر زيادة في البيان. قال الخطابي (¬8): فائدته ليعلم أن العصبة إذا كان عمًّا أو ابن عم مثلًا وكان معه أخت له، أن الأخت لا ترث، ولا يكون المال بينهما للذكر مثل حظ الأنثيين. ويقال: هذه الفائدة تحصل من لفظ "رجل" وحده. وقال ابن ¬

_ (¬1) الآية 176 من سورة النساء. (¬2) الآية 12 من سورة النساء. (¬3) الإجماع لابن المنذر ص 33. (¬4) الوسيط 4/ 346. (¬5) التحقيق 2/ 248. (¬6) الفتح 12/ 12. (¬7) مسلم 3/ 1237 ح 1619/ 15. (¬8) معالم السنن 4/ 97.

التين (¬1): إنه للتوكيد، ومثله: "ابن لَبُون ذكَر" (¬2). وردّه القرطبي (1) بأن العرب حيث توكد تفيد فائدة؛ إما تعيُّن المعني في النفس، وإما رفع توهم المجاز، وليس ذلك موجودًا هنا. وقال غيره: هذا التوكيد [لمتعلق] (أ) الحكم وهو الذكورة؛ لأن الرجل قد يراد به معنى النجدة والقوة في الأمر، وقد حكى سيبويه (¬3): مررت برجل رجل أبوه. ولهذا احتاج إلى ذِكر "ذَكر" حتَّى لا يُظنَّ أن المراد به خصوص البالغ. وقيل: خشية أن يُظنَّ بـ "رجل" معنى الشخص، فيعم الذكر والأنثى. وقال ابن العربي (1): فائدته هو أن الإحاطة باليراث جميعه إنما تكون للذكر لا للأنثى، وأما البنت المنفردة فأخذها للمال جميعه بسببين هو الفرض والرد. وقيل: احترز به عن الخنثى. وقيل: للاعتناء (5) بالجنس. وقيل: للإشارة إلى الكمال في ذلك كما يقال: امرأة أنثى. وقيل: لنفي توهم اشتراك الأنثى معه لئلا يُحمل على التغليب كما في حديث: "من وجد متاعه عند رجل" (¬4). وحديث: "من أعتق شِركًا له في عبد" (¬5). وحديث: "أيما رجل ترك مالًا" (¬6). وقيل: للتنبيه على سبب الاستحقاق بالعصوبة وسبب الترجيح في الإرث -ولهذا جعل للذكر ¬

_ (أ) في النسخ: لتعلق. والمثبت من الفتح 12/ 12. (ب) في جـ: للاعتبار.

مثل حظ الأنثيين- وذلك أن الرجال تلحقهم المُؤُن؛ [كالقسامة] (أ)، والضيافة، [وإرفاد القاصدين] (ب)، ومواساة السائلين، وتحمل الغرامات، وغير ذلك. كذا قال النووي (¬1) تبعًا للقاضي، وأصلُه للمازري، فإنه قال ما معناه: أتى بـ "ذكَر" هنا وفي الزكاة: "ابن لبون ذكر"؛ لأن الرجال هم [القائمون] (جـ) بالأمور، وترى لهم العرب ما لا ترى للنساء، فأتى بـ "ذكر" للعلة التي لأجلها اختص بذلك وإن اشتركا في النسب (د)، وفي ابن اللبون بعكس ذلك وهو [أنه] (هـ) جعل السن الأعلى في مقام السن الأسفل لوجود العلة لم التي اقتضت نقص السن الأعلى -وهي الذكورية- حتَّى صارت في محل السن الأسفل. وقال السهيلي: جعْل "ذكَر" صفة للرجل إخراج لكلام من أوتي جوامع الكلم عن البلاغة، وذلك لعدم الفائدة (و)؛ لأن الرجل لا يكون إلا ذكرًا، وكلامه أجلّ من أن يشتمل على حشو لا فائدة فيه ولا يتعلق به حكم، وكان يلزم منه خروج الطفل الَّذي لم يبلغ سن الرجولية، والإجماع أن الصغير كالكبير، فقوله: "ذكر". صفة لـ " أوْلَى" لا لـ "رجل"، فـ "لأَولى" أريد به القريب إلى الميت، و"رجل" المضاف إليه أريد به الصلب؛ أي الَّذي قرابته من جهة الصلب؛ لأن الصلب لا يكون إلا ¬

_ (أ) في شرح مسلم: بالقيام بالعيال والضيفان، وفي الفتح: كالقيام بالعيال والضيفان. (ب) كذا في النسخ والفتح. وفي شرح مسلم: والأرقاء والقاصدين. (جـ) في الأصل، ب: العالمون. وفي جـ: القائلون. والمثبت من الفتح 12/ 13. (د) في الفتح 12/ 13: السبب. وفي النقل هنا اختصار مخلّ بالمعنى. (هـ) في النسخ: أن. والمثبت أنسب للسياق. (و) بعده في الأصل: وذلك.

رجلًا، فكأنه قال: الأقرب الَّذي قربه من جهة الرجال. فيخرج الأقرب الَّذي قربه من جهة الأم كالخال، فإنه قربُه من حيث البطن والرحم، وخرج بالوصف بقوله: "ذكر". الأنثى وإن كانت مدلية إلى الميت من قبل صلب كالعمة، ولفظ أفعل لا يراد به التفضيل، والمراد به الوليّ، كأنه قال: ولي ميت من جهة الصلب ذكر، لا ولي ميت من جهة البطن، ولا من جهة الصلب أنثى. هذا حاصل ما ذكره السهيلي. ثم قال: فيكون في هذا الكلام الموجز من المتانة وكثرة المعاني ما ليس في غيره، فالحمد لله الَّذي وفق وأعان. انتهى. وجرى عليه الكرماني في "شرحه على البخاري" (¬1). قال النووي (¬2): أجمعوا على أن الَّذي يبقى بعد الفروض للعصبة يقدَّم الأقرب فالأقرب، فلا يرث عاصب بعيد مع عاصب قريب، والعصبة كل ذكر يدلي بنفسه بالقرابة ليس بينه وبين الميت أنثى، فمتى انفرد (أ) أخذ المال جميعه، وإن كان مع ذوي فروض غير مستغرقين أخذ ما بقي، وإن كان مع مستغرقين فلا شيء له. قال القرطبي: وأما تسمية الأخت مع البنت عصبة فعلى سبيل التجوز؛ لأنها لما كانت في هذه المسألة تأخذ ما فضل عن البنت أشبهت العاصب. قال الطحاوي (¬3): استدل قوم -يعني ابن عباس ومن تبعه- بحديث ابن عباس على أن من خلَّف بنتًا وأخًا شقيقًا وأختا شقيقة، أن للبنت النصف ¬

_ (أ) بعده في ب: أحد.

وما بقي فللأخ دون الأخت، وطردوا ذلك فيما لو كان مع [الأخت الشقيقة] (أ) عصبة غير الأخ، فقالوا: لا شيء لها مع البنت. واحتجوا أيضًا (ب) بظاهر قوله تعالى: {إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ} (¬1). قالوا: فمن أعطى الأخت مع البنت فقد خالف ظاهر (جـ) القرآن. قال: واستُدل عليهم بالاتفاق على أن من ترك بنتًا وابن ابن وبنت ابن، أن للبنت النصف وما بقي بين ابن الابن وبنت الابن، ولم يخصوا ابن الابن بما بقي. قال: فعُلِم أن حديث ابن عباس مخصوص بما إذا ترك بنتًا وعمًّا وعمة، أن الباقي للعم دون العمة إجماعًا، فاقتضى النظر ترجيح إلحاق الأخت مع الأخ بالابن والبنت لا بالعم والعمة، لأن الميت لو لم يترك إلا أخًا وأختًا شقيقين (د) فالمال بينهما، وكذلك لو ترك ابن ابن وبنت ابن، بخلاف ما لو ترك عمًّا وعمة، فإن المال كله للعم دون العمة باتفاقهم. قال: وأما الجواب عما احتجوا به من الآية فهو أنهم أجمعوا على أن الميت لو ترك بنتًا وأخًا لأب كان للبنت النصف وما بقي للأخ، وأن معنى قوله تعالى: {لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ}. إنما هو ولد يحوز المال كله لا الولد الذي لا يحوز، وأقرب العصبات البنون، ثم بنوهم وإن سفلوا، ثم الأب، ثم الجد ¬

_ (أ) في النسخ: البنت. والمثبت من الفتح 12/ 14. (ب) ساقطة من: ب. (جـ) في ب: نص. (د) في ب، والفتح 12/ 14: شقيقتين.

والأخ إذا انفرد واحد منهما -فإن اجتمعا فسيأتي حكمه- ثم بنو الإخوة، ثم بنوهم وإن سفلوا، ثم الأعمام، ثم بنوهم وإن سفلوا، ومن أدلى بأبوين [يقدم على من أدلى بأب، لكن يقدَّم الأخ من الأب على ابن الأخ من الأبوين؛ ويقدم ابن أخٍ لأب على عم لأبوين، ويقدم عم لأب على ابن عم لأبوين] (أ). واستدل البخاري بالحديث على أن الجد يرث جميع المال إذا لم يكن دونه أب، وعلى أن الأخ من الأم إذا كان ابن عم يرث بالفرض والتعصيب (¬1). والله أعلم. 775 - وعن أسامة بن زيد رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا "يرث المسلمُ الكافرَ، ولا يرث (ب) الكافرُ المسلمَ". متفق عليه (¬2). قوله: "لا يرث المسلمُ الكافر".برفع المسلم على أنَّه الوارث في الجملة الأولى، وبرفع الكافر في الجملة الثانية، والحديث ذهب إليه الجمهور من أهل العلم وأخذوا بعمومه إلا ما جاء عن معاذ قال: يرث المسلم من الكافر من غير عكس. واحتج بأنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "الإسلام يزيد ولا ينقص". [وهو حديث] (جـ) أخرجه أبو داود وصححه الحاكم من طريق ¬

_ (أ) في النسخ: ويقدم ابن الأخ لأب على عم لأبوين لكن يقدم الأخ لأب على ابن الأخ لأبوين. والمثبت من الفتح 12/ 14. (ب) ساقطة من: جـ. (جـ) ساقطة من: الأصل.

يحيى بن يعمر عن أبي الأسود الديلي عنه (¬1)، قال الحاكم: صحيح الإسناد. [وتُعقِّب] (أ) بالانقطاع بين أبي الأسود ومعاذ، ولكن سماعه منه ممكن. وقد زعم الجوزقاني (ب) أنَّه باطل (¬2)، وهي مجازفة، وقال القرطبي (2) في "المفهم": هو كلام يحكى ولا يروى. كذا قال، ويجاب عنه بأنه قد رواه من تقدم، فكأنه ما وقف على ذلك. وأخرج أحمد بن منيع (¬3) بسند قوي عن معاذ أنَّه كان يورث المسلم من الكافر من غير عكس. وأخرج مسدد (¬4) عنه أن أخوين اختصما إليه -مسلم ويهودي- مات أبوهما يهوديًّا، فحاز ابنه اليهودي ماله، فنازعه المسلم، فورّث معاذ المسلم. وأخرج عبد الله بن أبي شيبة (¬5) من طريق عبد الله بن [معقل] (جـ) قال: ما رأيت قضاءً أحسن من قضاء معاوية؛ نَرِثُ أهل الكتاب ولا يرثونا، كما يحل لنا النكاح فيهم ولا يحل لهم. وبه قال مسروق وسعيد بن المسيب وإبراهيم النخعي وإسحاق. وأجاب الجمهور أنَّه قياس في معارضة النص وهو صريح في المراد ولا قياس مع وجوده، وأما الحديث فدلالته على أنَّه يفضل غيره من سائر ¬

_ (أ) في الأصل: وأجيب. (ب). في ب، جـ: الجورقاني. وهما وجهان في نسبته. ينظر مقدمة كتابه الأباطيل بتحقيق عبد الرحمن بن عبد الجبار 1/ 67 - 71 حيث ذكر بحثا وتحقيقا في النسبة. (جـ) في النسخ: مغفل. والمثبت من مصدر التخريج، وينظر تهذيب الكمال 16/ 169.

الأديان، ولا يزال يزداد، ولا ينقص في وقت من الأوقات، ولا تعلق له بالإرث، وقد عارضه قياس آخر وهو أن التوارث متعلق بالولاية، ولا ولاية بين المسلم والكافر؛ لقوله تعالى: {لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ} (¬1). وذهب إلى ما ذهب إليه معاذ الإمامية والناصر، والحجة عليهم ما مرّ. وقوله: "ولا ورث الكافرُ المسلمَ". وهذا مجمع عليه (¬2). 776 - وعن ابن مسعود رضي الله عنه في بنت وبنت ابنن وأخت: قضى النبي - صلى الله عليه وسلم - للابنة النصف، ولابنة الابن السدس تكملة الثلثين، وما بقي فللأخت. رواه البخاري (¬3). الحديث فيه دلالة على توريث الأخت للباقي، وهذا مجمع عليه. ورجع أبو موسى لما أفتى بأن للأخت النصف، ثم أمر السائل له أن يسأل ابن مسعود، فقضى ابن مسعود بقضاء النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال أبو موسى: لا تسألوني ما دام هذا الحبر فيكم. وفي رواية النسائي (¬4): جاء رجل إلى أبي موسى الأشعرى وهو الأمير وإلى [سلمان] (ح) بن ربيعة الباهلي فسألهما، وكان [سلمان] قاضيًا على الكوفة، وكانت هذه القصة في زمن عثمان؛ لأنه ¬

_ (أ) في النسخ هنا وفيما سيأتي: سليمان. وفي مصدر التخريج: سفيان. والمثبت من الفتح 12/ 17، وينظر تهذيب الكمال 11/ 240.

الَّذي أمَّر أبا موسى على الكوفة، وكان ابن مسعود قبل ذلك أميرًا، ثم عزل قبل ولاية أبي موسى عليها بمدة. قال ابن بطال (¬1): يؤخذ منها أن للعالم أن يجتهد إذا ظن أن لا نص في المسألة، ولا يترك الجواب إلى أن يبحث عن ذلك، وأن الحجة عند التنازع هي السنة فيجب الرجوع إليها، وفي كلام أبي موسى دلالة على ما كانوا عليه من الإنصاف والاعتراف بالحق والرجوع إليه وشهادة بعضهم لبعض بالعلم والفضل، وكثرة اطلاع ابن مسعود على السنة، وتثبت أبي موسى في الفتيا حيث دل على من ظن أنَّه أعلم منه. قال (¬2): ولا خلاف بين الفقهاء فيما رواه ابن مسعود، وفي جواب أبي موسى إشعار بأنه رجع عما قاله. وقال ابن عبد البر (¬3): لم يخالف في ذلك إلا أبو موسى و [سلمان] بن ربيعة الباهلي، وقد رجع أبو موسى عن ذلك، ولعل [سلمان] أيضًا رجع كأبي موسى. و [سلمان] المذكور مختلف في صحبته، وله أثر في فتوح العراق أيام عمر وعثمان، واستشهد في زمن عثمان، وكان يقال له: [سلمان] الخيل. لمعرفته بها. وقوله: الحبَر. بفتح المهملة وبكسرها أيضًا وسكون الموحدة، حكاه الجوهري (¬4) ورجح الكسر، وجزم الفراء بأنه بالكسر وقال: سمي باسم الحير ¬

_ (¬1) شرح صحيح البخاري 8/ 351. (¬2) شرح صحيح البخاري 8/ 350. وينظر الإجماع لابن المنذر ص 32. (¬3) الاستذكار 15/ 399. (¬4) الصحاح 2/ 620 (ح ب ر).

الَّذي يكتب به. وقال أبو عبيد الهروي (¬1): هو العالم بتحبير الكلام وتحسينه، وهو بالفتح في رواية جميع المحدثين، وأنكر أبو الهيثم الكسر. وقال الراغب (¬2): يسمى العالم حبرًا لما يبقى من أثر علومه. 777 - وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يتوارث أهل ملتين". رواه أحمد والأربعة إلا الترمذي (¬3)، وأخرجه الحاكم بلفظ أسامة (¬4)، وروى النسائي (¬5) حديث أسامة بهذا اللفظ. الحديث، ورواه ابن حبان من حديث ابن عمر في حديث (¬6)، ومن حديث جابر رواه الترمذي (¬7) [واستغربه] (أ) وفيه ابن أبي ليلى، وأخرجه البزار (¬8) من حديث أبي سلمة عن أبي هريرة بلفظ: "لا تورث ملة من ملة". وفيه ¬

_ (أ) في النسخ: واشتهر به. والمثبت من التلخيص الحبير 3/ 84.

عمر بن راشد (¬1)، قال (¬2): إنه تفرد به، وهو لين الحديث، ورواه النسائي والحاكم والدارقطني بهذا اللفظ من حديث أسامة بن زيد (¬3)، وقال الدارقطني (2): هذا اللفظ في حديث أسامة غير محفوظ. وأخرجه المزي في "الأطراف" (¬4) من جميع رواياته عن أسامة: "لا يتوارث أهل [ملتين] (أ) ". والحديث فيه دلالة على أنَّه لا يتوارث أهل ملتين، وظاهره العموم في اختلاف الملتين، سواء كان بإسلام وغيره، أو بين ملتين كفريتين -وقد ذهب إليه الأوزاعي وهو مذهب الهدوية- وحملها الجمهور على أن المراد بإحدي الملتين الإسلام وبالأخرى الكفر، وقد يستأنس لهذا التأويل بما ذكره الرافعي، قال: وقد روي في بعض الروايات: "لا يتوارث أهل ملتين، لا يرث المسلم الكافر". فجعل الجملة الثانية بيانًا للأولى. كذا حكاه المصنف في "التلخيص" (2) ولم يتكلم في الرواية. والأصح عند الشافعية أن الكافر يرث الكافر، وهو قول الحنفية والأكثر، ومقابله عن مالك وأحمد، وعنه التفرقة بين الحربي والذمي، وكذا عند الشافعية، وعن (ب) أبي حنيفة: لا يورث حربي من ذمي، ¬

_ (أ) في الأصل، ب: الملتين. (ب) في ب: عند.

فإن كانا (أ) حربيين شرط أن يكونا من دار واحدة. وعند الشافعية لا فرق، وعندهم وجه كالحنفية، وعن الثوري وربيعة وطائفة: الكفر ثلاث ملل؛ يهودية ونصرانية وغيرهم، فلا يرث ملة من هذه من ملة من الملتين. وعن طائفة من أهل المدينة والبصرة: كل فريق من الكفار ملة. فلم يورثوا مجوسيًّا من وثني ولا يهوديًّا من نصراني، وهو قول الأوزاعي، وبالغ فقال: ولا يرث أهل نحلة (ب) من دين واحد أهل نحلة (ب) أخرى، كاليعقوبية والملكية من النصارى. واختلف في المرتد، فقال الشافعي وأحمد: يصير ماله إذا مات فيئًا للمسلمين. وقال مالك: يكون فيئًا إلا أن يقصد بردته أن يحرم ورثته المسلمين فيكون لهم. وكذا قال في الزنديق، وعن أبي يوسف ومحمد - وهو قول الهادي - أنَّه يكون لورثته المسلمين. وعن أبي حنيفة: ما كسبه قبل (جـ) الردة فهو (د) لورثته المسلمين، وبعد الردة لبيت المال. وعن بعض التابعين (هـ وعلقمة هـ): يستحقه أهل الدين الَّذي انتقل إليه. وعن داود: يختص بورثته من أهل الدين الَّذي انتقل إليه. ولم يفصل (و) والحاصل من ذلك ستة أقوال. ¬

_ (أ) في ب: كان. (ب) في جـ: ملة. (جـ) في جـ: في. (د) في ب: فيكون. (هـ - هـ) في الفتح 12/ 51: كعلقمة. (و) في ب: يفضل.

واحتج القرطبي في "المفهم" (¬1) على أن الكفر ملل بقوله تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} (¬2). فهي ملل متعددة وشرائع مختلفُة. قال: وأما ما احتجوا به من قوله تعالى: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} (¬3). فوحَّدَ الملة، فلا حجة فيه لأن الموحدة في اللفظ وفي المعنى يراد به الكثرة، لأنه أضافه إلى مفيد الكثرة كقول القائل: خذ عن علماء الدين علمهم. يريد علم كل واحد منهم. قال: واحتجوا بقوله تعالى: {قُلْ يَاأَيُّها الْكَفِرُونَ} إلى آخرها. والجواب: أن الخطاب بذلك وقع لكفار قريش وهم أهل دين واحد. وأما ما أجابوا به عن حديث: "لا يتوارث أهل ملتين". بأن المراد ملة الكفر وملة الإسلام، فالجواب عنه بأنه إذا صح في حديث أسامة فمردود [في حديث] (أ) غيره. واستدل بقوله: "لا يرث الكافر المسلم". على جواز تخصيص عموم الكتاب بالآحاد، لأن قوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ} (¬4). عام في الأولاد، فخُص منه الولد الكافر فلا يرث من المسلم بالحديث المذكور. وأجيب بأن المنع حصل بالإجماع، وخبر الواحد إذا حصل الإجماع على ¬

_ (أ) في النسخ: بحديث. والمثبت من الفتح 12/ 52.

وَفقه كان التخصيص بالإجماع لا بالخبر فقط. انتهى. وأقول: القول بتخصيص الآحاد لعموم الكتاب هو القول الراجح، ولا يلزم منه تقديم المظنون على المقطوع؛ لأنه وإن كان قطعي المتن فهو ظني الدلالة، وخبر الواحد الخاص قطعي الدلالة ظني المتن، فيتعادلان، ويترجح التخصيص به، لأن في ذلك جمعًا بين الدليلين، وفي تركه إهدار لدليل (¬1). والله أعلم. 778 - وعن عمران بن الحُصين رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: إن ابن ابني مات فما لي من ميراثه؟ فقال: "لك السدس". فلما ولى دعاه فقال: "لك سدس آخر". فلما ولى دعاه فقال: "إن السدس الآخر طُعْمة". رواه أحمد والأربعة، وصححه الترمذي (¬2)، وهو من رواية الحسن البصري عن عمران. وقيل: إنه لم يسمع منه. قال ابن المديني وأبو حاتم الرازي (أ) (¬3): إن الحسن لم يسمع من عمران. قال قتادة: لا ندري مع أي شيء ورَّثه. وقال: أقل شيء ورث الجد السدس. وصورة هذه المسألة أنَّه ترك الميت بنتين وهذا السائل، فللبنتين الثلثان، ¬

_ (أ) في ب: الرقي. وفي حاشيته: كذا في الأم وأظنه الرازي. وفي جـ: الراسي.

فبقي ثلث، فدفع النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى السائل سدسًا بالفرض لأنه جد الميت، ولم يدفع إليه السدس الآخر لئلا يظن أن فرضه الثلث، وتركه حتَّى ولّى -أي ذهب- فدعاه وقال: "لك سدس آخر". فلما ولّى دعاه وقال: "إن السدس الآخِر -بكسر الخاء- طُعمة". [أعلمه أن السدس الثاني طعمة] (أ) له، ومعنى الطعمة هنا أنَّ له ذلك [زائدًا] (ب) على السهم المفروض، بالتعصيب لما بقي على الفروض، وما يؤخذ بالتعصيب ليس بلازم كالفرض المقدر. 779 - وعن ابن بريدة عن أبيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جعل للجدة السدس إذا لم يكن دونها أمّ. رواه أبو داود والنسائي، وصححه ابن خزيمة وابن الجارود، وقواه ابن عدي (¬1). الحديث في إسناده عبيد الله العتكي مختلف فيه، وثقه أبو حاتم (¬2) وصححه ابن السكن. في الحديث دلالة على أن ميراث الجدة السدس، وسواء كانت أم أم أو أم أب، وتشترك فيه الجدتان فأكثر إذا استوين، فإن اختلفن سقط الأبعد من الجهتين بالأقرب، ولا يسقطهن إلا الأم وإلا الأب يسقط من كان من ¬

_ (أ) ساقط من: الأصل. (ب) في النسخ: زائد. والمثبت هو الصواب.

جهته، إلا إذا كانت من ذوي الأرحام فلا ترث مع وجود [ذي] (أ) سهم غيرها؛ وذلك كالجدة التي أدرجت أبًا بين أمين أو أمًّا بين أبوين فهي ساقطة، مثال الأول: أم أب أم، فبينها وبين الميت أب، وهنا أمَّان. ومثال الثاني: أمًّا بين أبوين؛ أم أبِ أمِّ الأب، وذلك ظاهر، ودليل ذلك حديث قبيصة بن ذؤيب: لم جاءت الجدة إلى أبي بكر تساله ميراثها، فقال: مالك في كتاب الله شيء، وما علمت لك في سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيئًا، فارجعي حتَّى أسأل الناس. فسأل الناس، فقال المغيرة: شهدت النبي - صلى الله عليه وسلم - أعطاها السدس. فقال: هل معك غيرك؟ فقام محمد بن مسلمة فقال مثل ما قال المغيرة، فأنفذه لها أبو بكر. الحديث، وفيه قصة عمر. أخرجه مالك وأحمد وأصحاب "السنن" وابن حبان والحاكم (¬1) من هذا الوجه، وإسناده صحيح لثقة رجاله إلا أن صورته مرسل؛ لأن قبيصة لم يصح سماعه من الصديق، وأعله عبد الحق بالانقطاع (¬2). وقال الدارقطني في "العلل" (¬3) بعد أن ذكر الاختلاف فيه على الزهري: يشبه أن يكون الصواب قول مالك ومن تابعه. وذكر القاضي حسين أن التي جاءت إلى الصديق أم الأم، وأن التي جاءت إلى عمر أم الأب. وروي أنَّه أعطى السدس ثلاث جدات؛ اثنتين من قبل ¬

_ (أ) في ب: ذوي.

الأب وواحدة من قبل الأم. أخرجه الدارقطني (¬1) بسند مرسل. ورواه أبو داود في "المراسيل" (¬2) بسند آخر عن إبراهيم النخعي، والدارقطني، والبيهقي (¬3) من مرسل الحسن أيضًا، وذكر البيهقي (¬4) عن محمد بن نصر أنَّه نقل اتفاق الصحابة والتابعين على ذلك، إلا ما روي عن سعد بن أبي وقاض أنَّه أنبهر ذلك، ولا يصح إسناده عنه، وقصة عمر أنَّه جاءته جدة أخرى (أفقال لها أ): ما لك في كتاب الله شيء، وما كان القضاء الَّذي قضى به إلا لغيرك، وما أنا بزائد في الفرائض شيئًا ولكن هو ذاك السدس، فإن [اجتمعتما] (ب) فهو لكما، وأيتكما خلت فهو لها (¬5). وروى مالك (¬6) أيضًا أن الجدتين أتيا إلى أبي بكر، فأراد أن يجعل السدس للتي من قبل الأم، فقال له رجل: أما إنك تترك التي لو ماتت وهو حي كان إياها يرث. فجعل أبو بكر السدس بينهما. وإجماع الصحابة رضي الله عنهم على ذلك (¬7). 780 - وعن المقدام بن مَعدِ يكرِب رضي الله عنه قال: قال ¬

_ (أ- أ) ساقط من: ب. (ب) في الأصل: اجتمعا. وفي ب، جـ: اجتمعتا. والمثبت من الموطأ.

رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الخال وارث من لا وارث له". أخرجه أحمد والأربعة سوى الترمذي، وحسنه أبو زرعة الرازي وصححه الحاكم وابن حبان (¬1). الحديث أعله البيهقي (¬2) بالاضطراب ونقل عن يحيى بن معين أنَّه كان يقول: ليس فيه حديث قوي. وفي الباب عن عمر رضي الله عنه. رواه الترمذي (¬3) بلفظ: "الله ورسوله مولى من لا مولى له، والخال وارث من لا وارث له". وعن عائشة رضي الله عنها رواه الترمذي والنسائي (¬4) من حديث طاوس عنها بقصة الخال حسب. وأعله النسائي (¬5) بالاضطراب، ورجح الدارقطني والبيهقي (¬6) وقفه، وقال البزار (أ) (¬7): أحسن إسناد فيه حديث أبي أمامة بن سهل، قال: كتب عمر إلى أبي عبيدة. فذكره. في الحديث دلالة على توريث الخال وهو من ذوي الأرحام، وكذلك من عداه من ذوي الأرحام، وقد ورد في غيره أحاديث، قوله - صلى الله عليه وسلم - في الميت ¬

_ (أ) في جـ: الترمذي.

الخزاعي: "التمسوا له وارثًا أو ذا رحم" (¬1). وروي عنه - صلى الله عليه وسلم -: "من خلف خالته وعمته ولا وارث له سواهما؛ أن للعمة الثلثين وللخالة الثلث" (¬2). وقد ذهب إلى توريثهم جمع كثير من الصحابة والتابعين والأئمة، فمنهم علي وابن مسعود ومعاذ وأبو الدرداء، والشعبي ومسروق ومحمد ابن الحنفية والنخعي والحسن بن صالح ويحيى بن آدم والقاسم بن سلام، وأهل البيت إلا القاسم بن إبراهيم، وأبو حنيفة وأصحابه وإسحاق وأحمد بن حنبل والحسن بن زياد، وفقهاء العراق والكوفة والبصرة وغيرهم من سائر الآفاق، وحجتهم عموم قوله تعالى: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} (¬3). وقوله تعالى: {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ} (¬4). وما سمعت من الأحاديث، وذهب زيد بن ثابت والزهري ومكحول وفقهاء الحجاز والقاسم ومالك والشافعي والإمام يحيى إلى أنَّه لا ميراث لهم، والعمدة في ذلك لهم أن الفرائض لا تثبت إلا بكتاب أو سنة ثابتة أو إجماع، وذلك مفقود، وعمومات الكتاب محتملة وبعضها منسوخ، والسنة قد عرفت ما قيل فيها مع أنها معارضة بمثلها أو أقوى منها، وذلك أنَّه قال - صلى الله عليه وسلم -: "سألت الله عزَّ وجلَّ عن ميراث العمة والخالة، فسارني جبريل أن لا ميراث لهما". أخرجه أبو داود في "المراسيل" والدارقطني من طريق الدراوردي عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار به مرسلًا (¬5). وأخرجه النسائي (¬6) من مرسل زيد بن أسلم. ووصله ¬

_ (¬1) أحمد 5/ 347، وأبو داود 3/ 124 ح 2904. (¬2) الوارد بهذا المعنى موقوف على عمر وعلي وابن مسعود رضي الله عنهم كما سيأتي في ص 500. (¬3) الآية 75 من سورة الأنفال، والآية 6 من سورة الأحزاب. (¬4) الآية 7 من سورة النساء. (¬5) أبو داود ص 191، والدارقطني 4/ 98 ح 95. (¬6) النسائي -كما في التلخيص الحبير 3/ 81.

الحاكم في "المستدرك" (¬1) بذكر أبي سعيد وفي إسناده ضعف. ووصله الطبراني في "الصغير" (¬2) أيضًا من حديث أبي [سعيد] (أ) في ترجمة محمد بن الحارث المخزومي (¬3) شيخه، وليس في الإسناد من ينظر في حاله غيره. ورواه الدارقطني (¬4) من حديث أبي سلمة عن أبي هريرة وضعفه بمسعدة بن اليسع الباهلي (¬5) [راويه] (ب) عن محمد بن [عمرو] (جـ). ورواه الحاكم (¬6) من حديث عبد الله بن دينار عن ابن عمر وصححه، وفي إسناده عبد الله بن جعفر المدني (¬7) وهو ضعيف. وروى له الحاكم (1) شاهدًا من حديث شريك بن عبد الله بن أبي نَمِر أن الحارث بن عبد (5) أخبره أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سئل عن ميراث العمة والخالة فذكره. وفيه سليمان بن داود الشاذكوني وهو متروك (¬8). وأخرجه ¬

_ (أ) في الأصل: مسعود أيضًا. (ب) في الأصل: رواية. وفي جـ: رواه. (جـ) في النسخ: عمر. والمثبت من التلخيص الحبير 3/ 81، وينظر الكامل 6/ 2386. (د) في المستدرك: عبد الله. وبعده في ب: الله، ومضروب عليها. وينظر التلخيص 3/ 81.

الدارقطني (¬1) من وجه آخر عن شريك مرسلًا. وتأول بعضهم حديث: "الخال وارث من لا وارث له". بأن المراد بالخال هو السلطان. ذكره ابن العربي (¬2). وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "أنا وارث من لا وارث له، أعقل عنه وأرثه". أخرجه أبو داود (¬3) وغيره، وصححه ابن حبان (¬4) وغيره، وهو - صلى الله عليه وسلم - لا يرث [لنفسه] (أ) وإنما يصرفه في مصالح المسلمين. والمراد يرثه المسلمون بالعصوبة كما يحملون ديته، وقيل: المراد أنَّه يوضع في بيت المال للمصلحة، إذ لا يخلو عن ابن عم وإن بعد، فالحق بالمال الضائع الَّذي لا يرجى ظهور مالكه، وعلى عدم توريث ذوي الأرحام وعدم الرد على ذوي السهام برد المال إلى بيت المال إن كان أمره منتظمًا، وهو إذا كان في يد إمام عادل يصرفه في مصارفه، أو كان في البلد قاض بشروط القضاء مأذون له في التصرف في مال المصالح دفع إليه ليصرفه فيها، وإن كان في البلد ذلك القاضي وهو غير مأذون له في التصرف، ففيه ثلاثة احتمالات، يتصرف فيه ذلك القاضي. والثاني أنَّه يصرفه من كان في يده. والثالث أنَّه يوقف إلى أن يظهر من ينتظم معه بيت المال. قال النووي (¬5): الثالث ضعيف، والأولان حسنان، وأصحهما الأول. قال صاحب "الاقتصاد شرح الإرشاد": ويترجح عندي أن يتخير بينهما، وعلى (ب) الثاني وقوف مساجد القرى يصرفها صلحاء القرية في مصالح المسجد وعمارته. انتهى. واعلم أنهم على القول بالتوريث يرثون ما ورث من ¬

_ (أ) في الأصل: في نفسه. (ب) في ب: على.

يدلون به، كما روي عن علي وعمر وابن مسعود أن من مات وترك عمته وخالته؛ أن للعمة الثلثين وللخالة الثلث (¬1). وتابعهم العلماء إلا بشر بن غياث فأسقط الخالة معها، فاعتبروا تنزيل كل وارث منزلة من أدلى به. وروي عن علي أن ابنة الأخ بمنزلة الأخ، وابنة الأخت بمنزلة الأخت (¬2). وعنه الخالة بمنزلة الأم، والعمة بمنزلة العم (2). وعنه أيضًا رد ما أبقت السهام على كل وارث بقدر سهمه إلا الزوج والزوجة فيرد على ذوي الأرحام كأسبابهم (¬3). وأبو حنيفة وأصحابه إلا الحسن بن زياد يعتبرون القرب، فيرث الأقرب فالأقرب كالعصبات (أ)، فإذا مات وترك ثلاث خالات متفرقات؛ فللخالة لأب وأم النصف كالأخت لأبوين، وللخالة لأب السدس كالأخت لأب مع الأخت لأب وأم، وللخالة لأم السدس كالأخت لأم، [والباقي] (ب) رد عليهم. وقيل: بل يقسم المال بينهم بالسوية؛ إذ لا يفضل ذكورهم على إناثهم، فوجبت التسوية في كل حال. وهذا على قول الأكثر المعتبرين للتنزيل، وعلى قول أبي حنيفة وأصحابه تسقط الخالة لأب والخالة لأم لاعتبارهم القرب، وهذا من فوائد الخلاف، وكذا إذا ترك ابنة العم وابن بنت الأخ، فكأنه ترك عمه وابنة أخيه، فيسقط ابن بنت أخيه. وعند أبي حنيفة المال له بناء على أصله باعتبار القرب، وأولاد أولاد أبي الميت أولى من أولاد أولاد جده، وعلى هذا غيره، ¬

_ (أ) في جـ: كالعصبة. (ب) في الأصل، ب: والثاني.

ومتى كان ذوو الأرحام في درجة واحدة ويدلون بسبب واحد من جهة واحدة، فلا يفضل ذكورهم على إناثهم، بل يستوون عند الهدوية وأبي عبيد وإسحاق بن راهويه، قالوا: لأن الله سبحانه سوَّى بين الإخوة لأم فقسنا عليهم ذوي الأرحام، وللإجماع على أن ابن البنت إذا انفرد حاز جميع المال بسبب واحد وهو الرحم، وكذا بنت البنت، وكذا الخال والخالة، فوجب إذا اجتمعا أن يستويا، وقال أكثر أهل التنزيل: بل للذكر مثل حظ الأنثيين كالعصبة، وكما أن البنت إذا انفردت حازت جميع المال وكذا الابن، فإذا اجتمعا فللذكر مثل حظ الأنثيين، فكذا ذوو الأرحام، والجواب أن البنت إذا انفردت لم تحز جميع المال بسبب واحد، بل نصفه بالتسهيم والآخر بالرد، فافترقا. 781 - وعن أبي أمامة بن سهل قال: كتب معي عمر إلى أبي عبيدة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "الله ورسوله مولى من لا مولى له، والخال وارث من لا وارث له". رواه أحمد والأربعة سوى أبي داود، وحسنه الترمذي، وصححه أبن حبان (¬1). تقدم الكلام على الحديث فيما قبله. 782 - وعن جابر رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا استهل المولود ورث". رواه أبو داود، وصححه ابن حبان (¬2). ¬

_ (¬1) أحمد 1/ 28، 46، والترمذي، كتاب الفرائض، باب ما جاء في ميراث الخال 4/ 367 ح 2103، والنسائي في الكبرى، كتاب الفرائض، باب توريث الخال 4/ 76 ح 6351، وابن ماجة، كتاب الفرائض، باب ذوي الأرحام 2/ 914 ح 2737، وابن حبان، كتاب الفرائض، باب ذوي الأرحام 13/ 400، 401 ح 6037. (¬2) أبو داود، كتاب الفرائض، باب في المولود يستهل ثم يموت 3/ 128 ح 2920، وابن حبان، كتاب الفرائض، باب ذكر الإخبار بأن من استهل من الصبيان عند الولاة ... 13/ 392، 393 ح 6032، وعند أبي داود من حديث أبي هريرة.

الحديث، ورواه الترمذي والنسائي وابن ماجة والبيهقي (¬1) من حديث جابر بلفظ: "إذا استهل السقط صلي عليه وورث". وفي إسناده إسماعيل بن مسلم وهو ضعيف (¬2). قال الترمذي (¬3): وروي موقوفًا والموقوف أصح. وبه جزم النسائي (¬4)، وقال الدارقطني في "العلل" (¬5): لا يصح رفعه. وقد روي هذا -حديث جابر- من طريق مرفوعة وموقوفة، وفي الجميع مقال. وأما حديث "بلوغ المرام" فهو فيه منسوب إلى جابر، ولم أجد أحدًا رواه عن جابر. وفي "سنن أبي داود" نسبه إلى أبي هريرة، ولعله غلط من الناسخ (¬6). وأما المصنف فمقامه يجل عن نسبة ذلك إليه، وإن كان الخطأ مجوزًا فإنه يسلم منه إلا الكتاب العزيز الَّذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. وروى البزار (¬7) بإسناد ضعيف في تفسير الاستهلال عن ابن عمر مرفوعًا: "استهلال الصبي العطاس". وقال ابن الأثير (¬8): استهل المولود إذا بكى عند ولادته. وهو كناية عن ولادته حيًّا وإن لم يستهل، [بل وجدت منه أمارة تدل على حياته. والحديث يدل على أن السقط إذا استهل ثبت] (أ) له حكم غيره في أنَّه ¬

_ (أ) ساقط من: جـ.

يورث، وفي الصلاة كذلك على ما وقع في الرواية، ويقاس على ذلك سائر الأحكام من الغسل والتكفين ولزوم الدية. والظاهر أن ذلك اتفاق بين العلماء وإن اختلفوا في الطريق التي يعمل بها في ثبوت الاستهلال، فعند الهدوية يكفي خبر [عدل] (أ)، ذكره القاضي زيد في "الشرح". وقال الهادي في "الأحكام" ومالك: لا بد من عدلين. وقال الشافعي: لا بد من أربع. (ب وهذا الخلاف ب) جار فيما يتعلق بعورات النساء، ومفهوم الحديث أنَّه إذا لم يستهل لم يثبت له حكم من هذه الأحكام، وذهب الناصر إلى أن الاستهلال لا يكون إلا بالصوت ولا تكفي الحركة، وكأنه اقتصر على لفظ الحديث ولم ينظر إلى المعنى الَّذي يعلل به ذلك. 783 - وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ليس للقاتل من الميراث شيء". رواه النسائي والدارقطني (¬1)، وقواه ابن عبد البر (¬2)، وأعله النسائي، والصواب وقفه على عمرو. ورواه ابن ماجة والموطأ والشافعي وعبد الرزاق والبيهقي (¬3). وأخرجه ابن ¬

_ (أ) في النسخ: عدله. والمثبت يقتضيه السياق. (ب - ب) في جـ: وهذه الحلال.

ماجة والدارقطني من وجه آخر عن [عمرو] (أ) في أثناء حديث (¬1). وفي الباب عن (ب عمر بن ب) شيبة بن أبي كثير الأشجعي أخرجه الطبراني (¬2) في قصة، وأنه قتل امرأته خطأ، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: "اعقلها ولا ترثها". ومن حديث ابن عباس: "لا يرث القاتل شيئًا". أخرجه الدارقطني (¬3)، وفي إسناده [كثير بن سليم] (جـ) وهو ضعيف، ومن حديثه أيضًا: "من قتل قتيلًا فإنه لا يرثه وإن لم يكن له وارث غيره". أخرجه البيهقي (¬4) من طريق عبد الرزاق عن معمر عن رجل عن عكرمة عن ابن عباس مرفوعًا بزيادة: "وإن كان والده أو ولده". والرجل المذكور هو عمرو بن برق (¬5)، قاله عبد الرزاق راوي الحديث، وهو ضعيف عندهم. وأخرج الترمذي وابن ماجة (¬6) وفي إسناده إسحاق بن عبد الله بن أبي فروة (¬7)، تركه أحمد بن ¬

_ (أ) في النسخ: عمر. والمثبت من التلخيص الحبير 3/ 84. (ب - ب) كذا في النسخ، والتلخيص الحبير 3/ 85 والصواب بحذفها، فالحديث من رواية عمر بن شيبة عن أبيه شيبة بن أبي كثير. وينظر الإصابة 3/ 372. (جـ) كذا في النسخ، والتخليص الحبير 3/ 85. وعند الدارقطني: ليث. وهو ليث بن أبي سليم. وينظر مصنف عبد الرزاق 9/ 404 ح 17786، وتهذيب الكمال 24/ 279.

حنبل وغيره، وقال النسائي في "السنن الكبرى" (¬1): إنه متروك. عن أبي هريرة رضي الله عنه: "القاتل لا يرث". الحديث فيه دلالة على عدم توريث القاتل مطلقًا سواء كان عمدًا أم خطأ، وقد ذهب إلى هذا الشافعي وأبو حنيفة وأصحابه وأكثر العلماء، فلا يرث من المال ولا من الدية. وذهب الهدوية ومالك [النخعي] (أ) إلى أنَّه إن كان القتل خطأ ورث من المال دون الدية؛ لقوله: "المرأة ترث من دية زوجها وماله، وهو يرث من ديتها ومالها، ما لم يقتل أحدهما صاحبه عمدًا" (¬2). فالمفهوم يقتضي التخصيص ولكن لا يفيد المقصود من الميراث للمال دون الدية، ولذلك قال الإمام المهدي في "البحر": وفي هذا المفهوم ضعف. قال: والأولى الاحتجاج بقول علي رضي الله عنه وقد سئل عن رجل قتل ابنه فقال: إن كان خطأ ورث، رإن كان عمدًا لم يرث (¬3). انتهى. وقد يعارض بما أخرجه البيهقي (¬4) عن خلاس أن رجلًا رَمَى بحجر فأصاب أمه فماتت من ذلك، فأراد نصيبه من ميراثها، فقال له إخوته: لا حق لك. فارتفعوا إلى علي رضي الله عنه، فقال له علي: حقك من ميراثها الحَجَر. وأغرمه الدية ولم يعطه من ميراثها شيئًا. وأخرج أيضًا (4) عن جابر بن زيد قال: أيما رجل قتل رجلًا أو امرأة عمدًا ¬

_ (أ) في الأصل: والنخعي.

أو خطأ ممن يرث فلا ميراث له منهما، وأيما امرأة قتلت رجلًا أو امرأة عمدًا أو خطأ فلا ميراث لها منهما، وإن كان القتل عمدًا فالقود إلا أن يعفو أولياء المقتول، فإن عفوا فلا ميراث له من عقله ولا من ماله. قضى بذلك عمر بن الخطاب وعلي وشريح وغيرهم من قضاة المسلمين. وكذلك ما أخرجه الطبراني (¬1) من حديث عمر بن شيبة، فإنه صرح فيه بالخطأ، فتبين قوة قول الجمهور. وذهب الطحاوي إلى أن القاتل إن كان صبيًّا أو مجنونًا ورث. 784 - وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "ما أحْرز الوالد أو الولد فهو لعصبته من كان". رواه أبو داود والنسائي وابن ماجة (¬2)، وصححه ابن المديني وابن عبد البر (¬3). الحديث فيه دلالة على أن الولاء يورث؛ لأن قوله: "ما أحرز الوالد أو الولد". المراد به ما صار مستحقًّا لهما من الحقوق، فإنه يكون للعصبة ميراثًا، وهو بعض ما أخرجه في "السنن"، ولفظه عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رئاب (أ) بن حذيفة تزوج امرأة فولدت له ثلاثة غلمة، فماتت أمهم فورثوها رباعها وولاء مواليها، وكان عمرو بن العاص عصبة بنيها، فأخرجهم إلى (ب) الشام فماتوا، فقدم عمرو بن العاص ومات مولى لها وترك ¬

_ (أ) عند ابن ماجة: رباب. وينظر الثقات 1/ 61. (ب) في ب: من.

مالًا، فخاصمه إخوتها إلى عمر بن الخطاب، فقال عمر: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما أحرز الولد أو الوالد فهو لعصبته من كان". قال: فكتب له كتابًا فيه شهادة عبد الرحمن بن عوف وزيد بن ثابت ورجل آخر، فلما استُخلف عبد الملك اختصموا إلى هشام بن إسماعيل أو إلى إسماعيل بن هشام، فرفعهم إلى عبد الملك فقال: هذا من القضاء الَّذي ما كنت أراه. قال: فقضى لنا بكتاب عمر بن الخطاب، فنحن فيه إلى الساعة. انتهى. إلا أن فيه مقالًا، ثم قال أبو داود: وروي عن أبي بكر وعمر وعثمان خلاف هذا الحديث، إلا أنَّه روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه مثله. وهذا الَّذي دل عليه هذا. الحديث ذهب إليه شريح وطائفة من أهل البصرة والناصر، وروي عن عمر بن الخطاب وعلي وعثمان وابن مسعود وزيد بن ثابت رضي الله عنهم، وهو قول الأكثر من العلماء أن الولاء لا يورث. وفائدة الخلاف تظهر فيما إذا رجل أعتق عبدًا ثم مات ذلك الرجل وترك أخوين أو ابنين، ثم مات أحد الابنين وترك ابنًا، أو أحد الأخوين وترك ابنًا، فعلى القول الأول أن ميراثه بين الابن وابن الابن أو ابن الأخ، وعلى القول الثاني يكون للابن وحده، وكذا غيره من المسائل. والله أعلم. 785 - وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الولاء لُحْمة كلُحْمة النسب لا يباع ولا يوهب". رواه الحاكم (¬1) من طريق الشافعي عن محمد بن الحسن عن أبي يوسف، وصححه ابن حبان (¬2)، وأعله البيهقي (¬3). ¬

_ (¬1) الحاكم، كتاب الفرائض 4/ 341. (¬2) ابن حبان، كتاب البيوع، باب البيع المنهي عنه 11/ 325، 326 ح 4950. (¬3) البيهقي، كتاب الولاء، باب من أعتق مملوكًا له 10/ 292، 293.

الحديث في هذه الرواية رواه أبو يوسف، عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر، ورواه ابن حبان في "صحيحه" من طريق بشر (أ) بن الوليد عن أبي يوسف، لكن قال: عبيد الله بن عمر عن عبد الله بن دينار. وكذا رواه البيهقي وقال في "المعرفة" (¬1): كان الشافعي حدث به من حفظه فنسي عبيد الله بن عمر من إسناده، وقد رواه محمد بن الحسن في كتاب الولاء له عن أبي يوسف عن عبيد الله بن عمر عن عبد الله بن دينار به. وقال أبو بكر النيسابوري: هذا خطأ؛ لأن الثقات رووه عن عبد الله بن دينار بغير هذا اللفظ، وهذا اللفظ إنما هو رواية الحسن المرسلة، ثم ساقه الدارقطني (¬2) من طريق يزيد بن هارون عن هشام بن حسان عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. قال البيهقي (¬3): ورويناه من طريق ضمرة عن الثوري عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر. قال الطبراني (2): تفرد به ضمرة. يعني باللفظ المذكور. قال البيهقي (2): وقد رواه إبراهيم بن محمد بن يوسف الفريابي عن ضمرة على الصواب كرواية الجماعة، فالخطأ فيه ممن دونه. وقد جمع أبو نعيم طرق حديث النهي عن بيع الولاء وعن هبته في "مسند عبد الله بن دينار" له، فرواه عن نحو من خمسين رجلًا أو أكثر من أصحابه عنه (2)، ورواه الترمذي (¬4) من حديث يحيى بن سليم، عن عبد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر وقال: أخطأ فيه يحيى بن سليم، وإنما رواه عبيد الله عن عبد الله بن دينار. ¬

_ (أ) في ب، جـ: بشير. وينظر الجرح والتعديل 2/ 369، والسير 10/ 673.

وروى الحاكم من طريق محمد بن مسلم الطائفي عن إسماعيل بن أمية. وقال البيهقي (¬1): ويحيى بن سليم (¬2) ضعيف سيئ الحفظ. ورواه أبو جعفر الطبري في "تهذيبه"، وأبو نعيم في "معرفة الصحابة"، والطبراني في "الكبير" من حديث عبد الله بن أبي أوفى، وظاهر إسناده الصحة، وهو يعكر على البيهقي حيث قال عقب حديث أبي يوسف: ويروى بأسانيد أخر كلها ضعيفة. الحديث فيه دلالة على أن الولاء لا يكتسب ببيع ولا هبة، ويقاس عليهما سائر المملكات من النذر والوصية، فلا ينتقل بعوض ولا بغير عوض كالنسب؛ فإن القرابة لا تنتقل بعوض ولا بغير عوض، وقد ذهب إلى هذا الجمهور، والخلاف لمالك، وهو محجوج بالحديث. 786 - وعن أبي قلابة عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أفرضكم زيد بن ثابت". أخرجه أحمد والأربعة سوى أبي داود (¬3)، وصححه الترمذي وابن حبان والحاكم (¬4)، وأُعلّ بالإرسال. الإرسال فيه من حيث إن أبا قلابة لم يسمع هذا الحديث من أنس، وإن ¬

_ (¬1) المعرفة 5/ 507. (¬2) تقدمت ترجمته في 1/ 118. (¬3) أحمد 3/ 281، والترمذي، كتاب المناقب، باب مناقب معاذ بن جبل وزيد بن ثابت ... 5/ 623 ح 3791، والنسائي في الكبرى، كتاب المناقب، باب زيد بن ثابث 5/ 78 ح 8287، وابن ماجه، المقدمة، باب في فضائل أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - 1/ 55 ح 154. (¬4) ابن حبان، كتاب المناقب 16/ 85، 86 ح 7137، والحاكم، كتاب الفرائض 4/ 335.

كان سماعه لغيره ثابتًا. وقد ذكر الدارقطني الاختلاف فيه على أبي قلابة في "العلل" ورجح هو وغيره كالبيهقي (¬1) والخطيب في "المدرج" (¬2) أن الموصول منه ذِكرُ أبي عبيدة والباقي (أ) مرسل، ورجح هو وابن المواق وغيره رواية الموصول. وله طرق أخرى عن أنس أخرجها الترمذي (¬3) من رواية داود العطار عن قتادة عنه، وفيه سفيان بن وكيع وهو ضعيف (¬4)، ورواه عبد الرزاق (¬5) عن معمر عن قتادة مرسلًا. قال الدارقطني: وهذا أصح. وفي الباب عن جابر رواه الطبراني (¬6) ياسناد ضعيف، وعن أبي سعيد رواه القاسم بن أصبغ (¬7) عن ابن أبي خيثمة، والعقيلي في "الضعفاء" (¬8) عن علي بن عبد العزيز، كلاهما عن أحمد بن يونس، عن سلام، عن زيد العمي عن أبي الصديق عنه، وزيد (¬9) وسلام (¬10) ضعيفان، وعن ابن عمر ¬

_ (أ) في جـ: والثاني.

رواه ابن عدي (¬1) في ترجمة كوثر بن حكيم وهو متروك (¬2)، وله طريق أخرى في "مسند أبي يعلى" (¬3) من طريق ابن البيلماني (أ) عن أبيه عنه. وأورده ابن عبد البر في "الاستيعاب" (¬4) من طريق أبي سعيد البقال عن شيخ من الصحابة يقال له: أبو مِحجن. الحديث فيه دلالة على فضيلة زيد بن ثابت رضي الله عنه وعلمه لا سيما في علم الفرائض، فيكون الرجوع إليه في محل الاختلاف أولى من غيره وإن شاركوه في العلم والاجتهاد، ولذلك اعتمده الإمام الشافعي رضي الله عنه في الفرائض ورجح مذهبه. ولفظ الحديث فيما اطلعت عليه بلفظ الغيبة، ولم أره في رواية بلفظ الخطاب، وهو بعض حديث، والحديث بتمامه: "أرحم أمتي بأمتي أبو بكر، وأشدهم في أمر الله عمر، وأصدقهم حياءً عثمان، وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل، وأفرضهم زيد بن ثابت، وأقرؤهم لكتاب الله أبي بن كعب، ولكل أمة أمين وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح". أخرجه الطالسي وأحمد، والترمذي، وقال: حسن صحيح. والنسائي وابن ماجه وابن حبان في "صحيحه" والحاكم وأبو نعيم في "الحلية" والبيهقي والضياء (¬5) عن أنس. ¬

_ (أ) في جـ: السليماني. وينظر تهذيب الكمال 25/ 594.

ومن حديث أبي سعيد: "أرحم هذه الأمة بها (أ) أبو بكر، وأقواهم في دين الله عمر، وأفرضهم زيد بن ثابت، وأقضاهم علي بن أبي طالب، وأصدقهم حياءً عثمان بن عفان، وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح، وأقرؤهم لكتاب الله أبيّ بن كعب، وأبو هريرة وعاء من العلم، وسلمان عالم لا يدرك، ومعاذ بن جبل أعلم الناس بحلال الله وحرامه، وما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء من ذي لهجة أصدق من أبي ذر". أخرجه ابن ماجه وسمويه والعقيلي وابن الأنباري في "المصاحف" وابن عساكر (¬1). وروى الحاكم (¬2) منه: "أبو هريرة وعاء العلم". كذا ساق الحديثين السيوطي في "الجامع الكبير". ¬

_ (أ) في جـ: لها.

باب الوصايا

باب الوصايا الوصايا جمع وصية كالهدايا جمع هدية، ويطلق على فعل الموصي مصدرًا وعلى ما يوصى به من مال أو غيره من عهد ونحوه، [فتكون بمعنى المصدر وهو الإيصاء، وتكون بمعنى المفعول وهو الاسم] (أ). وهي في الشرع عهد خاص مضاف إلى ما بعد الموت. أو نقول: هي إقامة مكلف مكلفًا آخر مقام نفسه بعد الموت في بعض الأمور. والحد الأول أولى لشموله إذا لم يعين وصيًّا، ولأنه يخرج (ب) الثاني الوصية في شيء معين محجورًا عن التصرف في غيره، ولا يقال: إن "في بعض الأمور" تُصححه لأنه إنما احترز به عن العبادات البدنية. قال الأزهري (¬1): الوصية من: وصيت الشيء، بالتخفيف، أصيه؛ إذا وصلته، يقال: أرض واصية. أي متصلة النبات، قال الشاعر (¬2): * نَصِي الليلَ بالأيامِ حتى صلاتُنا* وسميت الوصية بذلك؛ لأن الميت يصل بها ما كان في حياته بعد مماته، ويقال: وصّيته بالتشديد، ووصاه بالتخفيف بغير همز. ويطلق شرعًا أيضًا على ما يقع به الزجر عن المنهيات والحث على المأمورات، كقوله ¬

_ (أ) في النسخ: فتكون مصدرا بمعنى المفعول. والمثبت من الفتح 5/ 355. (ب) بعده في جـ: من.

تعالى: {وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} (¬1). 787 - عن ابن عمر رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما حق امرئ مسلم له شيء يريد أن يوصي فيه يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده". متفق عليه (¬2). قوله: "ما حق امرئ مسلم". لفظ "مسلم" سقط في رواية أحمد (¬3) وهو ثابت عند الأكثر والتقييد به خرج مخرج الغالب فلا مفهوم له أو أنه للتهييج بالوصية لما أشعر (أ) التقييد به أن هذا من شعار الإسلام، فمن تركه فقد ترك ما هو من شعار الإسلام، والا فوصية الكافر جائزة، وحكى ابن المنذر (¬4) الإجماع عليها وإن كان السبكي أورد إشكالًا؛ وهو أن الوصية زيادة في العمل الصالح، والكافر لا عمل له صالح حتى يزاد عليه، وأجاب بأن الوصية أشبه بالإعتاق وهو يصح من الكافر. وقوله: "شيء يريد أن يوصي فيه". قال ابن عبد البر (¬5): رواه أيوب عن نافع بهذا اللفظ، وأما الرواة عن مالك فرووه بلفظ: "له شيء يوصي فيه". لم يختلفوا في ذلك، ورواه أحمد (¬6) عن سفيان بلفظ: "حق (ب) كل مسلم ¬

_ (أ) في ب، جـ: شعر. (ب) في الأصل، جـ: ماحق.

أن لا يبيت ليلتين وله ما يوصي فيه". الحديث، ورواه الشافعي (¬1) عن سفيان بلفظ: "ما حق امرئ يؤمن (أ) بالوصية". الحديث، قال ابن عبد البر (¬2): فسره ابن عيينة: أي يؤمن بأنها حق. وأخرجه أبو عوانة (¬3) من طريق هشام عن نافع (ب) بلفظ: "لا ينبغي لمسلم أن يبيت ليلتين". الحديث. وذكره ابن عبد البر (2) عن سليمان بن موسى عن نافع (ب) مثله. وأخرجه الطبراني (¬4) من طريق الحسن عن ابن عمر مثله. وأخرجه الإسماعيلي من طريق روح بن عبادة عن مالك وابن عوف جميعًا عن نافع بلفظ: "ما حق امرئ مسلم له مال يريد أن يوصي فيه". وذكره ابن عبد البر (2) من طريق ابن عون بلفظ: "لا يحل لامرئ مسلم له مال". وأخرجه الطحاوي (¬5) أيضًا. وأخرج (جـ) النسائي (¬6): "أن يوصي فيه". من هذا الوجه (د) ولم يسق لفظه. قال أبو عمر: لم يتابع ابن عون على (هـ) هذه اللفظة. ولفظ "شيء" في الرواية أعم ¬

_ (أ) في ب: مؤمن. (ب- ب) ساقط من: ب. (جـ) بعده في الأصل: الثاني. (د) في النسخ: اللفظ. والمثبت من الفتح 5/ 357. (هـ) في جـ: عن.

من لفظ المال لدخول الحقوق المحضة فيها. ولفظ "ما" (أ) في قوله: "ما (أ) حق" نافية بمعنى ليس، والخبر ما بعد "إلا"، والواو زائدة في الخبر لوقوع الفصل بـ "إلا". قال الشافعي رحمه الله تعالى: معنى الحديث: ما الحزم والاحتياط للمسلم إلا أن تكون وصيته مكتوبة عنده. كذا في "شرح مسلم" للنووي (¬1)، وروى البيهقي في "المعرفة" (¬2) عن الشافعي أنه قال في قوله: "ما حق امرئ". يحتمل: ما لامرئ أن يبيت ليلتين إلا ووصيته لم مكتوبة عنده. ويحتمل: ما المعروف في الأخلاق إلا هذا لا من وجه الفرض. وقال الخطابي (¬3): معناه ما حقه من جهة الحزم والاحتياط إلا أن تكون وصيته مكتوبة عنده إذا كان له شيء يريد أن يوصي فيه لا يدري متى توافيه منِيّته فتحول بينه وبين ما يريد من ذلك. انتهى. وقوله: "يريد أن يوصي فيه". صفة لـ "شيء"، وفيه إشعار بأن الوصية ليست واجبة عليه، وإنما ذلك عند إرادته الوصية، فما أولاه بالمبادرة لتجويز هجوم الموت عليه في كل وقت، لكون (ب) سائر الروايات باللفظ الذي يدل على تحتم الوصية عليه، وقد أجمع المسلمون على الأمر بها واختلفوا في الوجوب؛ فذهب مالك والشافعي وأحمد وأبو حنيفة والجمهور إلى أنها مندوبة لا واجبة، وذهب داود وابن حزم وغيرهما من أهل الظاهر إلى ¬

_ (أ- أ) ساقط من: ب. وفي جـ: في. (ب) في ب: "ولكن".

وجوبها، وحكاه ابن المنذر عن طائفة منهم الزهري، وحكاه البيهقي في "المعرفة" (¬1) عن الشافعي في القديم، وقال به أبو مجلز وعطاء وطلحة بن مصرف في آخرين. وقال به إسحاق، واختاره أبو عوانة الإسفرايني وابن جرير وآخرون، ونسب ابن عبد البر (¬2) القول بعدم وجوبها إلى الإجماع سوى من شذ، كذا قال، واستدل بعدم (أ) الوجوب من حيث المعنى، فإنه لو لم يوص لقسم جميع ماله بين ورثته بالإجماع، فلو كانت الوصية واجبة لأخرج من ماله سهمًا ينوب عن الوصية، [وقالوا] (ب) في قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ} (¬3) الآية: إنها منسوخة. كما قال ابن عباس (¬4): كان المال للولد وكانت الوصية للوالدين، فنسخ الله من ذلك ما أحب، فجعل لكل واحد من الأبوين السدس. الحديث. وأجاب من قال بالوجوب بأن الذي نُسخ الوصية للوالدين والأقارب الذين يرثون، وأما من لا يرث فليس في الآية ولا في تفسير ابن عباس ما يقتضي النسخ في حقه. وأجاب من قال بعدم الوجوب عن الحديث بأن قوله: "ما حق امرئ". بأن المراد الحزم والاحتياط، لأنه قد يفجؤه الموت وهو على غير وصية، ولا ينبغي للمؤمن أن يغفل عن ذكر الموت والاستعداد له. وهذا عن الشافعي. وقال غيره: الحق لغة الشيء الثابت، ويطلق شرعًا على ما يثبت به الحكم، والحكم الثابت ¬

_ (أ) في ب: لعدم. (ب) في ب: قال.

أعم من أن يكون واجبًا أو مندوبًا، وقد يطلق على المباح أيضًا لكن بقلة. قاله القرطبي (¬1)، قال: فإن اقترن به "على" أو نحوها كان ظاهرًا في الوجوب وإلا فهو على الاحتمال، وعلى هذا التقدير فلا حجة في هذا الحديث لمن قال بالوجوب، بل اقترن (أ) هذا الحق بما يدل على الندب؛ وهو تفويض الوصية إلى إرادة الموصي حيث قال: "له شيء يريد أن يُوصي فيه". فلو كانت واجبة لما علقها بإرادته، وأما الجواب عن الرواية التي بلفظ: "لا يحل". فلاحتمال (ب) أن يكون راويها ذكرها بالمعنى وأراد بنفي الحل ثبوت الجواز بالمعنى الأعم الذي يدخل تحت الواجب والمندوب والمباح. واختلف القائلون بوجوب الوصية، فأكثرهم ذهب إلى وجوبها في الجملة، وعن طاوس وقتادة والحسن وجابر بن زيد في آخرين تجب للقرابة الذين لا يرثون خاصة. أخرجه ابن جرير (¬2) وغيره عنهم. قالوا: فإن أوصى لغير قرابته لم ينفذ، ويرد الثلث كله إلى قرابته. وهذا قول طاوس. وقال الحسن وجابر بن زيد: ثلثا الثلث. وقال قتادة: ثلث الثلث. ويرد على هؤلاء ما احتج به الشافعي من حديث عمران بن حصين (¬3) في قصة الذي أعتق عند موته ستة أعبد له لم يكن له مال غيرهم، فدعاهم النبي - صلى الله عليه وسلم - فجزأهم ستة أجزاء، فأعتق اثنين وأرق أربعة. قال: فجعل عتقه في المرض وصية. ولا يقال: لعلهم كانوا أقارب المعتق. لأنا نقول: لم تكن عادة ¬

_ (أ) في جـ: افترق. (ب) في جـ: فلا احتمال.

العرب أن تملك من بينها وبينه قرابة، وإنما تملك من لا قرابة له أو كان من العجم، فلو كانت الوصية تبطل لغير القرابة لبطلت في هؤلاء. وهو إيراد قوي، ونقل ابن المنذر (¬1) عن أبي ثورأن الوصية إنما تجب على من عليه حق شرعي يخشى أن يضيع إن لم يوص به كوديعة ودين لله أو لآدمي. قال: ويدل على ذلك قوله في الحديث: "له شيء يريد أن يوصي فيه". لأن فيه إشارة على قدرته على تنجيزه، وهذا هو (أ) المصرح به في كتب الهدوية كما قال الإمام المهدي في "الأزهار": ويَجبُ الإشهاد على من له مال بكل حق لآدمي. إلخ. ولكن هذا القول يرجع إلى قول الجمهور: إن الوصية غير واجبة لعينها، وإنما الواجب لعينه الخروج من الحقوق الواجبة للغير، سواء كانت بتنجيز أو وصية. فكان (ب) محل الوجوب فيمن عليه حق ومعه مال ولم يمكن تخليصه إلا إذا أوصى به، وما انتفى فيه واحد من ذلك فلا وجوب، فتبين أن الوصية قد تكون واجبة وقد تكون مندوبة فيمن رجا منها كثرة الأجر، ومكروهة في عكسه، ومباحة فيمن (جـ) استوى الأمران فيه، وعدمه فيما إذا كان فيها إضرار كما ثبت عن ابن عباس رضي الله عنهما: الإضرار في الوصية من الكبائر. رواه سعيد بن منصور (¬2) موقوفًا بإسناد ¬

_ (أ) في جـ: قول. (ب) في جـ: كان. (جـ) في ب: فيما.

صحيح، ورواه النسائي (¬1) مرفوعًا ورجاله ثقات، وفي الباب أحاديث كثيرة في تحريم الإضرار في الوصية، ونص القرآن الكريم بذلك: {غَيْرَ مُضَارٍّ} (¬2). واحتج ابن بطال على أن الحديث غير محمول على الوجوب بأن راوي الحديث وهو ابن عمر لم يوص كما أخرجه ابن المنذر (¬3) بسند صحيح عن حماد بن زيد عن أيوب عن نافع قال: قيل لابن عمر في مرض موته: ألا توصي؟ قال: أما مالي فالله يعلم ما كنت أصنع فيه، [و] (أ) أما رباعي فلا أحب أن يشارك ولدي فيها أحد (ب). ويجاب عنه بأن عمل الراوي بخلاف ما روى لا يكون مخصصًا ولا مقيدًا، والعمل على ما روى، وبأنه أيضًا معارض بما أخرجه مسلم (¬4) في "صحيحه" عن ابن عمر أنه قال: لم أبت ليلة إلا ووصيتي مكتوبة عندي. ويمكن الجمع بأنه كان يكتب وصيته ويتعاهدها وينجِّز ما كان يوصي به. وفي قوله: أما مالي فالله يعلم ما كنت أصنع فيه. إشارة إلى ذلك، ويدل عليه أيضًا ما أخرجه عنه البخاري (¬5) من الحديث في الرقاق: إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح. الحديث. وقوله: "ليلتين". كذا لأكثر الرواة، ولأبي عوانة والبيهقي (¬6) من طريق ¬

_ (أ) ساقطة من النسخ. (ب) زاد في النسخ: وأما مالي فالله يعلم ما كنت أصنع فيه.

حماد بن زيد عن أيوب: "يبيت ليلة أو ليلتين". ولمسلم والنسائي (¬1) من طريق الزهري عن سالم عن أبيه: "ثلاث ليال". وكأن ذكر الليلتين والثلاث ذكر لرفع الحرج لتزاحم أشغال المرء التي يحتاج إلى ذكرها، ففسح له هذا المقدار ليتذكر ما يحتاج إليه. واختلاف الروايات فيه دال على أنه للتقريب لا للتحديد، والمعنى: لا يمضي عليه زمان وإن كان قليلًا إلا ووصيته مكتوبة. وفيه إشارة إلى اغتفار (أ) الزمن اليسير، وكأن الثلاث غاية التأخير، و [لذلك] (ب) قال ابن عمر في رواية سالم المذكورة: ولم أبت ليلة منذ سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول ذلك إلا ووصيتي عندي. قال الطيبي: في تخصيص الليلتين والثلاث تسامح في إرادة المبالغة، أي لا ينبغي أن يبيت زمنًا وقد سامحناه في الليلتين والثلاث، فلا ينبغي له أن يتجاوز ذلك. وقوله: "مكتوبة عنده". يستدل به على جواز الاعتماد على الكتابة والخط ولو (جـ) لم يقترن ذلك بالشهادة. وخص أحمد ومحمد بن نصر من الشافعية أن الاعتماد على الخط مخصوص بالوصية؛ لثبوت الخبر فيها دون غيرها، بل ولأن الوصية لما كان مأمورًا بها وهي تكون بما يلزم المرء من الحقوق، واللزوم متجدد في الأوقات، واستصحاب الشهادة في كل لازم يريد أن يوصي فيه خشية مفاجأة الأجل، متعسر بل متعذر في بعض الأوقات، ويلزم منه عدم وجوب الوصية أو شرعيتها بالكتابة من دون ¬

_ (أ) في ب: اعتبار. (ب) في الأصل: كذا. وفي ب، جـ: كذلك. والمثبت من الفتح 5/ 358. (جـ) ساقط من: ب.

شهادة؛ إذ لا فائدة في ذلك، وقد ثبت هذا الأمر المذكور في الحديث. وقال الجمهور: إن الكتابة ذكرت لما فيها من ضبط المشهود به. قالوا: ومعنى قوله: "ووصيته مكتوبة عنده". أي بشرطها وهو الشهادة. وقال المحب الطبري (¬1): إضمار الإشهاد معتبر هنا، ويستدل على الإشهاد بقوله تعالى: {شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ} (¬2) الآية. فإنه يدل على اعتبار الإشهاد في الوصية. وقال القرطبي (1): ذكر الكتابة مبالغة في زيادة التوثيق، وإلا فالوصية المشهود بها متفق [عليها] (أ) ولو لم تكن مكتوبة. والله أعلم. ويجاب عن ذلك بأن ذكر الإشهاد في الآية الكريمة لا يلزم أن الوصية لا تثبت إلا به، وفي الحديث زيادة على ذلك وهو اعتبار الكتابة، والإجماع الفعلي (ب) في جميع الأعصار وأمصار أهل الإسلام في اعتبار الصكوك وخطوط الأمراء والحكام يدل على أن ذلك معتبر، فإذا عرف خط الحاكم أو خط الموصِي أو خط المقر عمل بذلك، ويتأيد بما أجمع عليه من أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يُنفذ الكتب منه مع (جـ) الآحاد من غير أن يخبر الرسول بما تضمنه ذلك الكتاب، وهي متضمنة لتبليغ شرائع وتنفيذ أحكام، وكذلك العهود التي كتبها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الإقطاعات وعقد الذمة والصلح، مع أنه لم ينقل عن أحد ممن اطلع على ¬

_ (أ) في النسخ: عليه. والمثبت من الفتح 5/ 359. (ب) في جـ: العقلي. (جـ) في ب: إلى.

ذلك في الأعصار المتأخرة أنه ردّها لعدم بقاء الشهادة، وإنما رد العلماء على يهود خيبر لما أخرجوا كتابًا أن عليًّا رضي الله عنه أسقط عنهم الجزية -في سنة سبع وأربعين وأربعمائة- فرد عليهم رئيس الرؤساء أبو القاسم علي وزير القائم في إبطاله جزءًا، وكتب له عليه الأئمة؛ أبو الطب الطبري وأبو نصر بن الصباغ ومحمد بن محمد البيضاوي ومحمد بن علي الدامغاني وغيرهم، وكان مستند الرد للخطيب البغدادي (¬1) أنه مذكور في الكتاب شهادة معاوية، فقال: معاوية هو أسلم عام الفتح، وخيبر فتحت قبل ذلك، ولم يكن مسلمًا في ذلك الوقت ولا حضر ما جرى، وشهادة سعد بن معاذ وهو مات في يوم بني قريظة بسهم أصابه في أكْحَله (¬2) يوم الخندق وذلك قبل فتح خيبر بسنتين. وفي هذا دلالة على أنه إذا غلب في الظن عدم التزوير والتلبيس جاز العمل به، وذكر الإمام المهدي في "البحر" في كتاب الشهادات قال: مسألة الأحكام والفريقان: ولا تجوز شهادته لمعرفة خطه بها إذ لا يقتضي اليقين؛ لاحتمال التزوير. أبو طالب: يجوز، لنا {وَلَا تَقْفُ} (¬3) الآية ونحوها. المؤيد بالله وأبو طالب وأبو العباس وقول المنتخب: يجوز. محمول على حصول العلم الضروري. قلت: فحينئذ العبرة بحصولي العلم فيرتفع الخلاف. فرَّع العترة والفريقان: ولو عرف خط [غيره] (أ) بإقرار بحق لم يشهد به. مالك: يجوز (ب). قلنا: يحتمل التزوير فلا يقين. هذا كلامه. وقال في كتاب القضاء: فرع العترة والنخعي ¬

_ (أ) ساقط من: الأصل. (ب) في ب: يجوزه.

والفريقان: ولا يعمل بالكتاب إلا ببينة كاملة أنه كتابه. أبو ثور: يجوز؛ لعملهم بكتب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من غير شهادة. الإصطخري ومالك والعنبري: إن عرف الخط والختم عمل به وإلا فلا. قلنا: تشتبه الخطوط والختوم. انتهى. هذا كلامه وقد يجاب عما زدته من الاشتباه أن الاحتمال لا يمنع العمل كالعمل بالشهادة، فإن الاحتمال حاصل فيها والعمل باليمين وغير ذلك. وقال في "الهدي النبوي" (¬1) في حديث أنه - صلى الله عليه وسلم - بعث عبد الله بن جحش ومعه سرية إلى نخلة ترصد عيرًا لقريش، وأعطاه كتابًا مختومًا وأمره ألا يقرأه إلا بعد يومين ... الحديث: في هذه القصة من الفقه إجازة الشهادة على الوصية المختومة، وهو قول مالك وكثير من السلف، وعليه يدل حديث "الصحيحين": "ما حق امرئ" الحديث. وفيها (أ) أنه لا يشترط في كتاب الإمام والحاكم البينة، ولا أن يقرأه الإمام والحاكم على الحامل له، وكل هذا لا أصل له من كتاب ولا سنة، وقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدفع كتبه مع رسله، ويسيرها إلى من يكتب إليه، ولا يقرؤها على حاملها، ولا يقيم عليها شاهدين، وهذا معلوم بالضرورة من هديه وسنته. وقال في "العواصم": إنه يجوز العمل بالخط. ورواه عن المنصور بالله مع غلبة الظن بالصدق، وهو قوي راجح. والله أعلم. وفي الحديث دلالة على أنه ينبغي للمرء التأهب للموت والاحتراز قبل الفوت؛ لأن الإنسان لا يدري متى يفجؤُه الموت؛ لأنه ما من سنّ تفرض إلا ¬

_ (أ) في ب: فيه.

وقد مات فيه جمع جم، وكل واحد جائز أن يموت في الحال، فينبغي أن يكون متأهبًا لذلك، فيكتب وصيته ويجمع فيها ما يحصل له به الأجر ويحط عنه (أ) الوزر من حقوق الله وحقوق عباده. ومطلقها يتناول الصحيح، لكن السلف خصّوها بالمريض. وفي قوله: "شيء". يستدل به على صحة الوصية بالمنفعة وهو قول الجمهور. وقال ابن أبي ليلى وابن شبرمة وداود وأتباعه واختاره ابن عبد البر (¬1): إنه لا يصح الإيصاء بالمنفعة؛ اعتمادًا على رواية: "له مال". فتكون هذه الرواية مفسرة للفظ "شيء" في الرواية الأخرى. وقوله: "مكتوبة". أعم من أن تكون مكتوبة بخطه أو بخط غيره، ويستفاد منه أن الأشياء المهمة ينبغي أن تضبط بالكتابة، لأنها أثبت من الضبط بالحفظ، لتجويز النسيان غالبًا، والله أعلم. فائدة: اختلف في كونه - صلى الله عليه وسلم - أوصى أم لا، فروى البخاري (¬2) عن ابن أبي أوفى أنه قال: إنه - صلى الله عليه وسلم - لم يوص. جوابًا لمن سأله عن ذلك. ويؤول بأنه أراد أنه لم يوص بالثلث كما فعله غيره، لأنه لم يترك بعده مالًا، وأما الأرض فقد كان سبَّلها، وأما السلاح والبغلة ونحو ذلك فقد أخبر أنها لا تورث بل هي صدقة. كذا ذكر النووي (¬3)، وأما الذهَيبة فسأل عائشة عنها في مرضه قال: "ما فعلت الذهيبة؟ ". قالت: هي عندي. فقال: "أنفقيها". أخرجه ¬

_ (أ) في جـ: عليه.

أحمد وابن سعد (¬1). وأخرج ابن سعد (¬2) من وجه آخر أنه قال: "ابعثي بها إلى علي ليتصدق بها". وفي "المغازي" لابن إسحاق (¬3) قال: لم يوص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند موته إلا بثلاث؛ لكل من الداريين والرهاويين والأشعريين بجادِّ مائة وسق من خيبر، وألا يترك في جزيرة العرب دينان، وأن ينفذ بعث أسامة. وأخرج مسلم (¬4) في حديث ابن عباس: أوصى بثلاث، أن يُجيزوا الوفد بنحو ما كنت أُجيزهم. الحديث. وفي حديث ابن أبي أوفى: أوصي بكتاب الله. وفي حديث أنس عند النسائي وأحمد وابن سعد (¬5) واللفظ له: كانت [عامة] (أ) وصية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين حضره الموت: "الصلاة وما ملكت أيمانكم". وله شاهد من حديث على عند أبي داود وابن ماجه (¬6) [وآخر من رواية نعيم بن يزيد عن علي] (ب): "أدُّوا الزكاة" بعد الصلاة، أخرجه أحمد (¬7). وأخرج سيف بن عمر (¬8) في "الفتوح" من طريق ابن أبي مليكة عن عائشة رضي الله عنها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حذر من الفق في مرض موته، ¬

_ (أ) في النسخ: غاية. والمثبت من مصادر التخريج. (ب) في النسخ: زاد. والمثبت من الفتح 5/ 362.

ولزوم الجماعة والطاعة. وأخرج الواقدي (¬1) من مرسل العلاء بن عبد الرحمن أنه - صلى الله عليه وسلم - أوصى فاطمة فقال: "قولي إذا مت: إنا لله وإنا إليه راجعون". وأخرج الطبراني في "الأوسط" (¬2) من حديث عبد الرحمن بن عوف قالوا: يا رسول الله، أوصنا -يعني في مرض موته- قال: "أوصيكم بالسابقين الأولين من المهاجرين وأبنائهم من بعدهم". قال: لا يروى عن عبد الرحمن إلا بهذا الإسناد. تفرد به عتيق بن يعقوب وفيه من لا يعرف حاله. وفي "سنن ابن ماجه" (¬3) من حديث علي قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا أنا مت فاغسلوني بسبع قرب من بئر [غرس] " (أ). وكانت بقباء وكان يشرب منها. وفي "مسند البزار" (¬4) و"مستدرك الحاكم" (¬5) بسند ضعيف أنه - صلى الله عليه وسلم - أوصى أن يصلى عليه أرسالًا بغير إمام. فهذا ما روي في وصيته بأسانيد معتبرة، وقد روي غير ذلك. فإن قلت: فقد توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعليه دين ليهودي، فكيف لم يوص به والوصية بالديون واجبة؟ فالجواب أنه - صلى الله عليه وسلم - كان قد رهن درعه في الدين عند اليهودي والرهن حجة لليهودي فلم يحتج إلى الوصية كما أشار إليه سبحانه وتعالى في آية الدين بقوله: {وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} (¬6). مع أن علم ذلك لم يكن مختصًّا به فقد علمه بعض أصحابه، ¬

_ (أ) في النسخ: أريس. والمثبت من مصدر التخريج. وينظر معجم البلدان 3/ 784.

ولهذا أخبرت به عائشة رضي الله عنها، ويؤخذ من هذا أن الدين إذا علم الميت أن صاحب الدين لا يفوت عليه شيء من دينه بعده أنه لا يجب عليه الوصية به؛ وهو إذا كان معه بينة واضحة أو علم به الورثة وأمن منهم الجحود. فائدة: أخرج عبد الرزاق (¬1) وسنده صحيح عن أنس رضي الله عنه قال: كانوا يكتبون في صدور وصاياهم: بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما أوصى به فلان بن فلان؛ أنه يشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدًا عبده ورسوله - صلى الله عليه وسلم -، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور، وأَوْصى مَن ترك من أهله أن يتقوا الله ويصلحوا ذات بينهم ويطيعوا الله ورسوله إن كانوا مؤمنين، وأوصاهم بما أوصى به إبراهيم بنيه ويعقوب {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} (¬2). وقوله في الحديث: "امرئ مسلم". الامرؤ المراد به الرجل وقد خرج مخرج الغالب، وإلا فلا فرق في الوصية بين الرجل والمرأة، وسواء كانت مزوجة أو فارغة، بإذن الزوج أو لا، إذ هي تحصيل قربة أخروية عند انقضاء العمر في قدر مأذون فيه شرعًا، والوصف بالإسلام كذلك خرج مخرج الغالب أو هو للتهييج والإلهاب لتقع المبادرة لامتثاله؛ لما يشعر من نفي الإسلام عن تارك ذلك، ووصية الكافر جائزة في الجملة (أ)، وادعى ابن المنذر الإجماع من أهل العلم الذين يحفظ عنهم، وفي "البحر": ويصح بين أهل ¬

_ (أ) زاد في النسخ: وقد ذهب الفقهاء الأربعة وغيرهم. والمثبت كما في الفتح 5/ 357.

الذمة فيما يملكون ولو خمرًا لصحة تصرفهم فيه؛ لقول عمر: ولّوهم بيعها. ولم ينكر المؤيد وأبو طالب وأبو حنيفة، وتصح منهم لكنائسهم وبيعهم في خططهم إذا أقروا عليه، ومنع من ذلك صاحبا أبي حنيفة، إذ فيه إحياء للكفر وهو معصية. قلنا: أقروا عليه. انتهى. وظاهر هذا (أ) التفصيلُ في وصية الذمي والأمر كذلك في وصية المسلم وهو ما كان محظورًا لا يمتثل ولا تصح الوصية به، وصرح بمثل هذا في موضع آخر، والمعتبر فيمن تصح وصيته العقل والحرية، فلا تصح وصية مجنون وعبد، وفي صحة وصية الصبي المميز خلاف، قال في "البحر": لا تصح من ابن السبع إجماعًا. أبو حنيفة وأحد قولي الشافعي: ولا من ابن العشر لرفع القلم فأشبه ابن الخمس. عمر وأحمد ومالك: بل تصح؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله جعل لكم ثلث أموالكم" (¬1). ولم يفصل. قلت: فصل القياس على الخمس. انتهى. وفي "طرح التثريب شرح التقريب" في حكاية الخلاف ما لفظه: وفي صحة وصية الصبي المميز خلاف؛ جوزها مالك إذا عقل القربة ولم يخلط، وأحمد بن حنبل إذا جاوز العشر، وفي رواية أخرى عنه إذا جاوز السبع، وحكى عنه ابن المنذر إذا كان ابن اثنتي عشرة سنة، ومنعها أبو حنيفة، وهو أظهر قولي الشافعي وبه قال أكثر أصحابه، وهو رواية عن أحمد، وعن الشافعي قول آخر أن وصيته صحيحة، فرتب الخلاف على التمييز وهو الأولى. وأما المحجور عليه فتصح وصيته وهي موقوفة على فك الحجر، والمحجور للسفه ¬

_ (أ) ساقط من: ب، جـ.

تصح وصيته عند الجمهور ومنهم الشافعي. وأما وصية العبد فهي لا تنفذ منه ما دام عبدًا إجماعًا، وأما إذا عتق وقد كان أوصى، فاختار الإمام المهدي أنها تنفذ لزوال المانع، وهو الموافق لما ذكر في نكاحه بغير إذن سيده إذا (أ) عتق، وحكى قولًا أنه يشترط إطلاق التصرف عند صدورها. والله أعلم. 788 - وعن سعد بن أبي وقاص رضي الله تعالى عنه قال: قلت: يا رسول الله، أنا ذو مال ولا يرثني إلا ابنة لي واحدة، أفأتصدق بثلثي مالي؟ قال: "لا". قلت: أفأتصدق بشطره؟ قال: "لا". قلت: أفأتصدق بثلثه؟ قال: "الثلث والثلث كثير، إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس". متفق عليه (¬1). الحديث، وقع هذا الحكم في حجة الوداع بمكة، وهو مصرح به في رواية الزهري ولفظه: جاء النبي - صلى الله عليه وسلم - يعودني وأنا بمكة في حجة الوداع (¬2). وأخرج الترمذي (¬3) عن ابن عيينة أنه في فتح مكة. واتفق الحفاظ أنه وهم ولكنه قد وجد لرواية ابن عيينة مستند فيما أخرجه أحمد والبزار والطبراني ¬

_ (أ) في جـ: إذ.

والبخاري في "التاريخ" وابن سعد (¬1) من حديث (أ) عمرو بن [القاري] (ب) أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قدم فخلف سعدًا مريضًا حيث خرج إلى حنين، فلما قدم من الجعرانة معتمرًا دخل عليه وهو مغلوب فقال: يا رسول الله، إن لي مالًا وإني أورث كلالة، أفأوصي بمالي؟ الحديث، ويمكن الجمع بين الروايتين بأن يكون ذلك وقع له مرتين؛ مرة عام الفتح ومرة عام حجة الوداع، ففي الأولى لم يكن له وارث من الأولاد أصلًا، وفي الثانية كانت له بنت فقط. والله أعلم. وقوله: أنا ذو مال. التنوين فيه للتكثير؛ أي مال كثير، وقد ورد في بعض طرقه مصرحًا بالوصف. وقوله: ولا يرثني إلا ابنة. قال النووي (¬2) وغيره: معناه لا يرثني من الولد أو من خواص الورثة أو من النساء، وإلا فقد كان لسعد عصبات؛ لأنه من بني زهرة وكانوا كثيرًا. وقيل: معناه لا يرثني من أصحاب الفروض، أو خصها بالذكر على تقدير: لا يرثني ممن أخاف عليه الضياع والعجز إلا هي. أو ظن أنها ترث جميع المال واستكثر لها نصف التركة، وهذه البنت قيل: إن اسمها عائشة. وهي غير عائشة المذكورة في إسناد الحديث في البخاري، فهي تابعية عمرت حتى أدركها مالك ؤروى عنها، وماتت (جـ) سنة سبع ¬

_ (أ) زاد في جـ: ابن. (ب) في النسخ: الغازي. والمثبت من مصادر التخريج، وينظر أسد الغابة 4/ 249، والإصابة 4/ 657. (جـ) كتب فوقها في الأصل، ب: أي عائشة الكبرى. زاد في ب: مؤلف.

عشرة إلا أن النسابين لم يذكر أحد منهم أن لسعد بنتًا تسمى عائشة غير هذه، وذكروا أن أكبر بناته أم الحكم الكبرى، وأمّها بنت شهاب بن عبد الله بن الحارث بن زهرة، وذكروا له بنات أخر أمهاتهن متأخرات الإسلام بعد الوفاة النبوية. قال المصنف رحمه الله تعالى (¬1): والظاهر أن البنت المشار إليها هي أم الحكم المذكورة؛ لتقدم تزويج سعد بأمها، ولم أر من حرر ذلك. انتهى. واعلم أن الفاكهي (¬2) ذكر أنه ولد لسعد بعد ذلك أربعة بنين وأنه لا يعرف أسماؤهم، وقد سمّى مسلم ثلاثة؛ عامرًا ومصعبًا ومحمدًا، واقتصر القرطبي على أن أولاده ثلاثة، وعن بعضهم أنه عد أربعة من الذكور غير الثلاثة؟ وهم عمر وإبراهيم ويحيى وإسحاق. وابن سعد (¬3) ذكر له من الذكور غير السبعة أكثر من عشرة؛ وهم عبد الله وعبد الرحمن وعمر وعمران وصالح وعثمان وإسحاق الأصغر وعمر الأصغر وعمير مصغرًا وغيرهم، وذكر له من البنات ثنتي عشرة بنتًا. والله أعلم. وقوله: أتصدق بثلثي مالي. هكذا في رواية عائشة بنت سعد (¬4)، وكذا في رواية الزهري (¬5)، وجاء في رواية سعد بن إبراهيم (¬6): أوصي بمالي كله. فقوله: أتصدق. يحتمل التنجيز والتعليق بخلاف: أفأوصى. فإنها نص في التعليق، إلا أنه يحمل على أن رواية: أتصدق. مراد به التعليق للجمع بين روايتين مع اتحاد القصة، وقد تمسك بلفظ أتصدق من جعل ¬

_ (¬1) الفتح 5/ 368. (¬2) ينظر فتح الباري 5/ 366. (¬3) ابن سعد في الطبقات 3/ 137، 138. (¬4) البخاري 10/ 120 ح 5659. (¬5) تقدم ص 530. (¬6) البخاري 5/ 363 ح 2742.

تبرعات المريض من الثلث وحملوه على التنجيز، وأما رواية المال كله فهي زيادة ولعل الراوي الذي أهملها لم يثبتها، ومن رواها أثبتها، ومن اقتصر عليها إما أنه نسي ما بعدها أو اختصر في الرواية، وقد وقع مجموع ذلك في رواية جرير بن [زيد] (أ) عند أحمد (¬1)، وفي رواية [بكير] (ب) عند النسائي (¬2)، وفي رواية بلفظ: قلت: فالشطر (¬3). والشطر مراد به النصف. وقوله: قال: "الثلث". يجوز جره بتقدير الجارّ ومتعلقه؛ أي تصدق بالثلث. وتقدير الجار وإبقاء أثره وإن كان قليلًا لكنه مع وجود القرينة على المقدّر [فصيح] (جـ)، ويجوز النصب بتقدير: سم الثلث أو عينّ الثلث. ويجوز الرفع بتقدير فعل ويكون هذا فاعله وهو: يجوز الثلث. وقوله: "والثلث كثير". بالثاء المثلثة. وفي البخاري (¬4) رواية بالشك في كثير بالمثلثة أو بالموحدة من أسفل. وكذا للنسائي (¬5) من طريق أبي عبد الرحمن السلمي عن سعد وفيه: فقال: "أوصيت؟ ". قلت: نعم. قال: "بكم؟ ". قلت: بمالي كله. قال: "فما تركت لولدك؟ ". وفيه: "أوص بالعشر". قال: فما زال يقول وأقول حتى قال: "أوص بالثلث والثلث ¬

_ (أ) في النسخ: يزيد والمثبت من المسند، وينظر تهذيب الكمال 4/ 532. (ب) في النسخ: بكر. والمثبت من مصدر التخريج وفتح الباري 5/ 365، وينظر تهذيب الكمال 4/ 251. (جـ) في الأصل، ب: يصح.

كثير". أو: "كبير". يعني بالمثلثة أو بالموحدة، شك الراوي، والمحفوظ في أكثر الروايات بالمثلثة، ومعناه كثير بالنسبة إلى ما دونه، وفائدة قوله: "والثلث كثير". بيان الجواز بالثلث وأن الأولى أن ينقص عنه ولا يزيد عليه وهو الذي يتبادر إلى الفهم، ويحتمل أن يكون لبيان أن التصدق بالثلث هو الأكمل أي كثير أجره، ويحتمل أن يكون معناه كثير غير قليل. قال الشافعي (¬1) رحمه الله تعالى: وهذا أولى معانيه. يعني أن الكثرة أمرٌ نسبي، ويدل على الأول قول ابن عباس (¬2): وددت أن الناس غضوا من الثلث إلى الربع في الوصية. وفي لفظ (¬3): لو أن الناس غضوا من الثلث إلى الربع. والحديث فيه دلالة على منع الوصية لمن له وارث بأكثر من الثلث، واستقر على ذلك الإجماع، واختلفوا في المستحب من ذلك؛ فذهب قوم إلى أنه ما دون الثلث لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "الثلث كثير". وقال بهذا ابن عباس وإسحاق بن راهويه، وهو معروف من مذهب الشافعي وقال به كثير من السلف. قال قتادة: أوصى أبو بكر بالخمس وأوصى عمر بالربع، والخمس أحبُّ إلى. وذهب قوم إلى أن الثلث مستحب؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله جعل لكم في الوصية ثلث أموالكم زيادة في أعمالكم". وهذا الحديث ضعيف وسيأتي (¬4). وأما إذا كان لا وارث فذهب مالك إلى أنه كذلك لا تجوز الزيادة على الثلث، وذهب إليه الأوزاعي، واختلف فيه قول أحمد. وأجاز ¬

_ (¬1) الأم 4/ 101. (¬2) ابن ماجه 2/ 905 ح 2711، وأبو عوانة 3/ 485 ح 5785. (¬3) مسلم 3/ 1253 ح 10 - 1629، وأبو عوانة 3/ 485، 486 ح 5786، والبيهقي 6/ 269. (¬4) ينظر ما سيأتي ح 791.

أبو حنيفة وإسحاق والهدوية وهو قول ابن مسعود الوصية بالمال كله. وسبب الخلاف في ذلك أن قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إنك أن تذر" إلخ. هل يفهم منه علة المنع من الوصية بأن السبب في ذلك رعاية حق الوارث وأنه إذا انتفى ذلك انتفى الحكم بالمنع، أو يجعل الحكم تعبديًّا وإن علل بعلة فلا يتعدى الحكم، أو يجعل المسلمون بمنزلة الورثة كما ذهب إليه المؤيد بالله وهو قول للشافعي؟ والظاهر أن الحكم معلل معتبر التعليل، وهو منتفٍ في حق من لم يكن له وارث معين وإن كان المسلمون ورثته ولكن الضياع في حقهم غير معتبر، وكذلك إذا أجاز الورثة الوصية نفذت وإن كانت أكثر من الثلث؛ لإسقاط حقهم الذي منع اعتباره الزائد على الثلث. وقد ذهب إلى هذا الجمهور، والخلاف لأهل الظاهر والمزني، وقوّاه السبكي واحتج له بحديث عمران بن الحصين في الذي أعتق ستة أعبد، فإن فيه عند مسلم: فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - قولًا شديدًا (¬1)، وفسر القول الشديد في رواية أخرى أنه قال: "لو علمت ذلك ما صليت عليه" (¬2). ولم ينقل أنه راجع الورثة، فدل على منعه مطلقًا، وإذا أجاز الورثة في حال الحياة وأرادوا الرجوع عن ذلك، فمن نظر إلى أن الحق قد ثبت ولو في حال الحياة قال: لا يصح الرجوع؛ لأنه إسقاط حق قد ثبت. وقد ذهب إلى هذا الصادق والناصر، وذكر في المعنى عن القاسمية أن لهم الرجوع ولعلهم يقولون: إن الحق متجدد فيصح الرجوع. وأما بعد الموت فذهب الهادي في "الأحكام" وهو قول الحسن وعطاء وابن أبي ليلى أنه لا يصح الرجوع؛ لأن الحق قد انقطع بالموت فحصل الموت وهو منقطع فلم ينفع الرجوع، وذكر الهادي في "الفنون" والمؤيد بالله وأبو حنيفة ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه ص 518. (¬2) البيهقي 10/ 287.

والشافعي أن له الرجوع؛ قالوا: لأن الحق إنما يستقر بالموت، والإجازة وقعت قبله، فأشبه الشفعة قبل البيع. ويجاب عنه بأنه (أيقارن استقراره أ) والموت والإسقاط دائم، فالرجوع بعد سقوطه لا يصح. وقال مالك: إن أجازوا في حال المرض فلا رجوع، وإن كان في حال الصحة ثبت الرجوع. ووجه التفرقة أنه قد قوي حق الوارث بالمرض، واستثنى بعض المالكية ما إذا كان المجيز من عائلة الموصى (ب) وخشي من امتناعه انقطاع معروفه عنه لو عاش، فإن له الرجوع. وقال الزهري: ليس له الرجوع مطلقًا. وقوله: "إنك أن تذر". يروى في "أَن" الفتح للهمزة والكسر، فالفتح على تقدير اللام للتعليل، والكسر على جعلها شرطية. قال النووي (¬1): وهما صحيحان. وقال القرطبي: لا يستقيم الشرط هنا لعدم الجواب. ومثله قال عبد الله بن أحمد الخشاب. قال ابن الجوزي: سمعناه من رواة الحديث بالكسر. والجواب عما ذكروه بأن جواب الشرط "خير"، وهو خبر مبتدأ محذوف بتقدير الفاء، وهو جائز في السعة (جـ)، ومن خصّه بالشعر فقد ضيق، وإنه كثير في الشعر قليل في [السعة] (د)، وأنشد سيبويه (¬2): * من يفعل الحسنات الله يشكرها * وفي غير الشعر مثل قوله في حديث اللقطة: "فإن جاء صاحبها وإلا ¬

_ (أ- أ) في ب: تقارن استمراره. وفي جـ: تقارب استقراره. (ب) في جـ: الوصي.

استمتع بها" (¬1). فإن الفاء محذوف في قوله: "استمتع". وكذا في حديث اللعان: "وإلّا حَدٌّ" (¬2). فإن الفاء مقدرة على لفظ: حد. وقوله: "ورثتك". ولم يقل: ابنتك. مع أنه لم يكن له إلا ابنة، مع أنه في لفظ: ولا يرثني إلا ابنة. إما لأنه قد عرف - صلى الله عليه وسلم - أنه لا يموت إلا وله ورثة كثيرون، أو لأنه يجوز أن تموت البنت قبله، فأجابه بكلام [كلي مطابق لكل حالة] (أ)، بقوله: "ورثتك". ولم يخص بنتًا من غيرها، مع أنه لم يكن ميراثه متعينًا في البنت، فقد كان لأخيه عتبة أولاد إذ ذاك؛ منهم هاشم بن عتبة الصحابي الذي قتل بصفين. وقوله: "عالة". أي فقراء، وهو جمع عائل وهو الفقير، وهو من عال يعيل إذا افتقر. وقوله: "يتكففون الناس". أي يسألون الناس بأكفهم، يقال: تكفف الناس واستكف. إذا بسط كفه للسؤال، أو مأخوذ من كف عنه؛ أي يسأل ما يكف عنه الجوع، أو سأل (ب) كفافًا من الطعام. والحديث فيه من الفوائد مشروعية زيارة المريض كما هو مذكور في تمام الحديث للإمام فمن دونه، ويتأكد عند اشتداد المرض. وفي الحديث أيضًا أنه وضع يده على جبهة سعد ومسح على العضو الذي يؤله وبشره بطول العمر، وأخبره سعدٌ بشدة مرضه وقوة ألمه ولم ينكر عليه في ذلك؛ لأنه لم يقترن بما يمنع من التبرم وعدم الرضا، وقد يستحب أو يحسن إذا كان في ذلك طلب دعاء أو دواء، ولا ينافي ذلك الاتصاف ¬

_ (أ) في النسخ: مطابق كلي لحاله. والمثبت من الفتح 5/ 366. (ب) في جـ: سؤال.

بالصبر المحمود، وإذا جاز ذلك في أثناء المرض، فإن الإخبار به بعد (أ) البرء أَجوز. وفي الحديث دلالة على إباحة جمع المال، والحث على صلة الرحم والإحسان [إلى] (ب) الأقارب، وأن صلة الأقرب أفضل من صلة الأبعد. وفيه الاستفسار عن المحتمل إذا احتمل وجوهًا، لأنه لما منع من الوصية بجميع المال احتمل عنده المنع فيما دونه والجواز، فاستفسر عما دون ذلك. وفيه النظر في مصالح الورثة، وأن خطاب الشارع للواحد يعم من كان بصفته من المكلفين، لإطباق العلماء على الاحتجاج بحديث سعد هذا، وإن كان الخطاب يفيد التقرير، وإن كان بعض العلماء قال: إن ذلك يختص بسعد ومن كان في مثل حاله ممن يخلف وارثًا ضعيفًا، أو كان ما يخلفه قليلًا؛ لأن البنت من شأنها أن يطمع فيها، وإن كانت (جـ) بغير مال لم يرغب فيها. وفيه أن من ترك مالًا قليلًا فالاختيار له ترك الوصية وإبقاء المال للورثة. وفيه مراعاة العدل في الوصية وأن الثلث في حد الكثرة. فائدة: أول من أوصى بالثلث في الإسلام البراء بن معرور -بمهملات- أوصى به النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكان قد مات قبل أن يدخل النبي - صلى الله عليه وسلم - المدينة بشهر، فقبله النبي - صلى الله عليه وسلم - ورده على ورثته. أخرجه الحاكم وابن المنذر (¬1). فائدة: يفهم من قول سعد: وأنا ذو مال. أنه مال كثير، وأن الوصية ¬

_ (أ) في ب: بعدم. (ب) في الأصل: في. (جـ) في الأصل: كان.

تكون من المال الكثير دون المال القليل. وكذا الحديث الأول على رواية: له مال. قال ابن عبد البر (¬1): وقد أجمع العلماء على أن من لم يكن عنده إلا اليسير التافه من المال أنه لا يندب له الوصية. ثم قال (¬2): اختلف السلف في مقدار المال الذي تستحب فيه الوصية أو تجب (أ) عند من أوجبها؛ فروي عن علي رضي الله عنه أنه قال: ستمائة درهم أو سبعمائة درهم ليس بمال فيه وصية (¬3). وروي عنه أنه قال: ألف درهم مال فيه وصية (¬4). وقال ابن عباس: لا وصية في ثمانمائة درهم (¬5). وقالت عائشة في امرأة لها أربعة من الولد ولها ثلاثة آلاف درهم: لا وصية في مالها (¬6). وقال إبراهيم النخعي: ألف درهم إلى خمسمائة درهم (¬7). وقال قتادة في قوله تعالى: {إِنْ تَرَكَ خَيْرًا} (¬8): ألف فما فوقها (¬9). وعن علي: من ترك مالًا يسيرًا فليدعه لورثته فهو أفضل (¬10). وعن عائشة فيمن ترك ثمانمائة درهم: لم يترك خيرًا فلا يوص. أو نحو هذا من القول. قال ابن عبد البر (2): وفي هذا دلالة على أن ¬

_ (أ) زاد في جـ: عليه.

الأمر بالوصية في الكتاب والسنة على الندب، وإن كانت الوصية واجبة في الكتاب للوالدين والأقربين كانت منسوخة بآية الواريث. انتهى. وهذه الدلالة مأخذها من أنه لو كانت واجبة لبيّن القدر الذي تجب عنده الوصية كما هو في غيره من سائر الواجبات المالية. وقال ابن حزم (¬1) عن عائشة أنها قالت فيمن ترك أربعمائة دينار: ما في هذا فضل عن ولده. وقال أبو الفرج السرخسي (¬2) من الشافعية: إن من قل ماله وكثر عياله يستحب ألا يفوته عليهم بالوصية. والصحيح المعروف عند الشافعية استحباب الوصية لمن له مال مطلقًا، وهو قول الهدوية. 789 - وعن عائشة رضي الله عنها أن رجلًا أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله، إن أمي افتُلِتَت نفسها ولم توص، وأظنها لو تكلمت تصدقت، أفلها أجر إن تصدقت عنها؟ قال: "نعم". متفق عليه واللفظ لمسلم (¬3). قوله: أن رجلًا. أورد البخاري (¬4) بعد هذه الرواية حديث ابن عباس أن سعد بن عبادة قال: إن أمي ماتت وعليها نذر. الحديث. وكأنه رمز إلى أن المبهم في حديث عائشة هو سعد بن عبادة، وجاء في البخاري (¬5) في رواية لحديث سعد بلفظ: إن أمي توفيت وأنا غائب عنها، فهل ينفعها شيء إن ¬

_ (¬1) المحلى 10/ 418. (¬2) ينظر الفتح 5/ 357. (¬3) البخاري، كتاب الوصايا، باب ما يستحب لمن توفي فجأة أن يتصدقوا عنه 5/ 388، 389 ح 2760، ومسلم، كتاب الزكاة، باب وصول ثواب الصدقة عن الميت إليه 2/ 696 ح 1004/ 51. (¬4) البخاري 5/ 389 ح 2761. (¬5) البخاري 5/ 390 ح 2762.

تصدقت به عنها؟ لاحتمال أن يكون سأل عن النذر وعن الصدقة عنها. وبيّن النسائي (¬1) من وجه آخر جهة الصدقة المذكورة، [فأخرج] (أ) من طريق ابن المسيب عن سعد قال: قلت: يا رسول الله، إن أمي ماتت أفأتصدق عنها؟ قال: "نعم". قلت: فأي الصدقة أفضل؟ قال: "سقي الماء". ومثله أخرج الدارقطني في "غرائب مالك"، والمحفوظ عن مالك الحديث المذكور أولًا عن سعد. وقوله: افتلتت. بضم المثناة بعد الفاء الساكنة وكسر اللام، أي أُخِذتْ فلتة؛ أي بغتة. وقوله: نفسها. بالضم على الأشهر نائب مناب الفاعل وبالفتح أيضًا وهو موت الفجأة، والمراد بالنفس هنا الروح. وأظنها لو تكلمت تصدقت. وفي لفظ للبخاري (¬2): وأُراها. وهو بمعنى الظن، وظاهر هذا أنها لم تتكلم. وقد أخرج في "الموطأ" (¬3) من حديث سعيد بن سعد بن عبادة أنه خرج سعد مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في بعض مغازيه، وحضرت أمه الوفاة بالمدينة، فقيل لها: أوصي. فقالت: فيم أوصي والمال مال سعد؟ فتوفيت قبل أن يقدم سعد. فذكر الحديث. وظاهر هذا أنها تكلمت ومنعها هذا المانع من الوصية. ويمكن تأويل النفي بأنها لم تتكلم أي بالصدقة، أو يحمل بأن سعدًا ما عرف ما قيل لها وما أجابت به، فإن ¬

_ (أ) في النسخ: وأخرج. والمثبت من فتح الباري 5/ 389.

الراويين [مختلفان] (أ). وقوله: أفلها أجر إن تصدقت عنها؟ الحديث. الحديث فيه دلالة على أن الميت تنفعه الصدقة ويصل ثوابها إليه ولا سيما إن كان من الولد، وهو مخصص لعموم قوله تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إلا مَا سَعَى} (¬1). ويلتحق بالصدقة العتق، وقد ورد مصرحًا به في رواية للبخاري في حديث سعد خلافًا للمالكية على المشهور عندهم، وقد اختلف في غير الصدقة من أعمال البر هل تصل إلى الميت كالحج والصوم؟ وقد تقدم الكلام عليه في آخر كتاب الجنائز (¬2). وأفاد الحديث أن تارك الوصية غير ملوم، فإنه لم يرو أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لامها في ذلك ليحذر الغير، فدل على ندبيتها. وأن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - كانوا يستشيرون النبي - صلى الله عليه وسلم - في أمور الدين، وأن إظهار الصدقة قد يكون خيرًا من إخفائها. 790 - وعن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث". رواه أحمد والأربعة إلا النسائي، وحسنه أحمد والترمذي، وقواه ابن خزيمة وابن الجارود (¬3). ¬

_ (أ) في النسخ: مختلفين. وكتب الصواب فوقه في ب.

ورواه الدارقطني (¬1) من حديث ابن عباس رضي الله عنه وزاد في آخره: "إلا أن يشاء الورثة". وإسناده حسن. الحديث ترجم به البخاري (¬2) وقال: باب لا وصية لوارث. وكأنه لم يثبت على شرطه، فترجم به كعادته، والحديث أخرجوه (أ) من حديث خطة الوداع بلفظ: "إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث". وفي إسناده إسماعيل بن عياش (¬3)، وقد قَوَّى حديثه عن الشاميين جماعة من الأئمة؛ منهم أحمد والبخاري، وهذا من روايته عن شرحبيل بن مسلم وهو شامي ثقة، وصرح في روايته بالتحديث عند الترمذي، وقال الترمذي: حديث حسن. وفي الباب عن عمرو بن خارجة عند الترمذي والنسائي (¬4). وعن أنس عند ابن ماجه (¬5). وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عند الدارقطني (¬6). وعن جابر عند الدارقطني (¬7) أيضًا وقال: الصواب إرساله. وعن علي عند ابن أبي شيبة (¬8)، ولا يخلو إسناد منها من مقال، لكن مجموعها يقتضي أن للحديث أصلًا، بل جنح الشافعي في "الأم" (¬9) إلى أن هذا المتن متواتر فقال: وجدنا أهل ¬

_ (أ) في جـ: أخرجه.

الفتيا ومن حفظنا عنهم من أهل العلم بالمغازي من قريش وغيرهم لا يختلفون عنه ممن لقوه من أهل العلم، فكان نقل كافة عن كافة، فهو أقوى من نقل واحد. وقد نازع الفخر الرازي (¬1) في كون هذا الحديث متواترًا. وحديث الدارقطني (¬2) بزيادته أخرجه من طريق ابن جريج عن عطاء (أعن ابن عباس أ) مرفوعًا: "لا تجوز وصية لوارث إلا أن يشاء الورثة". ورجاله ثقات إلا أن فيه علة بأنه قد قيل: إن عطاء هو الخراساني (¬3). وكأن البخاري أشار إلى ذلك فترجم بالحديث، ثم أخرج البخاري (¬4) بعده عن عطاء بن أبي رباح عن ابن عباس موقوفًا، في تفصيل تفسير الآية، وله حكم المرفوع أيضًا. والحديث فيه دلالة على منع الوصية للوارث، وقد ذهب إلى هذا الجمهور من أهل العلم، وذهب الهادي والناصر وأبو طالب وأبو العباس إلى أنه تجوز الوصية للوارث، قالوا: لقوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ} الآية (¬5). فإنه نسخ الوجوب وبقي الجواز. ويجاب عن هذا بأنه مبني على القول بأن نسخ الشيء الواجب لا يلزم منه رفع حكمه بالكلية، وهي مسألة خلاف تحقيقها في الأصول. وبأن قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا وصية لوارث". يدل على رفع حكم الوصية، [وأنه] (ب) لا ¬

_ (أ- أ) ساقط من: جـ. (ب) في الأصل، ب: وأنها.

يبقى لها (أ) حكم شرعي لا بمعنى: لا وجوب، ويدل على هذا الزيادة التي في آخر الحديث وهو: "إلا أن يشاء الورثة". ومن المعلوم أن ذلك لا يكون تقييدًا إلا لصحتها واعتبارها شرعًا بنفوذ حكمها لا بمعنى أن (ب) وجوبها باقٍ، كما يلزم على القول بأن المرفوع من الآية إنما هو الوجوب. ثم اختلف العلماء: ما الناسخ للآية الكريمة؛ فقال قوم: هي منسوخة بالحديث المذكور؛ لأنه متلقى بالقبول. وهذا يستقيم على قول من يجوز نسخ القرآن بالسنة المعلومة، وعلى قول من منع يصح أن تكون آية المواريث هي الناسخة، لتقدم آية الوصية، والسنة مبينة أن آية المواريث ناسخة لآية الوصية. واختلف أهل العلم ما المنسوخ من آية الوصية، فذهب طاوس وقليل من أهل العلم إلى أنها منسوخة في حق الأقارب الذين يرثون، وبقي وجوبها في الأقارب الذين لا يرثون، كالأبوين الكافرين أو العبدين. ويحكى هذا القول عن الحسن وقتادة والضحاك وإسحاق بن راهويه (¬1). ويروى عن ابن عباس (¬2). قال طاوس: إن الوصية كانت قبل الميراث فلما نزل الميراث نسخ من يرث وبقيت الوصية لمن لا يرث، فهي ثابتة، فمن أوصى لغير ذي قرابته لم تجز وصيته. وقال أكثر أهل العلم: نسخ وجوب الوصية في جميع الأقربين، ثم منع من الوصية للوارثين، واستحبت لغير الوارثين. وهو قول ابن عمر ومجاهد والشعبي والنخعي والسدي (¬3) ومالك والشافعي. وفي ¬

_ (أ) في جـ: له. (ب) سقط من: جـ.

البخاري (¬1) عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان المال للولد، وكانت الوصية للوالدين، فنسخ الله تعالى من ذلك ما أحب، فجعل للذكر مثل حظ الأنثيين، وجعل للأبوين لكل واحد منهما السدس، وجعل للمرأة الثمن والربع، وللزوج الشطر والربع. وقوله في الزيادة: "إلا أن يشاء الورثة". فيها دلالة على نفوذ الوصية بإجازة الورثة، وقد تقدم الكلام في الإجازة (¬2). واختلفوا أيضًا في إقرار المريض للوارث؛ فأجازه مطلقًا الأوزاعي وإسحاق وأبو ثور. وهو المرجح عند الشافعي. وبه قال مالك، إلا أنه استثنى ما إذا أقر لبنته ومعها من يشرك من غير الولد كابن العم مثلًا، قال: لأنه يتهم في أنه يزيد بنته وينقص ابن عمه من غير عكس. واستثنى ما إذا أقر لزوجته التي يعرف بمحبتها والميل إليها وكان بينه وبين ولده من غيرها تباعد ولا سيما إذا كان له منها ولد في تلك الحال. وحاصل المنقول عن المالكية أن مدار الأمر على التهمة وعدمها، فإن فقدت جاز، وإلا فلا. وهو اختيار الروياني من الشافعية. وعن شريح والحسن بن صالح: لا يجوز إقراره لوارث إلا لزوجته بصداقها. وعن القاسم وسالم والثوري والشافعي في قول -وزعم ابن المنذر أن الشافعي رجع عن الأول إليه- وبه قال أحمد، لا يجوز إقرار المريض لوارثه مطلقًا، لأنه منع الوصية له، فلا يؤمن أن يزيد الوصية له فيجعلها إقرارًا. واحتج من أجاز مطلقًا بما تقدم عن الحسن أن التهمة في حق المحتضر بعيدة، وبالفرق بين الوصية والدين؛ لأنهم اتفقوا على أنه لو أوصى في صحته لوارثه بوصية وأقر له بدين ثم رجع، أن رجوعه عن الإقرار لا يصح، بخلاف الوصية فيصح رجوعه عنها، واتفقوا على أن المريض إذا أقر بوارث صح إقراره، مع أنه ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه ص 544. (¬2) تقدم ص 535، 536.

يتضمن الإقرار بالمال، وبأن مدار الأمر على الظاهر، فلا يترك إقراره للظن المحتمل، فإن أمره إلى الله تعالى. والله أعلم. 791 - وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله تصدق عليكم بثلث أموالكم عند وفاتكم زيادة في حسناتكم". رواه الدارقطني (¬1). وأخرجه أحمد والبزار من حديث أبي الدرداء (¬2)، وابن ماجه من حديث أبي هريرة (¬3)، وكلها ضعيفة لكن قد يقوى بعضها ببعض. في رواية الدارقطني والبيهقي (¬4) زيادة في الحديث: "ليجعل لكم زكاة في أموالكم". والحديث في إسناده إسماعيل بن عياش وشيخه عتبة بن حميد وهما ضعيفان (¬5). وفي الباب عن أبي بكر الصديق رواه العقيلي في "تاريخ الضعفاء" (¬6) من طريق حفص بن عمر بن ميمون وهو متروك (¬7). وعن خالد ¬

_ (¬1) الدارقطني 4/ 150 ح 3. (¬2) أحمد 6/ 440، 441، والبزار 2/ 139 ح 1382 - كشف. (¬3) ابن ماجه 2/ 904 ح 2709. (¬4) البيهقي 6/ 269 من حديث أبي هريرة. وعند الدارقطني بلفظ: "زكاة في أعمالكم". وعند البيهقي بلفظ: "زيادة في أعمالكم". (¬5) إسماعيل بن عياش بن سليم العنسي أبو عتبة الحمصي، كان يحفظ من الأحاديث شيئًا كثيرا، حديثه مستقيم عن الشاميين أهل بلده، وإذا حدث عن غيرهم خلط، فوثقه قرم وضعفه آخرون لذلك. الجرح والتعديل 2/ 191، وتهذيب التهذيب 1/ 321، والتقريب ص 109. وعتبة بن حميد الضبي أبو معاذ، ويقال: أبو معاوية البصري، قال أحمد: كتب شيئًا كثيرا وهو ضعيف، ولم يشته الناس حديثه. وقال أبو حاتم: كان جوالة في الطب، وهو صالح الحديث. وقال الحافظ: صدوق له أوهام. الجرح والتعديل 6/ 370، وتهذيب التهذيب 7/ 96، والتقريب ص 380. (¬6) الضعفاء 1/ 275. (¬7) حفص بن عمر بن ميمون العدني، أبو إسماعيل، الملقب بالفرخ، مولى عمر، ويقال: مولى =

ابن عبد الله السلمي (¬1)، وهو مختلف في صحبته، رواه عنه ابنه الحارث (¬2) وهو مجهول. الحديث فيه دلالة على شرعية الوصية بالثلث، وأن ذلك لا يمنع منه الميت، وظاهره الإطلاق في حق الوارث وغيره، فتنفذ الوصية بالثلث ولو لوارث. وقد ذهب إليه الهادي وغيره من أهل البيت. وادعى أبو طالب إجماع أهل البيت على ذلك. والحديث يفهم ذلك، ويقويه إطلاق قوله تعالى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ} الآية (¬3). وذهب الفقهاء الأربعة وغيرهم والمؤيد بالله وحكاه في "شرح الإبانة" عن زيد بن علي وأبي عبد الله الداعي إلى أن الوصية للوارث لا تنفذ (أ)، والحديث والآية مقيدان بما عدا الوصية للوارث، والقيد لذلك الحديث المعمول به الذي مرّ، وهو دليل واضح كما مرّ تحقيقه. والله أعلم. فائدة: ظاهر قوله تعالى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} (3). أن الدين والوصية يخرجان من تركة الميت على سواء، فتشارك الوصية الدين إذا استغرق المال، والعلماء اتفقوا أن الدين يقدم إخراجه على الوصية، وأشار ¬

_ (أ) في ب: تجوز.

البخاري (¬1) إلى ذلك فقال: باب تأويل قوله تعالى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ}. أي بيان المراد بتقديم الوصية في الذكر على الدَّين مع أن الدين هو المقدم في الأداء، ثم قال البخاري: ويذكر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قضى بالدين قبل الوصية. هذا طرف من حديث أخرجه أحمد والترمذي (¬2) وغيرهما من طريق الحارث وهو الأعور عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: قضى محمد - صلى الله عليه وسلم - أن الدين قبل الوصية وأنتم تقرءون الوصية قبل الدين. لفظ أحمد وإسناده ضعيف لكن قال الترمذي: إن العمل عليه عند أهل العلم. وكأن البخاري اعتمد عليه لاعتضاده بالاتفاق على مقتضاه، وإلا فعادته ألا يورد الضعيف في مقام الاحتجاج، وقد أورد له شواهد، ولم يختلف العلماء أن الدين مقدم على الوصية إلا في صورة واحدة؛ وهي إذا أوصى لشخص بألف مثلًا وصدقه الوارث وحكم به، ثم ادعى آخر أن له في ذمة الميت دينًا يستغرق موجوده وصدقه الوارث؛ ففي وجه للشافعية [تقدم] (أ) الوصية على الدين في هذه الصورة الخاصة، والسرّ في تقديم الوصية على الدين في الآية الكريمة هو أنه لما كان الوصية تقع على سبيل البر والصلة، والدين نفع يتعدى الميت بحسب الأغلب، فبدئ بالوصية لكونها أفضل. كذا ذكر السهيلي. وقال غيره: قدمت الوصية لأنه شيء يوجد بغير عوض، والدين يوجد بعوض، فكان إخراج الوصية أشق على الوارث من إخراج الدين، وكان أداؤها مظنة التفريط، بخلاف الدين فإن الوارث مطمئن بإخراجه، فقدمت ¬

_ (أ) في الأصل، ب: تقديم.

الوصية لذلك، ولأنها حظ فقير ومسكين غالبًا، والدين حظ غريم يطلبه بقوة وله مقال، ولأن الوصية ينشئها الموصي من قبل نفسه، فقدمت تحريضًا على العمل بها، بخلاف الدين فإنه مطلوب منه ذكَر أو لم يذكره، ولأن الوصية ممكنة من كل أحد مطلوبة منه؛ إما وجوبًا أو ندبًا فيشترك فيها جميع المخاطبين، وتقع بالمال وبالعمل، وقل من يخلو عن ذلك، بخلاف الدين، وما يكثر وقوعه أهم بأن يذكر أولًا على ما يقل وقوعه. والله سبحانه أعلم.

باب الوديعة

باب الوديعة الوديعة اسم لعين يضعها مالكها أو نائبه عند آخر ليحفظها، مأخوذة من ودَع الشيء يدَع: إذا سكن، فكأنها ساكنة عند المودع، وقيل من قولهم: فلان في دعة. أي في خفض من العيش؛ لأنها غير مبتذلة بالانتفاع. وبالقيود المذكورة تخرج العين في يد الملتقط، والثوب إذا ألقاه طائر في دار آخر، وحكمه يغاير حكم الوديعة. والأصل فيها قوله تعالى: {فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ} (¬1). وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} (¬2). وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "أد الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك". صححه الحاكم (¬3) على شرط مسلم. ولأن بالناس حاجة بل ضرورة إليها، وقد تكون واجبة إذا لم يكن من يصلح لها غيره وخاف الهلاك عليها إن لم يقبل. ذكره أصحاب الشافعي، وذكره في "البحر" منسوبًا إلى الإمام يحيى. قال ابن الملُقِّن: وهو محمول على أصل القبول دون أن يتلف منفعة نفسه في الحفظ من غير عوض. فعلى هذا يجب عليه أن يقبل بالأجرة، ويلزم على هذا (أ) أن يأخذها وإن لم يرض صاحبها، وعلى أصل الشافعية من دون حكم حاكم، وعلى أصل الهدوية لا يأخذها إلا بحكم، واحتج في "البحر" بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "حرمة مال المؤمن كحرمة دمه" (¬4). وتكون محرمة ¬

_ (أ) زاد في الأصل، ب: إذا لم يرض صاحبها بالأجرة.

على من عرف من نفسه العجز عن حفظها؛ لأنه يعرضها للهلاك. وقال صاحب "المهذب" (¬1) و [الماوردي] (أ): وكذا من عرف من نفسه الخيانة ويعجز عن دفعها، ويكره في حق من يقدر على حفظ نفسه من الخيانة مع مسارعة نفسه إلى ذلك؛ إذ لا يأمن عليه نفسه. وقال في "شرح المهذب": منهم من يقول: لا يجوز. ومنهم من يقول: يكره. ولم يرجح واحدًا منهما. وقال النووي في "الروضة" (¬2): هل يحرم قبولها أو يكره؟ وجهان، قال صاحب "المطلب": ويظهر أن هذا كله فيما إذا رأى قبولها من غير اطلاع المالك على الحال، أما إذا أطلعه فرضي بذلك فلا تحريم ولا كراهة، ويندب إذا أوثق من نفسه الأمانة، لقوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} (¬3). وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "الله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه". أخرجه مسلم (¬4). 792 - عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من أودع وديعة فليس عليه ضمان". أخرجه ابن ماجه وإسناده ضعيف (¬5). وباب قسم الصدقات [تقدم] (ب) في آخر الزكاة، وباب قسم الفيء والغنيمة يأتي عقيب الجهاد إن شاء الله تعالى. ¬

_ (أ) في الأصل: المازري. (ب) في الأصل، ب: مقدم.

الحديث في إسناده المثنَّى بن الصباح (¬1)، وهو متروك، وتابعه ابن لهيعة فيما ذكره البيهقي (¬2). وأخرج الدراقطني (¬3) حديث عمرو بن شعيب بلفظ: "ليس على المستعير غير المغل ضمان، ولا على المستودع غير المغل ضمان". وفي إسناده ضعيفان. قال الدارقطني: وإنما يروى هذا عن شريح غير مرفوع. ورواه (3) من طريق أخرى ضعيفة بلفظ: "لا ضمان على مؤتمن". وفسر المُغِل في رواية الدارقطني بأن المغل هو الخائن. وقيل: هو مدرج. وقيل: إنه المستغل وهو القابض. وفي الباب آثار عن أبي بكر، وعلي، وابن مسعود، وجابر أن الوديعة أمانة. أما أبو بكر فرواه سعيد بن منصور (¬4) قال: حدثنا أبو شهاب، عن حجاج بن أرطاة، عن أبي الزبير، عن جابر أن أبا بكر قضى في وديعة كانت في جراب فضاعت؛ أن لا ضمان فيها. وإسناده ضعيف. وأما علي وابن مسعود فرواه الثوري في "جامعه" والبيهقي (2) من طريقه عن جابر الجعفي عن القاسم بن عبد الرحمن أن عليّا وابن مسعود قالا: ليس على المؤتمن ضمان. وقد تضمن أثر أبي بكر معنى أثر جابر؛ لأن الظاهر في روايته لذلك أنه يقول به ولا يخالف. الحديث فيه دلالة على أن الوديع لا يضمن الوديعة، وهو حكم مجمع عليه، إلا ما يروى عن الحسن البصري أنه إذا شرط عليه الضمان فإنه يضمن. وقد تؤُول بأنه مع التفريط. ¬

_ (¬1) تقدمت ترجمته في 1/ 53. (¬2) البيهقي 6/ 289. (¬3) الدارقطني 3/ 41. (¬4) البيهقي 6/ 289 من طريق سعيد بن منصور به.

واعلم أن الوديعة تثبت بلفظ الموجب: كاستودعتك هذا. أو: استحفطك هذا. أو: [أنبتك] (أ) في حفظه. وكذا: خذه أمانة. وما أشبهه من الألفاظ الدالة على الاستحفاظ، ويكفي القبول لفظًا، وكذا ما يقوم مقامها مما يدل على الرضا عرفًا؛ مثل أن يضع في حانوته وهو حاضر ولا يمنعه من ذلك، أو يضع في المسجد عنده وهو غير مصل، أو يقول: أضع عندك؟ فيسكت سكوت رضا، وأما إذا وضع عنده وهو يصلي؛ فلا يكون رضا، لعدم تمكنه من إظهار الكراهة. كذا في كتب الهدوية. وفي كتب الشافعية وجوه ثلاثة؛ الأصح أنه يكفي القبض في العقار والمنقول كما في الوكالة. والثاني: أنه لا يكفي، بل لا بد من القبول بناء على أنها عقد. والثالث: يفصل بين صيغة الأمر كـ: احفظ هذا المال. والعقد كـ: أودعتك. والخلاف كما قال المتولي [ينبنى] (ب) على أن العقود هل يعتبر فيها ألفاظها أو معانيها (¬1)؟ وعندهم في توقف القبول على القبض وجوه ثلاثة؛ جزم البغوي بمنعه، والمتولي بمقابله، وأفتى الغزالي بأنه إن كان الموضع في يده فقال: ضعها هنا. دخل الوديعة في يده لحصوله في الموضع الذي هو في يده، وإن لم يكن بأن قال: انظر إلى متاعي في وكائي. فقال: نعم. لم يكن وديعة، وأما شرائط المودِع والمودَع، وكيفية الرد، فتفصيل ذلك في كتب الفروع. ¬

_ (أ) في الأصل: نبتك. وفي جـ: اتمنتك. (ب) في النسخ: يلتفت. والمثبت يقتضيه السياق.

البَدْرُ التمام شرح بُلوغ المرام للإمامِ القاضِي الحسَين بن محمد المغربي (1048 هـ - 1119 هـ) تحقيق علي بن عبد الله الزبن عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية قدم له فضيلة الشيخ صالح بن محمد اللحيدان رئيس مجلس القضاء الأعلى الجزء السابع

البَدرُ التمام شرح بُلوغ المرام

حقوق الطبع محفوظة الطبعة الأولى 1428 - هـ-2007 م

كتاب النكاح

بسم الله الرحمن الرحيم كتاب النكاح النكاح في اللغة: الضم والتداخل، وقال الفراء (¬1): النُّكْح بضم ثم سكون: اسم الفرج، ويجوز كسر أوله، وكثر استعماله في الوطء، وسمي به العقد لكونه سببه. وقال أبو القاسم الزجاجي (1): هو حقيقة فيهما. وقال الفارسي (1): إذا قالوا: [نكح] (أ) فلانة أو بنت فلان. فالمراد العقد، وإذا قالوا: نكح زوجته. فالمراد الوطء. وقال آخرون: أصله لزوم شيء بشيء مستعليًا عليه، ويكون في المحسوسات وفي المعاني. قالوا: نكح المطر الأرض. ونكح النعاس عينه. ونكحتُ القمح في الأرض. إذا حرثتها وبذرته فيها. ونكحت الحصاة أخفاف الإبل. وفي الشرع حقيقة في العقد مجاز في الوطء على الصحيح، ويدل على ذلك كثرة وروده في الكتاب والسنة للعقد حتى قيل: إنه لم يرد في القرآن (ب) إلا للعقد، ولا يَرِدُ مثلُ قوله تعالى: {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} (¬2). لأن شرط الوطء في التحليل إنما يثبت بالسنة، وإلا [فالعقد] (جـ) لا بد منه؛ لأن قوله {حَتَّى تَنْكِحَ}. معناه: حتى تتزوج. أي: يعقد عليها. ومفهومه أن ¬

_ (أ) في النسخ: انكح. والمثبت من الفتح 9/ 103. (ب) ساقط من: جـ. (جـ) في الأصل: فإتيان العقد.

ذلك كافٍ بمجرده، لكن بينت السنة أنه لا عبرة بمفهوم الغاية بل لا بد بعد العقد من ذوق العُسَيلة، كما أنه لا بد بعد ذلك من التطليق، ثم العدة، نعم أفاد أبو الحسين بن فارس أن النكاح لم يرد في القرآن إلا للتزويج إلا قوله تعالى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ} (¬1). فإن المراد به الحلم. والله أعلم. وفي وجه للشافعية كقول الحنفية أنه حقيقة في الوطء، مجاز في العقد. وقيل: مقول بالاشتراك على كل منهما. وبه جزم الزجاجي، وهو الذي يترجح في نظري، وإن كان أكثر ما يستعمل في العقد، ورجح بعضهم الأول، فإن أسماء الجماع كنايات لاستقباح ذكره، فيبعد أن يستعير من لا يقصد فحشًا اسم ما يستهجنه لما لا يستهجنه، فدل على أنه في الأصل للعقد، وهذا يتوقف علي تسليم المدعي أنها كلها كنايات، وقد جمع أسماء النكاح ابن [القطاع] (أ) فزادت على الألف. 793 - عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يا [معشر] (ب) الشباب، من استطاع منكم الباءة فليتزوج؛ فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم؛ فإنه له وجاء". متفق عليه (¬2). قوله: "يا [معشر] (ب) الشباب". المعشر جماعة يشملهم وصف ما، ¬

_ (أ) في النسخ: القطان. والمثبت من الفتح 9/ 103. (ب) في الأصل: معاشر.

فالشباب مَعْشر، والشيوخ معشر، والكهول معشر، وجمعه على معاشر، ولفظ "الصحيحين" بصيغة معشر، والمعنى هنا متساوي، والشباب جمع شاب، ويجمع أيضًا على شيبة وشُبّان بضم أوله وتشديد الباء الموحدة آخره نون، وذكر الأزهري (¬1) أنه لم يجمع فاعل على فعلان غيره. ويرد عليه: مثل صحبان في صاحب. وأصله الحركة والنشاط وهو اسم من بلغ إلى أن يكمل ثلاثين، هكذا أطلق الشافعية. وقال القرطبي في "المفهم": يقال: حَدَثٌ. إلى ست عشرة سنة ثم شاب إلى اثنتين وثلاثين ثم كهل. وكذا ذكر الزمخشري. وقال ابن شاس المالكي في "الجواهر" أنه يقال: شاب. إلى أربعين. وقال النووي (¬2): الأصح المختار أن الشباب من بلغ ولم يجاوز الثلاثين، ثم هو كهل إلى أن يجاوز الأربعين، ثم هو شيخ. وقال الرُّوياني وطائفة: من جاوز الثلاثين يسمى شيخًا. زاد ابن قتيبة: إلى أن يبلغ الخمسين. وقال أبو إسحاق الإسفراييني عن أصحاب الشافعي: المرجع في ذلك إلى اللغة، وأما بياض الشعر فيختلف باختلاف الأمزجة. خصّ الشباب بالخطاب؛ لأن الغالب وجود قوة الداعي إلى النكاح فيهم بخلاف الشيوخ، فإذا وجد في غيرهم فالحكم واحد لوجود المعنى المقتضي. وقوله: "من استطاع منكم الباءة". هي بالهمزة والمد وتاء التأنيث، وفيها لغة بغير همز ولا مد، وقد تهمز وتمد بلا هاءٍ، ويقال لها أيضًا: الباهة. مبدل عن الهمزة هاء، وقيل: بالمد القدرة على مؤن النكاح، وبالقصر الوطء. قال الخطابي: المراد [بالباءة هنا النكاح] (أ). انتهى. ولعله ¬

_ (أ) في النسخ: بالنكاح الباءة هنا. والمثبت من الفتح 9/ 108.

أراد مؤن النكاح. قال: وأصله الموضع الذي يتبوءه ويأوي إليه. وقال المازري: اشتق [العقد] (أ) على المرأة من أصل الباءة؛ لأن من شأن من يتزوج المرأة أن يتبوأ بها منزلًا. انتهى. ولابد من تقدير مؤن العقد. وقال النووي (¬1): اختلف العلماء في المراد بالباءة هنا على قولين يرجعان إلى قول واحد، أصحهما أن معناها المراد اللغوي وهو الجماع، فتقديره: من استطاع منكم الجماع لقدرته على مؤنه -وهي [مؤن] (5) النكاح- فليتزوج، ومن لم يستطع الجماع لعجزه عن مؤنه فعليه بالصوم؛ ليدفع شهوته، ويقطع شر منيه كما يقطعه الوجاء. وعلى هذا القول وقع الخطاب مع الشباب الذين هم مظنة شهوة النساء ولا ينفكون عنها غالبًا. والقول الثاني أن المراد هنا مُؤَن النكاح، سميت باسم ما يلازمها. وتقديره: من استطاع منكم مؤن النكاح فليتزوج، ومن لم يستطع فليصم لتندفع شهوته. والذي حمل القائلين بهذا على ما قالوا قوله: "ومن لم يستطع فعليه بالصوم". قالوا: والعاجز عن الجماع لا يحتاج إلى الصوم لدفع الشهوة، فوجب تأويل الباءة على المؤن. وانفصل القائلون بالأول عن ذلك بالتقدير المذكور. انتهى. والتعليل المذكور للمازري. وأجاب عنه عياض (¬2) بأنه لا يبعد أن تختلف الاستطاعتان، فيكون المراد بقوله: "من استطاع الباءة". أي بلغ الجماع وقدر عليه "فليتزوج". ويكون قوله: "ومن لم يستطع". أي من لم يقدر على التزويج. ومع هذا التأويل يصح أن يكون معمول الاستطاعة المحذوف ¬

_ (أ) في النسخ: للعقد. والمثبت من الفتح 9/ 108. (ب) في النسخ: مؤنة. والمثبت من شرح صحيح مسلم 9/ 173.

هو الباءة أو التزويج، ويكون ما ذكر تفسير المراد، وقد جاء مصرحًا بذلك في رواية الترمذي (¬1): "ومن لم يستطع منكم الباءة". وعند الإسماعيلي (¬2): "من استطاع منكم أن يتزوج فليتزوج". فيقدر فيمن لم يستطع لفظ التزويج؛ لدلالة المثبت على المنفي. وقوله: "فليتزوج". فعل أمر وظاهره الوجوب، فيقتضي أن النكاح واجب على الإطلاق مع القدرة على أسبابه وهو تحصيل المؤن. وقد ذهب إلى هذا داود ومن وافقه من أهل الظاهر، ورواية عن أحمد، وذهب إليه أبو عوانة الإسفراييني من الشافعية وصرح به في "صحيحه"، ونقله المصعبي في "شرح مختصر الجويني" وجهًا. قال أهل الظاهر: إنما يلزم العقد دون الوطء. وروي عن أحمد أنه يجب عند خشية العنت. وعبارة ابن تيمية في "المحرر" (¬3): النكاح للتائق سنة مقدمة على نفل العبادة إلا أن يخشى الزنى بتركه فيجب، والوجوب عند خوف العنت وجه في مذهب الشافعي. حكاه الرافعي عن "شرح مختصر الجويني". وقال النووي في "الروضة" (¬4): لا يتحتم النكاح، بل يخير بينه وبين التسري. وجزم به أبو العباس القرطبي، وهو من المالكية، بل زاد فحكى الاتفاق عليه، فإنه قال: إنا نقول بموجب هذا الحديث في حق الشاب المستطيع الذي يخاف الضرر على نفسه ودينه من العزبة، بحيث لا يرتفع عنه إلا بالتزويج. وقال ابن حزم في "المحلى" (¬5): وفرض على كل قادر على الوطء إن وجد أن يتزوج أو يتسرى، فإن عجز عن ¬

_ (¬1) الترمذي 3/ 392 ح 1081. (¬2) الفتح 9/ 108. (¬3) المحرر 2/ 13. (¬4) روضة الطالبين 7/ 19. (¬5) المحلى 11/ 3.

ذلك فليكثر من الصوم. ثم قال: وهو قول جماعة من السلف. وذهب الجمهور إلى أن الأمر في الحديث محمول على الندب، قالوا: لأن الله سبحانه وتعالى خير بينه وبين التسَرّي في قوله تعالى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ}. ثم قال: {فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} (¬1). والتسري ليس بواجب إجماعًا فكذا النكاح، لأن التخيير بين الواجب وغيره يرفع الوجوب. والمسألة مبسوطة في الأصول إلا أن دعوى الإجماع غير مسلمة، فإن فيه الخلاف السابق في أن التسري واجب، ثم قوله تعالى: {إلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} (¬2). فإن قوله: {غَيْرُ مَلُومِينَ}. يدل على عدم الوجوب إذ لا يقال للواجب: إن فاعله غير ملوم. ثم الحديث متأول بأن ذلك في حق المستطيع الذي يخاف الضرر من العزبة، ثم إن القائلين بالوجوب إنما يجب عندهم العقد دون الوطء، وظاهر الحديث في الوطء، لأن العقد لا يحصل شيئًا من الفوائد المرتبة عليه. وأما قوله تعالى: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ} (¬3). فهو لا يدل على وجوب التزويج، وإنما يجب على الولي الإنكاح عند طلبه منه، ولم يقل أحد بوجوبه على النساء، وقد صرح بذلك ابن حزم (¬4) فقال: وليس ذلك فرضًا على النساء. وقال أبو إسحاق الشيرازي صاحب "التنبيه" (¬5): إن النكاح للنساء مستحب عند الحاجة ومكروه عند عدمها. وقال الشيخ عماد الدين الريحاني في "شرح الوجيز" المسمى بـ "الموجز": لم يتعرض الأصحاب ¬

_ (¬1) الآية 3 من سورة النساء. (¬2) الآية 7 من سورة المؤمنون. (¬3) الآية 32 من سورة النور. (¬4) المحلى 11/ 4. (¬5) التنبيه 1/ 157.

للنساء، والذي يغلب على الظن أن النكاح في حقهن أولى مطلقًا، لأنهن يحتجن إلى القيام بأمورهن والستر من الرجال، ولا يحصل فيهن الضرر الناشئ من النفقة. وقال ابن دقيق العيد في "شرح العمدة" (¬1): قسم بعض الفقهاء النكاح إلى الأحكام الخمسة، وجعل الوجوب فيما إذا خاف العنت وقدر على النكاح وتعذر التسري. وكذا حكاه القرطبي عن بعض علمائهم وهو المازري قال (¬2): فالوجوب في حق من لا ينكف عن الزنى إلا به كما تقدم. قال: والتحريم في حق من يخل بالزوجة في الوطء والإنفاق مع عدم قدرته عليه وتَوَقانه إليه، والكراهة في حق مثل هذا حيث لا إضرار بالزوجة، فإن انقطع بذلك عن شيء من أفعال الطاعة من عبادة أو اشتغال بالعلم اشتدت الكراهة. وقيل: الكراهة فيما إذا كان في حال العزوبة أجمع منه في حال التزويج. والاستحباب فيما إذا حصل به معنى مقصود، من كسر شهوة، وإعفاف نفس، وتحصين فرج، ونحو ذلك. والإباحة فيما إذا انتفت الدواعي والموانع. ومنهم من استمر بدعوى الاستحباب فيمن هذه صفته للظواهر الواردة في الترغيب فيه. قال عياض: هو مندوب في حق كل من يرجى منه النسل ولو لم يكن له في الوطء شهوة، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "فإني مكاثر بكم" (¬3). ولظواهر الحض على النكاح والأمر به، وكذا في حق من له رغبة في نوع من الاستمتاع بالنساء غير الوطء، فأما من لا يغسل ولا أرب له في النساء ولا في الاستمتاع فهذا مباح في حقه إذا علمت المرأة بذلك ورضيت. وقد يقال: إنه مندوب أيضًا لعموم قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا رهبانية في الإسلام" (¬4). ¬

_ (¬1) شرح العمدة 4/ 22. (¬2) الفتح 9/ 110، 111. (¬3) سيأتي ح 795. (¬4) ينظر ما سيأتي ص 15.

وقال الغزالي في "الإحياء" (¬1): من اجتمعت له فوائد النكاح وانتفت عنه آفاته فالمستحب في حقه التزويج، ومن لا فالترك له أفضل، ومن تعارض الأمر في حقه فليجتهد ويعمل بالراجح. ومثل التقسيم الذي ذكر تقي الدين ذكر الهدوية. وقوله: "ومن لم يستطع". في رواية: "ومن لم يقدر" (¬2). وقوله: "فعليه بالصوم". هذا من باب الإغراء، مثل قولك: عين زيدًا. أي الزمه. والإغراء للمخاطب؛ لأن الضمير في قوله: "فعليه". وإن كانت صيغة غائب لعوده إلى "مَن"، فهو في المعنى مخاطب بقوله: "من استطاع منكم". وقد وهم أبو عبيد وقال: "فعليه بالصوم". هو إغراء غائب، ولا تكاد العرب تغري إلا [المشاهد] (أ) تقول: عليك زيدًا. ولا تقول: عليه زيدًا. إلا في هذا الحديث. وقد عرفتَ الجواب عنه. وكان الصوم واقيًا لمضرة العنت؛ لما فيه من الأسباب الكاسرة للشهوة، وتقليل مادة الماء؛ لترك الطعام والشراب وقمع النفس عن كثير من المقويات للشهوة وإدْماجًا لتحصيل عبادة هي في نفسها مطلوبة. وفيه إشارة إلى أن الغرض من الصوم قمع النفس من العادات وكسر الشهوة، ولا يقوم مقامه تقليل الطعام وحده من دون صوم. قوله: "فإنه". أي الصوم، "له وِجاء". بكسر الواو والمد، أصله الغمز، ومنه: وَجَأَه في عنقه. إذا غمزه دافعًا له، و: وجأه بالسيف. إذا ¬

_ (أ) كذا في النسخ. وفي غريب الحديث لابن سلام 2/ 75: الشاهد.

طعنه به، و: وجأ أنثييه. غمزهما حتى رَضَّهما. ووقع في رواية ابن حبان (¬1) تفسير الوجاء، قال: وهو الإخصاء. وهي زيادة مدرجة في الخبر لم تقع إلا في طريق زيد بن أبي أنيسة، وتفسير الوجاء بالإخصاء فيه نظر؛ فإن الوجاء رضُّ الأنثيين، والإخصاء سلهما، وإطلاق الوجاء على الصيام من مجاز المشابهة على قول بعض المحققين، أو من باب التشبيه البليغ على قول الأكثر، وحكى أبو عبيد (¬2) عن بعضهم وَجَا بفتح الواو مقصور، والأول أكثر. وقال أبو زيد (¬3): لا يقال وجاء إلا فيما لم يبرأْ وكان قريب العهد بذلك. وفي الحديث إرشاد للعاجز عن مؤن النكاح إلى الصوم؛ لأن شهوة النكاح تابعة لشمهوة الأكل؛ تَقْوى بقوته وتَضْعُفُ بضعفه. واستدل به الخطابي (¬4) على جواز المعالجة لقطع شهوة النكاح بالأدوية. وحكاه البغوي في "شرح السنة" (¬5). وينبغي أن يحمل على دواء يسكن الشهوة دون ما يقطعها بالأصالة؛ لأنه قد يقدر بعدُ فيندم لفوات ذلك في حقه. وقد صرح الشافعية بأنه لا يكسرها بالكافور ونحوه، والحجة فيه أنهم اتفقوا على منع الجب والخصاء، فيلحق بذلك ما في معناه من التداوي بالقطع أصلًا، واستدل به الخطابي أيضًا على أن المقصود من النكاح الوطء، ولهذا شرع الخيار في العُنَّة. وفيه الحث على غض البصر، وتحصين الفرج بكل ممكن، وعدم التكلف بغير المستطاع. ويؤخذ منه أن حظوظ النفوس والشهوات لا تقدم ¬

_ (¬1) ابن حبان 9/ 335 ح 4026. (¬2) غريب الحديث 2/ 74. (¬3) ينظر غريب الحديث لأبي عبيد 2/ 73، وينظر الفتح 19/ 110. (¬4) معالم السنن 3/ 180. (¬5) شرح السنة 9/ 6.

على أحكام الشرع، بل هي دائرة معها. واستدل به القرافي أن التشريك في العبادة لا يضر بخلاف الرياء، ولكنه يقال: إن كان المشرك عبادة كالشرك فيه مثل ما هنا فإنه يحصل الصوم وتحصين الفرج وغض البصبر، وأما تشريك المباح؛ كلو دخل في الصلاة لِتَرْكِ خطاب من يحل خطابه فهو محل نظر؛ يحتمل القياس على ما ذكر، ويحتمل عدم صحة القياس. واستدل به بعض المالكية على تحريم الاستمناء؛ لأنه لو كان الاستمناء مباحًا لأرشد إليه لأنه أسهل، وتعقب بأنه لا يسلم كونه أسهل إذ هو فعل، والصوم يستلزم الترك والترك أسهل، وقد أباح الاستمناء طائفة من العلماء، وهو عند الحنابلة وبعض الحنفية. واعلم أنه قد ورد في الترغيب إلى النكاح أحاديث كثيرة؛ منها من حديث أنس: "تزوجوا الولود الودود؛ فإني مكاثر بكم يوم القيامة". أخرجه ابن حبان (¬1)، وذكر الشافعي (¬2) بلاغًا عن ابن عمر بلفظ: "تناكحوا تكاثروا، فإني أباهي بكم الأمم". وللبيهقي (¬3) من حديث أبي أمامة: "تزوجوا فإني مكاثر بكم الأم، ولا تكونوا كرهبانية النصارى". وورد: "فإني مكاثر بكم" أيضًا من حديث الصنابحي بن الأعسر (¬4)، ومعقل بن يسار (¬5)، وسهل بن حنيف (¬6)، وحرملة بن النعمان (¬7)، وعائشة (¬8)، وعياض ¬

_ (¬1) ابن حبان 9/ 338 ح 4028. (¬2) الأم 5/ 144. (¬3) البيهقي 7/ 78. (¬4) أحمد 4/ 349، وابن حبان 14/ 358 ح 6446. (¬5) سيأتي ح 795. (¬6) الطبراني في الأوسط 6/ 44 ح 5746. (¬7) التلخيص 3/ 116. (¬8) ابن ماجه 1/ 592 ح 1846.

ابن غَنْم (¬1)، ومعاوية بن حَيْدة (¬2)، وغيرهم. وأما حديث: "لا رهبانية في الإسلام". فلم يوجد في شيء من الأصول المعتبرة بهذا اللفظ، لكن في حديث سعد بن أبي وقاص عند الطبراني (¬3): "إن الله أبدلنا بالرهبانية الحنيفية السمحة". وعن ابن عباس رضي الله عنهما رفعه: "لا صَرُورَة (أ) في الإسلام". أخرجه أحمد وأبو داود وصححه الحاكم (¬4). وفي الباب حديث النهي عن التبتل، أخرجه البخاري (¬5). وحديث: "من كان موسرًا فلم ينكح فليس منا". أخرجه الدارمي، والبيهقي (¬6) من حديث أبي نجيح وجزم بأنه مرسل، وقد أورده [البغوي] (ب) في "معجم "الصحابة". و (جـ) حديث طاوس: قال عمر بن الخطاب لأبي الزوائد: إنما يمنعك من التزويج عجز أو فجور. أخرجه ابن أبي شيبة وغيره (¬7). وفي حديث عائشة: "النكاح سنتي، فمن رغب عن سنتي فليس مني". أخرجه البخاري (¬8). وأخرج الحاكم (¬9) من ¬

_ (أ) في حاشية ب: بفتح الصاد الذي لم يتزوج وكذا الذي لم يحج، كذا في القاموس. وينظر القاموس المحيط (ص ر ر). (ب) في الأصل، ب: الطبري. وفي جـ: الطبراني. والمثبت من الفتح 9/ 111. (جـ) في ب: في.

حديث أنس رفعه: "من رزقه الله امرأة صالحة فقد أعانه على شطر دينه، فليتق الله في الشطر الثاني". وهذه الأحاديث وإن كان في الكثير منها ضعف، فمجموعها يدل على الترغيب في النكاح، وأن لذلك أصلًا، لكن في حق من يتأتى منه النسل. والله أعلم. 794 - وعن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حمد الله وأثنى عليه وقال: "لكني أنا أصلي وأنام وأصوم وأفطر وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني". متفق عليه (¬1). 795 - وعنه قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأمر بالباءة وينهى عن التبتل نهيًا شديدًا ويقول: "تزوجوا الولود الودود، إني مكاثر بكم الأنبياء يوم القيامة". رواه أحمد وصححه ابن حبان (¬2). وله شاهد عند أبي داود والنسائي وابن حبان (¬3) أيضًا من حديث معقل بن يسار. حديث أنس أورده المصنف بلفظ مسلم، وأصل الحديث (أ): جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - يسألون عن عبادة النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلما أخبروا كأنهم تقالُّوها فقالوا: وأين نحن من النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ قد غفر الله له ما تقدم من ¬

_ (أ) زاد بعده في الأصل، جـ: قال أنس.

ذنبه وما تأخر. فقال أحدهم: أما أنا فأنا أصلي الليل أبدًا. وقال آخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر. وقال آخر: أنا أعتزل [النساء] (أ) فلا أتزوج أبدًا. فجاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إليهم فقال: "أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟! أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني". هذا لفظ البخاري. قوله: حمد الله وأثنى عليه. فيه دلالة على أنه يقدم الحمد والثناء على الله عند إرادة التكلم في أمر مهم من أمر الدين أو الدنيا وبيان أحكام المكلفين وإزالة [الشبهة عن] (ب) المجتهدين. وقوله: "لكني أنا أصلي" إلى آخره. دلالة على أن المشروع هو الاقتصاد في العمل دون الانهماك والإضرار بالنفس وهجر المألوفات كلها، وأن الحنيفية مبنية على التسهيل والتيسير، لا تعسير فيها ولا تنفير، كما قال تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} (¬1). وقد ورد في الاقتصاد في العمل أحاديث كثيرة أخرجها البخاري (¬2) في "الصحيح" وغيره. قال الطبري (¬3): في الحديث الرد على من منع من استعمال الحلال من الأطعمة والملابس وغيرها. قال عياض (3): وهذا مما اختلف فيه السلف؛ فمنهم من نحا إلى ما قال الطبري، ومنهم من عكس واحتج بقوله تعالى: ¬

_ (أ) في الأصل، جـ: الناس. (ب) في النسخ: سنة. والمثبت من الفتح 9/ 106.

{أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا} (¬1). قال: والحق أن هذه الآية في الكفار، وقد أخذ النبي - صلى الله عليه وسلم - بالأمرين، والأولى التوسط في الأمر وعدم الإفراط في ملازمة استعمال الطيبات، فإنه يفضي إلى الترفه والبطر، ولا يأمن من الوقوع في الشبهات، فإن من اعتاد ذلك قد لا يجده أحيانًا، فلا يستطيع الانتقال عنه، فيقع في المحذور، كما أن منع تناول ذلك أحيانًا يفضي إلى التنطع المنهي عنه. ويرد عليه صريح قوله تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} (¬2). كما أن الأخذ بالتشديد في العبادة يفضي إلى الملل القاطع لأصلها، وملازمة الاقتصار على الفرائض مثلًا وترك النفل يفضي إلى إيثار البطالة وعدم النشاط إلى العبادة، وخير الأمور الوسط. وقوله: "فمن رغب عن سنتي فليس مني". المراد بالسنة الطريقة، لا التي تقابل الفرض، والرغبة عن الشيء الإعراض عنه إلى غيره، وأراد - صلى الله عليه وسلم -: من ترك طريقتي وأخذ بطريقة غيري فليس مني. ولمح بذلك إلى طريقة الرهبانية، فإنهم الذين ابتدعوا التشديد كما وصفهم الله تعالى، وقد عابهم بأنهم ما وفوا بما التزموه. وطريقة النبي - صلى الله عليه وسلم - الحنيفية السمحة؛ فيفطر ليقوى على الصوم، وينام ليقوى على القيام، ويتزوج لكسر الشهوة وإعفاف النفس وتكثير النسل. وقوله: "فليس مني". إن كانت الرغبة لضرب من التأويل يعذر صاحبها فيها فالمعنى: ليس مني: أي على طريقتي، ولا يلزم أن يخرج عن الملة، وإن كانت إعراضًا وتنطعًا يفضي إلى اعتقاد أرجحية عمله، فمعنى ¬

_ (¬1) الآية 20 من سورة الأحقاف. (¬2) الآية 32 من سورة الأعراف.

"ليس مني": ليس على ملتي؛ لأن اعتقاد ذلك نوع من الكفر. وقوله في الحديث الثاني: وينهى عن التبتل. التبتل هو الانقطاع عن النساء وترك النكاح انقطاعًا إلى عبادة الله تعالى. وأصل التبتل القطع، ومنه: مريم البتول؛ لانقطاعها عن نساء زمانها دينًا وفضلًا ورغبة في الآخرة. و "الولود" كثيرة الولد، وقد ورد مصرحًا به في أول حديث معقل بن يسار في نكاح العاقر التي لا تلد ولم يجبه في الثالثة إلا بهذا الأمر. و "الودود" هي المودودة لما هي عليه من حسن الخلق والتودد إلى الزوج، فهو فعول بمعنى مفعول. والمكاثرة يوم القيامة بكثرة الأمة. 796 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "تنكح المرأة لأربع؛ لمالها ولحسبها ولجمالها ولدينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك". متفق عليه مع بقية السبعة (¬1). 797 - وعنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا رَفَّأ إنسانًا إذا تزوج قال: "بارك الله لك وبارك عليك وجمع بينكما في خير". رواه أحمد والأربعة وصححه الترمذي وابن خزيمة وابن حبان (¬2). ¬

_ (¬1) البخاري، كتاب النكاح، باب الأكفاء في الدين 9/ 132 ح 5090، ومسلم، كتاب الرضاع، باب استحباب نكاح ذات الدين 2/ 1086 ح 1466، وأحمد 2/ 428، وأبو داود، كتاب النكاح، باب ما يؤمر به من تزويج ذات الدين 2/ 226 ح 2047، وابن ماجه، كتاب النكاح، باب تزويج ذات الدين 2/ 597 ح 1858، والنسائي، كتاب النكاح، باب كراهية تزويج الزناة 6/ 376 ح 3230، وعند الترمذي 3/ 396 ح 1086 من حديث جابر بذكر ثلاث خصال دون لفظة الحسب. (¬2) أحمد 2/ 381، وأبو داود، كتاب النكاح، باب ما يقال للمتزوج 2/ 248 ح 2130، والترمذي، كتاب النكاح، باب ما جاء فيما يقال للمتزوج 3/ 400 ح 1091، وابن ماجه، كتاب النكاح، باب تهنئة النكاح 1/ 614 ح 1905، والنسائي في الكبرى، عمل اليوم والليلة، ما يقال له إذا تزوج 6/ 73 ح 10089، وابن حبان 9/ 359 ح 4052.

الحديث ذكر فيه أربع، وفي رواية مسلم (¬1) عن جابر بإسقاط حسبها. وأخرج الحاكم وابن حبان (¬2) من حديث أبي سعيد: "تنكح المرأة على إحدى ثلاث خصال؛ جمالها ودينها وخلقها، فعليك بذات الدين والخلق". وروى ابن ماجه والبزار والبيهقي (¬3) من حديث عبد الله بن عمرو مرفوعًا: "لا تنكحوا النساء لحسنهن فلعله يُرديهن، ولا لمالهن فلعله يطغيهن، وأنكحوهن للدين، ولأمة سوداء خرقاء ذات دين أفضل". وروى النسائي (¬4) من طريق سعيد المقبُري عن أبي هريرة قال: قيل: يا رسول الله، أي النساء خير؟ قال: "التي تسره إذا نظر، وتطعه إذا أمر، ولا تخالفه في نفسها ومالها بما يكره". الحديث معناه الإخبار منه - صلى الله عليه وسلم - بما يفعله الناس في العادة، فإنهم يقصدون هذه الخصال الأربع وآخرها عندهم ذات الدين، فاظفر أنت أيها المسترشد بذات الدين، لا أنه أمر. قال شِفرٌ (¬5): الحسب الفعل الجميل للرجل وآبائه. انتهى. وفي حديث بريدة مرفوعًا: "إن أحساب أهل الدنيا الذين يذهبون إليه هذا المال". أخرجه ابن حبان في "صحيحه" وقال الحاكم (¬6): هذا على شرط الشيخين. وهو يحتمل أن يكون خرج مخرج الذم، لأن الحسب إنما هو بالأنساب لا بالمال، ويحتمل التقرير والإعلام بصحته إذ لا فائدة لرجوعه إلى نسبه مع فقره وهو لا يحصل له مطلبًا، وإنما يكون حسبه بماله، فهو الذي يرفع من شأنه عند الناس كان لم يكن له شرف ¬

_ (¬1) مسلم ح 1466 - 54. (¬2) الحاكم 2/ 16، وابن حبان 9/ 345 ح 4037. (¬3) ابن ماجه 1/ 597 ح 1859، والبزار ح 2438، والبيهقي 7/ 80. (¬4) النسائي 6/ 68. (¬5) شرح مسلم 10/ 52. (¬6) ابن حبان 2/ 474 ح 700، والحاكم 2/ 163.

النسب، ويدل على ذلك حديث سمرة (¬1) مرفوعًا: "الحسب المال، والكرم التقوى". حسنه الترمذي. وقد دل الحديث على أن مصاحبة أهل الدين في كل شيء هي الأولى؛ لأن صاحبهم يستفيد من أخلاقهم وبركتهم وطرائقهم، ويأمن المفسدة من جهتهم. وفي قوله: "تربت يداك". أي التصقت بالتراب من الفقر، لم يقصد حقيقة الدعاء عليه بذلك. وهو خارج مخرج ما يعتاده الناس من إلهاب الخاطب والتزامه بما أريد منه. وحديث: كان إذا رَفَّأ ... إلخ. وأخرجه الدارمي (¬2) وصححه أيضًا أبو الفتح في "الاقتراح على شبرط مسلم". وفي الباب عن عقيل بن أبي طالب. رواه الدارمي وابن السني (¬3) وغيرهما من طريق الحسن، قال؛ تزوج عقيل بن أبي طالب امرأة من بني جُشَم، فقيل له: بالرفاء والبنين. فقال: قولوا كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "بارك الله فيكم وبارك لكم". واختلف فيه على الحسن. أخرجه بقي بن مخلد (¬4) من طريق غالب عنه عن رجل من بني تميم قال: كنا نقول في الجاهلية: بالرفاء والبنين. فعلمنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "قولوا ... ". فذكره. وفي حديث جابر أخرجه مسلم (¬5)، قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "تزوجت؟ ". قلت: نعم يا رسول الله. قال: "بارك الله لك". وزاد الدارمي: "وبارك عليك". ¬

_ (¬1) أحمد 5/ 10، والترمذي 5/ 363 ح 3271، وابن ماجه 2/ 1410 ح 4219. (¬2) الدارمي 3/ 1391 ح 2220. (¬3) الدارمي 3/ 1389 ح 2219، وابن السني في عمل اليوم والليلة 284 ح 602. (¬4) التلخيص 3/ 153. (¬5) مسلم 2/ 1087، 1088 ح 715/ 56.

قوله: كان إذا رَفَّأ. الرفاء: الموافقة وحسن المعاشرة، وهو من رفأ الثوب، وقيل: من رفوت الرجل، إذا سكّنت ما به من روع. وقولهم: بالرفاء والبنين. في محل النصب على الحال؛ أي هذا النكاح ملتبسًا بالرفاء والبنين، وإنما نهي عنه؛ لأنه كان من شعار الجاهلية، فكره لذلك. وفي الحديث دلالة على شرعية الدعاء للناكح. 798 - وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: علمنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - التشهد في الحاجة: "إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله". ويقرأ ثلاث آيات. رواه أحمد والأربعة، وحسنه الترمذي والحاكم (¬1). والآيات: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} (¬2). {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} (¬3). {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا ¬

_ (¬1) أحمد 1/ 392، وأبو داود، كتاب الصلاة، باب الرجل يخطب على قوس 1/ 287 ح 1097، والترمذي، كتاب النكاح، باب ما جاء في خطبة النكاح 3/ 413 ح 1105، وابن ماجه، كتاب النكاح، باب خطبة النكاح 1/ 906 ح 1892، والنسائي، كتاب الصلاة، باب كيفية الخطبة 3/ 104. (¬2) الآية 1 من سورة النساء. (¬3) الآية 102 من سورة آل عمران.

عَظِيمًا} (¬1). وجاء في رواية لأبي داود (¬2) بعد قوله: "ورسوله". "أرسله بالحق بشيرًا ونذيرًا بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصهما فإنه لا يضر إلا نفسَه ولا يضر الله شيئًا". وفي رواية للنسائي (¬3): قال: علمنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - التشهد في الصلاة والتشهد في الحاجة. وذكر الحديث. وجاء في رواية (¬4) بحذف "إن"، وكذا في رواية البيهقي (¬5) من حديث أبي داود الطيالسي بحذف "إن" وإثباتها بالشك، وفي آخره: قال شعبة: قلت لأبي إسحاق: هذه في خطبة النكاح وفي غيرها؟ قال: في كل حاجة. وفي إسناد الحديث إرسال؛ لأنه من حديث أبي عبيدة، عن أبيه عبد الله بن مسعود. وهو لم يسمع من أبيه، إلا أن الحاكم (¬6) رواه من طريق أخرى عن قتادة، عن عبد ربه، عن أبي عياض، عن ابن مسعود. وليس فيه الآيات. ورواه (¬7) أيضًا من طريق إسرائيل، عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص وأبي عبيدة أن عبد الله قال. فذكر نحوه. ورواه البيهقي (5) من حديث واصل الأحدب، عن شقيق، عن ابن مسعود بتمامه. الحديث فيه دلالة على شرعية ما ذكر من التحميد والتشهد عند إرادة النكاح، وأنه غير شرط في النكاح، وشرطه بعض أهل الظاهر، وهو قول شاذ. ¬

_ (¬1) الآيتان 70، 71 من سورة الأحزاب. (¬2) أبو داود 2/ 245 ح 2119. (¬3) النسائي في الكبرى 3/ 321 ح 5527. (¬4) النسائي في الكبرى 1/ 529، 6/ 126 ح 1709، 10323. (¬5) البيهقي 7/ 146. (¬6) البيهقي 3/ 215، 7/ 146 عن الحاكم به. وينظر التلخيص 3/ 152. (¬7) البيهقي 7/ 146 عن الحاكم به. وينظر التلخيص 3/ 152.

799 - وعن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا خطب أحدكم المرأة، فإن استطاع أن ينظر منها إلى ما يدعوه إلى نكاحها فليفعل". رواه أحمد وأبو داود ورجاله ثقات، وصححه الحاكم (¬1). وله شاهد عند الترمذي والنسائي (¬2) عن المغيرة. وعند ابن ماجه وابن حبان (¬3) من حديث محمد بن مسلمة. ولمسلم (¬4) عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لرجل تزوج امرأة: "أنظرت إليها؟ ". قال: لا. قال: "اذهب فانظر إليها". قوله: تزوج امرأة. أي أراد. وتمام حديث جابر قال: فخطبت جارية، فكنت أتخبأ لها حتى رأيت منها ما دعاني إلى نكاحها فتزوجتها. حديث جابر أخرجوه من حديث ابن إسحاق، عن داود بن الحصين، عن واقد بن عبد الرحمن (¬5). ورواه أحمد من هذا الوجه، وفيه أن المرأة من بني سلمة. وأعله ابن القطان (¬6) بواقد بن عبد الرحمن بأنه غير معروف، والمعروف واقد بن عمرو (¬7)، وهو في رواية الحاكم كذلك، وكذا في رواية الشافعي وعبد الرزاق (¬8)، وحديث المغيرة أنه - صلى الله عليه وسلم - قال للمغيرة وقد خطب امرأة: ¬

_ (¬1) أحمد 3/ 334، وأبو داود، كتاب النكاح، باب في الرجل ينظر إلى المرأة وهو يريد تزويجها 2/ 235 ح 2082، والحاكم، كتاب النكاح 2/ 165. (¬2) الترمذي 3/ 397 ح 1087، والنسائي 6/ 69. (¬3) ابن ماجه 1/ 599 ح 1864، وابن حبان 9/ 349 ح 4042. (¬4) مسلم 2/ 1040 ح 74/ 1424. (¬5) واقد بن عبد الرحمن بن سعد بن معاذ الأنصاري قال الحافظ: مجهول. التقريب ص 579، وينظر تهذيب الكمال 30/ 411. (¬6) كما في نصب الراية 4/ 241. (¬7) واقد بن عمرو بن سعد بن معاذ الأنصاري النهشلي، أبو عبد الله المدني، وثقه ابن سعد وأبو زرعة وقال الحافظ: ثقة. ينظر تهذيب الكمال 30/ 412، وتهذيب التهذيب 11/ 107، والتقريب ص 579. (¬8) الشافعي -كما في التلخيص 3/ 147، وعبد الرزاق 6/ 157 ح 10337.

"انظر إليها فإنه أحرى أن يؤْدم بينكما". أخرجه النسائي والترمذي وابن ماجه والدارمي وابن حبان (¬1). والحديث فيه دلالة على ندبية تقديم النظر إلى التي يراد نكاحها، وهو مذهب الجماهير من العلماء وأبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد وسائر أهل الكوفة. وحكى القاضي عياض (¬2) كراهته، وهو خطأ مخالف لصريح الحديث، ومخالف لإجماع الأمة على جواز النظر للحاجة عند البيع والشراء والشهادة، والنظر يباح إلى الوجه والكفين، لأنه يستدل بالوجه على الجمال أو ضده، وبالكفين على خصوبة البدن أو عدمها، وهذا مذهب الأكثر. وقال الأوزاعي: ينظر إلى مواضع اللحم. وقال داود: ينظر إلى جميع بدنها. والحديث لا يدل على خلافه، بل قد يدل عليه إذا لم يحصل له المقصود بنظر البعض وكان الداعي إلى زواجها نظر جميع الجسد، ويدل على ذلك ما رواه عبد الرزاق وسعيد بن منصور وابن أبي عمر (¬3) أن عمر كشف عن ساق أم كلثوم بنت علي لما بعث بها إليه علي لينظرها. ولا يشترط رضا المرأة بذلك النظر، بل له أن يفعل ذلك في غفلتها، ومن غير تقدم إعلام. لكن قال مالك (¬4): أكره نظره في غفلتها؛ مخافة من وقوع نظره على عورة. وعن مالك رواية ضعيفة أنه لا ينظر إليها إلا بإذنها. وهو ضعيف لأن الحديث يدل على أنه مأذون له مطلقًا. ولأنها تستحي في ¬

_ (¬1) ابن ماجه 1/ 599 ح 1865، والدارمي 3/ 1389 ح 2218، وابن حبان 9/ 351 ح 4043، ورواية النسائي والترمذي تقدم تخريجهما في حديث الباب. (¬2) شرح مسلم 9/ 210. (¬3) عبد الرزاق 6/ 163 ح 10352، وسعيد بن منصور 1/ 147 ح 521، وابن أبي عمر -كما في التلخيص 3/ 147. (¬4) شرح مسلم 9/ 210.

الغالب من الإذن، ولأنه قد يحصل بسبب ذلك أذى، فإنه إذا ترك النكاح لعدم إعجابه تأذت منه في الغالب، ولذلك ذكر أصحاب الشافعي أنه ينبغي أن يكون نظره إليها قبل الخطبة حتى إن كرهها تركها من غير إيذاء بخلاف بعد الخطبة. وإذا لم يمكنه النظر استحب له أن يبعث امرأة يثق بها تنظر إليها وتخبره بصفتها، كما روى أنس أنه - صلى الله عليه وسلم - بعث أم سليم إلى امرأة فقال: "انظري إلى عرقوبيها وشمي معاطفها". أخرجه أحمد والطبراني والحاكم والبيهقي (¬1) من حديث أنس، واستنكره أحمد، والمشهور فيه من طريق عمارة عن ثابت عنه. ورواه أبو داود في "المراسيل" (¬2) عن موسى بن إسماعيل، عن حماد بن ثابت. ووصله الحاكم من هذا الوجه بذكر أنس فيه، وتعقبه البيهقي بأن ذكر أنس فيه وهم. قال: ورواه أبو النعمان عن حماد مرسلًا. قال: ورواه محمد بن كثير الصنعاني عن حماد موصولًا. وفي قوله: "وشمي معاطفها". في رواية الطبراني، وفي رواية أحمد وغيره: "شمي عوارضها". والمعاطف: ناحيتا العنق، والعوارض: الأسنان التي في عرض الفم، وهي ما بين الثنايا والأضراس، واحدها عارض، والمراد اختبار رائحة نكهتها. كذا في "النهاية" (¬3)، ويثبت مثل هذا الحكم للمرأة أن تنظر إلى خاطبها؛ فإنه يعجبها منه مثل ما يعجبه منها، وقد روي مثل هذا عن عمر (¬4). قال المصنف (¬5) رحمه الله: لم أجده عن عمر. ¬

_ (¬1) أحمد 3/ 231، والطبراني كما في التلخيص 3/ 147، والحاكم 2/ 166، والبيهقي 7/ 87. (¬2) المراسيل ص 144. (¬3) النهاية 3/ 212. (¬4) مصنف عبد الرزاق 6/ 158 ح 10339. (¬5) التلخيص 3/ 105. وقد رواه عبد الرزاق عن عمر كما في المصنف 6/ 158 ح 10339.

800 - وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يخطب أحدكم على خطبة أخيه حتى يترك الخاطب قبله أو يأذن له". متفق عليه (¬1) واللفظ للبخاري. وذكر البخاري في ترجمة الباب: لا يخطب على خطبة أخيه حتى ينكح أو يدع. وأورده في حديث أبي هريرة (¬2) بلفظ: "أو يترك". وأخرجه مسلم (¬3) من حديث عقبة بن عامر بلفظ: "حتى يذر". وأخرجه أبو الشيخ (¬4) في كتاب "النكاح" من طريق عبد الوارث، عن هشام بن حسان، عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة بلفظ: "حتى ينكح أو يدع". وإسناده صحيح. الحديث فيه دلالة على أنه منهي عن الخطة إذا قد سبق بها أحد، وظاهر النهي التحريم، وادعى النووي (¬5) الإجماع على التحريم. وقال الخطابي (¬6): النهي للتأديب وليس للتحريم، يُبطِل العقدَ عند أكثر الفقهاء. ويقال: لا ملازمة بين تحريم الخطبة وبين العقد؛ فإن ذلك منفصل، وإن ادعى أن العقد منهي عنه لوقوعه بعد الخطبة المنهي عنها فلا دليل على ذلك. وظاهر الحديث إطلاق النهي قبل الإجابة وبعدها، ولم أطلع على قول في ذلك إلا في أحد قولي الشافعي، كما سيأتي قريبًا، وأما بعد الإجابة فإجماع ¬

_ (¬1) البخاري، كتاب النكاح، باب لا يخطب على خطبة أخيه حتى ينكح أو يدع 9/ 198 ح 5142، ومسلم، كتاب النكاح، باب تحريم. الخطبة على خطبة أخيه حتى يأذن أو يترك 2/ 1032 ح 1412/ 50. (¬2) البخاري 9/ 199 ح 5144. (¬3) مسلم 2/ 1034 ح 1414/ 56. (¬4) أبو الشيخ -كما الفتح 9/ 199. (¬5) شرح مسلم 9/ 197. (¬6) معالم السنن 3/ 194.

على أنه منهي عنها (أ) إذا كانت الإجابة [تصريحًا] (ب)، وهي من المرأة المكلفة في الكفؤ، ومن الولي في حق الصغيرة، وأما غير الكفؤ فلا بد من إذن الولي على القول بأن له المنع. وأما إذا كانت الإجابة بالتعريض، فالأصح عند الشافعية عدم التحريم، وهو قول الهدوية، وقول للشافعي التحريم، وحجة من جوز الخطبة قبل الإجابة ما ورد في قصة فاطمة بنت قيس (¬1) فإنها قالت: خطبني معاوية وأبو جهم. ولم ينكر عليهما النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك، بل خطبها لأسامة، وأشار النووي (¬2) إلى أنه لا حجة، لاحتمال أن يكونا خطبا معًا أو لم يعلم الثاني بخطبة الأول، والنبي - صلى الله عليه وسلم - لم يخطب وإنما أشار بأسامة، وعلى فرض أنه خطب، فلعله لما ذكر لها ما في معاوية وأبي جهم ظهر منها الرغبة عنهما فخطبها لأسامة، ولكنه بقي الكلام هل إضرابها يقوم مقام ترك الخاطب كما هو المعني به في الحديث؟ ولعله يقاس عدم رغبتها إلى التمام، بترك الخاطب للتمام، إذ العقد متوقف على إتمامهما جميعًا لما أراداه. وأما إذا لم يحصل من المرأة إجابة ولا رد، فقطع بعض الشافعية بالجواز، وبعضهم أجرى القولين للشافعي في ذلك، وقصة فاطمة تحتمل ذلك وأنه لم يسبق منها إجابة لأيهما. ونص الشافعي أن سكوت البكر رضا بالخاطب، والعقد مع التحريم يصح عند الجمهور. وقال داود: يفسخ النكاح قبل الدخول وبعده. وعند المالكية خلاف كالقولين، وقال بعضهم: يفسخ قبله لا بعده. ¬

_ (أ) في ب، جـ: عنه. (ب) في النسخ: صريحا. والمثبت يقتضيه السياق.

وحجة الجمهور أن المنهي عنه هو الخطبة، والخطبة ليست شرطًا في صحة النكاح، فلا يفسخ النكاح بوقوعها غير صحيحة. وحكى الطبري أن بعض العلماء قال: إن النهي منسوخ بقصة فاطمة. وهو غلط، وصرح الرُّوياني بأن الخطبة التي تحرم بعدها الخطبة إنما هي إذا كانت جائزة، فلو كانت محرمة كالخطبة للمعتدة لم يكن لها حكم، وهو واضح؛ لأن الأول لم يثبت له حق، وكذا إذا لم يعلم الخاطب بما وقع من الإجابة أو الرد فإنه يجوز الخطبة؛ لأن الأصل الإباحة، وعند الحنابلة في ذلك روايتان. وقوله: "حتى يترك أو يأذن له". فيه دلالة على الحل للمأذون له. وهل يختص ذلك بالمأذون له أو يتعدى إلى غيره؛ لأن مجرد الإذن المصادر من الخاطب الأول دال على إعراضه عن تزويج تلك المرأة، وبإعراضه يجوز لغيره أن يخطبها، الظاهر الثاني، فيكون الجواز للمأذون له بالتنصيص ولغيره بالإلحاق. ويؤيده قوله في حديث أبي هريرة: "أو يترك". واستدل بقوله: "على خطبة أخيه". بأن محل التحريم إذا كان الخاطب مسلمًا، فلو خطب الذمي ذمية فأراد المسلم أن يخطبها جاز له ذلك مطلقًا، وهو قول الأوزاعي ووافقه من الشافعية ابن المنذر وابن [حَربُويه] (أ) والخطابي. وكذلك حديث: "فلا يحل للمؤمن أن يبتاع على بيع أخيه ولا يخطب على خطبته حتى يذر". قال الخطابي (¬1): قطع الله الأخوة بين المسلم والكافر، فيختص ¬

_ (أ) في النسخ: حرقويه. وفي الفتح 9/ 200: جويرية. والمثبت من خبايا الزوايا 1/ 223، وتهذيب الأسماء 2/ 256 وهو أبو عبيد علي بن الحسين بن حرب بن عيسى البغدادي. ينظر سير أعلام النبلاء 14/ 536، وطبقات الشافعية 3/ 446.

النهي بالمسلم. وقال ابن المنذر: الأصل في هذا الإباحة حتى يرد المنع. وقد ورد المنع مقيدًا بالمسلم في حديث عقبة بن عامر أخرجه مسلم (¬1): "المؤمن أخو المؤمن، فلا يحل للمؤمن أن يبتاع على بيع أخيه، ولا يخطب على خطبته حتى يذر". وذهب الجمهور إلى إلحاق الذمي بالمسلم في ذلك، وأن التعبير بالأخ خرج على الغالب فلا يعمل بالمفهوم. وقال بعضهم: الخلاف راجع إلى أن النهي هل هو من حقوق العقد و [احترامه] (أ)، أو من حقوق المتعاقدين؛ فعلى الأول الراجح ما قال الخطابي، وعلى الثاني الراجح ما قال غيره، ومثل هذا شفعة الكافر؛ فمن جعلها من حقوق الملِك أثبتها له، ومن جعلها من حقوق المالك منع، وقريب من هذا ما ذهب إليه الأمير الحسين في "الشفاء"، ونقل عن ابن القاسم صاحب مالك أن الخاطب الأول إذا كان فاسقًا جاز للعفيف أن يخطب على خطبته، ورجحه ابن العربي منهم، وهو متجه فيما إذا كانت المخطوبة عفيفة، فيكون الفاسق غير كفؤ لها، فتكون خطبته كلا خطبة، ولم يعتبر الجمهور ذلك إذا صدرت منها علامة القبول، وقد حكى بعضهم الإجماع على خلاف هذا القول، وكذلك يحرم على المرأة أن تخطب على خطبة المرأة الأخرى إذا قد أجاب الخطوب، إلحاقًا لحكم النساء بحكم الرجال، ويشير إليه أيضًا ما مرّ من حديث أبي هريرة في كتاب البيع (¬2): "ولا تسأل المرأة طلاق أختها لتكفئ ما في إنائها". فإنه منهي عن سؤالها الطلاق لأختها ليتزوجها، فكذلك خطبتها لخطبة أختها، وهذا إذا كان في عزم المخطوب ألا يتزوج إلا واحدة، فأما إذا كان عزمه ¬

_ (أ) في النسخ: الحرمة. والمثبت من الفتح 9/ 200.

الجمع بينهما فلا تحرم. والخِطبة بكسر الخاء في النكاح. 801 - وعن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه قال: جاءت امرأة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت: يا رسول الله، جئت أهب لك نفسي. فنظر إليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فصعَّد النظر [فيها] (أ) وصَوَّبه، ثم طأطأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأسه، فلما رأت المرأة أنه لم يقض فيها شيئًا جلست، فقام رجل من أصحابه فقال: يا رسول الله، إن لم يكن لك بها حاجة فزوِّجنيها. قال: "فهل عندك من شيء؟ ". فقال: لا والله يا رسول الله. فقال: "اذهب إلى أهلك فانظر هل تجد شيئًا". فذهب ثم رجع فقال: لا والله ما وجدت شيئًا. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "انظر ولو خاتمًا من حديد". فذهب ثم رجع فقال: لا والله يا رسول الله ولا خاتم من حديد، ولكن هذا إزاري -قال سهل: ما له رداء- فلها نصفه. فقال [رسول الله] (ب) - صلى الله عليه وسلم -: "إما تصنع بإزارك؟ إن لَبِسْتَه لم يكن عليها منه شيء، وإن لَبِسَتْه لم يكن عليك منه شيء". فجلس الرجل، حتى إذا طال مجلسه قام، فرآه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. مولِّيًا فدعا به، فلما جاء قال: "ماذا معك من القرآن؟ ". قال: معي سورة كذا وسورة كذا. عدَّدها، فقال: "تقرؤهن عن ظهر قلبك؟ ". قال: نعم. قال: "اذهب فقد ملّكتُكها بما معك من القرآن". متفق عليه واللفظ لمسلم (¬1). وفي رواية له (¬2): قال: ¬

_ (أ) في الأصل: إليها. (ب) ساقطة من: الأصل، ب.

"انطلق فقد زوَّجتُكها، فعلِّمها من القرآن". وفي رواية للبخاري (¬1): "أمكناكها بما معك من القرآن". ولأبي داود عن أبي هريرة (¬2) قال: "ما تحفظ؟ ". قال: سورة "البقرة" و (أ) التي تليها. قال: "قم فعلمها عشرين آية". قوله: جاءت امرأة. هذا اللفظ في معظم الروايات، وقد جاء في رواية: إني لفي القوم عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ قامت امرأة. وفي رواية: أتت امرأة إليه. ويمكن الجمع بأن معنى قامت: وقفت. والمراد أنها وقفت بعد أن جاءت لا أنها كانت جالسة في المجلس فقامت. وفي رواية سفيان الثوري عند الإسماعيلي (¬3): جاءت امرأة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو في المسجد. فأفاد تعيين المكان الذي وقعت فيه القصة. قال المصنف رحمه الله تعالى (¬4): ولم أقف على اسمها، ووقع في "أحكام ابن الطلاع (ب) " أنها خولة بنت حكيم أو أم شريك. وهذا هو تعيين الواهبة نفسها التي أريدت في قوله تعالى: {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ} (¬5). وهذه غيرها. ¬

_ (أ) في مصدر التخريج: أو. وينظر ما سيأتي ص 37. (ب) وقع في الفتح 9/ 206: ابن القصاع. والذي في النسخ موافق لما في الفتح 9/ 419، 12/ 268، وكتاب الأحكام لم يذكر لابن القصاع، بل ذكر لابن الطلاع. ينظر هدية العارفين 2/ 780، 432، ومحجم المؤلفين 11/ 123، 12/ 275.

وقوله: جئت أهب. هكذا في رواية الثوري (¬1)، وقد جاءت ألفاظ غير هذا، ولابد من تقدير مضاف؛ أي: أمر نفسي. لأن رقبة الحر لا تملك، والمراد: أتزوجك من غير عوض. وقوله: فنظر إليها. فيه دلالة على جواز نظر المرأة لمن أراد أن يتزوج. وقوله: فصعَّد النظر إليها -بتشديد العين- أي رفع. وصوَّب -بتشديد الواو- أي خفض، والتضعيف إما للمبالغة في التأمل وإما لتكرير النظر، وبالثاني جزم القرطبي في "المفهم"، قال (¬2): أي نظر أعلاها وأسفلها مرارًا. ووقع في رواية (¬3): فخفَّض فيها البصر ورفَّعه. وهما بالتشديد أيضًا. وطأطأ رأسه: أي لم يرفعه بعد ذلك. وقوله: لم يقض فيها شيئًا. جاء في رواية الكُشْمِيهَني والمستملي (¬4) أنها قامت ثلاث مرات تعرض نفسها عليه. وفي رواية الطبراني (¬5): فصمت، ثم عرضت نفسها عليه فصمت، فلقد رأيتها قائمة مَلِيًّا تعرض نفسها عليه وهو صامت. وفي رواية مالك (¬6): فقامت طويلًا. وهو منصوب صفة لمصدر محذوف أو زمان محذوف. وفي رواية (¬7): فقامت حتى رثينا لها من طول القيام، ويجمع بينها وبين رواية الكُشميهني أنها قامت ثلاث مرات، باستمرار قيامها مدة الثلاث العرضات، فسمى كل عرضة قيامًا مستقلًّا، ¬

_ (¬1) الفتح 9/ 206، وينظر مصنف عبد الرزاق 7/ 77 ح 12274. (¬2) الفتح 9/ 206. (¬3) الطبراني 6/ 231 ح 5951، والدارقطني 3/ 247، والبيهقي 7/ 147. (¬4) الفتح 9/ 206. (¬5) الطبراني 6/ 234 ح 5961. (¬6) الموطأ 2/ 526 بلفظ: "فقامت قياما طويلا". (¬7) الطبراني 6/ 227 ح 5938.

وليس المراد أنها قامت بعد أن قعدت. والمراد بأنه لم يقض فيها: هو ما فُهم من صمته من عدم رغبته فيها. وفي رواية حماد (¬1): قال: "ما لي في النساء حاجة". ويجمع بينها وبين غيرها أنه قال ذلك في آخر الحال، فكأنه صمت أولًا ليُفْهِم (أ) أنه لم يُردها، فلما أعادت الطلب أوضح لها باللفظ. ووقع في حديث أبي هريرة عند النسائي (¬2): جاءت امرأة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فعرضت نفسها عليه فقال لها: "اجلسي". فجلست ساعة ثم قامت، فقال لها: "اجلسي بارك الله فيك، أما نحن فلا حاجة لنا فيك". ويؤخذ منه وفور أدب المرأة مع شدة رغبتها؛ لأنها لم تبالغ في الإلحاح في الطلب، وفهمت من السكوت عدم الرغبة، لكنها لما لم تيأس من الرد، جلست تنتظر الفرج. وسكوته - صلى الله عليه وسلم -؛ إما حَيَاءً من مواجهتها بالرد، وكان - صلى الله عليه وسلم - شديد الحياء جدًّا كما ورد في صفته أنه كان أشد حياءً من العذراء في خِدرها (¬3)، وإما انتظارًا للوحي، وإما تفكرًا في جواب يناسب (أ) المقام. وقوله: فقام رجل من أصحابه. قال المصنف رحمه الله تعالى (¬4): لم أقف على اسمه، ووقع في رواية معمر والثوري عند الطبراني (¬5): فقام رجل ¬

_ (أ) كذا في الأصل، جـ. وفي ب غير منقوطة، وفي الفتح 9/ 206: لتفهم.

أحسبه من الأنصار. وفي رواية زائدة عنده (¬1): فقام رجل من الأنصار. ووقع في حديث ابن مسعود (¬2): فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من ينكح هذه؟ ". فقام رجل. قوله: فقال: زوِّجنيها. هكذا في رواية مالك (¬3). وقوله: إن لم يكن لك بها حاجة. زيادة في الاحتياط، لِما عسى أن يتجدد له فيها رغبة بعد أن لم يكن. وقوله: فقال: لا والله يا رسول الله. في رواية هشام بن سعد (¬4) زيادة بعد هذا: قال: "فلا بد لها من شيء". وفي رواية الثوري عند الإسماعيلي (¬5) زيادة: قال: "إنه لا يصلح". وقوله: فقال: "اذهب إلى أهلك". إلى قوله: ولا خاتم من حديد. لفظ "خاتم" في قوله: "انظر ولو خاتمًا". منصوب بفعل مقدر تقديره: [أَصْدِق] (أ). وقوله: ولا خاتم. جاء فيه النصب على أنه مفعول: وجدت، مقدرًا. والرفع بتقدير: ولا حصل في خاتم من حديد. ¬

_ (أ) في الأصل، ب: أصدقت.

وقوله: ولكن هذا إزاري. إلى آخره. وقع في رواية مالك تقديم ذكر الإزار على قوله: فقال: "اذهب إلى أهلك". إلى تمام ذكر الخاتم، وفي رواية غيره تقديم ذلك على ذكر الإزار كما في هذا المختصر. والإزار يذكر ويؤنث، وقد وقع هنا مذكرًا. وقوله: قال سهل. أي: ابن سعد الراوي. وقوله: فلها نصفه. من كلام الرجل، وقد وهم القرطبي فجعله من كلام سهل، وقد جاء مصرحًا بالمراد في رواية أبي غسان محمد بن مطرف، ولفظه: ولكن هذا إزاري ولها نصفه. قال سهل: وما له رداء. وقوله: "إن لبسْتَه" إلى آخره. أي إن لبسته كاملًا. وإلا فمن المعلوم من ضيق حالهم وقلة الثياب عندهم، أنها لو لبسته بعد أن شقه لم يسترها، ويحتمل أن يكون المراد (أ) نفي كمال الستر، لأن العرب قد تنفي جملة الشيء إذا انتفى كماله، والمعنى: لو شققته بينكما نصفين لم يحصل كمال سترك بالنصف إذا لبسْتَه ولا هي. وفي رواية معمر عند الطبراني (¬1): والله ما وجدت شيئًا غير ثوبي هذا، اشْقُقْه بيني وبينها. قال: "ما في ثوبك فضل عنك". وفي رواية فُضَيل بن سليمان (¬2): ولكني أشق بردتي هذه فأعطيها النصف وآخذ النصف. وفي رواية الدراوردي (¬3): قال: ما أملك إلا إزاري ¬

_ (أ) زاد بعده في جـ: به.

هذا. قال: "أرأيت إن لَبِسَتْه، فأي شيء تلبس؟ ". وفي رواية مبشر (¬1): هذه الشملة التي عليَّ ليس عندي غيرها. وفي رواية هشام بن سعد: ما عليه إلا ثوب واحد عاقد طرفيه على عنقه. وفي حديث ابن عباس رضي الله عنهما وجابر (¬2): والله ما لي ثوب إلا هذا الذي عليَّ. فكل هذا مما يرجح الاحتمال الأول. قوله: سورة كذا وسورة كذا. وقع في رواية أبي هريرة تعيين ذلك؛ قال: ما تحفظ من القرآن؟. قال: سورة "البقرة" [أو] (أ) التي تليها. كذا في كتابي أبي داود والنسائي (¬3) بلفظ: "أو". قال المصنف رحمه الله تعالى (¬4): وزعم بعض من لقيناه أنه عند أبي داود بالواو وعند النسائي بلفظ: "أو". ووقع في حديث ابن مسعود (¬5): قال: نعم، سورة "البقرة" [وسور المفصّل. وفي حديث ضُميرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - زوَّج رجلًا على سورة "البقرة"] (ب) لم يكن عنده شيء. وفي حديث أبي أمامة (¬6): زوَّج النبي - صلى الله عليه وسلم - رجلًا من امرأة على سور من المفصل ¬

_ (أ) في الأصل، ب: و. (ب) ما بين المعكوفين ساقط من النسخ. والمثبت من الفتح 9/ 208.

جعلها مهرها، وأدخلها عليه وقال: "علِّمها". وفي حديث أبي هريرة الذكور: "فعلِّمها عشرين آية وهي امرأتك". وفي حديث ابن عباس (¬1): "أزوجها منك على أن تعلمها أربع أو خمس سور من كتاب الله". وفي مرسل أبي النعمان الأزدي عند سعيد بن منصور (¬2): زوَّج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - امرأة على سورة من القرآن. وفي حديث ابن عباس وجابر: "هل تقرأ من القرآن شيئًا؟ ". قال: نعم، {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ (1)}. قال: "أصدِقْها إياها". ويجمع بين هذه الألفاظ بأن بعض الرواة حفظ ما لم يحفظ بعض، أو أن القصص متعددة. وقوله: "تقرؤهن عن ظهر قلبك؟ ". المراد به حفظهن. وقوله: "اذهب فقد ملكتكها". إلى آخره، وقد جاء ألفاظ في الروايات المختلفة وهي: "أنكحتكها بما معك من القرآن". أخرجها البخاري (¬3)، وفي رواية مالك: قال: "زوجتكها على ما معك من القرآن". وفي رواية الثوري عند الإسماعيلي (¬4): "أنكحتكها بما معك من القرآن". وفي رواية معمر عند أحمد (¬5): "قد أملكتها". وقال في آخره: فرأيته يمضي وهي تتبعه. وفي رواية أبي غسان (¬6): "أمكناكها". وفي حديث ابن مسعود (¬7): ¬

_ (¬1) الفتح 9/ 209. (¬2) سنن سعيد بن منصور 1/ 176 ح 642. (¬3) البخاري 9/ 205 ح 5149. (¬4) الفتح 9/ 214. (¬5) أحمد 5/ 334 بلفظ: "أملكتكها"، وما هنا موافق لما عند الطبراني من رواية معمر 6/ 222، 223 ح 5927. (¬6) الفتح 9/ 209، 214. (¬7) الدارقطني 3/ 249، 250.

"قد أنكحتكها على أن تُقرئها وتعلِّمها، وإذا رزقك الله عوَّضتها". فتزوجها الرجل. الحديث فيه دلالة على أحكام؛ منها: حلّ الموهوبة للنبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد نص الله سبحانه وتعالى على ذلك الحكم وجعله خاصًّا بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، فينعقد النكاح في حقه بلفظ الهبة وتصير زوجة له. وظاهره أنه لا يحتاج إلى مهر ليفارق النكاح. وحكى الخياطي من أصحاب الشافعي وجوب المهر وجعَل الخصوصية في الانعقاد بلفظ الهبة، وقد وقع ذلك في غير هذه التي لم يقبل النبي - صلى الله عليه وسلم - هبتها. واختُلف في تعيين الواهبة نفسها للنبي - صلى الله عليه وسلم -؛ فقيل: هي خولة بنت حكيم. أخرجه البيهقي من حديث عائشة في رواية أبي سعيد المؤدب (¬1)، وكذا ابن مردويه، وعلقه البخاري ولم يسق لفظه (¬2)، وبه قال عروة وغيره. وقيل: أم شريك. ورواه النسائي (¬3) من طريق حماد بن سلمة عن هشام عن أبيه عن أم شريك، وبه قال علي بن الحسين والضحاك ومقاتل. وقيل: هي زينب بنت خزيمة أم المساكين. قاله الشعبي، وروي ذلك عن عروة أيضًا، وقيل: ميمونة بنت الحارث. رُوي ذلك عن ابن عباس وقتادة. ومنها: أنه ينبغي للمرأة عرض نفسها على الرجل ليتزوجها لا سيما إذا كان من أهل الصلاح. ¬

_ (¬1) البيهقي 7/ 55. (¬2) البخاري 9/ 164 ح 5113. (¬3) النسائي في الكبرى 5/ 294 ح 8928.

ومنها: جواز النظر من الرجل وإن لم يكن خاطبًا لإرادة التزوج، فإنه - صلى الله عليه وسلم - صعَّد النظر، وهو يدل على المبالغة في الاستقصاء لمعرفة مخايلها وما يرغب في نكاحها. ويمكن الانفصال عنه بدعوى الخصوصية له لمحل العصمة. قال المصنف رحمه الله تعالى (¬1): والذي تحرر عندنا أنه - صلى الله عليه وسلم - كان لا يحرُم عليه النظر إلى المؤمنات الأجنبيات بخلاف غيره. انتهى. ويحتمل أن ذلك كان قبل الحجاب، أو بعده وهي متلفعة. ومنها: أن الهبة لا تتم إلا بالقبول. ومنها: جواز الخِطبة على الخطبة إذا عرف رغبة الأول عن المخطوبة. ومنها: ثبوت ولاية الإمام على المرأة التي لا قربها لها إذا أذنت، وإن كان في بعض الألفاظ التي مرت ما يدل على أنها فوضت النبي - صلى الله عليه وسلم - في شأنها، والتفويض توكيل. ومنها: أن النكاح لا بد فيه من صداق، وأنه لا حد لأكثره، وأما أقله فالحديث يدل على أنه يصح أن يكون شيئًا يسيرًا، فإن قوله: "ولو خاتمًا من حديد". مبالغة في تقليله، فيصح بكل ما تراضى عليه الزوجان أو مَن العقد إليه مما فيه منفعة كالسَّوط والنعل وإن كان قيمته أقل من درهم، وضابطه أن كل ما جاز أن يكون قيمة وثمنًا لشيء صح أن يكون مهرًا. ونقل عياض (¬2) الإجماع على أنه لا يصح أن يكون مما لا قيمة له، ولا يحل به النكاح. وقال أبو محمد بن حزم (¬3): يصح بكل ما يسمى شيئًا ولو حبة من شعير؛ لقوله: ¬

_ (¬1) الفتح 9/ 210. (¬2) الفتح 9/ 211. (¬3) المحلى 11/ 97.

"هل تجد شيئًا؟ ". ويجاب عنه (أبأنه مخصص أ) بقوله: "ولو خاتمًا من حديد". لأنه ورد مبالغة في التقليل وله قيمة. وبه قال يحيى بن سعيد الأنصاري وأبو الزناد وربيعة وابن أبي ذئب وغيرهم من أهل المدينة غير مالك ومن تبعه، وابن جريج ومسلم بن خالد وغيرهما من أهل مكة، والأوزاعي في أهل الشام، لليث في أهل مصر، والثوري وابن أبي ليلى وغيرهم من العراقيين غير أبي حنيفة ومن تبعه، الشافعي وداود وفقهاء أصحاب الحديث، وابن وهب من المالكية، ورواية عن الناصر. وذهبت طائفة إلى تحديد أقله؛ فذهبت العترة جميعًا وأبو حنيفة وأصحابه إلى أن أقله عشرة دراهم، قالوا: لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا مهر أقل من عشرة دراهم" (¬1). وقياسًا على المال الذي يقطع السارق به بجامع استباحة عضو محرم في كل منهما (¬2). وأجاب الجمهور عن ذلك بأن الحديث لو كان ثابتًا لكان نصًّا في محل النزاع، لكنه غير ثابت، فإنه يرويه مبشر بن عبيد عن الحجاج بن أرطاة عن عطاء عن جابر، ومبشر والحجاج ضعيفان (¬3)، وعطاء أيضًا لم يلق جابرًا، فبطل الاحتجاج به لا سيما مع معارضته للحديث الصحيح المتفق على صحته. وأما القياس فكذلك لا يصح؛ لمصادمته النص ولفساده، وذلك أن اليد ¬

_ (أ- أ) في ب: بأن تخصص. وفي جـ: بأنه تخصيص.

تقطع وتبين ولا كذلك الفرج، وبأن القدر المسروق يجب على السارق رده مع القطع، ولا كذلك الصداق. وقال مالك: أقله ثلاثة دراهم أو ربع دينار، قياسًا أيضًا على السرقة. وفيه ما ذكر. قال أبو الحسن اللخمي: قياس قدر الصداق بنصاب السرقة ليس بالبين؛ لأن اليد إنما قطعت في ربع دينار نكالًا للمعصية، والنكاح مستباح بوجه جائز. لكن في قوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا} (¬1). وقوله تعالى: {أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ} (¬2). ما يدل على اشتراط المالية. حتى أخذ منه بعض المالكية أنه يشترط أن يكون مما يجب فيه الزكاة. وقال سعيد بن جبير: أقله خمسون درهمًا. وقال النخعي: أربعون. وقال ابن شبرمة: خمسة دراهم. وهذه الأقوال لا دليل عليها، ولعلها مستنبطة من الآية من الطَّول والمال في العرف، وقول ابن شبرمة من إصداق عبد الرحمن نواة من ذهب وهي قدر خمسة دراهم. ومنها: أنه ينبغي ذكر الصداق في العقد؛ لأنه أقطع للنزاع وأنفع للمرأة، فلو عقد بغير ذكر صداق صح، ووجب لها مهر المثل بالدخول على الصحيح، وقيل: بالعقد. وإنما كان أنفع؛ لأنه يثبت لها نصف المسمى بالطلاق قبل الدخول. ومنها: استحباب تعجيل تسليم المهر. ومنها: جواز الحلف وإن لم يطلب اليمين؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم ينكر عليه اليمين، لكنه يكره لغير ضرورة. ¬

_ (¬1) الآية 25 من سورة النساء. (¬2) الآية 24 من سورة النساء.

ومنها: أنه يجوز الحلف على ما يظن؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له بعد يمينه: "اذهب إلى أهلك فانظر هل تجد" مرتين. ولو كانت اليمين لا تكون إلا على علم لم يكن لذهابه فائدة، إذ العلم لا ينتفي، ولا يجوز حصول ما يخالفه. ومنها: أن الصداق يخرج عن ملك الزوج وتملكه المرأة بمجرد العقد. ومنها: أنه لا يجوز للمرء أن يُخرج عن ملكه ما لا بد له منه؛ مثل ما يستر العورة أو يسد الخلة من الطعام والشراب، لأنه قال له: "إن لَبِسَتْه لم يبق عليك منه شيء". فعلل المنع بأنه لم يبق عليه منه شيء. ومنها: اختبار مدعي الإعسار؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يصدقه في أول ما ادعى أنه معسر حتى ظهر له مخايل الصدق، وهو يدل على ما ثبت من الحكم في مدعي الإعسار أنه لا يسمع منه اليمين حتى يظهر إعساره بقرائن الأحوال. ومنها: أنه يصح أن يكون الصداق منفعة الزوج، ويقاس عليه غيره، فإن التعليم هنا منفعة. وقد ذهب إلى صحة كون الصداق منفعة؛ العترة جميعًا والشافعي وأصبغ وسحنون؛ لهذا ولما في قصة شعيب وموسى. وذهب مالك إلى كراهة ذلك، وجوَّز الفسخ للنكاح قبل الدخول إذا كان على منفعة؛ وذلك لما في الإجارة من الجهالة والغرر، ولذلك خالف في الإجارة الأصم وابن علية، لأن التعامل إنما يكون في عين معروفة باقية، والإجارة تعلقت بحركات وأفعال غير ثابتة ولا مقدرة بنفسها. وذهب أبو حنيفة وأصحابه وابن القاسم من المالكية إلى منع ذلك إلا في [منفعة] (أ) العبد في غير تعليم [القرآن] (أ)، فجوزوا جعلها صداقًا، وكأنهم نظروا إلى أن قبض ¬

_ (أ) ساقط من: الأصل.

العبد وثبوت اليد عليه قائم مقام قبض المنفعة فأشبهت العين المقبوضة، وأجابوا عن هذا الحديث بأن الباء بمعنى اللام، وعن قصة شعيب بأن شرع من قبلنا لا يلزمنا، وهي مسألة خلف بين الأصوليين. ومنها: أن تعليم القرآن يجوز أخذ [الأجرة] (أ) عليه، وقد تقدم الكلام عليه في الإجارة والخلاف فيه (¬1)، والمانعون يتأولون الحديث بأن الباء في قوله: "بما معك". بمعنى اللام للسببية وليست عوضًا. وأجاب الماوردي بأنه لو كان كذلك لكانت بغير مهر وكانت موهوبة، والهبة مختصة بالنبي - صلى الله عليه وسلم -. وأجاب عن ذلك الطحاوي، وتبعه الأَبهري وأبو محمد بن أبي زيد، بأن هذا خاص بهذا الرجل؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما كان له أن ينكح بغير صداق فله أن يُنكح غيره من شاء بغير صداق. وبمثله قال الداودي، قال (ب): لأنه أولى بالمؤمنين من أنفسهم. وأيده بعضهم بأنه لما قال له: "ملكتكها". لم يشاورها ولا استأذنها. ويُردُّ على التأبيد بأن في الروايات أنها فوَّضته في أمرها، فلم يحتج إلى مراجعتها في شيء. ويحتج لخصوصية الرجل بهذا ما أخرجه سعيد بن منصور (¬2) من مرسل أبي النعمان الأزدي قال: زوَّج النبي - صلى الله عليه وسلم - امرأة على سورة من القرآن وقال: "لا يكون لأحد بعدك مهرًا". وهذا مع إرساله فيه من لا يُعرف. وأخرج أبو داود (¬3) من طريق مكحول قال: ¬

_ (أ) في الأصل: الأجر. (ب) ساقطة من: جـ.

ليس هذا لأحد بعد النبي - صلى الله عليه وسلم -. وأخرج أبو عوانة (¬1) من طريق الليث بن سعد نحوه. وقال عياض (¬2): يحتمل قوله: "بما معك من القرآن". وجهين؛ أظهرهما أن يعلمها ما معه من القرآن أو مقدارًا معينًا منه ويكون ذلك صداقًا، وقد جاء هذا التفسير عن مالك، ويؤيده قوله في بعض طرقه الصحيحة: "فعلِّمها من القرآن" (¬3). وفي بعضها تعيين عشرين آية كما سبق، ويحتمل أن تكون الباء للتعليل، فأكرمه بزواجه المرأة لكونه حافظًا للقرآن أو لبعضه، ونظيره قصة أم سليم مع أبي طلحة فيما أخرجه النسائي (¬4) وصححه عن أنس قال: خطب أبو طلحة أم سليم، فقالت: والله ما مثلك يُردُّ، ولكنك كافر وأنا مسلمة، ولا يحل في أن أتزوجك، فإن تُسلم فذلك مهري، ولا أسألك غيره. فأسلم، فكان ذلك مهرها. وأخرج (4) من طريق أخرى عن أنس قال: تزوج أبو طلحة أم سليم، فكان صداق ما بينهما الإسلام. فذكر القصة وقال في آخره: فكان ذلك صداق ما بينهما. وترجم عليه النسائي: التزويج على الإسلام. ثم ترجم (¬5) على حديث سهل: التزويج على سورة من القرآن. فكأنه مال إلى ترجيح الاحتمال الثاني، ويؤيده ما أخرجه ابن أبي شيبة والترمذي (¬6) من حديث أنس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سأل رجلًا من أصحابه: "يا فلان، هل تزوتجت؟ ". قال: لا، وليس ¬

_ (¬1) أبو عوانة -كما في الفتح 9/ 212. (¬2) الفتح 9/ 212. (¬3) مسلم 2/ 1041 ح 1425 - 77. (¬4) النسائي 6/ 114. (¬5) النسائي 6/ 113. (¬6) ابن أبي شيبة -كما في الفتح 9/ 212 - والترمذي 5/ 153 ح 2895.

عندي ما أتزوج به. قال: "أليس معك {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}؟ ". الحديث. وأيد الطحاوي ما ذكره من الخصوصية أن الإجارة لا تصح إلا على عمل معين أو وقت معين، والتعليم قد لا يعرف وقته، فقد يحصل في وقت يسير، وقد يحتاج إلى زمان طويل. قال: فكما أنه لو باع منه داره بتعليم سورة لم يصح البيع، فكذلك النكاح. وأجيب عنه بأنه قد وقع تعيين القدر الذي أمره بتعليمها، ومقدار الوقت لا يختلف حال المتعلم فيه، خصوصًا العرب أهل اللسان. وأجاب بعضهم باختيار التعليل أيضًا، ولا يلزم منه عدم المهر، بل يكون المهر ثابتًا في ذمته، إذا أيسر قضاه. وقد جاء في حديث ابن عباس (¬1): "فإذا رزقك الله فعوِّضها". ولكنه غير ثابت. وقال بعضهم: يحتمل أنه - صلى الله عليه وسلم - أصدق عنه كما كفّر عن المجامع في رمضان، ويكون ذكر القرآن وتعليمه للتحريض على تعلم القرآن وتعليمه، وتنويهًا بفضل أهله. ومنها: أن قوله: "قد ملكتكها". يدل على أن النكاح ينعقد بلفظ يفيد التمليك، ولا يشترط لفظ الإنكاح أو التزويج، وقد ذهب إلى هذا العترة وأبو حنيفة وأصحابه، والمشهور عن المالكية جوازه بكل لفظ يفيد معناه إذا قرن بذكر الصداق أو قصد به النكاح كالتمليك ونحوه، ولا يصح عندهم بلفظ الإجارة والعارية والوصية، واختلف عندهم في الإحلال والإباحة، وهو كذا عند الحنفية في الإجارة على أصح الوجهين عندهم وعند الهدوية أيضًا، والحنفية تجيزه بكل لفظ يفيد التأبيد مع القصد، وعند الشافعي وأحمد والزهري وطاوس وربيعة وابن المسيب، لا بد من لفظ ¬

_ (¬1) وهو عند أبي عمر بن حيوة في فوائده -كما في الفتح 9/ 205، 207. وينظر الفتح 9/ 213.

النكاح أو التزويج. ولفظ الحديث بهذه الرواية يرد عليهم، وقوله تعالى: {إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ} (¬1). ويجاب عن الحديث بأنه قد ورد فيها لفظ: "زوّجتكها". قال ابن دقيق العيد (¬2): هذه لفظة واحدة في قصة واحدة، اختلفت مع اتحاد مخرج الحديث، والظاهر أن الواقع من النبي - صلى الله عليه وسلم - لفظ واحد، فالمرجع في هذا إلى الترجيح، وقد نقل عن الدارقطني أن الصواب رواية من روى: "زوجتكها". وأنهم أكثر وأحفظ. قال: وقال بعض المتأخرين (¬3): يحتمل صحة اللفظين ويكون قال لفظ التزويج أولًا ثم قال: اذهب فقد ملَّكتكها بالتزويج السابق. قال ابن دقيق العيد: وهذا بعيد؛ فإن الظاهر من السياق اتحاد اللفظ، وأن اللفظ المذكور هو الذي انعقد به النكاح، وكذا الكلام في رواية: "أمكناكها". وقال ابن التين (¬4): لا يجوز أن يكون النبي عقد بلفظ التمليك والتزويج معًا في وقت واحد، فليس أحد اللفظين أولى من الآخر. قال: ومن زعم أن معمرًا وهم فيه، فالجواب عنه أن البخاري أخرجه في غير موضع من رواية غير معمر مثل معمر. انتهى. وزعم ابن الجوزي في "التحقيق" (¬5) أن رواية أبي غسان: "أنكحتكها"، ورواية الباقين: "زوجتكها". إلا ثلاثة أنفس، وهم معمر ويعقوب وابن ¬

_ (¬1) الآية 50 من سورة الأحزاب. (¬2) ينظر شرح عمدة الأحكام 4/ 48. (¬3) هو الإمام النووي، صرّح به الحافظ في الفتح 9/ 214. وينظر شرح مسلم 9/ 214. (¬4) الفتح 9/ 214. (¬5) التحقيق 2/ 272.

أبي حازم. قال: ومعمر كثير الغلط، والآخران لم يكونا حافظين. انتهى. قال المصنف رحمه الله (¬1): وقد غلط في رواية أبي غسان، فإنها بلفظ: "أمكناكها". في جميع نسخ البخاري، نعم وقعت بلفظ: "زوجتكها". عند الإسماعيلي من طريق حسين بن محمد، عن أبي غسان. والبخاري أخرجه (¬2) عن سعيد بن أبي مريم، عن أبي غسان بلفظ: "أمكناكها". وقد أخرجه أبو نعيم في "المستخرج" من طريق يحيى بن عثمان بن صالح، عن سعيد شيخ البخاري فيه بلفظ: "أنكحتكها". فهذه ثلاثة ألفاظ عن أبي غسان، ورواية: "أنكحتكها" في "البخاري" (¬3) لابن عيينة كما حررته، وما ذكره من الطعن في الثلاثة مردود، ولا سيما عبد العزيز بن أبي [حازم] (أ)، فإن روايته تترجح؛ لكون الحديث عن أبيه، وآل المرء أعرف بحديثه من غيرهم. هذا [و] (5) الذي تحرر أن الذين رووه بلفظ التزويج أكثر عددًا ممن رواه بغير لفظ التزويج ولا سيما وفيهم من الحفاظ مثل مالك، ورواية سفيان بن عيينة: "أنكحتكها". مساوية لروايتهم، ومثلها رواية ¬

_ (أ) في النسخ: حاتم. والمثبت من حاشية الأصل، وفيها: في الخلاصة ابن أبي حازم، وفي الفتح كذلك، فصح ابن أبي حازم. وقد تقدم على الصواب. (ب) ساقطة من: الأصل، جـ، وفي ب: أو. والمثبت يقتضيه السياق.

زائدة (¬1)، وعدَّ ابن الجوزي (¬2) فيمن رواه بلفظ التزويج حماد بن زيد، وروايته بهذا اللفظ [في فضائل القرآن] (أ) (¬3)، وأما في النكاح فبلفظ: "ملكتكها" (¬4). وقد تبع الحافظ صلاح الدين العلائي ابن الجوزي فقال في ترجيح رواية التزويج: ولا سيما وفيهم مالك وحماد بن زيد. انتهى. وقد تحرر أنه اختلف على حماد فيها كما اختلف على الثوري، فظهر أن رواية التمليك وقعت في إحدى الروايتين عن الثوري وفي رواية عبد العزيز بن أبي [حازم] (ب) ويعقوب بن عبد الرحمن وحماد بن زيد، وفي رواية معمر: "أملكتكها". وهي بمعناها، وانفرد أبو غسان برواية: "أمكناكها". وأَخْلِق بها أن (جـ تكون تصحيفًا جـ) من: "ملكناكها". فرواية التزويج أو الإنكاح أرجح، وعلى تقدير أن تتساوى الروايات يقف الاستدلال بها لكل من الفريقين. وقد قال البغوي في "شرح السنة" (¬5): لا حجة في هذا الحديث لمن أجاز انعقاد النكاح بلفظ التمليك، لأن العقد كان واحدًا، فلم يكن اللفظ إلا واحدًا، واختلف الرواة في اللفظ الواقع، والذي يظهر أنه ¬

_ (أ) ساقط من: جـ. وفي الأصل: هكذا في الفتح. وضرب عليها في ب، وكتب في الحاشية: ها هنا تشكيك بخط المؤلف وقال: هكذا في الفتح. فينظر الفتح إن شاء الله تعالى. في الفتح يوجد كما ذكر هنا باللفظ. والمثبت من الفتح 9/ 214. (ب) في الأصل، جـ: حاتم. وقد تقدم ص 47، 48. (جـ-جـ) في ب: يكون تصحيفها.

كان بلفظ التزويج على وفق قول الخاطب: زوِّجنيها. إذ هو الغالب في [لفظِ] (أ) العقود، إذ قلَّما يختلف فيه لفظ المتعاقدين، ومن روى بغير لفظ التزويج لم يقصد مراعاة اللفظ الذي انعقد به العقد، وإنما أراد الخبر عن جريان العقد على تعليم القرآن، وقيل: إن بعضهم رواه بلفظ الإمكان. وقد اتفقوا على أن العقد بهذا اللفظ لا يصح. كذا قال. ثم قال المصنف رحمه الله تعالى (¬1): وبالغ ابن التين فقال: أجمع أهل الحديث على أن الصحيح رواية: "زوجتكها". وأن رواية: "ملكتكها". وهم. وأجاب بعضهم بأن الذين اختلفوا في هذه اللفظة أئمة عارفون بالمعنى، (ب فلولا أن ب) الألفاظ عندهم مترادفة ما عبروا بها، فدل على أن كل لفظ منها يقوم مقام الآخر. انتهى. ويجاب عن هذا بأن هذا راجع إلى جواز الرواية بالمعنى من العارف، ولكنه عند الترجيح يُرجع إلى المتفق عليه ويُترك المختلف فيه، والرواية بالمعنى قد يحصل فيها الخطأ، فإنه قد يعتقد أن ذلك اللفظ مرادف وهو في نفس الأمر غير مرادف، والخلاف واقع في نقل اللغة كما وقع في غيرها، إلا أنه يقال: قد ثبت في غير النكاح -مثل الطلاق والعتاق وغيرهما- صحته بغير اللفظ الصريح فيه من الألفاظ المحتملة لتأدية ذلك المعنى مع القرينة، وهو ما يعبر عنه الفقهاء بالكناية، ولا حجر على اللفظ الصريح، فيصح تأديته بكل لفظ يدل عليه مع القصد إلى ذلك. والله سبحانه أعلم. ¬

_ (أ) كذا في النسخ: لفظ. وفي مصدر التخريج، والفتح 9/ 215؛ أمر. (ب- ب) في جـ: فلو كانت.

ومنها: أنه يؤخذ من الحديث أنه إذا سأل النكاح وقال: زوجني. قال: زوجت. لم يحتج إلى قبول (أ) منه. كذا قاله أبو بكر الرازي الحنفي والرافعي من الشافعية (¬1). ومنها: أن طول الفصل بين الإيجاب والقبول، وفراق المجلس لا لقصد الإضراب، لا يضر، وقال المهلب (¬2): إن المستوجب إذا أجيب بشيء معين وسكت كفى إذا ظهرت قرينة القبول، وإلا فيشترط معرفة رضاه بالقدر المذكور. ومنها: أن سكوت من عُقد عليها إجازةٌ إذا لم يمنع من كلامها خوف أو حياء أو غيرهما. ومنها: جواز العقد من دون أن يَسأل المرأة: هل لها ولي حاضر أو لا؟ وهل هي في عصمة رجل أو في عدته؟ قال الخطابي (¬3): ذهب إلى هذا جماعة حملًا على ظاهر الحال، ولكن الحكام يحتاطون ويسألون. ونصَّ الشافعي على أنه ليس للحاكم أن يزوِّج امرأة حتى يشهد عدلان أنها ليس لها ولي حاضر (ب) ولا أنها في عصمة رجل، ولا في عدة، لكن اختلف أصحابه هل هذا على سبيل الاشتراط أو الاحتياط، والثاني المصحح عندهم (¬4)، ¬

_ (أ) في ب: قبوله.

وعند الهدوية أنها تحلف الغَرِيبة احتياطًا. ومنها: أنه لا يشترط في صحة العقد تقدم الخُطبة، إذ لم يقع في شيء من طرق الحديث وقوع حمد ولا تشهد ولا غيرهما من أركان الخُطبة، وخالف في ذلك الظاهرية فجعلوها واجبة، ووافقهم من الشافعية أبو عوانة فترجم في "صحيحه": باب وجوب الخُطبة عند العقد (¬1). ومنها: أن الكفاءة في المال لا تعتبر؛ لأن الرجل لا شيء له. ولكنه يقال: والمرأة كذلك، فإنه لم يدل دليل على أن لها مالًا. ومنها: أن طالب الحاجة لا ينبغي له أن يلح في طلبها بل يطلبها برفق وتأنٍّ، ويدخل في ذلك طالب العلم؛ كمن يستفتي ويباحث مَن عَلِمَ. ومنها: أن الفقير يجوز له أن يتزوج المرأة إذا علمت بحاله ورضيت به. وظاهره ولو كان عاجزًا عن التكسب. كذا قاله الباجي (¬2). وتُعقِّب باحتمال أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - اطلع من حال الرجل على أنه قادر على التكسب، لا سيما ما كان عليه أهل ذلك العصر من قلة الشيء والقناعة باليسير. ومنها: صحة النكاح بغير ولي. وأجيب بأنها (أ) لم يكن لها ولي حاضر، والإمام ولي من لا ولي لها. ¬

_ (أ) زاد في ب: لما.

ومنها: أنه يجوز للرجل أن ينتفع بملك زوجته؛ لقوله: "إن لبستَه لم يكن عليها منه شيء". فلم يمنعه من الانتفاع به، وإنما هو لحاجتها إليه. وأجيب بأن انتفاعه به جميعه قد يصح على جهة المهايأة (¬1)؛ لكونه شريكًا لها. ومنها: نظر الإمام في مصالح رعيته وإرشاده إلى ما يصلحهم. ومنها: المراجعة في الصداق. ومنها: خِطبة المتزوج لنفسه. ومنها: أنه لا يجب إعفاف المسلم بالنكاح كما يجب إطعامه وسقيه إذا اضطر إلى ذلك. قال ابن التين بعد أن ذكر فوائد الحديث (¬2): فهذه إحدى وعشرون فائدة بوَّب البخاري على أكثرها. قال المصنف رحمه الله (¬3): وقد فصلت ما ترجم به البخاري من غيره. وهذه الفوائد المذكورة ثمان وعشرون، والحمد لله على ذلك، والصواب أنها إحدى وثلاثون. 802 - وعن عامر بن عبد الله بن الزبير، عن أبيه، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "أَعْلِنوا النكاح". رواه أحمد وصححه الحاكم (¬4). هو عامر بن عبد الله بن الزبير بن العوام الأسدي، القرشي، سمع أباه وعمرو بن سُليم -بضم السين- وسمع منه مالك وابن عجلان وزياد بن ¬

_ (¬1) المهايأة: قسمة المنافع على التعاقب والتناوب. التعريفات للجرجاني ص 105. (¬2) الفتح 9/ 216. (¬3) الفتح 9/ 216. (¬4) أحمد 4/ 5، والحاكم، كتاب النكاح 2/ 183.

سعد، مات قبل هشام بن عبد الملك بقليل أو بعده، ومات هشام سنة أربع وعشرين ومائة، وروى الحديث أيضًا أحمد والترمذي والنَّسائيُّ وابن ماجه والحاكم من حديث محمد بن حاطب (¬1)، وفي الباب عن عائشة رضي الله عنها: "أعلنوا النكاح، واضربوا عليه بالغِربال". أي: الدف. أخرجه التِّرمذيُّ وابن ماجه والبيهقيّ (¬2) عن عائشة، وفي إسناده خالد بن إلياس (¬3) وهو منكر الحديث، قاله أحمد، وفي رواية التِّرمذيِّ عيسى بن ميمون (¬4) وهو يضعَّف، قاله التِّرمذيُّ (¬5)، وضعفه ابن الجوزي من الوجهين (¬6)، وأخرج التِّرمذيُّ من حديث عائشة -وقال: حسن غريب-: "أعلنوا هذا النكاح، ¬

_ (¬1) أحمد 3/ 418، والترمذي 3/ 398 ح 1088، والنَّسائيُّ 6/ 127، وابن ماجه 1/ 611 ح 1896، والحاكم 2/ 184. (¬2) التِّرمذيُّ 3/ 398 ح 1089، وابن ماجه 1/ 611 ح 1895، والبيهقيّ 7/ 290. (¬3) هو خالد بن إلياس -ويقال: إياس- بن صخر بن أبي الجهم. قال الحافظ: متروك الحديث. التقريب ص 187، وينظر تهذيب الكمال 8/ 29. (¬4) ينظر التاريخ الصَّغير 2/ 130. (¬5) الترمذي 3/ 399. (¬6) العلل المتناهية 2/ 138. قال صاحب تحفة الأحوذي: كذا في النسخ المحاضرة، وأورد هذا الحديث الشَّيخ ولي الدين في المشكاة وقال: رواه التِّرمذيُّ وقال: هذا حديث غريب. ولم يذكر لفظ حسن، وكذلك أورد الشوكاني هذا الحديث في النيل وقال: قال التِّرمذيُّ: هذا حديث غريب. ولم يذكر هو أيضًا لفظ حسن، فالظاهر أن النسخة التي كانت عند صاحب المشكاة وعند الشوكاني هي الصحيحة ويدل على صحتها تضعيف التِّرمذيُّ عيسى بن ميمون أحد رواة هذا الحديث، وقد صرح الحافظ في الفتح بضعف هذا الحديث، والله تعالى أعلم. 2/ 170. وفي سنن التِّرمذيِّ: قال أبو عيسى: هذا حديث غريب، حسن في هذا الباب 3/ 399. ينظر نيل الأوطار 6/ 223.

واجعلوه في المساجد، واضربوا عليه بالدفوف" (¬1). والبيهقيّ وضعفه من حديث عائشة رضي الله عنها: "أعلنوا هذا النكاح، واجعلوه في المساجد، واضربوا عليه بالدفوف، وليولم أحدكم ولو بشاة، فإذا خطب أحدكم امرأة وقد خضب بالسواد فليعلمها، لا يغرها" (¬2). قوله: "أعلنوا النكاح". فيه دلالة على [مشروعية] (أ) ما يدل على وقوع النكاح بين الزوجين؛ وذلك كالوليمة وضرب الطبول وغيرها من إحضار من يشهد على العقد، وقوله في الروايات الآخر: "واضربوا عليه بالغِربال، واضربوا عليه بالدفوف". من عطف الخاص على العام، وأمَّا فعل ما يحرم في غير النكاح كالمزمار وغيره، فالأكثر من الأمة أن ما يحرم في غير النكاح يحرم فيه؛ لعموم النَّهي، وذهب النَّخعيُّ ومالك وغيرهما من الفقهاء أنَّه يباح في النكاح؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "واضربوا عليه بالدفوف". فيقاس المزمار وغيره عليه، ويكون ذلك [مخصضًا] (ب) لعموم النَّهي، أو محمولًا على غير الملهي؛ جمعًا بين الدليلين. قال الإمام يَحْيَى: دف الملاهي -وهو بضم الدال وبفتحها والفتح أكثر- مدور جلده من رق أبيض ناعم، في عرضه سلاسل يسمى الطار، له صوت يطرب؛ لحلاوة نغمته، وهذا لا إشكال في تحريمه وتعلق النهي به، وأمَّا دف العرب فهو على شكل الغربال خلا أنَّه لا خروق فيه، وطوله [إلى] (جـ) أربعة أشبار، فهو الذي أراده - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنَّه المعهود ¬

_ (أ) في الأصل: شرعية. (ب) في الأصل: مخصوصًا. (جـ) ساقط من: الأصل.

حينئذٍ. وقال أبو طالب والهادي: وهو محرم أيضًا، إذ هو آلة لهو، فتمزق إن ظفر بها كالمزمار ونحوه. قال الإمام المهدي: ولعلّه يقول: الخبر منسوخ. وقال المؤيد بالله، وهو قول الهادي في "الأحكام": بل يكره فقط. وقال أبو العباس وأبو حنيفة وأصحابه: بل مباح؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "واضربوا عليه بالدفوف". وقولِه - صلى الله عليه وسلم -: "فصل ما بين الحلال والحرام الدف". ولتقريره أم نبيط حين رآها تدفف وترتجز في عرس. قال الإمام يَحْيَى: فأمَّا ضرب طبل الحرب والزير -وهو النقارة. وقيل: الناقوس. والبَم؛ و [هو] (أ) القصعة الكبرى من قصاع الطبلخانه (¬1). وفي "الصحاح" (¬2) و"الضياء": البم: الوتر الغليظ من أوتار المزهر (¬3). قال في "شمس العلوم": وهو عجمي. وطبق الصفر؛ وهو الصنج وما أشبهه، وجميع الكوسات؛ وهي الطبول- فلا بأس به [إذا لم] (ب) توضع للهو. كذا ذكره في "البحر". وقال في "الغيث": والمراد بما ذكره الإمام يَحْيَى، إذا استعملت لا على طريق الغناء؛ لأنَّ كل ضربة موضوعة للهو، فهي محرمة ولو في غير لهو. انتهى. ¬

_ (أ) في الأصل: جـ: هي. (ب) في الأصل: إذ لو، وفي جـ: إذ لم.

803 - وعن أبي بردة بن أبي موسى عن أبيه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا نكاح إلَّا بولي". رواه أحمد والأربعة (¬1)، وصححه ابن المديني والترمذي وابن حبان، وأعل بالإرسال (¬2). وأخرجه الحاكم (¬3) وأطال في تخريج طريقه، وقد اختلف في وصله وإرساله. قال الحاكم: وقد صحت الرّواية فيه عن أزواج النَّبيِّ - صَلَّى الله عليه وسلم -؛ عائشة، وأم سلمة، وزينب بنت جحش. قال: وفي الباب عن علي وابن عباس. ثم سرد تمام ثلاثين صحابيًّا، وقد جمع طرقه الدمياطي من المتأخرين، قال التِّرمذيُّ (¬4) -بعد أن ذكر الاختلاف فيه وأنَّ من جُملة مَن وصله إسرائيل عن أبي إسحاق عن أبي بردة عن أبيه، ومن جملة مَن أرسله شعبة وسفيان الثوري عن أبي إسحاق عن أبي بردة ليس فيه أبو موسى راويه-: ومَن رواه موصولًا أصح؛ لأنهم سمعوه في أوقات مختلفة، وشعبة وسفيان وإن كانا أحفظ وأثبت من جميع من رواه عن أبي إسحاق، لكنهما سمعاه في وقت واحد. ثم ساق من طريق أبي داود الطيالسي عن شعبة قال: سمعت سفيان الثوري يسأل أبا إسحاق: أسمعتَ أبا بردة ¬

_ (¬1) أحمد 4/ 394، وأبو داود، كتاب النكاح، باب في الولي 2/ 236 ح 2085، والترمذي، كتاب النكاح، باب ما جاء لا نكاح إلَّا بولي 3/ 407 ح 1101، وابن ماجه، كتاب النكاح، باب لا نكاح إلَّا بولي 1/ 605 ح 1881، ولم يخرجه النَّسائيّ، وينظر التلخيص 3/ 156، سنن البيهقي 7/ 108. (¬2) التِّرمذيُّ 3/ 409، وابن حبان 9/ 388 ح 4077. (¬3) الحاكم 2/ 169 - 172. (¬4) الترمذي 3/ 409.

يقول: قال رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم -: "لا نكاح إلَّا بولي"؟ قال: نعم. وإسرائيل (¬1) ثبتٌ في أبي إسحاق. ثم ساق من طريق لابن مهدي قال: ما فاتني من حديث الثوري عن أبي إسحاق إلَّا لما اتكلت به على (أ) إسرائيل؛ لأنَّه كان يأتي به أتم. وأخرج ابن عدي (¬2) عن عبد الرحمن بن مهدي قال: إسرائيل في أبي إسحاق أثبت من شعبة وسفيان. وأسند الحاكم (¬3) من طريق علي بن المديني ومن طريق البُخاريّ والذهلي وغيرهم، أنهم صححوا حديث إسرائيل، ومَن تأمل ما ذكر عرف أن الذين صححوا وصله لم يستندوا في ذلك إلى كونه زيادة ثقة فقط، بل القرائن المذكورة المقتضية لترجيح رواية إسرائيل الذي وصله على غيره. الحديث فيه دلالة على اعتبار الولي في عقد النكاح، إذ الظاهر من قوله: "لا نكاح إلَّا بولي". هو نفي الصحة التي هي أقرب إلى نفي أصل النكاح الممتنع حمل اللفظ عليه الذي هو المعنى الحقيقي. والولي هم الأقرب الأقرب من العصبة دون ذوي الأرحام؛ كالخال والجد من قبل الأم، و [كذا] (ب) الإخوة من [قبل] (جـ) الأم. وقد ذهب إلى هذا الجمهور من ¬

_ (أ) زاد بعده في الأصل، جـ: أبي. (ب) ساقط من: الأصل. (جـ) ساقط من: الأصل، جـ.

العلماء، ويروى عن الحنفية أنهم من الأولياء، واحتج الأبهري بأن الذي يرث الولاء هم العصبة دون ذوي الأرحام، فكذلك عقد النكاح. [واختلفوا أيضًا في الابن ما نزل؛ فذهب العترة أن ولايته على إنكاح أمه، وأنه أقدم من الأب ما علا. وذهب الشَّافعي إلى أنَّه لا ولاية للابن؛ لأنَّه ليس بعصبة لأمه، فهو كالأخ من الأم عنده، وذهب مالك إلى أن الأب أولى من الابن. واحتج الأولون بأن النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أمر عمر بن أبي سلمة أن يزوجه إياها (¬1)، وكذا أم سليم زوجها بأبي طلحة ولدُها أنسُ بنُ مالك (¬2). وأجيب بما ذكره البيهقي من أن ابن أم سلمة كان عصبة لأمه؛ وذلك لأنَّ أم سلمة هي هند بنت أبي أميَّة بن المغيرة بن عبد الله بن مخزوم، وعمر ولدها هو ابن أبي سلمة عبد الله بن عبد الأسد بن هلال بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، وكذلك أنس بن مالك كان عصبة لأمه، وهما يجتمعان في حرام بن عدي بن النجار، وبأن ذلك كان خاصًّا بالنبي - صَلَّى الله عليه وسلم -؛ فإنَّه كان له في باب النكاح ما لم يكن لغيره. هذا كلام البيهقي، ولكنه لا يتمشى هذا الجواب في حق أنس بن مالك، وعلى ذلك جميعه إشكال، وهو أن عمر بن أبي سلمة كان صغيرًا؛ فإنَّه مات النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - وهو ابن تسع سنين، وكذلك أنس بن مالك فإن النَّبيَّ - صَلَّى الله عليه وسلم - قدم المدينة وهو ابن تسع سنين، وأبو طلحة قديم الإسلام كان ممن شهد العقبة، والصغير لا ولاية له، ولعلّه يقال في حق ابن أم سلمة: إنه لما لم يكن من عصبتها في دار الهجرة، فالولاية للنبي - صلى الله عليه وسلم -، فإذنه لعمر] (أ) ¬

_ (أ) زيادة من حاشية (ب) كتب في أعلاها علامة الإلحاق، وكتب في آخرها: صح.

[بذلك توكيل له، فيكون نائبًا عن النَّبيِّ صَلَّى الله عليه وعلى آله وسلم، ويكون ذلك دليلًا لمن يقول: إنه يجوز أن يتولى الطرفين الزوج إذا كانت الولاية له. وفي حق أنس بن مالك أنَّه إذا كان قد أسلم أحد من عصبتها فهو نائب عنه أو أجاز له العقد، والصغير المميز يصح أن يكون وكيلًا في النكاح، مع أن ذلك عند التحقيق يكون دليلًا قويًّا على أن المرأة لها أن تزوج نفسها، وإنَّما الولي لتحسين العقد وإشاعته، وتطييب لنفسه، رعاية لحق القرابة، واحتج في "البحر" لثبوت ولاية الابن وأنه أقدم من الأب، بأن الولاية في النكاح تابعة للتعصيب بالإرث، والأب معه ذو سهم. وقد يجاب عنه بأن هذا محل نزاع، ثم قال الإمام يَحْيَى ومحمد: قال - صلى الله عليه وسلم -: "لا يؤم الرجل أباه وإن كان أفقه منه" (¬1). قلنا: النكاح مبني على التعصيب بخلاف العبادة، ولكن يندب تقديمه بأن نوكله؛ لقوله - صَلَّى الله عليه وسلم -: "الكُبر الكُبر" (¬2). "ليس منا من لم يوقر الكبير" (¬3). هذا كلامه، وقد عرفت أنَّه لا جامع بين هذا وبين إمامة الصَّلاة. ثم قال في "البحر": أبو حنيفة: بل يستويان، إذ لا مزية لأحدهما، إذ ينسبان إليها بلا واسطة. قلنا: الابن مع الأب عصبة لا الأب. انتهى كلام "البحر"] (أ). واختلفوا في الوصي إذا أوصاه الأب على أولاده، هل يكون أولى من الولي القريب في عقد النكاح أو مثله أو لا ولايةَ ¬

_ (أ) زيادة من حاشية (ب) كتب في أعلاها علامة الإلحاق، وكتب في آخرها: صح.

له؟ فقال ربيعة، وأبو حنيفة، ومالك: الوصي أولى. واحتج لهم بأنَّ الوصي ناب عن الأب بعد موته، فحكمه حكم النائب في حياة الأب، فكما أنَّ نائب الأب في حال الحياة أولى من غيره، كذلك بعد الموت، ويجاب بالفرق بأن الولاية انتقلت بعد موته إلى غيره من الأولياء بخلافها حال الحياة فهي له. وقد اختلف العلماء في اشتراط الولي في النكاح، فذهب الجمهور إلى اشتراطه، وقالوا: لا تزوج المرأة نفسها أصلًا. وذكر ابن المنذر أنَّه لا يعرف عن أحد من الصّحابة خلاف ذلك. وذهب مالك إلى اعتبار الولي في حق الشريفة دون الوضيعة، فلها أن تزوج نفسها. وذهب أبو حنيفة إلى عدم اشتراط الولي مطلقًا، ولها أن تزوج نفسها، ولو بغير إذن وليها، واحتج بالقياس على البيع، فإنَّها تستقل ببيع سلعتها، وحمل الأحاديث الواردة في اشتراط الولي على الصغيرة، وخص بالقياس عمومها، والتخصيص بالقياس جائز، ويجاب عنه بأن القياس غير صحيح، إذ ثم مانع وهو الغضاضة (¬1) في حق الأولياء دون بيع سلعتها. وذهب أبو يوسف ومحمد إلى أن الولي تلزمه الإجازة في الكُفء، وله أن يختار في غير الكفء، وهو مذهب الأوزاعي. وقالت الظاهرية: يعتبر الولي في حق البكر دون الثيب؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "الثيب أولى بنفسها" (¬2). ولاستحياء البكر. والجواب عن الحديث، أن (أ) المراد ¬

_ (أ) في ب: بأن.

بكونها أولى بنفسها اعتبار رضاها؛ جمعًا بين هذا وبين حديث: "لا نكاح إلَّا بولي". وغيره، والاستحياء لا يصلح أن يكون موجبًا للحكم. وقال أبو ثور: إنَّ للمرأة أن تنكح نفسها بإذن وليها، لقوله - صلى الله عليه وسلم -، "أيما امرأة أنكحت نفسها بغير إذن وليها" (¬1). فمفهومه أن نكاحها بإذن الولي يصح، والجواب بأن المفهوم غير معمول به، لقوله - صَلَّى الله عليه وسلم - "المرأة لا تَنكح ولا تُنكح" (¬2). 804 - وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم -: "أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل، فإن دخل بها فلها المهر بما استحل من فرجها". قال: "فإن اشتجروا فالسلطان ولي من لا ولي له". أخرجه الأربعة إلَّا النَّسائيّ، وصححه أبو عوانة، وابن حبان، والحاكم (¬3). وأخرج الحديث الشَّافعي (¬4)، وابن ماجه، أخرجوه من طريق ابن جريج عن سليمان بن موسى عن الزُّهريّ عن عروة عنها، وأُعِلَّ بالإرسال، وحسنه ¬

_ (¬1) هو الحديث التالي. (¬2) الدارقطني 3/ 228 بلفظ: "لا تنكح المرأة المرأة، ولا تنكح المرأة نفسها ... ". من حديث أبي هريرة. (¬3) أبو داود، كتاب النكاح، باب في الولي 2/ 235، 236 ح 2083، والترمذي، كتاب النكاح، باب ما جاء لا نكاح إلَّا بولي 3/ 407، 408 ح 1102، وابن ماجه، كتاب النكاح، باب لا نكاح إلَّا بولي 1/ 605 ح 1879، وأبو عوانة، كتاب النكاح، باب ذكر الخبر الدال على عدم منع الولي من تزويج الثيب من رجل تريده 3/ 77 ح 4259، وابن حبان، كتاب النكاح، باب الولي 9/ 384 ح 4074، والحاكم، كتاب النكاح، باب الولي 2/ 168. (¬4) الأم 5/ 13.

التِّرمذيُّ، وقال يَحْيَى بن معين (¬1): لم يذكر هذا الحديث عن ابن جريج غير ابن علية، وسماع (أابن علية عن ابن جريج أ) ليس بذاك، ورواه الحاكم (¬2) من طريق عبد الرَّزاق عن ابن جريج: سمعت سليمان: سمعت الزُّهريّ. وعدَّ أبو القاسم مَن رواه عن ابن جريج، فبلغوا عشرين رجلًا، وذكر أنَّ معمرًا وعبيد الله بن زَحْر تابعا ابن جريج على روايته إياه عن سليمان بن موسى، وأن قرة وموسى بن عقبة ومحمد بن إسحاق وأيوب بن موسى وهشام بن سعد وجماعة تابعوا سليمان بن موسى عن الزُّهريّ. قال: ورواه أبو مالك الجنبي ونوح بن [دَرَّاج] (ب) ومندل (جـ) وجعفر بن برقان وجماعة عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة. ورواه الحاكم (¬3) من طريق أحمد عن ابن علية عن ابن جريج به، قال في آخره: قال ابن جريج: فلقيت الزُّهريّ فسألته عنه فلم يعرفه، وسألته عن سليمان بن موسى فأثنى عليه. وأعل ابن حبان (¬4)، وابن عدي (¬5)، وابن عبد البر (¬6)، والحاكم (¬7)، ¬

_ (أ - أ) في جـ: ابن جريج عن ابن علية. (ب) في الأصل، جـ: دارج. وينظر تهذيب الكمال 30/ 43. (جـ) في جـ: مبدل. وهو مندل بن علي العنزي. ينظر تهذيب الكمال 28/ 493.

وغيره، الحكاية عن ابن جريج، وأجابوا عنها على تقدير الصحة؛ فإنَّه لا يلزم من نسيان الزهري له، أن يكون سليمان بن موسى وهم عليه، وقد تكلم عليه الدارقطني (¬1) في جزء "من حدث ونسي" (أ) والخطيب بعده، وأطال الكلام عليه البيهقي في "السنن" (¬2) وفي "الخلافيات" (¬3)، وابن الجوزي (¬4) في "التحقيق". الحديث فيه دلالة على اعتبار إذن الولي في النكاح، والإذن يكون بعقده لها، أو بعقد الوكيل، وهذا مجمع عليه، كفعل النَّبيِّ - صَلَّى الله عليه وسلم - في أم حبيبة (¬5)، وميمونة (¬6)، ويصح أن يكون الوكيل مفوضًا يزوجها من شاء كما يصح من الموكل، وفي أحد وجهين للإمام يَحْيَى أنَّه لا يصح، إذ ليس كالأصل في تحري المصلحة. والجواب أنَّه قد رضي ما رضيه الأصل، وفي تفويض وكيل الزوج وجهان؛ يصح؛ لما ذكر، ولا يصح؛ لاختلاف الأغراض، وظاهر الحديث يقضي بصحة ما ذهب إليه أبو ثور كما تقدم، ولكنه مخصوص بحديث أبي هريرة الآتي. وقوله: "فإن دخل بهما" إلى آخره. فيه دلالة على أن المهر تستحقه المرأة بالدخول في النكاح الباطل، وظاهره، ولو كان مع العِلم بالبطلان، وقد ¬

_ (¬1) التلخيص 3/ 157. (¬2) البيهقي 7/ 105، 106. (¬3) التلخيص 3/ 157. (¬4) التحقيق 2/ 256. (¬5) أحمد 6/ 427، وأبو داود 2/ 241 ح 2107، والنَّسائيُّ 6/ 119، والبيهقيّ 7/ 139. (¬6) أحمد 1/ 270، 271، وأبو يعلى 4/ 364 ح 2481، والطبراني 11/ 391 ح 12093.

ذهب إليه الإمام يَحْيَى وأكثر أصحاب الشَّافعي، ولا يوجب الحد. وقال الصَّيْرفيُّ (¬1): بل يحد، إذ يصير مع العلم بتحريمه كفاعل المحرم القطعي. قال الإمام المهدي في "البحر": وهو المذهب. وفي الحديث دلالة على أن النكاح المختل فيه ركن من أركانه، أنَّه باطل مع العِلم والجهل، وأن النكاح إنَّما هو صحيح أو باطل ولا واسطة بينهما، وهو مذهب الجمهور. وذهب أبو طالب، والمؤيد، وأبو العباس، والمذاكرون من الهدوية، والفرضيون، إلى أن النكاح قد يكون فاسدًا وهو ما خالف مذهب الزوجين، أو أحدهما جاهلين، ولم تكن المخالفة في أمر مجمع عليه، وهذا القسم تترتب عليه أحكام عندهم مفصلة في الفروع. وقوله: "فإن اشتجروا" إلى آخره. الاشتجار الخصومة. والمراد به هنا منع الأولياء للعقد عليها، فإذا عضلوا انتقل الأمر إلى السلطان، وظاهره أنها لا تنتقل إلى الأبعد إذا منع الأقرب، وهو مذهب الشَّافعي، وذهب غيره إلى انتقالها إلى الأبعد، ويحملون الحديث بأن الاشتجار وقع من الأقرب والأبعد، والتأويل محتمل. وقوله: "ولي من لا ولي لي". فيه دلالة على إثبات ولاية السلطان في حال العضل وفي حال عدم الولي، وكذا في حال غيبة الولي، وهل تزويجه بالولاية أو النيابة عن الولي؟ فيه وجهان، ويؤيده حديث ابن عباس أخرجه ¬

_ (¬1) المهذب 2/ 35.

الطّبرانيّ (¬1) مرفوعًا: "لا نكاح إلَّا بولي، والسلطان ولي من لا ولي له". وفي إسناده الحجاج بن أرطاة وفيه مقال، وأخرجه سفيان في "جامعه"، ومن طريقه الطّبرانيّ في "الأوسط" (¬2) بإسناد حسن عن ابن عباس بلفظ: "لا نكاح إلَّا بولي مرشد أو سلطان". وترجم البُخاريّ (¬3): باب السلطان ولي؛ لقول النَّبيِّ - صَلَّى الله عليه وسلم -: "زوجناكها بما معك من القرآن". ولم يخرج الحديث؛ لأنَّه ليس على شرطه، وظاهر عموم الحديث أن السلطان إليه تزويج الكافرة التي لا ولي لها. قال الإمام يَحْيَى: والمراد بالسلطان في أَلْسِنَة العلماء حيث يطلقونه هو الإمام العادل المتولي لمصالح الدين، فأمَّا سلاطين الجور وأمراء الظلم، فهم لصوص سلَّابون لا تقبل شهادة أحدهم في بصلة فضلًا عن أن يحكموا في شيء من الأمور الدينية وإمضاء الأحكام الإسلامية، فإن عدم الإمام وحاكمه وكلت المرأة؛ لقوله تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} (¬4). فأثبت لكل مؤمن ولاية، والترتيب اقتضاه الإجماع. وقال أبو ثور وبعض العلماء المتقدمين: بل ينتظر وجود الإمام؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "فالسلطان". والجواب أن ذلك محمول على وجوده، ولا ينتظر؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "ثلاث لا ينبغي التأني" (¬5) الحديث. وقال الإمام يَحْيَى: بل يزوجها منصوب عند أهل النصب (¬6) أو مَن صلح عند ¬

_ (¬1) الطّبرانيّ 11/ 142 ح 11298. (¬2) الطّبرانيّ في الأوسط 1/ 166، 167 ح 521. (¬3) البُخاريّ 9/ 190. (¬4) الآية 71 من سورة التوبة. (¬5) أحمد 1/ 105 بلفظ: "ثلاثة يا علي لا تؤخرهن ... ". والترمذي 3/ 387 ح 1075. بلفظ: "يا علي ثلاث لا تؤخرها ... ". (¬6) أهل النصب: هم طائفة من الخوارج، وتسمى أيضًا النواصب والناصبية. التاج (ن ص ب).

الهادوية، ولا وكالة، وإنَّما هو تعيين من المرأة، فتعيّن من شاءت. والله أعلم. 805 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تنكح الأيم حتَّى تستأمر، ولا تنكح البكر حتَّى تستأذن". قالوا: يا رسول الله، وكيف إذنها؟ قال: "أن تسكت". متَّفقٌ عليه (¬1). قوله: "لا تنكح". روي بصيغة الخبر مرفوعًا وبصيغَة النَّهي مجزومًا، والخبر أبلغ، والأيم؛ هي الثيب التي فارقت زوجها بموت أو طلاق؛ لمقابلتها بالبكر، وهذا هو المعنى الأصلي في الأيم، ولذلك قالوا: الغزو مأيمة (¬2). لأنَّه يقتل فيه الرجال، فتصير النساء أيامَى. وقد يطلق على من لا زوج لها أصلًا، ونقله عياض عن إبراهيم الحربي وإسماعيل القاضي وغيرهما، ولو صغيرة. وحكى الماوردي القولين لأهل اللغة، وقد وقع في رواية الأوزاعي عن يَحْيَى في هذا الحديث عند ابن المنذر، والدارمي، والدارقطني (¬3): "لا تنكح الثيب". ووقع عند ابن المنذر في رواية عمر بن أبي سلمة عن أبيه في هذا الحديث: ¬

_ (أ) في حـ: "البنت".

"الثيب تشاور" (¬1). وقوله: "تستأمر". الاستئمار طلب الأمر، والمعنى: لا يعقد عليها حتَّى يطلب الأمر منها. وفيه إشعار بأن العقد من الولي عليها، فيؤخذ منه اشتراط الولي. والمطلوب من المرأة إنَّما هو الأمرُ اعتبارًا لرضاها. وقوله: "ولا تنكح البكر حتَّى تستأذن". أراد بالبكر هنا البالغة، إذ لا معنى لاستئذان الصغيرة، وأتى بالاستئذان هنا، وبالاستئمار في الأولى، للفرق بينهما، فإن الاستئمار يدل على (أتأكيد المشاورة أ) وجعلِ الأمر إلى المستأمَرة، ولهذا يحتاج الولي إلى صريح إذنها في العقد، فإذا صرحت بمنعه امتنع اتفاقًا، والبكر بخلاف ذلك، والإذن دائر بين القول والسكوت بخلاف الأمر؛ فإنَّه صريح في القول، وإنَّما جعل السكوت إذنًا في حق البكر، لأنها قد تستحيي من أن تفصح. وقوله: قالوا: يا رسول الله. جَاء في رواية: قلنا: يا رسول الله. وفي حدَّثنا عائشة (¬2) أنها السائلة؛ قلت: إن البكر تستحيي. قال: "رضاها صمتها". والحديث فيه دلالة على اعتبار رضا المزوجة (ب)، وتفصيل الإذن كما ذكر، فسكوت البكر كافٍ بعد علمها بالعقد وإن لم تعلم أن السكوت ¬

_ (أ- أ) في ب: تأكد المشورة. (ب) في ب: الزوجة.

رضًا. قال ابن المنذر (¬1): يستحب أن تعلم البكر بأن السكوت إذن، لكن لو قالت بعد العقد: ما علمت أن سكوتي إذن. لم يبطل العقد بذلك عند الجمهور، وكذا ذكر المؤيد بالله؛ لو سكتت وباطنها الكراهة، لم يضر ذلك. وكذا الثيب لو نطقت وباطنها الكراهة، لم يضر ذلك. وأبطل العقد بعض المالكية حيث قالت: لم أعلم أن السكوت رضًا. وقال ابن شعبان (¬2): يقال لها ذلك ثلاثًا، إن رضيت فاسكتي، وإن كرهْتِ فانطقي. وقال بعضهم: يطال المقام عندها لئلا تخجل، فيمنعها ذلك من المسارَعَة. واختلفوا فيما إذا لم تتكلم بل ظهرت منها قرينة السخط بالبكاء ونحوه، فعند الهدوية أن السكوت لا يكون رضًا، وكذا عند المالكية، وعند الشَّافعية، لا أثر لشيء من ذلك في المنع، إلَّا إن قرنت مع البكاء الصياح ونحوه، وفرق بعضهم بين الدمع، فإن كان حارًّا دل على المنع، وإن كان باردًا دل على الرضا، واختلفوا في الأب يزوج البكر البالغة بغير إذنها؛ فذهب العترة، وأبو حنيفة وأصحابه، والأوزاعي، والثوري، وأبو ثور إلى أنَّه لا يصح، وهو ظاهر الحديث، فإنَّه يطلق في حق الأب وغيره. وذهب ابن أبي ليلى، ومالك، والليث، والشّافعيّ، وأحمد، وإسحاق، إلى أن له إجبارها؛ لمفهوم قوله - صلى الله عليه وسلم -: "الثيب أحق بنفسها". وسيأتي (¬3)، فدل على أن البكر بخلافها، وهو أن ولي البكر أحق بها، وكذا حديث أبي موسى: "تستأمر اليتيمة في نفسها، فإن سكتت فهو ¬

_ (¬1) الفتح 9/ 192، 193. (¬2) الفتح 9/ 193. (¬3) سيأتي ح 806.

إذنها" (¬1). فعلق الحكم باليتيمة، فيقيد حديث: "ولا تنكح البكر حتَّى تستأذن". باليتيمة، ويجاب عنه بأنه صرح في حديث ابن عباس، أخرجه مسلم (¬2): "والبكر يستأذنها أبوها". فصرح بذكر الأب، فالمفهوم غير معمول به، وتأول الشَّافعي المؤامرة في حق الأب بأنها تكون لأجل استطابة النَّفس، كما في حديث ابن عمر مرفوعًا (¬3): "وآمِروا (¬4) النساء في بناتهن". قال الشَّافعي: لا خلاف أنَّه ليس للأم أمرٌ، لكنَّه على معنى استطابة النَّفس. وقال البيهقي (¬5): زيادة ذكر الأب في حديث ابن عباسٍ غير محفوظة، قال الشَّافعي: زادها ابن عيينة في حديثه، وكان ابن عمر، والقاسم، وسالم، يزوجون الأبكار لا يستأمرونهن. قال البيهقي: والمحفوظ في حديث ابن عباس: "البكر تستأمر" (¬6). ورواه صالح بن كيسان بلفظ: "واليتيمة تستأمر" (¬7). وكذلك رواه أبو بردة (1) عن أبي موسى، ومحمد بن [عمرو] (أ) عن أبي سلمة عن أبي هريرة (¬8)، فدل على أن المراد بالبكر اليتيمة. ¬

_ (أ) في النسخ: عمر. والمثبت من مصادر التخريج.

قال المصنف (¬1) رحمه الله: وهذا لا يدفع زيادة الثقة الحافظ بلفظ الأب، ولو قال قائل: بل المراد باليتيمة البكر. لم يدفع. و"تُستأمر" بضم أولى، يدخل فيه الأب وغيره، فلا تعارض بين الروايات، ويبقى النظر في أن الاستئمار هل هو شرط في صحة العقد، أو مستحب لاستطابة النَّفس كما قال الشَّافعي؟ ذلك محتمل. انتهى. وأجاب الإمام المهدي في "البحر" (¬2) عن حجة الشَّافعي بأنه - صلى الله عليه وسلم - رد نكاح بالغة شكت أن أباها أجبرها، والحديث أن جارية بكرًا أتت النَّبيَّ - صَلَّى الله عليه وسلم -، فذكرت أن أباها زوجها وهي كارهة، فخيرها النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - (¬3). ورجاله ثقات، وأعل بالإرسال، وبتفرد جرير بن حازم عن أيوب، وتفرد حسين - (أيعني ابن محمد الآتي ذكره أ) - عن جرير، وأجيب بأن أيوب بن سويد رواه عن الثوري عن أيوب موصولًا (¬4)، وكذلك رواه معمر بن سليمان الرقي عن زيد بن حبان عن أيوب موصولًا (¬5)، وإذا اختلف في وصل الحديث وإرساله حكم لمن وصله على طريقة الفقهاء، وعن الثَّاني بأنَّ جريرًا توبع عن أيوب كما ترى. وعن الثالث، بأن [سليمان] (ب) بن حرب تابع حسين بن محمد عن جرير، ¬

_ (أ - أ) ساقط من: ب، جـ. (ب) في الأصل، جـ: سلمان. وينظر تاريخ بغداد 8/ 89.

وأجاب البيهقي (¬1) عن ذلك بأنه محمول على أنَّه زوجها من غير كفء. والله أعلم. قال المصنف (¬2) رحمه الله: جواب البيهقي (أ) هو المعتمد، فإنَّها واقعة عين فلا يثبت الحكم فيها تعميمًا، وأمَّا الطعن في الحديث، فلا معنى له، فإن طرقه يقوي بعضها ببعض، وفي الباب عن جابر وابن عمر وعائشة (¬3). وبوب البُخاريّ (¬4): إذا زوج ابنته وهي كارهة، فنكاحه مردود. وذكر فيه حديث خنساء بنت خدام، [بفتح] (ب) المعجمة بعدها نون ومهملة ممدود، وقد روي خناس بوزن فلان، وخدام بكسر المعجمة بعدها [دال مهملة] (جـ)، ولكن في روايته أنها كانت ثيبًا (د)، والثيب (هـ) مجمع على اعتبار رضاها إلَّا مَا روي عن الحسن (¬5) أنَّه أجاز إجبار الأب للثيب. وعن النَّخعيِّ (¬6): إن كانت في عياله جاز وإلا رد. واختلفوا إذا وقع بغير رضاها، فقالت الحنفية ¬

_ (أ) بعده في ب: هذا. (ب) في النسخ: بكسر. وقد نص الحافظ في الفتح 9/ 195 أنها بوزن حمراء. (جـ) في النسخ: ذال معجمة. والمثبت من الفتح 9/ 195. (د) في جـ: بنتا. (هـ) في جـ: والبنت.

والهدوية: إن أجازته جاز. وعن المالكية: إن أجازته عن قرب جاز، وإلا فلا. ورده الباقون مطلقًا. 806 - وعن ابن عباس رضي الله عنه، أن النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "الثيب أحق بنفسها من وَليها، والبكر تستأمر، وإذنها سكوتها". رواه مسلم (¬1). وفي لفظ: "ليس للولي مع الثيب أمر، واليتيمة تستأمر". رواه أبو داود والنَّسائيُّ، وصححه ابن حبان (¬2). الحديث الأخير: "ليس للولي" إلى آخره. رواته ثقات، أخرجه ابن حبان من حديث معمر عن صالح بن كيسان عن نافع (أ) بن جبير عن ابن عباس، [وقال] (ب) أبو الفتح القشيري: ويقال: إن معمرًا أخطأ فيه. يعني أن صالحًا إنَّما حمله عن عبد الله بن الفضل عن ابن (جـ) جبير، وهو قول الدارقطني (¬3). قوله: "واليتيمة تستأمر". اليتيم في الشرع؛ الصَّغير الذي لا أب له، ¬

_ (أ) زاد بعده في النسخ: عن. والصّواب حذفها كما في مصادر التخريج. وينظر تهذيب الكمال 29/ 272. (ب) في التلخيص 3/ 161: قاله. (جـ) في جـ: ابن أبي.

فظاهر الحديث أن اليتيمة يصح أن يزوجها الأولياء، وهو ظاهر قوله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى} (¬1) الآية. وما ذكر في سبب نزولها من أنَّه يكون في حجر الولي يتيمة وليس له رغبة في نكاحها، وإنَّما يرغب في مالها فيتزوجها لذلك، فنهوا، وكذا قوله تعالى: {وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ} (¬2) الآية. وترجم البُخاريّ (¬3) ذلك، وقال: باب تزويج اليتيمة. وقد ذهب إلى هذا زيد بن علي والهدوية وأبو حنيفة وأصحابه، وذهب مالك إلى أن الصغيرة لا يزوجها إلَّا الوصي، وكأنه نظر إلى أن الوصي قائم مقام الأب فله حكمه، وذهب الناصر والشّافعيّ إلى أن الصغيرة لا يزوجها إلَّا الأب؛ محتجين بقوله: "واليتيمة تستأمر". قالوا (أ): والاستئمار لا يكون إلَّا بعد البلوغ، إذ لا فائدة [في استئمار] (ب) الصغيرة، فكان ذلك قرينة على أن المراد باليتيمة فاقدة الأب وقد بلغت، لأنَّه قد يطلق اليتيم على من فقد أحد أبويه وإن بلغ، والمراد أن اليتيمة تترك حتَّى تستأمر ولا يكون استئمارها إلَّا بعد البلوغ. ومَن أجاز تزويج الصغيرة بغير الأب يثبت لها الخيار متى بلغت ولو كان جدًّا، وذهب الناصر، والمؤيد بالله، والفريقان، إلى أنَّه كالأب فلا خيار لها؛ لقوله تعالى: {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} (¬4). فسمى الجد أبًا. والجواب بأنه ¬

_ (أ) ساقط من: جـ. (ب) في الأصل: لاستئمار.

مجاز. وثبوت الخيار لها عند الهدوية وأبي حنيفة، ومحمد، والمؤيد بالله؛ قالوا: قياسًا على الأمة، فإنَّها تخير إذا أعتقت وهي مزوجة، والجامع بينهما حدوث ملك التصرف. وذهب أبو يوسف إلى أنَّه لا خيار لها؛ كمن زوجها أبوها. قال ابن رشد في "نهاية المجتهد" (¬1): سبب الاختلاف في إنكاح الصغيرة لغير الأب، قياس غير الأب في ذلك على الأب، فمن رأى أن الاجتهاد الموجود فيه الذي جاز للأب بسببه أن يزوج الصغيرة لا يوجد في غير الأب (ب)، لم يجز ذلك، ومن رأى أنَّه يوجد فيه أجاز ذلك، ومن فرق بين الصَّغير في ذلك والصغيرة، فلان الرجل يملك الطلاق إذا بلغ ولا تملكه المرأة، ولذلك جعل أبو حنيفة لهما الخيار إذا بلغا. انتهى. وأعلم أن نكاح الأب لأولاده الصغار مجمع عليه، وترجم على ذلك البُخاريّ (¬2) بباب: نكاح الرجل ولده الصغار، ضبط بضم الواو وسكون اللام بصيغة الجمع وبفتحهما بصيغة الجنس، يشمل الذكر والأنثى، واحتج عليه بقوله تعالى: {وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ} (¬3). فجعل عدتها ثلاثة أشهر قبل البلوغ؛ أي يدل على أن النكاح قبل البلوغ جائز، وهو استنباط حسن، ولكن ذلك لا يختص بالأب إلَّا أن يقال: قد بَيَّن أن المراد ¬

_ (أ) بهامش ب: أي لأجل أنَّه قد لا يوجد في غير الأب ما يوجد في الأم من الأب في رعاية المصلحة.

بما (أ) في الآية الكريمة هو من زوجها الأب تَزْويج عائشة رضي الله عنها، والأصل في الأبضاع التحريم إلَّا ما دل عليه النص، فاقتصر على المنصوص عليه. قال المهلب (¬1): أجمعوا على أنَّه يجوز للأب تزويج ابنته الصغيرة البكر، ولو كانت لا يوطأ مثلها، إلَّا أن الطحاوي حكى عن ابن شبرمة منعه فيمن لا توطأ. وحكاه ابن حزم (¬2) عن ابن شبرمة مطلقًا أن الأب لا يزوج بنته البكر الصغيرة حتَّى تبلغ وتأذن، وزعم أن تزوج النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - عائشة وهي بنت ست سنين (¬3) كان من خصائصه، والله أعلم. 807 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم -: "لا تزوج المرأة المرأة، ولا تزوج المرأة نفسها". رواه ابن ماجه والدارقطني ورجاله ثقات (¬4). وأخرج الحديث البيهقي (¬5). وفي قوله: "لا تزوج المرأة المرأة". دلالة على أن المرأة لا يثبت لها ولاية في النكاح، وقد ذهب إلى هذا الجمهور، وذهبت الحنفية إلى ثبوت ¬

_ (أ) ساقطة من: ب.

الولاية للنساء بعد العصبة. قال في "كنز الدقائق" (¬1): وإن لم يكن عصبة، فالولاية للأم، ثم الأخت لأب وأم، ثم لأب (أ)، ثم ولد الأم، ثم لذوي الأرحام، ثم للحاكم. انتهى. والحديث هذا يرد عليهم، وقد يستأنس (ب) لهم في حق الأم بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "استأمروا النساء في بناتهن" (¬2). فالاستئمار يدل على ثبوت الحق لهن في ذلك، والجمهور حملوا الأمر على الندب، وأن الغرض من ذلك إنَّما هو تطييب لنفس الأم لما لها من الاتصال بابنتها. وقوله: "ولا تزوج المرأة نفسها". فيه دلالة على عدم أهلية المرأة لإنكاحها نفسها. وقد تقدم بعض من ذلك، وقد اختلف العلماء في ذلك. قال في "نهاية المجتهد" (¬3): اختلف العلماء هل الولاية شرط من شروط صحة النكاح أم ليست بشرط؟ فذهب مالك إلى (جـ) أنَّه لا يكون نكاح إلَّا بولي، وأنها شرط في الصحة في رواية أشهب عنه، وبه قال الشَّافعي، وقال أبو حنيفة، وزُفر، والشعبي، والزهري: إذا عقدت المرأة نكاحها بغير ولي وكان كفئًا جاز. وفرق داود بين البكر والثيب، فقال باشتراط الولي في البكر وعدم اشتراطه في الثيب، ويتخرج على رواية ابن القاسم عن مالك في الولاية قول رابع؛ أن اشتراطها سنة لا فرض؛ وذلك أنَّه روي عنه أنَّه كان ¬

_ (أ) في جـ: الأب. (ب) في جـ: يستأمر. (جـ) في جـ: على.

يرى الميراث بين الزوجين بغير ولي، وأنه يجوز للمرأة غير الشريفة أن تستخلف رجلًا من النَّاس على نكاحها، فكأنه عنده مِن شروط التمام لا مِن شروط الصحة، بخلاف عبارة البغداديين مِن أصحاب مالك، أعني أنهم يقولون: إنَّها من شروط الصحة لا من شروط التمام. وسبب الاختلاف؛ أنَّه لم تأت آية ولا سنة ظاهرة في اشتراط الولاية في النكاح فضلًا عن أن يكون في ذلك نصٌّ، بل الآيات (أ) والسنن التي جرت العادة بالاحتجاج بها عند من يشترطها هي كلها محتملة في ذلك، وإن كان المسقط لها ليس عليه دليل؛ لأنَّ الأصل براءة الذمة، ونحن نورد ما احتج به الفريقان، ونبين وجه الاحتمال في ذلك، فمن أظهر ما يحتج به من الكتاب في اشتراط الولاية قوله تعالى: [{وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ] (ب) أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ} (¬1). قالوا: وهذا خطاب للأولياء، ولو لم يكن لهم حق في الولاية لما نهوا عن العضل. وقوله تعالى: {وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا} (¬2). وهذا أيضًا خطاب للأولياء، ومن أشهر ما احتج به هؤلاء من الأحاديث ما رواه الزُّهريّ عن عروة عن عائشة قالت: قال رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم -: "أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل، ثلاث مرات، وإن دخل بها فلها المهر بما أصاب منها، فإن اشتجروا فالسلطان ولي مَن لا ولي لها". ¬

_ (أ) في جـ: الآثار. (ب) في النسخ، وبداية المجتهد: فإذا بلغن. والمثبت صواب التلاوة.

أخرجه التِّرمذيُّ (¬1) وقال فيه: حديث حسن. وأمَّا ما احتج به من لم يشترط الولاية مِن الكتاب والسنة فقوله تعالى: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} (¬2). قالوا: وهذا دليل على جواز تصرفها في العقد على نفسها. قالوا: وقد أضاف إليهن (أ) في غير ما آية من الكتاب الفعل، فقال: {أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ} (¬3). وقال تعالى: {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} (¬4). وأمَّا من السُّنَّة، فاحتجوا بحديث ابن عباس المتفق على صحته، وهو قوله - صلى الله عليه وسلم -: "الأيم أحق بنفسها من وليها، والبكر تستأمر في نفسها، وإذنها صماتها" (¬5). وبهذا الحديث احتج داود في الفرق عنده بين الثيب والبكر في هذا المعنى. فهذا مشهور ما احتج به الفريقان من السماع. فأمَّا قوله تعالى: [{وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ] (ب) أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ}. فليس فيه أكثر من نهي قرابة المرأة وعصبتها عن (جـ) أن يمنعوها النكاح، وليس نهيهم عن العضل ممَّا يفهم منه اشتراط إذنهم في صحة العقد لا حقيقة ولا مجازًا، أعني بوجه من وجوه أدلة الخطاب الظاهرة أو النص، بل قد يمكن أن يفهم منه ضد ¬

_ (أ) في جـ: النَّهي. (ب) في النسخ، وبداية المجتهد: فإذا بلغن. (جـ) ساقط من: ب. وفي جـ: علي.

هذا، وهو أن الأولياء ليس لهم سبيل على من يلونهم، وكذلك قوله تعالى: {وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا} (¬1). هو أن يكون خطابًا لأولي الأمر من المسلمين أو لجميع المسلمين أحرى منه أن يكون خطابًا للأولياء، وبالجملة فهو متردد بين أن يكون خطابًا للأولياء أو لأولي الأمر. فإن قيل: هذا عام، والعموم يشتمل ذوي الأمر [و] (أ) الأولياء. قيل: هذا الخطاب إنَّما هو خطاب بالمنع، والمنع بالشرع، فيستوي فيه الأولياء وغيرهم، وكون الولي مَأمورًا بالمنع بالشرع لا يوجب له ولاية خاصة في الإذن، (ب أصلًا كالأجنبي ب). ولو قلنا: إنه خطاب للأولياء يوجب اشتراط إذنهم في صحة النكاح. لكان مجملًا لا يصح به عمل؛ لأنَّه ليس فيها ذكر أصناف الأولياء ولا صفاتهم ولا مراتبهم، والبيان لا يجوز تأخيره عن وقت الحاجة، ولو كان في هذا كله شرع معروف لنقل تواترًا أو قريبًا من التواتر؛ لأنَّ هذا ممَّا تعم به البلوى، ومعلوم أنَّه كان في المدينة مَن لا ولي لها، ولم ينقل عنه - صَلَّى الله عليه وسلم - أنَّه كان يعقد أنكحتهم، ولا نصب لذلك من يعقده، وأيضًا فإن المقصود من الولاية ليس هو حكم الولاية، وإنَّما المقصود منها تحريم نكاح المشركين والمشركات، وهذا ظاهر، والله أعلم. وأمَّا حديث عائشة (¬2)، فهو حديث مختلف في وجوب العمل به، والأظهر أن مَا ليس يتفق على صحته، أنَّه لا يجب العمل به، وأيضًا فإن ¬

_ (أ) في الأصل، جـ: ومن. (ب- ب) في جـ، وبداية المجتهد: أصله الأجنبي.

سلمنا صحة الحديث فليس فيه إلَّا اشتراط إذن الولي لمن لها ولي، أعني المولَّى عليها. وإن سلمنا أنَّه عام في كل امرأة فليس فيه أن المرأة لا تعقد على نفسها، أعني أن تكون هي التي تولت العقد، بل الأظهر منه أنَّه إذا أذن لها (¬1) جاز أن تعقد على نفسها. وأمَّا مَا احتج به الفريق الآخر من قوله تعالى: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ}. فإن المفهوم منه النَّهي عن التثريب عليهن فيما استبددن بفعله دون أوليائهن، وليس ها هنا شيء يمكن أن تستبد به المرأة دون الولي إلَّا عقد النكاح، فظاهر هذه الآية، والله أعلم، أن لها أن تعقد النكاح، وللأولياء الفسخ إذا لم يكن بالمعروف، وهو الظاهر من الشرع، وأمَّا إضافة النكاح إليهن، فليس فيه دليل على اختصاصهن بالعقد، لكن الأصل هو الاختصاص، إلَّا أن يقوم الدليل على غير ذلك. وأمَّا حديث ابن عباس (¬2) فهو لَعمرى ظاهر في الفرق بين الثيب والبكر؛ لأنَّه إذا كان كل واحدة منهما يستأذن ويتولى العقد عليها الولي، فبماذا؟ ليت شعري تكون الأيم أحق بنفسها من وليها، والاحتجاج بقوله تعالى: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ}. وهو أظهر في أن المرأة تلي العقد مِن الاحتجاج بقوله تعالى: {وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا}. على أن الولي هو الذي يلي العقد. وقد ضعفت الحنفية حديث عائشة، وذلك أنَّه حديث رواه جماعة عن ابن جريج عن الزُّهريّ، وحكى ابن علية عن ابن جريج أنَّه سأل الزُّهريّ عنه، فلم يعرفه. قالوا: والدليل على ¬

_ (¬1) أي: الولي. (¬2) تقدم تخريجه ص 79.

ذلك أن الزُّهريّ لا يشترط الولاية. وقد احتجوا أيضًا بحديث ابن عباس أنَّه قال: "لا نكاح إلَّا بولي وشاهدي عدل" (¬1). ولكنه مختلف في رفعه. وأمَّا احتجاج الفريقين من جهة المعاني فمحتمل؛ وذلك أنَّه يمكن أن يقال: إن الرشد إذا وُجِدَ في المرأة اكتفى به في عقد النكاح، كما يكتفى به في التصرف في المال، وشبهه أن يقال: إن المرأة مائلة الطبع إلى الرجال أكثر منها إلى تدبير الأموال، فاحتاط الشرع بأن جعلها محجورة في هذا المعنى على التأبيد، مع أن ما يلحقها من العار في إلقاء نفسها في غير موضع كفاءة يتطرق إلى أوليائها، لكن يكفي في ذلك أن يكون للأولياء الفسخ والحسبة، والمسألة كما ترى محتملة، لكن الذي يغلب على الظن أنَّه لو قصد الشارع اشتراط الولاية لبين جنس الأولياء وأصنافهم ومراتبهم، فإن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز، فإذا كان لا يجوز عليه فييه تأخير البيان عن وقت الحاجة، وكان عموم البلوى في هذه المسألة يقتضي أن ينقل اشتراط الولاية عنه تواترًا أو قريبًا (أ) من التواتر، فقد يجب أن يعتقد أحد أمرين؛ إما أنه ليست الولاية شرطًا في صحة النكاح وإنَّما للأولياء الحسبة في ذلك، وأمَّا إن كانت شرطًا فليس من شرط صحتها تمييز أصناف الأولياء وصفاتهم؛ ولذلك يضعف قول من يبطل عقد الولي الأبعد مع وجود الأقرب. انتهى. وهذا الكلام الذي ذكره في "غاية التحقيق ونهاية ¬

_ (أ) في ب: قريب.

التدقيق"، والله أعلم، وقد روي عن عائشة أيضًا أن النكاح يصح بغير ولي. رواه الطحاوي والبيهقيّ (¬1). وروى البيهقي (¬2) عن علي رضي الله عنه، أنَّه أجاز النكاح بغير ولي بعد الدخول بالمرأة، في قصة جرت، ولم يذكر المصنف رحمه الله، الوارد في اعتبار الشهادة. وقد أخرج في "زوائد المسند" (¬3) عن عمران بن حصين عن النَّبيِّ - صَلَّى الله عليه وسلم - قال: "لا نكاح إلَّا بولي وشاهدي عدل". وعن عائشة مرفوعًا مثله بزيادة: "فإن تشاجروا فالسلطان ولي من لا ولي له". رواه الدارقطني (¬4)، ولمالك في "الموطأ" (¬5) عن أبي الزُّبير المكيِّ أن عمر بن الخطاب أتي بنكاح لم يشهد عليه إلَّا رجلٌ وامرأة، فقال: هذا نكاح السر، ولا أجيزه، ولو كنت تقدمت فيه لرجمت. وعن ابن عباس رضي الله عنه: "لا نكاح إلَّا بشاهدي عدل وولي مرشد" (¬6). ولا مخالف له من الصّحابة. أخرجه الدارقطني (¬7) وذكر أن في سنده مجاهيل، وقد ذهب إلى اعتبار الشهادة علي، وعمر، وابن عباس، والعِترة، والحسن البصري، والنخعي، والشعبي، وابن المسيب، والشّافعيّ، وأبو حنيفة، وأحمد. وذهب ابن عمر، وابن الزُّبير، وعبد الرحمن بن مهدي، وداود، ¬

_ (¬1) شرح معاني الآثار 3/ 8، والبيهقيّ 7/ 112، 113. (¬2) البيهقي 7/ 112. (¬3) لم أقف عليه في المسند، وعزاه صاحب منتقى الأخبار في شرح نيل الأوطار 6/ 150، والحافظ في التلخيص 3/ 156، كلاهما إلى أحمد، والحديث أخرجه عبد الرَّزاق 6/ 196 ح 10473. (¬4) الدارقطني 3/ 225، 226. (¬5) الموطأ 2/ 535. (¬6) الشَّافعي في الأم 5/ 22. (¬7) الدارقطني 3/ 221، 222 بنحوه.

إلى أن الشهادة لا تعتبر كشراء الأمة للوطء. وقال في "نهاية المجتهد" (¬1): اتفقوا، أعني أبا حنيفة والشّافعيّ ومالكًا على أن الشهادة من شروط النكاح، واختلفوا هل هي شَرط تمام يؤمر به عند الدخول أو شرط صحة يؤمر به عند العقد؟ واتفقوا على أنَّه لا يجوز نكاح السر، واختلفوا إذا شهد شاهدان ووصيا بالكتمان؛ هل هو سر أم ليس بسر؟ فقال مالك: هو سر ويفسخ. وقال أبو حنيفة، والشافعي: ليس بسر. وسبب اختلافهم، هل الشهادة في ذلك حكم شرعي أم (أ) إنَّما المقصود منها سد ذريعة الاختلاف والإنكار؟ فمن قال: حكم شرعي. قال: هي من شروط الصحة. ومن قال: توثيق. قال: من شروط التمام. ثم ذكر حديث ابن عباس حجة القائل باعتباره، ثم قال: وأبو حنيفة ينعقد النكاح عنده بشهادة فاسقين؛ لأنَّ المقصود عنده بالشهادة هو الإعلان فقط. والشّافعيّ يرى أن الشهادة تتضمن المعنيين، أعني الإعلان والقبول، ولذلك اشترط فيها العدالة، وأمَّا مالك فليس يتضمن عنده الإعلان إذا أوصى الشاهدان بالكتمان، وسبب اختلافهم؛ هل ما يقع فيه الشهادة (ب) ينطلق عليه اسم السر أم لا؟ والأصل في اشتراط الإعلان قول النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: "أعلنوا هذا النكاح" الحديث (¬2). وقول عمر رضي الله عنه فيه: هذا نكاح السر، ولو تقدمت فيه لرجمت. ¬

_ (أ) زاد بعده في جـ: لا. (ب) ساقط من: ب.

وقد روي عن الحسين بن علي رضي الله عنه أنَّه تزوج بغير شهادة ثم أعلن النكاح. انتهى. 808 - وعن نافع عن ابن عمر رضي الله عنه قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الشِّغار، والشِّغار أن يزوج الرجل ابنته على أن يزوجه الآخر ابنته وليس بينهما صداق. متفق عليه (¬1). واتفقا من وجه آخر (أ) على أن تفسير الشِّغار من كلام نافعٌ (¬2). هو أبو عبد الله نافع بن سَرْجِس، بفتح السِّين المهملة الأولى وسكون الراء وكسر الجيم، مولى عبد الله بن عمر بن الخطاب، كان دَيْلميًّا (¬3)، من كبار التّابعين المدنيين، سمع ابن عمر، وأبا سعيد الخُدري. روى عنه الزُّهريّ، وأيوب السَّختياني، وعبد الله بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب، ومالك بن أنس. وهو من المشهورين بالحديث، ومن الثقات الذين يؤخذ عنهم ويجمع حديثهم ويعمل به، ومعظم حديث ابن عمر مروي عنه. قال مالك: كنت إذا سمعت حديث نافع عن ابن عمر، لا ¬

_ (أ) ساقط من: ب، جـ.

أبالي ألَّا أسمعه من أحد. مات سنة سبع عشرة ومائة (أ). وقيل: سنة عشرين. الشِّغار بمعجمتين مكسور الأول، أصله في اللغة الرفع (¬1)، يقال: شغر الكلب. إذا رفع رجله ليبول، كأنه قال: لا ترفع رجل بنتي حتَّى أرفع رجل بنتك. وقيل: هو من شغر البلد، إذا خلا، لخلوه عن الصداق. ويقال: شغرت المرأة. إذا رفعت رجلها عند الجماع. وقال ابن قتيبة (¬2): كل واحد منهما يشغر عند الجماع. وكان من نكاح الجاهلية. وقوله: نهى عن الشغار. المراد به نهى عن نكاح الشغار، بتقدير المضاف، وقد صرح به في رواية ابن وهب عن مالك، ذكره ابن عبد البر (¬3). وقوله: والشغار. إلى آخره. قال ابن عبد البر (3): ذكر تفسير الشغار جميع رواة مالك عنه. وأمَّا أبو داود (¬4) فاختصر الرّواية عن القعنبي، وكذا التِّرمذيّ (¬5)، أخرجه من طريق معن بن عيسى، واختصر التفسير، ويدل على ذلك أن النَّسائيّ (¬6) أخرجه من طريق معن بالتفسير، وكذا الخطيب (¬7) ¬

_ (أ) ساقط من: جـ.

أخرجه من طريق القعنبي بالتفسير. وقد اختلفت الرواة عن مالك فيمن ينسب إليه التفسير، والأكثر لم ينسبوه لأحد، ولهذا قال الشَّافعي، فيما حكاه البيهقي في "المعرفة" (¬1): لا أدري؛ التفسير عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، أو عن ابن عمر، أو عن نافع، أو عن مالك؟ ونسبه محرز بن عون وغيره إلى مالك. قال الخطيب (¬2): تفسير الشغار ليس من كلام النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وإنَّما هو قول مالك وصل بالمتن المرفوع، وقد بين ذلك ابن مهدي والقعنبي ومحرز بن عون، ثم ساقه عنهم كذلك، ورواية محرز بن عون عند الإسماعيلي والدارقطني (¬3) في "الموطآت". وأخرجه الدارقطني (3) أيضًا من طريق خالد بن مخلد عن مالك، قال: سمعت أن الشِّغار أن يزوج الرجل ... إلى آخره. وهذا دالٌّ على أن التفسيرين منقول مالك لا من مقوله، وصرح البُخاريّ (¬4) في كتاب ترك الحيل عن نافع في هذا الحديث؛ تفسير الشغار مِنْ قول نافع ولفظه. قال عبيد الله: قلت لنافع: ما الشغار؟ فذكره. فلعل مالكًا أيضًا حمله عن نافع، وقال أبو الوليد الباجي: الظاهر أنَّه مِن جملة الحديث، وعليه يحمل، حتَّى يتبين أنَّه من قول الراوي وهو نافع. وقال المصنف (¬5) رحمه الله: قد تبيّن ذلك، ولكن لا يلزم من كونه لم يرفعه ألا يكون في نفس الأمر مرفوعًا، فقد ثبت ذلك من غير روايته، فعند مسلم (¬6) ¬

_ (¬1) معرفة السنن والآثار 5/ 338. (¬2) المدرج 1/ 385، 386. (¬3) الفتح 9/ 162. (¬4) البُخاريّ 12/ 333 ح 6960. (¬5) الفتح 9/ 162. (¬6) مسلم 2/ 1035 (1416/ 61).

من رواية أبي أسامة وابن نمير عن (أعبيد الله أ) بن عمر أيضًا عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة، مثله سواء. قال: وزاد ابن نمير: والشغار أن يقول الرجل للرجل: زوجني ابنتك وأزوجك ابنتي. أو: زوِّجني أختك وأزوجك أختي. وهذا يحتمل أن يكون تلقاه عن أبي الزناد، ويؤيّد الاحتمال الثَّاني وُروده في حديث أنس وجابر وغيرهما أيضًا، فأخرج عبد الرَّزاق (¬1) عن معمر عن ثابت وأبان عن أنس مرفوعًا: "لا شغار في الإسلام". والشغار أن يزوج الرجل الرجل (ب) أخته بأخته. وروى البيهقي (¬2) من طريق نافع بن يزيد عن ابن جريج عن أبي الزُّبير عن جابر مرفوعًا نَهى [النبي - صَلَّى الله عليه وسلم -] (جـ) عن الشغار. والشغار أن ينكح هذه بهذه بغير صداق؛ بُضع (د) هذه صداق هذه، وبُضع (د) هذه صداق هذه. وأخرج أبو الشَّيخ (¬3) في كتاب النكاح من حديث أبي ريحانة أن النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - نهى عن المشاغرة. والمشاغرة أن يقول: زوج هذا من هذه، وهذه من هذا، بلا مهر. قال القرطبي (¬4): تفسير الشغار صحيح، موافق لما ذكره أهل اللغة، فإن كان مرفوعًا فهو المقصود، وإن كان ¬

_ (أ- أ) في جـ: عبد الله. (ب) ساقطة من: ب. (جـ) ساقط من النسخ، والمثبت من مصدر التخريج. (د) في الأصل، ب: يضع.

من قول الصحابي فمقبول أيضًا؛ لأنَّه أعلم بالمقال وأقعد بالحال. انتهى. وفي "الطّبرانيّ" (¬1) من حديث أُبي بن كعب مرفوعًا: "لا شغار". قالوا: يا رسول الله، وما الشغار؟ قال: "نكاح المرأة بالمرأة لا صداق بينهما". وإسناده وإن كان ضعيفًا، لكن يُستأنس به في هذا القام. اختلف الفقهاء في نكاح الشغار، هل هو باطل أو غير باطل؟ فذهب العِترة والشّافعيّ ومالك إلى أنَّه باطل، للنهي الوارد فيه، والنهي يقتضي بطلان المنهي عنه، واختلفوا في العلة المقتضية للبطلان، فذهب المؤيد بالله وأبو طالب إلى أن العلة كون البضع صار ملكًا للأخرى، وذهب إليه أكثر الشَّافعية، قالوا: لأنَّه يصير البضع مشتركًا بين الزوج والأخرى، وجعل كل واحدة مهرًا للأخرى، وهي لا تنتفع به، فلم يرجع إليها المهر، بل عاد المهر إلى الولي، وهو ملكه لبعض بضع زوجته بتمليكه (أ) لبضع موليته، وهذا ظلم بكل واحدة من المرأتين، وإخلاء لنكاحها عن مهر ينتفع به. وقال القفال (¬2): العلة في البطلان التعليق والتوقيف، وكأنه يقول: لا ينعقد لك نكاح بنتي حتَّى ينعقد لي نكاح بنتك. وقال الخطابي (¬3): كان ابن أبي هريرة يشبهه برجل تزوج امرأة ويستثني عضوًا من أعضائها، وهو ممَّا لا خلاف في ¬

_ (أ) في ب، جـ: فتمليكه.

فساده، وتقرير ذلك أنَّه يزوج وليته ويستثني بضعها حيث يجعله للأخرى صداقًا. وقال مالك: العلة خلو العقد عن المهر. ونقله الخرقي (أ) (¬1) عن نص (ب) أحمد بن حنبل، وكذا ابن دقيق العيد (¬2). وقال الإمام يَحْيَى: بل العلة مجموع الاشتراك في البضع والخلو عن الهر. وحديث الباب يؤيد قول مالك وأحمد بقوله: لا صداق بينهما. فإنَّه يشعر بأن جهة الفساد ذلك، وإن كان يحتمل أن يكون ذلك ذكر لملازمته لجهة الفساد. وقال ابن دقيق العيد (¬3): وعلى الجملة ففيه شعور بأن عدم الصداق له مدخل في النَّهي. وحديث أبي ريحانة يؤيده، ويتفرع على الخلاف ما إذا ذكر مهر لكل واحدة منهما أو لأحدهما، هل يخرج عن الشغار أو لا؟ فعلى من يقول: إن العلة المجموع أو عدم ذكر المهر وحده. يصح النكاح ولا يكون شغارًا، ومن جعل العلة الاشتراك في البضع، هو شغار منهي عنه. واختُلف على أصل الشَّافعي فيما إذا لم يصرحا بالبضع، فالأصح عند الشَّافعية الصحة، ونصَّ الشَّافعي على خلافه، ولفظه: إذا زوج الرجل ابنته أو المرأة يلي أمرها من كانت لآخر على أن صداق كل واحدة [بضع] (جـ) الأخرى، أو على أن ينكحه الأخرى، ولم يُسمِّ أحد منهما لواحدة منهما صداقًا، فهذا الشغار ¬

_ (أ) في الأصل، جـ: الحربي. (ب) ساقطة من: ب. (جـ) في الأصل: وضع.

الذي نهى عنه رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم -، وهو [مفسوخ] (أ). هكذا ساقه البيهقي (¬1) بإسناده الصَّحيح عن الشَّافعي، [قال (¬2)] (ب): وهو الموافق للتفسير المنقول في الحديث، واختلف نَصُّ الشَّافعي فيما إذا سمَّى مع ذلك مهرًا، فنص في "الإملاء" (¬3) على البطلان، وظاهر نصه في "المختصر" (3) الصحة؛ وعلى ذلك اقتصر في النقل عن الشَّافعي من ينقل الخلاف من أهل مذهبه، وذهب الحنفية والزهري ومكحول والثوري والليث، ورواية عن أحمد وإسحاق وأبي ثور، أن النكاح صحيح، ويلغو ما ذكر فيه. قالوا: لعموم قوله تعالى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} (¬4). ولم يُفَصِّلْ. قال الإمام الهدي في "البحر": قلنا: النَّهي اقتضى قبحه فلا صحة. انتهى. وقد يجاب من طرق الحنفية بأن النَّهي وإن اقتضى القبح فلا يلزم منه الفساد، بل النَّهي يدل على الصحة عندهم، ورواية عن (جـ) مالك، أنَّه يفسخ عقد الشغار قبل الدخول لا بعده. وحكاه ابن المنذر عن الأوزاعي، وقد يجاب عنه بما قاله الشَّافعي (¬5) رحمه الله: إن النساء محرمات -[لعمومِ] (د) قوله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} (¬6) - إلَّا ما أحل الله، من النكاح و (هـ) ملك يمين، فإذا ورد ¬

_ (أ) في النسخ والفتح: منسوخ. والمثبت من مصدر التخريج. (ب) ساقط من النسخ. والمثبت من الفتح. وينظر معرفة السنن والآثار 5/ 340. (جـ) ساقط من: جـ. (د) في ب، جـ: لعموم. (هـ) في ب والفتح: أو.

النَّهي عن نكاح تأكد التحريم، والمراد (أ) أنَّه لا يباح إلَّا بالنكاح الذي لا نهي عنه، وما نهي عنه رجع إلى ذلك الأصل، وهذا وجه قوي. والله أعلم. واعلم أنَّه ذكر في (ب لحديث لفظ ب) البنت، وفي رواية: الأخت. قال النووي (¬1): أجمعوا على أن غير البنات من الأخوات وبنات الأخ وغيرهن، كالبنات في ذلك. قال ابن القيِّم في "الهدي النبوي" (¬2): والذي يجيء على أصل أحمد أنهم متى عقدوا على ذلك، وإن لم يقولوه بألسنتهم، أنَّه لا يصح؛ لأنَّ المقصود في العقود معتبر، والمشروط عرفًا كالمشروط لفظًا؛ فيبطل العقد بشرط ذلك والتواطؤ عليه ونيته. والله أعلم. 809 - وعن ابن عباس رضي الله عنه أن جارية بكرًا أتت النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، فذكرت أن أباها زوجها وهي كارهة، فخيرها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه، وأعل بالإرسال. الحديث تقدم الكلام عليه قريبًا في أثناء حديث أبي هريرة، فارجع إليه (¬3). 810 - وعن الحسن عن سمرة عن النَّبيِّ - صَلَّى الله عليه وسلم - قال: "أيما امرأة زوجها وليان فهي للأول منهما". رواه أحمد والأربعة وحسنه التِّرمذيُّ (¬4). ¬

_ (أ) زاد بعده في ب: به. (ب- ب) في جـ: لفظ الحديث بلفظ.

هو أبو سعيد الحسن بن أبي الحسن -واسم أبي الحسن يسار- البصري، من سبي مَيْسَان، مولى زيد بن ثابت، ولد لسنتين بقيتا من خلافة عمر بن الخطاب بالمدينة، وقدم البصرة بعد مقتل عثمان، ورأى عثمان، وقيل: إنه لقي عليًّا بالمدينة. وأمَّا بالبصرة فإن رؤيته إياه لم تصح؛ لأنَّه كان في وادي القرى متوجهًا نحو البصرة، حين قدم علي بن أبي طالب البصرة. ويقال: إنه لقي طلحة وعائشة ولم يصح له منهما سماع. وروَى عن غيرهما من الصّحابة؛ مثل أبي بكرة الثَّقفيّ وأنس بن مالك وسمرة بن جندب، وروى عنه خلق كثير من التّابعين وتابعيهم، وهو إمام وقته في كل فن وعلم وزهد وورع وعبادة. مَات في رجب سنة عشر ومائة. ويسار بفتح الياء المنقوطة اثنتين من أسفل وتخفيف السين المهملة، وميسان بفتح الميم وسكون الياء تحتها نقطان، وبالسين المهملة (¬1). الحديث صححه أبو زرعة (¬2) وأبو حاتم (¬3) والحاكم (¬4) في "المستدرك"، وصحته متوقفة على ثبوت سماع الحسن من سمرة، ورجاله ثقات. واختلف فيه عن الحسن، ورواه الشَّافعي وأحمد والنَّسائيُّ (¬5) من طريق قتادة ¬

_ = والترمذي، كتاب النكاح، باب ما جاء في الوليين يزوجان 3/ 418 ح 1110، والنَّسائيُّ، كتاب البيوع، باب الرجل يبيع السلعة فيستحقها مستحق 7/ 314. ولفظه عندهم كلفظ المصنف وزيادة: ومن باع بيعا من رجلين فهو للأول منهما. وأخرجه ابن ماجه، كتاب التجارات، باب إذا بايع المجيزان فهو للأول 2/ 738 ح 2190 مقتصرًا على الشطر الثَّاني. (¬1) تهذيب الكمال 6/ 95. (¬2) التلخيص 3/ 165. (¬3) علل ابن أبي حاتم 1/ 404 ح 1210. (¬4) الحاكم 2/ 175. (¬5) الأم 5/ 16، وأحمد 4/ 149، والنَّسائيُّ 4/ 57.

أيضًا عن الحسن عن عقبة بن عامر، قال التِّرمذيُّ (¬1): الحسن عن سمرة في هذا أصح. قال ابن المديني (¬2): لم يسمع الحسن من عقبة شيئًا. وأخرجه ابن ماجه (¬3) من طريق سعيد عن قتادة عن الحسن عن سمرة أو عقبة بن عامر. دَل الحديث على أن المرأة إذا عقد لها وليّان لشخصين وكان العقدان مترتبين، أنها للأول منهما، وسواء كان الثَّاني قد دَخَل بها أو لا، أما إذا دخل بها عالمًا، فإجماعٌ أنَّه زانٍ وأنها للأول، وأمَّا إذا دخل جهلًا فكذلك، إلَّا أنَّه لا حدَّ للجهل. وقد ذهب إلى هذا العِترة والحنفية والشافعية والحسن البصري وأحمد وإسحاق بن راهويه. وذهب عمر وطاوس والزهري ومالك أنها تكون للثاني، إذ الدخول أقوى من العقد لتكملة المهر. قال الإمام المهدي: قلنا: الحديث أولى، والوطء لا يصحح الباطل، كما أن المرأة لو نكحت في العدة، ودخل بها الزوج، فإنَّه لا يُصِحُّ الوطءُ العقدَ، وهذا حيث ترتب العقدان. وأمَّا إذا وقعا في وقت واحد فإن العقدين يبطلان، والظاهر أنَّه مجمع عليه، وأمَّا إذا علم التَّرتيب، ثم التبس المتقدم، فإن العقدين يبطلان أيضًا؛ لأنَّه لا يمكن إجراء حكمهما؛ لعدم إمكان قسمتها بين الزوجين بخلاف المبيع بين المشتريين فإنَّه يمكن القسمة، وقد ذهب إلى هذا الهدوية وأبو حنيفة والشّافعيّ إلَّا أن الزوجة إذا أقرت بسبق أحدهما أو دخل بها أحد الزوجين برضاها فإن ذلك يقرر العقد الذي أقرت بسبقه؛ إذ الحق عليها فإقرارها صحيح، وكذا الدخول برضاها، فإنَّه قرينة ¬

_ (¬1) ينظر التلخيص 3/ 165. (¬2) العلل لابن المديني ص 70. (¬3) تقدم تخريجه في حديث الباب.

السبق؛ لوجوب الحمل على السلامة. وقال أحمد وإسحاق: إنه في هذا الظرف يقرع بين الزوجين. ويجاب بأن القرعة غير مشروعة في مثل هذا. وقال الإمام يَحْيَى: إنه إن جهل المتأخر أو التبس كون الوقت متحدًّا أو مختلفًا يكون لها حكم الزوجة الملتبسة لا تخرج منهما إلَّا بطلاق، فإن تمردا؛ فقال الحقيني والأستاذ: إن الحاكم يفسخ النكاح. وقال السيد أحمد الأزرقي: إنهما يجبران على الطلاق، ولا يطؤها أيهما ولا مهر ولا ميراث؛ لاحتمال عدم الزوجية، ومن مات اعتدت منه، فإن مات الثَّاني بعد انقضاء العدة استأنفت للاحتمال لا قبل الانقضاء؛ إذ عليها في الحقيقة عدة واحدة فينتقل إلى الأخرى. قال الإمام المهدي: هذه الأحكام حيث علم المتأخر ثم التبس، لا حيث التبس كون الوقت متحدًّا أم لا. وقد ذكر هذا القاضي زيد والإمام يَحْيَى في موضع غير هذا الموضع، ولكن الظاهر أنَّه لا فرق بين الصورتين، فما ذكره الإمام يَحْيَى في هذا الموضع هو الأولى، والله أعلم. 811 - وعن جابر، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أيما عبد تزوج بغير إذن مواليه أو أهله فهو طاهر". رواه أحمد وأبو داود والترمذي وصححه وكذلك ابن حبان (¬1). الحديث من رواية ابن عقيل، وأخرجه ابن ماجه (¬2) من رواية ابن عقيل ¬

_ (¬1) أحمد 3/ 301، وأبو داود، كتاب النكاح، باب في نكاح العبد بغير إذن سيده 2/ 234 ح 2078، والترمذي، كتاب النكاح، باب ما جاء في نكاح العبد بغير إذن سيده 3/ 419، 420 ح 1111، 1112، وقد عزاه الحافظ للحاكم بدلًا من ابن حبان في التلخيص 3/ 165، وهو في المستدرك 2/ 194. (¬2) ابن ماجه 1/ 630 ح 1959 بلفظ: إذا تزوج العبد.

عن ابن عمر (أ [وقال التِّرمذيُّ: لا يصح وإنَّما هو عن جابر. وأبو داود (¬1) من حديث العمري عن نافع عن ابن عمر] أ) بلفظ: "فنكاحه باطل". وتعقبه بالتضعيف وتصويب وقفه. ورواه ابن ماجه (¬2) من حديث ابن عمر بلفظ ثالث: "أيما عبد تزوج بغير إذن مواليه فهو زان". وفيه مندل بن علي وهو ضعيف. وقال أحمد بن حنبل (¬3): هذا حديث منكر. وصوب الدارقطني (¬4) في "العلل" وقف هذا المتن على ابن عمر، ولفظ الموقوف أخرجه عبد الرَّزاق (¬5) عن معمر عن أيوب عن نافع عن ابن عمر، أنَّه أحَدَّ (ب) عبدًا له تزوج بغير إذنه، ففرق بينهما وأبطل صداقه وضربه حدًّا. الحديث فيه دلالة على أن نكاح العبد بغير إذن مالكه لا يصح، وهل يكون حكمه حكم الزنى؟ فالجمهور على ذلك، إلَّا أنَّه إذا كان جاهلًا للتحريم سقط عنه الحد، ولحق النسب به. وذهب الإمام يَحْيَى إلى أن العقد الباطل لا يكون له حكم الزنى هنا ولو كان عالمًا. وقال: إن العقد شبهة يدرأ به الحد؛ لأنَّ فيه خلاف داود في صحة نكاح العبد بغير إذن سيده؛ لأنَّ النكاح عنده فرض عين، فهو كسائر فروض الأعيان لا يحتاج ¬

_ (أ- أ) ما بينهما ساقط من النسخ. والمثبت من التلخيص 3/ 165. (ب) كذا في النسخ وإحدى مخطوطات مصنف عبد الرَّزاق، وفي المصنف: وجد. ولعل الصواب: أخذ. وينظر نصب الراية 3/ 204.

إلى إذن السيد، ويجاب عنه بأن الظاهر من قوله: فهو عاهر. يدل على أنَّه زنى حقيقة، وتأويله بأنه من باب التشبيه البليغ خلاف الظاهر من دون قرينة، فإن تزوج بغير إذن سيده كان قالعقد موقوفًا ينفذ بالإجازة. وذهب الناصر والشّافعيّ إلى أنَّه لا ينفذ بالإجازة؛ لقوله: "فهو عاهر". والجواب بأنه عاهر إذا لم يحصل إجازة، إلَّا أن الشَّافعي والناصر لا يصح عندهما إجازة الموقوف، وذهب مالك إلى أن العقد نافذ إلَّا أن السيد له فسخه. والحديث يدل على أنَّه لا يحتاج إلى فسخ كما ذهب إليه العترة والشّافعيّ إن حمل على ظاهره، ولكنه لا يتم ذلك على كل قول، إلَّا على قول الشَّافعي والناصر؛ لأنَّ العهر -وهو الزنى- لا تلحقه الإجازة، فلا بد من تأويله بالحمل على التشبيه البليغ، ومع ذلك فهو يحتمل ما ذهب إليه مالك من حيث إنه غير مستقر، لأنَّ للسيد فسخه، فهو يشبه ما لا اعتبار له رأسًا كالعهر، ويحتمل ما ذكره الهدويَّة أنَّه كالعاهر؛ لأنَّه إذا لم يجزه السيد كان عاهرًا، وإذا أجازه نفذ، فهو في الابتداء كالعاهر. 812 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: "لا يُجْمَعُ بين المرأة وعمتها ولا بين المرأة وخالتها". متَّفقٌ عليه (¬1). قوله: "لا يجمع". بلفظ المضارع المبني للمجهول مرفوعًا على أن "لا" ¬

_ (¬1) البُخاريّ، كتاب النكاح، باب لا تنكح المرأة على عمتها 9/ 160 ح 5109، ومسلم، كتاب النكاح، باب تحريم الجمع بين المرأة وعمتها 2/ 1028 ح 1408.

نافية غير ناهية، فهو خبر في معنى النَّهي، وهو كثير في اللغة، (أظاهر في أ) تحريم الجمع بينهما، سواء كان ذلك مرتبًا أو في عقد واحد معًا، إلَّا أنَّه مع التَّرتيب يبطل العقد على الثَّانية، وفي الجمع بينهما في عقد واحد، يبطلان جميعًا. قال الشَّافعي (¬1): تحريم الجمع بين من ذكر هو قول من لقيته من المفتين، لا اختلاف بينهم في ذلك. وقال التِّرمذيُّ (¬2)، بعد تخريجه: العمل على هذا عند عامة أهل العلم، لا نعلم بينهم اختلافًا؛ أنَّه لا يحل للرجل أن يجمع المرأة وعمتها أو خالتها، ولا أن ينكح المرأة على عمتها أو خالتها. وقال ابن المنذر (¬3): لست أعلم في منع ذلك اختلافًا اليوم، وإنَّما قال بالجواز فرقة من الخوارج، وكذا ابن عبد البر (¬4) نقل الإجماع، وكذا ابن حزم (¬5) والقرطبي (¬6)، والنووي (¬7). واستثنى ابن حزم عثمان البتي وهو أحد الفقهاء القدماء من البصرة، وهو بفتح الموحدة وتشديد التاء المثناة، واستثنى النواوي والإمام المهدي طائفة من الخوارج والضيعة، والقرطبي حكى الخلاف عن الخوارج، وزاد أيضًا في الرّواية عنهم جواز الجمع بين الأختين، والظاهر أن نقله عنهم جواز الجمع بين الأختين غلط؛ لأنَّ ذلك نص القرآن، وهم يعتمدون نصوص القرآن، وإنَّما مخالفتهم للسنة؛ لطعنهم في أكثر الصّحابة رضوان الله عليهم. ¬

_ (أ- أ) في ب، جـ: ظاهره.

وأعلم أنَّه يلزم الحنفية أن يجوزوا الجمع بين المرأة وعمتها؛ لأنهم يقدمون (أ) العمل بعموم الكتاب على أخبار الآحاد؛ لقوله تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} (¬1)، إلَّا أن صاحب "الهداية" من الحنفية انفصل عن هذا بأن هذا الحديث مشهور، والمشهور له حكم القطعي، ولا سيما مع الإجماع من الأمة وعدم الاعتداد بالمخالف. والرضاع حكمه حكم النسب، وقد روي عن الهادي أنَّه أحل ذلك من الرضاع، وقد أجيب بأن الهادي إنَّما قصد الفرق بين الرضاع والنسب في العلة، وأمَّا الحكم فواحد. وأعلم أن هذا الحكم قد روي عن جماعة من الصّحابة، إلَّا أنَّه قال الشَّافعي (¬2): إن أهل العلم لا تثبت إلَّا الرّواية عن أبي هريرة. قال البيهقي (¬3): هو كما قال؛ قد جاء من حديث علي وابن مسعود وابن عمر وابن عباس وعبد الله بن [عمرو] (ب) وأنس وأبي سعيد وعائشة، وليس فيها شيء على شرط الصَّحيح، وإنَّما اتفقا (¬4) على إثبات حديث أبي هريرة، وأخرج البُخاريّ (¬5) حديث جابر من رواية عاصم عن الشعبي عن جابر، وبين الاختلاف على الشعبي فيه، وقال: والحفاظ يرون رواية عاصم خطأ، والصّواب رواية ابن عون وداود بن أبي هند. انتهى. ¬

_ (أ) في جـ: يقولون. (ب) في النسخ: "عمر". والمثبت من مصدر التخريج.

ولكن هذا الاختلاف لا يقدح عند البُخاريّ، لأنَّ الشعبي أشهر بجابر منه بأبي هريرة، وللحديث طريق أخرى عن جابر بشرط الصَّحيح أخرجها النَّسائيّ (¬1) من طريق ابن جريج عن أبي الزُّبير عن جابر، والحديث أيضًا محفوظ من أوجه عن أبي هريرة، فلكل من الطريقين ما يعضده، وقول من نقل البيهقي عنهم تضعيف حديث جابر معارض بتصحيح التِّرمذيِّ وابن حبان وغيرهما له، وكفى بتخريج البخاري له موصولًا قوة. [وقد أخرج التِّرمذيُّ أيضًا من حديث أبي موسى، وأبي أمامة وسمرة] (¬2). قال المصنف (¬3) رحمه الله تعالى: ووقع لي (أ) أيضًا من حديث أبي الدرداء ومن حديث عتاب بن أسيد، ومن حديث سعد بن أبي وقاص، ومن حديث زينب امرأة ابن مسعود، وأحاديثهم موجودة عند ابن أبي شيبة وأحمد وأبي (ب) داود والنَّسائيُّ وابن ماجه وأبي يعلى والبزار والطبراني وابن حبان وغيرهم (¬4). ¬

_ (أ) في جـ: له. (ب) في جـ: وابن أبي.

وفي لفظ حديث ابن عباس عند أبي داود: كره أن يجمع بين العمة والخالة وبين العمتين والخالتين، وفي رواية عند ابن حبان نهى أن تزوج المرأة على العمة والخالة. وقال: "إنكن إذا فعلتن ذلك قطعتن أرحامَكن". وهذه الروايات (أ) يؤيد بعضها بعضًا، والله أعلم. 813 - وعن عثمان رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم -: "لا ينكح المحرم ولا يُنكح". رواه مسلم (¬1)، وفي رواية له: "ولا يخطب" (¬2). زاد ابن حبان (¬3): "ولا يخطب عليه". تقدم الكلام عليه في كتاب الحج (¬4). 814 - وعن ابن عباس رضي الله عنه قال: تزوج النَّبيُّ - صَلَّى الله عليه وسلم - ميمونة وهو محرم. متَّفقٌ عليه (¬5). ولمسلم (¬6) عن ميمونة نفسها أن النَّبيَّ - صَلَّى الله عليه وسلم - تزوجها وهو حَلال. وفي رواية عن ابن عباس عند النَّسائيّ (¬7): تزوج النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - ميمونة وهو محرم؛ جعلت أمرها إلى العباس فأنكحها إياه. ¬

_ (أ) في جـ: الرّواية.

وللبخاري (¬1) في عمرة القضاء بزيادة: وبنى بها وهي حلال وماتت بسرف. والحديث فيه دلالة على صحة عقد المحرم، كما ذهب إليه الحنفية، وخالفهم الجمهور كما تقدم في كتاب الحج، وأجابوا عن حديث ابن عباس بأجوبة. قال الأثرم (¬2): قلت لأحمد: إن أبا ثور يقول: بأي شيءٍ يدفع حديث ابن عباس؟ أي مع صحته. قال: فقال: الله المستعان، ابن المسيب يقول: وَهَمَ ابن عباس. وميمونة تقول: تزوجني وهو حلال. انتهى. وحديث عثمان يعارضه. قال ابن عبد البر (¬3): اختلفت الآثار في هذا الحكم، لكن الرّواية أنَّه تزوجها وهو حلال جاءت من [طرق] (أ) شتى، وحديث ابن عباس صحيح الإسناد، لكن الوهم إلى الواحد أقرب إلى الوهم من الجماعة، فأقل أحوال الخبرين أن يتعارضا فتطلب الحجة من غيرهما، وحديث عثمان صحيح في منع نكاح المحرم، فهو المعتمد. انتهى. ويترجح حديث عثمان بأنه [لتقعيد] (ب) قاعدة، وحديث ابن عباس واقعة عين يحتمل أنواعًا من الاحتمالات؛ منها، أن ابن عباس كان يرى أن مَن قلّد الهدي يصير (جـ) محرمًا، والنبيّ - صَلَّى الله عليه وسلم - كان قلّد الهدي (د) في عمرته تلك التي ¬

_ (أ) في الأصل: طريق. (ب) في الأصل: لتقعية. (جـ) في ب، جـ: صار. (د) ساقطة من: ب.

تزوج فيها ميمونة، فيكون إطلاقه أنَّه - صلى الله عليه وسلم - تزوجها وهو محرم؛ أي عقد عليها بعد أن قلّد الهدي وإن لم يكن تلبّس بالإحرام، وذلك أنَّه كان أرسل إليها أبا رافع يخطبها، فجعلت أمرها إلى العباس، تروجها من النَّبيِّ - صَلَّى الله عليه وسلم -. وقد أخرج التِّرمذيُّ، وابن خزيمة وابن حبان (¬1) في [صحيحيهما] من طريق مَطَر الورَّاق عن ربيعة بن [أبي] (أ) عبد الرحمن عن سليمان بن يسار عن أبي رافع أن النَّبيَّ - صَلَّى الله عليه وسلم - تزوج ميمونة وهو حلال، وبنى بها وهو حلال، وكنت أنا الرسول بينهما. قال التِّرمذيُّ (¬2): لا نعلم أحدًا أسنده غير حماد بن زيد، عن مطر، ورواه مالك (¬3) عن ربيعة عن سليمان مرسلًا. ومنها أن معنى محرم أي داخل في الحرم أو في الشهر الحرام. وقد ورد ذلك عن العرب، وجزم بهذا التأويل ابن حبان في "صحيحه" (¬4). وعارض حدَّثنا ابن عباس أيضًا حديث يزيد بن الأصم أن النبي - صَلَّى الله عليه وسلم - تزوج ميمونة وهو حَلال. أخرجه مسلم (¬5) من طريق الزُّهريّ. قال: وكانت خالته كما كانت خالة ابن عباس (¬6). وأخرج مسلم (5) من وجه آخر عن يزيد بن ¬

_ (أ) ساقط من النسخ، والمثبت من مصادر التخريج، وينظر تهذيب الكمال 9/ 123.

الأصم، قال: حدثتني ميمونة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تزوجها وهو حلال. قال: وكانت خالتي وخالة ابن عباس. قال الطبري (¬1): الصواب من القول عندنا أن نكاح المحرم فاسد؛ لصحة حديث عثمان، وأما قصة ميمونة؛ فتعارضت الأخبار فيها. ثم ساق من طريق أيوب قال: أنبئت أن الاختلاف في زواج ميمونة إنما وقع، لأنه - صلى الله عليه وسلم - كان بعث إلى العباس ينكحها منه، فأنكحه، فقال بعضهم: أنكحها قبل أن يحرم النبي - صلى الله عليه وسلم -. وقال بعضهم: بعد ما أحرم. وقد ثبت أن عمر وعليًّا رضي الله عنهما وغيرهما من الصحابة فرّقوا بين محرم نكح وبين امرأته (¬2)، ولا يكون هذا إلا عن ثبت. فائدة: ذكر ابن عبد البر (¬3) أن ابن عباس اختص من بين الصحابة بهذه الرواية، وليس كذلك، فقد أخرج النسائي من طريق أبي سلمة (¬4) عنه عن عائشة مثله، وأخرجه الطحاوي والبزار (¬5) من رواية مسروق عنها، وصححه ابن حبان (¬6)، وقد أعلّ بالإرسال كما ذكر النسائي عن [عمرو] (أ) بن علي أنه ¬

_ (أ) في النسخ: عمر. والمثبت من مصدر التخريج، وينظر تهذيب الكمال 22/ 162.

قال لأبي عاصم: أنت أمليت علينا مِن الرقعة ليس فيه عائشة. فقال: دع عائشة حتى أنظر فيه. وهذا إسنادٌ صحيح لولا هذه القصة، لكنه شاهد قوي. وأخرج الدارقطني (¬1) عن أبي هريرة مثله، وفي إسناده كامل أبو العلاء وفيه ضعف (¬2)، لكنه يعتضد (أ) بحديثي (ب) ابن عباس وعائشة. وجاء عن الشعبي ومجاهد مرسلًا مثله، أخرجهما ابن أبي شيبة (¬3). وأخرج الطحاوي (¬4) من طريق عبد الله بن محمد بن أبي بكر. قال: سألت أنسًا عن نكاح المحرم، فقال: لا بأس به، هل هو إلا كالبيع. وإسناده قوي، وكأن أنسًا لم يبلغه حديث عثمان، والله أعلم. 815 - وعن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن أحق الشروط أن يوفى به ما استحللتم به (جـ) الفروج". متفق عليه (¬5). هذا لفظ مسلم، ولفظ البخاري: "أحق ما أَوفيتم من الشروط أن توفوا به مَا استحللتم به الفرج (د) ". والمراد أن أحق الشروط بالوفاء شروط النكاح؛ ¬

_ (أ) في ب: معتضد. (ب) في جـ: بحديث. (جـ) زاد بعده في الأصل: من. (د) في البخاري: الفروج.

لأن أمره أحوط، وبابه أضيق. الحديث فيه دلالة على أن الشروط المذكورة في عقد النكاح يلزم الوفاء بها، وظاهره سواء كان الشرط عرضًا (أ) أو مالًا، حيث كان الشرط للمرأة؛ لأن استحلال الفرج إنما يكون فيما يتعلق بها أو ترضَى به لغيرها، وللعلماء في ذلك تفصيل وخلاف. قال الخطابي (¬1): الشروط في النكاح مختلفة؛ فمنها مَا يجب الوفاء به اتفاقًا، وهو ما أمر الله به؛ من إمساك بمعروف، أو تسريح بإحسان، وعليه حمل بعضهم هذا الحديث، ومنها ما لا يوفى به اتفاقًا، كسؤال طلاق أختها؛ كما ورد النهي عنه (¬2)، ومنها ما اختلف فيه؛ كاشتراط ألا يتزوج عليها، أو لا يتسرى، أو لا ينقلها من منزلها إلى منزله، وعند الشافعية الشروط في النكاح على ضربين؛ منها ما يرجع إلى الصداق، فيجب الوفاء به، وما يكون خارجًا عنه فيختلف الحكم فيه، فمنه ما يتعلق بحق الزوج وسيأتي بيانه، ومنه ما يشترطه العاقد لنفسه خارجًا عن الصداق، وبعضهم يسميه الحلوان. فقيل: هو للمرأة مطلقًا. وذهب إليه الهادي وأبو طالب فقالوا: ما شرط لغيرها مع مهرها استحقته لا الغير، إلا أن تبرع به من بعد. وهو قول عطاء وجماعة من التابعين، وبه قال الثوري وأبو عبيد. وقيل: هو لمن شرطه. قاله مسروق وعلي بن الحسين. وقيل: يختص ذلك بالأب دون غيره من الأولياء. وقال الشافعي: إن وقع في نفس العقد وجب للمرأة مهر مثلها، وإن وقع خارجًا عنه لم يجب. وقال مالك: إن ¬

_ (أ) في ب: غرضا.

وقع في حال العقد فهو من جملة المهر، أو خارجًا عنه فهو لمن وهب له. وفيه حديث عبد الله بن [عمرو] (أ) مرفوعًا: "أيما امرأة نكحت على صداق أو حباء أو عِدَة قبل عصمة النكاح فهو لها، وما كان بعد عصمة النكاح فهو لمن [أعطيه] (ب)، وأحق ما أكرم به الرجل ابنته أو أخته" أخرجه النسائي (¬1) من طريق ابن جريج عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده. [وأخرج] (جـ) البيهقي (¬2) من طريق حجاج بن أرطاة عن عمرو بن شعيب عن عروة عن عائشة نحوه، وقال الترمذي (¬3) بعد إخراجه (د): والعمل على هذا عند بعض أهل العلم من الصحابة؛ منهم عمر، قال: إذا تزوج الرجل المرأة وشرط ألا يخرجها لزم. وبه قال الشافعي وأحمد وإسحاق؛ كذا قال، والنقل في هذا غريب عن الشافعي، وروى في "البحر" هذا القول عن عمر، ومعاوية، ثم عمر بن عبد العزيز، وشريح، وأحمد، وأبي الشعثاء (¬4)، ولها الفسخ إن لم يف لها بالشرط، والظاهر من قول الشافعية أن المراد بالشروط هي (هـ) التي لا ¬

_ (أ) في النسخ: "عمر". والمثبت من مصدر التخريج. (ب) في الأصل: أعطته. وعند النسائي: أعطاه. (جـ) في الأصل: وأخرجه. (د) في ب، جـ: تخريجه. (هـ) ساقطة من: ب.

تنافي النكاح، بل تكون من مقتضياته ومقاصده، كاشتراط العِشرة بالمعروف والإنفاق والكسوة والسُّكنَى، وألا يقصر في شيء من حقها من قسمةٍ ونحوها، وكشرطه عليها ألا تخرج إلا بإذنه ولا تمنعه نفسها، ولا تتصرف في متاعه إلا برضاه، ونحو ذلك، وأما شرط ينافي مقتضى النكاح؛ كألا يقسم لها، أو لا يتسرى عليها أو لا ينفق، أو نحو ذلك فلا يجب الوفاء به، بل إن وقع في صلب العقد لغا وصح النكاح بمهر المثل، وفي وجه يجب المسمى ولا أثر للشرط، وفي قول [للشافعي] (أ): يبطل النكاح. قال الترمذي (¬1): وقال علي رضي الله عنه: سبق شرط الله شرطها. قال: وهو قول الثوري، وبعض أهل الكوفة، والمراد في الحديث الشروط الجائزة لا المنهي عنها. انتهى. وقد اختلف عن عمر فروى ابن وهب (¬2) بإسنادٍ جيد عن عبيد (ب) بن السباق، أن رجلًا تزوج امرأة فشرط لها ألا يخرجها من دارها، فارتفعوا إلى عمر فوضع الشرط، وقال: المرأة مع زوجها. قال أبو عبيد (¬3): تضادت الروايات عن عمر في هذا، وقد قال بالقول الأول عمرو بن العاص وطاوس والأوزاعي، وقال الليث والثوري والجمهور بقول علي: ¬

_ (أ) في الأصل: الشافعي. (ب) كذا في النسخ والفتح، وفي مصادر التخريج: سعيد بن عبيد بن السباق، وينظر التمهيد 18/ 169.

حتى لو كان صداق مثلها مائة مثلًا فرضيت بخمسين على ألا يخرجها، فله إخراجها ولا يلزمه إلا المسمَّى. وقالت الحنفية: لها أن ترجع عليه بما نقصته له مِن الصداق، وهو مقتضى قول الهَدويَّة. وقال الشافعي: يصح النكاح ويلغو الشرط، ويلزمه مهر المثل. وعنه، يصح وتستحق الكل. قال أبو عبيد: والذي نأخذ به أنا نأمره بالوفاء بشرطه من غير أن [نحكم] (أ) عليه بذلك. قال: وقد أجمعوا على أنها لو اشترطت عليه ألا يطأها لم يجب الوفاء بذلك الشرط، فكذلك هذا. وهذا يقتضي حمل الحديث على الندب، ويؤيد حمله على الندب قوله في حديث بريرة: "كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل" (¬1). والوطء والإسكان وغيرهما من حقوق الزوج، إذا شرط عليه إسقاط شيء منها كان شرطًا ليس في كتاب الله، فيبطل. وقد تقدم في البيوع الإشارة إلى حديث: "المسلمون عند شروطهم إلا شرطًا أحل حرامًا أو حرَّم حلالًا" (¬2). وحديث: "المسلمون عند شروطهم ما وافق الحق" (¬3) وأخرج الطبراني في "الصغير" (¬4) بإسنادٍ حسن عن جابر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خطب أم مبشر (ب) بنت البَراء بن معرور فقالت: إني شرطت لزوجي ألا أتزوج بعده. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إن هذا لا يصلح". ¬

_ (أ) في الأصل: يحكم. (ب) في ب، جـ: ميسر. وينظر الإصابة 8/ 300.

816 - وعن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه قال: رخّص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عام أوطاس في المتعة ثلاثة أيام، ثم نهى عنها. رواه مسلم (¬1). الحديث فيه دلالة على (أ) أنه قد وقع الترخيص بنكاح المتعة، ثم نهي عنه من بعد وصار ذلك محرمًا، ونكاح المتعة هو النكاح المؤقت إلى أمد مجهول أو معلوم، وغايته إلى خمسة وأربعين يومًا، ويرتفع النكاح بانقضاء الوقت المذكور في المنقطعة الحيض، والحائض بحيضتين، والمتوفى عنها بأربعة (ب) أشهر وعشر، ولا يثبت لها مهر بل المشروط، ولا تثبت لها نفقة، ولا توارث، ولا عدة، إلا الاستبراء بما ذكر، ولا نسب يثبت به إلا أن يشترط، وتحرم المصاهرة بسببه، كذا ذكر في كتب الإمامية، وقد ذهب إلى نسخها والقول بالتحريم الجمهور من السلف والخلف بعد أن وقع الترخيص في ذلك، وقد روي تحريمها بعد الترخيص في ستة مواطن؛ الأول: خيبر كما سيأتي في حديث علي (¬2). الثاني: عمرة القضاء. قال عبد الرزاق في "مصنفه" (¬3) عن (جـ معمر، عن الحسن، قال جـ): ما حلت المتعة قط إلا ثلاثًا في عمرة القضاء، ما حلت قبلها ولا بعدها. وشاهده ما رواه ابن حبان في ¬

_ (أ) ساقطة من: ب، جـ. (ب) في ب، جـ: أربعة. (جـ - جـ) كذا في النسخ. وفي مصدر التخريج: عن معمر والحسن قالا. وفي التمهيد 10/ 107، والتلخيص الحبير 3/ 155، والفتح 9/ 169: عن معمر عن عمرو عن الحسن قال.

"صحيحه" (¬1) من حديث سَبرة بن معبد قال: خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلما قضينا عمرتنا قال لنا: "ألا تستمتعون مِن هذه النساء". قال المصنف رحمه الله تعالى في "فتح الباري" (¬2): أما عمرة القضاء فلم يصح الأثر فيها؛ لكونه من مرسل الحسن، ومراسيله ضعيفة؛ لأنه كان يأخذ عن كل أحد. وعلى تقدير ثبوته، فلعله أراد أيام خيبر؛ لأنهما كانا في سنة واحدة. هذا كلامه وقد عرفت تصحيح ابن حبان لذلك. الثالث: عام الفتح، رواه مسلم (¬3) من حديث سبرة بن معبد: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نَهَى عن متعة النساء يوم الفتح. وفي لفظ له (¬4): أمرنا بالمتعة عام الفتح حتى دخلنا مكة ثم لم نخرج حتى نهانا عنها. وفي لفظ له (¬5): ثم (أ) رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "يأيها الناس، إني كنت أذنت لكم في الاستمتاع من النساء، وإن الله قد حرَّم ذلك إلى يوم القيامة". الرابع: عام أوطاس كما ذكره المصنف هنا. قال السهيلي (¬6): من قال: عام أوطاس فهو موافق لمن قال: عام الفتح؛ لأنهما في عام واحد. وفيه نظر؛ لأن الفتح كان في شهر رمضان، وأوطاس في شهر (ب) شوال، وقد عرفت من سياق مسلم للرواية أنهم ما خرجوا من مكة ¬

_ (أ) ساقطة من: ب، جـ. (ب) ساقطة من: ب، جـ.

إلا وقد حرمت عليهم، فهذه رخصة متأخرة، وتعقبها نسخ آخر، وهذا ظاهر الرواية، إلا أنه يحتمل أن يكون أطلق على عام الفتح عام أوطاس؛ لتقاربهما، ولم يكن في الحديث تصريح بأنهم تمتعوا بالنساء في غزوة أوطاس، مع أنه يبعد أن يقع الإذن في غزوة أوطاس بعد أن وقَع التصريح قبلها في غزوة الفتح بأنها حرمت إلى يوم القيامة، فتقرر الرخصة والتحريم في غزوة الفتح من غير معارض. الخامس، غزوة تبوك، رواه الحازمي (¬1) من طريق عباد بن كثير، عن ابن عقيل، عن جابر قال: خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى غزوة تبوك، حتى إذا كنا عند الثنية مما يلي الشام جاءنا نسوة تمتعنا بهن يطفن برحالنا، فسألنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عنهن، فأخبرناه فغضب، وقام فينا يخطبنا، فحمد الله وأثنى عليه ونهى عن المتعة، فتوادعنا يومئذ ولم نعد، ولا نعود فيها أبدًا، فسميت ثنية (أ) الوداع. وهذا الإسناد ضعيف، ولكن يؤيده ما أخرجه إسحاق بن راهويه، وابن حبان (¬2) من طريقه من حديث أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما نزل ثنية الوداع، رأى مصابيح وسمع نساء يبكين، فقال: "ما هذا؟ ". فقالوا: يا رسول الله، نساء كانوا يتمتعون منهن. فقال: "هدم المتعةَ النكاحُ والطلاقُ والميراثُ". وأخرجه البيهقي (¬3) أيضًا. ¬

_ (أ) في ب: بثنية.

قال المصنف (¬1) رحمه الله: ليس في القصة ما يدل على أنهم وقع منهم الاستمتاع منهن في تلك الحال، فيحتمل أن يكون ذلك وقع قديمًا وجاءت النسوة على ما ألِفن منهم فوقع التوديع حينئذ، أو أنه وقع من البعض بناء على الرخصة المتقدمة ولم يبلغه النهي فاستمر على الرخصة، فلذلك قرن بالغضب؛ لتقدم النهي، وحديث جابر من رواية عباد (¬2)، وهو متروك، وحديث أبي هريرة من رواية مؤمل بن إسماعيل (¬3) عن عكرمة بن عمار (¬4)، وفيهما مقال. السادس: حجة الوداع، رواه أبو داود (¬5) مِن طريق الربيع بن سَبرة وقال: أشهد على أبي أنه حدث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أنه نهى عنها في حجة الوداع. والرواية عنه بأنها في غزوة الفتح، وهي أصح وأشهر، فإن كان حديثًا محفوظًا فليس في سياق الحديث أنه وقع الترخيص في حجة الوداع ثم نهى عنها، وإنما فيها النهي، فلعله - صلى الله عليه وسلم - أراد إعادة النهي ليشِيع ويسمعه من لم يسمعه قبل ذلك، ويحتمل أن يكون قد انتقل ذهن أحد الرواة من الفتح إلى حجة الوداع، فإن أكثر الروايات عن سَبرة في الفتح. وقال الماوردي (¬6): يحتمل أن يكون التحريم تكرر والرخصة مرة واحدة، ويحتمل أنها أبيحت ¬

_ (¬1) الفتح 9/ 170. (¬2) تقدمت ترجمته في 2/ 39. (¬3) تقدمت ترجمته في 3/ 52. (¬4) تقدمت ترجمته في 2/ 67. (¬5) أبو داود 2/ 233 ح 2072. (¬6) الفتح 9/ 170.

مرارًا؛ ولهذا قال في المرة الأخيرة: "إلى يوم القيامة". قال النووي (¬1): الصَّواب أن تحريمها وإباحتها وقعا مرتين، وكانت مباحة قبل خيبر، ثم حرمت فيها، ثم أبيحت عام الفتح، وهو عام أوطاس، ثم حرمت تحريمًا مؤبدًا، ولا مانع من تكرير الإباحة. ونقل غيره عن الشافعي، أن المتعة نسخت مرتين، ويدل عليه حديث ابن مسعود (¬2) في سبب الإذن (أفي المتعة أ)؛ أنهم كانوا إذا غزوا اشتدت عليهم العزبة؛ فأذن لهم في الاستمتاع، فلعل النهي كان يتكرر في كل موطن بعد الإذن، فلما وقع في المرة الأخيرة أنها حرمت إلى يوم القيامة لم يقع بعد ذلك إذن والله أعلم. وكذا أخرج ابن عبد البر (¬3) من حديث سهل بن سعد بلفظ: إنما رخص النبي - صلى الله عليه وسلم - في المتعة لعزبة كانت بالناس شديدة ثم نهى عنها. فلما فتحت خيبر وسع عليهم من المال ومن السبي، فناسب النهي عن المتعة لارتفاع سبب الإباحة، وكان ذلك من تمام شكر نعمة الله على التوسعة بعد الضيق، أو كانت الإباحة إنما تقع في المغازي التي يكون في المسافة إليها بعد ومشقة، وخيبر بخلاف ذلك؛ لأنها بقرب المدينة، فوقع النهي عن المتعة فيها إشارة إلى ذلك من غير تقدم إذن فيها، ثم لما عادوا إلى سفرة بعيدة المدة وهي غزاة الفتح، وشقت عليهم العزوبة أذن لهم في ¬

_ (أ - أ) في ب: بالمتعة.

المتعة، لكن مقيدا بثلاثة أيام فقط دفعًا للحاجة، ثم نهاهم بعد انقضائها عنها كما سيأتي، وهكذا يجاب (أ) عن كل سَفْرة ثبت فيها النهي بعد الإذن، وأما حجة الوداع فالذي يظهر أن الذي وقع فيها النهي مجردًا -إن ثبت الخبر في ذلك- لأن الصحابة حجوا فيها بنسائهم بعد أن وسع عليهم فلم يكونوا في شدة ولا طول عزبة، وإلا فحديث سَبرة المروي في ذلك وقع عليه الاختلاف في تعيين الغزوة، والحديث واحد في قصة واحدة فيتعين الترجيح، والطريق التي أخرجها مسلم مصرحة بأنها في زمن الفتح أرجح، فتعين المصير إليها. فإذا عرفت ما ذكر فجميع هذا المروي مقرر لنسخ حكمها، وأن ذلك منهي عنه محرم، وذهب إلى القول ببقاء الرخصة، وأن ذلك غير منسوخ؛ جماعة من الصحابة هم؛ عبد الله بن العباس، وأسماء بنت أبي بكر، وجابر ابن عبد الله، وابن مسعود، ومعاوية، وعمرو بن حُريث، وأبو سعيد، وسلمة [ومعبد] (ب) ابنا أمية بن خلف، قال ابن حزم: ورواه جابر عن الصحابة مدة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. قال: ومدة أبي بكر ومدة عمر إلى قرب آخر خلافته. قال: وروي عن عمر أنه إنما أنكرها إذا لم يشهد عليه عدلان فقط. وقال بها من التابعين طاوس، وعطاء، وسعيد بن جبير، وسائر فقهاء مكة. قال: وقد تقصينا الآثار بذلك في كتاب "الإيصال". انتهى كلامه في ¬

_ (أ) زاد بعده في الأصل: و. (ب) في الأصل: وسعيد.

"المحلى" (¬1)، فأما ابن عباس؛ فروى الترمذي (¬2) ذلك وقال: كان يُجوِّز نكاح المتعة ثم رجع عنه. وعقد الترمذي لذلك بابًا مفردًا، وفي إسناده موسى بن عبيدة الرَّبَذي (¬3)، منسوب إلى الرَّبَذة لسكونه فيها، وهو ضعيف. وقد أخرجه البخاري (¬4) في باب النهي عن نكاح المتعة عن أبي جمرة الضبعي، أنه سأل ابن عباس عن متعة النساء فرخص [فيها] (أ). فقال له مولى له: إنما ذلك في الحال الشديد وفي النساء قلة؟ قال: نعم. وقد أخرجه الإسماعيلي في "مستخرجه" (¬5) بلفظ الجهاد بدل الحال الشديد. وفي كتاب "غرر الأخبار" (5) أخرجه عن سعيد بن جبير، قال: قلت لابن عباس: ما تقول في المتعة فقد أكثر الناس فيها حتى قال فيها الشاعر، قال: وما قال الشاعر؟ قال: قد قلت للشيخ لما طال مجلسه ... يا صاح هل لك في فتوى ابن عباس وهل ترى رَخْصَة (ب) الأطراف آنسة ... تكون مثواك حتى مصدر (جـ) الناسِ ¬

_ (أ) في الأصل: فيه. (ب) في حاشية ب: الرخص بفتح الراء المهملة بعدها خاء ساكنة وصاد مهملة الشيء الناعم، وأصابع رخصة غير كزة. كذا في القاموس. من خط المؤلف. (جـ) في جـ: يصدر.

قال: وقد قال الشاعر فيه؟ قلت: نعم. قال: فكرهَها، أو نَهَى عنها. وأخرج الخطابي (¬1) عن سعيد بن جبير مثل هذا، وقال: قال ابن عباس: سبحان الله، والله ما بهذا أفتيت، وما هي إلا كالميتة لا تحل إلا لمضطر. وأخرج البيهقي (¬2) عن ابن شهابٍ قال: ما مات ابن عباس حتى رجع عن هذه الفتيا. و [ذكره] (أ) [أبو] (ب) عوانة في "صحيحه" (¬3) أيضًا. وروى عبد الرزاق في "مصنفه" (¬4) عن ابن جريج، عن عطاء، عن ابن عباسٍ: كان يراها حلالًا ويقرأ: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ} (¬5). قال: وقال ابن عباسٍ: في حرف أبي بن كعب: (إلى أجل مسمى) (¬6). قال: وكان يقول: يرحم الله عمر، ما كانت المتعة إلا رحمة مِن الله رحم الله بها عباده، ولولا نهي عمر ما احتيج إلى الزنى أبدًا. وذكر ابن عبد البر (¬7) عن الليث بن [سَعد] (جـ) عن بكير بن الأشج عن [عمار] (د) مولى الشريد: ¬

_ (أ) النسخ: ذكر. والمثبت يقتضيه السياق. (ب) في الأصل: ابن. (جـ) في الأصل: سعيد. (د) في ب: عمارة. والمثبت من مصدر التخريج. وينظر الثقات للعجلي ص 353.

سألت ابن عباس عن المتعة؛ أسفاح هي أم نكاح؟ قال: لا نكاح ولا سفاح. قلت: فما هي؟ قال: المتعة كما قال الله. قلت: هل عليها حيضة؟ قال: نعم. قلت: يتوارثان؟ قال: لا. وأخرج النسائي (¬1) من طريق مسلم القري، قال: دخلت على أسماء بنت أبي بكر فسألتها عن متعة النساء، فقالت: فعلناها على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وأما جابر ففي "مسلم" (¬2) من طريق أبي نضرة عنه: فعلناها مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم نهانا عنها عمر فلم نعد لها. وأما ابن مسعود ففي "الصحيحين" (¬3) عنه، قال: رخص لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن ننكح المرأة إلى أجل بالشيء. ثم قرأ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ} (¬4). وأما معاوية فأخرج عبد الرزاق في "مصنفه" (¬5) عن ابن جريج عن عطاء قال: أول من سمعت منه المتعة صفوان بن (أ) يعلى بن أمية قال: أخبرني يعلى أن معاوية استمتع بامرأة بالطائف (ب) فأنكرت ذلك عليه، فدخلنا على ابن عباسٍ فذكرنا له ذلك، فقال: نعم. وأما عمرو بن حريث فوقعت الإشارة إليه فيما رواه مسلم (¬6) من طريق أبي الزبير: سمعت جابرًا يقول: كنا نستمتع بالقبضة من الدقيق ¬

_ (أ) زاد في النسخ: أبي. والمثبت من مصدر التخريج. وينظر تهذيب الكمال 13/ 218. (ب) في ب: في الطائف.

والتمر الأيام على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر حتى نهانا عنها عمر في شأن عمرو بن حُرَيث. وأما معبد وسلمة ابنا أمية فذكر [عمر بن شبة] (أ) في "أخبار المدينة" بإسناده، أن سلمة بن أمية بن خلف استمتع بامرأة، فبلغ ذلك عمر، فتوعده على ذلك (¬1). وأخرج عبد الرزاق (¬2) قصة معبد، وأما رواية جابر (¬3) عن الصحابة فالظاهر أنه عنى بذلك ما فهم من قوله: تمتعنا على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وعمر. فإن فيه ما يدل على أن ذلك شائع بين الصحابة. وذهب إلى القول ببقاء الإباحة؛ ابن جريج فقيه مكة والباقر والصادق والإمامة، محتجين بقوله تعالى: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ}. فإنه فسرها ابن عباسٍ بنكاح المتعة، والقراءة بزيادة: (إلى أجل مسمى) مصرحة بالمراد. وأجاب الجمهور بما تقدم من النسخ بعد الإباحة كما تظافر بذلك روايات الإباحة، فإنها مقرونة بالنسخ، وكذا مَا تقدم عن ابن عباسٍ من الرجوع وغيره من الصحابة. وقال البخاري (¬4): بين علي رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه منسوخ. وأخرج ابن ماجه (¬5) عن عمر بإسناد صحيح أنه خطب، فقال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أذن لنا في المتعة ثلاثًا ثم حرمها، والله لا أعلم ¬

_ (أ) في النسخ: عمرو بن شيبة. وينظر تهذيب الكمال 21/ 386، وسير أعلام النبلاء 12/ 369.

[أحدًا يتمتع] (أ) وهو محصن إلا رجمته بالحجارة. وروى الطبراني في "الأوسط" (¬1) من طريق إسحاق بن راشد [عن الزهري] (ب) عن سالم قال: [أُتي] (جـ) ابن عمر فقيل له: إن ابن عباس يأمر بنكاح المتعة. فقال: معاذ الله، ما أظن ابن عباسٍ يفعل هذا. قيل: بلى. قال: وهل كان ابن عباس على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا غلامًا صغيرًا. ثم قال ابن عمر: نهانا عنها (د) رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وما كنا مسافحين. إسناده قوي. وروى الدارقطني (¬2) عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "هدم المتعة الطلاقُ والعدةُ والميراثُ". وإسناده حسن. وأخرج [أبو] (هـ) عوانة في "صحيحه" (¬3) عن ابن جريج أنه قال لهم في البصرة: اشهدوا أني قد رجعت عن حل المتعة. بعد أن حدثهم ثمانية عشر حديثًا أنه لا بأس بها. ومع هذا فكل أحد يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ ولذا قال الأوزاعي فيما رواه الحاكم في "علوم الحديث" (¬4): يترك من قول أهل الحجاز خصر. [فذكر منها] (و) ¬

_ (أ) في الأصل: أحدا تمتع. وفي ب: أن أحدا تمتع. (ب) ساقط من النسخ، والمثبت من مصدر التخريج. وينظر ترجمة الزهري في تهذيب الكمال 26/ 419. (جـ) ساقط من النسخ، والمثبت من مصدر التخريج. (د) ساقطة من: ب. (هـ) في الأصل: ابن. (و) في الأصل: فذكرها.

متعة النساء من قول أهل مكة، وإتيان النساء في أدبارهن من قول أهل المدينة. وذهب زفر إلى أنه إذا وقع العقد إلى أجل أنه يصح العقد ويلغو التوقيت. وذهب ابن زياد إلى أنهما إن شرطا مدة لا يعيشان إليها صح العقد؛ إذ القصد الدوام. وقريبٌ من هذا ما ذكره الفقيه أحسن النحوي أن التوقيت بالموت لا يضر بالعقد، قال: لأنه غاية النكاح. قال الإمام المهدي (¬1): قالوا: إباحتها قطعية فلا تنسخ بالظني. قال الإمام يحيى: بل ظني. قلت: وفيه نظر؛ إذ لم يسمع بمن أنكرها من الأصل. انتهى كلامه. وأنت خبير بأن الراوين لإباحتها رووا نسخها إلا القليل، وذلك إما قطعي في الطرفين، أو ظني في الطرفين جميعًا، والله سبحانه أعلم. وقال في " [نهاية] (أ) المجتهد" (¬2): إنها تواترت الأخبار بالتحريم، إلا أنها اختلفت في الوقت الذي وقع فيه التحريم. قال الإمام المهدي في "البحر" (¬3): مسألةٌ: وتحريمها ظني لأجل الخلاف، [وإن صح] (ب) رجوع من أباحها لم تصر قطعية على خلاف بين الأصوليين. فرعٌ: [قيل] (جـ): ولا ¬

_ (أ) في الأصل: غاية. (ب) في الأصل: وأوضح. (جـ) ساقطة من: الأصل، ب.

يعتبر في المتعة من أجازها من أحكام النكاح إلا الاستبراء. أبو جعفر: بل يعتبر الولي والشهود. قلنا: أدلتهم وفعلهم يقتضي عدم الاعتبار. انتهى. وأراد بقوله: على خلاف بين الأصولين. هو ما اشتهر من الخلاف في انعقاد الإجماع بعد الخلاف المستقر أم لا ينعقد؟ والمراد أنه لا يكون إجماعًا قطعيًّا، ولكن هذا مبني على اعتبار الخلاف، وقد عرفت فيما تقدم أن المبيحين إنما بنوا على الأصل لما لم يبلغهم الدليل الناسخ، وليس مثل هذا من باب الاجتهاد، وإنما هم معذورون لجهل الناسخ، والمسألة لا اجتهاد فيها بعد ظهور النص، والله أعلم. 817 - وعن علي رضي الله عنه قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن المتعة في عام خيبر. متفق عليه (¬1). الحديث في البخاري أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن المتعة وعن لحوم الحمر الأهلية زمن خيبر. بالمعجمة أوله والراء آخره، هكذا لجميع أصحاب الزهري، إلا ما رواه عبد الوهاب الثقفي، عن يحيى بن سعيد، عن مالك في هذا الحديث، فإنه قال: حنين. بمهملة أوله ونونين، أخرجه النسائي والدارقطني (¬2)، ونبها على أنه وهْم تفرد به عبد الوهاب، وأخرجه الدارقطني (¬3) من طريق أخرى عن يحيى بن سعيد فقال: خيبر. على الصواب. ¬

_ (¬1) البخاري كتاب الذبائح، باب لحوم الحمر الإنسية 9/ 653 ح 5523، ومسلم، كتاب النكاح، باب نكاح المتعة ... 2/ 1027 ح 1407. (¬2) النسائي 6/ 126، والدارقطني كما في التلخيص 3/ 155. (¬3) علل الدارقضي 4/ 117.

وقوله: في عام خيبر. وكذا: زمن خيبر. الظاهر أنه ظرف للمتعة ولتحريم لحوم الحمر الأهلية، وحكى البيهقي (¬1) عن الحميدي أن سفيان بن عيينة كان يقول: قوله: في خيبر. يتعلق بالحمُر الأهلية لا بالمتعة. قال البيهقي: وما قاله محتمل. يعني في روايته هذه، وأما غيره فصرح أن الظرف يتعلق بالمتعة. وقد صرح بذلك البخاري في غزوة خيبر في (أ) كتاب المغازي (¬2)، وكذا في الذبائح (¬3) من طريق مالك بلفظ: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم خيبر عن متعة النساء وعن لحوم الحمر الأهلية. وهكذا أخرجه مسلم (¬4) من رواية ابن عيينة أيضًا، وأخرجه البخاري (¬5) في ترك الحيل في رواية [عبيد] (1) الله بن عمر، عن الزهري أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عنها يوم خيبر، وكذا أخرجه مسلم (¬6)، وزاد من طريقه فقال: مهلًا يا بن عباس. ولأحمد (¬7) من طريق معمر بسنده أنه بلغه أن ابن عباس رخص في متعة النساء، فقال له: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عنها يوم خيبر وعن لحوم الحمر الأهلية. وأخرجه مسلم (¬8) من رواية يونس بن يزيد عن الزهري، ¬

_ (أ) في الأصل: عبد.

والدارقطني (¬1) عن مالك ويونس وأسامة بن زيد، ثلاثتهم عن الزهري، مثل ما أخرجه مسلم (¬2) في الذبائح من طريق مالك. وأما السهيلي (¬3) فذكر أن ابن عيينة رواه عن الزهري بلفظ: نهى عن أكل الحمر الأهلية عام خيبر وعن المتعة بعد ذلك، أو: في غير ذلك. قال المصنف (¬4) رحمه الله تعالى: وهذا الذي ذكره لم أره من رواية ابن عيينة، فقد أخرجه أحمد وابن أبي عمر والحميدي وإسحاق (¬5) في "مسانيدهم" عن ابن عيينة باللفظ الذي أخرجه البخاري من طريقه، إلا أن منهم من زاد لفظ: نكاح المتعة، وكذا أخرجه الإسماعيلي من طريق عثمان بن أبي شيبة وإبراهيم بن موسى والعباس بن الوليد. وأخرجه مسلم (¬6) عن أبي بكر بن أبي شيبة ومحمد بن عبد الله بن نمير وزهير بن حرب، جميعًا عن ابن عيينة [بمثل لفظ مالك، وكذا أخرجه سعيد بن منصور (¬7) عن ابن عيينة] (أ)، لكن قال: "زمن" بدل "يوم". قال السهيلي (¬8): ويتصل بهذا الحديث تنبيه على إشكال؛ لأن فيه النهي عن ¬

_ (أ) ساقط من النسخ، والمثبت من الفتح 9/ 168.

نكاح المتعة يوم خيبر، وهذا شيء لا يعرفه أهل السير ورواة الآثار. قال: والذي يظهر أنه وقع تقديم وتأخير في لفظ الزهري. وهذا الذي قاله سبقه إليه غيره في النَّقل عن ابن عيينة؛ فذكر ابن عبد البر (¬1) من طريق قاسم بن أصبغ أن الحميدي ذكر عن ابن عيينة أن النهي زمن خيبر عن لحوم الحمر الأهلية، وأما المتعة فكان في غير يوم خيبر. قال المصنف (¬2) رحمه الله تعالى: ثم راجعت "مسند الحميدي" من طريق قاسم بن أصبغ عن أبي إسماعيل السُّلمي عنه فقال بعد سياق الحديث: قال ابن عيينة: يعني أنه نَهى عن لحوم الحمر الأهلية زمن خيبر؛ ولا يعني [نكاح] (أ) المتعة. قال ابن عبد البر: وعلى هذا أكثر الناس. وقال البيهقي (¬3): يشبه أن يكون كما قال؛ لصحة الحديث في أنه - صلى الله عليه وسلم - رخص فيها بعد ذلك ثم نَهَى عنها، فلا يتم احتجاج عليٍّ إلا إذا وقع النهي أخيرًا؛ لتقوم له الحجة على ابن عباسٍ. وقال أبو عوانة (¬4) في "صحيحه": سمعت أهل العلم يقولون: معنى حديث علي أنه نهى يوم خيبر عن لحوم الحمر، وأما المتعة فسكت عنها، وإنما نهى عنها يوم الفتح. انتهى. والحامل لهؤلاء على هذا ما ثبت من الرخصة فيها بعد زمن خيبر كما أشار إليه البيهقي، لكن يمكن الانفصال عن ذلك بأن عليًّا لم تَبلغه الرخصة فيها يوم الفتح؛ لوقوع النهي عنها عن قرب، ويمكن أن يكون علي ¬

_ (أ) في الأصل: بنكاح.

رضي الله عنه فهم من الترخيص فيها يوم الفتح توقيت الترخيص وهو أيام شدة الحاجة مع العزوبة، وبعد مضي ذلك فهي باقية على أصل التحريم المتقدم، فتقوم له الحجة على ابن عباسٍ، وإن كان ابن القيم ذكر في "الهدي" (¬1) أن الصحابة لم يكونوا يستمتعون باليهوديات، يعني فيقوى أن النهي لم يقع يوم خيبر؛ إذ لم يقع هناك نكاح متعة، إلا أنه قد يمكن أن يكون هناك مشركات غير كتابيات، فإن أهل خيبر كانوا يصاهِرون الأوس والخزرج قبل الإسلام، فلعله كان مِن نساء الأوس والخزرج هناك من استمتعوا منهن، فلا يرد الاعتراض. وهذا ما يتعلق بتصحيح هذه الرواية، وقد تقدم الكلام في الحديث الأول على النسخ، والله أعلم. 818 - وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المحلل والمحلل له. رواه أحمد والنسائي والترمذي وصححه (¬2). وفي الباب عن علي رضي الله عنه أخرجه الأربعة إلا النسائي (¬3). حديث ابن مسعود صححه أيضًا ابن القطان، وابن دقيق العيد على شرط البخاري، وأخرجه عبد الرزاق (¬4) من طريق أخرى، وأخرجه أيضًا من ¬

_ (¬1) زاد المعاد 3/ 460. (¬2) أحمد 1/ 448، والنسائي، كتاب الطلاق، باب إحلال المطلقة ثلاثًا والنكاح الذي يحلها به 6/ 149، والترمذي، كتاب النكاح، باب ما جاء في المحل 3/ 428 ح 1120. (¬3) أبو داود، كتاب النكاح، باب التحليل 2/ 234 ح 2076، والترمذي، كتاب النكاح، باب ما جاء في المحل 3/ 427، 428 ح 1119، وابن ماجه، كتاب النكاح، باب المحلل والمحلل له 1/ 622 ح 1935. (¬4) عبد الرزاق 6/ 269 ح 10793.

طريق أخرى إسحاق بن راهويه في "مسنده" (¬1)، وأخرجه الحاكم في "المستدرك". وقال الترمذي: حديث حسن صحيح. قال: والعمل عليه عند أهل العلم؛ منهم عمر بن الخطاب، وعثمان، وعبد الله بن عمر (¬2)، وهو قول الفقهاء من التابعين، ولفظه في رواية أحمد والنسائي: لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الواشمة والموتشمة (أ) والواصلة والموصولة والمحلل والمحلل له وآكل الربا وموكله. وحديث علي في إسناده مجالد وهو ضعيف، وقد صححه ابن السكن وأعله الترمذي، ولفظه عن علي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لعن الله المحلل والمحلل له". وأخرجه الترمذي (¬3) عن جابر من طريق مجالد وحكم عليه بالوهم. ورواه أحمد والبيهقي وإسحاق والبزار، وابن أبي حاتم في "العلل" (¬4) من حديث أبي هريرة، وحسنه البخاري. ورواه ابن ماجه والحاكم (¬5) من حديث الليث عن مشرح بن هاعان عن عقبة بن عامر، (ب [ولفظه: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ألا أخبركم بالتيس المستعار؟ ". قالوا: بلى يا رسول الله. قال: "هو المحلل، لعن الله المحلل والمحلل له"] ب). وأعله أبو زرعة وأبو حاتم بأن الصواب رواية الليث عن سليمان بن عبد الرحمن ¬

_ (أ) في جـ: المتوشمة. وهي إحدى ألفاظ رواية أحمد. (ب - ب) ساقط من: الأصل.

مرسلًا، وحكى الترمذي (¬1) عن البخاري أنه استنكره. وقال أبو حاتم (¬2): ذكرته ليحيى بن بكير فأنكره إنكارًا شديدًا. وقال: إنما حدثنا به الليث عن سليمان، ولم يسمع الليث من مشرح شيئًا. قال المصنف رحمه الله تعالى (¬3): وقع التصريح بسماعه في رواية الحاكم، وفي رواية ابن ماجه عن الليث: قال لي مشرح. ورَوَاه ابن قانع في "معجم الصحابة" (¬4) مِن رواية عبيد بن عمير (¬5) عن [أبيه عن جده] (أ)، وإسناده ضعيف. الحديث فيه دلالة على تحريم التحليل؛ لأن اللعن إنما يكون على فعل محرم، والمحرم منهي عنه، والنهي يقتضي فساد العقد، فإن اللعن وإن كان للفاعل فهو لأجل فعله الذي هو التحليل، إذ تعليق الحكم على وصف يصح أن يكون علة للحكم يقتضي التعليل، وللتحليل صور؛ منها أن يقول في العقد: إذا أحللتها فلا نكاح. وهذا يشبه نكاح المتعة للتوقيت؛ ومنها أن يقول: إذا أحللتها طلقتها. ومنها أن يكون مضمرًا عند العقد بأن يتواطأا على التحليل، ولا يكون النكاح الدائم هو المقصود، ولم يشرطا عند العقد ذلك. فالصورة الأولى باطلة، والظاهر أنه متفق عليه بين من حرم نكاح ¬

_ (أ) في الأصل: ابنه.

المتعة. والصورة الثانية يصح العقد ويلغو الشرط في أقوى احتمالين عند الهدوية. وهو قول المؤيد بالله والحنفية، قالوا: إنه لا دليل على بطلانه. وَلِمَا ذكره في "الشفاء" أنه قيل للنبي - صلى الله عليه وسلم -: إن فلانًا تزوج بفلانة وما نراه تزوجها إلا ليحللها. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أصْدَقَ؟ ". قيل: نعم. فقال: "أشْهَدَ؟ ". قيل: نعم. قال: "ذهب الخداع" (¬1). وهذا وإن كان ظاهره في مضمر التحليل، ولكنه يفهم من الجواب ما يعم هذه الصورة والصورة الأولى، إلا أنها خرجت بدليل تحريم نكاح المتعة. وأما الصورة الثالثة فذهبت الهدوية وأبو حنيفة والشافعي إلى صحتها؛ لما ذكر. وذهب مالك وأحمد وإسحاق والنخعي وداود والهادي إلى بطلانها؛ لعموم اللعن. قال الإمام المهدي: قلنا: قرره قوله - صلى الله عليه وسلم -: "ذهب الخداع". وفعل عمر ولم ينكر. قال الإمام المؤيد بالله: وحديث اللعن يتناول المؤقت جمعًا بين الأدلة. قال الإمام يحيى: أو يصح العقد ويتناولهما اللعن؛ لمنافاة المروءة. قلت: وفيه نظر. انتهى. وجه التنظير ما أشرنا إليه أن ذلك الحديث يقتضي النهي، والنهي [يقتضي] (أ) الفساد، وإذا سلمنا التناول لزم الفساد، ويمكن الجواب عنه بأن ذلك إنما يستقيم إذا كان النهي لذات المنهي عنه، أو لوصف [مقارب] (ب)، وأمَّا إذا كان لوصف مفارقٍ فلا يقتضي الفساد، وهو هنا كذلك؛ حيث ¬

_ (أ) في الأصل: مقتضى. (ب) في الأصل: مقارن.

جعل العلة فيه منافاة المروءة. وقال في " [نهاية] (أ) المجتهد" (¬1): سبب اختلافهم؛ اختلافهم في مفهوم اللعن؛ فمن فهم [منه] (ب) التأثيم فقط، قال: النكاح صحيح. ومَن فهم من التأثيم فساد العقد تشبيهًا بالنهي الذي يدل على فساد المنهي [عنه] (جـ)، قال: النكاح فاسد. انتهى. وعلى ما قررناه أولًا أن اللعن يقتضي النهي، فلا يصح ما ذكر، والله أعلم. وقال المصنف رحمه الله تعالى (¬2): استدلوا بهذا الحديث على بطلان النكاح إذا شرط الزوج أنه إذا نكحها بانت منه، أو شرط أن يطلقها ونحو ذلك، وحملوا الحديث على ذلك، ولا شك أن إطلاقه يشمل هذه الصورة وغيرها، لكن روى الحاكم والطبراني [في الأوسط] (د) (¬3) من طريق [أبي] (هـ) غسان عن عمر بن نافع عن أبيه قال: جاء رجل إلى [ابن] (و) عمر، [فسأله] (ز) عن رجل طلق امرأته ثلاثًا فتزوجها أخ له [عن] (جـ) غير مؤامرة ليحلها لأخيه، هل تحل للأول؟ قال: لا، إلَّا نكاح رغبة، كنا نعد هذا ¬

_ (أ) في الأصل: غاية. (ب) في الأصل: منا. (جـ) ساقطة من: الأصل. (د) ساقط من: الأصل. (هـ) في النسخ: ابن. والمثبت من مصدري التخريج. وينظر تهذيب الكمال 26/ 470. (و) ساقط من النسخ، والمثبت من مصدري التخريج. (ز) في الأصل: يسأله. (ح) في الأصل: من.

سفاحًا على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وقد روي مثل هذا عن عثمان وعلي وابن عباسٍ وابن عمر، وهي نصوص فيما إذا قصد الزوج التحليل من غير مواطأة بينه وبين المطلق ولا المرأة، وأن هذا من التحليل الملعون صاحبه، وأن من شرط النكاح أن يكون نكاح رغبة في الزوجة. وقد أخرج هذه الآثار عن الصحابة، وأخرج عن التابعين وتابع التابعين كذلك ابن القيم في كتاب "إغاثة اللهفان" (¬1)، وأن التحليل يشمل ما كان الإضمار من الزوج وحده، أو من المطلق، أو من المرأة، ومَن أراد الاستيفاء فليرجع إليه. وقال ابن حزم (¬2): ليس الحديث على عمومه في كل محلل، إذ لو كان كذلك لدخل فيه كل واهب وبائع ومزوج، فصح أنه أراد به بعض المحللين وهو من [أحل] (أ) حرامًا لغيره بلا حجة، فتعين أن يكون ذلك فيمن شرط ذلك؛ لأنهم لم يختلفوا في الزوج إذا لم ينو تحليلها للأول ونوته هي، أنها لا تدخل في اللعن، فدل على أن المعتبر الشرط، والله أعلم. انتهى. وهذا الحديث يعارض ما تقدم من الحديث في التحليل ويعارض رواية "البحر" عن عمر الصحة، والله أعلم. 821 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا ينكح الزاني المجلود إلا مثله". رواه أحمد وأبو داود ورجاله ثقات (¬3). الحديث فيه دلالة على أنه يحرم على الزوجة أن تزوج بمن ظهر زناه، ¬

_ (أ) ساقطة من: الأصل.

ولعل الوصف بالمجلود بناءً على الغالب في حق من ظهر منه الزنى، وكذلك الرجل يحرم عليه أن يتزوج بالمرأة الزانية التي ظهر زناها، وهذا موافق لقوله تعالى: {وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} (¬1). ومعنى قوله: "لا ينكح الزاني المجلود إلا مثله". يعني أنه لا يرغب الزاني في نكاح الصالحة الطيبة مِن الزنى، وإنما يرغب في نكاح فاسقة خبيثة من شكله، والفاسقة الزانية لا يرغب في نكاحها الصلحاء، وإنما يرغب فيها من كان في صفتها، كما قال الله تعالى: {الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إلا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إلا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ}. فنكاح المؤمن الممدوح عند الله الزانية، [ورغبته] (أ) فيها وانخراطه بذلك في سلك الفسقة المتسمين بالزنى -محرم عليه محصور، لما فيه من التشبه بالفساق وحضور موقع التهمة والتسبب لسوء القالة فيه والغيبة، وأنواع المفاسد ومجالسة الخطائين كم فيها من التعرض لاقتراف الآثام، فكيف بمزاوجة (ب) الزواني! وقد نبه الله سبحانه على ذلك بقوله: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ} (¬2). وعن عائشة رضي الله عنها أن الرجل إذا زنى بامرأة ليس له أن يتزوجها لهذه الآية، وإذا باشرها كان زانيًا (¬3). وذهب ابن عباسٍ (¬4) إلى جوازه وشبهه بمن ¬

_ (أ) في الأصل: ورغبة. (ب) في ب، جـ: بزواجه.

سرق ثمر شجرة ثم اشتراه. وعن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه سئل عن ذلك فقال: "أوله سفاح وآخره نكاح، والحرام لا يحرم الحلال" (¬1). وقوله: "لا ينكح". يحتمل النهي، فيكون مجزومًا، ويحتمل الخبر و "لا" للنفي، فيكون مرفوعًا، والمعنى واحد إذا كان الخبر في معنى النهي، ويكون أبلغ في تأدية ذلك المعنى، كما أن: رحمك الله. أبلغ من: ليرحمك الله. وإذا كان خبرًا محضًا مستعملًا في معناه، فمعناه أن عادة الزاني الجارية المستمرة أن ينكح مثله، وعلى المؤمن ألا يدخل نفسه تحت هذه العادة، ويصون نفسه عن هذه النقيصة. 822 - وعن عائشة رضي الله عنها قالت: طلق رجل امرأته ثلاثًا فتزوجها رجل ثم طلقها قبل أن يدخل بها، فأراد زوجها الأول أن يتزوجها فسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (أعن ذلك أ) فقال: "لا، حتى يذوق الآخر من عسيلتها ما ذاق الأول". متفق عليه، واللفظ لمسلم (¬2). الرجل اسمه رفاعة، بكسر الراء المهملة، ابن سموءل، بفتح المهملة وبكسرها وفتح الميم وسكون الواو بعدها همزة ثم لام، متفق على تسميته في جميع الروايات، و [القرظي] (ب)، بضم القاف وفتح الراء المهملة والظاء ¬

_ (أ - أ) ساقط من: ب، جـ. (ب) ساقط من: الأصل.

المعجمة، منسوب إلى قريظة من الخزرج، والمرأة اسمها تميمة بنت وهب من بني قريظة، كذا في "الموطأ" (¬1) مرسلًا، وأخرجه الطبراني (¬2) والدارقطني في "الغرائب" موصولًا، وتميمة بالمثناة من فوق، واختلف هل التاء مفتوحة مكبرًا أو مضمومة مصغرًا؟ والثاني أرجح. وقيل: اسمها سهيمة (أ) بسين مهملة مصغرًا. أخرجه أبو نعيم (¬3) وكأنه تصحيف، وعند ابن منده (¬4) [أميمة] (ب) بهمزة في أول الاسم، وسمى أباها (جـ) الحارث، والراجح هو الأول، واسم الزوج الآخر عبد الرحمن بن الزبير بفتح الزاي، وهذا متفق عليه في جميع الروايات عن هشام بن عروة (د) أن الزوج الأول اسمه رفاعة والثاني عبد الرحمن، وكذا في رواية سعيد بن أبي عروبة (¬5)، أن تميمة بنت أبي عبيد القرظية كانت تحت رفاعة فطلقها، فخلف عليها عبد الرحمن بن ¬

_ (أ) في جـ: سهية. (ب) في النسخ: اسمه. والمثبت من الفتح 9/ 464. (جـ) زاد بعده في النسخ: أبا. والمثبت من الفتح 9/ 464، وينظر أسد الغابة 7/ 26. (د) زاد بعده في الأصل: بايع.

الزبير، وتسميته لأبيها لا ينافي ما تقدم أن اسمه وهب، فلعل اسمه وهب وكنيته أبو عبيد، وقد وقع عند [ابن] (أ) إسحاق في "المغازي" (¬1) مقلوبًا، فجعل الزوج الأول عبد الرحمن والثاني رفاعة، والمحفوظ ما اتفق عليه الجماعة عن هشام، وقد وقع لامرأة أخرى قريب من هذه القصة في رواية النسائي (¬2) عن عبيد الله بن العباسِ مصغرًا، أن الغميصاء أو الرميصاء أتت النبي - صلى الله عليه وسلم - تشكو من زوجها أنه لا يصل إليها، فلم يلبث أن جاء فقال: إنها كاذبة، ولكنها تريد أن ترجع إلى زوجها الأول. فقال: "ليس ذلك لها حتى تذوق عسيلته". ورجاله ثقات، لكن اختلف فيه على سليمان بن يسار. وعبيد الله بن العباس وُلد في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد اختلف في سماعه. واسم زوج الغميصاء هذه عمرو بن حزم، أخرجه الطبراني وأبو مسلم الكجي وأبو نعيم في "الصحابة" (¬3) عن عائشة أن [عمرو] (5) بن حزم طلق الغميصاء [فتزوجها] (جـ) رجل قبل أن يمسها، فأرادت أن ترجع إلى زوجها الأول، الحديث. ولم يأت التصريح باسم الزوج الثاني، ووقع لثالثة ¬

_ (أ) في الأصل: أبي. (ب) في الأصل: عمر. (جـ) في الأصل: فزوجها.

قصة أخرى مع رفاعة النضري رجل آخر غير الأول، والزوج الثاني عبد الرحمن بن الزبير أيضًا أخرجه مقاتل بن حيان في "تفسيره"، ومن طريقه ابن شاهين في "الصحابة" (¬1) عن أبي موسى في قوله تعالى: {فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} (¬2). قال: نزلت في عائشة بنت عبد الرحمن بن عقيل النضرية كانت تحت رفاعة بن وهب بن عتيك وهو ابن عمها، فطلقها طلاقًا بائنًا فتزوجت بعده عبد الرحمن بن الزبير ثم طلقها، فأتت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت: إنه طلقني قبل أن يمسني، فأرجع إلى ابن عمي زوجي الأول؟ قال: "لا". الحديث. وهذا إن كان محفوظًا فالواضح من سياقه أنها قصة أخرى، وأن كلا من رفاعة القرظي ورفاعة النضري وقع له مع زوجة له طلاق، فتزوج كلا منهما عبدُ الرحمن بن الزبير، فطلقها قبل أن يمسها، فالحكم في قصتهما متحد مع تغاير الأشخاص، وبهذا يتبين خطأ من وحد بينهما، ظنًّا منه أن رفاعة بن سموءل هو رفاعة بن وهب، فقال: اختلف في أمر رفاعة على خمسة أقوال، ووقعت لأبي ركانة قصة أخرى فيما أخرجه أبو داود (¬3) مِن حديث ابن عباسٍ قال: طلق عبد يزيد أم ركانة ونكح امرأة مِن مزينة فجاءت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت: ما يغني عني إلا كما تغني هذه الشعرة -لشعرة أخذتها من رأسها- ففرق بيني وبينه. قال: فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لعبد يزيد: "طلقها وراجع أم ركانة". ففعل. فقد يحتج بها في مسألة العنين. وقوله: "من عسيلتها". تصغير العسل، وأنث المصغر لأن العسل ¬

_ (¬1) ينظر الفتح 9/ 465، والإصابة 2/ 492. (¬2) الآية 230 من سورة البقرة. (¬3) سيأتي ح 887.

مؤنث، كذا قال [الفراء] (أ)، وقال: وأحسب التذكير لغة. وقال الأزهري (¬1): إنه يذكر ويؤنث. وقيل: إن العرب تؤنث ما حقرته. وقيل: التأنيث هنا باعتبار المعنى المجازي، لما كان مراده بالعسيلة الوطأة إشارة إلى أنها تكفي في المقصود مِن تحليلها للزوج الأول. واختلف ما المراد بالعسيلة؛ فقيل: المراد بها إنزال المني، وأن التحليل لا يكون إلا بذلك. وذهب إليه الحسن البصري. وقال الجمهور من العلماء: ذوق العسيلة كناية عن المجامعة، وهو تغييب الحشفة من الرجل في فرج المرأة، ويكفي منه ما يوجب الحد، ويحصل به تحصين الشخص، ويوجب كمال الصداق، ويفسد الحج والصوم. قال الأزهري (1): الصواب أن معنى العسيلة حَلاوة الجماع الذي يحصل بتغييب الحشفة، وأنث لشبهها بالعسل. وقال الداودي: صغرت لشدة شبهها بالعسل. وقال أبو عبيد: العُسيلة لذة الجماع. والعرب تسمي كل شيء تستلذه عَسلًا. فالحديث دَل على ما ذهب إليه الجمهور على هذا الوجه، ويؤيد ذلك أنه لو كان المعتبر الإنزال لكفى إذا حصَل قبل الإيلاج، والحسن يوافق أنه لا يكفي ولكنه يقال عليه: إنه مَا ذاق أحدهما عسيلة الآخر. وهو المعتبر، وذهب سعيد بن السيب إلى أنه يحصل التحليل بالعقد الصحيح. قال ابن المنذر (¬2): أجمع العلماء على اشتراط الجماع لتحل للأول إلا سعيد بن ¬

_ (أ) في الفتح 9/ 466: القزاز.

المسيب. ثم ساق سنده الصحيح عنه، قال: يقول الناس: لا تحل للأول حتى يجامعها الثاني. وأنا أقول: إذا تزوجها صحيحًا لا يريد بذلك إحلالها للأول، فلا بأس أن يتزوجها الأول. وهكذا أخرجه ابن أبي شيبة وسعيد بن منصور (¬1). قال ابن المنذر: ولا نعلم أحدًا وافقه عليه (أ) إلا طائفة من الخوارج، ولعله لم يبلغه الحديث فأخذ بظاهر القرآن انتهى. ومِن هذا يؤخذ ضعف نقل أبي جعفر النحاس في "معاني القرآن" (¬2)، وتبعه عبد الوهاب المالكي في "شرح الرسالة" عن سعيد بن جبير، ولا يعرف سند ذلك عن سعيد بن جبير في شيء من المصنفات، وحكى مثل ذلك ابن الجوزي عن داود. وقول (ب) المصنف: هذا لفظ مسلم. يعني وأما البخاري فساقه بألفاظ؛ منها في باب (¬3): إذا طلقها ثلاثًا ثم تزوجت بعد العدة زوجًا غيره فلم يمسها، عن عائشة أن رفاعة القرظي تزوج امرأة ثم طلقها فتزوجت آخر، فأتت النبي - صلى الله عليه وسلم -، فذكرت أنه لا يأتيها وأنه ليس معه إلا مثل هدبة، فقال: "لا حتى [تذوقي] (جـ) عسيلته [و] (د) يذوق عسيلتك". وفي باب من قال ¬

_ (أ) ساقطة من: الأصل، ب. (ب) في ب: هو قول. وفي جـ: قال. (جـ) في الأصل: تذوق. (د) في الأصل: أو.

لامرأته: أنت علي حرام (¬1). بلفظ: ولم يكن معه إلا مثل الهدبة فلم يقربني إلا هَنَةً -وهي بفتح الهاء والنون الخفيفة: المرة الواحدة الحقيرة- واحدة، ولم يصل مني إلى شيء، أفأحل لزوجي الأول؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تحلين لزوجك الأول". الحديث. وفي أوائل الطلاق (¬2): وإنما معه مثل الهدبة، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لعلكِ تريدين أن ترجعي إلى رفاعة؟ لا" الحديث. وفي باب اللباس (¬3)، أن رفاعة طلق امرأته فتزوجها عبد الرحمن بن الزَّبير القرظي، قالت عائشة: وعليها خمار أخضر، فشكت إليها وأرتها خضرة بجلدها فلما جاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والنساء ينصر بعضهن بعضًا، قالت عائشة: ما رأيت مثل ما يلقى المؤمنات، لجَلدُها أشد خضرة من ثوبها. قال؛ أي عكرمة: وسمع أنها قد أتت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فجاء ومعه ابنان له مِن غيرها، قالت: والله ما لي إليه ذنب إلا أن ما معه ليس بأغْنَى عني مِن هذه. وأخذت هُدبة مِن ثوبها، فقال: كذبت والله يا رسول الله، إني لأنفضها نفض الأديم، ولكنها ناشز تريد رفاعة. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "فإن كان ذلك فلا تحلين له، أو: لا تصلحين له، حتى يذوق من عسيلتك". قال: وأبصر معه ابنين له (أ) فقال: "بنوك هؤلاء؟ " قال: نعم. قال: "هذا الذي تزعمين ما تزعمين! فوالله لهم أشبه به من الغراب بالغراب". وذكره في غير هذه المواضع أيضًا. ¬

_ (أ) ساقطة من: ب.

باب الكفاءة والخيار

باب الكفاءة والخيار الكفاءة بمعنى المماثلة والمساواة، يقال: فلان كُفء لفلان. إذا كان مماثلًا له في صفاته، قال الله تعالى: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} (¬1). أي مماثلًا، وهو بضم الكاف والفاء وسكون الفاء وبكسر الكاف، وقد قرئ بها (¬2). وهو متفق على اعتبار الكفاءة في الدين، فلا تحل المسلمة للكافر، ومختلف في غير ذلك. 823 - وعن ابن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "العرب بعضهم أكْفاء بعض، والموالي بعضهم أكفاء [بعضٍ] (أ)، إلا [حائكًا] (ب) أو حجامًا". رواه الحاكم، وفي إسناده راوٍ لم يُسم، واستنكره أبو حاتم، وله شاهد عند البزار عن معاذ بن جبل بسندٍ (جـ) منقطع (¬3). الحديث أخرجه الحاكم من حديث ابن جريج، عن ابن أبي مليكة، عن ابن عمر به، والراوي عن ابن جريج لم يُسمَّ، وقد سأل ابن أبي حاتم (¬4) عنه ¬

_ (أ) في الأصل: لبعض. (ب) في الأصل، جـ: حائك. (جـ) في ب، جـ: سنده.

أباه، فقال: هذا كذب لا أصل له. وقال في موضع آخر (¬1): باطل. ورواه ابن عبد البر في "التمهيد" (¬2) من طريق بقية، عن زرعة، عن عمران بن أبي الفضل، عن نافع، عن ابن عمر. قال الدارقطني (¬3) في "العلل": لا يصح. وقال ابن حبان (¬4): عمران بن أبي (أ) الفضل يروي الموضوعات عن الثقات. قال ابن أبي حاتم (¬5): سألت أبي عنه، فقال: منكر. وقد حدث به هشام بن عبيد [الرازي] (ب)، فزاد فيه بعد "أو حجامًا": "أو دَبّاغًا". قال: فاجتمع عليه الدباغون وهموا به. وقال ابن عبد البر (2): هذا منكر، موضوع. وذكره ابن الجوزي (¬6) في "العلل المتناهية" من طريقين إلى ابن عمر؛ في أحدهما عليُّ (جـ) بن عروة، وقد رماه (د) ابن حبان بالوضع (هـ) (¬7). وفي الأخرى محمد بن الفضل بن عطية (¬8)، وهو متروك. والأُولى في ابن عَدي (¬9)، ¬

_ (أ) ساقطة من: ب، جـ. (ب) في الأصل، جـ: الرواي. (جـ) في جـ: عن. (د) في جـ: رواه. (هـ) سقط من: جـ.

والثانية في الدارقطني (¬1). وله طريق أخرى عن معاذ بن جبل، رواها (أ) البزار (¬2) في "مسنده"، رفعه: "العرب بعضها لبعض أكفاء، والموالي بعضها لبعضٍ أكفاء". وفيه سليمان بن أبي [الجون] (ب). قال ابن القطان (¬3): لا يُعرف. ثم هو من رواية خالد بن معدان عن معاذ، ولم يسمع منه. والحديث فيه دلالة على استواء العرب في الكفاءة، وأن الموالي ليسوا (جـ أكفاءً لهم جـ)، وأنهم أكفاء بعضهم لبعضٍ، وهذا فيه دلالة بالنظر إلى العلة المناسبة لاعتبار ذلك، وهو ما يلحق من الغضاضة إذا اتصل الوضيع بالرفيع، فيقاس ما كان فيه عدم مساواة بين الزوجين، إما من جهة النسب أو الحسب أو المال أو الصفات الدنيوية أو الدينية، وللعلماء في ذلك اختلاف؛ فذهب الهادي والقاسم وأبو العباس وأبو طالب والمؤيد بالله إلى أن المعتبر المماثلة في الحسب والدِّين. وزاد أبو حنيفة المماثلة في المال، ونقل صاحب "الإفصاح" (د) (¬4) عن الشافعي أنه قال: الكفاءة في الدِّين والمال والنسب. ونقل ابن المنذر (¬5) عن البويطي أن الشافعي قال: الكفاءة في الدِّين. وهو كذلك في "مختصر البويطي"، قال الرافعي: وهو خلاف المشهور. ونقل ¬

_ (أ) في ب، جـ: رواه. (ب) في الأصل: الجوت. (جـ - جـ) في ب، جـ: أكفاءهم. (د) في جـ: الإيضاح.

الآبري (أ) عن الربيع، أن رجلًا سأل الشافعي عنه، فقال: أنا عربي، لا تسألني عن هذا (¬1). وجزم باعتبار المال أبو الطيب [والصيمري] (ب) وجماعة، واعتبره الماوردي في أهل الأمصار، وخص الخلاف بأهل البوادي والقرى، المتفاخرين بالنسب دون المال، وذهب أبو يوسف إلى أن المعتبر المساواة في الحسب -وهو بفتح المهملتين ثم باء موحدة- وهو في الأصل التشرف (جـ) بالآباء وبالأقارب، مأخوذ من الحساب؛ لأنهم كانوا إذا تفاخروا عدوا مناقبهم ومآثر آبائهم وقومهم وحسبوها، فيحكم لمن زاد عدده على غيره. وقيل: المراد بالحسب هنا الأفعال الحسنة. وقد يطلق على المال والدِّين (د) والمال والحرفة الرفيعة. والمحترفون أكفاء إلا الحاكة والدبَّاغين والكناسين. وقال محمد بن الحسن: إن المعتبر الحسب والمال لا الدين. ويرد قوله - صلى الله عليه وسلم -: "ممن ترضون خلقه ودينه" (¬2). عليه؛ فإنه اعتبر الدين. وذهب زيد بن علي، وأحد قولي الناصر، ومالك، إلى أن المعتبر الدين فقط. قالوا: لقوله تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} (¬3). وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "الناس كلهم ولد آدم" (¬4). و: "الناس كأسنان المشط" (¬5). ¬

_ (أ) في ب: الأموي. وينظر سير أعلام النبلاء 16/ 299، 300 والإكمال 1/ 122، 123. (ب) في الأصل: والصمري. (جـ) في ب، جـ: الشرف. (د) بعده في جـ: عطف على الحسب.

وقد أشار البخاري (¬1) إلى نصرة هذا القول، فقال في أول باب الأكفاء في الدين: وقوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا} (¬2). فاستنبط من الآية الكريمة المساواة بين بني آدم، ثم أردفه بإنكاح أبي حذيفة من سالم بابنة أخيه هند بنت الوليد بن عتبة بن ربيعة، وهو مولى لامرأة من الأنصار، وتبناه حذيفة (¬3). وهذا القول مروي عن عمر وابن مسعود، وعن محمد بن سيرين وعمر بن عبد العزيز، وحديث الباب كما عرفت من ضعفه. وأما ما أخرجه أحمد والنسائي وصححه ابن حبان والحاكم (¬4) من حديث بُريدة يرفعة: " [إن] (أ) أحساب أهل الدنيا الذي يذهبون إليه المال". فهو لا يؤخذ منه أن المال معتبر في الكفاءة، فإن الظاهر من معناه [أن] (أ) من شأن أهل الدنيا رفعة من كان كثير المال ولو كان وضيعًا، وضعَةَ من كان مقِلًّا ولو كان كريمًا، كما هو موجود مشاهَد. ولكن هذا الذي يذهب إليه أهل الدنيا من سوء نظرهم، وعدم التفاتهم إلى ما ينفع في العقبى، كما قال الله تعالى: {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} (¬5). وقد كفى سبحانه وتعالى في الرد على مَن اعتبر غير الدين، ¬

_ (أ) في الأصل: أو.

بقوله تعالى: {إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى}. ثم قال: {وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا} (¬1). أي أن الحكمة في ذلك هي أن يعرف بعضكم نسب بعض فلا يعتزي إلى غير آبائه، لا أن يتفاخروا بالآباء والأجداد، ويدَّعوا التفاوت والتفاضل في الأنساب. ثم بين الخصلة التي بها يفضل الإنسان غيره، [ويكتسب] (أ) الشرف والكرم عند الله، فقال: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ}. كأنه قيل: لم لا يتفاخر بالأنساب؟ فقيل: لأن أكرمكم عند الله أتقاكم لا أنسبكم. وكذلك ما صرح به النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم فتح مكة لما طاف، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: "الحمد لله الذي أذهب عنكم عبِّيَّة (¬2) -بضم المهملة وكسرها- الجاهلية وتكبُّرَها، يأيها الناس، إنما الناس رجُلان؛ مؤمن تقي كريم على الله، وفاجر شقي هين على الله". ثم قرأ الآية (¬3). وقال - صلى الله عليه وسلم -: "مَن سرَّه أن يكون أكرم الناس فليتق الله" (¬4). فجعل النبي - صلى الله عليه وسلم - الالتفات إلى النسب من عبية الجاهلية وتكبرها، فكيف يعتبره المؤمن ويُبنَى عليه حكم شرعي؟! وفي الحديث شيء كثير مما (ب) يفيد التواتر المعنوي في النهي عن الالتفات إلى النسب، لا سيما النسب المنقطع ¬

_ (أ) في الأصل: يكسب. (ب) في ب، جـ: ما.

في الدنيا، كنسب من لا ينسب (أ) إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومن اعتبر الكفاءة في النسب اختلفوا في تفصيل ذلك؛ فقال أبو حنيفة: قريش أكفاء بعضهم بعضًا، والعرب كذلك، وليس أحد من العرب كفئًا لقريش كما ليس أحد من غير العرب كفئًا للعَرب. وهو وجه للشافعية، والصحيح (ب عند الشافعية ب) تقديم بني هاشم والمطلب على غيرهم، ومن عدا هؤلاء أكفاء بعضهم لبعضٍ. وقال الثوري (جـ): إذا نكح المولى العربية يفسخ النكاح. وبه قال أحمد في رواية، وتوسط الشافعي فقال: ليس نكاح غير الأكفاء حرامًا فأرُدَّ به النكاح، وإنما هو تقصير بالمرأة والأولياء، فإذا رضُوا صح ويكون حقًّا لهم تركوه، فلو رضُوا إلا واحدٌ فله فسخه. وهذا هو كقول الهدويَّة، أنه يغتفر برضا (د) الأعلى والولي، ويرد على هؤلاء تزويج النبي - صلى الله عليه وسلم - لفاطمة بنت قيس القرشية من أسامة (¬1)، وتقديمه على مَن هو مساوٍ في النسب، مع أنه ما عرف أن النبي - صلى الله عليه وسلم - عرض على أحدٍ من قرابتها إسقاط حقه، لو كان لهم حق في ذلك كما ذكر، بل أمر بني بَياضة بإنكاح أبي هند، وقال: "إنما هو امرؤٌ من المسلمين" (¬2). فنبه على ¬

_ (أ) في ب، جـ: ينتسب. (ب - ب) في ب: للشافعية. (جـ) في جـ: النووي. (د) في ب: رضا.

الوجه المقتضي لمساواتهم (أ)، وهو الاجتماع في وصف الإسلام. والله سبحانه أعلم. 824 - وعن فاطمة بنت قيس أن (ب) النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لها: "انكحي أسامة". رواه مسلم (¬1). هي فاطمة بنت قيس بن خالد الأكبر الفهرية القرشية، أخت الضحاك بن قيس، يقال: إنها كانت أكبر منه بعشرين سنة. وكانت من المهاجرات الأُوَل، وهي راوية لحديث الدجال والجساسة وحديث العدة، روى عنها أبو سلمة بن عبد الرحمن وعروة بن الزبير والشعبي، وكانت ذات جمال وفضل وكمال، وكانت عند أبي عمرو بن حفص بن المغيرة فطلقها، وزوجها النبي - صلى الله عليه وسلم - من أسامة بن زيد مولاه، والحديث قال لها النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك (جـ) لما أخبرته بعد انقضاء عدتها من طلاق أبي عمرو بن حفص، أن معاوية بن أبي سفيان وأبا جهم خطباني. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أما أبو جهم فلا يضع عصاه عن عاتقه، وأما معاوية فصعلوك لا مال له، انكحي أسامة بن زيد". فكرهته، ثم قال: "انكحي أُسامة". فنكحتُه، فجعل الله فيه خيرًا واغْتَبطتُ. هذا لفظ مسلم. والحديث فيه دلالة على عدم اعتبار (د) المساواة في النسب، وأنه يستوي ¬

_ (أ) في ب، جـ: بمساواتهم. (ب) في جـ: عن. (جـ) ساقطة من: ب. (د) ساقطة من: جـ.

المولى وغيره، وفيه حجة واضحة على رد قول الثوري، وكذا على من قال: إن الكفاءة معتبرة، وإن تركها يغتفر برضا [الولي] (أ). فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يعرض على أحد من أوليائها، فلو كان لهم حق في ذلك لآذنهم [فيه] (ب)، وقد تقدم في الحديث الأول ما فيه كفاية. والمصنف رحمه الله تعالى أورد [هذا] (جـ) الحديث بعد الحديث الأول؛ للتنبيه على أن هذا الحديث هو المعول (د) عليه بعد ظهور ضعف الحديث الأول. 825 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "يا بني بياضة، أنكحوا أبا هند، وأنكحوا إليه". وكان حجامًا. رواه أبو داود والحاكم بسند جيد (¬1). الحديث أخرجاه من طريق [محمد بن عمرو] (هـ) عن أبي سلمة عن أبي هريرة مرفوعًا. وهذا الحديث أورده المصنف للتنبيه على ما ذكر في الحديث الأول، وذكر بعض الهَدويَّة أنه قد يكتسب الشرف في الصفات فيساوي النسب، وأن من جملة ذلك إذا أمر الإمام بتعظيم شخص، فإنه يكون حكمه حكم شرف النسب، واحتج بهذا الحديث، وهو بعيد، فإنه كان شائعًا في الصحابة رضوان الله عليهم اعتبار مساواتهم في الصحبة واطراح ما ¬

_ (أ) في الأصل: المولى. (ب) ساقطة من: الأصل. (جـ) في الأصل: هنا. (د) في جـ: المعمول. (هـ) في النسخ: ليث بن عمر. والمثبت من مصادر التخريج.

سواها، ولذلك نكح بلال هالة بنت عوف أخت عبد الرحمن بن عوف، وعرض عمر رضي الله عنه على سلمان الفارسي نكاح ابنته، وأضرب عن ذلك سلمان لما قال له بعض ولد عمر: إنه شرف بالمصاهرة لأمير المؤمنين. فصده ذلك وترك، بل في هذا دَلالة واضحة على أن سلمان رضي الله عنه ترفع عن الوضاعة التي يعتبر الرفعة بها مَن لا فهم له في مقاصد الشريعة ونحوها؛ للعادات الجاهلية والمألوفات النفسية المائلة إلى التكبر والتفاخر. وأبو هند اسمه يسار، وهو الذي حجم النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو مولى بني بَياضة، وقيل: إن اسمه سالم بن أبي سالم. وقيل: عبد الله بن هند. وقيل: سنان. غلبت عليه كنيته. روى عنه ابن عباسٍ وأبو هريرة وجابر (¬1). 826 - وعن عائشة رضي الله عنها قالت: خيرت بريرة على زوجها حين عتقت. متفق عليه في حديث طويل. ولمسلم عنها أن زوجها كان عبدًا. وفي رواية عنها: كان حرًّا. والأول أثبت. وَصح عن ابن عباسٍ رضي الله عنه عند البخاري أنه كان عبدًا (¬2). قوله: "خيرت". هذا بعض من حديث عائشة، وهو: قالت: كانت في بريرة ثلاث سُنن؛ إحدى السنن أنها أُعتقت فخيرت في زوجها. الحديث ¬

_ (¬1) الإصابة 7/ 445. (¬2) البخاري، كتاب الطلاق، باب لا يكون بيع الأُمة طلاقا 9/ 404 ح 5279، ومسلم، كتاب العتق، باب إنما الولاء لمن أعتق 2/ 1144 ح 1504/ 5، ورواية مسلم: أن زوجها كان عبدا. في الباب نفسه من كتاب العتق ح 1504/ 9، 11، 13. وروايته أنه كان حرًّا في الباب نفسه ح 1504/ 12. ورواية البخاري عن ابن عباس: أنه كان عبدًا 9/ 406 - 408 ح 5280 - 5283.

أخرجه البخاري في باب: لا يكون بيع الأمة طلاقًا. وظاهر هذا اللفظ يدل على ثبوت الخيار للأمة وإن كان زوجها حرًّا، ولكن البخاري جزم بأنه كان عبدًا، وهذا اللفظ وإن كان مطلقًا ولكنه مقيد بغيرها من الروايات؛ لأن القصة واحدة، والإجماع على ثبوت الخيار إذا كان الزوج عبدًا، واختلف العلماء إذا كان حرًّا؛ فذهب الجمهور إلى أنه لا يثبت الخيار. قالوا: لأن العلة في ثبوت الخيار إذا كان عبدًا هو عدم المكافأة من العبد للحرة في كثير من الأحكام، فإذا عتقت ثبت لها الخيار من البقاء في عصمته أو المفارقة؛ لأنها في وقت العقد عليها لم تكن من أهل الاختيار. وذهبت العترة والشعبي والنخعي والثوري وأبو حنيفة وأصحابه إلى أنه يثبت الخيار وإن كان زوجها حرًّا، واحتجوا بحديث الأسود بن يزيد عن عائشة، أن زوج بريرة كان حرًّا (¬1). وعللوا ذلك بأنها (أ) عند تزويجها لم يكن لها اختيار، لأن (ب) سيدها يزوجها وإن كرهت، فإذا عتقت تجدد لها حال لم يكن قبل ذلك. وأجاب الجمهور عن ذلك بأن حديث الأسود اختلف فيه على راويه؛ هل هو من قول الأسود، أو رواه عن عائشة، أو هو من قول غيره، وهو إبراهيم النخعي كما أخرجه البيهقي (¬2) عن آدم شيخ البخاري، ولفظه: قال الحكم (جـ): قال إبراهيم: وكان زوجها حرًّا، فخيرت مِن زوجها. فظهر أن ¬

_ (أ) في جـ: بأنه. (ب) في ب، جـ: فإن. (جـ) في جـ: الحاكم. وينظر تهذيب الكمال 7/ 114.

هذه مدرجَة. قال إبراهيم بن أبي طالب أحد حفاظ الحديث، وهو من أقران مسلم، فيما أخرجه البيهقي (¬1) عنه: خَالفَ الأسود الناس في زوج بريرة. وقال الإمام أحمد (¬2): إنما يصح أنه كان حرًّا عن الأسود وحده، وما جاء عن غيره فليس بذاك، وصح عن ابن عباسٍ وغيره أنه كان عبدًا، ورواه علماء المدينة، وإذا روى علماء المدينة شيئًا وعملوا به فهو أصح. وأخرج أبو داود (¬3) من طريق عفان عن ابن عباسٍ بلفظ: إن زوج بريرة كان عبدًا أسود يسمَّى مغيثًا، فخيرها النبي - صلى الله عليه وسلم - وأمرها أن تعتد. وساقه أحمد (¬4) عن عفان عن همام مطولًا. وأخرج البخاري (¬5) عن ابن عباس ذلك من طريقين؛ قال في أحدهما: ذاك مغيث عبد بني فلان؛ يعني زوج بريرة. وفي الأخرى: كان زوج بريرة عبدًا أسود يقال له: مغيث. وهكذا جاء مِن غير وجه أن اسمه مغيث؛ وهو بضم الميم وكسر المعجمة ثم تحتانية ساكنة ثم مثلثة، ووقع عند العسكري بفتح المهملة وتشديد التحتانية وآخره باء موحدة، والأول أثبت، وبه جزم ابن ماكولا (¬6) وغيره، ووقع عند المستغفري في "الصحابة" أن اسمه مقسم. قال المصنف (¬7) رحمه الله: وما أظنه إلا تصحيفًا. قال الدارقطني (¬8) في "العلل": لم يختلف على عروة عن عائشة ¬

_ (¬1) البيهقي 7/ 224. (¬2) ينظر الفتح 9/ 407. (¬3) أبو داود 2/ 277 ح 2232. (¬4) أحمد 1/ 281. (¬5) تقدم تخريجه في حديث الباب. (¬6) الإكمال 7/ 276. (¬7) الفتح 9/ 408. (¬8) ينظر علل الدارقطني 5 ب / 129 - مخطوط، والفتح 9/ 410.

أنه كان عبدًا، وكذا قال جعفر بن محمد بن علي عن أبيه عن عائشة، وأبو الأسود وأسامة بن زيد عن القاسم، وأما ما أخرجه قاسم بن [أصبغ] (أ) في "مصنفه"، وابن حزم (¬1) من طريقه، عن عروة عن عائشة أن زوج بريرة كان حرًّا. فهو وهم من أحمد بن يزيد المعلم أو من موسى بن معاوية، فإن الحفاظ من أصحاب هشام ثم من أصحاب جرير راويه (5) عن هشام قالوا: كان عبدًا. منهم إسحاق بن راهويه وحديثه عند النسائي (¬2)، وعثمان بن أبي شيبة وحديثه عند أبي داود (¬3)، وعلي بن حجر وحديثه عند الترمذي (¬4)، وأصله عند مسلم (¬5)، وأحال به على رواية أبي أسامة (¬6) عن هشام، وفيها أنه كان عبدًا. وقد روى شعبة (¬7) عن عبد الرحمن بن القاسم، فقال: كان حرًّا. ثم رجع عبد الرحمن فقال: ما أدري. قال الدارقطني (¬8): وقال عمران بن [حدير] (جـ) عن عكرمة عن عائشة: كان حرًّا. وهو وَهم في ¬

_ (أ) في النسخ: صبغة. والمثبت من مصدر التخريج، وينظر السير 15/ 472. (ب) في جـ: رواه. (جـ) في الأصل، ب: جرير. وفي جـ: حرر. ولعل الصواب ما أثبتناه. وينظر الفتح 9/ 410، وتهذيب الكمال 22/ 314.

شيئين؛ في قوله: حر. وفي قوله: عن عائشة. وإنما هو من رواية عكرمة عن ابن عباسٍ، ولم يختلف على ابن عباس أنه كان عبدًا، وكذا جزم الترمذي (¬1) عن ابن عمر، وحديثه عند الشافعي (¬2) والدارقطني (¬3) وغيرهما، وكذا أخرجه النسائي (¬4) مِن حديث صفية بنت أبي عبيد قالت: كان زوج بريرة عبدًا. وسنده صحيح. وقال [النووي] (أ): يؤيد قول من قال: إنه كان عبدًا. قول عائشة: كان عبدًا، ولو كان حرًّا لم يخيرها. فأخبرت وهي صاحبة القصة بأنه كان عبدًا، ثم عللت بقولها: ولو كان حرًّا لم يخيرها. ومثل هذا توقيف. ولكنه تعقب بأن الزيادة: ولو كان حرًّا. إلخ. مدرجَة مِن قول عروة، بيَّن ذلك في رواية مالك وأبي داود والنسائي (¬5)، وأما ما أخرجه أحمد (¬6) عن إبراهيم عن الأسود عن عائشة قالت: كان زوج بريرة حرًّا، فلما عتقت خيرت. الحديث. وأخرج ابن أبي شيبة (¬7) أيضًا بهذا السند عن عائشة قالت: كان زوج بريرة حرًّا. ومن وجه آخر (¬8) عن إبراهيم ¬

_ (أ) في الأصل: الثوري. وينظر صحيح مسلم بشرح النووي 10/ 141.

عن الأسود أن عائشة حدثته أن زوج بريرة كان حرًّا حين أعتقت، فيحتمل أنه مدرج من قول الأسود أو من دونه، فيكون من أمثلة ما أدرج في أول الخبر، وهو نادر، ويدل على ذلك ما تقدم من الروايات المفصلة التي تقدمت، وأيضًا فإن القاسم ابن أخي عائشة وعروة ابن أختها، وتابعهما غيرهما، هما أعرف بحديث عائشة وأقعد بالمشافَهَة منها، ويرجح ذلك عملها، فإنها كانت تذهب إلى أنه لا خيار للأمة إذا كانت تحت حر. وقد حاول بعض الحنفية اعتبار طريق الجمع بين الروايات بأن راوي: إنه كان عبدًا. باعتبار ما كان عليه، وراوي: إنه كان حرًّا. باعتبار ما صار إليه حال عتق بريرة وأنه أعتق، ويؤيد هذا بأن الحرية تطرأ على الرق دون العكس، والجمع هو الأولى إذا أمكن، ويجاب عنه بأن في بعض الألفاظ تصريحًا بأنه كان عبدًا في ذلك الوقت الذي خيرت فيه كما تقدم (¬1)، والجمع يتعين مع استواء الروايات، وقد عرفت رجحان رواية كونه عبدًا قوةً وكثرة وحفظًا، ويتبين بما ذكرناه ضعف قول ابن القيم في "الهدي" (¬2): إن حديث عائشة رواه ثلاثة؛ الأسود، وعروة، والقاسم؛ فأما الأسود فلم يختلف عنه أنه كان حرًّا، وأما عروة فعنه روايتان صحيحتان تتعارضان (أ)، [إحداهما] (ب): أنه كان حرًّا، والثانية: أنه كان عبدًا، وأما عبد الرحمن بن القاسم فعنه روايتان صحيحتان؛ [إحداهما] (ب): أنه كان حرًّا، والثانية: الشك. انتهى. وقد ¬

_ (أ) في ب، جـ: متعارضتان. (ب) في النسخ: إحديهما.

عرفت ما في حديث الأسود وغيره، وكذلك قول الإمام المهدي في "البحر"، في الرد على من قال: لا خيار في الحر. قلنا: بل اجتهاد، يعني قول عائشة: ولو كان حرًّا لما خيرها. ومعارض بما روينا، والعلة ملكها نفسها؛ بدليل قوله - صلى الله عليه وسلم -: "ملكت نفسك فاختاري" (¬1). ولم يفصل. انتهى. فبما ظهر لك لا تقوم المعارضة. وقال ابن القيم (¬2): مبنى خلاف الفقهاء على تحقيق المناط في إثبات الخيار، وفيه ثلاثة مآخذ؛ أحدها: زوال الكفاءة، وهو قولهم: كانت تحت ناقص. الثاني: أن عتقها أوجب للزوج ملك طلقة ثالثة عليها لم تكن مملوكة له بالعقد، وهذا مأخذ أصحاب أبي حنيفة، وبَنَوه على أصلهم أن الطلاق معتبر بالنساء لا بالرجال. الثالث: ملكها نفسها. وضعف الأول بأنه مبني على أن الكفاءة معتبرة في الدوام كما هي معتبرة في الابتداء، مع أن ذلك غير مُعتبر؛ إذ لا يشترط دوام الشروط واستمرارها، وكذلك الكفاءة؛ فإنه لو فسق الزوج لم يثبت الخيار، وهو اختيار الحنابلة والمالكية، والثاني بأنه لا مناسبة بين ثبوت طلقة ثالثة وبين ثبوت الخيار لها، ورجح المأخذ الثالث بأن السيد عقد عليها بحكم الملك حيث كان مالكًا لرقبتها ومنافعها، والعتق يقتضي تمليك الرقبة والمنافع للمعتق، وهذا مقصود العتق وحكمته، فإذا ملكت رقبتها ملكت بضعها ومنافعها، ومن جملتها منافع البضع، فلا يملك عليها إلا باختيارها، فخيرها الشارع بين أن تقيم مع زوجها وبين أن تفسخ ¬

_ (¬1) ابن سعد في الطبقات 8/ 259 من مرسل الشعبي، والدارقطني 3/ 290 من حديث عائشة بنحوه. (¬2) زاد المعاد 5/ 169، 170.

نكاحه، إذ قد ملكت منافع بضعها. وقد جاء في بعض طرق حديث بريرة أنه - صلى الله عليه وسلم - قال لها: "ملكت نفسك فاختاري". وهذا كلام محقق إلا أنه لا دليل على العلة المذكورة، والمناسبة تفيد الظن، وهي معارضة بمناسبة الكفاءة، وقد تأيدت مناسبة الكفاءة بقول عائشة: ولو كان حرًّا لما خيرها. فإنه يدل على أن العلة عدم كفاءة العبد للحر، ويختص هذا الحكم من بين سائر شروط النكاح من اعتبار استمراره كما يعتبر في الابتداء، ولا مانع من ذلك ويدل عليه ورود هذا الحكم. وأما قوله: "ملكت نفسك فاختاري". فإنه يحتمل أن المراد من ذلك أنها استقلت بأمر النظر في (أ) مصالحها من غير إجبار عليها من سيدها كما كانت من قبل يجبرها سيدها على الزواج (ب)، بل هذا هو المتبادر فلا يثبت المدعى، فتأمل ذلك. وقد يحتج للجمهور بما أخرجه النسائي (¬1) من حديث ابن موهَب عن القاسم بن محمد قال: كان لعائشة غلام وجارية. قالت: فأردت أن أعتقهما، فذكرت ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "ابدئي بالغلام قبل الجارية". ولولا أن التخيير يمتنع إذا كان الزوج حرًّا لم يكن للبداية بعتق الغلام فائدة، فإذا بدأت به عتقت تحت حر، فلا يكون لها خيار. وفي "سنن النسائي" (¬2) أيضًا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "أيما أمة كانت تحت عبد فعتقت فهي بالخيار ما لم يطأها زوجها". إلا أن ¬

_ (أ) في جـ: من. (ب) في ب، جـ: الزوج.

الحديث الأول قال (أ) فيه (ب) أبو جعفر العقيلي (¬1): هذا خبر لا يعرف إلا [بعبيد] (جـ) الله بن عبد الرحمن بن موهَب وهو ضعيف (¬2). وقال ابن حزم (¬3): هو خبر لا يصح، ثم لو صح لم يكن فيه حجة؛ لأنه ليس فيه أنهما كانا زوجين، ولو كانا زوجين، يحتمل أن [يكون] (د) البداية بالرجل، لفضل عتقه على الأنثى، فإن عتق أنثيين (هـ) يقوم مقام عتق رجل واحد، كما في الحديث الصحيح، وأما الحديث الثاني فهو من رواية [حسن] (و) بن [عمرو] (ز) بن أمية الضَّمري، وهو مجهول. وقوله: "خيرت". فيه دلالة على أنه تقع الفرقة بلفظ الاختيار، وظاهر قول الهدوية في تفاريع المذهب أنه لا بد من لفظ الفسخ ورضا المفسوخ، أو حكم الحاكم مع التشاجر، وأن هذا عامٌّ في جميع الفسوخ (ح)، وأن الفسخ لا يكون له حكم الرجعي، بل حكم الطلاق البائن، فلا يثبت للزوج الرجعة، وبعضهم قال: له الرجعة. وتمسك بما جاء في بعض ألفاظ ¬

_ (أ) في ب: فقال. (ب) ساقطة من: ب، جـ. (جـ) في النسخ: بعبد. والمثبت من مصدر التخريج، وينظر تهذيب الكمال 19/ 84. (د) ساقطة من: الأصل. (هـ) في ب، جـ: اثنتين. (و) في النسخ: حسين. والمثبت من مصدر التخريج. (ز) في الأصل: عمر. (ح) في جـ: المفسوخ.

الحديث، قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لو راجعتيه (أ) ". ولا حجة في ذلك؛ لأن المراد بمراجعتها أن ترجع إلى عصمة نكاحه، ولو بعقد مجدد، كما في قوله تعالى: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا} (¬1). ولو كان له ذلك لم يكن فائدة لفسخها، وإطلاق التخيير لها يدل على أنه على التراخي؛ إذ لو كان فوريًّا (ب) لبين لها ذلك. وقد ذهب إلى ذلك الهدوية وأبو حنيفة ومالك وأحمد، وللشافعي ثلاثة أقوال؛ هذا أحدها، والثاني (جـ): أنه على الفور، والثالث: أنه إلى ثلاثة أيام. وقيل: بقيامها من مجلس الحاكم. وقيل: من مجلسها. والقولان للحنفية، ولكنه لا يبطل خيارها إلا إذا مكنته من نفسها عالمة بالعتق وثبوت الخيار؛ لما رواه أحمد (¬2) بإسناده عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إذا أعتقت (د) الأمة فهي بالخيار ما لم يطأها؛ إن تشأ (هـ) فارقته، وإن وطئها فلا خيار لها (و)، ولا تستطع فراقه". وظاهر الحديث أن الوطء مانع من الخيار مطلقًا. وقد ذهب إليه الحنابلة، وكذا في رواية الدارقطني (¬3): "إن وطئك فلا خيار لك". وإذا فسخت الأمة استحقت المهر إذا كان بعد الدخول، ¬

_ (أ) في ب، جـ: راجعته. (ب) في ب: فورا. (جـ) زاد في ب: على. (د) في ب، جـ: عتقت. (هـ) في جـ: شاء. وفي مصدر التخريج: شاءت. (و) ساقطة من: ب.

وإن وطئت بعد العتق قبل العلم [فإن] (أ) لها الفسخ. وقال الإمام يحيى: إنها تستحق مهر المثل في الطرف الثاني، لأنها وطئت وقد صار معرضًا للفسخ، فأشبه النكاح الفاسد، وإن كانت الأمة صغيرة أو مجنونة لم يثبت الخيار لوليها، بل تُنْتَظَرُ، وإن طلقها قبل أن تفسخ صح الطلاق، وأحد قولي الشافعي، أنها إذا فسخت بطل الطلاق، وإن طلقها بعد الفسخ لم يقع، كما إذا طلقها بعد الطلاق البائن. واعلم أن هذا الحديث ذكره الأئمة في مواضع، في الزكاة، وفي البيع، وفي النكاح، وفي العتق. وقد ذكره المصنف بطوله في البيع، ودل على أحكام كثيرة، فلنذكر بعضًا منها جمعًا للفائدة، وهو جواز كتابة الزوجين الرقيقين، ويلحق به جواز بيع أحدهما دون الاخر، وجواز كتابة من لا مال له ولا حرفة، وهذا محتمل، فإنه لا يلزم من طلبها الإعانة ألا يكون لها حرفة، وبيع المكاتب إذا رضي ولو لم يعجِّز نفسه، وأن المكاتب عبد ما بقي عليه درهم، وأن البيع يكون إلى من يعتقه، وأن بيع الأمة المزوجة لا يكون طلاقًا، وأن عتقها ليس طلاقًا ولا فسخًا، وأن بيعها لا يبيح لمشتريها وطأها، وأن السيد لا يمنع المكاتب من الاكتساب، وأن الكسب من حين الكتابة يكون له، وجواز السؤال للمكاتب، وأن ذلك لا يقتضي تعجيزه، وجواز سؤال ما لا يضطر السائل إليه في الحال، وجواز الاستعانة بالمرأة المزوجة، وجواز تصرفها في مالها بغير إذن زوجها، وحصول الأجر حتى في الشراء بالزيادة عن ثمن المثل لقصد التقرب بالعتق، وجواز الزيادة في الثمن من ¬

_ (أ) في الأصل، جـ: بأن.

مطلق التصرف، وأن الرقيق له أن يسعى في فكاك رقبته من الرق، وبُطلان الشروط الفاسدة في المعاملات، وصحة الشروط المشروعة؛ لقوله في الحديث: "كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل". وأنه لا يصح إن شرط على المعتق بقاء الخدمة بعد العتق، وأن من شرط شرطًا فاسدًا وهو جاهل لتحريمه لا يستحق العقوبة، وأن السيد يقبل من المكاتب ولو كان من الصدقة، وكذلك إذا سلمه قبل حلول النجوم، وأن التبرع (أ) عن المكاتب يصح ويعتق، وجواز إبطال الكتابة وفسخ عقدها إذا تراضى السيد والعبد، وثبوت الولاء للمعتق، والرد على من خالفه، ومشروعية الخطبة في الأمر المهم والقيام فيها، وتقديم الحمد والثناء، وقول "أما بعد" عند ابتداء الكلام في الحاجة، وأنه لا يعين اسم من يراد الإنكار عليه، وأن استعمال السجع في الكلام لا يكره إلا إذا قصد إليه ووقع متكلفًا، وفيه جواز اليمين فيما لا يجب فيه، ولا سيما عند العزم على فعل الشيء، وأن لغو اليمين لا كفارة فيه، لأن عائشة حَلَفت ألا تشترط، ثم قال لها النبي - صلى الله عليه وسلم -: "اشترطي". ولم ينقل كفارة، وفيه مناجاة الاثنين بحضرة الثالث في الأمر يستحيي منه المناجي ويعلم أن من ناجاه يُعلم الثالث به، ويستثنى ذلك مِن النهي الوارد فيه، وجواز سؤال الثالث عن المناجاة المذكورة إذا ظن أن له تعلقًا به، وجواز إظهار السر في ذلك، ولا سيما إن كان فيه مصلحة للمناجي، وجواز المساومة في المعاملة والتوكيل فيها ولو للرقيق، واستخدام الرقيق في الأمر الذي يتعلق بمواليه وإن لم يأذنوا في ذلك بخصوصه، وثبوت الولاء للمرأة المعتقة، وأن الكافر لا يرث عتيقه المسلم، وأن الولاء لا يوهب ولا يباع، ¬

_ (أ) في ب: المتبرع.

وفي رواية أن "الولاء لمن أعطى الورق" (¬1). المراد به المالك لا من باشر الإعطاء بالوكالة، وفي رواية الثوري (¬2): "لمن أعطى الورق وولي النعمة". وفهم بعضهم من قوله في بعض الطرق أنها عتقت فدعاها فخيرها، أن الخيار على الفور؛ لأن الفاء تقتضي ذلك، وقد تقدم الخلاف في ذلك (¬3). وفي القصة ذكر محبة مغيث وتعجب النبي - صلى الله عليه وسلم -. وقد يستدل به على إبطال قول من زعم استحالة أن يحب أحد الشخصين الآخر والآخر يبغضه؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "ألا تعجب من حب مغيث بريرة ومن بغض بريرة مغيثًا؟ ". ولعل ذلك أكثريٌّ، ولذلك تعجب منه - صلى الله عليه وسلم -، واعتبار الكفاءة في الحرية، وسقوط ذلك برضا المرأة التي لا ولي لها، وجواز دخول النساء الأجانب بيت الرجل وإن كان غائبًا، وأن المكاتبة لا يلحقها في الكتابة ولدها ولا زوجها، وتحريم الصدقة على النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأن موالي أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - لا تحرم عليهم الصدقة وإن حرمت على الأزواج، وجواز أكل الغني [مما] (أ) تصدق به على الفقير وبالبيع أولى، وجواز أكل الإنسان من طعام من يظن رضاه، وأن المعتقة لا حجر عليها من معتقها (ب) بل تَصَرَّفُ في مالها، وجواز الصدقة على من يمونه غيره؛ لأن عائشة كانت تمون بريرة، وأن من أهدي لأهله شيء له أن يشرك نفسه معهم في الإخبار عن ذلك؛ لقوله: "وهو لنا هدية". وأن للمرأة أن ¬

_ (أ) في ب: بما. (ب) في جـ: معتقيها.

تُدخِل إلى (أ) بيت زوجها ما لا يملكه بغير إذنه، وأن تتصرف في بيته بالطبخ وغيره بآلاته ووقوده، وجواز أكل المرء ما يجده في بيته إذا غلب الحل في العادة، وأنه ينبغي تعريفه بما يخشى توقفه عنه، واستحباب السؤال عما يستفاد به علم أو أدب أو بيان حكم أو رفع شبهة، وقد يجب، وسؤال الرجل عما لم يعهده في بيته، وأن هدية الأدنى للأعلى لا تستلزم الإثابة مطلقًا، وقبول الهدية ولو قل (ب) قدرها جبرًا للمهدي، وأن الهدية تملك بوضعها في بيت المهدي له ولا يحتاج إلى التصريح بالقبول، وأن لمن تُصدق عليه بصدقة أن يتصرف فيها كيف شاء ولا ينقص أجر المتصدق، وأنه لا يجب السؤال عن أصل المال الواصل إذا لم يكن فيه شبهة، ولا عن الذبيحة إذا ذبحت بين المسلمين، وفيه مشاورة المرأة زوجها في التصرفات، وسؤال العالم عن الأمور الدينية، وإعلام العالم بالحكم لمن رآه يتعاطى أسبابه ولو لم يسأل، ومشاورة المرأة إذا ثبت لها حكم التخيير في فراق زوجها والإقامة عنده، وأن على الذي يشاور بذل النصيحة، وجواز مخالفة المشير فيما يشير به في غير الواجب، واستحباب شفاعة الحاكم في الرفق بالخصم حيث لا ضرر ولا إلزام، ولا لوم على من خالف ولا غضب ولو عظم قدر الشافع. وترجم له النسائي (¬1): شفاعة الحاكم في الخصوم قبل فصل الحكم. ولا يجب على المشفوع عنده القبول، وأن [التصميم] (جـ) في الشفاعة لا يسوغ فيما يشق الإجابة فيه على المسئول، وحسن الشفاعة قبل أن يسألها المشفوع ¬

_ (أ) ساقطة من: ب، جـ. (ب) في ب، جـ: حقر. (جـ) في الأصل: التفهم.

له؛ لأنه لم ينقل أن مغيثًا سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - (أأن يشفع له، وفي بعض الروايات أن العباس هو الذي سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - أ) في ذلك، ويحتمل أن يكون [مغيثٌ] (ب) سأل العباس في ذلك، وأن العباس ابتدأ من قبل نفسه شفقة منه على مغيث، وأنه يستحب إدخال السرور على المؤمن. وقد ذكر الشيخ أبو محمد بن أبي جمرة (جـ) أن الشافع يؤجر وإن لم تحصل إجابته. ومما ذكر في قصة مغيث أنه كان يتبعها في سكك المدينة ودموعه تنحدر، وأن فرط الحب يذهب الحياء، وأنه يعذر من كان كذلك إذا كان بغير اختيار منه، فيعذر أهل المحبة في الله إذا حَصَل لهم الوجد من سماع ما يفهمون منه الإشارة إلى أحوالهم، حيث يظهر منهم ما لا يحصل عن اختيار كالرقص ونحوه (¬1)، والإصلاح بين المتنافرين من زوجين وغيرهما ولا سيما بين الزوجين إذا كان بينهما ولد، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: "إنه أبو ولدك" (¬2). وقد قيل: إنه أبو ولدها بالقوة، وأنه لم يكن ثم ولد مَوجود. وهو خلاف الظاهر. قال المصنف (¬3) رحمه الله تعالى: ولم أقف على تسمية أحد من أولاد ¬

_ (أ- أ) سقط من: جـ. (ب) في النسخ: مغيثا. والمثبت هو الصواب، وينظر الفتح 9/ 414. (جـ) في ب: حمرة، وفي جـ: حمزة.

بريرة. ولذلك قيل: إنه لم يكن ثم ولد. وأنه ينبغي أن يذكر الشافع ما يكون سببًا للتراجع كما ذكر - صلى الله عليه وسلم -، وأنه يجوز شراء الأمة دون ولدها، إلا أنه قد يدفع بأن الشراء هنا للعتق وهو يجوز العتق (أ)، وأنه يجوز نسبة الولد إلى أمه، كما قال: "أبو ولدك". وأنه يجوز خطبة الكبير والشريف لمن دونه، وحسن الأدب في الخطاب ولو من الأعلى لمن دونه، وحسن التلطف في الشفاعة، وأن للعبد أن يخطب مطلقته بغير إذن سيده إذا كان قد وقع الفسخ، وأن خِطبة المعتدة لرجوعها إلى زوجها الأول لا تضر، وأن فسخ النكاح لا رجعة فيه إلا بنكاح جديد؛ لقوله: "لو راجعتيه". وأن الحب والبغض بين الزوجين لا لوم فيه على أيهما، وأنه يجوز للمحب البكاء على فراق حبيبه، وعلى ما يفوته من الأمور الدنيوية، والدينية بالطريق الأولى، وأنه لا عار على الرجل في إظهار حبه لزوجته، وأن المرأة إذا بغضت زوجها لم يكن لوليها إكراهها على عشرته. وفي هذا المأخذ خفاء، وأن المرأة إذا أحبته لم يكن لوليها التفريق بينهما، وأنه يجوز للرجل الميل إلى امرأة يطمع في تزويجها أو رجعتها، وأنه يجوز للرجل تكليم مطلقته في الطرق واستعطافها واتباعها أين سلكت، ولعله يقال: عند الأمن من الفتنة. وجواز الإخبار عن حال الشخص بما يفهم من حاله وإن لم يفصح كما قال - صلى الله عليه وسلم - للعباس، وأنه ينبغي استفصال ما احتمل، فإن بريرة لما احتمل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - آمرٌ لها أو شافع سألته عن ذلك، وفيه غاية الوقار والتأني منها، وأن كلام الحاكم بين الخصمين لا يكون حكمًا حتى يقصد به فصل شجارهما، وأن المطلوب منه قضاء حاجة يطلب لنفسه الراجح حيث اشترطت عائشة ¬

_ (أ) كذا في النسخ، ولعل الصواب: للعتق.

الولاء لها إذا صبَّت (أ) الثمن، وأنه يصح التبرع بقضاء الدين على المدين، وهذا بناء على أن عائشة لم تتملك الرقبة وإنما فكت نجوم الكتابة [وأخذتها] (ب)، كما تقدم في البيع (¬1)، وأنه يفتي الرجل زوجته وقريبه بما له فيه حظ وغرض إذا كان حقًّا، وأنه يحكم الحاكم للزوجة بالحق، وأنه يجوز لمشتري الرقيق أن يتحدث بأن شراءه ليعتقه ترغيبًا للبائع في تسهيل البيع، وأنه يجوز المعاملة بالدراهم والدنانير عددًا إذا كان قدرها معلومًا، لقولها: أعدّها. ولقولها: تسع أواقي. ويستنبط (جـ) منه جواز بيع المعاطاة إذ لم يذكر عقد، وأنه يجوز عقد البيع بالكناية، لقوله: "خذيها". وكذا في قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث الهجرة: "قد أخذتُها بالثمن" (¬2). وأن حق الله مقدم على حق الآدمي؛ لقوله: "شرط الله أحق وأوثق". ومثله: "دين الله أحق أن يقضى" (¬3). وأنه يجوز أن يكون مالك الرقيق اثنان فصاعدًا كما في قوله: كانت لناس من الأنصار. ويحتمل أن مالكها واحد، وكان ذلك على المجاز في إطلاق الناس على الواحد، وأن ظاهر اليد هو الملك، إذ لم يسأل عن وجه تملك البائعين، وأن مشتري السلعة لا يجب عليه السؤال عن ذلك إلا ¬

_ (أ) يعني: أدت الثمن دفعة واحدة. وينظر الفتح 9/ 415. (ب) ساقطة من: الأصل. (جـ) في ب، جـ: استنبط.

عند الريبة، وأنه يستحب للعالم إظهار أحكام العقد إذا كان العاقد يجهلها، وأن حكم الحاكم لا يحل حرامًا ولا يحرم حلالًا، وأنه يقبل الواحد العدل وخبر العبد والأمة، وأن البيان بالفعل أقوى من البيان بالقول، وأنه يجوز تأخير البيان إلى وقت الحاجة، والمبادرة إليه عند الحاجة، وأن الحاجة إذا اقتضت بيان حكم عام وجب إعلامه أو ندب بحسب الحال، وفي رواية ابن عباسٍ أنها أمرت أن تعتد بعدة (أ) الحرة (¬1) اعتبارًا بالمرأة لا بالرجل، وقد وقع في بعض طرقه: تعتد بحيضة (¬2). وهو مرجوح، وأن تسمية الأحكام سننًا وإن كانت واجبة جائز كما ورد في بعض ألفاظه، وتسمية غير الواجب سنة هو اصطلاح حادث، وأنه يجوز للسيد إجبار (ب) أمته بتزويج من لا تختاره إما لسوء خلقه أو خلقه والزوجة بخلافه، فإنه قد قيل: إن بريرة كانت جميلة غير سوداء وزوجها بخلافها وقد زوجت به وظهر منها الكراهة بعد العتق، وأن أحد الزوجين قد يبغض الآخر ولا يُظهِر له، وأنه يُعْلَم صاحب الحق بما يستحقه إذا جهله، وأنه يطلق الأهل على السيد (جـ) وإطلاق العبيد على الأرقاء، وأنه يجوز أن يسمى العبد مغيثًا، وأن مال الكتابة لا حد لأكثره، وأن للمعتق أن يقبل الهدية من معتقه ولا يقدح ذلك في ثواب العتق، وأنه يجوز الهدية لأهل الرجل من دون استئذانه، وقبول المرأة لذلك ¬

_ (أ) في ب، جـ: عدة. (ب) في جـ: إخبار. (جـ) كذا في النسخ، ولعل الصواب: السادة. وينظر الفتح 9/ 416.

حيث لا ريبة، وأنه ينبغي للرجل أن يسأل عما لم يعهده في بيته كما في سؤال النبي - صلى الله عليه وسلم - عن اللحم، وأنه ينبغي للإنسان السؤال عن أحوال منزله وما عهده فيه، وأنه لا يجب السؤال عن أصل المال الواصل إليه إذا لم يظن تحريمه أو يظهر فيه شبهة؛ إذ لم يسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عمن تصدق على بريرة ولا عن حاله، وقد جاء في رواية أنه - صلى الله عليه وسلم - هو الذي أرسل إلى بريرة بالصدقة (¬1). وهذا ما ذكر في فوائد هذا الحديث الشريف وهي مائة واثنتان وعشرون فائدة، وقد وسع فيه بأبسط من ذلك بتفاصيل وزوائد متعلقة بالفوائد. والله ولي التوفيق. 827 - وعن الضحاك بن فيروز الديلمي عن أبيه قال: قلت: يا رسول الله، إني أسلمت وتحتي أختان. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "طلق أيتهما شئت". رواه أحمد والأربعة إلا النسائي، وصححه ابن حبان والدارقطني والبيهقي، وأعله البخاري (¬2). الضحاك تابعي، حديثه في المصريين، روى عن أبيه، وروى عنه أبو ¬

_ (¬1) ينظر الفتح 9/ 416. (¬2) أحمد 4/ 232، وأبو داود، كتاب الطلاق، باب من أسلم وعنده نساء أكثر من أربع ... 2/ 280، ح 2243، والترمذي، كتاب النكاح، باب ما جاء في الرجل يسلم وعنده أختان 3/ 436 ح 1129، 1130، وابن ماجه، كتاب النكاح، باب الرجل يسلم وعنده أختان 1/ 627 ح 1951، وابن حبان، كتاب النكاح، باب نكاح الكفار 9/ 462 ح 4155، والدارقطني 3/ 273 - وليس فيه تصحيحه وقد نقل تصحيحه مغلطاي في الإكمال (4/ 190 - مخطوط)، والمصنف في تهذيب التهذيب 4/ 448 - والبيهقي في المعرفة 5/ 317، والبخاري في التاريخ الكبير 3/ 248، 249.

وهب الجيشاني، قال البخاري (¬1): لا يعرف سماع بعضهم من بعضٍ. والجيشاني، بفتح الجيم وسكون الياء تحتها نقطتان والشين المعجمة وبالنون، وأبوه فيروز، بفتح الفاء وضم الراء المهملة وبعدها واو ساكنة، وزاي، الديلمي منسوب إلى الديلم وهو الجيل المعروف بفتح الدال المهملة، وهو قاتل الأسود العنسي، وتوفي في خلافة معاوية. الحديث فيه دلالة على أن نكاح الكافر معتبر (أ)، وإن كان مخالفًا لنكاح الإسلام، وأن مثل هذا المخالف لا يخرج من عهدة النكاح إلا بطلاق بعد الإسلام، ويبقى [بعد الإسلام] (ب) بغير عقد مجدد، وقد ذهب إلى هذا الشافعي ومالك وأحمد وداود. وذهب العِترة وأبو حنيفة وأبو يوسف والثوري إلى أنه لا يُقَرُّ منه إلا ما وافق الإسلام؛ فإن كان نكاح الأختين أو العشر مثلًا مرتبًا بقي معه الأول الموافق، وإن كان غير مرتب وكان في عقد واحد، فإنه لا يحل له من ذلك إلا بعقد جديد، وتأولوا مثل هذا الحديث المذكور هنا وحديث غيلان في نكاح العشر بأن الإمساك بعقد، والطلاق المذكور هنا مراد به الاعتزال لا الطلاق الحقيقي، والتأويل هذا متكلف، يستبعد أن يخاطب بمثل هذا النبي - صلى الله عليه وسلم - من كان لا يعرف الشريعة، قريب عهد بالمألوف المخالف، وأما قوله في حديث غيلان: "أمسك أربعًا وفارق سائرهن". فالفرقة وإن كانت تحتمل الاعتزال، ولكنها تطلق على الطلاق، ¬

_ (أ) في ب، جـ: يعتبر. (ب) ساقطة من: الأصل.

كما في قوله تعالى: {أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} (¬1). مع أنه في قوله: "أمسك أربعًا". لم يقل: إن كانت الأوائل. بل ظاهره إطلاق الإمساك لمن شاء، سواء كن متقدمات أو متأخرات. وقال في "نهاية المجتهد" (¬2): إن سبب الاختلاف معارضة القياس للأثر، والمراد قياس ما كان قبل الإسلام على ما بعد الإسلام؛ وهو أنه كما ليس له أن يعقد بعشر أو بأختين بعد الإسلام فكذلك قبله، والأثر هذان الحديثان. ولكنه يجاب عنه أن القياس عند الجمهور يبطل إذا صادم الأثر. والله أعلم. 828 - وعن سالم عن أبيه أن غيلان بن سلمة أسلم وله عشر نسوة، فأسلمن معه، فأمره النبي - صلى الله عليه وسلم - يتخير منهن أربعًا. رواه أحمد والترمذي وصححه ابن حبان والحاكم وأعله البخاري وأبو زرعة وأبو حاتم (¬3). غيلان، صاحب القصة؛ هو غيلان بن سلمة الثقفي، ووقع في (أ) كتب الغزالي تبعًا لشيخه في "النهاية": ابن غيلان، وهو خطأ (¬4). وحكى ¬

_ (أ) في ب، جـ: فيه.

الخطيب (¬1) في اسمه ثلاثة أقوال؛ أولها: غيلان بن سلمة، ثانيها: عروة بن مسعود، ثالثها: مسعود (أ) بن عبد ياليل؛ أسلم بعد فتح الطائف ولم يهاجر، وهو أحد وجوه ثقيف ومقدميهم (ب)، وكان شاعِرًا محسنًا، مات في آخر خلافة عمر، روى عنه عبد الله بن عمر، وعروة بن غيلان، وبشر بن عاصم، ونافع أبو السائب مولاه، وكان أسلم قبله، فلما أسلم غيلان رد عليه ولاءه، أخرج الإمام أحمد الحديث في "مسنده" (¬2) عن ابن عُلية ومحمد بن جعفر جميعًا عن معمر، ولفظه أن ابن سلمة الثقفي أسلم وتحته عشر نسوة، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: "اختر منهن أربعًا". فلما كان في عهد عمر طلق نساءه، وقسم ماله بين بنيه، فبلغ ذلك عمر، فقال: إني لأظن الشيطان مما يسترق من السمع، سمع بموتك فقذفه في نفسك، وأعلمك أنك لا تمكث إلا قليلًا، وايم الله لتراجعن نساءك، ولترجعن مالك أو لأُوَرِّثُهنَّ منك، ولآمرن بقبرك فيرجم كما يرجم (جـ) قبر أبي رِغال. وأخرجه الترمذي وابن ماجه (¬3) وابن حبان من طرق عن معمر؛ منهم ابن علية وغُندَر ويزيد بن زريع وسعيد وعيسى بن يونس، كلهم من أهل البصرة. قال البزار (¬4): جوده معمر بالبصرة، وأفسده باليمن فأرسله. ¬

_ (أ) في مصدر التخريج: أبو مسعود. (ب) في ب، جـ: مقدمهم. (جـ) في ب، جـ: رجم.

وقال الترمذي (¬1): قال البخاري: هذا الحديث غير محفوظ، والمحفوظ ما رواه شعيب عن الزهري. قال: أول حديث جاء عن محمد بن سويد الثقفي أن غيلان أسلم. الحديث. قال البخاري: وأما حديث الزهري عن سالم عن أبيه فإنما هو أن رجلًا من ثقيف طلق نساءه، فقال له عمر: لترجعن نساءك أو لأرجمنك (أ). وحكم مسلم في "التمييز" (¬2) عن معمر بالوهم فيه. وقال ابن أبي حاتم عن أبيه وأبي زرعة: المرسل أصح. وحكى الحاكم (¬3) عن مسلم أن هذا الحديث مما وهم فيه معمر بالبصرة، قال: فإن رواه عنه ثقة خارج البصرة حكمنا له بالصحة. وقد أخذ ابن حبان والحاكم والبيهقي بظاهر هذا [الحديثِ] (ب)، فأخرجوه من طرق عن معمر من حديث أهل الكوفة وأهل خراسان وأهل اليمامة عنه. قال المصنف رحمه الله تعالى (¬4): ولا يفيد ذلك، فإن هؤلاء كلهم إنما سمعوا منه بالبصرة، وإن كانوا من غير أهلها، وعلى تقدير تسليم أنهم سمعوا منه بغيرها، فحديثه الذي حدث به في غير بلده مضطرب؛ لأنه كان يحدث في بلده من كتبه على الصحة، وأما إذا رحل فحدث من حفظه شيئًا وهم فيه، اتفق على ذلك أهل العلم به كابن المديني والبخاري وابن أبي حاتم ¬

_ (أ) في مصدر التخريج: لأرجمن قبرك. (ب) في التلخيص الحبير: الحكم.

ويعقوب بن شيبة وغيرهم. قال الأثرم عن أحمد: هذا الحديث ليس بصحيح، والعمل عليه. وأعله بتفرد معمر بوصله وتحديثه به في غير بلده. وقال ابن عبد البر (¬1): طرقه كلها معلولة. وقد أطال الدارقطني في "العلل" تخريج طرقه. ورواه ابن عيينة (¬2) ومالك (¬3) عن الزهري مرسلًا، وكذا رواه عبد الرزاق (¬4) عن معمر، وقد وافق معمرًا على وصله بحر بن كَنِيز السقاء عن الزهري (¬5)، لكن بحر ضعيف، وكذا وصله يحيى بن سلام عن مالك (¬6)، ويحيى ضعيف، ولكنه يؤيد وصله ما أخرجه النسائي (¬7) عن أيوب عن نافِع وسالم [عن] (أ) ابن عمر، أن غيلان بن سلمة الثقفي أسلم وعنده عشر نسوة. الحديث، وفيه: فأسلم وأسلمن معه. وفيه: فلما كان زمن عمر طلقهن، فقال له عمر: راجعهن. ورجال إسناده ثقات، ومن هذا الوجه أخرجه الدارقطني (¬8)، واستدل به ابن ¬

_ (أ) ساقطة من: الأصل.

القطان على صحة حديث معمر. والحديث فيه دلالة على أنه يتخير أربعًا من غير نظر إلى أن نكاح العشر كان مرتبًا أو غير مرتب، ومَن شاء من متقدمة أو متأخرة، وقد تقدم الكلام عليه، والله أعلم. 829 - وعن ابن عباس رضي الله عنه قال: رد النبي - صلى الله عليه وسلم - ابنته زينب على أبي العاص بن الربيع بعد ست سنين بالنكاح الأول ولم يحدث نكاحًا. رواه أحمد والأربعة إلا النسائي، وصححه أحمد والحاكم (¬1). الحديث أخرجه أحمد من طريق محمد بن إسحاق قال: حدثني داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباسٍ رضي الله عنه. وقال الترمذي (¬2): لا بأس بإسناده. ووقع في رواية بعضهم: بعد سنتين (¬3)، وفي [أخرى] (أ): بعد ثلاث (¬4). وقد جُمع بين الروايات على أن المراد ¬

_ (أ) في الأصل: آخر.

بالست ما بين هجرة زينب وإسلامه، فإنه أسر ببدر، وأرسلت [زينب] (أ) من مكة في فدائه، فأطلق لها بغير فداء، وشَرط النبي - صلى الله عليه وسلم - عليه أن يرسل له بزينب، فوفى له بذلك، وأسلم عام (ب)، وهاجر إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقتل يوم اليمامة (¬1) في خلافة أبي بكر. واسمه مقسم (¬2)، بكسر الميم وسكون القاف وفتح السين المهملة، وهو ابن الربيع بن عبد العزى بن عبد شمس القرشي، وإليه الإشارة في الحديث الصحيح بقوله - صلى الله عليه وسلم - في حقه: "حدثني فصدقني، ووعدني فوفى لي" (¬3). والمراد بالسنتين أو الثلاث ما بين نزول قوله تعالى: {لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ} (¬4) وقدومه مسلما، فإن بينهما ¬

_ (أ) ساقطة من: الأصل. (ب) بعده في النسخ بياض بمقدار كلمة، وقد اختلف أهل السير في عام إسلام أبي العاص؛ فقال الذهبي في السير 1/ 330: أسلم قبل الحديبية -وهي في ذي القعدة سنة ست اتفاقا- بخمسة أشهر. وقال الحافظ في الفتح 9/ 424: إن أهل المغازي أطبقوا على أن إسلامه كان في عام الهدنة بعد نزول آية التحريم- وكانت الهدنة آخر سنة ست اتفاقا، وآية التحريم لم يختلف أهل السير أنها نزلت في الحديبية، قاله ابن عبد البر في التمهيد 12/ 22. وقال ابن الأثير 6/ 186: أسلم قبيل الفتح أول السنة الثامنة. قال ابن كثير في تفسيره 8/ 119: إن إسلامه كان سنة ثمان.

سنتين وأشهرًا. والحديث فيه دلالة على أن الزوجة إذا أسلمت قبل زوجها فالنكاح باقٍ بينهما، يعني لا ينفسخ، وإن كان المداناة (¬1) محرمة بعد نزول قوله تعالى: {لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} (¬2). وهذا قد روي عن علي رضي الله عنه، أخرجه حماد بن سلمة عن قتادة عن سعيد بن المسيب بأن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال في الزوجين الكافرين يسلم أحدهما: هو أملك ببضعها ما دامت في دار هجرتها (¬3). وذكر سفيان بن عيينة عن مطرف [بن طريف] (أ) عن الشعبي عن علي: هو أحق بها ما لم تخرج مِن مصرها (¬4). وذكر ابن أبي شيبة (¬5) عن [معتمر] (ب) بن سليمان عن معمر عن الزهري: إن أسلمت ولم يسلم زوجها فهما على نكاحهما إلا أن يفرق بينهما سلطان. وذهب إلى مثل هذا بعض أهل الظاهر، وأفتى به حماد شيخ أبي حنيفة، والخلاف في هذا للجمهور، فقالوا: إذا أسلمت الحربية ¬

_ (أ) ساقط من: الأصل. (ب) في الأصل: معمر.

وزوجها حربي وهي مدخولة، فإن أسلم وهي في العدة فالنكاح باقٍ، وإن أسلم بعد انقضاء عدتها وقعت الفرقة بينهما بذلك. وادعى في "البحر" الإجماع على ذلك، وكذلك ابن عبد البر (¬1) أشار إلى الإجماع، ونسب الخلاف إلى بعض أهل الظاهر ورده بالإجماع، وتأولوا الحديث؛ إما بأن يقال: إن عدة زينب لم تكن قد انقضت، وذلك بعد نزول آية التحريم لبقاء المسلمة تحت الكافر وهو مقدار سنتين وأشهر (أكما تقدم ذكره أ)، لأن الحيض قد يتأخر مع بعض النساء، فردها عليه لما كانت العدة غير منقضية، وهذا حاصل جواب البيهقي (¬2)، وهو قريب، أو أن المراد بقوله: رد. هو أنه لما أسر أبو العاص يوم بدرٍ قرر نكاحه وهي مستقرة عِنده بمكة، وكان ذلك قبل التحريم لبقاء المسلمة تحت المشرك. ورد هذا ابن القيم في "الهدي النبوي" (¬3)، وقال: لا يعرف [اعتبار] (ب) العدة بشيء من الأحاديث، ولا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يسأل المرأة هل انقضت عدتها أم لا؟ ولا ريب أن الإسلام لو كان بمجرده فرقة لم تكن فرقة رجعية، بل بائنة، فلا أثر للعدة في بقاء النكاح، وإنما أثرها في منع نكاحها للغير، فلو كان الإسلام قد نجز الفرقة بينهما، لم يكن أحق بها في العدة، ولكن الذي [دل عليه ¬

_ (أ- أ) ساقط من: ب، جـ. (ب) في الأصل: اختبار. وفي جـ: اعتباره.

حكمه، (أ) - صلى الله عليه وسلم - أن النكاح موقوف، فإن أسلم قبل انقضاء عدتها فهي زوجته، وإن انقضت عدتها فلها أن تنكح من شاءت، وإن أحبت انتظرته، فإن أسلم كانت زوجته مِن غير حاجة إلى تجديد نكاح، ولا أنعلم أحدًا] (ب) جدد بعد الإسلام نكاحه البتة، بل كان الواقع أحد الأمرين؛ إما افتراقهما [و] (جـ) نكاحها غيره، وإما بقاؤها عليه وإن تأخر إسلامه. وأما تنجيز الفرقة أو مراعاة العدة فلا نعلم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قضى بواحد منهما مع كثرة من أسلم في عهده وقرب إسلام أحد الزوجين من الآخر وبعده منه، ولولا إقراره - صلى الله عليه وسلم - الزوجين على نكاحهما وإن تأخر إسلام أحدهما عن الآخر بعد صلح الحديبية وزمن الفتح -لقلنا بتعجيل الفرقة بالإسلام من غير اعتبار عدة؛ لقوله تعالى: {لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ}. وقوله تعالى: {وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ}. وقد روى مالك في "موطئه" (¬1) عن ابن شهاب قال: كان بين إسلام صفوان بن أمية وبين إسلام امرأته بنت الوليد بن المغيرة نحو من شهر (د)، أسلمت يوم الفتح وبقي صفوان حتى شهد حنينًا والطائف وهو كافر، ثم أسلم، ولم يفرق النبي - صلى الله عليه وسلم - بينهما، واستقرت عنده امرأته بذلك النكاح. قال ابن عبد البر (¬2): وشهرة هذا ¬

_ (أ) في الأصل: حكم به. (ب) في الأصل: يعلم أحد. (جـ) في النسخ: أو. والمثبت من مصدر التخريج. (أ) في الموطأ: شهرين. والمثبت هو الصواب، وينظر التمهيد 12/ 19، 33، والتلخيص الحبير 3/ 176، وبداية المجتهد 2/ 37.

الحديث أقوى من إسناده. وقال ابن شهابٍ (¬1): أسلمت أم حكيم يوم الفتح وهرب زوجها عكرمة حتى أتى اليمن، فارتحلت أم حكيم حتى قدمت عليه باليمن، فدعته إلي الإسلام، فأسلم وقدم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عام الفتح، فلما [قدِم على] (أ) رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وثب [إليه] (ب) فرحًا وما عليه رداء حتى بايعه، [فثبتا] (جـ) على نكاحهما ذلك. [قال] (د) ابن شهابٍ: ولم يبلغنا أن امرأة هاجرت إلى [الله و] (هـ) رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وزوجها كافر مقيم بدار الكفر إلا فرقت هجرتها بينها وبينه إلا أن يقدم زوجها مهاجرًا قبل انقضاء عدتها. ذكره مالك في "الموطأ" (¬2)، ومن المعلوم أن أبا سفيان خرج فأسلم عام الفتح قبل دخول النبي - صلى الله عليه وسلم -[مكة] (و)، ولم تسلم هند امرأته حتى فتح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مكة، فبقيا على نكاحهما، وأسلم حكيم بن حزام قبل امرأته، وخرج أبو سفيان بن الحارث وعبد الله بن أبي أمية عام الفتح فلقيا النبي - صلى الله عليه وسلم - بالأبواء، فأسلما [قبل ¬

_ (أ) في مصدر التخريج: رآه. (ب) في الأصل: عليه. (جـ) في الأصل: فبنيا. (د) في النسخ: أخرجه الترمذي قال الترمذي: عن. ولم أقف على تخريج الترمذي له، والمثبت من مصدر التخريج. (هـ) زيادة من: ب، جـ. (و) زيادة من: ب، جـ.

منكوحتيهما، فبقيا على نكاحهما] (أ)، ولم يعلم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرق بين أحد ممن أسلم وبين امرأته. وجواب من أجاب بتجديد نكاح من أسلم في غاية البطلان، و [من] (ب) القول على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بلا علم. ثم قال في اعتبار العدة (¬1): قال ابن شبرمة: كان الناس على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسلم الرجل قبل المرأة، والمرأة قبل الرجل، فأيهما أسلم قبل انقضاء عدة المرأة فهي امرأته، وإن أسلم بعد العدة فلا نكاح بينهما. ولكنه منقطع. انتهى (¬2). وذهب الخلال وأبو بكر صاحبه وابن المنذر وابن حزم وهو مذهب الحسن وطاوس وعكرمة وقتادة والحكم -قال ابن حزم: وهو قول عمر ابن الخطاب وجابر بن عبد الله وابن عباس، وبه قال حماد بن زيد والحكم بن عتيبة وسعيد بن جبير وعمر بن عبد العزيز وعدي بن عدي الكندي [والحسن البصري وقتادة] (جـ) والشعبي وغيرهم- وإحدى الروايتين عن أحمد (ب)، أنه تقع الفرقة بالإسلام من غير توقف على مضي العدة كسائر أسباب الفرقة، كالرضاع والخلع والطلاق، وقد تُعقب ابن حزم في الرواية عن عمر؛ فإنه قد ثبت عنه من طريق حماد بن سلمة، عن أيوب وقتادة، كلاهما عن ابن سيرين، عن عبد الله بن يزيد الخطمي أن نصرانيًّا أسلمت ¬

_ (أ) ساقط من النسخ، والمثبت من زاد المعاد 5/ 139. (ب) ساقطة من النسخ، والمثبت من مصدر التخريج. (جـ) ساقطة من: الأصل.

امرأته، فقال عمر: إن أسلم فهي امرأته، وإن لم يسلم فرق بينهما. فلم يسلم، ففرق بينهما. وكذلك قال لعبادة بن النعمان التغلبي وقد أسلمت امرأته: إما أن تسلم وإلا نزعتها منك. فأبى، فنزعها منه (¬1). فهذه الآثار صريحة في خلاف ما حكاه ابن حزم عن عمر، ومتمسكهم آثار، فروي عن عمر وابن عباس وجابر أنهم فرقوا بين الرجل وبين امرأته بالإسلام، وهي آثار مجملة ليست بصريحة في تعجيل الفرقة بالإسلام، وقد عارضها الرواية عن عمر وعن علي، و (أ) مثل هذا صرح به الإمام المهدي في "البحر"، قال: إذا أسلم أحدهما دون الآخر انفسخ النكاح إجماعًا؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تناكح بين أهل ملتين" (¬2). [فالحربية المدخولة] (ب) إنما تبين بمضي العدة، فهي قبل مضيها كالمطلقة رجعيًّا، (جـ أي إن جـ) أسلم كان كالرجعة؛ [لأن] (د) له مداناتها مع الكفر، فإن مضت العدة قبل الرجعة إلى الإسلام بانت. اقتضى ذلك خبر أبي سفيان وعكرمة وصفوان، لولاه كان إسلام أحدهما كردته، لكن فرق الدليل. فأما غير المدخولة فتبين بنفس الإسلام كلو طلقت. وهذا تخريج المؤيد وتخريج أبي طالب. فأما الذمية فلا تبين إلا بأحد أمرين، إما بعرض الإسلام، أو بمضي العدة، إذ كُفْر ¬

_ (أ) زاد في الأصل: إلى. (ب) في الأصل: فالحربيان فالمدخولة. (جـ-جـ) في ب: إلى أن. (د) في الأصل، ب: لا أن.

الذمي أخف؛ بدليل جواز تقريره، لكن إذا عرض عليه الإسلام فامتنع، استأنفت المدخولة لا غيرها، إذ عرض على عمر ذمي أسلمت امرأته، فعرض عليه الإسلام فامتنع، ففرق بينهما بعد امتناعه، ولم ينكره أحد، المؤيد وتخريجه والشافعي، بل حكمهما كالحربيين أسلم أحدهما، وقد مر. إذ هو معنى أوجب الفرقة فاقتضاها في الحال كالطلاق. قلنا: فرق خبر عمر. أبو العباس: والفرق بين ذلك وردة أحدهما أن كفر الردة أغلظ، بدليل جواز إقرار الذمي على دينه لا المرتد، ولأنه قد طعم حلاوة الإيمان بخلاف الأصلي، فجعل حكمه أغلظ بأن بانت بمجرد الردة من دون انتظار عدة، فأما مضي العدة فموجب للفرقة اتفاقًا كحربيين أسلم أحدهما. أبو حنيفة: بل يعرض الإسلام على المتأخر منهما، حربيًّا كان أم ذميًّا، إن كان في دار الإسلام، فإن أسلم بقي النكاح، والا فسخه الحاكم بطلقة وتعتد المدخولة، فإن لم يعرض الإسلام فالنكاح باقٍ ما بقيا في دارنا، مدخولة كانت أم لا، فإن كان المتأخر في دار الحرب بانت بانقضاء العدة. قلت: لا تأثير للدار، بل الملة؛ للخبر. مالك: إن أسلم الزوج بانت في الحال لا الزوجة، فبعد العدة في المدخولة لا غيرها، ففي الحال، قلنا: لا وجه له. انتهى. وحكى في "نهاية المجتهد" (¬1) عن مالك، أنه إذا أسلم الرجل قبل المرأة وقعت الفرقة إذا عرض عليها الإسلام فأبت. انتهى. فظهر من ذلك أن الحديث المذكور يقضي بما ذكره في "الهدي النبوي"، وأن البينونة بعد انقضاء العدة ثبتت مِن قول ابن شهابٍ والحديث المنقطع عن ابن شبرمة، وأن عرض الإسلام في حق الذمي إنما ثبت عن عمر، ولكنه في حكم الإجماع لعدم المخالف، والله أعلم. ¬

_ (¬1) الهداية تخريج بداية المجتهد 6/ 475.

830 - وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رد ابنته زينب على أبي العاص (أ) بنكاح جديد (¬1). قال الترمذي (¬2): حديث ابن عباس أجود إسنادًا، والعمل على حديث عمرو بن شعيب. حديث عمرو بن شعيب تكلم فيه البخاري (¬3)، وعلته تدليس حجاج بن أرطاة، وله علة أشد مِن ذلك وهي ما ذكره أبو عبيد (¬4) في كتاب النكاح عن يحيى القطان، أن حجاجًا لم يسمعه مِن عمرو بن شعيب، وإنما حمله عن العرزمي، والعرزمي ضعيف جدًّا (¬5)، وكذا قال أحمد (¬6) عقب (ب) تخريجه، قال: والعرزمي لا يساوي حديثه شيئًا. قال: والصحيح أنهما أقرا على نكاحهما الأول. وجنح ابن عبد البر (¬7) إلى ترجيح ما دل عليه حديث عمرو بن شعيب، وأن حديث ابن عباس لا يخالفه. قال: والجمع بين الحديثين أولى من إلقاء أحدهما، فحمل قوله في حديث ابن عباس بالنكاح الأول؛ ¬

_ (أ) زاد في الأصل: بن الربيع. (ب) في ب: عقيب.

أي بشروطه، وأن معنى: لم يحدث شيئًا. أي لم يزد على ذلك شيئًا. قال: وحديث عمرو بن شعيب تعضده الأصول، وقد صرح فيه بوقوع عقد جديد، ومهر جديد، والأخذ بالصريح أولى من الأخذ بالمحتمل (أ)، ويؤيده مذهب ابن عباسٍ، فإنه قائل بما دل عليه حديث عمرو بن شعيب، فإن كانت الرواية عنه المخرجة في السنن ثابتة، فلعله كان يرى تخصيص ما وقع في قصة أبي العاص بذلك العهد كما جاء ذلك عن أتباعه كعطاء ومجاهد؛ ولهذا أفتى بخلاف ظاهر ما جاء عنه في ذلك الحديث، على أن الخطابي (¬1) قال في إسناد ابن عباس: هذه نسخة ضعفها علي بن المديني وغيره من علماء الحديث. وهو يشير إلى أنه من رواية داود بن الحصين عن عِكرمة. قال: وفي حديث عمرو بن شعيب زيادة ليست في حديث ابن عباسٍ، والمثبت يقدم على النافي، غير أن الأئمة رجحوا إسناد حديث ابن عباسٍ. انتهى. والكلام فيما (ب) دل عليه الحديث تقدم (جـ) في الحديث الأول. وقوله: والعمل على حديث عمرو بن شعيب. هذا حكاه الترمذي عن يزيد بن هارون، فإنه حدث بالحديثين عن ابن إسحاق وعن حجاج بن أرطاة، ثم قال يزيد: حديث ابن عباسٍ أقوى إسنادًا، والعمل على حديث عمرو بن شعيب. يريد عمل أهل العراق. وقال الترمذي (¬2) في حديث ابن ¬

_ (أ) في ب: بالمجمل. (ب) في ب، جـ: على ما. (جـ) في ب، جـ: مقدم.

عباسٍ: لا يعرف وجهه. وأشار بذلك إلى أن ردها إليه بعد ست سنين أو بعد سنتين أو بعد ثلاث مشكل؛ لاستبعاد أن تبقى في العدة هذه المدة، وقد عرفت الجواب عن ذلك. 831 - وعن ابن عباس رضي الله عنه قال: أسلمت امرأة فتزوجت، فجاء زوجها (أ) فقال: يا رسول الله، إني كنت أسلمت وعلمتْ بإسلامي. فانتزعها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من زوجها الآخر وردها إلى زوجها الأول. رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه، وصححه ابن حبان والحاكم (¬1). الحديث فيه دلالة على أن الزوج إذا أسلم قبل أن تزوج امرأته بعد إسلامها أن النكاح باق بينهما، وظاهره من غير فرق بين أن تكون المرأة قد انقضت عدتها أو لا، فإنه لم يستفصل النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك وهو في محل البيان، فترك الاستفصال يدل على عودها إلى زوجها إذا كان زواجها وقع بعد إسلام الزوج، وهذا يقوي ما ذهب إليه صاحب "الهدي" (¬2) كما تقدم قريئا. وأما احتمال أن يكون ترك الاستفصال لكونه - صلى الله عليه وسلم - عرف قرب العهد من الزوجة بالإسلام، وأن إسلامه وقع قبل تجويز انقضاء العدة -فبعيد متكلف، والله أعلم. ¬

_ (أ) زاد في الأصل: الأول.

832 - وعن زيد بن كعب بن عجرة، عن أبيه قال: تزوج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - العالية (أ) من بني غفار (¬1)، فلما دخلت إليه ووضعت ثيابها رأى بكشحها بياضًا، فقال: "البسي ثيابك والحقي بأهلك". وأمر لها بالصداق. رواه الحاكم (¬2). وفي إسناده جميل بن زيد وهو مجهول، واختلف عليه في شيخه اختلافًا كثيرًا. وقع في الحديث اختلاف عن جميل، فقيل: عنه. كما في الأصل، وقيل: عن ابن عمر. وقيل: عن (ب زيد بن كعب ب). وقيل: عن كعب بن زيد. وأخرجه بن عدي، وأخرجه أبو نعيم في "الطب"، والبيهقي من حديث ابن عمر من دون تعيين اسمها ونسبها، وإنما هو بلفظ (جـ): تزوج بامرأة (¬3). وجميل بن [زيد] (د) هو الطائي، قال ابن معين (¬4): ليس بثقة. وقال البخاري (¬5): لم يصح حديثه. وروى أبو بكر بن عياش (هـ عن جميل هـ) قال: هذه أحاديث ابن عمر ما سمعت من ابن عمر شيئًا، إنما قالوا لي: اكتب ¬

_ (أ) في ب: الغالية. (ب- ب) في النسخ: كعب بن عجرة، وانظر التلخيص الحبير 3/ 139، والصفحة التالية. (جـ) ساقط من: ب. (د) في الأصل: رائد. غير منقوطة. (هـ- هـ) ساقط من: ب، جـ.

أحاديث ابن عمر. فقدمت المدينة فكتبتها (¬1). وقال إسماعيل بن زكريا: حدثنا جميل بن زيد، ثنا ابن عمر قال: تزوج النبي - صلى الله عليه وسلم - امرأة وخلَّى سبيلها (¬2). وروى أبو معاوية (¬3) والقاسم ليت مالك (¬4) وغيرهما عن جميل عن زيد بن كعب أو كعب بن زيد. وذكر الحديث. الحديث فيه دلالة على (أ) أن البرص منفر (ب)؛ لرده - صلى الله عليه وسلم -، وأما كونه يفسخ به النكاح فلا يدل على ذلك صريحًا؛ لاحتمال قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إلحقي بأهلك". أنه قصد به الطلاق، فقد خرجت منه بالطلاق، وقد اختلف العلماء في فسخ النكاح بالعيوب؛ فذهب ابن عباس، وابن عمر، وعمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب (¬5)، والعترة جميعًا، والشافعي، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور، إلى أن النكاح يفسخ بالعيوب، وإن اختلفوا في تفصيل ذلك، فروى (جـ) أصغ، عن ابن وهب، عن عمر وعلي: لا ترد النساء إلا ¬

_ (أ) في ب: عن. (ب) في جـ: منقرة. (جـ) زاد في النسخ: ابن. وينظر تهذيب الكمال 3/ 304، 16/ 277.

من العيوب الأربعة؛ الجنون، والجذام، والبرص، والداء في الفرج (¬1). وهو منقطع، وقد رواه سفيان، عن عمرو بن دينار (أ)، عن ابن عباسٍ (¬2) متصلًا، وروى يحيى بن سعيد الأنصاري، عن ابن المسيب قال: قال عمر: أيما امرأة زوجت وبها جنون، أو جذام، أو برص، فدخل بها ثم اطلع على ذلك، فلها مهرها بمسيسه إياها، وعلى الولي الصداق بما دلس كما غره (¬3). وأهل الحديث قاطبة مجمعون على قبول رواية ابن المسيب عن عمر. والخلاف للناصر في أحد قوليه في البرص، قال: لأنه (ب) ليس بمفسد للبدن. وزاد الإمام أحمد: أن تكون المرأة فتقاء منخرقة ما بين السبيلين. وزاد الهدوية: العَفَلَة (¬4) في المرأة، والقَرْن (¬5)، والرَّتَق (¬6). وأما الرجل فيشارك المرأة في الثلاثة، وبالجَب (¬7) والعُنَّة خلافًا للهَدوية في العُنَّة، وزاد أصحاب أحمد: ¬

_ (أ) زاد في الأصل، ب: و. وينظر تهذيب الكمال 11/ 154. (ب) في ب: إنه.

نتن الفرج والفم، وانخراق مجرى البول والمني في الفرج، والقروح السيالة فيه، والبواسير والناصور، والاستحاضة، واستطلاق البول و (أ) النجو (¬1)، والخصي وهو قطع البيضتين، والسل وهو سلهما، والوجاء وهو رضهما. ووافق الهدوية في الثلاثة الأخيرة، وذهب بعض أصحاب الشافعي إلى أن المرأة ترد بكل عيب ترد به الجارية في البيع، ونسب هذا القول الإمام المهدي إلى القاضي حسين [و] (ب) ابن كجٍّ، وأكثرهم لا يعرف هذا القول ولا مظنته ولا من قاله، وحكاه [أبو] (جـ) عاصم العَبَّاداني في كتاب "طبقات أصحاب الشافعي"، ورده الإمام المهدي بأنه لا دليل على ذلك، وارتضى هذا القول ابن القيم، واحتج له في "الهدي النبوي" (¬2)، قال: والقياس أن كل عيب ينفِرُ الزوجُ الآخرُ منه، ولا يحصل به مقصود النكاح من المودة والرحمة، يوجب الخيار، وهو أولى من البيع، كما أن الشروط المشروطة في النكاح أولى بالوفاء من الشروط في البيع، ومَن تدبر مقاصد الشرع في مصادره وموارده وعدله وحكمته وما اشتمل عليه من المصالح -لم يخف عليه رجحان هذا القول وقربه من قواعد الشريعة. ثم قال: وكذلك حكم قاضي الإسلام حقًّا الذي يضرب المثل بعلمه ودينه وحكمه، شريح، قال عبد الرزاق: عن معمر، عن أيوب، عن ابن سيرين: خاصم رجل إلى شريح، ¬

_ (أ) في ب، جـ: أو. (ب) ساقط من: النسخ. وينظر السير 17/ 183، 18/ 260، وطبقات الشافعية 4/ 356، 359. (جـ) في الأصل: ابن. وينظر الأنساب 4/ 122.

فقال: إن هؤلاء قالوا لي: إنَّا نزوجك أحسن الناس. فجاءوا لي بامرأة عمياء. فقال شريح: إن كان دلس لك بعيب لم يجز. فتأمل هذا القضاء، وقوله: إن كان دلس لك بعيب. كيف يقتضي أن كل عيب دلست به المرأة فللزوج الرد به. وقال الزهري: يرد النكاح من كل داء عضال. وبما عرفت أن الدليل على الفسخ هو الحديث المذكور وهو محتمل إلا أن في رواية أحمد [ما] (أ) يقرب الاحتجاج به على الفسخ، وهي عن زيد بن كعب بن عجرة، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تزوج امرأة من بني غفار، فلما دخل عليها وضع ثوبه وقعد على الفراش أبصر بكشحها بياضًا فامَّاز (¬1) عن الفراش، ثم قال: "خذي عليك ثيابك". ولم يأخذ مما آتاها شيئًا (¬2). فاللفظ هذا أظهر في قصد الرد وبعده (ب) عن إفادة الطلاق، ويتأيد ذلك بما روي عن علي وعمر وابن عباسٍ، فإن قضاءهم بذلك مما يدل صريحًا بأن هذا أمر ثابت معمول به، ويكون نصًّا في العيوب المنصوصة الواردة، وقياسًا فيما شاركها في المعنى المناسب للعوض المقصود من النكاح، فيتأيد ما ذهب إليه ابن كج وابن القيم (جـ من التعميم جـ) لما وجد فيه ذلك المعنى، وقد روى في "البحر" (¬3) عن علي أنه فسخ العِذْيَوط، وهو بالعين المهملة المكسورة بعدها ذال ساكنة ثم ياء ¬

_ (أ) ساقط من الأصل، جـ. (ب) في جـ: فأعبده. (جـ- جـ) ساقط من: ب.

مفتوحة (أ) باثنتين من أسفل، وواو ساكنة آخره طاء مهملة، وهو من يتغوط عند الجماع، وذهب إليه السرخسي من أصحاب الشافعي، وذكره في "الكافي" وفي "الزوائد"، وكذا إذا كان بوَّالًا عند الجماع أو حبَّاقًا (¬1)، وأجاب الإمام (ب) المهدي بأن ذلك اجتهاد من علي رضي الله عنه فلا يلزمنا. قال الإمام يحيى: ووجه ذلك هو أن هذه حالة تعاف وتستقذر فأشبه البرص، فافهم أن ذلك قياس، وإذا قاس هذه المذكورة اطرد القياس فيما وجد فيه المعنى، ولعل القائلين بانحصار العيوب أخذوا بمفهوم الحصر كما في الرواية عن علي وعمر، ولكنهم لم يقتصروا عليها فلزمهم العمل بالقياس، وذهب الإمام يحيى، وهو أحد قولي الشافعي، إلى أنه لا يفسخ بالسِّل والخصي، قالوا: لأنه يمكنه الوطء، بل جماعه أكثر، إذ لا ينزل فلا يفتر. قال الإمام المهدي: وهو قوي إن كان كذلك. وإذا عم الزوجين العيب لم يبطل الخيار، وإن اتفق جنسه؛ إذ قد يعاف من غيره ما لا يعاف من نفسه. وأحد قولي الشافعي يبطل؛ لاستوائهما. قال الإمام يحيى: والصرع عيب وإن تباعدت نوباته. وقال ابن الجليل: لا لنا تنفيره وإيحاشه. المرتضى: ولا فسخ بعدم البكارة ولو شرطها. أبو العباس: لكن يسقط ما زاد من المهر لأجلها. والخلاف في الفسخ بالعيوب لداود الظاهري وابن حزم ومن تابعهما، فقالوا: لا يفسخ النكاح بعيب البتة. وكأنهم لما لم يكن في الحديث ¬

_ (أ) زاد في ب، جـ: وهي. (ب) ساقطة من: ب، جـ.

تصريح بردها (أ) من دون احتمال طلاق، ولما في [رواته] (ب) من جهالة واختلاف، وعقد النكاح قد ثبت فلا يرتفع إلا برافع ثابت بنص صحيح؛ ولذا قال ابن القيم (¬1): إن القول بالتعميم هو القياس، يعني إذا بني على دلالة الحديث والآثار على ما دلت عليه وقيس ما ناسبها في المعنى، أو قول ابن حزم ومن تابعه، يعني على فرض عدم العمل بالحديث، وأما الاقتصار على عيبين أو أربعة أو ستة أو سبعة أو ثمانية دون ما هو أولى منها أو مساوٍ لها فلا وجه له، فالعمى والخرس والطرش وكونها مقطوعة اليدين والرجلين أو أحدهما، أو كون الرجل كذلك -من أعظم المنفرات، والسكوت عنه من أقبح التدليس والغش، وهو مناف للدين، والإطلاق إنما ينصرف إلى السلامة فهو كالمشروط عرفًا، وقد قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه لمن تزوج امرأة وهو لا يولد له: أخبرها أنك عقيم. فماذا يقول رضي الله عنه في العيوب التي هذا عندها كمال لا نقص. انتهى كلامه رحمه الله تعالى. 833 - وعن سعيد بن المسيب أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: أيما رجل تزوج امرأة فدخل بها فوجدها برصاء أو مجنونة [أو مجذومة] (جـ)، فلها الصداق بمَسيسِه إياها، وهو له على مَن غَرَّه منها. ¬

_ (أ) في الأصل: يردها. (ب) في الأصل، جـ: روايته. (جـ) ساقط من: الأصل، جـ.

أخرجه سعيد بن منصور ومالك وابن أبي شيبة، ورجاله ثقات (¬1). وروى سعيد (¬2) أيضًا عن عليٍّ نحوه وزاد: أو بها قَرَنٌ، فزوجها بالحيار، فإن مسها فلها المهر بما استحل من فرجها. ومن طريق سعيد بن السيب أيضًا (أ) قال: قضى عمرُ في العِنِّين أن يؤجَّل سنةً. ورجاله ثقات (¬3). أخرجه سعيد بن منصور، عن هُشيم، عن يحيى بن سعيد الأنصاري، عن ابن السيب، عن عمر. وهو في "الموطأ" عن يحيى، وعن الشافعي (¬4) عن مالك، وعن [ابن] (ب) أبي شيبة عن ابن إدريس، عن يحيى. وحديث عليٍّ أخرجه سعيد أيضًا، وحديث العِنِّين أخرجه البيهقي (¬5) من رواية ابن المسيب عن عمرَ وتابعه العلماء عليه، ونقله البيهقي (¬6) عن عليٍّ والمغيرة وغيرهما، وكذا أخرجه ابن أبي شيبة (¬7) عنهما وعن ابن مسعود. ¬

_ (أ) ساقط من: جـ. (ب) ساقط من: الأصل.

تقدَّم الكلام على الردِّ بالعيوب. وقوله: وهو له على مَن غَرَّه منها. هذا ذهب إليه الهادي ومالك وأصحاب الشافعي، والعلة المناسبة لذلك هو أنه غُرْمٌ لَحِقَه بسببه، إلا أنهم اشترطوا علمه بالعيب، فأما إذا جهِل فلا رجوع عليه، وقد أومئ إلى ذلك في الأثر، فإن قوله: على من غرَّه. يدل على العلم، إذ لا غَرَرَ منه إلا مع ذلك، إلا أنه ذكر الإمام يحيى في "الانتصار" أنه يرجع على المحرَم كالأب والجد إذا فرَّط بترك الاستعلام وإن لم يعلم [بالعيب] (أ). ومالك قال: إن كان يُظَن به لقُربه منها أنه عالم بالعيب مثل الأب والأخ رجع عليه، فعلق الحكم بالمظنة، لا غير المحرم كابن العم إلا حيث علم، والقول له في عدم العِلم مع يمينه، ويرجع على من علم من الأولياء وإن لم يكن مباشرًا للعقد؛ إذ هو مدلس. هذا قول الإمام يحيى، ولكنه يرد عليه أنه لا بسبب (ب) منه، لعدم مباشرته (جـ) للعقد، وإن كان لعدم بذله للنصيحة الواجبة لزم غيره من الأجانب. ولا قائل به، فإن تعذر الرجوع على الولي كان الرجوع على المرأة عند المؤيد بالله إذا كانت حرةً، وعند أبي طالب ولو كانت أمَة، للتدليس منها الذي هو وجه الضمان. وذهب أبو العباس والإمام يحيى إلى أنه لا رجوع على المرأة؛ لأنه قد استوفى بَدَله منها، وهو الوطء، فلو رجع عليها كان كآخِذ الغُرْمِ مرتين بخلاف الولي المدلِّس، فلم [يأخذ] (د) منه شيئًا ¬

_ (أ) ساقطة من: الأصل. (ب) في جـ: سبب. (جـ) في جـ: مباشرة. (د) في الأصل: يؤخذ.

يسقط به أرشَ تدليسه، وعلى قول المؤيد وأبي طالب أنه يرجع على المرأة بالمهر كاملًا. وللإمام يحيى وجه، أنه يرجع عليها بما زاد على أقل المهر، إذ لا يخلو الوطء عن عوض. وهو قول مالك؛ لأنه قال: يرجع بالصداق كله إلا ربع دينار فقط. وذهب أبو حنيفة والشافعي إلى أنه لا رجوع له على أحد. قالوا: قياسًا على النكاح الفاسد الذي وطئ [فيه] (أ)؛ فإنه يلزمه المهر بالمسيس. ويرد عليهم بالأثر المذكور، وحديث تأجيل العِنِّين. العنين هو العاجز عن الوطء لعدم انتشار ذَكَره، وهو مأخوذ من عَنَّ الشيءُ إذا عَرَض، لتعرض الإحليل إلى أحد جانبي الفرج وعدم ثباته، أو من عنان الدابة للِينِه ورخاوته (ب)، والمرأة توصف به إذا كانت لا تشتهي الوطء، ويسمى السرس بمهملتين ككتفٍ، وكأميرٍ بزيادة ياء، ويطلق السرس على الذي لا يأتي النساء ومَن لا يولد له، والفحل الذي لا يلقح. كذا في "القاموس" (¬1)، ومَصْدر عَنّ هنا (جـ) عَنانة وعَنِينة وعَنِينية (د) بزيادة الياء المصدرية، وقول الفقهاء عنَّة بضم العين أو بكسرها خطأ، والعنة الخطيرة (هـ). كذا في "شرح البحر"، والأثر يدل على أن ذلك عَيبٌ يُفسخ به النكاحُ بعد تحققه، وهو ¬

_ (أ) في الأصل: منه. (ب) في جـ: رخاوه. (جـ) في ب، جـ: هذا. (د) في جـ: عنييه. (هـ) كذا في النسخ: ولعله تصغير الخطرة، وهي ما يخطر في القلب من تدبير أو أمر. ينظر اللسان (خ ط ر).

بعد إمهاله سنةً. وقد ذهب إليه عليٌّ وعمر وابن مسعود والمغيرة (أوعثمان ومعاوية أ) وسمرة والحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة والباقر والصادق وزيد بن علي والناصر والمؤيد بالله والإمام يحيى وأبو حنيفة والشافعي ومالك، وقياسًا على المجبوب، إلا أنهم اختلفوا في التأجيل، فعمر وابن مسعود أجَّلوه سنة، وعثمان ومعاوية وسَمُرة لم يؤجِّلوه، والحارث بن عبد الله أجَّله عشرة أشهر، وذهب الهادي والقاسم والمرتضي وأبو طالب وأبو العباس وأحمد وداود والحكم بن عُتَيبةَ مِن التابعين إلى أنه لا فسخ بذلك. قالوا: لأن امرأة رفاعة شكت منه ذلك، ولم يخيرها - صلى الله عليه وسلم -، وهو في موضع التعليم. قال الإمام الهدي ردًّا عليهم: قلنا: لعل زوجها أنكر، والظاهر معه. قالوا: أمَر عليٌّ (ب) امرأة شكت ذلك بالصبر، وقال: لا أستطيع أن أفرق بينكما. قلت: لعل ذلك فيمن عرَضت له العنة بعد الدخول. قالوا: كمن عجز للمرض. قلنا: هو بالمجبوب (جـ) أشبه. انتهى. وأقول: إن الاحتجاج بقصة أبي رُكَانةَ أظهر، لما نكح امرأة من مُزَينة، فجاءت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت: ما يُغني عني إلا كما تُغني هذه الشعرة -لشعرة أخذتها من رأسها- ففرِّق بيني وبينه. فأخذت النبي - صلى الله عليه وسلم - حمِيَّة، فدعا بركانة لاخوته، ثم قال لجلسائه: "أترون فلانًا يشبه منه كذا وكذا من عبد يزيدَ، وفلانًا -لابنه الآخر- يشبه منه كذا وكذا؟ ". قالوا: نعم. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لعبد يزيد: "طلقها". ففعل. الحديث. أخرجه ¬

_ (أ- أ) ساقط من: ب، جـ. (ب) في ب: علييًّا. (جـ) في جـ: بالمجبون.

أبو داود (¬1) عن ابن عباسٍ، فإنه - صلى الله عليه وسلم - أمره بالطلاق بعد أن طلبت المفارقة بالفسخ للعنة، واحتمال أنه - صلى الله عليه وسلم - لم تثبت عنده العنة بقولها -بما يُفهم من تَعرُّف الشَّبَه بينه وبين أولاده- بعيدٌ؛ لأن العنة قد تكون من امرأة دون امرأة، وقد تحدث بعد أن كان بخلافها، ولم يستفصل ذلك - صلى الله عليه وسلم -، ولا طلب منه إجابة الدعوى، بل عدل إلى طريقة أجمل في دفع ما يُخشَى من الضرر بالإمساك، وهو طلب الطلاق منه؛ فدل على أن هذا العيب لا يقتضي الفسخ. وأما حديث رفاعة، فإنما قالت زوجته: كنتُ عند رفاعة القرظي فأبَتَّ طلاقي، فتزوجتُ عبد الرحمن بن الزَّبير، إنما معه مثل هدبة الثوب. فقال: "أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة؟ لا، حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك" (¬2) الحديث. فلم تطلبِ الفُرْقَةَ بينها وبين عبد الرحمن، ولعله قد كان فارقها بالطلاق، وإنما طلَبها رجوعها إلى رفاعة، وهذا أيضًا صريح في رواية "الموطأ" (¬3)، ولفظه: أن رفاعة طلَّق امرأته تميمة بنت وَهب في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاثا؛ فنكحت عبد الرحمن بن الزبير، فاعترض عنها فلم يستطع أن يمسها، ففارقها، فأراد رفاعة أن ينكحها وهو زوجها الأول. الحديث. فصرَّح بأنه طلَّقها، وهذه الرواية تفسر الرواية الأولى؛ لاتحاد القصة، فلا يستقيم الاحتجاج به فتَنَبَّه، ولا حاجة إلى ما أجاب به الإمام المهدي، وعلى القول باختلاف القصَّتين، فقد ذكر الطلاق أيضًا في كل ¬

_ (¬1) سيأتي ح 887. (¬2) تقدم تخريجه ص 138، 139. (¬3) تقدم تخريجه ص 134.

واحدة منهما، وقد تقدَّم الكلام في كل (أ) منهما مستوفًى فارجع إليه. وقال ابن المنذر (¬1): اختلفوا في المرأة تطالب الرجل بالجماع؛ فقال الأكثر: إن وطئها بعد أن دخل بها مرةً واحدةً لم يؤجَّل أجل العِنِّين. وهو قول الأوزاعي والثوري وأبي حنيفة ومالك والشافعي وإسحاق. وقال أبو ثور: إن ترك جماعها لعِلَّة أجِّل لها سنة، وإن كان لغير عِلةٍ فلا تأجيل. وقال عياض: اتفق كافة العلماء على أن للمرأة حقًّا في الجماع، فيثبت الخيار لها إذا تزوجت المجبوب والمسوح (¬2) جاهلة بهما، ويُضْرَب للعِنِّين أجل سنة لاختبار زوالِ ما به. انتهى. [وقال الفقيه (ب) أبو منصور: وإذا أقر بالعنة فسخ في الحال من غير إمهال. ونظره الإمام يحيى، وروي خلافه عن أكثر العِترة و (جـ) الفقهاء. انتهى] (د). ¬

_ (أ) بعده في جـ: واحد. (ب) بعده في جـ: يحيى. (جـ) في جـ: من. (د) سقط من: الأصل.

باب عشرة النساء

باب عشرة النساء 834 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ملعون من أتى امرأة في دبرها". رواه أبو داود والنسائي (¬1) واللفظ له، ورجاله ثقات لكن أُعل بالإرسال. الحديث روي بألفاظ ومن طرقٍ متعددة إلى أبي هريرة وإلى غيره من الصحابة، منهم علي بن أبي طالب وخزيمة وعمر وعلي بن طلق وطلق بن علي وابن مسعود وجابر وابن عباسٍ وابن عمرو بن العاص والبراء وعقبة بن عامر وأنس وأبو ذر، وجميع الطرق متكلم فيها، ولكنه مع الكثرة يقوي بعضها بعضًا لا سيما مع اختلاف الطرق واختلاف الروي عنهم من الصحابة. والحديث فيه دلالة على تحريم الإتيان في دبر المرأة، وقد ذهب إلى هذا العترة جميعًا، وأكثر الفقهاء قالوا: لقوله تعالى: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ} (¬2). فشبههن بالحرث، والحرث المطلوب منه نبات الزرع، فكذلك النساء يكون الغرض مِن إتيانهن هو (أ) طلب التناسل لا قضاء الشهوة، وهذا لا يكون إلا في القبل، وهذا وإن (ب لم يكن ب) فيه تعرض لتحريم مَا عدا القبل إلا أنه يفهم من ¬

_ (أ) ساقطة من: ب، جـ. (ب- ب) في ب: كان.

قوله: {فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} (¬1). أن الإباحة وقعت لذلك المحل، فيبقى ما عداه على التحريم، إذ الأصل هو تحريم المباشرة إلا ما أحل بالعقد، وهذا بيان لما حل بالعقد عليهن، فيوقف عليه، ولا يقاس غيره عليه، لعدم المشابهة في كونه محلًّا للزرع، وأما تحليل الاستمتاع فيما عدا الفرج فهو مأخوذ من دليل آخر، كما ورد في إباحة الاستمتاع بما عدا الفرج في حق الحائض، ولهذا الحديث ونحوه، وهو ما أخرجه الترمذي والنسائي (¬2) وابن ماجه (1) عن علي رضي الله عنه: "إن الله لا يستحيي من الحق، لا تأتوا النساء في أعجازهن". وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده بلفظ: سئل عن الرجل يأتي المرأة في دبرها، فقال؛ "هي اللوطية الصغرى" (¬3). وأخرجه النسائي (¬4) أيضًا وأعله، والمحفوظ عن عبد الله بن عمرو من قوله. كذا أخرجه عبد الرزاق (¬5) وغيره. وذهبت الإمامية إلى حله في الزوجة وفي الأمة، بل وفي المملوك. وروى محمد بن عبد الله بن عبد الحكم المصري -أحد فقهاء المالكية، وتفقه بالشافعي وبأبيه، وثقه ابن أبي حاتم (¬6) ¬

_ (أ) كذا في: النسخ. والصواب: "ابن حبان" كما في التلخيص 3/ 181، والحديث عند ابن حبان (4199) من حديث علي بن طلق.

والنسائي (¬1)، وروى عنه، وهو في غاية من الزهد والورع، وله تصانيف عديدة، منها كتاب "الرد على الشافعي" -عن الشافعي رحمه الله أنه قال: لم يصح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في تحريمه ولا في (أ) تحليله شيء، والقياس أنه حلال. روى هذا ابن أبي حاتم بسماعه من محمد المذكور، وكذلك الطحاوي (¬2)، وأخرجه عنه في "مناقب الشافعي" (¬3) له، وأخرجه الحاكم (¬4) في "مناقب الشافعي" عن الأصم عنه، وأخرجه عن الخطيب (¬5) عنه، عن أبي سعيد بن موسى، عن الأصم، وروى الحاكم (5) عنه قال: قال لنا الشافعي كلامًا كلم به محمد بن الحسن، فقلت: في مسألة إتيان المرأة في دبرها؛ قال: سألني محمد بن الحسن فقلت له: إن كنت تريد [المكابرة] (ب) وتصحيح الروايات وإن لم تصح فأنت أعلم، وإن تكلمت بالمناصفة كلمتك. قال: على المناصفة. قلت: فبأي شيء حرمته؟ قال: بقول الله تعالى: {فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} (¬6). وقال: {فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} (¬7). والحرث لا يكون إلا في الفرج. قلت: فيكون ذلك محرِّمًا لما سواه؛ قال: نعم. قلت: فما تقول لو وطئها بين ساقيها، أو في أعكانها أو ¬

_ (أ) ساقط من: ب. (ب) في الأصل: المكاثرة.

تحت بطنها، أو أخذت ذكره بيدها، أفي ذلك حرث؟ قال: لا. قلت: أفتحرم ذلك؟ قال: لا. قلت: فلم تحتج بما لا حجة فيه؟ قال: فإن الله قال: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} (¬1) الآية. قال: فقلت له: إن هذا ما يحتجون به للجواز، إن الله أثنى على من حفظ فرجه من غير زوجه وما ملكت يمينه. فقلت: أنت تتحفظ من زوجتك ومَا ملكت يمينك؟ انتهى. وبما ذكرناه أولًا في الاحتجاج للتحريم، يؤخذ الجواب عن هذا. قال الحاكم: لعل الشافعي كان يقول بذلك في القديم، فأما في الحديث، فالمشهور أنه حرمه. انتهى. مع أن الربيع كذب رواية محمد بن عبد الله عن الشافعي، قال الربيع: كذب، والله الذي لا إله إلا هو قد نص الشافعي على تحريمه في ستة كتب، روى هذا أبو العباس الأصم، وحكاه عنه جماعة، منهم الماوردي في "الحاوي" وأبو نصر بن الصباغ في "الشامل" وغيرهم. قال المصنف رحمه الله (¬2): تكذيب الربيع [لمحمد] (أ) لا معنى له؛ فإنه قد تابعه عليه عبد الرحمن بن عبد الله عن الشافعي، وأخرجه أحمد بن أسامة بن أبي السمح [المصري] (ب) عن أبيه، قال: سمعت عبد الرحمن. فذكر نحوه عن الشافعي. وأخرج الحاكم عن الأصم، عن الربيع قال: قال الشافعي: قال الله تعالى: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ}. احتملت الآية معنيين؛ أحدهما: أن تؤتى المرأة من حيث شاء زوجها، لأن {أَنَّى شِئْتُمْ} تأتي بمعنى أين شئتم. ثانيها: أن الحرث إنما يراد به النبات وموضعه دون ما سواه. ¬

_ (أ) في الأصل: لأحمد. (ب) في النسخ: البصري. والمثبت من لسان الميزان 1/ 341.

فاختلف أصحابنا في ذلك، وأحسب (أ) كلًّا من الفريقين تأولوا ما وصفت من احتمال الآية. قال: وطلبنا الدلالة من السنة فوجدنا حديثين مختلفين؛ أحدهما ثابت، وهو حديث خزيمة في التحريم. قال: فأخذنا به. انتهى. وهو قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تأتوا النساء في أدبارهن". أخرجه الشافعي (¬1) من حديث خزيمة بن ثابت، وفي إسناده [عمرو بن أحيحة (¬2) وهو مجهول الحال، واختلف في إسناده] (ب) اختلافًا كبيرًا، وقد أطنب النسائي (¬3) في تخريج طرقه وذكر الاختلاف فيه، وقال البزار (¬4): لا أعلم في هذا الباب حديثًا صحيحًا لا في الحظر ولا في الإطلاق، وكل ما روي فيه عن خزيمة بن ثابت من طريق فيه فغير صحيح. انتهى. وكذا روى الحاكم عن أبي علي النيسابوري، ومثله عن النسائي، وقاله قبلهما البخاري، وذكر الجويني في "مختصره" أن بعضهم أقام ما رواه محمد عن الشافعي قولًا للشافعي، ولكنه يكون مرجوعًا عنه كما قال الربيع، وهذا أولى من تكذيبه، فإنه لا خلاف في ثقته وأمانته، ولعل محمدًا اغتر بكون الشافعي قص له القصة التي وقعت له بطريق المناظرة بينه وبين محمد بن الحسن، ولا شك أن العالم في المناظرة يتقلد القول وهو لا يختاره، فيذكر أدلته إلى أن ينقطع خصمه، ¬

_ (أ) في ب: أجيب. (ب) ساقط من: الأصل.

وروي مثل هذا عن مالك، قال القاضي أبو الطيب (¬1) في تعليقه: نص في كتاب "السر" عن مالك على إباحته، ورواه عنه أهل مصر وأهل المغرب (أ). انتهى. وقد أنكر الأبهري من المالكية كتاب "السر"، وأنكروا رواية [ذلك عن مالك، وكذا قال الرافعي أن أصحابه العراقيين لم يثبتوا الرواية] (ب)، والرواية عن مالك إنما هو في دبر الزوجة فقط، فأما رواية جواز ذلك في دبر الذكر المملوك فغلط فاحش، ورواية نشوان ذلك في رسالة "الحور العين" غير صحيحة، ولعله مأخوذ من تشنيع المعري على علماء الإسلام ذلك في قوله (¬2): وأجاز مالك الفقاح (¬3) تطرفًا. وهم منزهون عن ذلك. قال المصنف رحمه الله (¬4): وكتاب "السر" وقفت (جـ) عليه في كراسة لطيفة من رواية الحارث بن مسكين عن عبد الرحمن بن القاسم، عن مالك، وهو يشتمل (د) على نوادر من المسائل، وفيها كثير مما يتعلق بالخلفاء، ولأجل هذا سمي كتاب "السر"، وفيه هذه المسألة، وقد رواها أحمد بن أسامة التجيبي وهذبه ورتبه على الأبواب، ¬

_ (أ) في ب، جـ: الغرب. (ب) ساقط من: الأصل. (جـ) في ب: وقعت. (د) في ب: مشتمل.

وأخرج له أشباهًا ونظائر في كل باب، وروى فيه من طريق معن بن عيسى قال: سألت مالكًا عنه، فقال: ما أعلم فيه تحريمًا. وقال ابن رشد (أ) في كتاب "البيان والتحصيل في شرح العُتبية": روى العُتْبي، عن ابن القاسم، عن مالك أنه قال وقد سأله عن ذلك مختليًا به، فقال: حلال ليس به بأس. قال ابن القاسم: ولم أدرك أحدًا أقتدي به في دين يشك (ب) فيه، والمدنيون يروون فيه الرخصة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. يشير بذلك إلى ما روي عن ابن عمر وأبي سعيد؛ أما حديث ابن عمر فله طرق رواه عنه نافع وزيد بن أسلم و [عبيد] (جـ) الله بن عبد الله بن عمر وسعيد بن يسار (د) وغيرهم، أما نافع فاشتهر عنه من طرق كثيرة جدًّا، منها ما أخرجه مالك مما رواه خارج "الموطأ" عن نافع قال: قال ابن عمر: أمسك عليَّ المصحف يا نافع. فقرأ حتى أتى على هذه الآية: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ}. فقال: [أتدري] (هـ) يا نافع فيم أنزلت هذه الآية (و) قلت: لا. قال: فقال لي: في رجل من الأنصار أصاب امرأته في دبرها، فأعظم ذلك [الناس] (ز)، فأنزل الله تعالى: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ} الآية. قال نافع: فقلت لابن عمر: من دبرها في قبلها؟ قال: لا، إلا في دبرها (¬1). قال أبو ثابت: ¬

_ (أ) في النسخ: رشيد. وينظر البيان والتحصيل 18/ 461. (ب) في جـ: شك. (جـ) في الأصل، جـ: عبد. وينظر التلخيص 3/ 183، وتهذيب الكمال 15/ 332. (د) في ب، جـ: بشار. وينظر تهذيب الكمال 15/ 332. (هـ) في الأصل، جـ: ما تدري. (و) زاد في الأصل: قال. (ز) ساقط من: الأصل، ب.

وحدثني به الدراوردي عن مالك وابن أبي ذئب، وأخرج البخاري (¬1) في تفسير سورة "البقرة" من حديث ابن عون، عن نافع مثله، إلا أنه أبهم الآية. قال: حتى انتهى إلى مكان فقال: أتدري فيما أنزلت؟ قلت: لا. قال: [أنزلت] (أ) في كذا وكذا. ثم مضى. وأخرج (¬2) من حديث أيوب، عن نافع، عن ابن عمر في قوله تعالى: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ}. قال: يأتيها في دبرها. قال: ورواه محمد بن يحيى بن سعيد، عن أبيه، عن [عبيد] (ب) الله بن عمر، عن نافع. هكذا وقع عنده. انتهى. والرواية الأولى المبهمة تفسيرها في "تفسير إسحاق بن راهويه"، فإنه ساق مثل ما ساق، وذكر الآية وهي: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ}. وعبر عن كذا وكذا، فقال: أنزلت [في] (جـ) إتيان النساء في أدبارهن. وكذا رواه الطبراني (د) من طريق ابن علية، عن ابن عون، ورواية عبد الصمد هي في "تفسير إسحاق" (¬3) أيضًا عنه. وقال فيه (هـ): يأتيها في الدبر. ورواية محمد بن يحيى أخرجها الطبراني في "الأوسط" (¬4) بلفظ: إنها أنزلت: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ}. رخصة في إتيان ¬

_ (أ) في الأصل: نزلت. (ب) في الأصل: عبد. (جـ) ساقط من: الأصل. (د) كذا في النسخ، والصواب "الطبري" كما في التلخيص 3/ 184، وهو عند ابن جرير في تفسيره 2/ 394. (هـ) في ب: فيها.

الدبر. وأما زيد بن أسلم فأخرج الرواية عنه النسائي والطبراني (¬1) (أ). وأما عبيد الله بن عبد الله بن عمر فأخرج عنه النسائي (¬2). وأما سعيد بن يسار فروى عنه النسائي والطحاوي والطبراني (¬3) (ب) من طريق عبد الرحمن بن القاسم قال: قلنا لمالك: إن عندنا [الليث بن سعد] (جـ) يحدث عن الحارث بن يعقوب، عن سعيد بن يسار قال: قلت لابن عمر: إنا نشتري الجواري فنحمض لهن. والتحميض (د) الإتيان في الدبر، فقال: أفٍّ، أو يفعل هذا مسلم؟ فقال مالك: أشهد (هـ) على ربيعة [لحدثني] (و) عن سعيد بن يسار أنه سأل ابن عمر عنه، فقال: لا بأس به. وأما حديث أبي سعيد فأخرج أبو يعلى وابن مردويه وابن جرير والطحاوي (¬4) من طريق زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخدري، أن رجلًا أصاب امرأة في دبرها ¬

_ (أ) كذا في النسخ. والصواب "الطبري" كما في التلخيص 3/ 184، وهو عند ابن جرير في تفسيره 2/ 395. (ب) كذا في النسخ. والصواب "الطبري" كما في التلخيص الحبير 3/ 184، وهو عند ابن جرير في تفسيره 2/ 394. (جـ) في النسخ: نصر بن الليث. والمثبت من مصادر التخريج. (د) في جـ: التحمض. (هـ) في جـ: أتشهد. (و) في النسخ: يحدثني. والمثبت من التلخيص 3/ 185. ومصادر التخريج.

فأنكر الناس ذلك عليه، وقالوا: ثفرها. فأنزل الله عزَّ وجلَّ هذه الآية. وعلقه النسائي (¬1) عن هشام بن سعد، عن زيد. وهذا السبب في نزول هذه الآية مشهور، وكأن حديث أبي سعيد لم يبلغ ابن عباسٍ وبلغه حديث ابن عمر فوهَّمه فيه؛ فروى أبو داود (¬2) من طريق مجاهد، عن ابن عباس قال: ابن عمر أوهم والله يغفر له، إنما كان هذا الحي من الأنصار وهم أهل وثن (أ) مع هذا الحي من يهود وهم أهل كتاب، وكانوا يأخذون بكثير من فعلهم، وكان أهل الكتاب لا يأتون النساء إلا على حرف وذلك أستر (ب) ما تكون المرأة، فأخذ ذلك الأنصار عنهم، وكان هذا الحي من قريش يتلذذون بالنساء مقبلات ومدبرات ومستلقيات، فتزوج رجل من المهاجرين امرأة من الأنصار فذهب يفعل بها ذلك فامتنعت، فسرى [أمرهما] (جـ) حتى بلغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأنزل الله: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ}. مقبلات ومدبرات ومستلقيات في الفرج. وأخرج أحمد والترمذي (¬3) من وجهٍ آخر صحيح عن ابن عباسٍ قال: جاء عمر فقال: يا رسول الله، هلكت؛ حولت رحلي البارحة. فأنزلت هذه الآية: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ}. "أقبل وأدبر، واتق ¬

_ (أ) في جـ: دين. (ب) في جـ: أيسر. (جـ) في الأصل: أمرها.

الدبر والحيضة". ومثل هذا أخرج أحمد (¬1) عن أم سلمة، وفي "الصحيحين" وغيرهما (¬2) عن جابر أن نزول هذه الآية في اليهود (أ)، كانت تقول: إذا أتى الرجل امرأته مِن خلفها في قبلها جاء الولد أحول. فأنزل الله: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ} الآية. والجواب عن هذه الروايات بأنها معارضة بمثلها في سبب النزول، وإذا تعارض المبيح والحاظر فالحظر أرجح على المختار؟ ولقوله - صلى الله عليه وسلم -: "دع ما يريبك إلى ما لا يريبك" (¬3). وأما تغليط (ب) نافع في روايته عن ابن عمر، فيرده ما أخرجه النسائي عن سالم بن عبد الله بن عمر (¬4)، قال النسائي: عن عبد الرحمن بن القاسم: قلت لمالك: إن ناسًا يروون عن سالم أنه قال: كذب العبد على أبي. فقال مالك (جـ): أشهد على يزيد بن رومان أنه أخبرني عن سالم بن عبد الله بن عمر، عن أبيه مثل ما قال نافع. فعرفت أن التغليط (د) غير صحيح عن سالم. وقول الإمام المهدي في "البحر" (¬5) قلنا: قد غلط نافع في روايته عن ابن عمر. فبنى على هذه الرواية المدفوعة. وقال الإمام يحيى: لا وجه للتغليط ولتكذيب الربيع؛ إذ المسألة اجتهادية، والواجب الحمل على السلامة. انتهى. وهذا التعليل لا ¬

_ (أ) زاد في جـ: و. (ب) في ب: تغليظ. (جـ) ساقط من: جـ. (د) في ب: التغليظ.

يستقيم؛ إذ [التغليط] (أ) إنما هُو لصحة الرواية بخلاف مَا رَوى الراوي، والتكذيب كذلك، فتنبه (ب). قال الإمام المهدي: وذكر أبو حامد الجاحري (جـ) وبعض أهل المذهب أنها قطعية (د). ولعل حجته التواتر المعنوي بالتحريم وإجماع أهل البيت، فحينئذٍ للتغليط حكم. انتهى. قال المصنف (¬1) رحمه الله: فائدة، ما تقدم نقله عن المالكية لم ينقل عن أصحابهم إلا عن (هـ) ناس قليل. قال القاضي عياض: كان القاضي أبو (و) محمد عبد الله بن إبراهيم الأصيلي يُجيزه ويذهب فيه إلى أنه غير محرم، وصنف في إباحته محمد بن سحنون ومحمد بن شعبان، ونقل ذلك عن [جمع] (ز) كثير من التابعين. وفي كلام ابن العربي و [المازري] (ح) مَا يومئ إلى جواز ذلك أيضًا (¬2). وحكى ابن بزيزة في "تفسيره" عن عيسى بن دينار أنه كان يقول: هذا أحل من الماء البارد. وأنكره كثير منهم أصلًا. وقال ¬

_ (أ) في الأصل: التغليظ. (ب) في جـ: وبينه. (جـ) في ب: الحاحرمي، وفي جـ: الحاحربي. (د) في جـ: قطعة. (هـ) في ب، جـ: عند. (و) في جـ: ابن. (ز) في الأصل: جميع. (ح) في الأصل: الماوردي، وفي جـ: الماوزدي.

القرطبي في "تفسيره" وابن عطية قبله (¬1): لا ينبغي لأحد أن يأخذ بذلك ولو ثبتت الرواية فيه؛ لأنها من الزلات. وذكر الخليلي في "الإرشاد" (¬2) عن ابن وهب أن مالكًا رجع عنه. وفي "مختصر ابن الحاجب" (¬3) عن مالك إنكار ذلك وتكذيب من نقله عنه، لكن الذي روى ذلك عن ابن وهب غير موثوقٍ (أ) به، والصواب ما حكاه الخليلي؛ فقد ذكر الطبري عن يونس بن عبد الأعلى، عن ابن وهب، عن مالك أنه أباحه. وروى الثعلبي في "تفسيره" (¬4) من طريق المزني قال: كنت عند ابن وهب وهو يقرأ علينا رواية مالك، فجاءت هذه المسألة، فقام رجل فقال له: يا أبا محمد، ارو لنا ما رويت. فامتنع أن يروي لهم ذلك، وقال: أحدكم يصحب العالم، فإذا تعلم منه لم يوجب له من حقه ما يمنعه من أقبح ما يروي عنه. و [أبي] (ب) أن (جـ) يروي (د) ذلك. وروي عن مالك كراهيته وتكذيب من نقله عنه من وجه آخر أخرجه الخطب في "الرواية عن مالك" من طريق إسماعيل بن [حصن] (هـ)، عن إسرائيل بن رَوح (و)، قال: سألت مَالِكًا عنه فقال: ما أنتم ¬

_ (أ) في جـ: موقوف. (ب) في الآصل، ب: أني. (جـ) ساقط من: ب. (د) في جـ: يرى. (هـ) في النسخ: حص. والمثبت من التلخيص الحبير 3/ 187. وينظر لسان الميزان 1/ 398. (و) زاد في النسخ: ثم. والمثبت من التلخيص الحبير 3/ 187.

قوم عرب، هل يكون الحرث إلا موضع الزرع؟ قلت: يا أبا عبد الله، إنهم يقولون ذلك. قال: يكذبون علي. والعمدة في هذه الحكاية على إسماعيل؛ فإنه واهي الحديث، وقد روينا في "علوم الحديث" للحاكم (¬1) قال: حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، ثنا العباس بن الوليد البيروتي، ثنا أبو عبد الله بشر بن (أ) بكر، سمعت الأوزاعي يقول: (ب يتجنب أو يترك (ب) من قول أهل الحجاز خمس، ومِن قول أهل العراق خمس؛ من [قول] (جـ) أهل الحجاز؛ استماع الملاهي، والمتعة، وإتيان النساء في أدبارهن، والصرف، والجمع بين الصلاتين من غير عذر، ومن [قول] (جـ) أهل العراق؛ شرب النبيذ، وتأخير العصر حتى يكون ظل الشيء أربعة أمثاله، ولا جمعة إلا في سبعة أمصار، والفرار من الزحف، والأكل بعد الفجر في رمضان. وروى عبد الرزاق، عن معمر قال: لو أن رجلًا أخذ بقول أهل المدينة في استماع الغناء، وإتيان النساء في أدبارهن، وبقول أهل مكة في المتعة والصرف، وبقول أهل الكوفة في المسكر -كان شر عباد الله. وقال أحمد بن أسامة التجيبي: ثنا أبي، سمعت الربيع بن سليمان الجيزي يقول: أنا أصبغ، قال: سئل القاسم عن هذه المسألة وهو في الجامع فقال: لو جعل لي ملء (د) هذا المسجد ذهبًا ما فعلته. قال: وحدثنا أبي قال: سمعت الحارث بن مسكين ¬

_ (أ) زاد في النسخ: أبي، والمثبت من التلخيص 3/ 187. وينظر تهذيب الكمال 4/ 95. (ب - ب) في ب: نتجنب أو نترك. (جـ) في الأصل: أقوال. (د) ساقطة من جـ، وفي ب: مثل.

يقول: سألت ابن القاسم عنه فكرهه لي. قال: وسأله [غيري] (ب) فقال: كرهه مالك. انتهى. 835 - وعن ابن عباسٍ رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا ينظر اللهُ إلى رجل أتَى رجلًا أو امرأة في دُبُرها". رواه الترمذي والنسائي وابن حبان (¬1) وأُعل بالوقف. الحديث رواه النسائي (¬2) موقوفًا، وهو أصح عندهم من المرفوع. تقدم الكلام فيما يتعلق بالحديث في الحديث الأول. 836 - وعن أبي هريرة - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من كان يؤمن بالله واليوم الاخر فلا يؤذي جارَه، واستوصوا بالنساء خيرًا؛ فإنهن خُلقن من ضِلَع، وإن أعوجَ شيء في الضِّلَع أعلاه، إذا ذهبت تقيمه كسرتَه، وإن تركته لم يزل أعوج، فاستوصوا بالنساء خيرًا". متفق عليه (¬3)، واللفظ ¬

_ (أ) في جـ: أبي. وينظر التلخيص الحبير 3/ 188. (ب) في الأصل: غيره.

للبخاري. ولمسلم (¬1): "فإن استمتعت بها استمتعت بها وبها عوج، وإن ذهبت تقيمها كسرتها، وكسرها طلاقها". الحديث هو حديثان؛ ذكر البخاري الأول في كتاب الأدب (¬2)، والثاني، وهو: "استوصوا" إلخ. في بدء الخلق (¬3) وهو من طريق حسين بن علي الجعفي شيخ شيخ البخاري. وأخرج مسلم (¬4) الحديث الثاني، وذكر بدلَ الأوَّلِ: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فإذا شَهِد أمرًا فليتكلم بخيرٍ أو ليسكت". والذي يظهر أنها أحاديث كانت عند حسين الجعفي عن زائدة (أ)، فربما جمع، وربما أفرد، وربما استوعب، وربما اقتصر. وزاد في رواية الإسماعيلي (¬5): "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليحسن قِرَى ضيفه". وفيه دلالة على تحريم إيذاء الجار، وهو يدل بمفهوم (ب) الشرط أن مَن آذى الجارَ فليس بمؤمنٍ (جـ) بالله واليوم الآخر، وهذا وإن كان يلزم منه إثبات الكفر لمن كان كذلك، ولكنه محمول على قصد المبالغة بأن من حَقِّ الإيمانِ ذلك، فلا ينبغي للمؤمن ¬

_ (أ) بعده في الفتح: بهذا الإسناد. (ب) في جـ: على مفهوم. (جـ) في جـ: يؤمن.

الاتصافُ به، وقد عُدَّ إيذاء الجار مِن الكبائر، وورَد في ذلك أحاديث كثيرة، وكفى في ذلك التوصية في كتاب الله سبحانه وتعالى بالجار. وحَدُّ الجار إلى أربعين بيتًا؛ كما أخرج الطبراني (¬1) أنه أتى النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - رجلٌ فقال: يا رسول الله، إني نزلت في محِلةِ بني فلانٍ، وإن أشدهم لي أذًى أقربهم (أ) لي جوارًا. فبعث - صلى الله عليه وسلم - أبا بكر وعمر وعليًّا يأتون (ب) المسجد فيقومون على بابه فيصيحون: "ألَا إنَّ أربعين دارًا جارٌ، ولا يدخل الجنة من خاف جارُه بوائقه". وأخرج الطبراني في "الكبير" و"الأوسط" (¬2): "إن اللهَ ليدفع بالمسلم الصالح عن مائة بيت من جيرانه البلاءَ". وهذا فيه زيادة على الأول. والأذَى وإن كان مُحرَّمًا في حقِّ غير الجار، إلا أنه في حق الجار أشد، فلا يُغتَفر منه شيءٌ وإن كان يسيرًا، بل ما يُعَدُّ في العُرف أذً ى، بخلاف إيذاء غيره فإنه لا يكون كبيرة (جـ) إلا إذا كان فيه ضررٌ بحيث لا يحتمل عادة، ووجه الفرق بينهما ظاهر لما علم من الأحاديث الصحيحة من تأكد حرمة الجار والمبالغة في رعاية حقوقه، حتى كان من حقه ألا يؤذيَه بقُتار (¬3) قِدْرِه ¬

_ (أ) في مصدر التخريج: أقدمهم. (ب) في جـ: فوق. (جـ) في جـ: كبيرًا.

إلَّا أن يغرف له من مَرَقَته، ولا يحجب عليه الريحَ إلا بإذنه، وإن اشترى فاكهةً أهدَى إليه منها (¬1). وغير ذلك من الحقوق التي دلت عليها السُّنة الصحيحةُ. وقوله: "استوصوا". أي اقبلوا الوصية. والمعنى: إني أوصيكم بهن خيرًا، أو بمعنى: يوصي بعضكم بعضًا فيهن خيرًا. [وقوله: "فإنهن خُلقن من ضِلَع"] (أ). أي: خُلِقن خلقًا فيه اعوجاج، فكأنهن خُلقن مِن أصلٍ مُعْوجٍّ، فعبَّر عنهن بالضِّلَع لما كان معوجًّا، والضِّلَع بكسر الضاد وفتح اللام، وقد يسكن، واحدُ الأضلاع، أو المراد بالضلع ضلع آدم الذي خلق منه حواء -بالمد- فإنها (ب) -كما قاله الفقهاء- خُلِقت من ضِلَع آدم - عليه السلام - كما قال تعالى: {خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا} (¬2). وبين النبي - صلى الله عليه وسلم - أنها خُلقت من ضِلع من ضِلَع آدم كما أخرجه ابن إسحاق (¬3) في "المبتدأ" عن ابن عباسٍ، أن حواء خُلقت مِن ضِلَع آدمَ الأقْصَر الأيسر وهو نائم. وأخرجه أيضًا ابن أبي حاتم وغيره (¬4) من حديث مجاهد. وكأن المعنى أن النساء خُلِقْن من أصلٍ خُلِق من شيءٍ معوجٍّ، وهذا لا يخالف تشبيه المرأة بالضلع، بل يستفاد منه نُكتة التشبيه فإنها عوجاء مثله؛ ¬

_ (أ) ساقط من: الأصل. (ب) في ب، جـ: وإنها.

لكون أصلها منه. وقوله: "وإن أعوج شيء في الضلع". ذكره تأكيدًا لمعنى الكسر؛ لأن الإقامة أمرُها أظهر في الجهة العُليا، أو إشارة إلى أنها خُلقت من أعوج أجزاء الضلع مبالغةً في إثبات هذه الصفة لهن، ويحتمل أن يكون ضرب ذلك مثلًا لأعلى المرأة؛ لأن أعلاها (أ) رأسها وفيه لسانها وهو الذي يحصل منه الأذى، وأعوج هنا هو من باب الصِّفة لا من التفضيل، والظاهر أنه للتفضيل، وقد جاء ذلك شاذًّا، ووجهه لعدم الالتباس بالصفة، والامتناع إنما هو للَّبس، والضمير [في]، (ب) "تقيمه"، وفي "كسرته" للضِّلَع لا لأعلى الضلع، وهي تُذكَّر وتؤنَّث، وقد جاء في روايةٍ للبخاري (¬1): "أقمتها كسرتها". والضمير للضلع، ويحتمل أن يكون للمرأة، كما في رواية مسلم. والحديث فيه دلالة على حُسن ملاطفة النساء، والإحسان إليهن، والصبر على عِوج أخلاقِهِن، واحتمال ضعف عُقولِهن، وكراهة طلاقهن بلا سببٍ، وأنه لا يطمع الزوج في سلامة حالهن. وقوله: "استمتعت بها وبها عوج". قال النووي (¬2) (جـ) رحمه الله تعالى: ضبطه بعضهم هنا بفتح العين، وضبطه بعضهم بكسرها، ولعل ¬

_ (أ) في جـ: أعلا. (ب) في الأصل، ب: من. (جـ) في الأصل: الثوري.

الفتح أكثر، وضبطه الحافظ ابن عساكر وآخرون بالكسر، وهو الأرجح. قال أهل اللغة: العوج بالفتح في كل منتصب، كالحائط والعود وشبهه، وبالكسر ما كان في بِساطٍ أو أرضٍ أو معاش أو دين، ويقال: فلان في دينِه عوج. بالكسر. هذا كلام أهل اللغة. وقال صاحب "المطالع": قال أهل اللغة: العوج بالفتح في كل شخصٍ مَرئي، وبالكسر فيما ليس بمرئي كالرأي والكلام. قال: وانفرد عنهم أبو عمرو (أ) الشيباني، فقال: كلاهما بالكسر ومصدرهما بالفتح. "وكسرها طلاقها". فيه دلالة على أنه لا ينبغي المسارعة بإيقاع الطلاق تبرُّمًا مِنَ الخُلُق الذي فيه اعوجاج؛ فإن ذلك لازم لجميع هذا النوع، وأن المرضي المنتخبَ من النساء معدومٌ. والله أعلم. 837 - وعن جابر رضي الله عنه قال: كنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في غزاة، فلما قدمنا المدينة ذهبنا لندخل فقال: "أمْهِلوا حتى تدخلوا ليلًا -يعني عِشاءً- لكي تمتشطَ الشَّعِثة وتستحد المُغِيبة". متفق عليه (¬1). وفي رواية للبخاري (¬2): "إذا [أطال] (ب) أحدكم الغَيْبة فلا يَطرُق أهلَه ليلًا". ¬

_ (أ) في جـ: عمر. (ب) في النسخ: طال. والمثبت من مصدر التخريج وبلوغ المرام.

الحديث فيه دلالة على أنه ينبغي عدم المسارعة للقادم إلى أهله مِن غير أن يكون منهم شعور بقدومه، فإن في قوله "أمهلوا". دلالة على [أن] (أ) التأني والتأخير للقدوم، وكأنهم قدموا آخو النهار، وكان يمكنهم الوصول أولَ (ب) الليل، فأُمِروا (جـ) بالتأخير إلى وقت العِشاء ليعلم أهلهم بقدومهم، وهذا لا يعارضه النهي عن الطروق بالليل كما في رواية البخاري؛ فإنه (د) مع عدم شعورهم بالقدوم، ولذلك ترجم البخاري (¬1) الباب بقوله: لا يطرق الرجل أهله ليلًا إذا أطال (هـ) الغَيْبة مخافة أن يتخوَّنهم أو يَلْتمِس عَثَراتهم. وهذه الترجمة هي لفظ الحديث الذي أورده في بعض طُرقه، لكن اختلف في إدراج هذه الزيادة، فاقتصر البخاري على اللفظ الذي وقع الاتفاق على رفعه، وأتى (و) ببقيته في الترجمة. وقد جاء من رواية وكيع عن جابر قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يطرُقَ الرجل أهله ليلًا يتخوَّنهم أو يطلب عثراتهم. وأخرجه مسلم (¬2) عن أبي بكر بن أبي شيبة، وأخرجه النسائي (¬3) من رواية أبي نعيم عن سفيان كذلك، وأخرجه أبو عوانة (¬4) من وجه آخر عن سفيان ¬

_ (أ) ساقطة من: الأصل. (ب) في جـ: لأول. (جـ) في جـ: فأمر. (د) في ب: فإنها. (هـ) في جـ: طال. (و) في جـ: إلى.

كذلك، وأخرجه مسلم (¬1) من رواية عبد الرحمن بن مهدي عن سفيان به، لكن قال في آخره: قال سفيان: لا أدري هذا في الحديث أم لا؟ يعني: أن يتخوَّنهم أو يطلب عَثَراتهم. ثم ساقه مسلم (¬2) مِن رواية شعبة مقتصرا (أ) على المرفوع كرواية البخاري. والعثرة: هي الزلة. وقوله: "تمتشط الشعِثة". بفتح المعجمة وكسر العين المهملة ثم مثلثة، أطلق عليها ذلك، لأن التي يغيب زوجُها مَظنة لعدم التزيُّن. وقوله: "وتستحد". بحاء مهملة؛ أي تستعمل الحديدة وهي الموسَى. و "المغُيبة" بضم الميما وكسر المعجمة بعدها تحتانية ساكنة ثم موحدة مفتوحة، أي غاب عنها زوجها، والمراد إزالة الشَّعر عنها. وعَبَّر بالاستحداد، لأن الغالب استعماله في إزالة الشَّعَر، وليس في ذلك ما يدل على منع إزالته بغير الموسَى، وهذا إنما هو مع طول الغَيْبة التي هي مظِنَّة الأمن من الهجوم على الحال التي يكره أن يجد أهله على غير أهبة من التنطيف والتزيُّن المطلوب من المرأة؛ فيكون ذلك سبب النُّفْرةِ بينهما، ويؤخذ منه كراهة مباشرة الرجل امرأته في الحال التي هي فيها غير متنظفة. وقوله: "إذا أطال (ب) أحدكم الغَيْبة". فيه دلالة على أن الذي لا يُطيل الغَيْبة؛ كأن يخرج لحاجته نهارًا ويرجع ليلًا لا كراهةَ له في ذلك. ¬

_ (أ) في ب، جـ: يقتصر. (ب) في جـ: طال.

وقوله: "فلا يطرق أهله". قال أهل اللغة (¬1): الطروق بالضم المجيء بالليل من سَفَرٍ أو مِن غيره على غفلة، ويقال لكلِّ آتٍ بالليل: طارق. ولا يقال (أفي النهار أ) إلا مجازا. وقال بعض أهل اللغة: أصل الطروق الدَّفع والضرب، وبذلك سميت الطريق؛ لأن المارَّة تدقُّها بأرجلها، وسُمِّي الآتي بالليل طارقًا؛ لأنه يحتاج غالبًا إلى دَقِّ الباب. وقيل: أصل الطروق السكون، ومنه: أطرق رأسه. فلما كان الليل يُسكَن فيه سُمِّي الآتي طارقًا. وقوله: "ليلًا". ظاهره النهي عن الطرق في الليل، وأما وصول النهار مع عدم شعور الأهل بذلك فلا كراهةَ، والحكم يختلف باختلاف عِلَّة النهي، فإن كان لأجل ما تحتاج [إليه] (ب) المرأة مِنَ التزيُّن والتنظيف، فهذا حاصل في الليل والنهار، وإن كان لما أشار إليه في ترجمة البخاري: مخافة أن يتخوَّنهم ويتطلب (جـ) عثراتهم. فيكون الليل جزءًا مِن العِلة، لأن الأمر الأغلبي فيما (د) يظن من الريِّبةِ (هـ) يكون في الليل ويندر في النهار، ويحتمل أن يكون ذلك معتبرًا في العِلَّة على كِلا التقديرين، فإن الغرض من التنظيف والتزين، إنما هو لتحصيلِ إكمال الغرض من قضاء الشهوة، وذلك في الأغلب يكون في الليل، فالقادم في النهار يتأتَّى لزوجته التنظيف والتزيُّن ¬

_ (أ- أ) في جـ: بالنهار. (ب) ساقطة من: الأصل. (جـ) في ب: يطلب. (د) في ب: مما. (هـ) في جـ: الزينة.

لوقت المباشرةِ وهو الليل بخلاف القادم في الليل، وكذلك ما يُخشَى منه مِن العثور على ما لا يرضاه مِن وجود أجنبيٍّ هو في الأغلب يكون في الليل. وقد أخرج ابن خزيمة (¬1) عن ابن عمر رضي الله عنه قال: نَهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن تُطرق النِّساء ليلًا، فطرق رجلان كلاهما فوجد مع امرأته ما يكره. وأخرج (¬2) مِن حديث ابن عباس نحوه وقال فيه: فكلاهما وجد مع امرأته رجلًا. ووقع في حديث محارب عن جابر أن عبد الله بن رواحة أتى امرأته ليلًا وعندها امرأة تمشِّطها، فظنها رجلًا فأشار إليها بالسيف، فلما ذُكر ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - نَهى أن يَطرقَ الرجلُ (أ) أهلَه ليلًا. أخرجه أبو عوانة (¬3) في "صحيحه". ويؤخذ مِن الحديث الإغْضَاءُ عن تتبُّع عثرات الأهل ومحبة الستر مهما أمْكَن قبل أن يطلع على ما لا (أ) يرضاه الشرع، والحث على التَّواد والتَّحاب خصوصًا بين الزوجين مع اطلاع كل منهما على ما جرت العادةُ بستره، حتى إن كل واحد منهما لا يخفى عنه من عيوب الآخر شيء في (ب) الغالب، ومع ذلك فنهى عن الطروق لئلَّا يطَّلِعَ على ما يُنفِّر نفسه عنه، فيكون مراعاة ذلك في غير الزوجين بطريق الأوْلَى. ¬

_ (أ) سقط من: جـ. (ب) في جـ: من.

ويدل على أن الاستحداد و (أ) نحوه مما تتزين به المرأة ليس داخلًا في النَّهي عن تغيير الخِلْقة، والتحريض على ترك التَّعرُّض لما يوجب سوء الظن بالمسلم. 838 - وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن من شر الناس عند الله منزلةً يوم القيامة الرجل يُفضي إلى امرأته وتُفضي إليه ثم ينشُر [سِرَّها] (ب) ". أخرجه مسلم (¬1). قوله: "من شر الناس". لفظ مسلم: "أشر". وقعت به الرواية، قال القاضي (¬2): وأهل النحو يقولون: لا يجوز أشر وأخْير، وإنما يقال: هو خير منه، وشر منه. قال: وقد جاءت الأحاديث الصحيحة باللغتين جميعًا، وهي حُجة في جوازهما جميعًا وأنهما لُغتان. والحديث يدل على تحريم إفشاء الرجل ما يجري بينه وبين امرأته مِن أمور الاستمتاع، ووصف تفاصيل ذلك، وما يجري من المرأة فيه من قول أو فعل ونحوه، وأما مجرد ذِكر الجماع، فإن لم تكن فائدة ولا إليه حاجة فمكروه؛ لأنه خلاف المروءة، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل ¬

_ (أ) ساقط من: ب. (ب) في الأصل: سرهما. (جـ) زاد في جـ: الناس.

خيرًا أو ليصمت" (¬1). فإن كان إليه حاجة أو ترتبت (أ) عليه فائدة؛ بأن تُنكر عليه إعراضه عنها، أو تدَّعي عليه العجز عن الجماع، أو نحو ذلك، فلا كراهةَ في ذكره، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: "إني لأفعله أنا وهذه" (¬2). وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لأبي طلحة: "أعرستم الليلة" (¬3). وقال لجابر: "الكَيْسَ الكَيْسَ" (¬4). 839 - وعن حكيم بن معاوية، عن أبيه قال: قلت: يا رسول الله، ما حق زوج أحدنا عليه؟ قال: "تطعمها إذا أكلت، وتكسوها إذا اكتسيت، ولا تضرب الوجه، ولا تقبح، ولا تهجر إلَّا في البيت". رواه أحمد، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه، وعلق البخاري بعضه، وصححه ابن حبان والحاكم (¬5). ¬

_ (أ) في ب، جـ: ترتب.

هو حكيم بن معاوية بن حَيْدة، بفتح الحاء المهملة وسكون الياء المنقوطة باثنتين من أسفل والدال المهملة، القُشَيْري بضم القاف و [فتح] (أ) الشين المعجمة وسكون الياء، أعرابي حسن الحديث، روى عن أبيه، وسمع منه ابنه بَهْز، بفتح الباء الموحدة وسكون الها وبالزاي المعجمة، الجُريري، بضم الجيم وفتح الراء الأولى وسكون [الياء] (أ) الأولى (¬1). الحديث فيه دلالة على وجوب نفقة الزوجة وكسوتها، وأنه يجب بقدر الوسع، لا يكلف فوق وسعه (ب)، وذلك لأنه قرن نفقتها بنفقة الزوج، فمتى قدر على تحصيل النفقة، وجب عليه ألا يختص بها دون زوجته، ولعله مقيد بما زاد على قدر سد خلته؛ لحديث: "ابدأ بنفسك" (¬2) وغيره. وقوله: "ولا تضرب الوجه". يدل على أنه يجب في التأديب اجتناب الوجه. وقوله: "ولا تقبح". أي: لا تسمعها المكروه، ولا تشتمها؛ بأن تقول: قبحك الله. وما أشبهه من الكلام. وقوله: "ولا تهجر إلَّا في البيت". المراد أنه إذا رابه منها أمر، ¬

_ (أ) ساقطة من: الأصل. (ب) في جـ: بوسعه.

واستفزه الغضب، وأراد التأديب لها بالهجر، فيهجرها في المضجع، ولا يتحول عنها إلى دار أخرى، أو يحولها إليها، والله أعلم. وقوله: وعلق البخاري بعضه. قال البخاري بعد أن بوب: باب هجرة النبي - صلى الله عليه وسلم - نساءه في غير بيوتهن: ويذكر عن معاوية بن حيدة يرفعه (أ): "ولا تهجر إلَّا في البيت". والأول أصح. فقول البخاري: والأول أصح. يعني أن إسناد رواية (ب) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - هجر نساءه إلى المشربة شهرًا (¬1) - أصح إسنادًا من حديث معاوية. والمراد أن الهجران يجوز أن يكون في البيوت، وفي غير البيوت، والحق أن ذلك يختلف باختلاف الأحوال؛ فربما كان الهجران في البيوت أشدَّ من الهجران في غيرها، وبالعكس، بل الغالب أن الهجران في غير البيوت آلم للنفوس وخصوصًا النساء؛ لضعف نفوسهن. واختلف أهل التفسير في المراد بالهجران؛ فالجمهور على أنه ترك الدخول عليهن والإقامة عندهن، على ظاهر الآية. وهو من الهجران، يعني البعد. وقيل: يضاجعها ويوليها ظهره. وقيل: يمتنع من جماعها. وقيل: يجامعها ولا يكلمها. وقيل: من الهجر وهو الإغلاظ في الكلام. وقيل: من الهجار، وهو الحبل الذي يربط به البعير، أي أوثقوهن في البيوت. قاله الطبري واستدل له (جـ)، ووهاه ابن العربي (¬2). ¬

_ (أ) في ب، جـ: رفعه. (ب) في جـ: روايات. (جـ) في جـ: به.

840 - وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: كانت اليهود تقول: إذا أتى الرجل امرأته من دبرها في قبلها كان الولد أحول. فنزلت: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ} (¬1) الآية. متفق عليه، واللفظ لمسلم (¬2). ولفظ البخاري: سمعت جابرًا يقول: كانت اليهود تقول: إذا جامعها من ورائها جاء الولد أحول. فنزلت: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ}. هذا لفظ البخاري، وفيه احتمال أن يكون موافقا لما رواه ابن عمر (¬3)، إلّا أن رواية مسلم مفسرة له، فهي من طريق البخاري عن ابن المنكدر، وكذا أخرجه الإسماعيلي من طريق يحيى بن أبي زائدة عن سفيان الثوري بلفظ: باركة مدبرة في فرجها من ورائها (¬4). وأخرجه مسلم من طريق أبي حازم عن ابن المنكدر بلفظ: إذا أتيت المرأة من دبرها فحملت (¬5). فقوله: فحملت. يدل على أن مراده أن الإتيان في الفرج لا في الدبر. وأخرج مسلم أيضًا من حديث جابر زيادة من طريق الزهري عن ابن المنكدر بلفظ: إن شاء مجبية، وإن شاء غير مجبية، غير أن ذلك في صمام واحد (¬6). إلَّا أن هذه الزيادة تشبه أن تكون من تفسير الزهري؛ بخلوّها من ¬

_ (¬1) الآية 223 من سورة البقرة. (¬2) البخاري، كتاب التفسير، باب نساؤكم حرث لكم ... 8/ 189 ح 4528، ومسلم، كتاب النكاح، باب جواز جماعه امرأته في قبلها 2/ 1058 ح 1435/ 117. (¬3) البخاري 8/ 189 ح 4526، 4527. (¬4) السهمي في تاريخ جرجان ص 293 عن الإسماعيلي به. (¬5) مسلم 2/ 1058 ح 1435/ 118. (¬6) مسلم 2/ 1059 ح 1435/ 119.

رواية غيره من أصحاب ابن المنكدر، مع كثرتهم. والمجبية بجيم وموحدة، أي: باركة، والصمام بكسر المهملة وتخفيف الميم هو المنفذ. واعلم أنه اختلفت الروايات في سبب نزول الآية الكريمة على أربعة أقوال؛ فالقول الأول كما ذكره المصنف من رواية "الصحيحين"، أنه في إتيان المرأة من ورائها في قبلها، وهذا المعنى خرجه جماعة من المحدثين عن جابر وغيره، واجتمع فيه ستة وثلاثون طريقا، وفي بعضها التصريح بأنه لا يحل إلَّا في القبل، وبعضها غير مصرح بذلك، وفي أكثرها الرد على اعتراض اليهود. القول الثاني، أنها [أنزلت] (أ) في إتيان دبر الزوجة وحله. وأخرج عن ابن عمر في سبب نزول الآية في ذلك من اثني عشر طريقًا. القول الثالث، أنها نزلت في حل العزل عن الزوجة. وقد أخرجه وكيع، وابن أبي شيبة، وابن منيع، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والطبراني، والحاكم، وابن مردويه، والضياء في "المختارة" عن ابن عباس (¬1). وأخرج وكيع وابن أبي شيبة (¬2) عن أبي ذراع عن ابن عمر قال: قول الله تعالى: {فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ}. قال: إن شاء عزل، وإن ¬

_ (أ) في الأصل: أنزلت.

شاء غير العزل. وأخرجه ابن أبي شيبة وابن جرير (¬1) عن سعيد بن المسيب في قول الله تعالى: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ}. قال: إن شئت فاعزل، وإن شئت فلا تعزل. القول الرابع: أن: {أَنَّى شِئْتُمْ}. بمعنى: إذا شئتم. أخرجه عبد بن حميد (¬2) عن ابن الحنفية في قوله: {فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ}. قال: إذا شئتم. 841 - وعن ابن عباس رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لو أن أحدكم إذا أراد أن يأتي أهله قال: باسم الله، اللهم جنِّبنا الشيطان وجنِّب الشيطان ما رزقتنا. فإنه إن يقدَّر بينهما ولد في ذلك لم يضرَّه الشيطان أبدًا". متفق عليه. هذا لفظ مسلم (¬3). قوله: "إذا أراد". فيه دلالة على (أ) أن الذكر يكون قبل الشروع، وهذه الرواية مفسرة لغيرها من الروايات كرواية البخاري: "أما لو أن أحدهم يقول حين يأتي أهله".التي ظاهرها أن الذكر حال المباشرة، فيحمل هذا على المجاز، وهو أن الذكر قريب من وقت الفعل، حتى كأنه [متحد به] (ب). وقوله: "باسم الله، اللهم جنبنا". وجاء في لفظ البخاري: "ذكر ¬

_ (أ) ساقطة من: ب. (ب) في الأصل: محدثه.

الله ثم قال: اللهم جنِّبني". ولكن المصرح فيه بـ: "باسم الله". تكون مفسرة للذكر، وصيغة المثنى تحتمل أن يريد المتكلم نفسه وزوجه، أو لقصد التعظيم، وجاء في رواية الطبراني (¬1) عن أبي أُمامة: "جنِّبني وجنِّب ما رزقتني من الشيطان الرجيم". وقوله: "فإنه إن يقدَّر بينهما". في رواية البخاري: "ثم قدِّر بينهما ولد أو قضي ولد". كذا بالشك. وفي رواية الكشميهني (¬2): "ثم قدِّر بينهما في ذلك". أي الحال، "ولد". وفي رواية سفيان بن عيينة (¬3): "فإن قضى الله بينهما ولدًا". ومثله في رواية إسرائيل (¬4)، وفي رواية شعبة (¬5): "فإن كان بينهما ولد". ولمسلم من طريقه (¬6): "فإنه إن يقدَّر بينهما ولد في ذلك". وفي رواية جرير (¬7): "ثم قدِّر أن يكون". وفي رواية همام (¬8): "فرُزقا ولدًا". وقوله: "لم يضرَّه الشيطان أبدًا". وجاء في رواية لمسلم وأحمد (¬9): ¬

_ (¬1) الطبراني 8/ 246 ح 7839. (¬2) ينظر الفتح 9/ 229. (¬3) أحمد 1/ 220، والحميدي 1/ 239 ح 516، والترمذي 3/ 401 ح 1092. (¬4) الدارمي 2/ 145. (¬5) أحمد 1/ 286، والبخاري 6/ 337 ح 3283، والنسائي في الكبرى 6/ 75 ح 10099. (¬6) مسلم 2/ 1058 ح 1434. (¬7) البخاري 11/ 191 ح 6388، 13/ 379 ح 7396، ومسلم 2/ 1058 ح 1434/ 116، وأبو داود 2/ 255 ح 2161. (¬8) البخاري 6/ 335 ح 3271. (¬9) مسلم 2/ 1058 ح 1434، وأحمد 1/ 286.

"لم يسلَّط عليه الشيطان - (أأو: لم يضرَّه الشيطان- "أ). [وفي] (ب) رواية: "لم يضرَّه شيطان". وفي سائر ألفاظ البخاري بالتعريف، واللام للعهد الجاري (جـ) لسبق ذكره في الدعاء. وفي لفظ لأحمد (¬1): "لم يضرَّ ذلك الولد الشيطان أبدًا". وفي مرسل الحسن عند عبد الرزاق (¬2): "إذا أتى الرجل أهله فليقل: باسم الله، اللهم بارك لنا فيما رزقتنا، ولا تجعل للشيطان نصيبًا فيما رزقتنا". فكان يرجى إن حملت أن يكون ولدًا صالحًا. قال القاضي عياض: نفي الضرر على جهة العموم في جميع أنواع الضرر غير مراد، وإن كان الظاهر العموم في جميع الأحوال من صيغة النفي مع التأبيد؛ وذلك لما ثبت في الحديث الصحيح أن كل بني آدم يطعُن الشيطان في بطنه حين يولد، إلا مريم وابنها (¬3)، فإن في هذا الطعن نوع ضرر في الجملة مع أن ذلك سبب صراخه، فاختلف العلماء في الضرر المنفي؛ فقيل: المعنى لم يسلط عليه من أجل تركه التسمية، بل يكون من جملة العباد الذين قيل فيهم: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} (¬4). ويؤيده ¬

_ (أ- أ) ساقط من: جـ. (ب) في الأصل: وقوله. (جـ) في ب، جـ: الخارجي.

مرسل الحسن المذكور. وقيل: المراد لم يطعن في بطنه. وهو بعيد؛ لمنابذته ظاهر الحديث الصحيح المذكور، وليس تخصيصه بأولى من تخصيص هذا. وقيل: المراد لم يصرعه. وقيل: لي يضرَّه في بدنه. وقال ابن دقيق العيد: يحتمل ألا يضرَّه في دينه أيضًا، ولكن يلزم منه العصمة، وليست إلا للأنبياء، ولكنه قد يقال: إن العصمة في حق من ذكر على جهة الوجوب. وفي حق من دعي لأجله بهذا [الدعاء] (أ) على جهة الجواز، فلا ممانع أن يوجد من لا يصدر منه معصية عمدًا، وإن لم يكن ذلك واجبًا له. وقال الداودي: معنى: "لم يضره". أي لم يفتنه عن دينه إلى الكفر، وليس المراد عصمته منه عن المعصية. وقيل: لم يضره بمشاركة أبيه في جماع أمه، كما جاء عن مجاهد: إن الذي يجامع ولا يسمي؛ يلتف الشيطان [على] (ب) إحليله فيجامع معه (¬1). ولعل هذا أقرب الأجوبة، ويؤيد الحمل على الأول، [بأن] (جـ) الكثير ممن يعرف هذا الفضل العظيم يذهل عنه عند إرادة المواقعة، والقليل الذي يستحضره ويفعله لا يقع معه الحمل، فإذا كان ذلك نادرًا لم يبعد. وفي الحديث من الفوائد أيضًا استحباب التسمية والمحافظة على ذلك ¬

_ (أ) ساقطة من: الأصل. (ب) في الأصل: عن. (جـ) في الأصل: فإن.

حتى في حالة الملاذِّ كالوقاع. وفيه الاعتصام بذكر الله ودعائه من الشيطان، والتبرك باسمه، و [الاستعاذة] (أ) به من جميع الأسواء. وفيه [الاستشعار] (ب) بأنه الميسر لذلك العمل والمعين عليه. وفيه إشارة إلى أن الشيطان ملازم لابن آدم لا ينصرف عنه إلّا إذا ذكر الله. وفيه رد على من منع المُحْدِث من ذكر الله. إلا أن رواية: "إذا أراد". تبعد ذلك، إلا أنه يقال: إنه عند إرادة الوطء يتقدمه مسيس وغير ذلك مما ينقض الوضوء؛ كما ذلك معروف من الخلقة الحيوانية، والله أعلم. 842 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه (جـ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - جـ) قال: "إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه فأبت أن تجيء لعنتها الملائكة حتى تصبح". متفق عليه، واللفظ للبخاري (¬1). ولمسلم (¬2): "كان الذي في السماء ساخطًا عليها، حتى يرضى عنها". قوله: "إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه".المراد بالفراش الجماع، كناية عنه، كما في قوله: "الولد للفراش" (¬3). لمن يطأ في الفراش، والكناية ¬

_ (أ) في الأصل: الاستشعار. (ب) في الأصل: الاستعاذ. (جـ - جـ) ساقطة من: ب.

عن الأشياء التي يستحيا منها كثير في القرآن والسنة. وظاهر الحديث أن استحقاقها للَّعن إذا كان ذلك في الليل؛ لقوله: "حتى تصبح". وكأن السر في ذلك تأكد الداعي في الليل وقوة الباعث عليه، ولا يلزم من المفهوم حل الامتناع في النهار؛ لأن التقييد [لأجل] (أ) الحالة [الأغلبية] (ب) وندرة ذلك في النهار. وفي حديث مسلم عدم التقييد بذلك، وكذلك في حديث جابر، أخرجه ابن خزيمة وابن حبان مرفوعًا: "ثلاثة لا تقبل لهم صلاة ولا تصعد لهم إلى السماء حسنة؛ العبد الآبق حتى يرجع، والسكران حتى يصحو، والمرأة الساخط عليها زوجها حتى يرضى" (¬1). فهذا مطلق [يتناول] (جـ) الليل والنهار. وقوله: "فأبت أن تجيء". زاد البخاري من رواية أبي عوانة عن الأعمش في بدء الخلق: "فبات غضبان عليها" (¬2). وهذه الزيادة يتجه وقوع اللَّعن لأجلها؛ لأنها حينئذ يتحقق ثبوت معصيتها، بخلاف ما إذا لم يغضب من ذلك، فإنه يكون إما لأنه عذرها، وإما لأنه ترك حقه من ذلك. ¬

_ (أ) في الأصل: في أجل. (ب) في الأصل: للأغلبية. (جـ) في الأصل، جـ: يتناوله.

وفي الرواية الأخرى للبخاري: "إذا باتت المرأة مهاجرة" (¬1). ظاهره المفاعلة من الجانبين، والظاهر أنه ليس شرطًا في (أ) ذلك، وأن المراد إذا هجرت وهي ظالمة له؛ بأن تكون هي البادئة بالهجرة، فهجرها غضبًا منها، أو هجرته هي من دون أن يحصل منه هجر، وأمَّا لو بدأها بالهجرة ظالمًا لها فلا. ووقع في رواية لمسلم: "إذا باتت هاجرة". بلفظ اسم الفاعل. وقوله: "لعنتها الملائكة". فيه دلالة على أن منع الحقوق في الأبدان كانت أو في الأموال مما يوجب سخط الله تعالى، إلّا أن يتغمدها بعفوه، وأنه يجوز لعن العاصي المسلم إذا كان على وجه الإرهاب عليه؛ لئلا يواقع المعصية، فإذا واقع المعصية دعي له بالتوبة والهداية. كذا قال المهلب. قال المصنف (¬2) رحمه الله: ليس هذا التقييد مستفادا من الحديث، بل من أدلة أخرى. ثم قال: [والحق أن] (ب) من منع اللعن أراد به معناه اللغوي، وهو الإبعاد من الرحمة، وهذا لا يليق أن يُدعى به على المسلم، بل يطلب له الهداية والتوبة والرجوع عن المعصية. والذي أجازه أراد به معناه العرفي، وهو مطلق السب، ولا يخفى أن محله إذا كان بحيث يرتدع العاصي به وينزجر، ولعن الملائكة لا يلزم منه جواز اللعن منّا، فإن التكليف يختلف. انتهى. ويفهم منه أن الملائكة تدعو على أهل المعاصي ما داموا فيها، وذلك يدل ¬

_ (أ) زاد في الأصل: لي. (ب) في الأصل: والجواب.

على أنهم يدعون لأهل الطاعة ما داموا فيها؛ كما قال تعالى: {وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا} (¬1) الآية. والمراد (أبالملائكة هنا أ) هم الحفظة أو غيرهم، ذلك محتمل، يرشد إلى التعميم ما في رواية مسلم: "كان الذي في السماء". إذا أريد به سكانها من الملائكة، ويدل على استجابة دعاء الملائكة من خير أو شر؛ ولذلك خوَّف منه - صلى الله عليه وسلم -. وعلى أن الزوجة تساعد الزوج، وتطلب مرضاته، وأن صبر الرجل على ترك الجماع أقل من صبر المرأة، وأن منع ذلك منه مع وجود داعيه مشوش على الرجل، ولأن ذلك سبب التناسل المقصود من النكاح. قال ابن أبي جمرة: وفيه إشارة إلى ملازمة طاعة الله، والصبر على عبادته جزاء على مراعاته لعبده، حيث لم يترك شيئًا من حقوقه إلّا جعل له من يقوم به، حتى جعل ملائكته تلعن من أغضب عبده بمنع شهوة من شهواته، فعلى العبد أن يوفي حقوق ربّه التي طلبها منه، وإلّا فما أقبح الجفاء من الفقير المحتاج إلى الغني الكثير الإحسان! وقوله: "حتى تصبح". جاء في الرواية الأخرى في البخاري (¬2): "حتى ترجع". وهي أكثر فائدة، والأُولى محمولة على الغالب كما تقدم، و (ب) في رواية الطبراني: "وامرأة عصت زوجها حتى ترجع". وصححه الحاكم (¬3). ومعنى الحديث أن اللعنة تستمر عليها حتى تزول المعصية بطلوع ¬

_ (أ- أ) ساقط من: جـ. (ب) زاد في ب، جـ: كذا.

الفجر والاستغناء [عنها] (أ)، أو بتوبتها ورجوعها إلى الفراش، والله أعلم. 843 - وعن ابن عمر رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لعن الواصلة والمستوصلة، والواشمة والمستوشمة. متفق عليه (¬1). الواصلة هي التي تصل الشعر بشعر آخر، سواء كانت فاعلة ذلك لنفسها أو لغيرها. والمستوصلة هي التي تطلب فعل ذلك، ويفعل لها. ويقال لها: [موصلة] (ب). والحديث يدل على تحريم الوصل، ولعن الواصلة و [المستوصلة] (جـ) مطلقا؛ سواء كانت مزوجة أو غير مزوجة، وسواء كانت من ذوات الريب أم لا. وسواء كان شعرًا لمحرم أو غيره، وسواء كان من شعر آدمي أو غيره. وقد ذهب إلى هذا الجمهور. والهدوية منعت الوصل بشعر غير المحرم [من] (د) بني آدم، وصرح به الفقيه محمد بن يحيى؛ لأنه يتعلق بالنظر إليه التحريم بعد انفصاله. وقال الفقيه يحيى: إنه يجوز الوصل (هـ)، لأنه بعد انفصاله لا يتعلق به التحريم. وقد روي مثل هذا عن عائشة (¬2)، وتأولت الحديث [بأن الواصلة] (و) التي تفجر في نفسها، ثم تصل ذلك ¬

_ (أ) في الأصل: عليها. (ب) في الأصل: موصولة. (جـ) في الأصل: الموصولة. (د) في الأصل: و. (هـ) ساقطة من: ب. (و) في الأصل: فإن الراغب له.

[بالقيادة] (أ). وهي رواية ضعيفة، والصحيح عنها مثل كلام الجمهور. وقول الهدوية منابذ للحديث. وقال الإمام يحيى: إن ذلك لا يحرم إلّا على ذوات الريبة. وهو أيضًا منابذ للأحاديث المصرحة، كما في رواية عائشة: أن جاريةً من الأنصار تزوجت، وأنها مرضت فتمعط شعرها، فأرادوا أن يصلوها، فسألوا النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: "لعن الله الواصلة والمستوصلة". أخرجه البخاري (¬1). فهذا صريح أن ذلك ليس للريبة. قال النووي (¬2): قد فصَّل أصحابنا فقالوا: إن وصلت شعرها بشعر آدمي، فهو حرام بلا خلاف سواء كان رجلًا أو امرأة، [و] (ب) سواء شعر المحرم والزوج وغيرهما؛ لعموم الأحاديث، و [لأنه] (جـ) يحرم الانتفاع بشعر الآدمي وسائر أجزائه لكرامته، بل (د يُدفن شعره د) وظفره وسائر أجزائه، وإن وصلته بشعر غير آدمي؛ فإن كان شعرًا نجسًا، وهو شعر الميتة وشعر ما لا يؤكل إذا انفصل في حياته، فهو حرام أيضًا؛ للحديث، ولأنه حمل نجاسة في صلاته وغيرها عمدًا، وسواء في هذين النوعين المزوجة وغيرها من النساء والرجال. وأما الشعر الطاهر من غير الآدمي، فإن لم يكن لها زوج أو سيد فهو حرام أيضًا، وإن كان فثلاثة أوجه؟ أحدها، لا يجوز لظاهر الأحاديث. والثاني، لا يحرم. وأصحها (هـ) عندهم إن فعلته بإذن ¬

_ (أ) في الأصل: بالسادة. (ب) ساقطة من النسخ، والمثبت من شرح النووي. (جـ) في الأصل: أنه. (د- د) في النسخ: يرمى بشعره. والمثبت من شرح النووي. (هـ) في ب: أصحهما.

الزوج أو السيد جاز، وإلّا فهو حرام. قالوا: وأما تحمير الوجه والخضاب والسواد، وتطريف (¬1) الأصابع، فإن لم يكن لها زوج ولا سيد، أو كان وفعلته بغير إذنه فحرام. وإن أذن جاز على الصحيح. هذا تلخيص كلام أصحابنا. وقال القاضي عياض: اختلف العلماء في المسألة؛ فقال مالك والطبري وكثيرون أو الأكثرون: الوصل ممنوع بكل شيء [سواء] (أ) وصلته بشعر أو صوف أو خرق. واحتجوا بحديث جابر، أخرجه مسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - زجر أن تصل المرأة برأسها شيئًا (¬2). قال الليث بن سعد: النهي مختص بالوصل بالشعر، ولا بأس بوصله بصوف وخرق وغير ذلك. وقال بعضهم: يجوز جميع ذلك. وهو مروي عن عائشة (¬3)، ولا يصح عنها (جـ). قال القاضي رحمه الله: فأما ربط خيوط الحرير الملونة ونحوها مما لا يشبه الشعر فليس بمنهي عنه؛ لأنه ليس بوصل ولا بمعنى مقصود من الوصل، وإنما هو للتجمل والتحسين. انتهى. والمعنى المناسب هو ما في ذلك من الخداع للزوج، فما كان لونه مغايرًا للون الشعر لا خداع فيه، ولا يرد جواز ذلك [بإذن الزوج] (جـ)؛ لأنه مظنة للخداع، فإنه قد يطّلع على ذلك من يصفه لغير الزوج، فتخرج من عقدة ذلك الزوج، ويتزوجها ذلك الموصوف له. فالخداع حاصل. ¬

_ (أ) في الأصل: أو. (ب) ساقطة من: ب. (جـ) في الأصل: بأن للزوج.

وقوله: "والواشمة والمستوشمة". الواشمة بالشين المعجمة فاعلة الوشم، وهي أن تغرز إبرة أو مسلة ونحوهما في ظهر الكف [أو] (أ) المعصم [أو] (أ) الشفة، وغير ذلك من بدن المرأة حتى يسيل الدم وتحشو ذلك الموضع بالكحل أو النورة فيخضر. وقد يفعل ذلك بدارات ونقوش وقد يكثر وقد يقلل، وفاعلته واشمة، وقد وشمت تشم وشمًا، والمفعول بها موشومة، فإن طلبت فعل ذلك من غيرها فهي مستوشمة. والحديث يدل على تحريمه على الفاعلة والمفعول بها (ب باختيارها، ويدل ب) على تحريم هذا اللعنُ، ولا يكون اللعن إلَّا على فعل محرم. بل قال القاضي عياض: إن هذه المذكورات من الكبائر للعن فاعله. وخلاف الإمام يحيى يأتي في هذا، والحديث في غير (جـ) رواية ابن عمر منبه على العلة، وهي تغيير خلق الله، فهو يدفع ما فصل به الإمام يحيى. وموضع الوشم يحكم بطهارته عند من قال: الاستحالة مطهرة؛ لأن الدم استحال وصار جلدًا. وأما عند الشافعية فهو نجس. قال النووي (¬1): فإن أمكن إزالته بالعلاج وجب إزالته، وإن لم يكن إلّا بالجرح؛ فإن خاف منه التلف أو [فوات] (د) عضو أو شينًا فاحشًا في عضوٍ ظاهر لم تجب إزالته، وإذا تاب لم يبق عليه إثم، وإن لم ¬

_ (أ) في الأصل: و. (ب- ب) في جـ: فاختيارها يدل. (جـ) زاد في النسخ: هذه. وهي مقحمة والصواب حذفها. (د) في الأصل: موت.

يخف شينًا من ذلك ونحوه لزمه إزالته، ويعصي في تأخيره، وسواء في هذا الرجل والمرأة. انتهى. 844 - وعن جدامة بنت وهب رضي الله عنها قالت: حضرت (أ) رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أناس وهو يقول: "لقد هممت أن أنهى عن الغيلة، فنظرت في الروم وفارس فإذا هم يغيلون أولادهم، فلا يضر ذلك أولادهم شيئًا". ثم سألوه عن العزل، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ذلك الوأد الخفي ". رواه مسلم (¬1). هي جُدامة بضم الجيم وبالدال المهملة -ويروى بالذال المعجمة أيضًا، وقال الدارقطني (¬2): هو تصحيف- بنت وهب الأسدية، أخت عكاشة بن محصن. وقال الطبري (¬3): هي جُدامة بنت جندل، هاجرت. قال: والمحدثون قالوا فيها: جدامة (جـ) بنت وهب الأسدية، أخت عكاشة بن محصن الأسدي المشهور، وتكون أخته من أمه، ويكون وهب غير أبي عكاشة. أسلمت بمكة وبايعت النبي - صلى الله عليه وسلم - وهاجرت مع قومها، وكانت تحت أُنيس بن قتادة، تصغير أنس، من بني عمرو بن عوف، روت عنها عائشة رضي الله عنها (¬4). ¬

_ (أ) زاد في الأصل: مع. (ب) ساقطة من: ب، جـ.

قوله: "أن أنهى عن الغيلة". قال أهل اللغة: الغِيلة هنا بكسر الغين، ويقال لها: الغَيَل بفتح الغين مع فتح الياء، والغِيال بكسر الغين، كما ذكره مسلم (¬1) في رواية (أ). وقال جماعة من أهل اللغة: بالفتح المرة الواحدة، وبالكسر الاسم من الغيل. وقيل: إن أريد بها وطء المرضع يجوز بالكسر والفتح. واختلف العلماء ما المراد بها في هذا الحديث؛ فقال مالك في "الموطأ" (¬2)، والأصمعي وغيره (¬3) من أهل اللغة: هي أن يجامع امرأته وهي مرضع، يقال منه: أغال الرجل وأغيل، إذا فعل ذلك. قال ابن السكيت (¬4) رحمه الله: هي أن ترضع المرأة وهي حامل، يقال منه: غالت وأغيلت. فكأن المنهي عنه في الحديث ما يؤدي إلى ذلك وهو الوطء، فإنه يؤدي إلى الحبل الذي يحصل به ضرر الولد. وسبب همه بالنهي أنه يخاف منه ضرر الولد الرضيع، والأطباء يقولون: إن ذلك اللبن داء. والعرب تكرهه وتتقيه، ولكن النبي - صلى الله عليه وسلم - رد ذلك الهم وبين عدم الضرر الذي تزعمه العرب والأطباء بأن فارس والروم تفعل ذلك ولا ضرر يحدث مع الأولاد. ويكون الهم أولًا من باب الاجتهاد منه - صلى الله عليه وسلم -، فيدل على جواز الاجتهاد، وبه قال جمهور أهل الأصول. وقوله: "فإذا هم يُغيلون". هو بضم الياء؛ لأنه من أغال يغيل. ¬

_ (أ) في ب: روايته.

وقوله: ثم سألوه عن العزل. هو أن ينزع بعد الإيلاج لينزل خارج الفرج. وهو يُفعل لأحد أمرين؛ أما في حق (أ) الأمة فلكراهة مجيء الولد من الأمة؛ إما أنفة من ذلك، وإما (ب لئلا يتعذر ب) بيع الأمة إذا صارت أم ولد، أو لغير ذلك. وأما في حق الحرة؛ فإنه يكون إما لأجل خشية إضرار الرضيع، أو كراهة لحصول الولد. وقوله: "الوأد الخفي". الوأد دفن البنت وهي حية. وكانت العرب تفعله خشية الإملاق، وقد تفعله خشية العار. والحديث يدل على تحريم العزل، فإنه شبهه بالوأد وهو محرم. وقد اختلف السلف في حكم العزل؛ فقال ابن عبد البر (¬1): لا خلاف بين العلماء أنه لا يُعزل عن الزوجة الحرة إلا بإذنها؛ لأن الجماع من حقها ولها المطالبة به، وليس الجماع المعروف إلّا ما لا يلحقه عزل. ووافقه في نقل الإجماع ابن هبيرة (¬2)، وتُعقِّب بأن المعروف عند الشافعية أن المرأة لا حق لها في الجماع أصلًا. والهدوية توافق في ذلك إلّا المؤلَى منها والمظاهَرة، ثم في خصوص هذه المسألة عند الشافعية خلاف مشهور في جواز العزل عن الحرة بغير إذنها. قال الغزالي (¬3) وغيره: يجوز. وهو المصحح عند المتأخرين، واحتج الجمهور لذلك بحديثٍ عن عمر أخرجه أحمد وابن ماجه (¬4) بلفظ: نهى عن العزل عن الحرة إلا بإذنها. وفي ¬

_ (أ) ساقط من: ب، جـ. (ب - ب) في ب: ليتعذر.

إسناده ابن لهيعة (¬1). والوجه الآخر للشافعية، الجزم بالمنع إذا امتنعت. وفيما إذا رضيت وجهان؛ أصحهما الجواز. وأما الأمة فإن كانت زوجة فهي مرتبة على الحرة، [إن] (أ) جاز فيها ففي الأمة أولى، وإن امتنع فوجهان؛ أصحهما الجواز تحرزًا من إرقاق الولد. وإن كانت سُريَّة جاز بلا خلاف إلّا في وجه حكاه الروياني في المنع مطلقًا، كمذهب ابن حزم، وإن كانت السُّريَّة مستولدة، فالراجح الجواز فيها مطلقًا (ب)؛ لأنها ليست راسخة في الفراش. وقيل: حكمها حكم الأمة المزوَّجة. و (جـ) الأمة المزوَّجة عند المالكية تحتاج إلى إذن سيدها، وهو قول أبي حنيفة والراجح عن أحمد. وقال أبو يوسف ومحمد: الإذن لها. وهي رواية عن أحمد، وعنه: بإذنها وإذن سيدها. وعنه: يباح العزل مطلقًا. ودليل من قال بالتفصيل ما أخرجه عبد الرزاق (¬2) بسند صحيح عن ابن عباس قال: تستأمر الحرة في العزل، ولا تستأمر الأمة السرية، فإن كانت أمة تحت حر فعليه أن يستأمرها. وهو موقوف، ولو كان مرفوعًا كان متعين العمل به؛ لكونه نصًّا في المسألة. قال ابن العربي (¬3): يبعدُ القول بمنع العزل عند من يقول: إنه لا حق للزوجة في الوطء. وعن الشافعي وأبي حنيفة: لها حق في وطأة واحدة يستقر بها المهر. قال: فإذا كان الأمر كذلك، فكيف لها حق ¬

_ (أ) في الأصل: أو. (ب) ساقطة من: ب. (جـ) زاد في الأصل: في.

في العزل؟ فإن خصوه (أ) بالوطأة الأولى فيستقيم. وعن مالك: أن لها حق مطالبته إذا قصد بتركه إضرارها. انتهى. وما نقله عن الشافعي غريب، والمعروف عند أصحابة أن لا حق لها أصلًا. وجزم ابن حزم بوجوب الوطء وتحريم العزل، واحتج بحديث جُدامة هذا. وأجاب الجمهور بأن حديث جدامة معارض بحديثين؛ أحدهما أخرجه النسائي والترمذي (¬1) وصححه من طريق معمر عن جابر، قال: كانت لنا جوارٍ وكنا نعزل، فقالت اليهود: إن تلك الموءودة الصغرى. فسُئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك فقال: "كذبت اليهود، لو أراد الله خلقه لم تستطع رده". وأخرجه النسائي (¬2) من طريق هشام و [علي] (ب) بن المبارك وغيرهما، عن أبي سعيد نحوه. ومن طريق أبي عامر (جـ) عن أبي هريرة نحوه. ومن طريق سليمان الأحول أنه سمع عمرو بن دينار يسأل أبا سلمة بن عبد الرحمن عن العزل فقال: زعم أبو سعيد. فذكر نحوه. قال: فسألت أبا سلمة: أسمعته من أبي سعيد؟ قال: لا، ولكن أخبرني رجل عنه. والحديث الثاني في النسائي من وجه آخر، عن محمد بن عمر، وعن أبي سلمة، عن أبي هريرة. وهذه طرق يقوى بعضها (د) ¬

_ (أ) في ب، جـ: خص. (ب) في النسخ: عن. والمثبت من مصدر التخريج، وينظر الفتح 9/ 308. (جـ) في مصدر التخريج "عمر". وهو تصحيف، والمثبت هو الصواب كما في تحفة الأشراف 11/ 82، وتهذيب الكمال 13/ 47. (د) زاد في ب: بعضا.

ببعض، وجمع البيهقي (¬1) بينهما بأن حديث جُدامة محمول على التنزيه، وهذا أولى من تضعيف حديث جدامة كما ذهب إليه البعض، قال: لأنه معارض بما هو أكثر طرقًا، مع أنه قد صرح بتكذيب اليهود، فكيف يثبته! فهذا دفع للحديث الصحيح الثابت في "الصحيح" بالتوهم. وبعضهم ادعى أنه منسوخ، ويرد عليه بأن ذلك يستقيم إذا عرف التاريخ، ولم يعرف. وقال الطحاوي (¬2): يحتمل أن حديث جُدامة قاله - صلى الله عليه وسلم - موافقة لأهل الكتاب قبل أن ينزل عليه فيه، ثم أعلمه الله بالحكم، وهو كان يحب موافقة أهل الكتاب فيما لم ينزل عليه فيه وحي. وتعقبه ابن رشد ثم ابن العربي (¬3) بأنه لا يجزم بشيء تبعًا لليهود ثم يصرح بتكذيبهم فيه. ومنهم من ضعّف معارض حديث جدامة للاختلاف في إسناده، وقد عرفت طرقه و [تقوية] (أ) بعضها لبعض، والجمع ممكن. ورجح ابن حزم (¬4) حديث جُدامة بأن حديث غيرها موافق لأصل الإباحة، وحديثها مانع، فمن ادعى أنه أبيح بعد المنع فعليه البيان، وأجيب بأن حديثها ليس صريحًا في المنع، ولا يلزم من تسميته وأدًا خفيًّا التحريم، وبعضهم خصه بالعزل عن الحامل؟ لأن المني يغذوه، فقد يؤدي العزل إلى موته، أو إلى ضعفه المفضي إلى موته، فيكون وأدًا خفيا. وجمعوا أيضًا بين تكذيب اليهود في قولهم: الموءودة الصغرى. وبين ¬

_ (أ) في الأصل: تقوم، وفي ب: يقويه. وفي جـ: تقوم. والمثبت أنسب للسياق.

إثبات كونه وأدًا خفيا، بأن قولهم: الموءودة الصغرى. يقتضي أنه وأد ظاهر، لكنه صغير بالنسبة إلى دفن المولود بعد وضعه حيًّا. وقوله: "الوأد الخفي". أنه ليس في حكم الظاهر أصلًا فلا يترتب عليه حكمه، فالتكذيب لا يعارضه هذا الحديث، وشبهه بالوأد اشتراكهما في قطع حياة، فالوأد قطع حياة محققة، وهذا إنما قطع ما قد يؤدي إلى الحياة. وقال ابن القيم (¬1): إنما كذبت اليهود لأن في زعمهم أن العزل لا يُتصور معه الحمل أصلًا، فأكذبهم وأخبر أنه إذا شاء الله خلْقَه لم يمنع منه العزل، وإذا لم يُرد خلقه لم يكن وأدًا حقيقة، ولكنه سماه وأدًا لما تعلق به من قصد منع الحمل. واختلف العلماء في علة النهي عن العزل؛ فقيل: لتفويت حق المرأة. وقيل: لمعاندة [القدر] (أ). وهذا الثاني هو الذي تقتضيه معظم الأخبار الواردة في ذلك، وهو مبني على عدم التفرقة بين الحرة والأمة. وقال إمام الحرمين (¬2): موضع المنع أن ينزع لقصد الإنزال خارج الفرج خشية العلوق، ومتى فقد ذلك لم يمنع. وكأنه راعى سببي المنع، فإذا فقدا بقي أصل الإباحة، فله أن ينزع متى شاء. ويتفرع عن حكم العزل حكم معالجة المرأة إسقاط النطفة قبل نفخ الروح؛ فمن قال بالمنع هناك ففي هذه أولى، ومن قال بالجواز يمكن أن يلتحق (ب) به هذا، ويمكن أن يفرق بأنه أشد؛ لأن العزل لم يقع فيه تعاطي السبب، ومعالجة السقط يقع بعد تعاطي ¬

_ (أ) في الأصل، جـ: القدرة، وفي ب: القدرة. والمثبت من الفتح 9/ 310. (ب) في ب، جـ: يلحق.

السبب. ويلتحق بهذه المسألة تعاطي المرأة ما يقطع الحبل من أصله، وقد أفتى بعض متأخري الشافعية بالمنع، وهو مشكل على قولهم بإباحة العزل مطلقًا، والله أعلم. 845 - وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رجلًا قال: يا رسول الله، إن لي جارية وأنا أعزل عنها، وأنا أكره أن تحمل، وأنا أريد ما يريد الرجال، وإن اليهود تحدث أن العزل الموءودة الصغرى. قال: "كذبت يهودُ، لو أراد الله أن يخلقه ما استطعت أن تصرفه". رواه أحمد (أأبو داود أ) واللفظ له والنسائي والطحاوي (¬1) ورجاله ثقات. الحديث تقدم الكلام عليه. و (ب) قوله: "لو أراد الله أن يخلقه" إلخ. معناه أن النفس التي قدر الله خلقها لا بد من خلقها، وإن سبقكم الماء فلا تقدرون على دفعه، ولا ينفعكم الحرص على ذلك، فقد يسبق الماء من غير شعور من العازل، لا راد لما قضى الله. وقد أخرج أحمد والبزار وصححه ابن حبان (¬2) من حديث أنس، أن رجلًا سأل عن العزل، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لو أن الماء الذي يكون ¬

_ (أ- أ) ساقط من: ب، جـ. (ب) زاد في الأصل: في.

منه الولد أهرقته على صخرة لأخرج الله منها ولدًا". وله شاهدان في "الكبير" للطبراني (¬1) عن ابن عباس، وفي "الأوسط" له عن ابن مسعود (¬2). 846 - وعن جابر رضي الله عنه قال: كنا نعزل على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والقرآن ينزل، لو كان [شيئًا] (أ) يُنهى عنه لنهانا عنه القرآن. متفق عليه (¬3). ولمسلم (¬4): فبلغ ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - فلم ينهنا عنه. قوله: كنا نعزل. بنون جمع المتكلم والبناء للفاعل، ووقع في رواية الكشميهني (¬5): كان يُعزل. بضم أوله وفتح الزاي على البناء للمفعول. وقوله: على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. جاء في رواية ابن عيينة حدثنا بذكرها، وفي أخرى (ب) له ب (عن) بحذفها. وقوله: لو كان شيئًا. إلخ. هذه الزيادة لم يذكرها البخاري، ورواها مسلم (¬6)، عن إسحاق بن راهويه، عن سفيان. فساقه بلفظ: كنا نعزل ¬

_ (أ) في الأصل: شيء. (ب) زاد في الأصل: لم يعن وفي أخرى. ولعله مضروب عليها.

والقرآن ينزل. قال سفيان: لو كان شيئًا ينهى عنه لنهانا عنه القرآن. فهذا ظاهر في أن سفيان قاله استنباطا. فالمصنف هنا تبع ما فعله صاحب "العمدة" (¬1) ومَن تبعه مِن جعل الزيادة من جملة الحديث، وليس الأمر كذلك. وقال المصنف رحمه الله في "فتح الباري" (¬2): تتبعت المسانيد فوجدت أكثر رواته عن سفيان لا يذكرون هذه الزيادة، وبنى ابن دقيق العيد في "شرح العمدة" (1)، على أن ذلك من الحديث فشرحه وقال: استدلال جابر بالتقرير من الله غريب، ويمكن أن يكون استدل بتقرير الرسول - صلى الله عليه وسلم -، لكنه مشروط بعلمه بذلك. انتهى. لكنه يكفي في علمه به قول الصحابي أنه فعله في عهده. والمسألة مشهورة في الأصول وفي علم الحديث، وهي أن الصحابي إذا أضافه إلى زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان له حكم الرفع عند الأكثر؛ لأن الظاهر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - اطّلع على ذلك وأقره لتوفر دواعيهم على سؤالهم إياه عن الأحكام. وإذا لم يضفه فله حكم الرفع أيضًا عند قوم. وهذا من الأول. وأن جابرًا صرّح بوقوعه في عهده - صلى الله عليه وسلم -، وقد ورد عدة طرق تصرح باطلاعه على ذلك، والذي يظهر لي أن الذي استنبط ذلك سواء كان هو جابرا أو سفيان أراد بنزول القرآن ما هو (أ) أعم من [المتعبد] (ب) بتلاوته أو غيره مما يوحى إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فكأنه يقول: فعلناه ¬

_ (أ) في ب: يقرأ. (ب) في الأصل: التعبد.

في زمن التشريع، ولو كان حرامًا لم نُقر عليه. وإلى ذلك يشير قول ابن عمر: كنا نتقي الكلام والانبساط إلى نسائنا هيبة أن ينزل فينا شيء على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلما مات النبي - صلى الله عليه وسلم - تكلمنا وانبسطنا. أخرجه البخاري (¬1). وقد أخرجه مسلم (¬2) أيضًا من طريق أبي الزبير عن جابر قال: كنا نعزل على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فبلغ ذلك نبي الله فلم ينهنا. ومن وجه آخر (¬3)، عن أبي الزبير، عن جابر، أن رجلًا أتى رسول ألله - صلى الله عليه وسلم - فقال: إن لي جارية وأنا أطوف عليها وأنا أكره أن تحمل. فقال: "اعزل عنها إن شئت فإنه سيأتيها ما قدر لها". فلبث الرجل ثم أتاه فقال: إن الجارية قد حبلت. قال: "قد أخبرتك". ووقعت هذه القصة عنده (¬4) من طريق سفيان بن عيينة بإسناد له آخر إلى جابر، وفي آخره فقال: "أنا عبد الله ورسوله". وأخرجه أحمد وابن ماجه وابن أبي شيبة (¬5) بسند آخر على شرط الشيخين بمعناه. ففي هذه الطرق ما أغنى عن الاستنباط؛ فإن في أحدها التصريح بالاطلاع، وفي الأخرى التصريح في حق الأمة. 847 - وعن أنس رضي الله عنه، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يطوف على نسائه بغسل واحد. أخرجاه واللفظ لمسلم (¬6). ¬

_ (¬1) البخاري 9/ 253 ح 5187. (¬2) مسلم 2/ 1065 ح 1440/ 138. (¬3) مسلم 2/ 1064 ح 1439/ 134. (¬4) مسلم 2/ 1064 ح 1439/ 135. (¬5) أحمد 3/ 312، وابن ماجه 1/ 35 ح 89، وابن أبي شيبة 4/ 20. (¬6) البخاري، كتاب النكاح، باب من طاف على نسائه في غسل واحد 9/ 316 ح 5215، ومسلم، كتاب الحيض، باب جواز نوم الجنب واستحباب الوضوء له 1/ 249 ح 309.

تقدم الكلام في هذا الحكم في باب الغسل، والحديث قد يتعلق به من يقول: إن القسم لم يكن واجبًا على النبي - صلى الله عليه وسلم -. وقال ابن العربي (¬1): إنه كان للنبي - صلى الله عليه وسلم - ساعة من النهار لا يجب [عليه] (أ) فيها القسم، وهي بعد العصر فإن اشتغل عنها كانت بعد المغرب. وفي البخاري (¬2) ما يومئ إلى هذا وهو عن عائشة رضي الله عنها: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا انصرف من العصر دخل على نسائه فيدنو من إحداهن، فدخل على حفصة فاحتبس أكثر ما كان يحتبس. فقوله: فيدنو من إحداهن. يحتمل الوقاع، ولكنه قد جاء في رواية ابن أبي الزناد عن هشام بزيادة: بغير وقاع (¬3). ثم إن في حديث أنس في البخاري بلفظ: كان يطوف على نسائه في الليلة الواحدة وله يومئذ تسع نسوة. وهو يرد على ما قاله ابن العربي، ولأنه يستبعد بعد المغرب أن يسع ذلك الفعل مع الانتظار لصلاة العشاء، لا سيما على جهة الاستمرار. ويظهر على قول من ذهب إلى عدم وجوب القسم عليه - صلى الله عليه وسلم - كما ذهب إليه طوائف من أهل العلم، وهو ظاهر قوله تعالى: {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ} (¬4) الآية. وبه جزم الإصطخري من الشافعية، والمشهور عندهم وعند الأكثرين الوجوب، ويجيبون عن هذا الحديث بأنه كان يفعل هذا برضا صاحبة النوبة، كما استأذنهن أن يمرَّض في بيت عائشة، ويحتمل أن يكون ¬

_ (أ) ساقطة من: الأصل.

فعله عند استيفاء القسمة، ثم يستأنف القسمة. وقيل: يفعله عند إقباله من السفر، لأنه إذا سافر قرع بينهن فيسافر بمن يخرج سهمها. فإذا انصرف استأنف وهو أخص من الاحتمال الثاني. ويحتمل أن يكون ذلك قبل وجوب القسمة. وقوله في رواية البخاري: وله يومئذ تسع نسوة. وفي رواية أيضًا للبخاري (¬1): [وهن] (أ) إحدى عشرة. قال ابن حبان (¬2): يجمع بين الروايتين بأن يحمل ذلك على حالتين؛ إحداهما كن تسع زوجات، والأخرى إحدى عشرة؛ فالأولى في أول قدومه المدينة حيث كان تحته تسمع نسوة، والحالة الثانية في آخر الأمر حيث اجتمع عنده إحدى عشرة. ولكن هذا وهم؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما قدم المدينة لم يكن تحته امرأة سوى سودة، ثم دخل على عائشة بالمدينة، ثم تزوج أم سلمة وحفصة وزينب بنت خزيمة في السنة الرابعة، ثم تزوج زينب بنت جحش في الخامسة، ثم جويرية في السادسة، ثم صفية وأم حبيبة وميمونة في السابعة، هؤلاء جميع من دخل بهن من الزوجات بعد الهجرة على المشهور، واختلف في ريحانة وكانت من نساء بني قريظة، فجزم ابن إسحاق (¬3) أنه عرض عليها أن يتزوجها ويضرب عليها الحجاب فاختارت البقاء في ملكه، والأكثر أنها ماتت في سنة عشر قبل النبي - صلى الله عليه وسلم -، ¬

_ (أ) في الأصل: وهو.

وكذا ماتت زينب بنت خزيمة بعد دخولها عليه بقليل، قال ابن عبد البر (¬1): مكثتْ عنده شهرين أو ثلاثة. فعلى هذا، لم يجتمع عنده من (أ) الزوجات أكثر من تسع، مع أن سودة كانت وهبت يومها لعائشة. ولعله ضم مارية وريحانة إليهن، وأطلق عليهن لفظ نسائه تغليبًا. وقد جمع الدمياطي (¬2) في "سيرته" زوجات النبي - صلى الله عليه وسلم - ممن دخل بها، أو عقد عليها وطلقها. قبل الدخول، أو خطبها ولم يعقد عليها، فبلغت ثلائين. وفي "المختارة" (¬3) من وجه آخر عن أنس، تزوج خمس عشرة، ومات عن تسع. وفي "المواهب" (¬4) أن جملة من عقد بهن ثلاث وعشرون امرأة. وقد سرد أسماءهن أبو الفتح اليعمري، ومغلطاي (2)، فزدن على العدد الذي ذكر الدمياطي. والحق أن في الأسماء اختلافًا في البعض، فحصل التكثير بالنظر إلى الاختلاف في الاسم مع اتحاد المسمى. والله أعلم. وفي الحديث دلالة على أنه - صلى الله عليه وسلم - أكمل الرجال في الرجولية حيث كان له هذه القوة، وقد أخرج البخاري (¬5)، أنه كان له قوة ثلاثين رجلًا. وفي ¬

_ (أ) زاد في ب: النساء.

رواية الإسماعيلي (¬1): قوة أربعين رجلًا. وفي "صفة الجنة" لأبي نعيم (1) مثله، وزاد: من رجال أهل الجنة. ومن حديث ابن عمرَ (أ)، وأخرجه مرفوعًا: "أعطيت قوة أربعين في البطش والجماع" (1). وعند أحمد، والنسائي، وصححه الحاكم (¬2) من حديث زيد بن أرقم: "إن الرجل من أهل الجنة ليعطَى قوة مائة رجل في الأكل والشرب والجماع والشهوة". قال القاضي (¬3): والحكمة في طوافه عليهن في الليلة الواحدة هو تحصينهن، وكأنه أراد بذلك عدم تشوقهن (ب) للأزواج. قال المصنف (3): وفي هذا نظر؛ لأن الأزواج محرمة عليهن بعده. انتهى. ولعله أراد إكمال الكفاية لهن بأمر النكاح التي تشتاق إليه النساء من غير نظر إلى خصوصية الزوج المواقع، ثم قال: والأولى أن ذلك إنما كان لإرادة العدل بينهن في ذلك. والله أعلم. ¬

_ (أ) كذا في النسخ، وأخرجه الطبراني في الأوسط 1/ 567 ح 178 من حديث ابن عمرو. (ب) كذا في النسخ. ولعلها: تشوفهن. وينظر الفتح 9/ 316، والمصباح المنير (ش وف).

باب الصداق

باب الصداق هو بفتح الصاد وكسرها، وأصله من الصدق؛ لإشعاره بصدق رغبة الزوج في الزوجة. ويقال: صدق (أ) بفتح الصاد وضم الدال، (ب وبضم الصاد وإسكان الدال ب)، وبفتحهما، وبضمهما، وبالفتح وسكون الدال، فهذه سبع لغات، وله ثمانية أسماء مجموعة في قوله (¬1): صداق ومهر نحلة وفريضة ... حِباء وأجر ثم عُقْر علائق قال الله تعالى: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ} (¬2). وقال: {عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ} (¬3). وكان الصداق في شرع من قبلنا للأولياء، كما قاله صالحب "المستعذب على المذهب". 848 - وعن أنس رضي الله عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه أعتق صفية وجعل عتقها صداقها. متفق عليه (¬4). ¬

_ (أ) كذا في النسخ. ولعل الصواب: صدقة. وينظر تاج العروس (ص د ق)، والمبدع لابن مفلح 7/ 130. (ب- ب) ساقطة من: جـ.

قوله: أنس (أ) أعتق صفية. هي أم المؤمنين صفية بنت حُيّيِّ بن أخطب من سبط هارون بن عمران - عليه السلام -، وأمها ضَرَّة بنت سَمَوْءل، كانت تحت كنانة بن أبي الحُقَيْق، وقتل يوم خيبر في المحرم سنن سبع، ووقعت في السبي فاصطفاها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأعتقها وتزوجها وجعل عتقها صداقها، وماتت سنة خمسين، وقيل: سنة اثنتين وخمسين. وقيل غير ذلك، ودفنت (ب في البقيع ب)، وروى عنها أنس بن مالك وابن عمر ومسلم بن صفوان. وحيي بضم الحاء المهملة وفتح الياء تحتها نقطتان وتشديد الأخرى. وأخْطَب، بفتح الهمزة وسكون الخاء المعجمة وفتح الطاء المهملة والباء الموحدة، وضَرَّة، بفتح الضاد المعجمة وتشديد الراء. وسَمَوْءل، بفتح السين المهملة وفتح الميم وسكون الواو وفتح الهمزة وباللام. والحُقَيْق، بضم الحاء المهملة وفتح القاف الأولى وسكون الياء تحتها نقطتان. وفي قوله: جعل عتقها صداقها. دلالة على أنه يصح أن يجعل العتق مهرًا؛ وصورة ذلك الصحيحة، أن تقول: قد جعلت عتقك مهرك فأنت حرة على أن يكون العتق مهرك (جـ). [أو: أعتقتك على أن تزوجيني نفسك، ويكون العتق مهرك] (د). أو: أنت حرة بشرط أن يكون العتق مهرك. ثم تَقبل في المجلس، ثم يقول: تزوجتك به. وروى عن طاوس أنه لا يحتاج إلى التزويج بعد ذلك ويصح أن يتولى الطرفين إذا كان هو الولي وإن كان لها ¬

_ (أ) ساقطة من: ب. (ب- ب) في ب، جـ: بالبقيع. (جـ) في ب، جـ: مهرا. (د) ساقط من: الأصل.

عصبة أحرار كان العقد إلى الولي وكذا إذا قال: أعتقتك على أن يكون العتق مهرك. فقبلت ثم يقول: تزوجتك به، وإذا امتنعت من قبول العتق لم يصح العتق ولا التزويج، وإذا امتنعت من النكاح [نفذ] (أ) العتق ولزمها السعاية في قيمتها إذ لم يعتق (ب) إلّا بعوض. وقال مالك وزُفَر: لا يلزم إذ لا دليل. وجوابه القياس على سائر المتلفات عند تعذر الرجوع بالعين، وأما إذا قال: أعتقتك وجعلت عتقك مهرك. أو: أنت حرة وعليك أن تزوجيني نفسك. أو: أشرط عليك أن تزوجي بي (جـ). فتعتق ولا يلزمها أن تزوج به ولا تسعى. والحيلة في إلزامها التزويج أن يقول: إن علم الله أني إذا أعتقتك تزوجتك فأنت حرة على أن يكون العتق مهرك. وتقبل ثم يتزوجها فيصح (د إذ ينكشف د) تقدم الحرية. فإن امتنعت بطل العتق، وهذا الحكم ذهب إليه العترة جميعًا والثوري وسعيد بن المسيب وإبراهيم النخعي وطاوس والزهري وأبو يوسف وأحمد وإسحاق. وذهب الجمهور إلى أنه لا يصح أن يكون العتق مهرًا، وأنه إذا فعل مثل ذلك استحقت عليه مهر المثل إذ صارت حرة فلا يستباح وطؤها إلّا بالمهر. وفي نص الشافعي أن من أعتق أمته على أن يتزوجها فقبلت عتقت ولم يلزمها أن تتزوج به، لكن يلزمها له قيمتها؛ لأنه لم يرض بعتقها مجانا فصار كسائر الشروط الفاسدة، فإن رضيت وتزوجته على مهر ¬

_ (أ) في الأصل: جـ: بعد. (ب) في جـ: تعتق. (جـ) زاد في الأصل: في. (د- د) في جـ: إذا انكشف.

يتفقان عليه، كان لها (أ) ذلك المسمى، وعليها له قيمتها، فإن اتحدا تقاصا. وأجابوا عن ظاهر الحديث بأجوبة أقربها إلى لفظ الحديث، أنه أعتقها بشرط أن يتزوجها فوجب له عليها قيمتها وكانت معلومة فتزوجها بها. وفي حديث أنس أخرجه البخاري (¬1) في باب المغازي بلفظ: ثم تزوجها وجعل عتقها صداقها. قال عبد العزيز راويه، فقال ثابت لأنس بعد أن روى هذا الحديث: ما أصدقها؟ قال: نفسها فأعتقها. وهذا الحديث ظاهر في أن المجعول مهرًا هو العتق، ويحتمل ما ذكر في التأويل. فقوله: نفسها. أي عِوض نفسِها، وهو قيمتها. وأجاب بعضهم بأن هذا من خصائص النبي - صلى الله عليه وسلم -، جعل العتق صداقًا، وجزم به الماوردي (¬2). وقال بعضٌ: معنى الحديث أنه أعتقها ثم تزوجها، فلما لم يعلم أنه ساق إليها [صداقًا] (ب) قال: أصدقها نفسها. أي لم يصدقها شيئًا فيما أعلم. ولم ينف أصل الصداق، ولذلك قال أبو الطيب [الطبري] (جـ) من الشافعية وابن المرابط من المالكية ومن تبعهما: إنه من قول أنس قاله تَظَنُّنًا من قِبلِ نفسه، ولم يرفعه. وقد يتأيد هذا [بما] (د) أخرجه البيهقي (¬3) من حديث أميمة -ويقال: أمة الله- بنت رَزِينة عن ¬

_ (أ) ساقطة من: ب. (ب) في الأصل: صداقها. (جـ) في النسخ: والطبري. والمثبت هو الصواب، وينظر الفتح 9/ 129. (د) في الإصل: إنما.

أمها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أعتق صفية وخطبها وتزوجها وأمهرها [رَزِينة] (أ)، وكان أتى بها سَبِيَّة من قريظة والنضير. وهذا الحديث ضعيف الإسناد لا تقوم به حجة، ومُعارَض بما أخرجه الطبراني (¬1) وأبو الشيخ (¬2) من حديث صفية نفسها قالت: أعتقني النبي - صلى الله عليه وسلم - وجعل عتقي صداقي. وهذا موافق لحديث أنس، وفيه رد على من قال: إن أنسًا قال ذلك بناء على ما ظنه، ثم إن هذا الحديث خالف ما عليه كافة أهل السير، أن صفية من سبي خيبر. ويحتمل أن يكون أعتقها بشرط أن ينكحها بغير مهر، فلزمها الوفاء بذلك، وهذا خاص [بالنبي] (ب) - صلى الله عليه وسلم - دون غيره. قال ابن الصلاح (2): معنى الحديث أن العتق حل محل الصداق وإن لم يكن صداقًا. قال: وهذا كقولهم: الجوع زاد من لا زاد له. قال: وهذا الوجه أصح الأوجه وأقربها إلى لفظ الحديث. وتبعه النووي في "الروضة" (¬3)، وممن جزم بأن ذلك خاص بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، يحيى بن أكثم فيما أخرجه البيهقي (¬4) قال: وكذا نقله المزني عن الشافعي. وقال: وموضع الخصوصية أنه أعتقها مطلقا وتزوجها بغير مهر ولا ولي ولا شهود، وهذا بخلاف غيره. ويتقوى دعوى الخصوصية بكثرة خصوصيات النبي - صلى الله عليه وسلم - ¬

_ (أ) في الأصل: دويبة. (ب) في الأصل: في النبي.

في النكاح، والملجئ للجمهور إلى ما ذكر من التأويل معارضة القياس للواقعة المذكورة. ويتقرر القياس بوجهين؛ أحدهما، أن عقدها على نفسها إما أن يقع قبل عتقها وهو محال لتناقض الحكمين؛ الحرية والرق، فإن الحرية حكمها الاستقلال، والرق ضده، وأما بعده فذلك غير لازم لها، وقد أزال جواز إجبارها بعتقها. الوجه الثاني، أنا إذا جعلنا العتق صداقًا إما (أ) أن يتقرر [العقد] (ب) حالة الرق، وهو محال لتناقضهما، أو حالة الحرية فيلزم سَبْقيتها (جـ) على العقد، فيلزم وجود العتق حالة فرض عدمه وهو محال؛ لأن الصداق لا بد أن يتقدم تقرره على الزوج إما نصًّا وإما حكمًا، حتى تملك الزوجة طلبه، ولا يتأتى مثل ذلك في العتق فاستحال أن يكون صداقًا. والجواب عن الوجه الأول، بأن العقد يكون بعد العتق، وإذا امتنعت من العقد لزمها السعاية بقيمتها ولا محذور في ذلك. وعن الوجه الثاني بأن [العتق] (د) هو منفعة تصح المعاوضة عنها، والمنفعة إذا كانت كذلك صح العقد عليها مثل سُكنى الدار وخدمة الزوج ونحو ذلك، ومثل هذه المناسبات لا تعارض القصة المذكورة وهي أيضًا منابذة بما أخرجه الطحاوي (¬1) من طريق نافع عن ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جعل ¬

_ (أ) في ب، جـ: فإِما. (ب) ساقطة من: الأصل. (جـ) في جـ: سبقيتهما. وزاد بعده في الأصل: العقد. (د) في الأصل: المعتق.

عتق جويرية بنت الحارث (أالقرظية النضرية أ) صداقها. وأخرج أبو داود (¬1) من طريق عروة عن عائشة في قصة جويرية أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لها لا جاءت تستعين به في كتابتها: "هل لك أن أقضي (ب) كتابتك وأتزوجك". قالت: قد فعلت. وقد استشكله ابن حزم (¬2) بأنه يلزم منه إذا (جـ) كان أدى عنها (د) كتابتها أن يصير ولاؤها لمكاتبها. وأجيب بأنه ليس في الحديث تصريح بذلك. فيحتمل أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - عوّض ثابت بن قيس عنها فصارت له فأعتقها وتزوجها كما صنع في قصة صفية، أو يكون ثابت وهبها [للنبي] (هـ) - صلى الله عليه وسلم - لما بلغه رغبته فيها. ولا يقال: إن ثواب العتق عظيم لا ينبغي أن يُفَوَّت في جعله مهرًا وكان يمكن جعل المهر غيره، ويجاب بأنه في حق صفية يجوز أن يكون مهرها الذي تطيب به نفسها [شيئًا كثيرًا] (و) يعتاده مثلها؛ لأنها من بيت المُلك ولم يكن كذلك عند النبي - صلى الله عليه وسلم -، فجعل صداقها نفسها، وذلك عندها أشرف من المال الكثير. والله أعلم. 849 - وعن أبي سلمة بن عبد الرحمن أنه قال: سألت عائشة ¬

_ (أ- أ) كذا في النسخ، وجويرية بنت الحارث أم المؤمنين خزاعية مصطلقية وليست قرظية نضرية. ينظر أسد الغابة 7/ 56، والإصابة 7/ 565. (ب) زاد في الأصل: عليك، وفي جـ عنك. (جـ) في ب، جـ: إن. (د) ساقطة من: ب. (هـ) في الأصل: النبي. (و) في الأصل، ب: شيء كثير.

رضي الله عنها زوج النبي - صلى الله عليه وسلم -: كم كان صداق رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قالت: كان صداقه لأزواجه اثنتي (أ) عشرة أوقية ونَشًّا. قالت: أتدري ما النَّش؟ قال (ب): لا. قالت: نصف أوقية، فتلك خمسمائة درهم، فهذا صداق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأزواجه. رواه مسلم (¬1). هو أبو سلمة عبد الله بن عبد الرحمن بن عوف الزهري القرشي المدني، أحد الفقهاء السبعة المشهورين بالفقه بالمدينة في قولٍ، من مشاهير التابعين وأعلامهم، ويقال: إن اسمه كنيته، وهو كثير الحديث واسع الرواية، سمع ابن عباس وأبا هريرة وابن عمر وعائشة وغيرهم، روى عنه الزهري، [ويحيى بن أبي كثير] (جـ)، ويحيى بن سعيد الأنصاري والشعبي ومحمد بن إبراهيم بن الحارث، مات سنة أربع وتسعين، وقيل: سنة أربع ومائة. وله اثنتان وسبعون سنة، وفي [قولٍ] (د) عِوَضَ (¬2) أبي سلمة، أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام بن المغيرة بن عبد الله بن عمر (هـ) بن مخزوم القرشي المخزومي، أحد الفقهاء السبعة بالمدينة، كنيته اسمه، ومولده (و)، ¬

_ (أ) في ب، جـ: اثني. (ب) زاد في جـ: قلت. (جـ) ساقط من: الأصل. (د) في الأصل: قوله. (هـ) في ب: عمرو. وينظر تهذيب الكمال 33/ 112. (و) بعده بياض في النسخ بقدر كلمة، وفي مصدر التخريج: ومولده في خلافة عمر بن الخطاب.

وتوفي سنة ستين (أ). كذا ذكره ابن خلكان (¬1). قوله: أُوقيَّة. هي بضم الهمزة وتشديد الياء، والمراد أوقية الحجاز، وهي أربعون درهمًا، والنَّشُّ بفتح النون والشين المعجمة المشددة. وقد استدل بهذا أصحاب الشافعي على أنه يستحب كون الصداق خمسمائة درهم كما كان إصداقه - صلى الله عليه وسلم - لنسائه (ب)، وأما أم حبيبة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - ورضي الله عنها فكان صداقها أربعة آلاف درهم، وأربعة (جـ) آلاف دينار (¬2)، ولكن هذا لم يكن منه - صلى الله عليه وسلم -، وإنما تبرع به النجاشي من ماله إكرامًا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولم يكن بأمر من النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا عقد به، وكذا صفية كان صداقها عتقها، وكذا جويرية، وكذلك خديجة لم يكن مهرها كذلك (¬3)، ولعله بنى على الأكثر، ولا حد لأكثره، بحيث تبطل الزيادة [إجماعًا] (د)؛ لقوله تعالى: {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا} (¬4). وقد اختلفوا ¬

_ (أ) كذا في النسخ. والذي في مصدر التخريج: سنة أربع وتسعين. وينظر تهذيب الكمال 33/ 116. (ب) ساقطة من: ب. (جـ) كذا في: النسخ، ولعل الصواب: أو أربعة. وينظر مصادر التخريج. وفي صحيح مسلم بشرح النووي 9/ 215: أربعة آلاف درهم وأربعمائة دينار. (د) ساقط من: الأصل.

في تفسير القنطار؛ فقال معاذ بن جبل (¬1): ألف ومائتا أوقية [ذهبًا] (أ). وقال أبو سعيد الخدري (¬2): هو ملء مسك ثور ذهبًا. [وقال ابن عباس من أهل اللغة: سبعون ألف مثقال] (ب). وقال أبو صالح (¬3): مائة رطل ذهبًا. [وقد] (جـ) أراد عمر رضي الله عنه قصر أكثره على قدر مهور أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - وردَّ الزيادةِ إلى بيت المال، فردت عليه امرأة محتجة (د) بقوله تعالى: {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا}. فرجع وقال: كلكم أفقه من عمر (¬4). وقال الإمام يحيى: في تقدير أكثر المهر روايات، أربعون ألف درهم. كما أصدق عمر أم كلثوم بنت علي، وقيل: عشرة آلاف. كما أصدق ابن (هـ) عمر بنات أخيه عبيد الله، وقيل: مائة ألف درهم. كما أصدق الحسن بعض أزواجه، وقيل: مائة ألف مثقال. كما أصدق مصعب سكينة بنت الحسين، وقيل عائشة بنت طلحة. وقيل: أربعمائة مثقال. كما أصدق النبي - صلى الله عليه وسلم - أم حبيبة بنت أبي سفيان. ولعل الإمام يحيى أراد بذلك أنه تكره ¬

_ (أ) ساقط من: الأصل. (ب) كذا في: النسخ. ولعل في الجملة سقطًا. وينظر تفسير القرطبي 4/ 31. (جـ) في الأصل: وقال. (د) في جـ: تحتجه. (هـ) سقط من: جـ.

الزيادة على ما فعله السلف لا أن الزائد لا يلزم. 850 - وعن ابن عباس رضي الله عنه قال: لما تزوج علي فاطمة رضي الله عنهم قال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أعطها شيئًا". قال: ما عندي شيء. قال: "فأين درعك الحطمية؟ ". رواه أبو داود والنسائي وصححه الحاكم (¬1). فاطمة رضي الله عنها ولدتها خديجة وقريش تبني البيت قبل النبوة بخمس سنين، وقيل: سنة إحدى وأربعين من الفيل. وهي أصغر بناته في قولٍ، وهي سيدة نساء العالين تزوجها على في السنة الثانية من الهجرة في شهر رمضان وبنى عليها في ذي الحجة. وقيل: تزوجها في رجب. وقيل: في صفر. وقيل: بعد غزوة أحد. فولدت له الحسن والحسين والمحسن وزينب ورقية وأم كلثوم، وماتت بالمدينة بعد موت النبي - صلى الله عليه وسلم - بستة أشهر. وقيل: بثلاثة. ولها ثمان وعشرون سنة. وقيل: تسع (أ) وعشرون. وأهل البيت يقولون: ثماني عشرة. وغسلها علي وصلى عليها، [ودفنت] (ب) ليلًا. روى عنها علي بن أبي طالب وابناها الحسن والحسين وابن عباس وابن مسعود وعائشة وأم سلمة وأسماء بنت عميس. ظاهر هذه الرواية أنه لم يكن مهر مذكور مسمًّى عند العقد وإن كان ¬

_ (أ) في جـ: سبع. (ب) في الأصل: وتوفيت.

يحتمل أنه تسمى المهر عند العقد وتأجل به، ولكنه - صلى الله عليه وسلم - أمره بتقديم شيء منه ليكون ذلك آنس للزوجة وأجمل لها عند النساء، كما ذلك معروف. وقوله: "الحُطَمية". بضم الحاء المهملة وفتح الطاء المهملة، منسوب إلى الحُطَم، سميت بذلك لأنها تحطم السيوف، أي تكسرها. وقيل: العريضة الثقيلة. وقيل: منسوبة إلى بطن من عبد القيس، يقال لهم: حُطَمة بن محارب. كانوا يعملون الدروع، وهذا أشبه الأقوال. ذكره في "النهاية" (¬1). وذكر الإمام المهدي في "البحر" (¬2)، أن مهر فاطمة رضي الله عنها اثنتا عشرة أوقية، قيمتها أربعمائة وثمانون درهمًا، وقيل: باع عليٌّ راحلته بمائة وأربعين درهمًا، ودرعه بثمانيةٍ وستين درهمًا. والله أعلم. 851 - وعن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أيما امرأة نكحت على صداق أو حباءٍ أو عدة قبل عصمة النكاح فهو لها، وما كان بعد عصمة النكاح فهو لمن أعطيه، وأحق ما أكرم الرجل عليه ابنته أو أخته". رواه أحمد والأربعة إلا الترمذي (¬3). الحديث من رواية عمرو بن شعيب، وقد يضعف (أ) بأنه وجده من صحيفة، وفيه دلالة على أن ما سماه الزوج قبل عقد النكاح فهو للزوجة وإن ¬

_ (أ) في جـ: تضعفت.

كان تسميته لغيرها من أب أو أخ. وكذلك ما كان عند العقد وأن النكاح صحيح. وقد ذهب إلى هذا الهادي وأبو طالب، وهو مذهب مالك، وهو قول عمر بن عبد العزيز (¬1) والثوري وأبي عبيد، وذهب أبو حنيفة وأصحابه إلى أن الشرط لازم، والصداق صحيح، وذهب الشافعي إلى أن تسمية المهر تكون فاسدة، ولها صداق المثل. قال في " [نهاية] (أ) المجتهد" (1): وسبب اختلافهم تشبيه النكاح في ذلك بالبيع، فمن شبهه بالوكيل يبيع السلعة ويشرط لنفسه حباء قال: لا يجوز النكاح كما لا يجوز البيع. ومن جعل النكاح في ذلك مخالفًا للبيع قال: يجوز. وأما تفريق مالك فلأنه اتهمه إذا كان الشرط في عقد النكاح، أن يكون ذلك [الذي] (ب) اشترط لنفسه نقصانا من صداق مثلها، ولم يتهمه إذا كان بعد انعقاد النكاح والاتفاق على الصداق. انتهى. وقال الإمام المهدي في "البحر": إن المرأة تستحق ما شرط مع مهرها لغيرها، إذ هو عوض بضعها، فإن تبرعت به من بعد، جاز. قال في "شرح البحر": وهو قديم قولي الشافعي. واختاره الإمام يحيى وقال في "الكافي": إن هذا القول خلاف الإجماع. والصحيح أن ما شرطه الولي لنفسه سقط (جـ). قال: وعليه عامة السادة والفقهاء. انتهى (د). ¬

_ (أ) في الأصل: غاية. (ب) ليس في النسخ. والمثبت من مصدر التخريج. (جـ) في جـ: يسقط. (د) زاد في ب، جـ: ثم.

قال الشافعي، يعني في (أخير قوليه أ): بل تفسد التسمية بذلك، إذ جعله لغيرها خلاف موجب التسمية فأفسدها. قلنا: لا جهالة فيه تقتضي الفساد (ب). أبو يوسف: إن شرط للزوج أو لمن يختص بالزوجة كالأب، صح ولزم، إذ هو في حق الزوج حظ، وفي حق قرابتها صلة منها. محمد (جـ): أو (د) شرط للزوج صح، إذ هو حظ. قلنا: جعله عوض بضعها يقتضي كونه لها، فلا وجه لما قالوا. انتهى. وهذا التعليل الأول (هـ) وهو قوله: إذ هو عوض بضعها. هو محصول قول صاحب "نهاية المجتهد" (¬1): فلأنه اتهمه. إلخ. إلا أن الإمام جزم بأن ذلك لما كان مع المهر فهو داخل فيه، فكان لها، ولو ذكر للغير، وهو خلاف الظاهر مع استيفائها المهر وذكره للغير، وصاحب "النهاية" لم يجزم بذلك، وإنما هو يتّهم (و) أن ذلك من جملة المهر، واشترطه لنفسه، ونقص من مهر المثل، فكان في جعله لها سدًّا لذريعة التحيل على مهرها. وأما تفصيل أبي يوسف، فإذا كان الشرط للزوج فهو حظ من المهر؛ لأنه لا يثبت له على نفسه دين يطالب به، ولا معنى لاشتراطه لنفسه إلا عدم لزومه له، فيكون حظًّا. وأما إذا كان لقرابة ¬

_ (أ- أ) في جـ: آخر قوله. (ب) زاد في جـ: و. (جـ) ساقط من: جـ. (د) في ب: إن. (هـ) بعده في جـ: يفهم. (و) في ب، جـ: متهم.

الزوجة فهو صلة لهم، وقد ندب إلى ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - كما في قوله: "وأحق ما أكرم الرجل عليه" الحديث. ثم قال في "البحر" (¬1): محمد: إن شرط للزوج صح، إذ هو حطٌّ. قلنا: جعله عوض بضعها يقتضي كونه لها، فلا وجه لما قالوا. انتهى. هذا قد عرفت ما عليه فتنبه. ثم قال: فرع: فإن شرط قبل العقد فرشوة. يعني حيث امتنع من التزويج إلا به، إذ هو على واجب، وبعده صلة حلال؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "أحق ما أكرم الرجل علي بنته وأخته". انتهى. وظاهر الحديث أن هذا تستحقه الزوجة؛ لأنه قبل عصمة النكاح، وأما بعده فهو صلة، إلا أن يمتنع الولي من تسليم الزوجة إلا به، فإنه يكون حرامًا؛ لأنه في مقابلة واجب، فهو رشوة، وأما ما يكون في العرف يسلم لإتلافه، كالطعام ونحوه، فإن شرط في العقد كان مهرًا، وما يسلم (أ) قبل العقد يكون إباحة يصح الرجوع فيه مع بقائه، إذا كان في العادة يسلم للتلف، وإن كان يسلم للبقاء رجع في قيمته بعد تلفه، إلا أن يمتنعوا من زواجته، رجع بقيمته في الطرفين جميعًا، وإذا ماتت الزوجة أو امتنع هو من التزوج (ب) كان له الرجوع فيما بقي وفيما سلم للبقاء وفيما أُتلف قبل الوقت الذي يعتاد التلف فيه، لا (جـ) فيما عدا ذلك، وما سلمه بعد العقد، هبة أو هدية، على حسب الحال، أو رشوة إن لم تسلم إلا به، وإذا كان الطعام الذي يفعل في وليمة العرس مما ساقه الزوج إلى ولي الزوجة، وكان مشروطًا مع العقد لصغيرة وفعل ذلك، جاز التناول منه لمن يعتاد لمثله، كالقرابة ¬

_ (أ) في ب، جـ: سلم. (ب) في جـ: التزويج. (جـ) في جـ: إلا.

وغيرهم، لأن الزوج إنما شرطه وسلمه ليُفعل لذلك، لا ليبقى ملكًا للزوجة، والعرف معتبر في هذا، وكذا الكبيرة، ولا يعتبر رضاها في إتلافه. وقوله في الحديث: "على صداق". المراد به المهر. وقوله: "أو حِباء". بكسر المهملة والباء المنقوطة بواحدة من أسفل والمد، المراد به العطة للغير أو للزوجة زائدًا على المهر. وقوله: "أو عدة". المراد بها ما وعد الزوج بتسليمه وإن لم يكن حاضرًا عند العقد. والله أعلم. 852 - وعن علقمة، عن ابن مسعود، أنه سئل عن رجل تزوج امرأةً ولم يفرض لها صداقًا، ولم يدخل بها حتى مات. فقال ابن مسعود: لها مثل صداق نسائها، لا وكس ولا شطط، وعليها العدة، ولها الميراث. فقام معقل بن سنان الأشجعي فقال: قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بروع بنت واشق، امرأة منا، مثل ما قضيت. ففرح بها ابن مسعود. رواه أحمد، والأربعة (¬1)، وصححه الترمذي وجماعة. هو علقمة بن قيس أبو شبل بن مالك من بني بكر بن النخع النخعي، ¬

_ (¬1) أحمد 3/ 480، وأبو داود، كتاب النكاح، باب فيمن تزوج ولم يسم صداقًا حتى مات 2/ 243، 244 ح 2115، والترمذي، كتاب النكاح، باب ما جاء في الرجل يتزوج المرأة فيموت عنها قبل أن يفرض لها 3/ 450 ح 1145، والنسائي، كتاب النكاح، باب إباحة التزويج بغير صداق 6/ 121، وابن ماجه، كتاب النكاح، باب الرجل يتزوج ولا يفرض لها فيموت على ذلك 1/ 609 عقب ح 1891.

روى عن عمر وعبد الله بن مسعود، روى عنه إبراهيم والشعبي وابن سيرين، وهو تابعي مشهور كبير، اشتهر بحديث ابن مسعود وصحبته، وهو عم الأسود النخعي، و (أ) مات سنة إحدى وستين (¬1). قوله في الحديث: لا وكس. بفتح الواو وسكون الكاف وبالسين المهملة، أي: لا نقص عليها في مهرها (ب). ولا شطط. بفتح الشين المعجمة وبالطائين المهملتين، أي: لا زيادة لها في المهر على نسائها. الحديث صححه أيضًا ابن مهدي، وقال ابن حزم: لا مغمز فيه لصحة إسناده. وكذا قال البيهقي في "الخلافيات"، وقال الشافعي (¬2) لا أحفظه من وجه يثبت مثله. وقال: لو ثبت حديث بروع لقلت به. وقال الشافعي في "الأم" (2) في هذا الحديث: فإن كان ثبت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهو أولى الأمور، ولا حجة في قول أحد دون النبي - صلى الله عليه وسلم - وإن كبر، ولا شيء في قوله إلا طاعة الله بالتسليم له، ولم أحفظه عنه من وجه يثبت مثله؛ مرة يقال: عن معقل بن سنان، ومرة: عن معقل بن يسار، ومرة: ¬

_ (أ) ساقط من: ب، جـ. (ب) في ب، جـ: مهر نسائها.

عن بعض أشجع، لا يسمى. هذا تضعيف الشافعي له بالاضطراب، وضعفه الواقدي بأنه حديث ورد إلى المدينة من أهل الكوفة فما عرفه علماء المدينة. وقد روي عن علي رضي الله عنه رده (أ) بأن (ب) معقل بن سنان أعرابي بوَّال على عقبيه. وأجيب عن ذلك، أما الاضطراب فهو غير قادح، فإنه متردد بين صحابي وصحابي (جـ)، ومثل هذا غير قادح، وأما الجهالة لكونه بعض أشجع فكذلك؛ لأنهم صحابة، ولا يضر جهالة الصحابة، مع أن رواية بعض أشجع قد فسرت بالرواية بمعقل، فقد تبين المبهم، وأما عدم معرفة علماء المدينة له فلا يضر ذلك مع عدالة الراوي. وأمَّا ما روي عن علي رضي الله عنه فلم يصح ذلك عنه، كذا ذكره في "البدر المنير" (¬1). وروى الحاكم في "المستدرك" (¬2): سمعت أبا عبد الله محمد بن يعقوب يقول: سمعت الحسن بن (د) سفيان يقول: سمعت حرملة بن يحيى قال: سمعت الشافعي يقول: إن صح حديث بروع بنت واشق قلت به. قال الحاكم: قلت: قد [صح] (هـ) الحديث فقل به. وذكر الدارقطني الاختلاف فيه في "العلل" (¬3) ثم ¬

_ (أ) في ب: زيادة، وفي جـ: أنه رده. (ب) في جـ: فإن. (جـ) في ب: غير صحابي. (د) زاد في جـ: أبي. وينظر السير 14/ 157. (هـ) في الأصل: صلح.

قال: وأحسنها إسنادًا حديث قتادة إلا أنه لم يحفظ اسم الصحابي. قال المصنف (¬1) رحمه الله: وطريق قتادة عند أبي داود وغيره، وله شاهد من حديث عقبة بن عامر، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - زوج امرأةً رجلًا فدخل بها ولم يفرض لها صداقًا، فحضرته الوفاة فقال: أشهدكم أن سهمي بخيبر لها. الحديث أخرجه أبو داود والحاكم (¬2). انتهى. الحديث فيه دلالة على أن المرأة تستحق كمال المهر وإن لم يسم لها الزوج، بالموت (أ)، وإن لم يدخل بها الزوج ولا خلا بها، والذي تستحقه مهر المثل. وقد ذهب إلى هذا ابن مسعود، وأبو حنيفة وأصحابه، وابن شبرمة، وابن أبي ليلى، وإسحاق بن راهويه، وأحمد، للحديث المذكور (¬3). وقد قال به ابن مسعود اجتهادًا، فوافق الدليل، ولأن الموت كالدخول. وذهب علي، وابن عباس، وابن عمر، وزيد بن ثابت (¬4)، والهادي، ومالك وأصحابه، والأوزاعي، وأحد قولي الشافعي، وعن القاسم أنها (ب) لا تستحق إلا الميراث، ولا تستحق مهرًا ولا متعة، إذ لم ترد المتعة إلا للمطلقة، ¬

_ (أ) ساقطة من: جـ. (ب) في جـ: وأنها.

ولأن الصداق عوض، فإذا لم يستوف المعوض عنه لم يلزم، قياسًا على ثمن المبيع. وأما الاحتجاج بالحديث، فقال الإمام المهدي: رواياته مضطربة. كما عرفت أولًا. وقال علي: لا نقبل قول أعرابي بوَّال (أ) على عقبيه. وقد تقدم الجواب عن ذلك، ومع صحة الحديث فالعمل به أولى من القياس المذكور، ولذلك رجح جماعة من محققي الشافعية العمل به، وذلك لازم على ما هو طريقة الشافعي من العمل بالحديث إذا صح واطِّراح قوله الخالف. وروي عن القاسم، وأحد قولي الناصر، أنها تستحق المتعة دون المهر؛ لقوله تعالى: {وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ} (¬1). قال الإمام المهدي: قلنا: أراد النفقة. يعني (ب) نفقة العدة. وأما الميراث فعند زيد بن علي ومالك في رواية عنهما (جـ) أنها لا تستحقه، وعند الجمهور أنها تستحقه، وادعى في "الغيث" الإجماع على ذلك. ومعقل بن سنان (¬2) بفتح الميم وسكون العين المهملة وكسر القاف، هو أبو محمد، وقيل: [أبو] (د) عبد الرحمن. وقيل: أبو يزيد. وقيل: أبو سنان. أشجعي. شهد فتح مكة ونزل الكوفة وحديثه فيهم، وقُتل يوم الحَرَّة صبرًا، روى عنه ابن مسعود، وعلقمة بن قيس، ومسروق بن الأجدع، ¬

_ (أ) في الأصل: بأول. (ب) زاد في الأصل: إلا. (جـ) ساقطة من: ب. (د) ساقطة من: الأصل، وفي جـ: ابن.

ونافع بن [جبير] (أ)، والحسن البصري، والشعبي. وبرْوع -يروون [أهل] (ب) الحديث ذلك بكسر الباء الموحدة من أسفل وسكون الراء المهملة وفتح الواو وبالعين المهملة، وأهل اللغة (¬1) يفتحون الباء ويقولون: إنه (جـ) ليس في العربية فِعْول إلا خروع، لنَبْت معروفٍ، وعِتْوَد، اسم واد -بنت واشق، على زنة فاعل، وبالشين المعجمة وبالقاف، واسم زوجها هلال بن مرة، ذكره ابن منده في "المعرفة"، وهو في "مسند أحمد" (¬2) أيضًا. والله أعلم. 853 - وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من أعطى في صداق امرأة (د) سويقًا أو تمرًا فقد استحل". أخرجه أبو داود (¬3) وأشار إلى ترجيح وقفه. الحديث أخرجه من رواية [موسى بن] (هـ) مسلم بن رومان، وهو ضعيف (¬4)، والموقوف أقوى، وأخرجه الشافعي (¬5) بلاغًا. ¬

_ (أ) في الأصل: حميل. (ب) ساقطة من: الأصل. (جـ) ساقطة من: ب، جـ. (د) في جـ: امرأته. (هـ) ساقط من: النسخ، والمثبت من مصدر التخريج.

الحديث فيه دلالة على أنه يصح أن يكون المهر من غير الدراهم والدنانير، وهو مطلق [في السويق] (أ) والتمر، وظاهره وإن قل، وقد تقدم الخلاف في قدر المهر في حديث الواهبة نفسها (¬1). 854 - وعن عبد الله بن عامر بن ربيعة، عن أبيه، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أجاز نكاح امرأة على نعلين. أخرجه الترمذي (¬2) وصححه، وخولف في ذلك (¬3). هو أبو محمد عبد الله بن عامر بن ربيعة العنزي (¬4) بفتح العين المهملة وسكون النون وبالزاي، وفي نسبه خلاف كثير، وقد يقال: العدوي؛ لأن أباه عامرًا حليف بني عدي بن كعب، قبض النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو في أربع سنين أو خمس، وله أخ أكبر منه اسمه عبد الله (¬5) وكنيته أبو محمد أيضًا، استشهد يوم الطائف، ومات عبد الله الأصغر سنة خمس وثمانين، وقيل: سنة تسعين، وروى عنه زياد مولاه، وأبوه عامر، شهد بدرًا والمشاهد كلها، وكان أسلم قديما وهاجر الهجرتين، روى عنه ابنه عبد الله وابن عمر وابن الزبير (¬6)، مات سنة اثنتين وثلاثين. وقيل: سنة خمسين. الحديث فيه دلالة على الاكتفاء بالقليل من المهر ولو نعلان ولفظ ¬

_ (أ) في الأصل: بالسويق.

الحديث: أن امرأة من بني فزارة تزوجت على نعلين، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "رضيت من نفسك ومالك بنعلين؟ ". قالت: نعم. فأجازه. وقد عرفت فيما تقدم الكلام على ذلك. 855 - وعن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - رجلًا امرأة بخاتم من حديد. أخرجه الحاكم (¬1)، وهو طرف من الحديث الطويل المتقدم في أوائل النكاح (¬2). 856 - وعن علي رضي الله عنه قال: لا يكون المهر أقل من عشرة دراهم. أخرجه الدارقطني (¬3) موقوفًا وفي سنده مقال. وقد روي مثل هذا من حديث جابر مرفوعًا، وفيه مقال كما تقدم في حديث الواهبة نفسها (¬4). 857 - وعن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "خير الصداق أيسره". أخرجه أبو داود وصححه الحاكم (¬5). الحديث فيه دلالة على أن أفضل المهر أقله، وأن الكثرة في المهر على خلاف الأفضل، وإن كان ذلك جائزًا كما أشارت إليه الآية الكريمة، وهي قوله تعالى: {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا} (¬6). وقد استدلت بالآية المرأة ¬

_ (¬1) الحاكم، كتاب النكاح 2/ 178. (¬2) تقدم ح 801. (¬3) سنن الدارقطني، كتاب النكاح، باب المهر 3/ 245 ح 13. (¬4) تقدم ص 41. (¬5) أبو داود، كتاب النكاح، باب فيمن تزوج ولم يسم صداقا حتى مات 2/ 244، 245 ح 2117 بلفظ: "خير النكاح أيسره". والحاكم، كتاب النكاح 2/ 182. (¬6) الآية 20 من سورة النساء.

التي نازعت عمر رضي الله عنه في ذلك، كما أخرجه عبد الرزاق (¬1) من طريق أبي عبد الرحمن السلمي قال: قال عمر: لا تغالوا في مهور النساء. فقالت امرأة: ليس ذلك لك يا عمر، إن الله يقول: (وآتيتم إحداهن قنطارًا من ذهب) -قال: وكذلك هي قراءة ابن مسعود- فقال عمر: امرأة خاصمت عمر فخصمته. وأخرجه الزبير بن بكار (¬2) من وجه آخر منقطع: فقال عمر: امرأة أصابت ورجل أخطأ. وأخرجه أبو يعلى (¬3) من وجه آخر عن مسروق عن عمر فذكره متصلًا مطولًا، وأصل قول عمر: لا تغالوا في صدقات النساء. عند أصحاب "السنن"، وصححه ابن حبان والحاكم (¬4) لكن ليس فيه قصة المرأة. 858 - وعن عائشة رضي الله عنها أن عمرة بنت الجَوْن تعوذت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين أُدخلت عليه، يعني لما تزوجها، فقال: "لقد عذت بمَعاذٍ". فطلقها، وأمر أسامة فمتعها بثلاثة أثواب. أخرجه ابن ماجه (¬5)، وفي إسناده راوٍ متروك. وأصل القصة في "الصحيح" (¬6) من حديث أبي أسيد الساعدي. ¬

_ (¬1) عبد الرزاق 6/ 180 ح 10420. (¬2) الزبير بن بكار -كما في الفتح 9/ 204. (¬3) أبو يعلى -كما في المطالب العالية 4/ 191 ح 1674. (¬4) أبو داود 2/ 241 ح 2106، والترمذي 3/ 422 ح 1114، والنسائي 6/ 117 - 119، وابن ماجه 1/ 607 ح 1887، وابن حبان 10/ 480، 481 ح 4620، والحاكم 2/ 175، 176. (¬5) ابن ماجه، كتاب الطلاق، باب متعة الطلاق 1/ 657 ح 2037. (¬6) البخاري، كتاب الطلاق، باب من طلق وهل يواجه الرجل امرأته بالطلاق؟ 9/ 356 ح 5255.

وأخرجه أيضًا أبو نعيم في كتاب "الصحابة" (¬1) وفي الإسناد: عبيد بن القاسم عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة. وعبيد متروك (¬2). واعلم أنه وقع الاختلاف في اسم المذكورة وفي قصتها فقيل أن اسمها أميمة بنت النعمان بن شَراحِيل، والجَوْن جدها فنسبت إليه وهو الصحيح، وقيل [أن] (أ) اسمها أسماء بنت النعمان بن أبي الجَوْن، وكذا ذكر الكلبي (¬3) أنها أسماء بنت النعمان بن شَراحيل بن الأسود بن الجَوْن الكندية، وكذا ابن إسحاق (¬4) جزم بتسميتها أسماء، وكذا محمد بن حبيب (¬5) وغيرهما، وقد يجمع بين الروايتين بأن اسمها أسماء ولقبها أميمة، ووقع في نسبها أيضًا عن ابن (ب) إسحاق (4) أنها أسماء بنت كعب الجَوْنية، وهو يحتمل أن في آبائها من هو مسمى بكعب فنسبت إليه، وقيل: هي أسماء بنت الأسود بن الحارث بن النعمان. وقيل: اسمها العالية بنت ظَبيان بن [عمرو] (جـ). وحكى ابن سعد (¬6) أيضًا أن اسمها عمرة بنت يزيد بن عبيد. وقيل: بنت ¬

_ (أ) ساقطة من: الأصل. (ب) بعده في ب، جـ: أبي. (جـ) في النسخ: عمر. والمثبت من الفتح 9/ 359، وينظر الإصابة 8/ 16.

يزيد بن الجَوْن. وقد روى ابن سعد (¬1)، عن الواقدي، عن ابن أخي الزهري، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة قالت: تزوج النبي - صلى الله عليه وسلم - الكلابية. وذكر مثل حديث الباب، ولعله تصحف عليه من الكندية إلى الكلابية، وقد ذكر ابن سعد للكلابية قصة أخرى بهذا السند إلى الزهري، وقال: اسمها فاطمة بنت الضحاك بن سفيان. واستعاذت منه وطلقها، وكانت تلقط البعر وتقول: أنا الشقية. قال: وتوفيت سنة ستين. ومن طريق عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، أن الكندية لما وقع التخيير اختارت قومها ففارقها، فكانت تقول: أنا الشقية. ومن طريق سعيد (أ) بن أبي هند أنها أستعاذت منه فأعاذها. وظاهر هذا أنهما قصتان، وقد روى ابن سعد (¬2) من طريق سعيد بن عبد الرحمن بن أبزى قال: لم تستعذ منه امرأة غيرها. قال المصنف (¬3): وهو الذي يغلب على الظن؛ لأن ذلك إنما وقع للمستعيذة بالخديعة المذكورة، فيبعد أن تخدع امرأة أخرى بعدها بمثل ما خدعت به بعد شيوع الخبر بذلك. وقوله: تعوذت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. اختلفت الرواية في سبب تعوذها؛ ففي الخبر من حديث أبي أسيد (¬4): لما دخل عليها النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ¬

_ (أ) في ب: سعد. وينظر تهذيب الكمال 11/ 93.

"هبي نفسك لي". قالت: وهل تهب الملكة نفسها لسوقة؟ قال: فأهوى بيده يضع يده عليها لتسكن. فقالت: أعوذ بالله منك. قال: "قد عذت بمَعاذ". ثم خرج علينا فقال: "يا أبا أسيد، اكسها رازقيتين (أ) وألحقها بأهلها". والسوقة بضم السين المهملة للواحد والجمع من الرعية، وقيل لهم بذلك لأن الملك يسوقهم فيستاقون له على مراده، وأما أهل السوق فالواحد منهم سوقي. قال ابن المنير (¬1): وهذا من بقية ما كان فيها من الجاهلية، والسوقة عندهم من ليس بملك كائنًا من كان، والرازقيتين براء مهملة ثم زاى ثم قاف، مثنى، ثياب من كتان بيض طوال، قاله أبو عبيدة، وقال غيره: تكون في داخل بياضها زرقة، والرازقى [الضعيف] (ب). وفي رواية لابن سعد (¬2): فأهوى إليها ليقبِّلها، وكان إذا اجْتَلى (¬3) النساء أقعى وقبّل. وفي رواية لابن سعد (¬4): فدخل عليها داخل من النساء وكانت من أجمل النساء، فقالت: إنك من الملوك، فإن كنت تريدين أن تحظي عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فإذا جاءك فاستعيذي منه. ووقع عند ابن سعد (¬5)، عن هشام بن محمد، عن عبد الرحمن بن ¬

_ (أ) في جـ: رارفتين، وفي مصدر التخريج: رازقيين. وينظر المحلى 11/ 496. (ب) في الأصل: الصفيق. وينظر النهاية 2/ 219.

الغسيل بإسناد البخاري، أن عائشة وحفصة دخلتا عليها أول ما قدمت، (أفمشطتاها وخضبتاها أ) وقالت لها إحداهما: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - يعجبه من المرأة إذا دخل عليها أن تقول: أعوذ بالله منك. قال ابن عبد البر (¬1): أجمعوا (ب) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - تزوج [الجونية] (جـ)، واختلفوا في سبب [فراقه] (د)؛ فقال قتادة: لما دخل عليها دعاها، فقالت: تعال أنت. فطلتها. وقيل: كان بها (هـ) وضح (¬2) كالعامرية. قال: وزعم بعضهم أنها قالت: أعوذ بالله منك. فقال: "قد عذت بمعاذ، وقد أعاذك الله مني". وطلقها. وقال: هذا باطل، إنما قال له هذا (و) امرأة من بني عَنْبر (ز)، وكانت جميلة، فخافت نساؤه أن تغلبهن عليه فقلن لها: إنه يعجبه أن يقال له: أعوذ بالله منك. ففعلت فطلقها. قال المصنف رحمه الله (¬3): ولا أدري لم حكم ببطلان ذلك مع كثرة الروايات الواردة فيه وثبوته في حديث عائشة في "صحيح البخاري"، وقد ¬

_ (أ- أ) في جـ: ومشطناها وخضبناها. (ب) زاد في الأصل: على. (جـ) في النسخ: الجوينية. وينظر الفتح 9/ 357. (د) في الأصل: فراقها. (هـ) في جـ: لها. (و) في جـ: هذه. (ز) كتب فوقها في ب. العستر بدون نقط، وفي جـ: العسير. وينظر الفتح 9/ 357.

جاءت في القصة [بألفاظ] (أ) مختلفة غير هذا. وقوله: "قد عذت بمَعاذٍ". هو بفتح الميم، ما يستعاذ به، أو اسم مكان العَوْذ، والتنوين فيه للتعظيم. وفي رواية ابن سعد (¬1) فقال بكُمه على وجهه، وقال: "عذتِ مَعاذا". ثلاث مرات. وفي أخرى له (¬2) فقال: "أمِن عائذ الله". وقوله: فطلقها. ظاهر هذا اللفظ أنه طلقها بلفظ الطلاق، وقد جاء مثله في روايات، وجاء في رواية البخاري (¬3) لحديث عائشة بلفظ: "الحقي بأهلك". بكسر الهمزة، فعل أمر. وفي الأخرى لأبي أسيد (¬4): "ألحقها بأهلها". وهو يحتمل أن الطلاق وقع بقوله: "الحقي بأهلك". فإنه كناية الطلاق، و (ب) رواية من روى أنه طلقها روى الحكم الشرعي (جـ) الواقع بهذا اللفظ، وهذا يناسب إيراد البخاري له في باب من طلق، وهل يواجه المرأة بالطلاق؟ فكأنه لم يجزم بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قصد بهذا اللفظ الطلاق (د)؛ لجواز أنه وقع منه لفظ آخر، وأما قوله لأبي أسيد: "ألحقها بأهلها". فلعله قال ¬

_ (أ) في الأصل، ب: بألفاظ. (ب) زاد في ب، جـ: في. (جـ) بعده في ب: عن. (د) ساقط من: ب.

ذلك له بعد قوله لها: "الحقي بأهلك". ولا منافاة في ذلك، مع أنه قد جاء في لفظ البخاري (أ) في آخر الأشربة (¬1) من طريق أبي حازم، عن سهل بن سعد قال: ذكر للنبي - صلى الله عليه وسلم - امرأة من العرب، فأمر أبا أسيد الساعدي أن يرسل إليها، فقدمت فنزلت في أُجُم بني سَاعدة، فخرج النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى جاءها فدخل عليها، فإذا امرأة منكسة رأسها، فلما كلمها قالت: أعوذ بالله منك. قال: "أعذتك مني (ب) ". فقالوا لها: أتدرين من هذ؟! هذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جاء ليخطبك. قالت: كنت أشقى من ذلك. فإن كانت القصة واحدة فلا يكون قوله في الحديث "ألحقها بأهلها". ولا غيره تطليقًا؛ لعدم سابقية العقد. وإن كانت القصة متعددة فهو يحتمل، فلعل هذه المرأة هي الكلابية التي وقع فيها الاضطراب، ووقع في رواية ابن سعد (¬2) عن أبي أسيد تمام القصة، وهو أنه لما ردها إلى أهلها تصايحوا وقالوا: إنك لغير مباركة، فما دهاك؟ قالت: خُدعت. قال: فتوفيت في خلافة عثمان. قال (¬3): وحدثني هشام بن محمد، عن أبي خيثمة زهير بن معاوية، أنها ماتت كمدًا. ثم روى (¬4) بسند فيه الكلبي أن المهاجر بن أبي أمية تزوجها فأراد عمر معاقبتها، فقالت: ما ضرب علي الحجاب، ولا سميت أم المؤمنين. فكف عنها. وعن الواقدي: سمعت. ¬

_ (أ) في ب، جـ: للبخاري. (ب) ساقطة من: الأصل.

وقوله: "ومتعها بثلاثة أثواب". فيه دلالة على ثبوت متعة المطلقة قبل الدخول، التي لم يفرض لها صداق. والظاهر من القصة أن هذه المرأة لم يكن قد فرض لها صداق، وهو مجمع على وجوب المتعة في حقها، إلا ما روي عن الليث ومالك كما سيأتي. وقد أخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في "سننه" (¬1)، عن ابن عباس في قوله تعالى: {لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً} (¬2). قال المس النكاح، والفريضة الصداق. {وَمَتِّعُوهُنَّ} قال: هو على الرجل يتزوج المرأة ولم يسم لها صداقًا، ثم يطلقها قبل أن يدخل بها، فأمره الله أن يمتعها على قدر عسره ويسره، فإن كان موسرا متعها بخادم أو نحو ذلك، وإن كان معسرًا متعها بثلاثة أثواب أو نحو ذلك. وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم (¬3)، عن ابن عباس قال: متعة الطلاق أعلاه الخادم، ودون ذلك الورِق، ودون ذلك الكسوة. وأخرج عبد الرزاق، وابن المنذر، والبيهقي (¬4)، عن ابن عمر، أنه أمر موسعًا بمتعة. فقال: تعطِي كذا وتَكْسو (أ) كذا. فحسبت فوجدت ثلاثين درهمًا. ¬

_ (أ) في ب، جـ: تكسي.

وأخرج عبد الرزاق (¬1)، وعبد بن حميد، عن ابن عمر قال: أدنى ما يكون من المتعة ثلاثون درهما. وأخرج ابن جرير (¬2) عن ابن عباس قال: إذا طلق الرجل امرأته قبل أن يفرض وقبل أن يدخل بها، فليس لها إلّا المتاع. واختلف العلماء في وجوبها في غير المذكورة، فذهب علي وعمر والحسن بن علي وابن عمر والشافعي إلى وجوب المتعة مع الدخول في حق من لم يسم لها؛ لعموم قوله تعالى: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} (¬3). وذهب العترة، وأبو حنيفة، وأصحابه، وأحد قولي الشافعي، إلى أن الواجب مهر المثل، ولا تجب المتعة، إذ الآية الكريمة [شرط] (أ) فيها عدم المس، وهذا قد مس، وعموم قوله تعالى: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ}. مخصوص بمن لم يكن قد دخل بها، أو (ب) أراد بالمتاع النفقة. وقوله تعالى: {فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ} (¬4). يحتمل نفقة العدة، وقد ذهب الليث إلى أن المتعة لا تجب مطلقًا. قال المصنف (¬5) رحمه الله: وبه قال مالك، واحتج له بعض أصحابه بأن المتعة لم تقدَّرْ، ولو كانت واجبة كانت مقدَّرة. وتعقب ¬

_ (أ) في الأصل: يشترط. (ب) في جـ: و.

بأن عدم التقدير لا يلزم منه عدم الوجوب كما في نفقة القريب. واحتج بعضهم بأن شريحًا كان يقول: متع إن كنت محسنًا، متع إن كنت متقيا. ولا دلالة فيه (أ) على ترك الوجوب. وذهبت طائفة من السلف إلى أن لكل مطلقة متعة من غير استثناء. وعن الشافعي مثله وهو الراجح. وكذا في كل فرقة إلا (ب) في فرقة وقعت بسبب منها. كذا ذكره المصنف في "الفتح" (¬1)، وهذا الذي نسبه إلى طائفة من السلف لعله الذي ذكر عن علي وعمر ومن تقدم في حق من طلقت ولم يسم لها، وهو مقتضى احتجاجهم بعموم قوله: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ}. فتنبه، والله أعلم. ¬

_ (أ) في ب: عليه. (ب) في جـ: لا.

باب الوليمة

باب الوليمة هي من الوَلم وهو الجمع؛ لأن الزوجين يجتمعان. قاله الأزهري (¬1) وغيره. قال ابن الأعرابي (¬2): أصلها تمام الشيء واجتماعه. والفعل منها أولم، وتقع على كل طعام يتخذ لسرور حادث من عرس وإملاك وغيرهما واستعمالها مطلقة في العرس أكثر وأشهر، وفي غيره بالتقييد فيقال: وليمة إعذار أو نحوه. مع أن لكل من الولائم اسمًا يخصه، كالعقيقة للولادة، والخُرْس لسلامة المرأة من الطلق، وقد نظم بعضهم أسماء الطعام المتخذ لسبب فبلغها اثني عشر حيث قال (¬3): أسامي الطعامِ اثنانِ من بعدِ عشْرةٍ ... سأسرُدُها مقرونةً ببيانِ وليمةُ عُرْسٍ ثم خُرسُ ولادةٍ ... عقيقةُ مولودٍ وَكِيرةُ بانِ وَضيمةُ ذي موتٍ نَقيعةُ قادمٍ ... عذيرةُ أو إعذار يوم ختانِ ومأدُبةُ الخلان لا سبب لها ... حذاقُ صغيرٍ عند ختم قُرانِ وعاشره في النظم تحفةُ زائرٍ ... قِرى الضيف معْ نزل له بقران (أ) فوليمة العرس ما تتخذ عند الدخول وما يتخذ عند الإملاك، وتسمى الشُّنداخ بشين معجمة مضمومة وبفتح ثم نون ساكنة ثم دال مهملة مفتوحة ¬

_ (أ) في فص الخواتم: بأمان.

وآخره خاء معجمة، مَأخوذ من قولهم: فرس شندخ. أي يتقدم غيره لأنه يتقدم الدخول. وقد صرح بذلك الشافعي في "الأم" (¬1) فقال: الوليمة التي تعرف وليمة العرس وكل دعوة على إملاك أو نفاس أو ختان أو حادث سرور. وبهذا الأخير تكون ثلاثة عشر. والخرس، بضم الخاء المعجمة وسكون الراء وآخره سين مهملة أو صاد مهملة، لسلامة المرأة من الطلق، وقيل: طعام الولادة، ويقال: خرسة بزيادة الهاء، والعقيقة في سابع المولود وسيأتي، والوكيرة (أمن الوكر أ) وهو المأوى. والوضيمة، بكسر الضاد المعجمة. والنقيعة مأخوذة من النقع وهو الغبار، يصنعها القادم أو غيره له. والعذيرة والإعذار بمعنى واحد، والإعذار بالهمزة المكسورة والعين المهملة والذال المعجمة، والمأدبة، بضم الدال أو فتحها (ب)، إن كانت لقوم مخصوصين سميت النَّقَرى بفتح النون والقاف والألف مقصورًا، وإن كانت عامة سميت الجفَلى بفتح الجيم والفاء مقصورًا، والحذاق من حذق بالشيء إذا صار ماهرًا. كذا ذكره ابن الصباغ. وقال ابن الرفعة: هو الذي يصنع عند ختم القرآن، ويحتمل ختم قدر مقصود منه، ويحتمل أن يطرد ذلك في حذقه لكل صناعة. والنزل ما يقدم للضيف حين ينزل، والقرى ما يفعل له فيما بعد. 859 - وعن أنس بن مالك وضي الله عنه، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى على ¬

_ (أ- أ) ساقط من: ب، وفي جـ: من الوكور. (ب) زاد في ب: سواء.

عبد الرحمن بن عوف أثر صفرة فقال: "ما هذا"؟ قال: يا رسول الله، إني تزوجت امرأة على وزن نواة من ذهب. فقال: "بارك الله لك، أولم ولو بشاة". متفق عليه واللفظ لمسلم (¬1). قوله: رأى على عبد الرحمن أثر صفرة. جاء في هذا المعنى ألفاظ في البخاري وغيره ففي (أ) رواية زهير (¬2): فمكثنا ما شاء الله، ثم جاء وعليه وضر صفرة. بفتح الواو والضاد المعجمة المفتوحة، آخره راء، أي: أثر. وفي رواية الثوري والأنصاري: فلقيه النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬3). زاد ابن سعد (¬4): في سكة من سكك المدينة وعليه وضر من صفرة (¬5). وفي رواية حماد بن زيد، عن ثابت: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى على عبد الرحمن بن عوف أثر صفرة. وفي رواية حماد بن سلمة (¬6): وعليه ردع زعفران. والردع، بفتح الراء المهملة والدال المهملة الساكنة والعين المهملة، هو أثر الزعفران، وفي رواية معمر عن ثابت عند أحمد (¬7): وعليه وضر من خلوق. والخلوق بضم الخاء هو ¬

_ (أ) في ب: من.

طيب يصنع من زعفران وغيره، وفي حديث مالك (¬1)، أن عبد الرحمن بن عوف جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وعليه أثر صفرة، ونحوه في رواية عبد الرحمن نفسه (¬2)، وفي رواية عبد العزيز بن صهيب (¬3): فرأى النبي - صلى الله عليه وسلم - عليه (أ) بشاشة العرس. والبشاشة بالباء الموحدة والشين المعجمة أي أثره وحسنه أو فرحه وسروره، يقال: بشر فلان بفلان. أي أقبل عليه فرحًا به، وللطبراني في "الأوسط" (¬4) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بسند فيه ضعف أن عبد الرحمن بن عوف أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد خضب بالصفرة فقال: "ما هذا الخضاب، أعرست؟ " قال: نعم. وفي رواية زهير (¬5) وابن علية (¬6) وابن سعد (¬7) وغيرهم، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: "مَهْيَم؟ ". ومعناه ما شأنك، أو ما هذا؟ وهي كلمة استفهامية مبنية على السكون. وفي تركيبها أو بساطتها قولان لأهل اللغة. وقال ابن مالك (¬8): هي اسم ¬

_ (أ) ساقطة من: ب.

فعل بمعنى أخبر. وفي الطبراني (¬1)، وكان كلمته إذا أراد أن يسأل عن الشيء، ووقع في رواية ابن السكن (¬2): "مهين" بنون بدل الميم، ووقع في رواية للبخاري (¬3) وغيره "ما هذا؟ " وقد يستدل بهذا على جواز التزعفر للعروس، وأنه مخصص لعموم النهي عن التزعفر للرجال، ولكنه يحتمل أن تلك الصفرة كانت في ثيابه دون جسده، وقد ذهب إلى مثل هذه التفرقة المالكية، ونقل مالك ذلك عن علماء المدينة، وفيه حديث أبي موسى (¬4) رفعه: "لا يقبل الله صلاة رجل في جسده شيء من خلوق". فإن مفهومه أن ما عدا الجسد لا يتناوله الوعيد. ومنع ذلك أبو حنيفة والشافعي ومن تبعهما في الثوب أيضًا، وتمسكوا بأحاديث واردة في ذلك وهي صحيحة، وأجابوا عن (أ) قصة عبد الرحمن بأجوبة؛ أحدها: أن ذلك كان قبل النهي، ويؤيده أن القصة في أوائل الهجرة، وأكثر من روى النهي ممن تأخرت هجرته. ثانيها: أن الصفرة التي تعلقت به من جهة زوجته فكان ذلك غير مقصود له، ورجحه النووي (¬5) وعزاه للمحققين، وبنى عليه البيضاوي ورتب عليه الاعتذار عن الاستنكار لذلك إذ كان الاستفهام للإنكار. ثالثها: أنه احتاج إلى التطيب للدخول ¬

_ (أ) في جـ: على.

على أهله ولم يجد من طيب الرجال شيئًا فتطيب من طيب المرأة، فصادف أن فيه الصفرة فاستباح القليل منه عند عدم غيره كما قد جاء نظير ذلك في طيب الجمعة، أنه إذا لم يجد طيبًا تطيب من طيب أهله وظاهره الإذن ولو ظهر أثره. رابعها: أنه كان يسيرًا و (أ) لم يبق إلا أثره. خامسها: أن النهي عن التزعفر للرجال ليس على التحريم؛ بدلالة تقريره لعبد الرحمن فإنه لم يأمره بإزالته. سادسها: أن العروس يستثنى من النهي، ولا سيما إذا كان شابًّا (ب). ذكر ذلك أبو عبيد (¬1)، قال: وكانوا يرخصون للشاب في ذلك أيام عرسه. قال: وقيل: كان في (جـ) أول الإسلام من تزوج لبس ثوبًا مصبوغًا علامة لزواجه ليعان على وليمته، قال: وهذا غير معروف. وقوله: على وزن نواة من ذهب. كذا وقع الجزم به في رواية ابن عيينة (¬2) والثوري (¬3)، وكذا في رواية حماد بن سلمة، عن ثابت وحميد (3)، وفي رواية زهير (3) وابن علية (¬4): نواة من ذهب. بحذف: وزن، أو قال: بوزن. ¬

_ (أ) من هنا خرم في المخطوط ب، وينتهي في شرح ح 1095. (ب) في جـ: شبابا. (جـ) ساقطة من: جـ.

وكذا في حديث عبد الرحمن نفسه بالشك (¬1)، أي بالشك من عبد الرحمن، فالشك يحتمل أنه من عبد الرحمن أو من الراوي، وفي رواية شعبة ابن الحجاج عن عبد العزيز بن صهيب (1): على وزن نواة. بحذف لفظ: ذهب. وعن قتادة (¬2) بزيادة: من ذهب. وكذا أخرجه مسلم (¬3) من طريق أبي عوانة عن قتادة، ولمسلم (¬4) من رواية شعبة، عن أبي حمزة، عن أنس: على (أ) وزن نواة. قال: فقال رجل من ولد عبد الرحمن: من ذهب. ورجح الداودي (¬5) رواية من قال: على نواة من ذهب. واستنكر رواية من روى: وزن نواة. واستنكاره هو المنكر؛ لأن الذين جزموا بذلك أئمة حفاظ، وقال عياض (5): لا وهم في الرواية، لأنها إن كانت نواة تمر أو غيره، أو كان للنواة قدر معلوم صلح أن يقال في كل ذلك: وزن نواة. واختلف في المراد بقوله: نواة. فقيل: المراد واحدة نوى التمر كما يوزن بنوى الخروب، وأن القيمة عنها يومئذ كانت خمسة دراهم. وقيل: كان قدرها يومئذ ربع دينار. ورُدَّ بأن نوى التمر يختلف في الوزن، فكيف يجعل معيارًا لما يوزن به؟ وقيل: من ذهب. عبارة عما قيمته خمسة دراهم من الورق. وجزم به الخطابي (¬6)، ¬

_ (أ) ساقطة من: جـ.

واختاره الأزهري (¬1)، ونقله عياض عن أكثر العلماء، ويؤيده أن في رواية للبيهقي (¬2) من طريق سعيد بن بشير، عن قتادة: وزنا نواة من ذهب قومت خمسة دراهم. حكاه ابن قتيبة (¬3)، وجزم به ابن فارس (¬4)، وجعله البيضاوي (¬5) الظاهر، ووقع في رواية حجاج بن أرطاة عن قتادة عند البيهقي (2): قومت ثلاثة دراهم وثلثًا. وإسناده ضعيف، ولكن جزم به أحمد، وقيل: ثلاثة ونصف. وقيل: ثلاثة وربع. وعن بعض المالكية النواة عند أهل المدينة ربع دينار. ويؤيد هذا ما وقع عند الطبراني في "الأوسط" (¬6) في آخر الحديث، قال أنس: حزرناها ربع دينار. وقد قال الشافعي: النواة ربع النش (أ)، والنش نصف أوقية، والأوقية أربعون درهمًا، فيكون خمسة دراهم. وكذا قال أبو عبيد (¬7) [أن] (ب) عبد الرحمن بن عوف دفع خمسة دراهم، وهي تسمى نواة، كما تسمى الأربعون الأوقية. وبه جزم أبو عوانة (¬8) وآخرون. ¬

_ (أ) بعده في جـ: ربع أوقية. وينظر الفتح 9/ 234. (ب) في الأصل، جـ: بن.

وقوله: "بارك الله لك". يؤخذ منه الدعاء للمعرس بالبركة، ونهي عما كان عليه الجاهلية من قولهم للمعرس: بالرفاء والبنين. ووقع هذا اللفظ مقدما على قوله: "أولِمْ". كما هنا في رواية حماد بن سلمة عن ثابت وحميد (¬1)، وفي غيرها بتقديم "أولم" ولقد نال عبد الرحمن بركة دعوته - صلى الله عليه وسلم - حتى قال عبد الرحمن كما في آخر الرواية [عند البخاري] (أ): فلقد رأيتني ولو رفعت حجرًا لرجوت أن أصيب ذهبًا أو فضة. حتى ورثت بعضُ نسائه ربعَ الثمُنِ مائة ألف، فتكون جملة تركته ثلاثة آلاف ألف ومائتي ألف، فإن كانت دراهم فهي قليلة بالنسبة إلى مخلف الزبير، وإن كانت دنانير فهي أكثر. وقوله: "أولم ولو بشاة". يدل على وجوب وليمة العرس، وقد ذهب إليه أهل الظاهر ووجه معروف عند الشافعية جزم به سليم الرازي، وقال: إنه ظاهر نص "الأم" (¬2)، ونقله عن النص أيضًا الشيخ أبو إسحاق في "المهذب" (¬3)، وقال ابن بطال (¬4): هي مندوبة ولا أعلم أحدًا قال بوجوبها. وفي "المغني" (¬5) عن أحمد أنها سنة، والجمهور على أنها مندوبة، ويحملون الأمر على الندب، ويقوي القول بالوجوب ما رواه أحمد (¬6) من حديث ¬

_ (أ) كذا في الأصل، جـ. وهذه العبارة ليست في رواية البخاري، وقد تقدم تخريجها من رواية حماد عن حميد وثابت. وينظر الفتح 9/ 235.

بريدة قال: لما خطب علي فاطمة رضي الله عنها، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إنه لا بد للعرس من وليمة. وسنده لا بأس به، وظاهره اللزوم، وهو قريب إلى معنى الوجوب، وإن كان يحتمل أن المراد بذلك اللزوم عرفًا، وما أخرجه أبو الشيخ والطبراني في "الأوسط" (¬1) من طريق مجاهد عن أبي هريرة، رفعه: "الوليمة حق وسنة، فمن دعي ولم يجب فقد عصى" الحديث. وهذا كذلك فيه احتمال كما قال ابن بطال (¬2): معنى "حق" أي ليست بباطل، بل يندب إليها، ومعنى "سنة" فضيلة، وليس المراد بالحق الوجوب. ثم قال: ولا أعلم أحدًا أوجبها. كذا قال، وقد عرفت الخلاف، وأحسن ما يقال في قرينة حمل الأمر على الندب: إنه لم يثبت الأمر لغير عبد الرحمن، كما قال الشافعي فيما نقله عنه البيهقي (¬3)، قال: لا أعلمه أمر بذلك غير عبد الرحمن، ولا أعلم أنه هو - صلى الله عليه وسلم - ترك الوليمة. فجعل ذلك مستندًا في كون الوليمة ليست بحتم، وقوله - صلى الله عليه وسلم - لعبد الرحمن بعد وقوع الدخول إنما هو استدراك لما فات، وهو يدل على تأكد فعلها، وقد اختلف السلف في وقتها، هل هو عند العقد أو عقبه أو عند الدخول، [أو عقبه، أو موسع من ابتداء العقد إلى انتهاء الدخول] (أ) على أقوال؛ فحكى عياض (¬4) أن الأصح عند المالكية استحبابه بعد الدخول، وعن جماعة منهم أنه عند العقد، وعن ¬

_ (أ) ساقطة من: جـ، وفي الأصل: عبد الرحمن. والمثبت من الفتح 9/ 231.

ابن حبيب عند العقد وبعد الدخول، وقال في موضع آخر: يجوز قبل الدخول وبعده، وذكر ابن السبكي (¬1) أن أباه قال: لم أر في كلام الأصحاب تعين وقتها. وأنه استنبط من قول البغوي: ضرب الدف في النكاح جائز في العقد والزفاف قبل وبعد قريبًا منه. أن وقتها موسع من حين العقد، قال: والمنقول من فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - أنها بعد الدخول. وكأنه يشير إلى قصة زينب بنت جحش، وقد ترجم عليه البيهقي (¬2): وقت الوليمة. انتهى. وما نفاه من تصريح الأصحاب متعقب بأن الماوردي صرح بأنها عند الدخول، وحديث أنس في هذا الباب صريح في أنها بعد الدخول، لقوله فيه (¬3): أصبح عروسًا بزينب فدعا القوم. واستحب بعض المالكية أن تكون عند البناء ويقع الدخول عقيبها وعليه عمل الناس. وقوله: "ولو بشاة". "لو" هنا وصلية لبيان أقل ما يفعله، ويستفاد منه أن الإكثار لمن يقدر على ذلك أولى؛ قال القاضي عياض (¬4): أجمعوا على أنه لا حد لأكثرها، وأما أقلها فكذلك، ومهما تيسر أجزأ، والمستحب أنها على قدر حالة الزوج. انتهى. وظاهر الحديث يدل على أن الشاة أقل ما يجزئ إلا أنه قد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه أولم على بعض نسائه بأقل من شاة، كما في أم سلمة وغيرها (¬5)، ¬

_ (¬1) ينظر الفتح 9/ 231. (¬2) البيهقي 7/ 260. (¬3) البخاري 9/ 230 ح 5166. (¬4) ينظر صحيح مسلم بشرح النووي 9/ 218. (¬5) ينظر الطبقات الكبرى لابن سعد 8/ 91، 92، ومسند أحمد 6/ 307، والفتح 9/ 530 ح 5387.

وأولم على زينب بشاة، وقال أنس: لم يولم على غير زينب بأكثر مما أولم عليها. وظهر في ذلك من المعجزة من البركة في الشاة حتى أشبع المسلمين خبزًا ولحمًا، والأظهر أنه أولم على ميمونة بنت الحارث -لما تزوجها بمكة في عمرة القضية، وطلب من أهل مكة أن يحضروا وليمتها فامتنعوا (أ) - بأكثر من ذلك لوجود التوسعة عليه في تلك الحال، فإن ذلك بعد فتح خيبر، وقد وسع الله على المسلمين منذ فتحها عليهم، ويحمل قول أنس بأنه لم يولم بأكثر من ذلك. باعتبار ما وقع من البركة في الشاة، وشبع الناس منها. والله أعلم. وقال صاحب "التنبيه" من الشافعية (¬1): إن الشاة حد لأكثر الوليمة. ودعوى عياض الإجماع يدفعه، وقال ابن أبي عصرون (¬2): أقلها للموسر شاة، وهو مأخوذ من الحديث. 860 - وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا دعى أحدكم إلى وليمة فليأتها". متفق عليه (¬3). ولمسلم (¬4): "إذا دعا أحدكم أخاه فليجب؛ عرسا كان أو نحوه". الحديث فيه دلالة على الإجابة إلى الوليمة، والوليمة وردت في بعض ¬

_ (أ) في حاشية جـ: فامتعوا.

روايات ابن عمر مطلقة، وظاهره عرس أو غيره، بل صرح في بعض رواياته عند مسلم وأبي داود (¬1) بقوله: "عرسًا أو نحوه". وفي بعض ألفاظه كما في رواية مسلم (¬2) من حديث عبيد الله بن عمر العمري عن نافع: "إذا دعي أحدكم إلى وليمة عرس فليجب" والجمع بين اختلاف الألفاظ أن بعضهم اقتصر على بعض الألفاظ، وبعضهم استوفى اللفظ الوارد جميعه، ويكون ذلك زيادة من الحافظ فتقبل، وهو المروي عن عبد (أ) الله بن عمر أن الأمر بالإجابة [لا يختص بالعرس، وقد أخذ بظاهره الظاهرية وبعض الشافعية، فقالوا بوجوب الإجابة] (ب) إلى الدعوة مطلقًا، ونقله ابن عبد البر (¬3) عن عبيد الله بن الحسن العنبري قاضي البصرة، وزعم ابن حزم (¬4) أنه قول جمهور الصحابة والتابعين، ويرد عليه أن عثمان بن أبي العاص وهو من مشاهير الصحابة، قال في وليمة الختان (¬5): لم يكن يُدعى لها. إلا أنه قد يدفع بأنه (جـ) لو دعي [لها] (ب) لأجابوا. وأخرج عبد الرزاق (¬6) بإسناد صحيح ¬

_ (أ) في جـ: عبيد. (ب) ساقطة من: الأصل. (جـ) ساقطة من: جـ.

عن ابن عمر، أنه دُعي لطعامٍ، فقال رجل من القوم: أعفني. فقال ابن عمر (أ): لا عافية لك في هذا فقم. وأخرج الشافعي (¬1) وعبد الرزاق بسند صحيح عن ابن عباس، أن ابن صفوان دعاه، فقال: إني مشغول، وإن لم يعفني جئته. و (ب) جزم بعدم الوجوب في غير وليمة النكاح المالكية والحنفية والحنابلة وجمهور الشافعية، وبالغ السرخسي منهم [فنقل] (جـ) فيه الإجماع، ولفظ الشافعي: إتيان دعوة الوليمة حق والوليمة التي تعرف وليمة العرس، وكل دعوة دعي إليها رجل وليمة، فلا أرخص لأحد في تركها، ولو تركها لم يتبين لي أنه عاص في تركها، كما تبين [لي] (د) في وليمة العرس. انتهى. ففرق بين وليمة العرس وغيرها، وفي "البحر" (¬2) حكى إجماع العترة في عدم وجوب الإجابة في جميع الولائم، وأنها مستحبة، وقد نقل ابن عبد البر ثم عياض ثم النووي (¬3) [الاتفاق] (هـ) على القول بوجوب الإجابة لوليمة العرس، وفيه نظر، إلا أن المشهور من قول العلماء الوجوب، وصرح جمهور الشافعية والحنابلة بأنها فرض عين، ونص عليه مالك، وعن بعض الشافعية والحنابلة أنها مستحبة، وذكر اللخمي من المالكية أنه المذهب، وكلام ¬

_ (أ) زاد بعده جـ: إنه. (ب) زاد بعده جـ: هو. (جـ) في الأصل: فقيل. (د) في الأصل: له. (هـ) في الأصل: لا بد أن.

صاحب "الهداية" يقتضي الوجوب مع تصريحه بأنها سنة، فكأنه أراد أنها وجبت بالسنة، وليست فرضًا كما عرف من قاعدتهم، وعن بعض الشافعية والحنابلة هي فرض كفاية، وحكى ابن دقيق العيد في "شرح الإلمام" (¬1): وقد يسوغ ترك الإجابة على القول بالوجوب وعلى القول بالندب لأعذار، منها: أن يكون في الطعام شبهة، أو يخص بها الأغنياء، أو يكون هناك من يتأذى بحضوره معه، أو لا (أ) يليق مجالسته، أو يدعوه لخوف شره، أو لطمع في جاهه، أو ليعاونه على باطل، أو يكون هناك منكر من خمر، أو لهو، أو فرش حرير، أو ستر لجدار البيت، أو صور في البيت، أو يعتذر إلى الداعي فيتركه، أو كانت في الثالث كما سيأتي (¬2). وقد بوب البخاري (¬3)، وقال: باب هل يرجع إذا رأى منكرًا في الدعوة؟. هكذا أورد الترجمة بالاستفهام ولم يجزم، ثم قال: ورأى ابن مسعود سورة في البيت فرجع، كذا في رواية البعض، وفي رواية الباقين: أبو مسعود، وهو الصواب. فأخرجه البيهقي (¬4) عن أبي مسعود عقبة بن عمرو، أن رجلًا صنع طعامًا فدعاه، فقال: أفي البيت صورة؟ قال: نعم. فأبى أن يدخل حتى تكسر الصورة. وسنده صحيح، ثم قال (¬5): ودعا ابن عمر أبا أيوب فرأى في البيت سترًا على ¬

_ (أ) ساقط من: جـ.

الجدار، فقال ابن عمر: غلبنا عليه النساء. فقال: من كنت أخشى عليه فلم أكن أخشى عليك، والله لا أطعم لكم طعامًا. [فرجع] (أ). وهذا المعلَّق وصله أحمد في كتاب "الورع" (¬1)، ومسدد (¬2) في "مسنده"، ومن طريقه الطبراني (¬3) عن سالم بن عبد (ب) الله بن عمر قال: أعرست (¬4) في عهد أبي، فآذن الناس، وكان أبو أيوب فيمن آذنّا وقد ستروا بيتي ببجاد (¬5) أخضر، فأقبل أبو أيوب فاطلع فرآه، فقال: يا عبد الله، أتسترون الجدرَ؟ فقال أبي -واستحيا-: غلبنا عليه النساء يا أبا أيوب. فقال: من خشيت أن تغلبه النساء. فذكره. وروى المصنف (¬6) رحمه الله من وجه آخر القصة وفيها: فأقبل أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - يدخلون الأول فالأول، حتى أقبل أبو أيوب. وفيه: فقال عبد الله: أقسمت عليك لترجعن. فقال؛ وأنا أعزم على نفسي ألا أدخل يومي هذا. ثم انصرف. وأخرج أحمد في كتاب "الزهد" (¬7) أن رجلًا دعا ابن عمر إلى عرس، فإذا بيته قد ستر بالكرور (جـ)، فقال ابن عمر: ¬

_ (أ) ساقطة من: الأصل. (ب) في جـ: عبيد. (جـ) في جـ: بالكروب. والكُرور جمع الكُرّ وهو جنسٌ من الثياب الغليظة. ينظر النهاية 4/ 162، واللسان (ك ر ر).

يا فلان، متى تحولت الكعبة في بيتك؟ ثم قال لنفر معه من أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم -: ليهتك كل رجل ما يليه. قال ابن بطال (¬1): لا يجوز الدخول في الدعوة يكون فيها منكر؛ لما في ذلك من إظهار الرضا بها. ونقل مذاهب القدماء في ذلك، وحاصله إن كان هناك محرم وقدَر على إزالته فأزاله فلا بأس، وإن لم يقدر [فليرجع] (أ)، وإن كان مما يكره كراهة تنزيه فلا يخفي الورع. انتهى. [وقصة] (ب) أبي أيوب والصحابة الذين دخلوا تحتمل أن أبا أيوب كان يرى تحريم الستر، فلذلك رجع، وغيره لا يراه فلذلك دخلوا، ويحتمل أن كراهة ذلك للتنزيه، فأبو أيوب عمل بالورع والتشدد في ذلك فرجع، وغيره تسامحوا بالدخول في ذلك، وقد فصل العلماء ذلك؛ قالوا: إن كان لهوًا مما اختلف فيه فيجوز الحضور، والأولى الترك، وإن كان حرامًا كشرب الخمر نظر، فإن كان المدعو ممن إذا حضر رفع لأجله فليحضر، وإن لم يكن كذلك؛ ففيه للشافعية وجهان (جـ): أحدهما: يحضر وينكر بحسب قدرته، وإن كان الأولى [ألا] (د) يحضر، قال البيهقي (¬2): وهو ظاهر نص الشافعي، وعليه جرى العراقيون ¬

_ (أ) في الأصل، جـ: فلا يرجع. والمثبت من الفتح 9/ 250. (ب) في الأصل: قضية. (جـ) زاد بعده في الأصل: أن. (د) في الأصل: لا.

من أصحابه. وقال صاحب "الهداية" من الحنفية (¬1): لا بأس أن يقعد ويأكل إذا لم يكن يقتدى به، فإن كان ولم يقدر على منعهم فليخرج؛ لما فيه من شين الإيمان والدين، وفتح باب المعصية، وحكي عن أبي حنيفة أنه قعد، وهو محمول على أنه وقع له ذلك قبل أن يصير مقتدى (أ) به، وهذا بعد الحضور، فإن علم قبله لم تلزمه الإجابة. والوجه الثاني للشافعية: تحريم الحضور لأنه كالراضي بالمنكر، وصححه المراوزة، فإن لم يعلم حتى حضر نهاهم، فإن لم ينتهوا خرج إلا أن يخاف على نفسه، وعلى هذا جرى الحنابلة، وكذا اعتبر المالكية في الإجابة (ب ألا يكون ب) منكر، وكذا اعتبر الهدوية وغيرهم من العترة، وإذا كان من أهل الهيئة لا ينبغي له أن يحضر موضعًا فيه لهوٌ أصلًا. حكاه ابن بطال وغيره عن مالك، ويؤيد منع الحضور حديث عمران بن الحصين: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن إجابة طعام الفاسقين. أخرجه الطبراني في "الأوسط" (¬2)، وأما مع وجود المحرم فما أخرجه النسائي (¬3) من حديث جابر مرفوعًا: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يقعد على مائدة يدار عليها الخمر". وإسناده جيد، وأخرجه الترمذي (¬4) من وجه آخر عن جابر فيه [ضعف] (جـ)، وأبو داود (¬5) من ¬

_ (أ) في جـ: يقتدي. (ب- ب) في جـ: إن لم يكن هناك. (جـ) في الأصل: ضعيف.

حديث ابن عمر بسند فيه انقطاع، وأحمد (¬1) من حديث عمر. وأما حكم ستر البيوت والجدران ففي جوازه اختلاف قديم، وجزم جمهور الشافعية بالكراهة، وصرح الشيخ [أبو] (أ) نصر المقدسي منهم بالتحريم، واحتج بحديث عائشة، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن الله [لم] (ب) يأمرنا أن نكسو الحجارة والطين". وجذب الستر حتى هتكه. وأخرجه مسلم (¬2)، قال البيهقي (¬3): هذه اللفظة تدل على كراهة ستر الجدار، وإن كان في بعض ألفاظ الحديث أن المنع كان بسبب الصورة، وقال غيره: ليس في السياق ما يدل على التحريم، وإنما فيه نفي الأمر بذلك، ونفي الأمر لا يستلزم ثبوت النهي، لكن يمكن أن يحتج بفعله - صلى الله عليه وسلم - في هتكه، (جـ وأخرج جـ) في التحريم حديث ابن عباس عند أبي داود (¬4) وغيره: "ولا تستروا [الجدر] (د) بالثياب". وفي إسناده ضعف، وله شاهد مرسل عن علي بن الحسين أخرجه ابن وهب ثم البيهقي (3) من طريقه، وعند سعيد ¬

_ (أ) ساقط من: الأصل، جـ. والمثبت من الفتح 9/ 250. (ب) ساقطة من: الأصل. (جـ- جـ) في جـ: وقد أخرج. (د) في جـ: الجدار.

ابن منصور (¬1) من حديث سلمان موقوفًا، أنه أنكر ستر البيت؛ وقال: أمحموم بيتكم، أو تحولت الكعبة عندكم؟ ثم قال: لا أدخله حتى يهتك. وأخرح الحاكم والبيهقي (¬2) من حديث محمد بن كعب عن عبد الله بن يزيد (1) الخطمي أنه رأى بيتًا مستورًا فقعد وبكى، وذكر حديثًا عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "فكيف بكم إذا سترتم بيوتكم؟ " الحديث. وأصله في النسائي (¬3). 861 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "شرُّ الطَّعام طعامُ الوليمة، يُمنَعُها من يأتيها، ويُدعَى إليها من يأباها، ومَن لم يُجِب الدَّعوة فقد عصى الله ورسوله". أخرجه مسلم (¬4). 862 - وعنه رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا دعي أحدكم فليُجب، فإن كان صائما فليصلِّ، كان كان مفطرا فليَطعم". أخرجه مسلم أيضًا (¬5). وله (¬6) من حديث جابر رضي الله عنه نحوه، وقال: "إن شاء طعم، وإن شاء ترك". الحديث الأول أخرجه مسلم من طريق مرفوعًا، وأخرجه البخاري (¬7) ¬

_ (أ) في جـ: زيد. وينظر تهذيب الكمال 16/ 301.

موقوفًا على أبي هريرة أنه كان يقول: شر الطعام طعام الوليمة؛ يدعى لها الأغنياء، ويترك الفقراء، ومن ترك الدعوة فقد عصى الله ورسوله. ووقع في رواية الإسماعيلي (¬1) من طريق معن بن عيسى عن مالك: "المساكين" بدل: "الفقراء". وذكر ابن عبد البر (¬2) أن جُلَّ رواة مالك لم يصرحوا برفعه، وقال فيه روح بن القاسم عن مالك بسنده: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وكذا أخرجه الدارقطني في "غرائب مالك" (1). وكذا أخرجه أبو الشيخ (1) من طريق محمد بن سيرين عن أبي هريرة مرفوعًا صريحا، وأخرج له شاهدا من حديث ابن عمر كذلك (1). قوله: "شر الطعام .. " إلى آخره. أي من شر الطعام طعام الوليمة. وقوله: "يمنعها" جملة استئنافية (أ) لبيان الوجه المقتضي لكونه من شر الطعام، وهذا بالنظر إلى أغلب أحوال الوليمة، وأنها متصفة بهذه الصفة المقتضية لشرِّية طعامها، ومع هذه الصفة إن مَن لم يُجب الدعوة إليها فهو عاص، وتكون الدعوة سببًا لأكل المدعو شر الطعام، وأراد بقوله: "يُمنعها من يأتيها": الفقراء، "ويدعى إليها من يأباها": هم الأغنياء، فلو دعوا الجميع لم يكن شرًّا. وقد أخرج ابن حبيب (¬3) عن أبي هريرة أنه كان يقول: أنتم العاصون في ¬

_ (أ) في جـ: استفهامية. والمثبت يقتضيه السياق. وينظر الفتح 9/ 245.

الدعوة، تدعون من لا [يأتي] (أ)، وتَدَعون من يأتي (ب). ووقع في رواية الطبراني (¬1) من حديث ابن عباسٍ: "بئس الطعام طعام الوليمة؛ يُدعى إليه الشبعان، ويحبس عنه الجيعان". ويعني الحديث الإخبار بما يقع من الناس بعده - صلى الله عليه وسلم - من مراعاة الأغنياء في الولائم وتخصيصهم بالدعوة وإيثارهم بطيب الطعام ورفع مجالسهم وتقديمهم وغير ذلك مما هو الغالب في الولائم. والله المستعان. وقوله: "ومن لا يجب الدعوة". هي بفتح الدال على المشهور، وضمَّها قطرب في "مثلثه" وغلطوه في ذلك (¬2)، قال النووي (¬3): دِعوة النسب بكسر الدال، وعكس ذلك بنو تيم الرباب ففتحوا دال دعوة النسب وكسروا دال دعوة الطعام، وما نسبه لتيم الرباب نسبه صاحبا "الصحاح" (¬4) و "المحكم" (¬5) لبني عدي (جـ) الرباب. والله أعلم. والظاهر أن المراد بالدعوة هنا هي وليمة العرس، فتكون (د) اللام للعهد ¬

_ (أ) في الأصل، جـ: يأبى. والمثبت من مصدر التخريج. (ب) في جـ: يأبى. (جـ) زاد بعده في الأصل: بني. (د) في جـ: فيكون.

الخارجي، وقد تقدم أن الوليمة إذا أطلقت من غير تقييد انصرفت إلى طعام العرس، وسائر الولائم تقيَّد. وقوله: "فقد عصى الله ورسوله". هذا يدل على وجوب الإجابة، إذ المعصية إنما تكون بترك (أ) الواجب، ووقع في رواية لابن عمر عند أبي عوانة (¬1): "من دُعي إلى وليمة فلم يأتها فقد عصى الله ورسوله". [وقد تقدم الخلاف في حكم الإجابة في الحديث الذي قبل هذا] (ب). وقوله: "فإن كان صائما فيصلِّ". اختلف العلماء في المراد بالصلاة؛ فقال الجمهور: معناه: فليدعُ لأهل الطعام بالمغفرة والبركة ونحو ذلك، وأصل الصلاة في اللغة الدعاء، وقيل: المراد: الصلاة الشرعية، أي يشتغل بالصلاة ليحصل له فضلها ويتبرك أهل المكان والحاضرون. وقوله: "وإن كان مفطرًا فليَطعم". ظاهره تحتُّم الأكل، وفي الرواية الأخرى: "إن شاء طعم وإن شاء ترك". ظاهرها التخيير، وقد اختلف العلماء في ذلك، والأصح عند الشافعية أنه لا يجب الأكل [لا] (جـ) في وليمة العرس ولا في غيرها، ومن أوجبه اعتمد الرواية الأولى وتأول الثانية على من كان صائمًا، ومن لم يوجبه اعتمد رواية التخيير وحمل رواية "فليطعم" على الندب. وإذا قيل بوجوب الأكل فأقلّه لقمة، ولا يلزمه الزيادة؛ لأنه ¬

_ (أ) في جـ: ترك. (ب) ساقطة من: الأصل. (جـ) في الأصل: إلا.

يسمى أكلًا، ولأنه إذا كان الحكمة في الأمر بالأكل هو إيناس صاحب الطعام وإزالة ما يقع في نفسه أن الامتناع عن الأكل [تنزه] (أ) من الطعام لئلا يكون فيه شبهة، فاللقمة الواحدة تزيل ذلك. وأما الصائم فلا خلاف أنه لا يجب عليه الأكل، لكن إذا كان صومه فرضًا لم يجز له الأكل؛ لأن الفرض لا يجوز الخروج منه، وإن كان نفلا جاز له الفطر وتركه، فإن كان يشق على صاحب الطعام صومه فالأفضل الفطر وإلا فإتمام الصوم. 863 - وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "طعامُ أوّل يوم حقٌّ، وطعامُ يوم الثاني سنةٌ، وطعام يوم الثالث سمعةٌ". رواه الترمذي (¬1) واستغربه ورجاله رجال الصحيح، وله شاهد عن أنس عند ابن ماجه (¬2). الحديث أخرجه الترمذي بزيادة: "ومن سمّع سمّع الله به". وقال: لا نعرفه إلا من حديث زياد بن عبد الله البَكَّائي (¬3)، وهو كثير الغرائب والمناكير. قال المصنف رحمه الله (¬4): وزياد مختلف فيه وشيخه فيه عطاء بن ¬

_ (أ) في الأصل، جـ: تنزها.

السائب (¬1)، وسماع زياد منه بعد اختلاطه. انتهى. فلا يصح قول المصنف هنا أن رجاله رجال الصحيح. وحديث ابن ماجه أخرج عن أبي هريرة مثله، وفي إسناده عبد الملك بن حسين (¬2) وهو ضعيف، وأخرج ابن عدي والبيهقي مثله عن أبي هريرة (¬3)، وفي إسناده بكر بن خنيس (¬4) وهو ضعيف، وله طريق أخرى عن مروان بن معاوية عن عوف عن الحسن عن أنس نحوه، قال ابن أبي حاتم (¬5): إنه سأل أباه عنه، فقال؛ إنما هو عن الحسن عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسلًا. وأخرج الطبراني (¬6) عن ابن عباس مرفوعًا: "طعام في العرس يوم سنة، وطعام يومين فضل، طعام ثلاثة أيام رياء وسمعة". وسنده ضعيف. وأخرج أبو داود والنسائي (¬7) من طريق قتادة، عن رجل من ثقيف تردد في اسمه؛ هل زهير بن [عثمان أو] (أ) غيره، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ¬

_ (أ) في الأصل: عمرو.

"الوليمة أول يوم حق، والثاني معروف، والثالث رياء وسمعة". وقال البخاري (¬1): لا يصح إسناده ولا يصح لزهير صحبة. إلا أن البغوي أخرجه في "معجم الصحابة" (¬2) فيمن اسمه زهير، ولم يذكر له غيره، وقال: لا أعلم له اسما غيره. وقال ابن عبد البر (¬3): يقال: إنه مرسل. وغلط ابن [قانع] (أ) (¬4) فذكره في "الصحابة" فيمن اسمه معروف، وذلك أنه وقع في "السنن" وفي "المسند" (¬5): عن رجل من ثقيف يقال له معروف. أي يُثنى عليه خير. وهذه الأحاديث وان كان كل منها لا يخلو من مقال، فإن مجموعها يدل على أن للحديث أصلًا. الحديث فيه دلالة على شرعية الضيافة يومين، ويُفهم من كونها أول يوم حق وجوبُها، فإن الحق هو الثابت اللازم، وقد تقدم الكلام في ذلك، وكونها في اليوم الثاني سُنة، أي طريقة مستمرة، يعتاد الناس فعلها، يعني لا يدخل صاحبها الرياء والتسميع، وأما اليوم الثالث فهو رياء وسمعة، فيكون فعلها حرامًا والإجابة إليها كذلك، وقد وقع في رواية أبي داود والدارمي (¬6) في آخر حديث زهير بن عثمان: قال قتادة: بلغني عن سعيد بن المسيب أنه ¬

_ (أ) في الأصل، جـ: نافع. وهو تصحيف.

دعي أول يوم وأجاب، ودعي ثاني يوم فأجاب، ودعي ثالث يوم فلم يجب، وقال: أهل رياء وسمعة. فكأنه بلغه الحديث فعمل بظاهره، إن ثبت ذلك عنه، وقد عمل بهذا العلماء من الهدوية والشافعية والحنابلة، قال النووي (¬1): إذا أَوْلَمَ ثلاثًا فالإجابة في اليوم الثالث مكروهة، في الثاني (أ) لا تجب قطعًا، ولا يكون استحبابها فيه كاستحبابها في اليوم الأول. وقد حكى صاحب "التعجيز" (¬2) في وجوبها في اليوم الثاني وجهين، وقال في "شرحه": أصحهما الوجوب. وبه قطع الجرجاني؛ لوصفه بأنه معروف أو سنة. وذهب الحنابلة إلى الوجوب في اليوم الأول، والثاني سنة، تمسكًا بظاهر الحديث. وأما الكراهة فأطلقها بعضهم لظاهر الحديث، وقال العمراني (¬3): يكره إذا كان المدعو في اليوم الثالث هو المدعو في اليوم الأول. وكذا الرُّوياني (3)، وهذا قريب؛ لأنه إذا كان المدعو كثيرين وهو شاق (ب) جمعهم في يوم واحد، فدعا في كل يوم فريقًا، لم يكن في ذلك رياء وسمعة غالبا، وجنح البخاري إلى أنها لا بأس بالضيافة ولو إلى سبعة أيام حيث قال (¬4): باب حق إجابة الوليمة والدعوة، ومن أَوْلَمَ سبعة أيام ونحوه، ¬

_ (أ) في الأصل: الثالث. (ب) في جـ: يشق.

ولم يوقت النبي - صلى الله عليه وسلم - يومًا ولا يومين. وأشار بذلك إلى ما أخرجه ابن أبي شيبة (¬1) من طريق حفصة بنت سيرين قالت: لما تزوج أَبِي دعا الصحابة سبعة أيام، فلما كان يوم الأنصار دعا أُبيَّ بن كعب وزيد بن ثابت وغيرهما، فكان أُبيُّ صائما، فلما طعموا دعا أبيّ. وأخرجه البيهقي (¬2) من وجه آخر أتم سياقًا منه، وأخرجه عبد الرزاق (¬3) من وجه آخر إلى حفصة وقال فيه: ثمانية أيام. وقد أشار إليه البخاري بقوله: [و] (أً) نحوه. لأن القصة واحدة، فإطلاقه حق الإجابة وذكره لهذا يدل على ترجيحه. وقوله: ولم يوقت النبي - صلى الله عليه وسلم -. تصريح بإطلاق الإجابة سواء طالت أو قصرت مدة الضيافة، وذهب إلى هذا المالكية، قال عياض (¬4): استحب أصحابنا لأهل السعة كونها أسبوعًا. قال: وقال بعضهم: محله إذا دعا في كل يوم من لم يدع قبله. وظاهر الحديث الإطلاق، إلا أنه قد يحمل على ما إذا وقع رياء وسمعة، إلا أنه بالغ في ذلك [فجعله] (ب) كله رياء وسمعة -مبالغةً- لما كان ذلك هو الغالب، فإذا أمن الرياء فلا كراهة في الثالث كما وقع من السلف. والله أعلم. ¬

_ (أ) في الأصل، جـ: أو. والمثبت من الفتح 9/ 240، 242. (ب) في الأصل: فحمله.

864 - وعن صفية بنت شيبة قالت: أَوْلَمَ النبي - صلى الله عليه وسلم - على بعض نسائه بمُدَّين من شعيرٍ. أخرجه البخاري (¬1). هي صفية بنت شيبة بن عثمان بن أبي طلحة الحَجَبي من بني عبد الدار بن قصي، اختلف في رؤيتها للنبي - صلى الله عليه وسلم -؛ فقيل: إنها لم تره. وكذا جزم ابن سعد وابن حبان بأنها تابعية (¬2)، قال الدارقطني (¬3): هذا من الأحاديث التي تعد فيما أخرج البخاري من المراسيل. لكن ذكر المزي في "الأطراف" (¬4) أن البخاري أخرج في كتاب الحج (¬5) عقيب حديث أبي هريرة وابن عباس في تحريم مكة، قال: وقال أبان بن صالح عن الحسن بن مسلم عن صفية بنت شيبة قالت: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - مثله. قال: ووصله ابن ماجه (¬6) من هذا الوجه. قال المصنف (3) رحمه الله تعالى: وكذا وصله البخاري في "التاريخ" (¬7). ثم قال المزي: لو صح هذا لكان صريحا في صحبتها، لكن أبان بن صالح (¬8) ضعيف. كذا أطلق هنا، ولم ينقل في ترجمة أبان بن صالح ¬

_ (¬1) البخاري، كتاب النكاح، باب من أولم بأقل من شاة 9/ 238 ح 5172. (¬2) ابن سعد 8/ 469، وابن حبان في الثقات 4/ 386 في التابعين، وذكرها أيضًا في الثقات 3/ 197 في الصحابة. (¬3) الفتح 9/ 239. (¬4) التحفة 11/ 343 ح 15908. (¬5) كذا في التحفة، والفتح 9/ 239 نقلا عنها. والصحيح -كما في النكت الظراف لحاشية التحفة- أنه في كتاب الجنائز 3/ 213. عقب ح 1349. والله أعلم. (¬6) ابن ماجه 2/ 1038 ح 3109. (¬7) التاريخ الكبير 1/ 451، 452. (¬8) أبان بن صالح بن عمير بن عبيد القرشي مولاهم، وثقه الأئمة، ووهم ابن حزم فجهله وابن عبد البر فضعفه. التقريب ص 87.

في "التهذيب" (¬1) تضعيفه عن أحد، بل نقل توثيقه عن يحيى بن معين وأبي حاتم وأبي زرعة وغيرهم، إلا أن ابن عبد البر ضعفه في "التمهيد" (¬2) لما ذكر حديث جابر في استقبال قاضي الحاجة القبلة، وكأنه التبس عليه بأبان بن أبي عياش البصري صاحب أنس، فإنه ضعيف باتفاق (¬3). وذكر المزي حديث صفية بنت شيبة، قالت: طاف النبي - صلى الله عليه وسلم - على بعير يستلم الركن بمحِجن (¬4) وأنا أنظر إليه. أخرجه أبو داود وابن ماجه (¬5)، قال المزي: هذا يضعف قول من أنكر أن تكون لها [رؤية] (أ)؛ فإن إسناده حسن. وقوله: على بعض نسائه. قال المصنف رحمه الله (¬6): لم أقف على تعيين اسمها صريحًا، وأقرب ما يُفسَّر به: أم سلمة، فقد أخرج ابن سعد (¬7) عن شيخه الواقدي بسند له إلى أم سلمة، قالت: لما خطبني النبي - صلى الله عليه وسلم -. فذكر قصة تزويجه بها، قالت: فأدخلني بيت زينب بنت خزيمة، فإذا جرَّة فيها شيء من شعير فأخذته فطحنته، ثم عَصَدته (¬8) في ¬

_ (أ) في الأصل: جـ: رواية. والمثبت من تحفة الأشراف 11/ 343، والفتح 9/ 239.

البُرمة، وأخذت شيئًا من إهالة فأدَمته (¬1)، فكان ذلك طعام رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وأخرج ابن سعد أيضًا وأحمد (¬2) بإسناد صحيح إلى أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث أن أم سلمة أخبرته. فذكر قصة خطبتها وتزويجها، وفيه: قالت: وأخرجت حبات شعير كانت في جرتي وأخرجت شحما فعصدته له، ثم بات، ثم أصبح. الحديث أخرجه النسائي (¬3) أيضًا، لكن لم (أ) يذكر المقصود هنا، وأصله في "مسلم" (¬4) من وجه آخر بدونه. وأما ما أخرجه الطبراني في "الأوسط" (¬5) من طريق شريك عن حميد عن أنس قال: أولم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أم سلمة بتمر وسمن. فهو وهم من شَريك؛ لأنه كان سيئ الحفظ (¬6)، [أو] من الراوي عنه -وهو [جَندَل] (جـ) ¬

_ (أ) زاد بعده في الأصل: يكن. (ب) في الأصل، جـ: و. والمثبت من الفتح 9/ 240. (جـ) في الأصل: جندلة.

ابن والق (¬1) - فإن مسلمًا والبزار ضعفاه (¬2)، وقواه أبو حاتم الرازي والبستي (¬3)، وإنما المحفوظ من حديث حميد عن أنس أن ذلك في قصة صفية. كذلك أخرجه النسائي (¬4)، وقد ذكره البخاري (¬5) مطولًا في كتاب النكاح عن حميد عن أنس. ويحتمل أنه أراد ببعض نسائه هو ما وقع في وليمة علي بفاطمة رضي الله عنهما، وأراد ببعض نسائه؛ أي: من يُنسب إليه من النساء في الجملة، فقد أخرج الطبراني (¬6) من حديث أسماء بنت عميعر قالت: لقد أَوْلَمَ علي بفاطمة فما كانت وليمة في ذلك الزمان أفضل من وليمته، رهن درعه عند يهودي بشطر شعير. ولعله أريد بمُدَّين من شعير؛ لأن المدين نصف الصاع، فكأنه قال: شطر صاع. فينطبق على القصة (أ) التي في الباب، ويكون نسبة الوليمة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مجازية، إما لكونه الذي وفّى اليهودي ثمن شعيره أو لغير ذلك. وقوله: "بمُدَّين من شعير". قال المصنف رحمه الله تعالى (¬7): كذا وقع في رواية كل من رواه عن الثوري فيما وقفت عليه ممن قدمت ذكره، إلا ¬

_ (أ) في الأصل: الصفة.

عبد الرحمن بن مهدي فوقع في روايته: بصاعين من شعير. أخرجه النسائي (¬1) والإسماعيلي (¬2) من روايته، وهو وإن كان أحفظ من رواه عن الثوري، لكن العدد الكثير أولى بالضبط من الواحد، كما قال الشافعي في غير هذا، والله أعلم. انتهى. 865 - وعن أنس رضي الله عنه قال: أقام النبي - صلى الله عليه وسلم - بين خيبرَ والمدينَة ثلاثَ ليالٍ يُبنى عليه بصفية، فدعوتُ السلمينَ إلى وليمته، فما كان فيها من خبزٍ ولا لحمٍ، وما كان فيها إلا أن (أ) أمرَ بالأنطاع فبسطت، فألقى عليها التمر والأقطَ (¬3) والسمنَ. متفق عليه واللفظ للبخاري (¬4). قوله: يُبنَى عليه بصفيةَ. أي: يبنى عليه خباء جديد مع صفية أو بسببها، فالباء بمعنى "مع" للمصاحبة أو السببية، والمراد الاختلاء بصفية، وفيه دلالة على [إيثار] (ب) المرأة الجديدة بثلاثةِ أيام ولو كان في السفر، ولذلك بوب له البخاري: باب البناء بالمرأة في السفر. ويؤخذ من هذه القصة أنه يجوز تقديم الاشتغال بالعمل الخاص قبل الأعمال العامة إذا كان لا ¬

_ (أ) ساقطة من: جـ. (ب) في الأصل، جـ: تأثير. والمثبت يقتضيه السياق.

يفوت به غرض (أ)، والاهتمام بوليمة العرس، وأنها تجزئ من دون الشاة، وإشهار النكاح وإشاعته، وفي القصة أن أبا أيوب حرس النبي - صلى الله عليه وسلم - في جميع الليلة التي بنى فيها على صفية خشية عليه منها (¬1)، والتمر والأقط والسمن، ومجموع هذا إذا خلط بعضه على بعض سمي حيسًا كما جاء في رواية مسلم (¬2)، أنه - صلى الله عليه وسلم - لما أصبح قال: "من كان عنده فضل زاد فليأتنا به". قال أنس: فجعل الرجل يجيء بفضل التمر وفضل السويق حتى جعلوا من ذلك سَوادًا -بفتح السين المهملة- أي شيئًا كثيرًا حيسًا، فجعلوا يأكلون من ذلك الحيْس ويشربون من حِياضٍ إلى جَنْبهم من ماءِ السماء. وفي رواية له (¬3): فجعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وليمتها التمر والأقط بالسمن، فحِصتِ الأرض أفاحيصَ، أي: حُفرت شيئًا يسيرًا، وجيء بالأنطاع فوضِعت فيها، وجيء بالأقط والتمر والسمن فشَبع الناس. والأنطاعُ [جمع نِطع] (ب) وفيه أربع لغات مشهورات، فتح النون وكسرها مع فتح الطاء وإسكانها، أفصحهن كسر النون [مع] (جـ) فتح الطاء، وتجمع أيضًا على نطوع. وفي هذه القصة دلالة على أن الإنسان إذا كان يعرف صدق المودة ¬

_ (أ) في الأصل: عوض. (ب) في الأصل: جميع. (جـ) في الأصل: من.

وسماحة النفس من صاحبه فلا عليه أن يسأله طعامه. 866 - وعن رجل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا اجتمع داعيان فأجب أقربهما بابًا، فإن سبق أحدهما فأجب الذي سبق". رواه أبو داود (¬1) وسنده ضعيف. الحديث أخرجه أبو داود قال: حدثنا هناد بن السري عن عبد السلام بن حرب عن أبي خالد الدالاني عن أبي العلاء الأودي عن حميد بن عبد الرحمن الحميري عن رجل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -. الحديث، وضعَّف سنده. أما رجال الإسناد فهناد قال الذهبي في "الكاشف" (¬2): هناد بن السري أبو السري التميمي الدارمي الحافظ الزاهد عن شريك وعَبثر، وعنه مسلم وأصحاب "السنن الأربع"، والسراج، وكان يقال له: راهب الكوفة. لتعبده. وعبد السلام بن حربٍ [النهدي] (أ) الكوفي أبو بكر المُلَائي (¬3) عن أيوب وخُصيف وعطاء بن السائب، وعنه ابن معين وهناد، ثقة عاش ستًّا وتسعين. انتهى. وأما أبو خالد يزيد بن عبد الرحمن الدالاني بفتح الدال واللام مفتوحة ¬

_ (أ) في الأصل: المهدي. وينظر تهذيب الكمال 18/ 66.

بين ألفين ونون، نسبة إلى دالان بطن من همدان، وثقه أبو حاتم الرازي (¬1)، وقال أحمد (¬2): لا بأس به. وأبو العلاء داود بن عبد الله الأودي بفتح الهمزة وسكون الواو، وبعد الدال المهملة المكسورة ياء النسب، وثقه أحمد (¬3). وحميد بن عبد الرحمن [الحميري] (أ) البصري، قال ابن سيرين (¬4): (ب هو أفقه ب) أهل البصرة. فرجال الإسناد موثقون، وجهالة الصحابي غير قادحة، [فلم يظهر في وَجْهُ الضعف] (جـ) الذي ذكره المصنف، وللحديث شاهد أيضًا في البخاري (¬5) من حديث عائشة رضي الله عنها [قلت] (د): يا رسول الله، إن لي جارين فإلى أيهما أهدي؟ قال: "إلى أقربهما منك بابًا". الحديث فيه دلالة على أن الأحق (هـ) بالإجابة إذا اجتمع داعيان هو ¬

_ (أ) في الأصل: الحبرى. (ب- ب) في ب: هذا ثقة. (جـ) ساقط من: الأصل. (د) في الأصل، جـ: قيل. والمثبت من مصدر التخريج. (هـ) في جـ: الحق.

السابق، فإن استويا قدم الجار، والجار على مراتبه (أفي تقديم أ) من كان أقرب بابًا إلى الداعي، فإن استويا قال الإمام يحيى: فإنه يقرع بينهما. قال الإمام المهدي: وكذا من المرجحات كون أحدهما من أهل البيت، وكذا إذا كان أحدهما من أهل العلم والورع والله أعلم. قال الإمام يحيى: وفي إجابة دعوة الذمي عند من أجاز طعامه تردد، الأصح لا تستحب؛ لكراهة طعامهم. قال الإمام المهدي: ولأن في الحضور نوع تعظيم. [انتهى. ويرد عليه أن عموم أحاديث الإجابة شامل فحيث جاز الحضور] (ب) فلا كراهة، وقد أجاب النبي - صلى الله عليه وسلم -. 867 - وعن أبي جحيفة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا آكُلُ متكئا". رواه البخاري (¬1). الاتكاء مأخوذ من الوكاء، والتاء بدل من (جـ) الواو، والوكاء هو ما يُشد به الكيس أو غيره، كأنه أوكأ مقعدته وشدَّها بالقعود على الوطاء الذي تحته، ومعناه الاستواء على وطاء متمكنًا. [قال الخطابي (¬2): المتكئ هنا هو المتمكن من جلوسه من التربع وشبهه المعتمد على الوطاء تحته. قال: وكل من استوى قاعدا على وطاء فهو متمكن] (ب)، والعامة لا تعرف المتكئ إلا من ¬

_ (أ- أ) ساقط من: جـ. (ب) ساقط من: الأصل. (جـ) ساقط من: جـ.

مال في قعوده معتمدًا على أحد شقيه. ومعنى الحديث: إذا أكلت لم أقعد متكئًا فعْلَ [من] (أ) يريد الاستكثار من الأكل، ولكن آكل بُلْغةً؛ فيكون قعودي له (ب) مستوفزًا، ومَن حمَل الاتكاء على الميْل إلى أحد الشقين تأول ذلك على مذهب الطبِّ، بأن ذلك فيه ضرر، فإنه لا ينحدر في مجاري الطعام سهلًا، ولا يسيغه هنيئًا، وربما تأذى به. والله أعلم. 868 - وعن عمر بن أبي سلمة قال: قال (جـ) رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يا غلام، سمِّ الله، وكُلْ بيمينك، وكُلْ مما يَليك". متفق عليه (¬1). الحديث فيه دلالة على شرعية التسمية عند الأكل، وهذا مجمع عليه، وكذا يستحب التحميد، بأن يقول: الحمد لله. في آخره، ويقاس على الطعام غيره من الشراب، قال العلماء: ويستحب أن يجهر بالتسمية ليسمع غيره، وينبهه عليها، ولو ترك التسمية في ابتداء الطعام عامدًا أو ناسيًا أو جاهلًا أو مُكرهًا أو عاجزًا لعارضٍ كان له أن يسمي، ويقول: باسم الله أوله وآخره. لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا أكل أحدكم فليذكر اسم الله، فإن نسي أن يذكر الله في أوله، فليقل: باسم الله أوله وآخره". رواه أبو داود والترمذي (¬2) وغيرهما، قال الترمذي: حديث حسن صحيح. ¬

_ (أ) في الأصل: ما. (ب) ساقط من: ب. (جـ) بعده في جـ: إلى.

والتسمية في شرب الماء واللبن والعسل والمرق والدواء، وسائر المضروبات مستويات (أ) كالتسمية على الطعام فيما [ذكر] (ب)، وتحصل التسمية بقوله: باسم الله. فإن قال: بسم الله الرحمن الرحيم. فأحسن، وسواء في استحباب التسمية الطاهر والجنب والحائض، وينبغي أن يسمي كل واحد من الآكلين، فإن سمى واحد منهم حصَّل أصل السنة. نص عليه الشافعي، ويسْتَدل له بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخبَر أن الشيطان إنما يتمكن من الطعام إذا لم يُذكر اسمُ الله عليه (¬1). وهذا قد ذكر اسم الله عليه. وقوله: "كل بيمينك". فيه دلالة على استحباب الأكل باليمين، وكذلك الشرب؛ لحديث ابن عمر: "إذا أكل أحدكم فليأكل بيمينه، وإذا شرب فليشرب بيمينه، فإن الشيطان يأكل بشماله، ويشرب بشماله" (¬2). وكان نافع يزيد فيها: "ولا يأخذ بها، ولا يعطي بها" (¬3). وهذا إذا لم يكن عذر، فإن [كان عذر منع الأكل والشرب باليمين، من مرض أو جراحة أو غير ذلك] (جـ)، [فلا كراهة] (د). وفيه دلالة على أنه ينبغي اجتناب الأفعال التي تشبه أفعال الشياطين، ¬

_ (أ) ساقطة من: جـ. (ب) في الأصل: ذكره. (جـ) في الأصل: في الشمال. (د) ساقطة من: الأصل، جـ. والمثبت من الفتح 9/ 523.

وأن للشيطان يدين، وفي رواية مسلم (¬1): أن رجلًا أكل عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بشماله، فقال: "كل بيمينك". فقال: لا أستطع. قال: "لا استطعت، ما منعه إلا الكبر". قال: فما رفعها إلى فيه. في الحديث دلالة على [أن] (أ) الأكل بالشمال من المكروهات التي يُدْعَى على فاعلها إذا كان بلا عُذرٍ؛ بل تمردًا ومخالفةً. وفي الأحاديث دلالة على أن الأمرَ بالمعروف والنهي عن المنكر في كل حالٍ، حتى في حال الأكل، واستحباب تعليمِ الآكل أدب الأكل إذا خالفه. وقوله: "وكل مما يليك". فيه دلالة على أنه ينبغي [تعليمُ] (ب) حسن العشرة للجليس، [وألَّا] (جـ) يحصل من الإنسان ما يسوء جليسه مما فيه سوء عشرة، وترك مروءة، فقد يتقذره صاحبه لا سيما في الأمراق وغيرها كالثريد، فإن كان تمرًا [أو] (د) أجناسًا مختلفة، فقد نُقِل إباحة اختلاف الأيدي في الطبق، فإن ثبت ذلك كان مخصصًا، وإلا كان الأمر على عمومه حتى يثبت مخصص. وقد أخرج الترمذي (¬2) من حديث عكراش بن ذؤيب قال: أُتينا بجَفْنة ¬

_ (أ) في الأصل: جواز. (ب) في الأصل: تعلم. (جـ) في الأصل: وأن لا. (د) في الأصل: و.

كثيرة الثريد والوَذْرِ -جمع وذرة، قطعة من اللحم لا عظم فيها-[فخبطتُ] (أ) بيدي في نواحيها، وأكل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من بين يديه، فقبض بيده اليسرى (ب) على يدي اليمنى، ثم قال: "يا عِكْراشُ، كُلْ من موضعٍ واحدٍ، فإنه طعام واحد". ثم أُتينا بطبق فيه ألوان التمر، فجعلت آكل من بين يدي، وجالت يدُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الطبق، فقال: "يا عِكْراش، كل من حيث شئت، فإنه غيرُ لونٍ واحد". ثم أُتينا بماء فغسل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يديه، ومسح بِبَللِ كفَّيه وَجْهه وذراعيه ورأسَه، وقال: "يا عِكْراش، هذا الوضوء مما غَيَّرت النارُ". فهذا مخصص لذلك، ويخص مما إذا لم يبق تحت [يد] (جـ) الآكل [شيء] (جـ)؛ كان له أن يتبع ذلك ولو من سائر الجوانب، كما أخرج البخاري ومسلم (¬1) من حديث أنس أن خياطًا دعا النبي - صلى الله عليه وسلم - لطعام صنعه، قال: فذهبت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فقرَّب خبزَ شعيرٍ ومرقًا فيه دُبَّاء (¬2) وقَديدٌ، فرأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يتبع الدباء من حوالي القصعة -أي جوانبها- فلم أزل أحب الدباء بعدَ يومئذ. وقال النووي (¬3): يحتمل وجهين: ¬

_ (أ) في الأصل: فحطبت. (ب) زاد في الأصل: على يده اليسرى. (جـ) ساقطة من: الأصل.

أحدهما: أن التقدير: من حوالي جوانبه وناحيته من الصحفة، لا من حوالي جميع جوانبها، فقد أمرنا بالأكل مما يلي الإنسان. والثاني: أن يكون من جميع جوانبها، وإنما نهي عن ذلك لئلا يتقَذَّر الجليسُ، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يتقذَّره أحد، بل يتبركون ببصاقِه - صلى الله عليه وسلم - وبنُخامته، ويدلكون بذلك وجوههم، وشرب بعضهم بوله، وبعضهم دمه. انتهى. وما ذكرناه أولى، فإن في قول أنس (¬1): فلما رأيت ذلك جعلت ألقيه إليه ولا أطعمه. دلالة على [تطلبه] (أ) من جميع القصعة لمحبته لأكله، وأما الأكل مما يليه فهو لا يدل على اختصاصه بزيادة المحبة والله أعلم. ويستثنى أيضًا ألا يأكل من وسط القصعة كما أخرج الترمذي، وقال: حديث صحيح حسن، وابن ماجه، والدارمي (¬2) من حديث ابن عباس رضي الله عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه أتي بقصعةٍ من ثريد فقال: "كلوا من جوانبها ولا تأكلوا من وسطها؛ فإن البركةَ تنزل في وسطها". وفي رواية أبي داود (¬3) قال: "إذا أكل أحدكم طعامًا فلا يأكل من أعلى الصحفة، ولكن يأكل من أسفلها؛ فإن البركة تنزل من أعلاها". ¬

_ (أ) في الأصل: مطلبه.

869 - وعن ابن عباس رضي الله عنهما، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أُتي بقصعة من ثريد، فقال: "كُلُوا من جوانبها، ولا تأكُلُوا من وسطها، فإن البركةَ تنزلُ في وسطها". رواه الأربعة (¬1)، وهذا لفظ النسائي وسنده صحيح. تقَدَّم الكلامُ فيه. 870 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: مَا عابَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - طعامًا قطُّ، كان إذا اشتَهى شيئًا أكلَهُ، وإن كرِهه تركه. متفق عليه (¬2) (ب). الحديث متفقَ عليه من رواية أبي هريرة من طريق الأعمش عن أبي حازم عن أبي هريرة، ورواه مسلم (¬3) من طريق أبي معاوية عن الأعمش عن أبي يحيى مولى آل جعدة عن أبي هريرة، وأنكر عليه الدارقطني (¬4) هذا الإسناد الثاني وقال: وهو معلَّل. ولكن مسلم (¬5) قد بيَّن علته كما وعد في خطبته وذكر الاختلاف فيه، ولهذه العلة لم يذكر البخاري حديث أبي معاوية، ولا خَرَّجه من طريقه، بل خَرَّجه من طريق آخرَ. ¬

_ (أ) زاد في الأصل: انتهى.

وفي الحديث دلالة أن من أدب الطعام المتأكَّدِ تركَ عيبه، بأن يقول: هو (أ) مالح، أو قليل الملح، أو حامض، أو رقيق، أو غليظ، أو غير ناضج ونحو ذلك. وأما كراهة النبي - صلى الله عليه وسلم - لأكل الضب وتركه له (¬1)، فليس من عيب الطعام، وإنما هو إخبار بأن هذا الطعام الخاص لا يشتهي أكله، فحكمه بالنسبة إليه حكم مَن يترك أكل الطعام لأجل شِبَعه. والله سبحانه أعلم. 871 - وعن جابر رضي الله عنه عن النبيِ - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تأكلُوا بالشِّمال؛ فإنَّ الشيطانَ يأكلُ بالشِّمال". رواه مسلم (¬2). في الحديث دلالة على كراهة الأكل بالشمال، وقد تقدم ذلك قريبًا، وفيه دلالة وفي غيره من الأحاديث الصحيحة على ما ذهب إليه الجماهير من العلماء من السلف والخلف، من المحدثين ومن الفقهاء والمتكلمين، أن الشيطان يأكل، وأن هذه الأحاديث على ظواهرها من أنه يأكل حقيقة، إذ العقل لا يحيله، والشرع لم ينكره، بل الأشبه قبوله واعتقاده. والله سبحانه أعلم. 872 - وعن أبي قتادة رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا شَرِب أحدُكم فلا يتنفس في الإناءِ". متفق عليه (¬3). ¬

_ (أ) في جـ: هذا.

ولأبي داود عن ابن عباس نحوه، وزاد: "أو يَنفخ فيه". وصححه الترمذي (¬1). الحديث فيه دلالة على كراهة التنفس في الإناء قبل إبانته من الفم، والعلة في الكراهة خشية أن يُقذّره على غيره، لما عسى أن يَخرج شيءٌ (أمن الفم أ) فيتصل بالماء فيتقَذَّره غيره، وعليه يُحمل حديث أنس، وهو: أنه كان - صلى الله عليه وسلم - يتنفس في الشراب ثلاثًا. أي في أثناء الشراب، لا أنه في إناء الشراب، متفق عليه (¬2)، وزاد في رواية مسلم: ويقول: "إنه أروى". أي أقمع للعطش "وأبرأ" أي أكثر بُرءًا؛ لما فيه من الهضم، ومن (ب) سلامته من التأثير في برد المعدة، "وأمرأ" أي أكثر مراءة (¬3)، لما فيه من السهولة. وقوله: "أو ينفخ فيه". فيه دلالة على كراهة النفخ في الإناء، وذلك كراهة أن يخرج شيء إلى الإناء من فضلات الفم من ريق أو غيره فيقذِّره على غيره، وفي حديث أبي سعيد الخدري أخرجه الترمذي والدارمي (¬4)، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن النفخ في الشراب، فقال رجل: القذاة أراها في الإناء؟ ¬

_ (أ- أ) في جـ: منه. (ب) ساقطة من: جـ.

قال: "أهرقها". قال: فإني لا أروى من نفس واحد؟ قال: "فأبن القدح عن فيك، ثم تنفس". وفي الشرب ثلاث مرات من حديث ابن عباس، أخرجه الترمذي (¬1) قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تشربوا واحدًا -أي شربًا واحدًا- كشرب البعير، ولكن اشربوا مثنى وثلاث، وسموا إذا أنتم شربتم، واحمَدوا إذا أنتم رفعتم". وقد ورد من مكروهات الشراب الشرب مِن في السقاء، كما في حديث ابن عباس، أخرجه الشيخان (¬2): نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن (أالشرب من في السقاء. وأخرجا (¬3) من حديث أبي سعيد قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن أ) اختناث الأسقية. زاد في رواية (¬4): واختناثها أن يقلب رأسها ثم يشرب منه. وقد عارض هذا حديث كبشة، قالت: [دخل] (ب) عليَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فشرب من في قربة معلقة قائمًا، فقمت إلى فيها فقطعته؛ أي أخذته سقاء نتبرك به ونستشفي به. رواه الترمذي وابن ماجه (¬5) وقال الترمذي: ¬

_ (أ- أ) ساقط من: جـ. (ب) في الأصل، جـ: دخلت. والمثبت من مصادر التخريج.

حديث حسن غريب صحيح. وقد جمع بين الحديثين بأن النهي إنما هو في السقاء الكبير، والقربة هي صغيرة، أو النهي إنما هو للتنزيه؛ لئلا يتخذ عادة دون الندرة، وعلة النهي أنه قد تكون فيه دابة، فتخرج إلى في الشارب فيبتلعها مع الماء، كما روي أنه شرب رجل من في (أ) السقاء فخرجت [منه] ب حية. والشرب قائمًا. أخرج مسلم (¬1) من حديث أبي هريرة، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يشربن (جـ أحد منكم جـ) قائمًا، فمن نسي فليستقئ". وفي [رواية] (د) عن أنس (¬2): زجر عن الشرب قائمًا. وفي رواية (¬3): نهى عن الشرب قائما، قال قتادة: قلنا: فالأكل؟ قال: أشر وأخبث. وقد عارض عن ابن عباس: سقيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من زمزم فشرب وهو قائم. أخرجه مسلم (¬4). وفي رواية أخرى (¬5): أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شرب من زمزم وهو قائم. وفي "صحيح البخاري" (¬6): أن عليًّا رضي الله عنه شرب قائمًا، ¬

_ (أ) سقط من: جـ. (ب) ساقطة من: الأصل. (جـ-جـ) في جـ: أحدكم. (د) في الأصل: روايته.

وقال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فعل كما رأيتموني فعلت. وأحسن ما قيل في الجمع أن النهي للتنزيه، وفِعْلُه - صلى الله عليه وسلم - ذلك لبيان الجواز، فلا يكون مكروهًا، بل هو واجب لتبيين حكم شرعي، وقد جاء مثل هذا في أحكام كثيرة، فقد يفعل ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - مرة أو مرتين على حسب ما يقتضيه الحال من البيان، ويواظب على الأفضل فيستحب لمن شرب قائمًا التقيؤ للحديث الصحيح [الوارد] (أ) في ذلك سواء كان عامدًا أو ناسيًا، ولا وجه لقول عياض: إنه لا خلاف بين أهل العلم أن مَن شرب ناسيًا ليس عليه أن يتقيأ. فإن هذا على وجه (ب) الاستحباب لا الوجوب، وفي كلامه مغالطة بما يفهم أن ذلك واجب، فإن الأمر إذا وجدت قرينة تصرفه عن الوجوب إلى الندب صح ذلك. وذِكْرُ الناسي في الحديث محمول على ما هو الأولى بالعاقل، أنه إذا وقع منه ذلك نادرًا فلا يكون إلا على جهة النسيان لا العمد، وإلا فالعامد كالناسي. ومن المكروهات الشرب من ثُلْمَة القدح، وهو موضع الكسر منه. وقد أخرج أبو داود (¬1) من حديث أبي سعيد الخدري: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الشرب من ثُلْمَة القدح، وأن ينفخ في الشراب. وعلة النهي أنها لا تتماسك عليها شفة الشارب، فإذا شرب منها تصبب الماء على وجهه وثوبه، أو لأنه يجتمع فيها الوسخ (جـ). ¬

_ (أ) ساقطة من: الأصل. (ب) في جـ: جهة. (جـ) زاد في جـ: وقد جاء في بعض ألفاظ الحديث أنه مقعد الشيطان ولعل ... من إيذاء الشيطان وتلعبه.

ومن آداب الشرب أنه إذا كان عند الشارب جلساء، وأراد إدارته عليهم بدأ بالأيمن كما أخرج الشيخان (¬1) من حديث أنس، أنه أعطى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - القدح فشرب وعلى يساره أبو بكر، وعن يمينه أعرابي، فقال عمر: أعط أبا بكر يا رسول الله، فأعطى الأعرابي الذي عن يمينه ثم قال: "الأيمن فالأيمن". وفي رواية: "الأيمنون الأيمنون، ألا فيمِّنوا". وأخرجا (¬2) من حديث سهل بن سعد، قال: أتي النبي - صلى الله عليه وسلم - بقدح فشرب منه، وعن يمينه غلام أصغر القوم، هو عبد الله بن عباس، والأشياخ عن يساره، فقال: "يا غلام، أتأذن أن أعطيه الأشياخ؟ " فقال: ما كنت لأوثِر بفضل منك أحدًا يا رسول الله. فأعطاه إياه. ¬

_ (¬1) البخاري 10/ 75، 86 ح 5612، 5619، ومسلم 3/ 1603 ح 2029. (¬2) البخاري 10/ 86 ح 5620، ومسلم، 3/ 1604 ح 2030.

باب القسم

باب القَسْمِ 873 - وعن عائشة رضي الله عنها، قالت: كان رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يقسم لنسائِهِ فيعدلُ ويقول: "اللهُمّ هذا قسمي فيما أملكُ، فلا تلمني فيما تملك ولا أملك". رواه الأربعة، وصححه ابن حبان والحاكم، ولكن رجَّح الترمذي إرساله (¬1). وكذا أعله النسائي والدارقطني (¬2)، وقال أبو زرعة (¬3): لا أعلم أحدًا تابع حماد بن سلمة على وصله، لكن صححه ابن حبان والحاكم من طريق حماد بن سلمة، عن أيوب، عن أبي قلابة، عن عبد الله بن يزيد، عن عائشة موصولًا. قال الترمذي: رواية حماد بن زيد، عن أيوب، عن أبي قلابة مرسلًا أصح. والحديث فيه دلالة على أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يقسم بين نسائه ويعدل، واختلف العلماء هل كان واجبًا عليه القسم أو غير واجب؟ فذهب بعض أهل التفسير (¬4) إلى أنه غير واجب، وفسر به قوله تعالى: {تُرْجِي ¬

_ (¬1) أبو داود، كتاب النكاح، باب في القسم بين النساء 2/ 249 ح 2134، والترمذي، كتاب النكاح، باب ما جاء في التسوية بين الضرائر 3/ 446 ح 1140، والنسائي، كتاب عشرة النساء، باب ميل الرجل إلى بعض نسائه دون بعض 7/ 64 ح 3953، وابن ماجه، كتاب النكاح، باب القسمة بين النساء 1/ 633 ح 1971، وابن حبان، كتاب النكاح، باب القسم، ح 4205، والحاكم كتاب النكاح 2/ 187. (¬2) التلخيص 3/ 139. (¬3) علل ابن أبي حاتم 1/ 425 ح 1279. (¬4) تفسير ابن جرير 22/ 24 - 26.

مَنْ تَشَاءُ} (¬1) الآية. وقال: أباح الله له أن يترك التسوية والقسم بين أزواجه، حتى إنه ليؤخر من يشاء منهن عن نوبتها، ويطأ من يشاء في غير نوبتها، وجعل ذلك من خصائصه - صلى الله عليه وسلم -، فجعل الضمير في قوله: {مِنْهُنَّ}. عائدًا إلى أزواجه اللاتي أمر بتخييرهن، وذهب إليه أبو سعيد الإصطخري من الشافعية، وصرح به الإمام المهدي في "البحر"، وجعله لنفسه ولم ينسبه إلى أحد، واحتج بالآية، والظاهر من قول سائر الأئمة أن ذلك واجب عليه. وقوله: ويعدل. فيه دلالة على أن خلاف التسوية من الجور. وقوله: "فيما أملك". وهو عمل الجوارح من المبيت مع كل واحدة نوبتها. وقوله: "فلا تلمني فيما تملك ولا أملك". قال الترمذي: يعني به الحب والمودة. كذا فسره أهل العلم. انتهى. فيه دلالة على أن عمل القلب لا يستطع الإنسان عليه، وأن الله سبحانه وتعالى واهب ذلك وسالبه، وأن العبد لا يملك ذلك، وقد فسر بمثل هذا قوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ} (¬2). والله سبحانه أعلم. 874 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَن ¬

_ (¬1) الآية 51 من سورة الأحزاب. (¬2) الآية 24 من سورة الأنفال.

كانت له امرأتان فمال إلى إحداهما، (أوترَك الأخرى أ) جاء يوم القيامة وشقه مائل". رواه أحمد والأربعة، وسنده صحيح (¬1). وأخرجه ابن حبان والحاكم (¬2)، ولفظ الحاكم: "إذا كان عند الرجل امرأتان فلم يعدل بينهما، جاء يوم القيامة وشقه مائل أو ساقط". وإسناده على شرط الشيخين، قاله الحاكم وابن دقيق العيد، واستغربه الترمذي مع تصحيحه، وقال عبد الحق (¬3): هو خبر ثابت، لكن علته أن همامًا تفرد به، وأن [همامًا] (ب) رواه عن قتادة. الحديث فيه دلالة على أنه يجب على الزوج التسوية بين الزوجات، ويحرم عليه الميل إلى إحداهن دون الآخرة، وقد ذهب إلى هذا أكثر الأمة، وأنه إذا قسم بين الزوجات وجب عليه التسوية لقوله تعالى: {فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ} (¬4). قال في "البحر": وقد ذهب قوم مجاهيل إلى أن من له زوجتان فله أن يقف مع إحداهما ليلة ومع الأخرى ثلًائا، إذ له أن ينكح ¬

_ (أ- أ) ساقطة من: جـ. (ب) في الأصل: هشاما.

أربعًا، فله إيثار أيهما شاء بالليلتين، ومثله عن الناصر، لكن حمله أصحابه على الحكاية دون أن يكون مذهبه، ثم قال في جوابه: قلنا: الليلتان لا يستحقان قبل نكاح الأربع، فلا وجه لما قالوه. انتهى. وهذا إذا قسم، وأما إذا لم يقسم، لم يجب عليه شيء، بل له الانفراد عنهن إذ الاستمتاع حق له لا يلزمه استيفاؤه، فإن أراد من البعض جاز له. 875 - وعن أنس رضي الله عنه قال: من السنة إذا تزوج الرجل البكر على الثيب أقام عندها سبعا، ثم قسم، وإذا تزوج الثيب أقام عندها ثلاثًا، ثم قسم. متفق عليه واللفظ للبخاري (¬1). قوله: من السنة. أي سنة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهذا هو المتبادر من قول الصحابي ذلك، ويدل عليه قول سالم للزهري -لما سأله عن قول ابن عمر للحجاج: إن كنت تريد السنة- هل تريد سنة النبي - صلى الله عليه وسلم -؟ فقال له سالم: وهل تعنون (أ) بذلك إلا سنته (ب) - صلى الله عليه وسلم - (¬2)؟ أي (جـ) ولمثل هذا حكم الرفع؛ ولهذا قال أبو قلابة [راويه] (د) عن أنس: ولو شئت لقلت: إن أنسا رفعه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -. يعني ويكون رواية بالمعنى، إذ معنى: من السنة. هو الرفع، وهو ¬

_ (أ) في مصدر التخريج: يتبعون. (ب) في جـ: سنة النبي. (جـ) ساقطة من: جـ. (د) في الأصل، جـ: رواية. وينظر سبل السلام 3/ 288.

جائز عنده، لكنه رأى أن المحافظة على قول أنس أولى، وذلك لأن كونه مرفوعًا إنما هو بطريق اجتهادي محتمل، والرفع نص، وليس للراوي أن ينقل ما هو محتمل إلى ما هو نص غير محتمل. كذا ذكره ابن دقيق العيد (¬1) وقد نسب (أهذا قول أبي قلابة أ) بشر بن المفضل وهشيم إلى خالد راويه عن أبي قلابة (¬2) ولا منافاة، لاحتمال أن يكونا جميعًا قالا ذلك، وكذا البخاري (¬3) قال في الرواية الأخرى من طريق عبد الرزاق قال خالد: ولو شئت لقلت: رفعه. وقد أخرجه أبو عوانة (¬4) في "صحيحه" من طريق أبي قلابة الرقاشي وقال فيه: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -. وقال: هو غريب، لا أعلم من قاله غير أبي قلابة. انتهى. وقد أخرج الإسماعيلي (¬5) من طريق أيوب من رواية عبد الوهاب الثقفي، عن أبي قلابة، عن أنس، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وصرح برفعه، وكذا أخرجه ابن خزيمة في "صحيحه" وابن حبان (¬6) والدارقطني (¬7) والدارمي (¬8) من طرق مختلفة إلى أيوب، عن أبي قلابة، عن أنس مصرحا برفعه. ¬

_ (أ- أ) كذا في: الأصل، جـ. ولعل الصواب: قول أبي قلابة هذا.

وقوله: على الثيب. فيه دلالة على أن هذا الحكم لمن كان له زوجة قبل الجديدة، وقال ابن عبد البر (¬1): جمهور العلماء على أن ذلك حق للمرأة بسبب الزفاف، وسواء كان عنده زوجة أو لا. واختاره النووي، وإطلاق الشافعي يعضده، وفي رواية للبخاري بلفظ: إذا تزوج البكر أقام عندها سبعًا. الحديث (¬2). ولم يقيده بما إذا تزوجها على غيرها إلا أن القاعدة حمل المطلق على المقيد كما في حديث أنس التقييد بـ "على الثيب". وفي قوله: ثم قسم. كذلك دلالة على وجود الزوجة الأخرى، وقد ذهب إلى التأثير المذكور الجمهور، والخلاف (أفي ذلك أ) للكوفيين، فقالوا: إن البكر والثيب سواء، وللأوزاعي فقال: إن للبكر ثلاثًا وللثيب يومين. وفيه حديث مرفوع عن عائشة أخرجه الدارقطني (¬3) وسنده ضعيف جدًّا، وظاهر الحديث أن ذلك واجب، واختلف أصحاب مالك، فقال ابن القاسم: إنه واجب، وقال ابن عبد الحكم: بل مستحب. وسبب الخلاف حمل فعله - صلى الله عليه وسلم - على الندب أو على الوجوب؟ وقد عرفت أن ذلك روي من قوله - صلى الله عليه وسلم -، وظاهره الوجوب. وروى الإمام المهدي عن أبي حنيفة وأصحابه والحكم (ب) وحماد، أنه إنما يجب التقديم، وليس ذلك إيثارًا، فتقضي البواقي مثله؛ إذ القسم حقٌّ زوجي فلا يفترق فيه الجديدة والقديمة كالنفقة، قلنا: ¬

_ (أ- أ) ساقط من: جـ. (ب) في جـ: الحاكم.

النص منع القياس. قال المهدي البصري وابن المسيب: للبكر ليلتان، وللثيب ليلة؛ إذ القصد رفع الدور يعني في القسم بالنكاح الجديد، وهو يحصل بذلك، لكن حق البكر آكد لشدة الرغبة فيها ففضلت. قلنا: لا نسلم، بل بعيد للنصوص الواردة، ثم اختلف العلماء؛ هل ذلك حق للزوج أو للزوجة الجديدة؟ فذهب الجمهور إلى أن ذلك حق للزوجة، وقال بعض المالكية: حق له على بقية زوجاته. واعلم أنه لا يجب على الزوج أن يستغرق جميع الأوقات في المُقام عند الزوجة في السبعة الأيام أو الثلاثة، وقد نص الشافعي على كراهة تأخره عن صلاة الجماعة وسائر أعمال البر التي كان يفعلها، وقال الرافعي: هذا في النهار، وأما في الليل فلا لأن المندوب لا يترك له الواجب، وقد قال الأصحاب: يسوي بين الزوجات في الخروج إلى الجماعة، وفي سائر أعمال البر، فيخرج في ليالي الكل، أو لا يخرج أصلًا، فإن خصص حرم عليه وعدُّوا هذا من الأعذار في ترك الجماعة، وقال ابن دقيق العيد (¬1): أفرط بعض الفقهاء، فجعل مقامه عندها عذرًا في إسقاط الجمعة، وأجيب بأنه قياس قول من يقول بوجوب المقام عندها، وهو قول الشافعية، ورواه ابن القاسم عن مالك وعنه يستحب، وهو وجه للشافعية فعلى الأصح يتعارض عنده الواجبان فيقدم حق الآدمي، ومقتضى قول الهدوية أنه لا يترك الجماعة ولا غيرها من الواجبات، وإن رخص فيه كما قالوا في حق الزوجة أنها لا تمنع عن واجب كان رخص فيه كالصوم في السفر والصلاة أول الوقت. ويجب الموالاة في السبع وفي الثلاث فلو فرق وجب الاستئناف، ولا فرق بين الحرة والأمة، وقيل: هي على النصف مما للحرة، ¬

_ (¬1) إحكام الأحكام 4/ 42.

فلو تزوج أخرى في مدة السبع أو الثلاث فالظاهر أنه يتم ذلك، لأنه قد صار مستحقًّا لها. 876 - وعن أم سلمة رضي الله عنها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما تزوجها أقام عندها ثلاثًا، وقال: "إنه ليس بك (أ) على أهلك هوان، إن شئت سبَّعت لك، كان سبَّعت لك سبَّعت لنسائي". رواه مسلم (¬1). زاد مسلم في رواية (¬2): "وإن شئت ثلَّثت ثم درت". قالت: ثلِّث. وفي رواية (¬3): دخل عليها فلما أراد أن يخرج أخذت بثوبه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن شئت زدتك وحاسبتك به، للبكر سبع، وللثيب ثلاث". الحديث فيه دلالة على أنه إذا تعدى الزوج المدة المقدرة برضا المرأة سقط حقها من الإيثار، ووجب عليه القضاء لذلك، وأما إذا كان بغير رضاها فحقها ثابت، وهو مفهوم من قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إن شئت". وقوله: "ليس بك (أ) على أهلك هوان". معناه: لا يلحقك هوان ولا نضع (ب) من حقك شيئًا بل تأخذينه كاملًا، ثم بين ذلك بأنها مخيرة بين ثلاث بلا قضاء، وبين سبع ويقضي لسائر نسائه، قال القاضي عياض (¬4): ¬

_ (أ) في جـ: لك. (ب) في جـ: نضيع.

والمراد بـ "بأهلك" هنا نفسه - صلى الله عليه وسلم -؛ أي: إني لا أفعل فعلًا به هوانك عليَّ. وفيه دلالة على استحباب ملاطفة الأهل والعيال وغيرهم، وتقريب الحق من فهم المخاطب ليرجع إليه، والعدل بين الزوجات، والله أعلم. 877 - وعن عائشة رضي الله عنها، أن سودة بنت زَمَعة وهبت [يومها] (أ) لعائشة، (ب وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - ب) يقسمُ لعائشة رضي الله عنها يومها ويوم سودة. متفق عليه (¬1). هي سودة بنت زَمَعة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكان تزوجها بمكة بعد موت خديجة ودخل عليها بها (جـ) وهاجرت معه، وكان العقد بها بعد أن عقد على عائشة، وأما الدخول بعائشة فكان متأخرا. كذا في مسلم (¬2)، قال ابن الجوزي (¬3): والدخول بعائشة كان بعد سودة بالاتفاق، وهبت يومها لعائشة، وزاد البخاري (¬4) في الهبة: وليلتها. وزاد في آخره: تبتغي بذلك رضا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وفي رواية لمسلم (2): لما أن كبرت سودة وهبت ¬

_ (أ) في الأصل: نوبتها. (ب- ب) ساقطة من: جـ. (جـ) ساقطة من: جـ.

يومها. وأخرجه أبو داود (¬1) وبين فيه السبب بسند مسلم: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يفصّل بعضنا على بعض في القسم. الحديث. وفيه: ولقد قالت سودة بنت زمعة حين أسنت وخافت أن رفارقها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يا رسول الله، يومي لعائشة. فقبل ذلك منها، ففيها وأشباهها نزلت: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا} (¬2) الآية. وقد رواه سعيد بن منصور (¬3) عن أبي الزناد مرسلًا، لم يذكر فيه عائشة، وعند الترمذي (¬4) من حديث ابن عباس موصولًا، وكذا قال عبد الرزاق (¬5) عن معمر بمعنى ذلك، فتواردت هذه الروايات على أنها خشيت الطلاق فوهبت، وأخرج ابن سعد (¬6) بسند رجاله ثقات من رواية القاسم بن أبي بزة (أ) مرسلًا، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - طلقها، فقعدت له (ب) على طريقه، فقالت: والذي بعثك بالحق ما لي في الرجال حاجة، ولكني أحب أن أبعث مع نسائك يوم القيامة، فأنشدك بالذي أنزل عليك الكتاب، هل طلقتني لوجدة وجدتها علي؟ قال: "لا". قالت: فأنشدك لما راجعتني. فراجعها، قالت: فإني جعلت يومي وليلتي لعائشة حبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وكانت سودة تحت ابن عم لها يقال له: السكران بن ¬

_ (أ) في جـ: مرة. (ب) ساقطة من: جـ.

عمرو، أخو سهيل بن عمرو، أسلم معها وهاجرا جميعا إلى أرض الحبشة الهجرة الثانية، فلما قدما إلى مكة مات زوجها، ويقال: إنه مات بالحبشة. وأمها اسمها الشموس بنت قيس [من بني] (أ) عدي بن النجار، توفيت سودة بالمدينة في شوال سنة أربع وخمسين، وزَمَعة بفتح الزاي والميم، والعين المهملة، قال ابن الأثير (¬1): وسمعنا أهل الحديث والفقهاء يسكنون الميم. والحديث فيه دلالة على أن المرأة لها أن تهب نوبتها. وللفقهاء في ذلك تفصيل؛ وهو أنها إن وهبت لضرتها استحقتها بشرط أن يرضى الزوج، وذلك لأن الزوج له حق في الزوجة، فليس لها أن تسقط حقه منها إلا برضاه، كان وهبت للزوج أو قالت: خص بها من شئت. فذكر أصحاب الشافعي أن له أن يخص بها من شاء، وكذا ذكر الفقيه علي الوشلي للهدوية، وقال الإمام يحيى في "الانتصار": ليس له ذلك، بل تصير كالمعدومة. وقال الفقيه حسن النحوي: إن قالت [له] (ب): خص بها من شئت. فله ذلك، لا إذا أطلقت الهبة له، وأما إذا أسقطت ليلتها كانت كالمعدومة، ويصح من الصغيرة المميزة إذ لا غضاضة عليها، وكذا من الأمة، ومثل هذه الهبة إنما هي إسقاط حق فلا تفتقر إلى قبول، ويصح الرجوع لأن الحق متجدد. قال أصحاب الشافعي: فإذا رجعت ولم يعلم برجوعها حتى مضت نوبتها فلا قضاء عليه، كما في ¬

_ (أ) في الأصل: بن. (ب) ساقطة من: الأصل.

رجوع المبيح عن الإباحة قبل أن يعلم المباح له، فإنه لا ضمان عليه. والله سبحانه أعلم. 878 - وعن عروة قال: قالت عائشة رضي الله عنها: يا ابن أُختي، كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يفضِّلُ بعضَنا على بعض في القَسْم من مُكثه عندنا، وكان قلَّ يومٌ إلا (أ) وهو يطوفُ علينا جميعًا، فيدنُو من كلِّ امرأة من غير مَسيسٍ، حتى يبلُغ التي هُو (ب) يومُها، فيبيت عندها. رواه أحمد وأبو داود واللفظ له، وصححه الحاكم (¬1). ولمسلم (¬2) عن عائشة رضي الله عنها: كان رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إذا صلّى العصر دار على نسائه ثم يدنُو منهُن. الحديث. رواية أحمد: ما من يوم إلا وهو يطوف علينا جميعًا امرأة امرأة فيدنو ويلْمَس من غير مَسِيسٍ حتى يفضيَ إلى التي هو (ب) يومها فيبيت عندها. الحديث فيه دلالة على أن للرجل إيناس من لم يكن في يومها واللمس وغيره من التقبيل، وفي الحديث ذكر ما كان عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - من حُسْن الخلق وملاطفة الأهل. ¬

_ (أ) ساقطة من: جـ. (ب) في جـ: هي.

وقوله: فيدنو منهن. زاد (أ) ابن [أبي] (ب) الزناد، عن هشام بن عروة (¬1): بغير وقاع. وهذا يدفع ما ذهب إليه ابن العربي بأنه - صلى الله عليه وسلم - كان له ساعة من النهار لا يجب عليه القَسْم فيها وهي بعد العصر. قال المصنف (¬2) رحمه الله: ولم أجد لذلك دليلا. ثم قال المصنف (¬3) في باب دخول الرجل على نسائه، وذكر هذا الحديث من دولت الزيادة: وجدت له دليلا ولكنه يحمل المطلق على المقيد، فلا يتم الدليل له. 879 - وعن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يسأل في مرضِه الذي مات فيه: "أين أنا غدًا؟ ". يُريدُ يومَ عائشة، فأذِن له أزواجُه يكونُ حيثُ شاء، فكان في بيت عائشة. متفق عليه (¬4). قوله: كان يسأل. ذكره البخاري (¬5) في آخر (جـ) كتاب المغازي بزيادة: وكان أول ما بدئ به في مرضه في بيت ميمونة. ¬

_ (أ) زاد في الأصل: البخاري في باب لم تحرم ما أحل الله لك من رواية، وبعده في جـ: رواه البخاري في باب لم تحرم ما أحل الله لك من رواية. والمثبت من الفتح 9/ 317. (ب) ساقطة من: الأصل. (جـ) ساقطة من: جـ.

وقوله: فأذن له أزواجه. الحديث. وقع في رواية أحمد (¬1) عن عائشة أنه - صلى الله عليه وسلم - قال لنسائه: "إني لا أستطيع أن أدور بيوتكن، فإن شئتن أذِنتُنَّ لي". وذكر ابن سعد (¬2) بإسناد صحيحٍ عن الزهريّ أن فاطمة رضي الله عنها هي التي خاطبت أمهات المؤمنين، فقالت لهن: إنه يشق عليه الاختلاف. والجمع ممكن بأنه استأذن هو - صلى الله عليه وسلم - وفاطمةُ رضي الله عنها كذلك. ووقع في رواية ابن أبي مليكة (¬3) أن دخوله - صلى الله عليه وسلم - بيتها كان يوم الاثنين، ومات يوم الاثنين الذي يليه. وفي الحديث دلالة أنه إذا أذنت المرأة كان ذلك مُسقِطًا لحقها من النَّوبة، وظاهر الرواية أن الإذن وقع منهن الجميع بأن الأمر إليه، يكونُ حيث شاء، فخص عائشة. وترجم البخاري (¬4) في كتاب النكاح، باب إذا استأذن الرجل نساءه في أن يُمرَّض في بيت بعضهن فأذنَّ له. وساق اللفظ المذكور هنا، وظاهر الترجمة أنه استأذن بالكَوْنِ في بيت عائشة على التعيين، ولكن لفظ الحديث لا يدل عليه بخصوصه، ولعل ذلك مفهوم من قرائن الأحوال، أنه لا يعدل عن بيت عائشة، فالترجمة مطابقة لما قصد من اللفظ. والله أعلم. 880 - وعنها رضي الله عنها، قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أراد سفرًا أقرَعَ بين نسائه، فأيتهُنَّ خرَج سهمُها خرَج بها [معه] (أ). متفق عليه (¬5). ¬

_ (أ) ساقطة من: الأصل.

قوله: إذا أراد سفرًا أقرع بين نسائه. المراد القرعة بينهن لتعيين مَن يسافر بها منهن، وليست القرعة مختصة بحالِ السفر، بل إذا أراد القسْم بين زوجاته فعليه القرعة في البداية بأيهن إلا أن يرضين بشيء، جاز بلا قرعة. وظاهر الحديث وجوب القرعة في السفر وقد ذهب إليه الشافعي، وذهبت الهدوية إلى أن له السفرَ بمن شاء، ولا تجب القرعة، ووجهه أنه لا يجب عليه القَسْم في السفر، ويحملون الحديث أن ذلك لمكارمِ أخلاقه وحُسن شمائله في رعاية حقِّ الزوجات - صلى الله عليه وسلم -، ولا يجب القضاء لغير من سافر بها. وقال أبو حنيفة: يجب القضاء سواء كان سفره بقرعةٍ أو بغير قرعةٍ. وقال الشافعي: إن كان بقرعة لم يجب القضاء، وإن كان بغير قرعة وجب عليه القضاء. وأخرج ابن سعد (¬1) حديث عائشة المذكور وزاد فيه: فكان إذا خرج سهم غيري عرف فيه الكراهية. واستدل به على مشروعية القُرعة في القِسْمة بين الشُّركاء وغير ذلك، والمشهور عن الحنفية والمالكية عدم اعتبار القرعة، قال عياض (¬2): هو مشهور عن مالك وأصحابه؛ لأنها من باب الخطَر والقمار، وحكي عن الحنفية إجازتها. انتهى. واحتج من منع من المالكية بأن بعض النِّسوة قد تكون أنفع في السفر من غيرها، فلو خرجت القرعة للتي لا نفْعَ لها في السفر لأضرَّ بحال الزوج، ¬

_ = حديث الإفك وقبول توبة القاذف 4/ 2129، 2130 ح 2770/ 56. (¬1) الطبقات الكبرى 8/ 169، 170. (¬2) الفتح 9/ 311.

وكذا قد يكون بعض النساء أقوم برعاية مصالح بيت الرجل في الحضر، فلو خرج عليها القرعة بالسفر لأضر بحال الرجل من رعاية مصالح الحضر. وقال القرطبي (¬1): تختص مشروعية القرعة بما إذا اتفقت أحوالهن لئلا يخص واحدة فيكون ترجيحًا بلا مرجِّح. وهذا منهم تخصيص للحديث بالمعنى الذي شرع لأجله الحكم، والجري على ظاهره كما ذهب إليه الشافعي أقوم. والله أعلم. 881 - وعن عبد الله بن زمعة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يجلد أحدكم امرأته جلدَ العبدِ". رواه البخاري (¬2). هو عبد الله بن زمعة بن الأسود بن المطلب بن أسد بن عبد العزى، صحابي مشهور، وأمه قُرَيبة أخت أم سلمة أم المؤمنين، وكانت تحته زينب بنت أم سلمة، ليس له في "البخاري" سوى هذا الحديث، عِداده في أهل المدينة، روى عنه عروة بن الزبير وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام. وتمام الحديث في البخاري: "ثم يجامعها". وفي رواية أبي معاوية (¬3)؛ "ولعله أن يضاجعها". وفي رواية لأحمد بزيادة (¬4): "من آخر الليل" عن ابن عيينة. وله عند النسائي (¬5): "آخر النهار". وفي رواية ابن نمير (¬6) ¬

_ (¬1) الفتح 9/ 311. (¬2) البخاري، كتاب النكاح، باب ما يكره من ضرب النساء 9/ 302 ح 5204. (¬3) البخاري 8/ 705 ح 4942 معلقًا مختصرًا. (¬4) أحمد 4/ 17. (¬5) النسائي في الكبرى 5/ 371 ح 9166. (¬6) مسلم 4/ 2191 ح 2855/ 49.

والأكثر: "في آخر يومه". وفي رواية وكيع (¬1): "آخر الليل، أو من آخر الليل". وكلها متقاربة. وقوله: "لا يجلد". في نسخ البخاري بصيغة النهي، وفي كتاب التفسير في سورة "الشمس" (¬2) بلفظ: "يعمد أحدكم". وقد أخرجه الإسماعيلي (¬3) عن محمَّد بن يوسف شيخ البخاري بصيغة الخبر بحذف "لا" ورفع "يجلد". وفي رواية أبي معاوية وعبدة بن سليمان (¬4): "إلام يجلد". وفي رواية وكيع وابن نمير (¬5): "علام يجلد". وفي رواية ابن عيينة (5): وعظهم [في] (أ) النساء، فقال: "يضرب أحدكم". ومعنى الخبر والاستفهام هنا الإنكار، فهو موافق للنهي. و: "جَلْدَ العبدِ". بالنصب على أنه مفعول مطلق للنوع، أي مثل جلد العبد، وفي رواية لمسلم (¬6): "ضرب الأمة". وللنسائي (5) من طريق ابن ¬

_ (أ) في الأصل: من.

عيينة: "كما يضرب العبد أو الأمة". وفي رواية أحمد [بن] (أ) سفيان (¬1): "جلدَ البعير". وللبخاري في باب الأدب (¬2): "ضربَ الفَحْلِ أو العبد". والمراد بالفحل البعير، وفي رواية أبي داود (¬3) من حديث لقيط: "ولا تضرب ظعينتك ضربك أمتك". والحديث فيه دلالة على جواز تأديب الرقيق بالضرب الشديد، والإيماء إلى جواز ضرب الزوجة دون ذاك، وترتيب قوله: "ثم يجامعها". يدل على أن عِلة النهي أن ذلك لا يستحسنه العقلاء في مجرى العادات؛ لأن الجماع والمضاجعة إنما تليق مع ميل النفس والرغبة في العِشْرة، والمجلود غالبًا ينفر ممن جلده، وإذا كان ولا بد من التأديب كان تأديبًا مستحسنا لا يحصل معه النفور التام كما قال سبحانه وتعالى {وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ} (¬4). وقد جاء النهي عن ضرب النساء مطلقًا، فعند أحمد وأبي داود والنسائي وصححه ابن حبان والحاكم (¬5) من حديث إياس بن عبد الله بن أبي ذباب، بضم المعجمة وبموحدتين الأولى خفيفة، رفَعه: "لا تضربوا إماء الله". فجاء عمر فقال: ¬

_ (أ) في الأصل، جـ: و. والمثبت من الفتح 9/ 303، وينظر تهذيب الكمال 1/ 319.

قد ذَئر (أ) النساءُ على أزواجهن -بفتح المعجمة وكسر الهمزة بعدها راء، أي نشَز، بنون ومعجمة وزاي. وقيل: معناه غضب واستب- فأذن لهم فضربوهن، فأطاف بآل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نساء كثير، فقال - صلى الله عليه وسلم -: "لقد أطاف بآل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سبعون امرأة كلهن يشتكين أزواجهن، ولا تجدون أولئك أخياركم". وله شاهد من حديث ابن عباس في "صحيح ابن حبان" (¬1)، وآخر مرسل من حديث أم كلثوم بنت أبي بكر عند البيهقي (¬2)، قال الشافعي: يحتمل أن يكون النهي للكراهة، والإذن فيه قرينة على ذلك فيكون مباحًا، ويحتمل أن يكون قبل نزول الآية بضَرْبِهن ثم أذن بعد نزولها فيه. وعلى قاعدة من يبني العام على الخاص مطلقًا كالشافعي أن يقول: الضرب في الآية مُقيَّد بالنشوز، والمطلق في الحديث مقيد بذلك، والنهي العام مخصص بحالة النشوز، والتأويل المذكور إنما يحتاج إليه من يجعل العام المتأخر ناسخًا للخاص المتقدم، فإذا جهل التاريخ حصل التعارض واحتاج إلى التأويل. والله سبحانه أعلم. وقد أخرج النسائي (¬3) في الباب حديث عائشة رضي الله عنها: ما ضرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - امرأة له ولا خادما قط، ولا ضرب بيده شيئًا قط إلا في (ب) سبيل الله، أو تُنْتَهك محارم الله، فينتقم لله. ولكن ذلك لكرم خُلُقِه - صلى الله عليه وسلم - ورأفته بالمؤمنين ورحمته للعالمين. ¬

_ (أ) في جـ: ذئرن. (ب) ساقط من: جـ.

باب الخلع

باب الخلع الخُلْعُ -بضم المعجمة وسكون اللام- في اللغة: فراق الزوجة على مال، مأخوذ من خلع الثوب؛ لأن المرأة لباس الرجل مجازًا، وضم المصدر تفرقة بين الحقيقي والمجازي، وفي الشرع: فراق الرجل زوجته بعوض للزوج مع شرائط. وأجمع العلماء على مشروعيته، إلا بكر بن عبد الله المزني التابعي المشهور فإنه قال: لا يحل للرجل أن يأخذ من امرأته في مقابل فراقها شيئًا؛ لقوله تعالى: {فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا} (¬1). فأوردوا عليه قوله تعالى: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} (¬2). فادعى نسخها بآية "النساء". أخرجه ابن أبي شيبة وغيره (¬3) عنه، ورد عليه بآية "النساء" أيضًا: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ} (¬4). وبقوله تعالى: (فلا جَناح عليهما أن يَصَّالحا) (¬5). وبالحديث، وانعقد الإجماع بعده على اعتباره، وبأن آية "النساء" مخصصة بآية "البقرة" وبآيتي "النساء" الآخرتين والحديث. وهو مكروه إلا لخشية ألا يقيما حدود الله أو أحدهما، وذكر المصنف (¬6) رحمه الله تعالى أنه لا كراهة فيه إذا خشيا أن يئول الطلاق إلى التثليث، ¬

_ (¬1) الآية 20 من سورة النساء. (¬2) الآية 30 من سورة البقرة. (¬3) ينظر المحلى 11/ 586، والتمهيد 23/ 375، والفتح 9/ 395. (¬4) الآية 4 من سورة النساء. (¬5) قرأ الكوفيون (يُصْلِحا) بضم الياء وإسكان الصاد وكسر اللام من غير ألف، وقرأ الباقون بفتح الياء والصاد والسلام وتشديد الصاد وألف بعدها. النشر 2/ 190. (¬6) الفتح 9/ 396.

وذكر أبو بكر بن دريد أن أول خلع وقع في الدنيا أن عامر بن الظَّرِب -بفتح المعجمة وكسر الراء ثم موحدة- زوَّج ابنته من ابن أخيه عامر بن الحارث بن الظرب، فلما دخلت عليه نفرت منه، فتشكى إلى أبيها، فقال: لا أجمع عليك فراق أهلك ومالك، وقد خلعتها منك بما أعطيتها. قال: فزعم العلماء أن هذا كان أول خلع كان في العرب، وأما في الإِسلام فهو في قصة امرأة ثابت في حديث الباب. 882 - وعن ابن عباس رضي الله عنه أن امرَأةَ ثابت بن قيس أتَت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت: يا رسول الله، ثابث بنُ قيسٍ ما أعيبُ عليه في خُلق ولا دين، ولكني أكره الكفرَ في الإِسلامِ. فقال رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "أترُدِّين عليه حديقته؟ ". قال: فقالت: نعم. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "اقبل الحديقةَ، وطلِّقْها تَطلِيقةً". رواه البخاري (¬1)، وفي رواية (¬2) له (أ): وأمره بطلاقها. ولأبي داود والترمذي (¬3) وحسنه أن امرأة ثابت بن قيس اختلعت منه، فجعل النبي - صلى الله عليه وسلم - عدتها حيضةً. وفي رواية عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده عند ابن ماجه (¬4) أن ثابت بن قيسٍ كان دميمًا، وأن امرأته قالت: لولا مخافةُ اللهِ إذا دخَل علي لبصقْتُ في وجهِه. ¬

_ (أ) ساقطة من: جـ.

ولأحمد (¬1) من حديث سهل بن أبي حثمة: وكان ذلك أولَ خلعٍ في الإِسلامِ. قوله: امرأة ثابت. اختلفت الرواية في إبهام اسم المرأة، وفي تعيين اسمها؛ فأبهم البخاري في هذه الطريق، وسماها في طريق مرسلة (¬2) عن عكرمة بجميلة. وفي أخرى مرسلة (¬3): أن أخت عبد الله بن أبي. وفي رواية النسائي والطبراني (¬4) من حديث الربيع بنت (أ) معوذ: أنها جميلة بنت عبد الله بن أبي. وبذلك جزم ابن سعد في "الطبقات" (¬5)، وقال: أسلمت وبايعت، وكانت تحت حنظلة بن أبي عامر غَسيل الملائكة، فقتل عنها بأحد وهي حامل فولدت له عبد الله بن حنظلة، فخلف عليها ثابت بن قيس، فولدت له ابنه محمدًا، ثم اختلعت منه، فتزوجها مالك بن الدخشم، ثم خبيب بن إساف. وأخرج الدارقطني والبيهقي (¬6) -وسنده قوي مع إرساله- عن أبي الزبير أن اسمها زينب بنت عبد الله بن أبي ابن سلول. ولا ينافي الذي قبله لاحتمال أن يكون لها اسمان، وإلا فالرواية الأولى أولى؛ لوصلها وتأييدها بقول أهل النسب، وبه جزم الدمياطي، وأنها أخت عبد الله بن عبد الله بن أبي، شقيقته، أمهما خولة بنت المنذر بن حرام، ووهم الدمياطي البخاري حين قال: جميلة أخت عبد الله بن أبي، ورد عليه بأن علي مقام ¬

_ (أ) في جـ: بن.

البخاري يبعد عن الوهم، ولكنه قال: أخت عبد الله بن أُبي. وأراد بعبد الله عبد الله بن عبد الله بن أبيٍّ، ولكنه نسبه إلى جده أُبي، كما وقع في رواية قتادة نسبتها إلى جدتها سلول، وهذا وجه الجمع، وأما ابن الأثير والنووي (¬1) فجزما بأنها أخت عبد الله بن أُبي، ووهَّما من قال أنها بنت عبد الله. وبعضهم جمع بين الروايات [بأن] (أ) أخت عبد الله بن أبي جميلة تزوجها ثابت وخالعها، وكذلك بنت عبد الله بن أبي تزوجها وخالعها واحدة بعد واحدة، ولا يخفى بُعدُه، والأصح عدم التعدد لا سيما مع اتحاد المخرج، وقد سماها النسائي وابن ماجه (¬2) من طريق محمَّد بن إسحاق مريم المَغالية؛ بفتح الميم وتخفيف الغين المعجمة نسبة إلى مغالة ينسب إليها بنو عدي بن النجار، اسم امرأة من الخزرج، ومنهم عبد الله بن أبي وحسان بن ثابت وجماعته من الخزرج، فإذا كان عبد الله من بني مغالة فالنسبة صحيحة، والوهم وقع في تسميتها مريم، مع أنه يحتمل أن لها اسما ثالثا، أو بعضها لقب. وقول ثالث أن اسمها حبيبة بنت سهل، أخرجه مالك (¬3) في "الموطأ" عن حبيبة بنت سهل، أنها كانت تحت ثابت بن قيس بن شماس، وأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج إلى الصبح فوجد حبيبة عند بابه في الغلس، فقال: "من هذه؟ ". فقالت: أنا حبيبة بنت سهل. قال: "ما شأنك؟ ". قالت: لا أنا ولا ثابت بن قيس -لزوجها- الحديث. وأخرجه أصحاب "السنن الثلاثة" ¬

_ (أ) في الأصل: فإن.

وصححه ابن خزيمة وابن حبان (¬1) من هذا الوجه، وأخرجه أبو داود (¬2) من طريق أخرى عن عائشة أن حبيبة بنت سهل كانت عند ثابت. قال ابن عبد البر (¬3): اختلف في امرأة ثابت بن قيس؛ فذكر البصريون أنها جميلة بنت أبي، وذكر المدنيون أنها حبيبة بنت سهل. قال المصنف (¬4) رحمه الله تعالى: والذي يظهر أنهما قصتان [وقعتا] (أ) لامرأتين، لشهرة الخبرين، وصحة الطريقين، واختلاف السياقين، وقد [أخرج] (ب) البزار (¬5) من حديث عمر قال: أول مختلعة في الإِسلام حبيبة بنت سهل كانت تحت ثابت بن قيس. الحديث. وهذا يقتضي أن ثابتًا تزوج حبيبة قبل جميلة، ويقوي ما ذكره البصريون أن محمَّد بن ثابت بن قيس من (جـ) جميلة كما تقدم. وقول رابع ذكره ابن الجوزي في "تنقيحه" (¬6) أنها سهلة بنت حبيب. قال المصنف (4) رحمه الله: وما أظنه إلا مقلوبًا، والصواب حبيبة بنت ¬

_ (أ) في الأصل، جـ: وقعا. والمثبت من الفتح 9/ 399. (ب) في الأصل: أورده. (جـ) في جـ: بن.

سهل، وقد ترجم لها ابن سعد في "الطبقات" (¬1)، فقال: بنت سهل بن ثعلبة بن الحارث، وأخرج حديثها عن يحيى بن سعيد، قال: كانت حبيبة بنت سهل تحت ثابت ابن قيس، وكان في خلقه شدة. فذكر نحو حديث مالك، وزاد في آخره: وقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - همّ أن يتزوجها، ثم كره ذلك لغيرة الأنصار، وكره أن يسوءهم في نسائهم. وثابت بن قيس بن شَمَّاس، بفتح الشين المعجمة وتشديد الميم والسين المهملة، خزرجي أنصاري، شهد أحدًا وما بعدها من المشاهد، من أكابر الصحابة وأعلام الأنصار، شهد له النبي - صلى الله عليه وسلم - بالجنة، وكان خطيب الأنصار وخطيب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، استشهد يوم اليمامة سنة اثنتي عشرة، روى عنه أنس بن مالك ومحمد وإسماعيل وقيس أولاده. قوله: ما أعتُب. بضم المثناة من فوق، ويجوز كسرها، من العتاب، يقال: عتبت على فلان. أعتب عتبًا، والاسم المعتبة، والعتاب هو الخطاب بإدلال، وقد روي بكسر العين المهملة وتحتانية ساكنة من العيب، وهو أليق بالمراد. قوله: في خُلُق ولا دين. بضم الخاء المعجمة واللام، ويجوز إسكانها، والمعنى: أنها لا تريد مفارقته لسوء خلقه ولا لنقصان دينه، زاد البخاري (¬2) في رواية: ولكني لا أطيقه. وزاد الإسماعيلي ثم البيهقي (¬3) ذكر التمييز ¬

_ (¬1) ابن سعد 8/ 445. (¬2) البخاري 9/ 395 ح 5275. (¬3) الإسماعيلي -كما في الفتح 9/ 400، والبيهقي 7/ 313.

بلفظ: لا أطيقه بغضا. ولا ينافي هذا ما في رواية النسائي (¬1) أنه كسر يدها؛ لأنه قد يغتفر مثل هذا مع المودة، فالباعث لها هو البغض، وكذا في قصة حبيبة بنت سهل عند أبي داود (¬2) أنه ضربها فكسر بعضها, لكنها لم تشك منه ذلك، وإنما صرحت بأنه سيئ الخَلق دميمه (أ) كما في حديث عمرو بن شعيب عند ابن ماجه (¬3): كانت حبيبة بنت سهل عند ثابت بن قيس، وكان رجلًا دميما (ب). الحديث، وكذا في رواية عبد الرزاق (¬4) قال: بلغني أنها قالت: يا رسول الله، في (جـ) من الجمال ما ترى، وثابت دميم (د). وفي رواية معتمر (¬5) (هـ) عن ابن عباس: أول خلع كان في الإِسلام امرأة ثابت بن قيس؛ أتت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت: يا رسول الله، لا يجتمع رأسي ورأس ثابت أبدًا، إني رفعت جانب الخباء فرأيته أقبل في عدة، فإذا هو أشدهم سوادًا، وأقصرهم قامة، وأقبحهم وجها، فقال: "أتردين عليه حديقته؟ ". قالت: نعم وإن شاء زدته. ففرق بينهما. ¬

_ (أ- أ) في جـ: ذميمه. (ب) في جـ: ذميما. (جـ) في جـ: بي. (د) في جـ: ذميم. (هـ) زاد في الأصل: أخرجه.

قوله: ولكني أكره الكفر في الإِسلام. أي أكره إن أقمت عنده أن أقع فيما يقتضي الكفر، والمراد وقوع ما يضادد الإِسلام من النشوز وفرك (أ) الزوج، وغير ذلك مما يتوقع من الشابة الجميلة المبغضة لزوجها إذا كان بالضد منها، فأطلقت على ما ينافي مقتضى الإِسلام الكفر مبالغة في ذلك، كما في قوله تعالى: {وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} (¬1). ويحتمل مجاز الحذف، أي أكره لوازم الكفر، أو أن شدة البغض قد يحملها على الكفر الحقيقي وإظهاره ليقع بذلك فسخ النكاح عند تعذر الطلاق، وأما احتمال أنه يحملها على الكفر بأمره لها، فيدفعه قولها: ما أعتب عليه في خلق ولا دين. قوله: "أتردين عليه؟ ". وفي رواية: "فتردين؟ ". والفاء عاطفة على مقدر محذوف، وفي رواية: "تردين؟ ". بحذف الاستفهام، والمعنى: عليه. وقوله: "حديقته". أي بستانه. وفي حديث عمر (¬2): كان تزوجها على حديقة نخل. قوله: قالت: نعم. زاد في حديث عمر: فقال ثابت: أيطيب ذلك يا رسول الله؟ قال: "نعم". ¬

_ (أ) في جـ: ترك.

قوله: "اقبل الحديقة، وطلقها تطليقة". الأمر للإرشاد والإصلاح، لا للإيجاب، ووقع في رواية جرير بن حازم (¬1): فردت عليه وأمره ففارقها. الحديث فيه دلالة على صحة الخلع، وعلى أنه يحل أخذ العوض من المرأة، وفي ذلك أقوال، فذهب إلى ذلك الهادي والقاسم والناصر والزهري والنخعي وداود وعطاء وأهل الظاهر، واختاره ابن المنذر إلا أنه يشترط نشوز المرأة كما في قصة ثابت، ولقوله تعالى: {إلا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} (¬2). وقوله تعالى: {إلا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} (¬3). وذهب أبو حنيفة والشافعي ومالك والمؤيد بالله وأكثر أهل العلم إلى أنه يصح الخلع بالتراضي بين الزوجين، وإن كانت الحال مستقيمة بينهما، ويحل العوض، لقوله تعالى: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا} (¬4) الآية. ولم يفرق، ولقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إلا بطيبة من نفسه" (¬5). ولأنه إذا جاز الأكل من الصداق، ولم يحصل لها به عوض فمع حصول العوض أولى، والحديث لا يدل على منع هذه الحال، وقوله تعالى: {إلا أَنْ يَخَافَا}. يحتمل أن يراد به حقيقة الخوف الذي هو الظن والحسبان في حصول ذلك في المستقبل، فيدل على جوازه، وإن كان الحال مستقيمًا بينهما مقيمينِ حدود الله في الحال، فيؤيد ما قاله الجمهور، ويحتمل أن يراد به العلم بوقوع إلا أن يخافا ألا يقيما، ¬

_ (¬1) البخاري 9/ 395 ح 5276. (¬2) الآية 229 من سورة البقرة. (¬3) الآية 19 من سورة النساء. (¬4) الآية 4 من سورة النساء. (¬5) تقدم تخريجه في 6/ 255.

فيتأيد به القول الأول؛ لأنه لا يتأتى العلم إلا بتحققه في الحال، وذهب الحسن وسعيد بن جبير وابن سيرين إلى أنه لا يصح الخلع إلا بحضور السلطان، أخرج عن الحسن سعيد بن منصور (¬1)، وأخرج عن ابن سيرين حماد بن زيد، واختاره أبو [عبيد] (أ)، واستدل لذلك بقوله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} (¬2). وقوله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا} (¬3). والخطاب لغير الزوجين، وهو خطاب للولاة بالاتفاق، وقرأ حمزة أول الآية: (إلا أن يُخَافَا) (¬4) مبنيًّا للمفعول، قال الطحاوي: هذا القول شاذ، مخالف لما عليه الجم الغفير، والقياس يرده أيضًا؛ فإن الطلاق جائز من دون الحاكم فكذا الخلع، وقد حكم [عمر] (ب) بخلافه، قال البخاري (¬5): وأجاز عمر الخلع دون السلطان. أي بغير إذنه، وقد وصله ابن أبي شيبة (¬6) من طريق خيثمة بن عبد الرحمن، قال: أُتِي بشر بن مروان وهو والي المدينة في خلع كان بين رجل وامرأة فلم يجزه، فقال له عبد الله بن شهاب الخولاني: قد أُتي عمر في خلع فأجازه. والآية الكريمة خرجت على حكم الغالب، وقد أنكر قتادة هذا على الحسن، فأخرج سعيد بن أبي عروبة ¬

_ (أ) في الأصل، جـ: عبيدة. والمثبت من الفتح 9/ 396. (ب) ساقطة من: الأصل.

في كتاب النكاح عن قتادة عن الحسن فذكره. قال قتادة: وما أخذ الحسن هذا إلا عن زياد. يعني حين كان أميرًا لمعاوية على العراق، وزياد ليس أهلا لأن يقتدى به. وذهب أبو قلابة والحسن البصري ومحمد بن سيرين إلى أنه لا يجوز أخذ الفدية منها إلا أن يرى على بطنها رجلًا. أخرجه ابن أبي شيبة (¬1)، وكأنهم لم يبلغهم الحديث، واستدل ابن سيرين بظاهر قوله تعالى: {إلا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} (¬2). وهو يحتمل أن يراد بالفاحشة النشوز، ولكن الظاهر أن المراد بها الزنى؛ لأن الآية الكريمة مراد بها أن الرجل لا يجوز له العضل، وهو المهاجرة لزوجته والإيذاء لها لتفتدي منه، إلا إذا أتت بفاحشة مبينة جاز له مهاجرتها لتفتدي منه، ولا يجب عليه أن يفضحها بالقذف لها، بل هذه الحالة أسلم فيجوز له أن يفتدي منها بما تراضيا عليه ويطلقها، فلا مخالفة للحديث، ويتأول ما ذهب إليه أبو قلابة بهذه الحال، وذهب ابن المنذر إلى أنه لا يجوز أخذ الفداء إلا إذا وقع الشقاق منهما جميعًا، وإن كان من أحدهما لم يجز، وهو موافق لظاهر الآيتين ولا يطابق الحديث، وأجاب الطبري (¬3) عن ظاهر الآية بأنه نسب إليهما عدم الإقامة؛ لأنه إذا كان من الزوجة عدم القيام بحقوق الزوج التي أمرت بها، كان ذلك حاملًا للزوج على مثل ذلك بحسب الأغلب، فينسب إليهما جميعًا الفعل، فلا يتم الاستدلال. ودل الحديث على أنه يأخذ منها مثل ما سلم إليها أو قدر ذلك، وأما ¬

_ (¬1) ابن أبي شيبة 5/ 107. (¬2) الآية 19 من سورة النساء. (¬3) تفسير ابن جرير 2/ 461.

الزيادة عليه؛ فذهب عطاء وطاوس والزهري وأحمد وإسحاق والأوزاعي والهدوية إلى أنه لا يزداد شيئًا لهذا الحديث، وقد وقع عند ابن ماجه والبيهقي (¬1) في رواية سعيد عن قتادة عن عكرمة عن ابن عباس في آخر حديث الباب: فأمره أن يأخذ منها ولا يزداد. ورواه ابن جريج عن عطاء مرسلًا، وفي رواية ابن المبارك وعبد الوهاب عنه: أما الزيادة فلا. وزاد ابن المبارك عن مالك، وفي رواية الثوري: وكره أن يأخذ منها أكثر مما أعطى. وذكر ذلك كله البيهقي (¬2)، قال: ووصله الوليد بن مسلم عن ابن جريج بذكر ابن عباس فيه. أخرجه أبو الشيخ، قال: وهو غير محفوظ. يعني الصواب إرساله، وفي مرسل أبي الزبير عند الدارقطني والبيهقي (¬3): "أتردين عليه حديقته التي أعطاك؟ ". قالت: نعم وزيادة. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أما الزيادة فلا, ولكن حديقته". قالت: نعم. فأخذ ماله، وخلى سبيلها. ورجال إسناده ثقات، ووقع في بعض طرقه: سمعه أبو الزبير من غير واحد. فإن كان فيهم صحابي فهو صحيح، وإلا فيعتضد بما سبق، لكن ليس فيه دلالة على أن ذلك شرط في الخلع، فقد يكون ذلك على سبيل المشورة رفقًا بها، وأخرج عبد الرزاق (¬4) عن علي: لا يأخذ منها فوق ما أعطاها. وعن طاوس وعطاء والزهري مثله. وأخرج إسماعيل بن إسحاق عن ميمون بن مهران: من أخذ أكثر مما أعطى لم يسرِّح بإحسان. بل أخرج عبد الرزاق (¬5) ¬

_ (¬1) ابن ماجه 1/ 663 ح 2056، والبيهقي 7/ 313. (¬2) البيهقي 7/ 314. (¬3) الدارقطني 3/ 255 ح 39، والبيهقي 7/ 314. (¬4) عبد الرزاق 6/ 501 - 503 ح 11838 - 11842، 11844، 11845. (¬5) عبد الرزاق 6/ 503 ح 11846، 11847.

بسند صحيح عن سعيد بن المسيب قال: ما أحب أن يأخذ منها ما أعطاها، ليدع لها شيئًا. وذهب الشافعي ومالك إلى أنه تحل الزيادة إذا كان النشوز من قِبَلِ المرأة، قال مالك: لم أزل أسمع أن الفدية تجوز بالصداق وبأكثر منه لقوله تعالى: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ}. ولحديث حبيبة بنت سهل، فإذا كان النشوز من قِبَلِها حلَّ للزوج ما أخذ منها برضاها، وإن كان من قبله لم يحل له ويرد عليها إن أخذ، وتمضي الفرقة، وقال الشافعي: إذا كانت غير مؤدية لحقه (أ) كارهة له، حل له أن يأخذ؛ لأنّه يجوز له أخذ ما طابت نفسها [بغير] (ب) سبب، فبالسبب أولى. وقال إسماعيل القاضي (¬1): ادعى بعضهم أن المراد بقوله تعالى: {فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ}. أي: بالصداق. وهو مردود لأنه لم يقيد في الآية بذلك، وحكى في "البحر" الخلاف في أنه يجوز أخذ الزيادة مطلقًا عن الحنفية والشافعية والمؤيد بالله والإمام يحيى، واحتُج لهم بحديث أبي سعيد الخدري (¬2) أنه قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لأخته: "وزيديه". ذكره في "أصول الأحكام"، وقد روي عن عثمان أخرجه في "أمالي أبي القاسم بن بشْران" من طريق شريك عن عبد الله بن محمَّد بن عقيل، عن الربيع بنت معوذ قالت: اختلعت من زوجي بما دون عقاص (¬3) ¬

_ (أ) في جـ: بحقه. (ب) في الأصل: لغير.

رأسي، فأجاز ذلك عثمان. وفي رواية البيهقي (¬1) قالت في آخره: فدفعت إليه كل شيء، حتى أجفت الباب بيني وبينه. فمعنى: دون العقاص، أي سوى، وقال سعيد بن منصور (¬2): حدثنا هشام، عن مغيرة، عن إبراهيم: كان يقال: الخلع ما دون عقاص رأسها. وعن سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: يأخذ من المختلعة حتى عقاصها. ومن طريق قبيصة بن ذؤيب: إذا خلعها جاز أن يأخذ منها أكثر مما أعطاها. ثم تلا: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ}. وسنده صحيح، وأخرج ابن سعد (¬3) في ترجمة الربيع بنت معوذ من طبقات النساء أنها قالت لزوجها: لك كل شيء وفارقني. قال: قد فعلت. فأخذ والله كل شيء حتى فراشي، فجئت عثمان وهو محصور، فقال: الشرط أملك، خذ كل شيء حتى عقاص رأسها. قال ابن بطال (¬4): ذهب الجمهور إلى أنه يجوز للرجل أن يأخذ في الخلع أكثر مما أعطاها. وقال مالك: لم أر أحدا ممن يقتدى به يمنع ذلك، لكنه ليس من مكارم الأخلاق. قوله: "اقبل الحديقة، وطلقها تطليقة". الأمر بقوله: "اقبل"، و"طلقها". أمر إرشاد، والحديث فيه دلالة على أن الواقع من ثابت هو لفظ الطلاق دون الخلع، وأن المواطأة على رد المهر لأجل الطلاق يكون خلعًا، وأما إذا وقع بلفظ الخلع فمذهب الهدوية وهو قول للشافعي نص عليه في ¬

_ (¬1) البيهقي 7/ 315. (¬2) سنن سعيد بن منصور 1/ 334 ح 1424، 1425، 1427. (¬3) ابن سعد 8/ 447، 448. (¬4) شرح ابن بطال على البخاري 7/ 422، 423.

كتبه الجديدة، وقول جمهور العلماء: إنه طلاق، سواء وقع بلفظ الخلع وما يصرف منه، أو بغير لفظه بنيته. وقد نص الشافعي في الإملاء على أنه من صرائح الطلاق، وحجتهم أنه لفظ لا يملكه إلا الزوج فكان طلاقًا, ولو كان فسخًا لما جاز على غير الصداق كالإقالة، وهو يجوز عند الجمهور بما قل وكثر، فدل على أنه طلاق. والثاني: وهو قول للشافعي في القديم، وذكره في أحكام القرآن من الجديد أنه فسخ وليس بطلاق، وصح ذلك عن ابن عباس [أخرجه عبد الرزاق (¬1)، و] (أ) عن ابن الزبير، وروي عن عثمان وعلي وعكرمة وطاوس، وهو مشهور مذهب أحمد، وقد وقع في بعض طرق حديث الباب عند أبي داود والترمذي (¬2) أنه أمرها أن تعتد بحيضة. وعند أبي داود والنسائي وابن ماجه (¬3) من حديث الربيع بنت معوذ أن عثمان أمرها أن تعتد بحيضة، قالت: وتبع عثمان في ذلك قضاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في امرأة ثابت بن قيصر. وفي رواية النسائي والطبراني (¬4) من حديث الربيع بنت معوذ أن ثابت بن قيس ضرب امرأته. فذكر نحو حديث الباب، وقال في آخره: "خذ الذي لها، وخل سبيلها". قال: نعم، فأمرها أن تتربص حيضة ¬

_ (أ) في الأصل، جـ: وأخرجه عبد الرزاق. والمثبت موافق للفتح 9/ 396.

و [تلحق] (أ) بأهلها. قال الخطابي (¬1): في هذا أقوى دليل لمن قال: إن الخلع فسخ، وليس بطلاق. إذ لو كان طلاقًا لم يكتف بحيضة [للعدة] (ب). انتهى. والإمام أحمد قال: لا بد من ثلاثة أقراء. مع أنه يقول: إن الخلع فسخ. والثالث: أنه لا يقع به فرقة إلا إذا نوى به الطلاق. نص عليه الشافعي في "الأم"، وقواه السبكي من المتأخرين، وذكر محمَّد بن نصر المروزي في كتاب "اختلاف العلماء" (¬2) أنه آخر قوله الشافعي. والرابع: ذهب إليه أبو ثور، وهو أنه إن كان بلفظ الطلاق فهو طلاق، وإن كان بلفظ المفاداة فهو فسخ، وأجابوا عن الحديث بأنه مرسل ومضطرب؛ فإنه روي أنه جعل عدتها حيضة ونصفًا. وفائدة الخلاف؛ أنه هل تعتد به في التطليقات أم لا؟ وجمهور من رأى أنه طلاق يجعله بائنا, لأنه لو كان للزوج الرجعة لم يكن لافتدائها فائدة، وقال أبو ثور: إن لم يكن بلفظ الطلاق لم يكن له عليها رجعة، وإلا كان له الرجعة. واحتج من جعله طلاقًا بأن الفسخ إنما يقتضي الفرقة التي لا اختيار للزوج فيها، وهذا راجع إلى الاختيار فليس بفسخ، واحتج من لم يره طلاقًا بأن الله تبارك وتعالى ذكر في كتابه الطلاق فقال: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ}. ثم ¬

_ (أ) في الأصل: تلتحق. (ب) ساقط من: الأصل.

ذكر الافتداء، ثم قال: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} (¬1) الآية. فلو كان الافتداء طلاقًا لكان الطلاق الذي لا تحل له [فيه] (أ) إلا بعد زوج هو الطلاق الرابع، وسبب الخلاف، هل اقتران العوض بهذه الفرقة يخرجها من نوع فرقة الطلاق إلى نوع فرقة الفسخ أم لا يخرجها؟ وهذا مذهب ابن عباس رضي الله عنه. وعن إبراهيم بن سعد بن أبي وقاص أن رجلًا سأل ابن عباس رضي الله عنه عن رجل طلق امرأته طلقتين، ثم اختلعها، قال: نعم لينكحها، فإن الخلع ليس بطلاق، ذكر الله عَزَّ وَجَلَّ الطلاق في أول الآية وآخرها، والخلع فيما بين ذلك، فليس الخلع بشيء. ثم قال: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ}. ثم قرأ: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ}. واختلف العلماء في أنه يلحق الطلاق الخلع أم لا؟ فذهب أبو حنيفة والثوري إلى أنه يلحق، واستنبطوا ذلك من قوله تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ}. بعد (ب) ذكر الافتداء، واستدلوا بآثار ضعيفة، وذهب العترة ومالك والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور إلى أن الخلع لا يلحقه طلاق، واحتجوا بما رواه عطاء (¬2) عن ابن عباس وابن الزبير، أنهما قالا في المختلعة: لا يلزمها طلاق؛ (جـ لأنه طلاق جـ) ما لا يملك. وذهب الحسن ومالك إلى أنه ¬

_ (أ) ساقطة من: الأصل. (ب) ساقطة من: جـ. (جـ- جـ) ساقط من: جـ.

يلحقها في القرب لا في البعد، يعني الوقت القريب، قال البصري: والقرب أن يطلقها بائنًا في المجلس لا بعده. وقال مالك: بل متصلًا بالخلع، والمنفصل بعيد. والجواب أنه لا تأثير للقرب والبعد. وجمهور العلماء إلى أن الزوج ليس له الرجعة على المختلعة في العدة وإلا خلا الافتداء عن الفائدة، وروي عن سعيد بن المسيب وابن شهاب أنهما قالا: إن رد لها ما أخذ منها في العدة أشهد على رجعتها (¬1). وفي "البحر" عنهما أنه يخير بين أخذ العوض ولا رجعة، أو تركه (أ) وله الرجعة، فمتى قبضه بطل خياره. انتهى. وأبو ثور يقول: له ذلك (ب) إن كان بلفظ الطلاق. والجمهور اتفقوا على أن له أن يتزوجها برضاها في عدتها، وقالت فرقة: لا يتزوجها هو ولا غيره في العدة. وسبب الخلاف؛ هل المنع من النكاح في العدة حكم تعبدي (ب) أو لأجل استبراء الرحم؟ وهذه الأحكام المتعلقة بالحديث، وقد ذكر الفقهاء للخلع شروطًا وألفاظًا وتقاسيم، تفصيلها في كتب الفروع، ورجوعها إلى أقيسة ونظائر من أحكام الطلاق والعقود، ولا شاهد على شيء من ذلك في الكتاب العزيز ولا في السنة النبوية وأحكام الصحابة، واعلم أن الخلع يسمى فدية وافتداء وصلحًا ومبارأة، وهي تئول إلى معنى واحد، وهو بذل المرأة ¬

_ (أ) في جـ: ترك. (ب) زاد في جـ: و. (جـ) في جـ: يتعدى.

العوض على طلاقها (أإلا أن أ) اسم الخلع يختص ببذلها جميع ما أعطاها، والصلح ببعضه، والفدية بأكثره، والمبارأة بإسقاطها عنه حقًّا لها عليه. والله أعلم. ¬

_ (أ- أ) في جـ: لأن.

البدر التمام شرح بلوغ المرام للإمام القاضي الحسين بن محمد المغربي (1048 هـ -1119 هـ) تحقيق علي بن عبد الله الزبن عضو هيئة التدريس بجامعة الإِمام محمَّد بن سعود الإِسلامية قدم له فضيلة الشيخ صالح بن محمد اللحيدان رئيس مجلس القضاء الأعلى الجزء الثامن

البدر التمام شرح بُلوغ المرام

حقوق الطبع محفوظة الطبعة الأولى 1428 - هـ - 2007 م

كتاب الطلاق

بسم الله الرحمن الرحيم كتاب الطلاق الطلاق في اللغة: حل الوثاق، مشتق من الإطلاق وهو الإرسال والترك، وفلان طلق اليد بالخير، أي كثير البذل. وفي الشرع: حل عقدة التزويج (أ). وهو موافق لبعض مدلوله اللغوي، قال إمام الحرمين (¬1): هو لفظ جاهلي ورد الشرع بتقريره. وطَلقت المرأة بفتح الطاء وضم اللام -وبفتحها أيضًا- وهو أفصح، وبضم الطاء وكسر اللام المثقلة، فإن خففت فهو خاص بالولادة، والمضارع فيهما (ب) بضم اللام، والمصدر في الولادة: طَلْقًا ساكنة اللام، فهي طالق فيهما. وهو ينقسم إلى حرام ومكروه وواجب ومندوب و (جـ) جائز. أما (د) الأول: فهو الطلاق البدعي، والثاني: إذا وقع بغير سبب مع استقامة الحال، والثالث: إذا كانت غير عفيفة، وعند البعض أن ذلك مثال للمندوب، وأن الواجب في صورة الشقاق بينهما ورأى ذلك الحكمان، والرابع: قال النووي (¬2): لا ¬

_ (أ) زاد في جـ: فقط. (ب) في جـ: فيه. (جـ) في جـ: أو. (د) ساقطة من: جـ.

يوجد مثاله. وصوّره غيره بما إذا كان لا يريدها ولا تطيب نفسه أن يتحمل مؤنتها من غير حصول غرض الاستمتاع، فقد صرح الجويني (¬1) (أأن الطلاق أ) في هذه الصورة لا يكره. 883 - عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أبغض الحلال إلى الله الطلاق". رواه أبو داود وابن ماجه، وصححه الحاكم، ورجح أبو حاتم إرساله (¬2). أخرجوه (ب) من حديث محارب بن دثار عن ابن عمر، [وأخرجه] (جـ) أبو داود والبيهقي (¬3) مرسلًا ليس فيه ابن عمر، ورجح أبو حاتم والدارقطني في "العلل" (¬4) والبيهقي المرسل، وأورده ابن الجوزي في "العلل المتناهية" (¬5) بإسناد ابن ماجه، وضعفه بعبيد الله بن الوليد [الوصَّافي] (د)، وهو ضعيف (¬6)، ¬

_ (أ- أ) ساقط من: جـ. (ب) في جـ: أخرجه. (جـ) في الأصل: وأخرجوه. (د) في الأصل، جـ: الوصالي. وترجمته في تهذيب الكمال 19/ 173 - 176.

ولكنه لم ينفرد به -فقد تابعه معرِّف بن واصل (¬1) - إلا أن المنفرد عنه بوصله محمَّد بن خالد الوهْبيُّ (¬2). ورواه الدارقطني (¬3) من حديث مكحول عن معاذ بن جبل بلفظ: "ما خلق الله شيئًا أبغض إليه من الطلاق". وإسناده ضعيف ومنقطع أيضًا. الحديث فيه دلالة على أن ثَمَّ أشياء من الحلال مبغوضة إلى الله تعالى، وأن الطلاق أبغضها، فيكون البغض مجازا عن كون ذلك لا ثواب ولا [قربة من فعله] (أ)، وحق العاقل أن يختار الأعمال التي تكون وسيلة إلى نيل رضا الله تعالى مبعدة عن المساوئ، وقد مثَّل بعضهم للمبغوض (5) من الحلال: الصلاة المكتوبة في غير المسجد لغير عذر. والله أعلم. 884 - وعن ابن عمر رضي الله عنهما أنه طلق امرأته وهي حائض في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فسأل عمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك، فقال: "مُرْه فلْيراجعها، ثم ليمسكها حتى تطهُر، ثم تحيض، ثم تطهر، ثم إن شاء أمسك بعد، وإن شاء طلق قبل أن يمسّ، فتلك العِدّة التي أمر الله أن تُطلَّق ¬

_ (أ) في الأصل: في قربة في فعاله. (ب) في جـ: للمتعوض.

لها النساء". متفق عليه (¬1). وفي رواية لمسلم (¬2): " [مُره] (أ) فليراجعها، ثم ليطلقها طاهرا أو حاملًا". وفي أخرى للبخاري (¬3): "وحُسبت تطليقة". وفي رواية لمسلم (¬4): قال ابن عمر: أمَّا أنت (¬5) طلقتها واحدة أو اثنتين، فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمرني أن أراجعها، ثم أُمسكَها حتى تحيض حيضة أخرى، [ثم أمهلها حتى تطهر، ثم أطلقَها قبل أن أمسها] (ب)، وأما أنت طلقتها ثلاثًا، فقد عصيت ربك فيما أمرك به من طلاق امرأتك. وفي رواية أخرى (¬6): قال عبد الله بن عمر رضي الله عنه: فرَدَّها عليَّ، ولم يرها (جـ) شيئًا وقال: "إذا طهَرتْ فليطلق أو ليمسك". قوله: طلق امرأته. قال النووي (¬7) نقلًا عن ابن باطيش: اسمها آمنة ¬

_ (أ) ساقطة من: الأصل، جـ. والمثبت من مصدر التخريج وبلوغ المرام ص 230. (ب) ساقط من: الأصل، جـ. والمثبت من مصدر التخريج وبلوغ المرام ص 231. (جـ) في جـ: بردها.

بنت غفار. قال المصنف رحمه الله (¬1): [ومستند] (أ) ابن باطيش في "أحاديث قتيبة" جمع سعيد [العيَّار] (ب) بسند فيه ابن لهيعة، أنها آمنة بنت عمار -بعين مفتوحة ثم ميم مثقلة- والأول أقوى، وفي "مسند أحمد" (¬2) -بسند على شرط الشيخين- أن عبد الله طلق امرأته النوار. ويمكن الجمع بأن اسمها آمنة ولقبها النوار، [وأوردها الذهبي في آمنة، وأبوها غفار. [ضبطه ابن نقطة] (جـ) (¬3) بكسر المعجمة وتخفيف الفاء. وزاد الليث عن نافع: تطليقة واحدة. أخرجه مسلم (¬4). من طريق ابن سيرين (¬5) قال: مكثت عشرين سنة يحدثني من لا أتهم أن ابن عمر طلق امرأته ثلاثًا وهي حائض، فأُمر أن يراجعها، فكنت لا أتهمهم، ولا أعرف وجه الحديث حتى لقيت أبا غلَّاب يونس بن جبير، وكان ذا ثَبَت (¬6)، فحدثني أنه سأل ابن عمر، فحدثه أنه طلق امرأته تطليقة وهي حائض. ¬

_ (أ) في الأصل، جـ: وفي مسند. والمثبت من الفتح. (ب) في جـ: العفار. وتنظر ترجمته في السير 18/ 86 - 89. (جـ) في الأصل، جـ: وضبط الذهبي اسم أبيها نقطة -وفي الأصل: نفطة-. والمثبت من الفتح، غير أنه تصحفت هناك: ابن نقطة إلى: ابن يقظة.

وأخرجه الدارقطني والبيهقي (¬1) من طريق الشعبي قال: طلق ابن عمر امرأته وهي حائض واحدة. ومن طريق عطاء الخراساني عن الحسن عن ابن عمر أنه طلق امرأته تطليقة وهي حائض (¬2). قوله: فسأل عمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك. جاء في روايات في "الصحيحين" (¬3): فأتى عمر النبي - صلى الله عليه وسلم - فذكر له ذلك. وأخرجه الدارقطني (¬4)، وزاد البخاري (¬5) في التفسير عن سالم أن ابن عمر أخبره. الحديث، وفيه زيادة: فتغيظ فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ولم تكن هذه الزيادة في غير رواية سالم، وهو أجلُّ من روى الحديث عن ابن عمر. وفي الحديث إشعار بأنهم قد فهموا [النهي عن] (أ) الطلاق في الحيض، وإلا لم يتغيظ النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يبادر عمر بالسؤال ليتعرف ما يكون حكم هذا النهي. وقال ابن دقيق العيد: تغيظ النبي - صلى الله عليه وسلم - إما لأن المعنى الذي يقتضي النهي كان ظاهرا، أو لأنه كان ينبغي مشاورة النبي - صلى الله عليه وسلم -. وقوله: "مُره فليراجعها". فيه دلالة على أن ابن عمر مأمور بالمراجعة من قِبل النبي - صلى الله عليه وسلم - لظهور القرينة بأن الأمر ليس باختيار عمر لابنه، وإنما هو ¬

_ (أ) ساقطة من: الأصل.

لأجل كونه متعبدًا بالحكم، فيكون [عمر] (أ) مبلِّغا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - الحكم، فهو مثل قوله تعالى: {قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلَاةَ} (¬1). ونحوه، فنحن مأمورون من الله تعالى بإقامة الصلاة، والنبي - صلى الله عليه وسلم - مبلِّغ، فلا يقال: هذا متنزل على الخلاف في مسألة الأمر بالأمر بالشيء ليس أمرًا بالشيء كما اختاره ابن الحاجب. واختلف العلماء في وجوب المراجعة، فذهب مالك إلى وجوب الرجعة ورواية عن أحمد، والمشهور عنه -وهو قول الجمهور- أنها مستحبة، قالوا: لأن ابتداء النكاح لا يجب، فاستدامته كذلك، فكان القياس قرينة على أن الأمر للندب، وصحح صاحب "الهداية" (¬2) من الحنفية أنها واجبة، والحجة ورود الأمر، ولأن الطلاق لما كان محرّما في الحيض كانت استدامة النكاح فيه واجبة. فلو تمادى الذي طلق في الحيض حتى طهرت، قال مالك وأكثر أصحابه: يجبر على الرجعة أيضًا. وقال أشهب منهم: إذا طهرت لم تجب الرجعة، وأما بعد انقضاء العدة فاتفاق أنه لا رجعة، وكذا لو طلقها في طهر قد وطئها فيه لا رجعة عليه اتفاقًا، كذا نقله ابن بطال (¬3) وغيره. قال المصنف (¬4) رحمه الله تعالى: بل الخلاف فيه ثابت قد حكاه ¬

_ (أ) ساقطة من: الأصل.

الحَنَّاطي (أ) من الشافعية وجهًا. واتفقوا على أنه لو طلق قبل الدخول وهي حائض لم يؤمر بالمراجعة، إلا ما نقل عن زفر فقال: يؤمر بالمراجعة. قوله: "ثم ليمسكهما". أي يستمر بها في عصمته. قوله: "حتى تطهر، ثم تحيض، ثم تطهر". وقع في هذه وفي غيرها أن الطلاق في الطهر الذي بعد الحيضة التي لا طلاق فيها، واختلف العلماء في جواز الطلاق في الطهر الأول؛ فذهب إلى أنه يحرم الطلاق في ذلك الطهر مالك (¬1)، وللشافعية (ب) وجهان أصحهما المنع، وبه قطع المتُولِّي، وهو الذي يقتضيه ظاهر الأمر. وقال ابن تيمية في "المحرر" (¬2): ولا يطلِّقها في الطهر المتعقب له فإنه بدعة. وذهب أبو حنيفة، وعن أحمد، أن الانتظار إلى الطهر الثاني مستحب، والحجة لذلك ما أخرجه مسلم (¬3) من رواية محمَّد بن عبد الرحمن عن سالم بلفظ: "مره فليراجعها، ثم ليطلقها طاهرًا أو حاملًا". قال الشافعي: غير نافع إنما روى: "حتى تطهر من الحيضة التي طلقها فيها، [ثم] (جـ) إن شاء أمسك، وإن شاء طلق". رواه يونس بن جبير وأنس بن سيرين وسالم. ولأن التحريم إنما كان لأجل الحيض، فإذا زال زال موجب التحريم، فجاز طلاقها في هذا الطهر كما يجوز في الطهر الذي ¬

_ (أ) في جـ: الحياطي. وينظر طبقات الشافعية الكبرى 4/ 367. (ب) في جـ: الشافعي. (جـ) ساقطة من: الأصل، جـ. والمثبت من مصدر التخريج.

بعده، وكما يجوز في الطهر الذي لم يتقدم طلاق في حيضته. وأجيب عن ذلك بأن رواية نافع فيها زيادة، وهي زيادة من ثقة حافظ مقبولة، مع أنه قد روى الزهريّ عن سالم (¬1) موافقته لرواية نافع، فتُحمل الرواية على اختصار الراوي، وعن المناسبة المذكورة بأنها معارضة للنص، ومعارضة بمناسبة أقوى منها، وهو أن الغرض من ذلك إيواء المرأة ولذلك سماه إمساكا، ويدل على ذلك أنه قد ورد في رواية عبد الحميد بن جعفر: "مُره أن يراجعها، فإذا طهرت مسها، حتى إذا طهرت أخرى فإن شاء طلقها وإن شاء أمسكها" (¬2). فإذا كان مأمورا بأن يمسها في ذلك الطهر، فكيف [يبيح] (أ) له أن يطلقها فيه وقد ثبت النهي عن الطلاق في طهر جامعها فيه؟ وقال الشافعي: يحتمل أن ذلك ليكون تطليقها وهي تعلم عدتها إمام يحمل أو حيض، أو ليكون تطليقها بعد علمه بالحمل وهو غير جاهل بما صنع إذ يرغب فيمسك للحمل، أو ليكون إن كانت سألت الطلاق غير حامل أن تكف (ب) عنه. وقيل: الحكمة فيه ألا تصير الرجعة لغرض الطلاق، فإذا أمسكها زمانا يحل له فيه طلاقها ظهرت فائدة الرجعة؛ لأنه قد يجامعها مع طول المدة فيذهب ما في نفسه من سبب طلاقها فيمسكها. وقيل: إن الطهر الذي يلي ¬

_ (أ) في الأصل: يصح. (ب) في جـ: يكف.

الحيضة التي طلقها [فيها] (أ) كقرء واحد، فلو طلقها في الطهر كان كمن طلق في الحيض، فلزم أن يتأخر إلى الطهر الثاني. قوله: "قبل أن يمس". فيه دلالة على أن الطلاق في الطهر بعد أن مس يكون بدعيا حراما، وقد صرح بذلك الجمهور، وقال بعض المالكية: إنه يجبر على الرجعة إذا طلق فيه كما إذا طلقها وهي حائض. والمشهور عندهم أن ذلك في الحائض دون الطاهر، وقالوا: إذا طلقها وهي حائض يجبر على الرجعة، فإن امتنع أدبه الحاكم، فإن أصر ارتجع الحاكم عليه. وهل يجوز له وطؤها بذلك الارتجاع؟ في ذلك روايتان لهم أصحهما الجواز. وداود يقول: يجبر على الرجعة إذا طلقها حائضا, ولا يجبر إذا طلقها نفساء. وهو جمود منه على لفظ الدليل من غير اعتبار القياس، والجمهور أن النفاس كالحيض في جميع أحكامه. واختلف الفقهاء في المراد بقوله: "طاهرا"؛ في أن المراد به انقطاع الدم، أو لا بد من الغسل؟ فعن أحمد روايتان، والراجح اعتبار الغسل (ب)؛ لما ¬

_ (أ) في الأصل: فيه. (ب) بعده في حاشية جـ: في حاشية ... على البحر ما لفظه: قوله: ما لم تغسل الحائض جميع بدنها ... بقياس الدلالة وهو أنه علق بانقضاء الحيض أمران؛ حل الوطء في غير المطلقة، وانقضاء عدة المطلقة. وقد جعل الله سبحانه غاية [؟] تحريم الوطء هو التطهر .... في العدة مثله [؟] وأما [؟] وضع العمل فهو الغاية بنفسه فلا [؟] دليل على الاغتسال فيه، وقياس النقاء على الوضع بلا جامع فليتأمل. فكما [؟] قال تعالى: {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} كان المعنى هنا: فإذا تطهرن حل لهن الأزواج. وحاصله إثبات [؟] التطهر بقياس الدلالة كما أثبت [؟] علي رضي الله عنه الاغتسال من الإكسال قياسا على حد الزنى. وقد يقال: الذي نشأ [؟] عنه الحكمان هو انقطاع الحيض وهو يتحقق بالنقاء، وأما وجوب الاغتسال بجواز [؟] =

في رواية النسائي (¬1): "فإذا اغتسلت من حيضتها الأخرى فلا يمسها حتى يطلقها، وإن شاء أن يمسكها فليمسكها". وهذا مفسِّر لقوله: "فإذا طهرت". فليحمل عليه، ويتفرع من هذا أن العدة هل تنقضي بانقطاع الدم وترتفع الرجعة أو لا بد من الاغتسال؟ فيه خلاف أيضًا. قوله: "فتلك العدة التي أمر الله". أي أذن، وهذا بيان لمعنى قوله تعالى: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} (¬2). بل في رواية مسلم (¬3): قال ابن عمر: وقرأ النبي - صلى الله عليه وسلم -: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ} الآية. وفي الحديث دلالة على أن الأقراء الأطهار، للأمر بطلاقها في الطهر، وقوله: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ}. أي وقت ابتداء عدتهن. ومن قال: هي الحيف. يقول في معنى الآية: مستقبلات لعدتهن. ولكن الحديث يرد عليه. قوله: "طاهرًا أو حاملًا". فيه دلالة على أن طلاق الحامل سُني، وقد ذهب إلى هذا الجمهور، وعن أحمد رواية أنه ليس بسني ولا بدعي. قوله: "وحُسبت تطليقة". هو بضم الحاء مبني للمفعول من الحساب، وهو جعلها واحدة من الثلاث الطلقات التي يملك الزوج، ولم يصرَّح ¬

_ = الوطء فتكليف مستقل قد تحقق الانقطاع بدونه، وليس ذكر النفاس في حجة الخصم للنعاس [؟] بل للتمثيل وبيان المساواة. فإذا الأقوى ما قواه المصنف أعني عدم اعتبار الغسل أعني مذهب ... [لعلها المؤيد] بالله وشي [؟]. انتهى ما أردت نقله.

بالفاعل، وقد صُرِّح به في غير هذه الرواية كما في "مسند ابن وهب" (¬1)، أخرجه عن ابن أبي ذئب وزاد في آخره: قال ابن أبي ذئب في الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "وهي واحدة". قال ابن أبي ذئب: وحدثني حنظلة بن أبي سفيان: سمع سالما يحدث عن أبيه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك. وأخرجه الدارقطني (¬2) من [طريق] (أ) يزيد بن هارون عن ابن أبي ذئب وابن إسحاق جميعًا عن نافع عن ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "هي واحدة". وعند الدارقطني (¬3) في رواية شعبة عن أنس بن سيرين عن ابن عمر في القصة: فقال عمر: يا رسول الله، أفتحتسب بتلك التطليقة؟ قال: "نعم". ورجاله إلى شعبة ثقات. وعنده (¬4) من طريق [سعيد] (ب) بن عبد الرحمن الجمحي عن عبيد الله بن [عمر] (جـ) عن نافع عن ابن عمر أن رجلًا قال (¬5): إني طلقت امرأتي البتة وهي حائض. فقال (¬6): عصيت ربك وفارقت امرأتك. قال: فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر ابن عمر أن يراجع امرأته. قال: إنه ¬

_ (أ) في الأصل: حديث. (ب) في الأصل، جـ: شيبة. والمثبت من مصدر التخريج. وينظر تهذيب الكمال 10/ 528. (جـ) في الأصل، جـ: عمير. والمثبت من مصدر التخريج.

أمر ابن عمر أن يراجعها بطلاق بقي له، وأنت لم تُبق ما ترتجع به امرأتك. فظهر من هذا أن الحاسب هو النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ لأن القصة واحدة، فبعض الروايات تفسر بعضا. والحديث فيه دلالة على وقوع الطلاق على الحائض، وقد ذهب إلى هذا الجمهور من السلف والخلف، والخلاف فيه لطاوس وخِلَاس بن عمرو، وحكاه الخطابي (¬1) عن الخوارج والروافض، وحكاه في "البحر" عن الباقر والصادق والناصر وابن عليه وهشام بن الحكم وأبي عبيدة. ابن عبد البر (¬2): لا يخالف في ذلك إلا أهل البدع والضلال -يعني الآن- قال: وروي مثله عن بعض التابعين، وهو شذوذ. وحكاه ابن العربي (¬3) وغيره عن ابن عُلَيَّة، يعني إبراهيم بن إسماعيل بن علية الذي قال الشافعي (¬4) في حقه: إبراهيم ضال، جلس في باب الضوال يضل الناس. وكان بمصر، وله مسائل يتفرد بها، وكان متفقهاء المعتزلة، وقد غلط فيه من ظن أن المنقول عنه المسائل الشاذة أبوه، وحاشاه فإنه من كبار أهل السنة. ونصر هذا المذهب ابن حزم الظاهري، ورجحه ابن تيمية وتلميذه ابن قيم الجوزية، واحتجوا بما جاء في رواية مسلم وأبي داود والنسائي (¬5) في القصة وفيه: فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ليراجعها". وقال: "إذا طهرت ¬

_ (¬1) معالم السنن 3/ 232. (¬2) التمهيد 15/ 58، 59. (¬3) الفتح 9/ 353، 352. (¬4) "تاريخ بغداد 6/ 21. (¬5) مسلم 2/ 1098 ح 1471/ 14، وأبو داود 2/ 262، 263 ح 2185، والنسائي 6/ 139.

فليطلق أو ليمسك (أ) ". ولفظ مسلم والنسائي وأبي داود: فرَدَّها علي. زاد أبو داود: ولم يرها شيئًا. وإسناده على شرط الصحيح، فإن مسلما أخرجه من رواية حجاج بن محمَّد عن ابن جريج، وساقه على لفظه، ثم أخرجه من رواية أبي عاصم عنه وقال نحو هذه القصة، ثم أخرجه من رواية عبد الرزاق عن ابن جريج قال مثل حديث حجاج، وفيه بعض الزيادة، فأشار إلى هذه الزيادة ولعله طوى ذكرها عمدا، وقد أخرج أحمد (¬1) الحديث عن روح بن عبادة عن ابن جريج فذكرها، فلا يتخيل انفراد عبد الرزاق بها. قال أبو داود (¬2): روى هذا الحديث عن ابن عمر جماعة، وأحاديثهم كلها على خلاف ما قال أبو الزبير. وقال ابن عبد البر (¬3): قوله: ولم يرها شيئًا. منكر لم يقله غير أبي الزبير (¬4)، وليس بحجة فيما خالفه فيه مثله، فكيف بمن هو أثبت منه؟! ولو صح فمعناه عندي -والله أعلم- ولم يرها شيئًا مستقيما؛ لكونها لم تقع على السُّنة. ¬

_ (أ) في جـ: تمسك.

وقال الخطابي (¬1): قال أهل الحديث: لم يرو أبو الزبير حديثًا أنكر من هذا، ويحتمل أن معناه: لم يرها شيئًا تحرم معه المراجعة، أو لم يرها شيئًا جائزا في السنة ماضيا في الاختيار، وإن كان لازمًا له مع الكراهة. ونقل البيهقي في "المعرفة" (¬2) عن الشافعي أنه ذكر رواية أبي الزبير فقال: نافع أثبت من أبي الزبير، والأثبت من الحديثين أولى أن يؤخذ به إذا تخالفا، وقد وافق نافعا غيره من أهل الثَّبَت. قال: وبسط الشافعي القول في ذلك، وحمل قوله: ولم يرها شيئًا. على أنه لم يعدّها شيئا صوابا غير خطأ، بل يؤمر صاحبه ألَّا يقيم عليه؛ لأنه أمره بالمراجعة، ولو كان طلقها طاهرا لم يؤمر بذلك، فهو كما يقال للرجل إذا أخطأ في فعله، أو أخطأ في جوابه: لم يصنع شيئًا. أي لم يصنع شيئًا صوابا. قالوا: فقوله: لم يرها شيئًا. يدل (أ) على عدم الاعتداد بتلك الطلقة، ودعوى تفرد أبي الزبير غير مسلَّمة، فقد رواه عبد الوهاب الثقفي عن [عبيد] (ب) الله عن نافع أن ابن عمر قال في الرجل يطلق امرأته وهي حائض، قال ابن عمر: لا يعتد بذلك. أخرجه محمَّد ابن عبد السلام الخشني (جـ) عن بندار عنه، وإسناده صحيح، وأخرجه (د) ابن ¬

_ (أ) في جـ: ينزل. (ب) في الأصل، جـ: عبد. والمثبت من مصدر التخريج، والفتح 9/ 354. (جـ) في جـ: الحبشي. (د) في جـ: أخرج.

حزم (¬1). [وعن] (أ) الشعبي بإسناد صحيح (¬2) قال: إذا طلق الرجل امرأته وهي حائض لم يعتدّ بها في قول ابن عمر. وروى سعيد بن منصور (¬3) من طريق عبد الله بن مالك عن ابن عمر أنه طلق امرأته وهي حائض، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ليس ذلك بشيء". وهذه متابعات لأبي الزبير. واحتج لهم في "البحر" بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "كل بدعة ضلالة" (¬4). وقوله - صلى الله عليه وسلم - "البدعة شَرَك الشِّرك". واحتج ابن القيم بما حاصله أنه منهي عن الطلاق في حال الحيض، وقال (¬5): الطلاق ينقسم إلى حلال وحرام، فالقياس أن حرامه باطل كالنكاح وسائر العقود، وأيضًا فهو طلاق منع منه الشرع، فأفاد منعه عدم جواز إيقاعه، فكذلك يفيد عدم نفوذه، وإلا لم يكن للمنع فائدة؛ لأن الزوج لو وكل رجلًا أن يطلق امرأته على وجه، فطلقها على غير الوجه المأذون فيه، لم ينفُذ، فكذلك لم يأذن الشارع للمكلف في الطلاق إلا إذا كان مباحا، فإذا طلق طلاقا محرما لم يصح، وأيضًا فكل ما حرمه الله من العقود مطلوبُ الإعدام، فالحكم ببطلان ما حرمه أقرب إلى تحصيل هذا المطلوب. ¬

_ (أ) في الأصل: عن.

وتأول ابن حزم (¬1) الأمر بالمراجعة بأن المراد بها الارتجاع إلى ما كان عليه من العِشرة؛ لأنه كان قد اجتنبها, وليس المراد الرجعة بالطلاق. والجواب عما احتجوا: أما الحديث فرواية الاعتداد أقوى وأصرح لا تحتمل التأويل، ورواية أبي الزبير محتملة التأويل كما تقدم عن الشافعي، ويحتمل -كما قال ابن عبد البر (¬2) - أنه لم يرد بقوله: لم يرها شيئًا. أي الطلقة، وإنما الضمير عائد إلى الحيضة، أي لم ير الاعتداد بتلك الحيضة في العدة، يعني أن الطلاق إذا كان في الحيضة كانت العدة من الحيضة المستقبلة، وقد روي عن ابن عمر هذا منصوصا أنه يقع عليها الطلاق ولا تعتد بتلك الحيضة (¬3). وهذا التأويل يتعين المصير إليه لصحة الرواية. وأما الاحتجاج بـ: "كل بدعة ضلالة". ونحوه، فالجواب عنه بأن مضمونه أنه منهي عن ذلك، والنهي يقتضي الفساد، وليس ذلك بمسلّم مطلقا، والمختار أن اقتضاءه الفساد إذا كان النهي لذات المنهي عنه (أ) أو لوصف ملازم، وأما [إذا كان الوصف مفارقا] (ب) فهو لا يقتضي الفساد، كالنهي عن البيع وقت النداء للجمعة، وهنا النهي عن الطلاق لوصف يفارق الطلاق، وهو الحيض، وإن سلمنا ذلك فهو عام، وهذا الذي نحن فيه ¬

_ (أ) ساقطة من: جـ. (ب) في الأصل: لوصف مفارق.

خاص قام الدليل على اعتباره. وأجاب الإِمام المهدي بأن البدعة المراد بها ما كان في الاعتقاد لا في العمليات. وأما ما احتج به ابن القيم، فالجواب عنه بأنه مبني على أن النهي يقتضي الفساد، وقد عرفت ما فيه. وقال ابن القيم: لم يرد التصريح بأن ابن عمر احتسب بتلك الطلقة إلا في رواية سعيد بن جبير عنه عند البخاري (¬1)، وليس فيها تصريح بالرفع. قال: [فانفراد] (أ) سعيد بن جبير بذلك كانفراد أبي الزبير بقوله: لم يرها شيئًا. فإما أن يتساقطا، وإما أن ترجح رواية أبي الزبير لتصريحها بالرفع، وتُحمل رواية سعيد بن جبير على أن أباه هو الذي حسبها عليه بعد موت النبي - صلى الله عليه وسلم - في الوقت الذي ألزم الناس فيه بالطلاق الثلاث، بعد أن كانوا في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يحتسب عليهم به ثلاثًا إذا كان بلفظ واحد. والجواب عنه ما مر من طرق متعددة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حسبها عليه طلقة، وما في "صحيح مسلم" (¬2) من رواية أنس بن سيرين ولفظه: سألت ابن عمر عن امرأته التي طلق، فقال: [طلقتها] (ب) وهي حائض، فذكر ذلك عمر للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: "مُرْه فليراجعها، فإذا طهرت فليطلقها لطهرها". قال: ¬

_ (أ) في الأصل، جـ: فانفرد. والمثبت من حاشية ابن القيم 6/ 171، وينظر الفتح 9/ 355. (ب) في الأصل، جـ: طلقها. والمثبت من مصدر التخريج.

فراجعتها، ثم طلقتها لطهرها. قلت: فاعتددت (أ) بتلك الطلقة وهي حائض؟ فقال: ما لي لا أعتد بها، وإن كنتُ عجزتُ واستحمقت؟! وعند مسلم (¬1) أيضًا من طريق ابن أخي ابن شهاب عن عمه عن سالم في حديث الباب: وكان عبد الله بن عمر طلقها تطليقة فحسبت من طلاقها، فراجعها كما أمره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وله (¬2) من رواية الزُّبيدي عن ابن شهاب، قال ابن عمر: فراجعتها، وحسبت لها التطليقة التي طلقتها. وعند الشافعي (¬3) عن مسلم بن خالد عن ابن جريج أنهم أرسلوا إلى نافع يسألونه: هل حسبت تطليقة ابن عمر على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فقال: نعم. فظهر بطلان ما قاله (ب) ابن القيم رحمه الله تعالى. ودل الحديث على تحريم الطلاق في الحيض. وأن الرجعة يستقل بها الزوج من دون رضا المرأة والولي؛ لأنه جعل ذلك إليه، ولقوله تعالى: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ} (¬4). وأن الأب يقوم عن ابنه البالغ الرشيد في الأمور التي تقع له مما يحتشم الابن من ذكره، وينفي عنه ما لعله يلحقه من العقاب على فعله شفقة منه وبرًّا. ¬

_ (أ) في جـ: فاعتدت. (ب) في جـ: ذكر.

وأن طلاق الطاهر هو الذي لا يلام عليه. وأن الحامل لا تحيض؛ لقوله: "ثم ليطلقها طاهرًا أو حاملًا". فدل على أن الحامل لا تحيض؛ لإطلاق الطلاق فيه. وأجيب بأن حيض الحامل لما لم يكن له أثر في تطويل العدة لم يعتبر؛ لأن عدتها بوضع الحمل. وأن الأقراء في العدة هي الأطهار. وقال الغزالي (¬1): يستثنى من تحريم طلاق الحائض طلاق المخالعة؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يستفصل حال امرأة ثابت هل هي (أ) طاهر أو حائض مع أمره له بالطلاق. والشافعي يذهب إلى أن ترك الاستفصال في مقام الاحتمال ينزَّل منزلة العموم في الأقوال. قال الإِمام المهدي جوابا: لنا عموم: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} (¬2). ولم يفصّل، وتركه - صلى الله عليه وسلم - البحث اتكالا على الآية أو لغير ذلك، أو عرف طهرها. وقال أيضًا: لا بدعة في طلاق المؤلي منها لتضيق الطلاق عند المطالبة. قال الإِمام المهدي: لنا ما مرَّ، ولكنه مع تسليم القاعدة المذكورة يكون بين الدليلينِ عموم وخصوص من وجه، فالتعارض حاصل إلا أن يظهر مرجح لأحدهما. وظهر أن طلاق الحامل والآيسة من الحيض والضهياء (¬3) والصغيرة لا ¬

_ (أ) ساقطة من: جـ.

يتقيد (أ) بوقت؛ أما الحامل فقد تقدم الكلام فيه، وأما الصغيرة والآيسة والضهياء فلعدم المانع إلا أنه يستحب الكف عن جماعها شهرا عند العترة والحنفية والشافعية لقيام الشهور فيها مقام الحيض، وقال زفر: بل يجب كوجوب الفصل بين الجماع والطلاق في ذوات الحيض بحيضة. ويجاب عليه بأنه إنما وجب هناك ليتقرر براءة الرحم، وهي هنا متقررة. قوله في رواية مسلم: وأما أنت طلقتها ثلاثًا فقد عصيت ربك. الحديث. فيه دلالة على أن تطليق الحائض ثلاثا عصيان؛ لأنه قد وقع الطلاق، ولم يمكن تداركه بالرجعة (ب)، وهو يحتمل أن العصيان وقع بسبب الطلاق في وقت الحيض وحده، أو مع ذلك اعتبار كونه ثلاثًا، والظاهر أنه مجموع الأمرين في هذه الرواية, والمراد أن العصيان في هذه الصورة عصيان بليغ لا يمكن تداركه بالرجعة، وأما إذا كانت واحدة أو اثنتين فهو وإن كان عصيانا لكنه يمكن التدارك فيه بالرجعة. وفيه دلالة على وقوع الثلاث الطلقات وإن كانت بلفظ واحد، وسيأتي الكلام فيه. ويؤخذ من هذا أن إرسال الثلاث بدعة، وسيأتي أيضًا قريبًا. 885 - وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان الطلاق على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر، طلاق الثلاث واحدة، ¬

_ (أ) في جـ: تقيد. (ب) في جـ: بالمراجعة.

فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: إن الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة، فلو أمضيناه عليهم. فأمضاه عليهم. رواه مسلم (¬1). الحديث أخرجه مسلم من طريق عبد الرزاق عن معمر عن عبد الله بن طاوس عن أبيه عن ابن عباس، وأخرج من طريق عبد الرزاق عن ابن جريج عن ابن طاوس عن أبيه أن أبا الصهباء قال لابن عباس: أتعلم أنما كانت الثلاث تجعل واحدة على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وثلاثًا من إمارة عمر؟ قال ابن عباس: نعم. ومن طريق حماد بن زيد (¬2) عن أيوب عن إبراهيم بن ميسرة عن طاوس، أن أبا الصهباء قال لابن عباس: ألم يكن طلاق الثلاث على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واحدة؟ قال: كان ذلك، فلما كان في عهد عمر تتابع الناس في الطلاق، فأجازه عليهم. وهذه الطريق الأخيرة أخرجها أبو داود (¬3)، ولكنه لم يسم إبراهيم بن ميسرة، وقال بدله: عن غير واحد. ولفظه: أما علمت أن الرجل كان إذا طلق امرأته ثلاثًا قبل أن يدخل بها جعلوها واحدة؟ واعلم أنه قد استشكل هذا الحديث، بأنه كيف يصح من عمر رضي الله عنه أن يخالف الأمر الذي كان في أيام النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى وفاته، وتلاه عصر الصديق وصدر خلافته، وظاهره الإجماع على ذلك، وحاشا على مقام عمر واقتفائه للسنة النبوية أن يخالف ويشرع حكمًا غير ما كان في عهد النبوة؟! وأجيب عن ذلك بوجوه؛ أولها: أن ذلك الحكم كان مشروعًا ثم ¬

_ (¬1) مسلم، كتاب الطلاق، باب طلاق الثلاث 2/ 1099 ح 1472/ 16. (¬2) مسلم 2/ 1099 ح 1472/ 17. (¬3) أبو داود 2/ 268 ح 2199.

نسخ، وناسخه وارد في عصر النبوة، ولكنه لم يشتهر النسخ، وبقي على الحكم المنسوخ جمع ممن لم يطلع على الناسخ في عصر النبي - صلى الله عليه وسلم - وفي عصر أبي بكر وفي صدر خلافة عمر، ثم اشتهر الإنكار من عمر، والعمل بالناسخ، وإعلام الكافة به (أ)، وهذا غير بعيد كما في حديث تحريم المتعة (¬1)، ولا يلزم من هذا أن يكون قد وقع العمل بالخطأ في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -، إذ لا محذور في أن يعمل من لم يبلغه الناسخ بالمنسوخ، وإنما المحذور أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - قرر ذلك، إذ لا يجوز منه التقرير على محرم، ولم يكن في لفظ الرواية ما يدل على ذلك بعد ورود الناسخ، وما روي مما يدل عليه يحمل أنه وقع قبل نسخ الحكم ولم ينقل الراوي ذلك (أ) كما هو في كثير من السنة، ولذلك كان لمعرفة أسباب الوقائع فوائد جزيلة، ولا يعترض بأن وقوع ذلك في عصر أبي بكر ظاهره الإجماع، ولا يجوز الإجماع على الخطأ، لأنا نقول: لم يكن في الرواية ما يقضي بالإجماع، وإنما ظاهرها العمل بذلك، ويجوز أن يكون بقي على العمل بذلك من لم يطلع على الناسخ، ومثل هذا الجواب نقل البيهقي عن الشافعي، حيث قال في الجواب عن فتيا ابن عباس بخلاف ما رواه، وأنه كان يقول بلزوم الثلاث: يشبه أن يكون ابن عباس علم شيئًا نسخ ذلك. قال البيهقي: ويقويه ما أخرج أبو داود (¬2) من طريق يزيد النحوي عن عكرمة عن ابن عباس قال: كان الرجل إذا طلق امرأته فهو ¬

_ (أ) ساقطة من: جـ.

أحق برجعتها وإن طلقها ثلاثًا، فنسخ ذلك. وظهر مما قررناه بطلان ما قال المازري (¬1): وزعم بعضهم أن هذا الحكم منسوخ، وهو غلط، فإن عمر لا ينسخ، ولو نسخ -وحاشاه- لبادر الصحابة إلى إنكاره، وإن أراد القائل أنه نسخ في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - فلا يمتنع، لكن يخرج عن طاهر الحديث. انتهى. ثانيها: أن الحديث مضطرب، قال القرطبي في "المفهم" (¬2): وقع فيه مع الاختلاف عن ابن عباس الاضطراب في لفظه، وظاهر سياقه أن هذا الحكم منقول عن جميع أهل ذلك العصر، والعادة تقضي أن يظهر ذلك وينتشر، ولا ينفرد به ابن عباس، فهذا يقضي التوقف من العمل بظاهره، إن لم يقتض القطع ببطلانه. ثالثها: أن هذا الحديث ورد في صورة خاصة، وهو في قول المطلق: أنت طالق، أنت طالق، أنت طالق. وهو أنه كان في عصر النبوة وما بعده الناس في سلامة الصدور والصدق في الأمور، إذا ادعى أحدهم أن اللفظ الثاني تأكيد لما قبله، لا تأسيس طلاق آخر، قبلت دعواه وصدق في ذلك، ورأى عمر تغير أحوال الناس وكثرة الدعاوى الباطلة، فرأى من المصلحة أن يجري المتكلم على ظاهر قوله، ولا يصدق في دعوى ضميره، ولا بأس في ذلك، فهو في الحقيقة عمل بمقتضى اللفظ حقيقة، وقد أشار إلى هذا ابن [سريج] (أ) ولم يجزم به، وارتضاه القرطبي (¬3)، قال النووي (1): وهو أصح ¬

_ (أ) في الأصل، جـ: شريح. والصواب ما أثبتناه.

الأجوبة، وفي (أ) لفظ الحديث ما يشعر بهذا، وهو قوله: إن الناس استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة. وذلك أن السلف [لعلمهم] (ب) بمقاصد الكتاب من التأني على الفراق الكلي كما قال تعالى: {لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} (¬1). كانوا لا يسارعون إلى البينونة الكلية، بل يتدرجون في الأمر عسى أن يحصل الائتلاف والرجوع عن الشقاق والنفار، وكان الخلف قد أدركهم بعض الغفلة فيتعاجلون إلى البينونة الكلية ويقصدونها، فمن ادعى التأكيد كان خلاف الظاهر مما ادعاه. رابعها: أن معنى قوله: كان طلاق الثلاث واحدة. يعني أن الطلاق الذي كان يوقع على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إنما يوقع في الغالب واحدة، لا يطلقون ثلاثا، فقوله: كان طلاق الثلاث. يعني أن هذا طلاق الثلاث الذي يوقعونه يوقع في ذلك العهد واحدة، وقوله: فلو أمضيناه عليهم. يعني أجريناه على حكم ما شرع من وقوع الثلاث. وهذا الجواب يتنزل عليه قوله: استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة. تنزلًا قريبًا من غير تكلف، فيكون معناه الإخبار عن اختلاف عادة الناس في إيقاع الطلاق لا في وقوعه، فالحكم متقرر، وقد رجح هذا التأويل ابن العربي ونسبه إلى أبي زرعة، وكذا البيهقي (¬2) أخرجه عن أبي زرعة قال: معناه: إنما تطلقون أنتم ¬

_ (أ) ساقطة من: جـ. (ب) في الأصل: لعملهم.

ثلاثًا، كانوا يطلقون واحدة. خامسها: ما ذكر بعضهم أن هذا ليس له حكم الرفع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بل يكون موقوفًا على ابن عباس، وأجيب عنه بأن الأصح في مثل: كنا نفعل، وكانوا يفعلون في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -. أنه مرفوع. سادسها: أن المراد من قوله: طلاق الثلاث واحدة. هو لفظ البتة، إذا قال القائل: أنت طالق البتة -كما سيأتي في حديث ركانة- وذلك أن ابن عباس هو راوي حديث البتة، وكان لفظ البتة يحتمل البينونة الكلية والتي دونها، فإذا قال القائل: أنت طالق البتة. قُبِل تفسيره بالواحدة وبالثلاث، فلما كان في عصر عمر لم يقبل منهم التفسير بالواحدة. واستشهد بقوله: إن الناس استعجلوا في أمر كان لهم فيه أناة. كما تقدم نظير هذا التأويل، وأشار إلى هذا البخاري (¬1) بأن أدخل في هذا الباب الآثار التي فيها البتة، والأحاديث التي فيها التصريح بالثلاث، كأنه يشير إلى عدم الفرق بينهما، وأن البتة إذا أطلقت حملت على الثلاث إلا إذا أراد المطلق واحدة فيقبل، فروى بعض الرواة (أ) البتة بلفظ الثلاث، وهذا أيضًا قريب جمعًا بين الروايات، لا سيما وابن عباس عاملٌ بخلاف ظاهر الرواية، كما أخرج أبو داود (¬2) بسند صحيح من طريق مجاهد قال: كنت عند ابن عباس فجاءه رجل، فقال: إنه طلق امرأته ثلاثًا، فسكت حتى ظننت أنه يردها إليه، ¬

_ (أ) في جـ: الرواية.

فقال: ينطلق أحدكم فيركب الأحموقة، ثم يقول: يابن عباس، يابن عباس! إن الله قال: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} (¬1). وإنك لم تتق الله، فلا أجد لك مخرجًا، عصيت ربك وبانت منك امرأتك. وأخرج أبو داود له (أ) متابعات عن ابن عباس بنحوه. وقوله: كانت لهم فيه أناة. هو بفتح الهمزة؛ أي مهلة وبقية استمتاع لانتظار الرجعة. 886 - وعن محمود بن لبيد رضي الله عنه قال: أُخبِر النبي - صلى الله عليه وسلم - عن رجل طلق امرأته ثلاث تطليقات جميعًا، فقام غضبان، ثم قال: "أيلعب بكتاب الله وأنا بين أظهركم؟! ". حتى قام رجل، فقال: يا رسول الله، ألا أقتله؟ رواه النسائي ورواته موثقون (¬2). هو محمود بن لبيد بن رافع الأنصاري الأشهلي من بني عبد الأشهل، ولد على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وحدث عنه أحاديث، قال البخاري (¬3): له صحبة. وقال أبو حاتم (¬4): لا يعرف له صحبة. وذكره مسلم (¬5) في التابعين في الطبقة الثانية منهم، وقال ابن عبد البر (¬6): والصواب قول البخاري. ¬

_ (أ) ساقطة من: أ.

فأثبت له صحبة، وكان محمود بن لبيد أحد العلماء، روى عن ابن عباس وعتبان بن مالك بكسر العين المهملة وسكون التاء فوقها نقطتان وبالباء الموحدة، مات سنة ست وتسعين، وقد ترجم أحمد له في "مسنده" (¬1)، وأخرج له عدة أحاديث ليس فيها شيء صرح فيه بالسماع، وقد قال النسائي (¬2): لا أعلم أحدًا رواه غير مخرمة بن بكير، يعني ابن الأشج، عن أبيه. انتهى. والحديث فيه دلالة على أن جمع الطلقات الثلاث بدعة، ومثله ما أخرج سعيد بن منصور (¬3) عن أنس، أن عمر كان إذا أتي برجل طلق امرأته ثلاثًا أوجع ظهره. وسنده صحيح، وقد تقدم حديث ابن عباس في ذلك (¬4). وقد ذهب إلى هذا أيضًا ابن مسعود (¬5) والهدوية وأبو حنيفة ومالك. وذهب الحسن بن علي، وعبد الرحمن بن عوف، وابن سيرين، والشافعي، وأحمد، والإمام يحيى، إلى أن جمع الثلاث ليس بدعة ولا مكروهًا، قالوا: لقوله تعالى: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} (¬6). وقوله تعالى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} (¬7). ولما سيأتي في حديث المتلاعنين أنه طلقها ثلاثًا (¬8). فلو كان محرمًا إرسال الثلاث لأنكر عليه ذلك. والجواب عليهم أن الآيتين ¬

_ (¬1) أحمد 5/ 427. (¬2) النسائي في الكبرى 3/ 349 ح 5594. (¬3) سعيد بن منصور في سننه 1/ 264 ح 1073. (¬4) تقدم ح 885. (¬5) سعيد بن منصور في سننه 1/ 265 ح 1076. (¬6) الآية 1 من سورة الطلاق. (¬7) الآية 229 من سورة البقرة. (¬8) سيأتي ح 908.

مطلقتان، وما تقدم مصرح بأن إرسال الطلقات محرم، فيكون ذلك مقيدًا للإطلاق، وأما حديث المتلاعنين فلأنه لما لم تكن المرأة محلًّا للطلاق لم يكن ذلك محرمًا، والحديث هذا لم يكن فيه تصريح بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمضى عليه الثلاث أو لم يمض عليه وجعلها واحدة. 887 - وعن ابن عباس رضي الله عنه قال: طَلَّقَ أبو ركَانةَ أمَّ ركَانةَ، فقال له رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "راجع امرأتَك". فقال: إني طَلّقْتُها ثلاثًا. قال: "قد علمتُ، راجعْها". رواه أبو داود (¬1). وفي لفظ أحمد (¬2): طلق ركانة امرأتَهُ في مجلسٍ واحدٍ ثلاثًا، فَحَزِن عليها، فقال له رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "فإنها واحدةٌ". وفي سندهما ابن إسحاق (¬3) وفيه مقال. وقد روى أبو داود (¬4) من وجه آخر أحسن منه، أن ركانةَ طلق امرأته سهيمةَ البتةَ، فقال: واللهِ ما أرَدْتُ بها إلَّا واحدةً. فردَّها إليه النبي - صلى الله عليه وسلم -. الحديث أخرجه أبو داود، وأحمد، وأبو يعلى (¬5)، وصححه من طريق محمد بن إسحاق، عن داود بن الحصين، عن عكرمةَ، عن ابن عباس، ¬

_ (¬1) أبو داود، كتاب الطلاق، باب نسخ المراجعة بعد التطليقات الثلاث، 2/ 266 ح 2196. (¬2) أحمد 1/ 265. (¬3) محمد بن إسحاق بن يسار، أبو بكر المطلبي مولاهم، المدني، نزيل العراق، إمام المغازي، صدوق يدلس، ورمي بالتشيع والقدر. التقريب ص 467، وينظر تهذيب الكمال 24/ 405. (¬4) أبو داود 2/ 270 ح 2206. (¬5) أبو يعلى 4/ 379 ح 2500، وعند أبي داود من غير طريق محمد بن إسحاق به.

وابن إسحاق وشيخه (¬1) مختلف فيهما، بل وعكرمة (¬2) فيه مقال. وأجيب عن ذلك بأن العلماء قد عملوا بمثل هذا الإسناد في عدة من الأحكام مثل حديث: أنه رد النبي - صلى الله عليه وسلم - ابنته زينب على أبي العاص بالنكاح الأول (¬3). وليس كل مختلف فيه مردودًا. وقد روى الخطابي (¬4) أن الإمام أحمد كان يضعف طرق هذا الحديث كلها، ورواية أبي داود الأخرى عن نافع بن عجير بن عبد يزيد بن ركانة أن ركانة. الحديث. وأخرجها الشافعي (¬5) أيضًا، والترمذي (¬6) عن عبد الله بن علي بن يزيد بن ركانة عن أبيه عن جده، قال الترمذي: لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وسألت محمدًا عن هذا الحديث، فقال: فيه اضطراب. وصححه أبو داود وابن حبان والحاكم (¬7)، وقال ابن عبد البر في "التمهيد": ضعفوه، واختلفوا هل هو من مسند ركانة، أو مرسل عنه؟ وفي الباب عن ابن عباس روَاه أحمد والحاكم (¬8)، وهو معلول أيضًا. والحديث فيه دلالة على أن إرسال الثلاث التطليقات في مجلس واحد يكون طلقة واحدة، وقد اختلف الناس فيها على أربعة مذاهب؛ الأول: أنه ¬

_ (¬1) هو داود بن الحصين الأموي مولاهم، أبو سليمان المدني، ثقة إلا في عكرمة، ورمي برأي الخوارج. التقريب ص 198، وينظر تهذيب الكمال 8/ 379. (¬2) عكرمة أبو عبد الله، مولى ابن عباس، أصله بربري، ثقة ثبت، عالم بالتفسير، لم يثبت تكذيبه عن ابن عمر ولم تثبت عنه بدعة. التقريب ص 397، وينظر تهذيب الكمال 20/ 264. (¬3) تقدم ح 829. (¬4) معالم السنن 3/ 236. (¬5) الأم 5/ 118. (¬6) الترمذي 3/ 480 ح 1177. (¬7) أبو داود 2/ 271 ح 2208، وابن حبان 10/ 97 ح 4274، والحاكم 2/ 199. (¬8) الحاكم 2/ 491، وتقدم عند أحمد الصفحة السابقة.

يقع بها الثلاث التطليقات. وقد ذهب إلى هذا عمر، وابن عباس، وعائشة، ورواية عن علي، والناصر، والمؤيد بالله، والإمام يحيى، والأئمة الأربعة، وجماهير من السلف والخلف وبعض الإمامية. الثاني: أنه لا يقع به شيء؛ لأنه بدعة. وهذا قول الرافضة كما تقدم. الثالث: أنه تقع به واحدة رجعية. وهو مروي عن أبي موسى الأشعري، ورواية عن علي وابن عباس، وهو قول طاوس وعكرمة وجابر بن زيد، وذهب إليه الهادي، والقاسم، والباقر، والصادق، وعبد الله بن الحسن، وموسى بن عبد الله، ورواية عن زيد بن علي، واختاره من الحنابلة شيخ الإسلام ابن تيمية. الرابع: أنه يفرق بين المدخول بها وغيرها؛ فتقع الثلاث على المدخول بها، وتقع على غير المدخولة واحدة. وهذا قال به جماعة من أصحاب ابن عباس. وهو مذهب إسحاق بن راهويه، فيما حكاه عنه محمد بن نصر المروزي في كتاب "اختلاف العلماء" (¬1). أما المذهب الأول: فمنهم من يقول بأن إرسال الثلاث واقع أيضًا، وهو سنة أيضًا؛ وهم الشافعي، وأبو ثور، وأحمد بن حنبل في إحدى الروايتين عنه، وجماعة من أهل الظاهر. واحتجوا عليه بقوله تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ} الآية (¬2). ولم يفرق بين أن تكون الثلاث مجموعة أو متفرقة، وقوله تعالى: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ} (¬3). ولم ¬

_ (¬1) اختلاف العلماء ص 133. (¬2) الآية 230 من سورة البقرة. (¬3) الآية 237 من سورة البقرة.

يفرق، وقوله: {لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ} الآية (¬1). ولم يفرق، وقال: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} (¬2). ولم يفرق، وبما أخرجاه في "الصحيحين" (¬3): أن عويمر العجلاني طلق امرأته ثلاثًا بحضرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم ينكر عليه. وفي "صحيح البخاري" (¬4) من حديث القاسم بن محمد عن عائشة، أن رجلًا طلق امرأته ثلاثًا، فتزوجت فطلق، فسئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أتحل للأول؟ قال: "لا، حتى يذوق عسيلتها كما ذاق الأول". فلم ينكره رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فهذا يدل على إباحة جمع الثلاث وعلى وقوعها، وفي "الصحيحين" (¬5) في حديث فاطمة بنت قيس، أن زوجها طلقها ثلاثًا، فانطلق خالد بن الوليد في نفر إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - يسألونه: هل لها نفقة؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ليس لها نفقة، وعليها العدة". وفي "صحيح مسلم" (¬6)، أنها أتت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: "كم طلقك؟ ". قلت: ثلاثًا. فقال: "صدق، ليس لك نفقة". وفي لفظ له (¬7): قلت: يا ¬

_ (¬1) الآية 236 من سورة البقرة. (¬2) الآية 241 من سورة البقرة. (¬3) البخاري 9/ 361 ح 5259، ومسلم 2/ 1129 ح 1492. (¬4) البخاري 9/ 362 ح 5261. (¬5) مسلم 2/ 1114 ح 1480/ 38. وقال الحافظ: هكذا أخرج مسلم قصتها من طرق متعددة عنها، ولم أرها في البخاري وإنما ترجم لها كما ترى - باب قصة فاطمة بنت قيس، وقوله عز وجل: {... لا تخرجوهن من بيوتهن} إلى قوله: {بعد عسر يسرا} - وأورد أشياء من قصتها بطريق الإشارة إليها، ووهم صاحب العمدة فأورد حديثها بطوله في المتفق. الفتح 9/ 477، 478. (¬6) مسلم 2/ 119 ح 1480/ 48. (¬7) مسلم 2/ 1121 ح 1482.

رسول الله، صلى الله عليك، إن زوجي طلقني ثلاثًا، وأنا أخاف أن يقتحم علي. وقد روى عبد الرزاق في "مصنفه" (¬1) عن يحيى بن العلاء، عن عبيد الله بن الوليد [الوصَّافي] (أ)، عن إبراهيم بن [عبيد] (ب) الله بن عبادة بن الصامت، عن داود، عن عبادة بن الصامت، قال: طلق جدي امرأة له ألف تطليقة، فانطلق أبي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذكر له ذلك، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ما اتقى الله جدك؛ أما ثلاث فله، وأما تسعمائة وسبع وتسعون فعدوان وظلم، إن شاء الله عذبه، وإن شاء غفر له". ورواه بعضهم عن صدقة بن أبي عمران، عن إبراهيم بن عبيد (جـ) الله بن عبادة بن الصامت، عن أبيه، عن جده، قال: طلق بعض آبائي امرأته، فانطلق بنوه إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: يا رسول الله، إن أبانا قد (د) طلق أمنا ألفًا، فهل له من مخرج؟ فقال: "إن أباكم لم يتق الله فيجعل له مخرجًا، بانت منه بثلاث على غير السنة، وتسعمائة وسبع وتسعون إثم في عنقه" (¬2). ¬

_ (أ) في الأصل، جـ: الوصابي. وتقدم ص 6. (ب) في الأصل، جـ: عبد. والمثبت من مصدر التخريج وما سيأتي ص 42، وينظر لسان الميزان 1/ 79. (جـ) في جـ: عبد. (د) ساقطة من: جـ.

وأخرج محمد بن (أ) شاذان عن [معلى] (ب) بن منصور، عن شعيب بن رزيق، أن عطاء الخراساني حدثهم، عن الحسن، قال: حدثنا عبد الله بن عمر أنه طلق امرأته وهي حائض، ثم أراد أن يتبعها تطليقتين أخريين عند القرءين الباقيين، فبلغ ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "يابن عمر، ما هكذا أمرك الله، أخطأت السنة". وذكر الحديث. وفيه: فقلت: يا رسول الله، لو كنت طلقتها ثلاثًا، أكان لي أراجعها؟ قال: "لا، كانت تبين، وتكون معصية" (¬1). وحديث ركانة، أنه طلقها البتة. الذي مر، وهو أرجح من حديث: ثلاثًا؛ لأن راويه (جـ) ولد الرجل فهو أعلم به، بخلاف حديث: ثلاثًا، فإنه من رواية ابن جريج عن بعض بني رافع، وهو محتمل أن يكون عبيد الله (¬2)، وهو ثقة معروف، وإن كان غيره من إخوته، (د فهو مجهول د) العدالة لا تقوم به حجة، وأما الطريق التي فيها ابن إسحاق ففيه مقال، فدل ظاهر الآيات على وقوع الطلاق مطلقًا من غير نظر إلى كونه في مجلس أو ¬

_ (أ) في جـ: عن. (ب) في الأصل، جـ: يعلى. والمثبت من مصدر التخريج، وينظر تهذيب الكمال 28/ 288. (جـ) في جـ: رواية. (د- د) في جـ: فمجهول.

مجالس، وهذه الأحاديث تؤيد ظاهر الآيات، وتبين المراد منها، ويزيدها بيانًا وتأكيدًا لبقاء حكمها عملُ أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من بعده، وهم أعلم بسنته، وأشد اقتفاء لحكمه، فروى وكيع، عن الأعمش، عن حبيب ابن أبي ثابت، قال: جاء رجل إلى علي بن أبي طالب فقال: إني طلقت امرأتي ألفًا. فقال له علي: بانت منك بثلاث، واقسم سائرهن بين نسائك (¬1). وروى عبد الرزاق (¬2)، عن سفيان الثوري، عن سلمة بن كهيل، ثنا زيد بن وهب، أنه رُفع إلى عمر بن الخطاب رجل طلق امرأته الفًا، فقال له عمر: أطلقت امرأتك؟ فقال: إنما كنت ألعب. فعلاه عمر بالدرة وقال: إنما يكفيك من ذلك ثلاث. وروى وكيع، عن جعفر بن برقان، عن معاوية ابن أبي يحيى، قال: جاء رجل إلى عثمان بن عفان فقال: طلقت امرأتي ألفا. قال: بانت منك بثلاث (¬3). وروى عبد الرزاق (¬4)، عن سفيان الثوري، عن عمرو بن مرة، عن سعيد بن جبير، قال: قال رجل لابن عباس: طلقت امرأتي ألفًا. فقال له ابن عباس: ثلاث تحرمها عليك، وبقيتها عليك وزر، اتخذت آيات الله هزوًا. وروى عبد الرزاق (¬5) أيضًا، عن معمر، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة، قال: جاء رجل إلى ابن مسعود، فقال: إني طلقت امرأتي تسعًا وتسعين. فقال له ابن مسعود: ¬

_ (¬1) ابن أبي شيبة 5/ 12، 13. (¬2) عبد الرزاق 6/ 393 ح 11340. (¬3) ابن أبي شيبة 5/ 12، 13 عن وكيع به. (¬4) عبد الرزاق 6/ 397، 398 ح 11353. (¬5) عبد الرزاق 6/ 395 ح 11343.

ثلاث تبينها، وسائرهن (أ) عدوان. وأخرج عبد الرزاق والبيهقي (¬1) عن علقمة بن قيس، قال: أتى رجل ابن مسعود، فقال: إن رجلًا طلق امرأته البارحة مائة. قال: قلتها مرة واحدة؟ قال: نعم. قال: تريد أن تبين منك امرأتك؟ قال: نعم. قال: هو كما قلت. قال: وأتاه رجل، فقال: رجل طلق امرأته عدد النجوم. قال: قلتها مرة واحدة؟ قال: نعم. قال: تريد أن تبين منك امرأتك؟ قال: نعم. قال: هو كما قلت. ثم قال: قد بين الله أمر الطلاق؛ فمن طلق كما أمره الله فقد بين له، ومن لبَس على نفسه جعلنا به لبسه، والله لا تلبِسون على أنفسكم ونتحمله عنكم، هو كما تقولون. وذكر أبو داود (¬2) في "سننه"، عن محمد بن إياس أن ابن عباس، وأبا هريره، وعبد الله بن عمرو بن العاص، سئلوا عن البكر يطلقها زوجها ثلاثًا، [قالوا] (ب): لا تحل له حتى تنكح زوجًا غيره. وأخرج الطبراني والبيهقي (¬3)، عن سويد بن غفلة (جـ)، عن الحسن بن علي بن أبي طالب في قصة، أنه قال: سمعت جدي -أو قال: حدثني أبي، أنه سمع جدي- يقول: أيما رجل طلق امرأته ثلاثًا عند الأقراء أو ثلاثًا مبهمة، لم تحل له حتى تنكح زوجًا غيره. فهؤلاء أعيان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حكموا بأن الثلاث واقعة جملة، فلو كان ثابتًا غير هذا لم يخف عليهم، مع أن ابن عباس اشتهر عنه ذلك، ومن ¬

_ (أ) زاد في الأصل: عليك. (ب) في الأصل، جـ: قال. والمثبت من مصدر التخريج. (جـ) في جـ: علقمة.

البعيد أن يروي شيئًا ويتعمد العمل بخلافه، ما ذاك إلا لكون ما رواه مرادًا به ما تقدم من التأويل، ولا يكون هذا من ترك العمل بالحديث إذا خالف مذهب الراوي، وإنما هو من باب ترجيح التأويل وإن كان مخالفا للظاهر لهذه القرينة، وأجيب من جانب من قال: إن الثلاث واحدة. وهو المذهب الثالث: [أما] (أ) عن الآيات الكريمة، فهي ألفاظ مطلقة مقيدة بالسنة، وأما طلاق الملاعن، فإن التقرير لا يدل على الجواز، ولا على وقوع الثلاث، لأنا نقول: إن النهي إنما وقع فيما يكون رافعًا لنكاح كان مطلوب الدوام، والملاعن إنما يريد الفراق سواء كان فراقه بنفس اللعان أو بتفريق الحاكم، فلا يدل على المطلوب، ويمكن الجواب عنه بأنه قد طلقها في حال يصح منه فيه (ب) الطلاق، فحرمت عليه بالطلاق قبل أن يفرق الحاكم، فلو كان لا يحرمها الطلاق لاحتاج إلى تفريق، ولم يرو، إلا أنه لا يستقيم إلا على قول من يشترط في الفرقة تفريق الحاكم، وأما على قول الشافعي: إن الفرقة تقع بلعان الزوج أو بلعانهما. كما هو مذهب أحمد على إحدى الروايات عنه، فلا، إلا أنه قد يقال: في سكوت النبي - صلى الله عليه وسلم - وعدم إنكاره عليه تقرير على أن ذلك مشروع في البينونة على حسب ما اعتقده، وإلا لبين له أنه لا فائدة في جمع الثلات لإرادة البينونة فتأمل، وأما حديث عائشة فلم يكن فيه تصريح بأنه وقع الثلاث في مجلس واحد، فلا يدل على المطلوب، وقد يجاب عنه بأن عدم استفصاله - صلى الله عليه وسلم - هل كان في مجلس أو مجالس، يدل على أنه لا فرق في ذلك، وكذلك حديث فاطمة فيه ما ذكر إلا أنه قد يقال: لا يصح ¬

_ (أ) ساقطة من: الأصل. (ب) ساقطة من: جـ.

الاحتجاج به في هذا الحكم لمخالفتكم له في إثبات النفقة، فكيف تقرون به في طرف وتردونه في طرف؟ مع أن في "الصحيحين" (¬1) في خبرها نفسها من رواية الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة: أن زوجها أرسل إليها بتطليقة كانت بقيت لها من طلاقها. وفي لفظ في "الصحيح" (¬2): أنه طلقها آخر ثلاث تطليقات. وهو سند صحيح متصل، فلا يصح الاحتجاج به، وأما حديث عبادة بن الصامت (¬3) ففي إسناده يحيى بن العلاء (¬4) وإبراهيم بن عبيد الله (¬5)، وهما ضعيفان، ثم إن والد عبادة بن الصامت لم يعرف أنه أدرك الإسلام فضلًا عن جده، وأما حديث عبد الله بن عمر (3) فأصله صحيح بلا شك، لكن قوله: لو كنت طلقتها ثلاثًا أكانت تحل لي؟ إنما جاءت من رواية شعيب بن رزيق وهو الشامي، وبعضهم يقلبه ويقول: رزيق بن شعيب. وكيفما كان فهو ضعيف، قال في "الميزان" (¬6): رزيق بن شعيب ضعفه ابن حزم. وأما المذهب الثاني: فحجتهم أن ذلك بدعة، والبدعة مردودة؛ ¬

_ (¬1) مسلم 2/ 1117 ح 41/ 1480. وينظر التعليق عليه ص 36. (¬2) البخاري 10/ 502 ح 6084، وسقط منه لفظ "آخر"، وينظر البخاري 8/ 27، 28. (¬3) تقدم ص 37. (¬4) يحيى بن العلاء البجلي، أبو عمرو أو أبو سلمة، الرازي، رمي بالوضع. التقريب ص 595. وينظر تهذيب الكمال 31/ 484. (¬5) إبراهيم بن عبيد الله بن عبادة بن الصامت ضعفه الدارقطني، وقال في موضع آخر: مجهول. وكذا قاله ابن حزم. لسان الميزان 1/ 79. (¬6) ميزان الاعتدال 2/ 48.

لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد" (¬1). وقد مر (أ) الجواب عنه (ب) (¬2). وأما المذهب الثالث: فحجتهم ما مرَّ في (جـ) حديثي ابن عباس، وفيهما صراحة [في المطلوب] (د)، واحتج في "البحر" (¬3) بقوله تعالى: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ}. فجعل وقوع الثالثة كالمشروط بأن يكون في حال يصح من الزوج فيها الإمساك: إذ من حق كل مخيرين أن يصح أحدهما في الحال التي يصح فيها الآخر وإلا بطل التخيير، فإذا لم يصح الإمساك إلا بعد الرجعة لم تصح الثالثة إلا بعدها لذلك، وإذا لزم في الثالثة وحديث مثله في الثانية، إذ لم يفصل بينهما أحد، والجواب عنهما هو أن حديث ركانة وإن اختلفت طريقاه ففي طريقهما ابن إسحاق، وهو معارض برواية البتة، وهي أرجح، فبقي إما الاطراح أو التأويل برجوع الثلاث إلى حديث البتة الذي فيه احتمال أن يريد بها (ب) الثلاث أولى، ولذلك استحلفه النبي - صلى الله عليه وسلم -، والتأويل أولى؛ إذ فيه إعمال الروايات كلها وتفسير بعضها لبعض في القصة الواحدة كما هو الواجب، فضعف الاحتجاج به، وأما ما ¬

_ (أ) في جـ: تقدم. (ب) ساقطة من: جـ. (جـ) في جـ: من. (د) في الأصل: بالمطلوب.

احتج به في "البحر" بأن الإمساك بالمعروف مترتب على الرجعة فيكون التسريح مرتبا عليها، فالجواب عنه أنه لم يكن في اللفظ ما يدل على الحصر، وأنه لا يقع الطلاق إلا بعد الرجعة، وإنما غاية ذلك أنه تعريف للحكم المشروع المأذون فيه من دفع الضرار، مثل قوله تعالى: {فَطلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ}. فكما وقع الطلاق عند خلاف ذلك كما في حديث ابن عمر كذلك في هذه الحالة، وإنما يستقيم الاحتجاج على أصل من لا يقول بوقوع البدعي، وإذا تأملت ما تلوناه عليك من حجج الفريقين لم يخف عليك الراجح من المذهبين، فهذا نهاية إقدام الفريقين في هذا المقام الضنك والمعترك الصعب، وبالله التوفيق. وأما المذهب الرابع الذي فرقوا بين المدخول بها وغيرها، فحجتهم ما وقع في رواية أبي داود كما تقدم (¬1): أما علمت أن الرجل كان إذا طلق امرأته ثلاثًا قبل أن يدخل بها جعلوها واحدة على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ الحديث، ومن جهة القياس أنه إذا قال: أنت طالق. بانت منه بذلك، فإذا أعاد اللفظ لم يصادف محلًّا للطلاق فكان لغوًا، وجعلوا هذا تأويلًا لحديث عمر. والجواب عنه ما مر من ثبوت ذلك مطلقًا في حق المدخولة وغيرها، وقد ورد في ذلك آثار؛ فأخرج سعيد بن منصور والبيهقي (¬2) عن أنس بن مالك، قال عمر بن الخطاب في الرجل يطلق ثلاثًا قبل أن يدخل بها، قال: هي ثلاث، لا تحل له حتى تنكحَ زوجًا غيرَه. وأخرج البيهقي (¬3) من طريق ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه ص 26. (¬2) سعيد بن منصور 1/ 264 ح 1074، والبيهقي 7/ 334. (¬3) البيهقي 7/ 334، 335.

عبد الرحمن بن أبي ليلى عن علي رضي الله عنه، فيمن طلق امرأته ثلاثًا قبل أن يدخل بها: لا تحل له حتى تنكح زوجا غيره. وأخرج البيهقي (¬1) عن ابن مسعود قال: المطلقة ثلاثًا قبل أن يدخل بها بمنزلة التي (أقد دخل أ) بها. وأخرج مالك والشافعي وأبو داود والبيهقي (¬2)، عن محمد بن إياس بن البكير قال: طلق رجل امرأته ثلاثًا قبل أن يدخل بها، ثم بدا له أن ينكحها، فجاء يستفتي، فذهبت معه أسأل له، فسألت أبا هريرة وعبد الله بن عباس عن ذلك، فقالا: لا نرى أن تنكحها حتى تنكح زوجًا غيرك. قال: إنما كان طلاقي إياها واحدة. قال ابن عباس: إنك أرسلت من يدك ما كان لك من فضل. وأخرج مالك والشافعي وأبو داود والبيهقي (¬3) عن معاوية بن أبي عياش الأنصاري أنه كان جالسًا مع عبد الله بن الزبير وعاصم بن عمر، فجاءهما محمد بن إياس بن البكير، فقال: إن رجلًا من أهل البادية طلق امرأته ثلاثًا قبل أن يدخل بها، فماذا تريان؟ فقال ابن الزبير: إن هذا الأمر ما لنا فيه قول، اذهب إلى ابن عباس وأبي هريرة، فإني تركتهما عند عائشة فاسألهما. فذهب فسألهما، قال ابن عباس لأبي هريرة: أفته يا أبا هريرة، فقد جاءتك معضلة. فقال أبو هريرة: الواحدة تَبتها، والثالثة تحرمها حتى تنكح زوجًا غيره. وقال ابن عباس مثل ذلك. ¬

_ (أ- أ) في جـ: يدخل.

وأخرج مالك والشافعي [والبيهقي] (أ) (¬1)، عن عطاء بن يسار قال: جاء رجل ليسأل عبد الله بن عمرو بن العاص عن رجل طلق امرأته ثلاثًا قبل أن يمسها، فقلت: إنما طلاق البكر واحدة. فقال عبد الله بن عمرو: إنما أنت قاص، الواحدة تبتها والثلاث تحرمها حتى تنكح زوجًا غيره. واعلم أن ظاهر الأحاديث والآثار أنه لا فرق بين أن يقول: أنت طالق ثلاثًا. أو: أنت طالق أنت طالق. وفي كتب الفروع فرقوا بين ذلك في حكاية الخلاف. قال في "البحر": فصل؛ علي، عمر، وابن مسعود، وزيد، ثم العترة، والفريقان: والثلاث بألفاظ على غير المدخولة واحدة لبينونتها بالأولى. مالك والنخعي وعن الشافعي: بل بثلاث، إذ هو كالكلمة الواحدة كانت كذا ثلاثًا. قلنا: بل الألفاظ تخالف اللفظ. مسألة: الباقر، والصادق، والهادي، والقاسم، والحسن البصري، وطاوس، وأحمد، وجابر بن زيد: فإن قال: أنت طالق كذا ثلاثًا. فواحدة أيضًا كالألفاظ؛ إذ قوله: ثلاثًا. منفصلة فوقع واحدة بما قبله. علي، عمر، ابن عباس، ابن عمر، ثم زيد، الناصر، الداعي، المؤيد، الإمام يحيى، الفريقان، مالك: بل بتثليث أيضًا؛ إذ قوله: ثلاثًا. تفسير لطالق، وهو يحتملها، قلنا: ينبني على أن الطلاق يتوالى، وقد أبطلناه، سلمنا، فطالق وحده لا يحتملها. انتهى. وهذا في غير المدخولة. والله أعلم. 888 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ¬

_ (أ) ساقطة من: الأصل.

"ثلاثٌ جِدُّهن جِد وهزلهن جد؛ النكاحُ، والطلاقُ، والرجعةُ". رواه الأربعة إلا النسائي وصححه الحاكم (¬1). وفي رواية لابن عدي (¬2) من وجه آخر ضعيف: "الطلاق والعتاق والنكاح". وللحارث بن أبي أسامة (¬3) من حديث عبادة بن الصامت رفعه: "لا يجوزُ اللعب في ثلاث؛ الطلاق، والنكاح، والعتاق، فمن قالهن فقد وجبن". وسنده ضعيف. الحديث باللفظ الأول وأخرجه ابن ماجه والدارقطني (¬4)، وهو من حديث عطاء عن يوسف بن ماهك، قال الترمذي: حسن. وقال الحاكم: صحيح. وهو من رواية عبد الرحمن بن حبيب بن [أردك] (أ)، وهو مختلف فيه (¬5)؛ قال النسائي (¬6): منكر الحديث. ووثقه غيره، فهو على هذا حسن. ¬

_ (أ) في الأصل: أزدك.

والضعف في الرواية الآخرة بسبب ابن لهيعة (¬1)، وفيه أيضًا انقطاع. وأخرج عبد الرزاق (¬2)، عن إبراهيم بن محمد، عن صفوان بن سليم، [عن أبي ذر رفعه] (أ): "من طلق وهو لاعب فطلاقه جائز، ومن أعتق وهو لاعب فعتاقه جائز، ومن نكح وهو لاعب فنكاحه جائز". وهو منقطع أيضًا. الحديث فيه دلالة على وقوع طلاق الهازل، وأنه لا يحتاج الصريح إلى نية. وقد ذهب إلى هذا أكثر العترة والحنفية والشافعية، ولعموم قوله تعالى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} (¬3). ولم يفصل، وذهب الباقر والصادق والناصر وأحمد ومالك إلى أنه يفتقر اللفظ الصريح إلى النية؛ لقوله تعالى: {وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ} (¬4). والعزم هو الإرادة، قال الإمام المهدي في "البحر" جوابًا: قلنا: أراد حيث يفتقر لا الصرائح؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "ثلاث هزلهن" الحديث. والطلاق في الهزل غير مقصود ولا منوي، ولأنه إزالة ملك كالعتق، أو حل عقد كالإقالة. انتهى. ولا يخفى ضعف الاحتجاج بالآية وركة الجواب، فإن الآية الكريمة وردت في حق المؤلي، واختلف العلماء في تفسيرها من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من الأئمة، هل يكفي في حق المؤلي التصميم على الطلاق ¬

_ (أ) في الأصل، جـ: عن عبادة. والمثبت من التلخيص 3/ 209.

وتطلق بذلك أو لا بد من إعادة الطلاق؟ فالذي قال: يكفي التصميم. يقول: الطلاق، والطلاق وقع بالإيلاء، والتصميم على المفارقة به، وهذا خاص بالمؤلي لما كان الإيلاء غير صريح في الطلاق. والأولى في الاحتجاج لهم قوله - صلى الله عليه وسلم -: "الأعمال بالنيات" (¬1). ويجاب عنه بأنه عام مخصوص أو مؤول. 889 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن اللهَ تَجَاوَزَ عن أُمّتِي ما حَدّثَتْ بِهِ أنْفُسَها مَا لَم تَعْمَلْ أو تَكَلَّمْ". متفق عليه (¬2). ورواه ابن ماجه (¬3) بلفظ: "عما توسوس به صدورها". بدل: "ما حدثت به أنفسها". وزاد في آخره: "وما استكرهوا عليه". قال المصنف رحمه الله (¬4): وأظن الزيادة هذه مدرجة، كأنها دخلت على هشام بن عمار من حديث في حديث، والله أعلم. لفظ "أنفسها" منصوب على مفعولية "حدثت"، وذكر المطرزي عن أهل اللغة أنهم يقولونه بالضم، يريدون بغير اختيار. والحديث حجة في أن الطلاق لا يقع بحديث النفس. وهو قول الجمهور، وروي عن ابن سيرين والزهري وعن مالك رواية ذكرها أشهب ¬

_ (¬1) البخاري 1/ 9 ح 1، ومسلم 3/ 1515 ح 1907. (¬2) البخاري، كتاب النكاح، باب الطلاق في الإغلاق ... 9/ 338 ح 5269، ومسلم، كتاب الإيمان، باب تجاوز الله عن حديث النفس ... 1/ 116، 117 ح 127/ 202. (¬3) ابن ماجه 1/ 659 ح 6044. (¬4) الفتح 5/ 161.

عنه بأنه إذا طلق في نفسه وقع الطلاق. وقوَّى ذلك ابن العربي بأن من اعتقد الكفر بقلبه ومن أصر على المعصية أثِمَا، وكذلك الرياء بالعمل، وكذا من قذف مسلمًا بقلبه، وكل ذلك من أعمال القلب دون اللسان، والجواب عنه بالحديث المذكور وقوله تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلا وُسْعَهَا} (¬1)، وحديث النفس يخرج عن الوسع، وما ذكر ابن العربي الجواب عنه بأن الكفر هو من عمل القلب فهو مخصوص، وكذلك الرياء فهو مخصوص، والمصر على المعصية، فالإثم على عمل المعصية المتقدم على الإصرار، وكذا نقول في الرياء: إنه متعلق بالعمل الذي فعله، وكذا العجب، واحتج الخطابي بالإجماع على أن من عزم على الظهار لا يصير مظاهرًا. قال (¬2): وكذلك الطلاق، وكذا لو حدث نفسه بالقذف لم يكن قاذفًا. قال: ولو كان حديث النفس يؤثر لأبطل الصلاة. واحتج الطحاوي بهذا الحديث للجمهور فيمن قال لامرأته: أنت [طالق] (أ). ونوى في نفسه ثلاثًا، أنه لا يقع إلا واحدة خلافًا للشافعي ومن وافقه، قال: لأن الخبر دل على أنه لا يجوز وقوع الطلاق بنية لا لفظ معها. وتعقب بأنه لفظ بالطلاق ونوى الفرقة التامة فهي نية صحبها لفظ، واحتج به أيضًا لمن قال لامرأته: يا فلانة. ونوى (ب) بذلك طلاقها، أنه (جـ) لا تطلق، خلافًا ¬

_ (أ) في الأصل: طلاق. (ب) زاد في الأصل: الطلاق ونوى. (جـ) في جـ: أنها.

لمالك وغيره؛ لأن الطلاق لا يقع بالنية دون اللفظ، ولم يأت بصيغ لا صريحة ولا كناية، واستدل به على أن (أ) من كتب الطلاق طلقت امرأته؛ لأنه عزم بقلبه وعمل بكتابته. وهو قول (ب) الجمهور وشرط مالك فيه الإشهاد على ذلك. 890 - وعن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن اللهَ وَضَعَ عن أُمتي الخطَأ والنسيانَ وما استُكْرِهُوا عليه". رواه ابن ماجه والحاكم (¬1). وقال أبو حاتم (¬2): لا يثبت. قال النووي في الطلاق من "الروضة" (¬3) في تعليق الطلاق: حديث حسن. وكذا قال في أواخر "الأربعين" (¬4) له. انتهى، وقد أخرجوه من حديث الأوزاعي، واختلف عليه؛ فقيل: عنه عن عطاء، عن عبيد بن (جـ) عمير، عن ابن عباس بهذا اللفظ. وللحاكم والدارقطني والطبراني (¬5) "تجاوز". وهي رواية بشر بن بكر. ورواه الوليد بن مسلم عن الأوزاعي ولم ¬

_ (أ) ساقط من: جـ. (ب) زاد في جـ: مالك وشرط. (جـ) في جـ: عن.

يذكر عبيد بن عمير (¬1)، قال البيهقي (¬2): جوده بشر بن بكر (¬3) وهو من الثقات، وقال الطبراني في "الأوسط" (¬4): لم يروه عن الأوزاعي -يعني مجودًا- إلا بشر، وتفرد به الربيع بن سليمان. وللوليد فيه إسنادان آخران، قال ابن أبي حاتم (¬5): سألت أبي عنها، فقال: هذه أحاديث منكرة، كلها (أ) موضوعة. وقال في موضع آخر [عنه] (ب): لم يسمعه الأوزاعي من عطاء، إنما سمعه (جـ من رجل جـ) لم يسمه، أتوهم أنه عبد الله بن عامر الأسلمي، أو إسماعيل بن مسلم. قال: ولا يصح هذا الحديث ولا يثبت إسناده. وقال عبد الله بن أحمد في "العلل" (¬6): سألت أبي عنه فأنكره جدًّا، وقال: ليس يروى هذا إلا عن الحسن عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. ونقل الخلال عن أحمد (¬7)، قال: من زعم أن الخطأ والنسيان مرفوع فقد خالف كتاب الله وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فإن الله أوجب في قتل النفس الخطأ الكفارة. ¬

_ (أ) في مصدر التخريج: كأنها. (ب) في الأصل: منه. (جـ - جـ) في جـ: لرجل.

يعني من زعم ارتفاعها على العموم في خطاب الوضع والتكليف، وأورده [محمد] (أ) بن نصر في كتاب "الاختلاف" (¬1) في باب طلاق المكره، وقال: ليس له إسناد يحتج بمثله. ورواه العقيلي في "تاريخه" (¬2) من حديث الوليد عن مالك به. ورواه البيهقي، وقال الحاكم: هو صحيح غريب تفرد به الوليد عن مالك. وقال البيهقي في موضع آخر: ليس بمحفوظ عن مالك. ورواه الخطيب في كتاب "الرواة عن مالك" في ترجمة سوادة بن إبراهيم (¬3) عنه، وقال: سوادة مجهول، والخبر منكر عن مالك. ورواه ابن ماجه (¬4) من حديث أبي ذر، وفيه شهر بن حوشب (¬5)، وفي إسناده انقطاع. ورواه الطبراني من حديث أبي الدرداء ومن حديث ثوبان (¬6)، وفي إسنادهما ضعف. الحديث فيه دلالة على أن الأحكام الأخروية من العقاب معفوة عن الأمة المحمدية، إذا صدرت عن خطأ ونسيان وإكراه، كما في قوله: {ربنا لا ¬

_ (أ) في الأصل، جـ: أحمد. والمثبت هو الصواب.

تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} (¬1). وأما ابتناء الأحكام والآثار الشرعية عنها ففي ذلك تفصيل وخلاف بين العلماء، أما طلاق الناسي فأخرج ابن أبي شيبة (¬2) عن الحسن أنه كان يراه كالعمد إلا إذا اشترط، وأخرج (¬3) عن عطاء أنه كان لا يراه شيئًا. ويحتج بالحديث، وهو قول الجمهور، وأما طلاق الخاطئ فذهب الجمهور إلى أنه لا يقع، وعن الحنفية فيمن أراد أن يقول لامرأته شيئًا فسبقه لسانه، فقال: أنت طالق. يلزمه الطلاق، وأما طلاق المكره فاختلف السلف فيه؛ فأخرج ابن أبي شيبة (¬4) عن إبراهيم النخعي أنه يقع، لأنه شيء افتدى به نفسه، وبه قال أهل الرأي، وعنه: إن ورّى المكره لم يقع، وإلا [وقع] (أ). قال الشعبي (4): إن أكرهه اللصوص وقع، وإن أكرهه السلطان لم يقع. ووجّه بأن السلاطين من شأنهم أن يقتلوا مخالفهم غالبًا بخلاف اللصوص. وذهب الجمهور إلى عدم اعتبار ما يقع من المستكره، واحتج عطاء بقوله تعالى: {لَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ} (¬5). قال عطاء: الشرك أعظم من الطلاق. أخرجه سعيد بن منصور (¬6) بسند صحيح، وقرره الشافعي بأن الله لما وضع الكفر عمن تلفظ ¬

_ (أ) في الأصل: لم يقع.

به حال الإكراه، وأسقط عنه أحكام الكفر، فكذلك يسقط عن المكره ما دون الكفر؛ لأن الأعظم إذا سقط سقط ما هو دونه بطريق الأولى. 891 - وعن ابن عباس رضي الله عنه قال: إذا حرم امرأته ليس بشيءٍ. وقال: لقد كان لكم في رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أسوةٌ حسنةٌ. رواه البخاري (¬1). ولمسلم (¬2): إذا حرم الرجل عليه امرأته فهو يمين يكفرها. الحديث فيه دلالة على أن تحريم الزوجة لا يكون طلاقًا، وهو المراد يقوله: ليس بشيء. وإن كان يلزمه كفارة يمين، وقد روى البخاري (¬3) بالإسناد الذي روى به هذه الرواية المطلقة زيادة "يكفر". وأخرج الإسماعيلي (¬4) من طريق محمد بن المبارك الصوري، عن معاوية بن سلام، بإسناد هذا الحديث: إذا حرم الرجل امرأته، فإنما هي يمين يكفرها. فعرف أن المراد بقوله: ليس بشيء. أي ليس بطلاق. وأخرج النسائي (¬5)، وابن مردويه، من طريق سالم الأفطس، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: أن رجلًا جاءه، فقال: إني جعلت امرأتي علي حرامًا. قال: كذبت، ما هي عليك بحرام. ثم تلا: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} (¬6). قال له: عليك رقبة. انتهى. ¬

_ (¬1) البخاري، كتاب الطلاق، باب لم تحرم ما أحل الله لك 9/ 374 ح 5266. (¬2) مسلم، كتاب الطلاق، باب وجوب الكفارة على من حرم امرأته 2/ 110 ح 1473/ 19. (¬3) البخاري 8/ 656 ح 4911. (¬4) الفتح 9/ 376. (¬5) النسائي في الكبرى 3/ 356، 6/ 495، ح 5613، 1169. (¬6) الآية 1 من سورة التحريم.

ويحتمل أنه أراد بقوله: ليس بشيء. أي لا يلزم فيه شيء. والأول أولى. الحديث فيه دلالة على أن تحريم الرجل لامرأته لا يكون طلاقًا، ويلزم في ذلك كفارة يمين كما صرح به في رواية مسلم واحتمله في (أ) رواية البخاري، والمسألة اختلف فيها السلف من الصحابة والتابعين وتابعيهم والخلف من الأئمة المجتهدين. وانتهت أقوالهم إلى ثلاثة عشر قولًا أصولًا وتفرعت إلى عشرين مذهبًا: الأول: أن التحريم لغو لا شيء فيه لا في الزوجة ولا في غيرها، لا طلاق ولا إيلاء ولا ظهار ولا يمين، وقد ذهب إلى هذا مسروق، فأخرج وكيع (¬1) عن إسماعيل بن أبي خالد، عن الشعبي، عن مسروق أنه قال: ما أبالي حرمت امرأتي أو قصعة من ثريد. وأخرج عبد الرزاق (¬2)، عن الثوري، عن صالح بن مسلم، عن الشعبي أنه قال في تحريم المرأة: لهي أهون علي من نعلي. وأخرج (¬3) ابن جريج قال: أخبرني عبد الكريم عن أبي سلمة ابن عبد الرحمن أنه قال: ما أبالي حرمتها -يعني امرأته- أو حرمت ماء النهر. وعن قتادة (¬4): سأل رجل حميد بن عبد الرحمن الحميري عن ذلك ¬

_ (أ) ساقطة من: جـ.

فقال: قال الله تعالى: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (7) وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} (¬1). وأنت رجل تلعب، فاذهب فالعب. وهذا قول الظاهرية، والحجة على هذا أن التحريم والتحليل إنما هو إلى الله تعالى، كما قال تعالى: {وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ} (¬2). وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} (¬3). فإذا لم يجعل لنبيه أن يحرم، فكيف يجعل لغيره التحريم؟! قالوا: وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "كل عمل ليس عليه أمرنا فهو رد" (¬4). والتحريم كذلك، فيكون مردودًا باطلا، ولأنه لا فرق بين تحليل الحرام وتحريم الحلال، فكما كان الأول باطلًا يكون الثاني كذلك. وقوله: هي علي حرام. إن أراد به الإنشاء فإنشاء التحريم ليس إليه، وإن أراد به الإخبار فهو كذب، قالوا: ونظرنا إلى ما عدا هذا القول، فوجدناها أقوالًا مضطربة لا برهان عليها من الله، فتعين القول بهذا. الثاني، أن تحريم الزوجة طلاق ثلاث. وهذا رواه ابن حزم (¬5) عن علي ابن أبي طالب وزيد بن ثابت وابن عمر. وهو قول الحسن ومحمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى (¬6). وروي عن الحكم بن عتيبة. ورواه في "البحر" أيضًا عن علي وزيد بن ثابت. قال ابن القيم (¬7): الثابت عن زيد بن ثابت ¬

_ (¬1) الآيتان 7، 8 من سورة الشرح. (¬2) الآية 116 من سورة النحل. (¬3) الآية 1 من سورة التحريم. (¬4) تقدم تخريجه ص 43. (¬5) المحلى 11/ 384. (¬6) مصنف عبد الرزاق 6/ 403 ح 11382، 11383، والمحلى 11/ 384. (¬7) زاد المعاد 5/ 303.

وابن عمر هو ما رواه أيضًا ابن حزم (¬1)، من طريق الليث بن سعد، عن يزيد ابن أبي حبيب، عن [ابن هبيرة] (أ)، عن قبيصة، أنه سأل زيد بن ثابت وابن عمر عمن قال لامرأته: أنت علي حرام. فقالا جميعًا: كفارة يمين. ولم يصح عنهما خلاف ذلك، وأما علي فقد روى أبو محمد (¬2)، من طريق يحيى القطان، ثنا إسماعيل بن أبي خالد، عن الشعبي قال: يقول رجال في الحرام: هي حرام حتى تنكح زوجًا غيره، لا، والله ما قال ذلك علي، وإنما قال علي: ما أنا بمحلها ولا محرمها عليك، إن شئت فتقدم وإن شئت فتأخر. وأما الحسن فقد روى أبو محمد (¬3)، من طريق قتادة، عنه أنه قال: كل حلال علي حرام، فهي يمين. ولعل أبا محمد غلط علَى عليٍّ، وزيد، وابن عمر من مسألة الخلية والبرية والبتة، فإن أحمد حكى عنهم أنها ثلاث، وقال: هو عن علي وابن عمر صحيح. فوهم أبو محمد، وحكاه في: أنت علي حرام. وهو وهم ظاهر، فإنهم فرقوا بين التحريم، فأفتوا فيه بأنه يمين، وبين الخلية فأفتوا فيها بثلاث، ولا أعلم أحدًا قال: إنه ثلاث بكل حال. انتهى. وحجة أهل هذا القول أن التحريم يجعل كناية عن الطلاق، وأعلى أنواعه تحريم الثلاث، فيحمل على ذلك احتياطًا في تحريم البضع، ولأنه قد ¬

_ (أ) في الأصل، جـ: أبي هريرة. والمثبت من مصدر التخريج، وينظر تهذيب الكمال 16/ 242.

أفتوا في الخلية والبرية بأنها ثلاث، كما تقدم، وغاية ما يستفاد من الخلية والبرية هو التحريم، فإذا صرح بالتحريم فهو أولى أن يكون ثلاثًا، ولأن الواحدة لا تحرم إلا إذا كانت بعوض أو قبل الدخول، فإذا أطلق التحريم انصرف إلى التحريم المطلق الذي يثبت، سواء كان قبل الدخول أو بعده، وبعوض أو غيره وهو الثلاث. الثالث: أنه ثلاث في حق المدخول بها لا يقبل منه غير ذلك، وإن كانت غير مدخول بها وقع ما نواه من واحدة واثنتين وثلاث، فإن أطلق فواحدة، فإن قال: لم أرد طلاقًا. فإن كان قد تقدم كلام يجوز صرفه إليه قُبل منه، وإن كان ابتداء لم يقبل، وإن حرّم أمته أو طعامه أو متاعه فليس بشيء. وهذا مذهب مالك، وحجته أن المدخول بها لا يحرمها إلا الثلاث، وغير المدخول بها تحرمها الواحدة، والزائدة عليها ليست من لوازم التحريم، وهذا المذهب نسبه في "نهاية المجتهد" (¬1) إلى علي بن أبي طالب وزيد بن ثابت. الرابع: أنه إذا نوى الطلاق كان طلاقًا، ثم إن نوى به الثلاث فثلاث، وإن نوى دونها فواحدة بائنة، وإن نوى يمينًا فهو يمين فيها كفارة، وإن لم ينو شيئًا فهو إيلاء فيه حكم الإيلاء، فإن نوى الكذب صدِّق في الفتيا، وإن لم ينو شيئًا فيكون في القضاء إيلاء، وإن صادف غير الزوجة كالأمة والطعام ¬

_ (¬1) الهداية في تخريج البداية 7/ 44.

وغيره فهو يمين فيه كفارتها. وهذا مذهب أبي حنيفة، وحجة هذا القول أن لفظ التحريم لا يفيد عددًا بوضعه، وإنما يقتضي بينونة يحصل بها التحريم، فإن نوى الثلاث كان ثلاثا، وإن نوى دون الثلاث أفاد البينونة بواحدة بدون عوض، ويكون كما إذا قال: أنت طالق طلقة بائنة (أ). فإن الرجعة حق، فإذا أسقطها سقطت، ولأنه إذا ملك إبانتها بعوض يأخذه منها ملك الإبانة بدونه، فإنه محسن بتركه لأن العوض حق له، فإذا أسقطه كان له ذلك، وهو صريح في الإيلاء، فإذا لم ينو شيئًا كان إيلاء كما روي في قصة التحريم في حق النبي - صلى الله عليه وسلم -. الخامس: أنه إن نوى به الطلاق كان طلاقًا، ويقع ما نواه، فإن أطلق وقعت واحدة، وإن نوى الظهار كان ظهارًا، وإن نوى اليمين كان يمينًا، وإن نوى تحريم عينها من غير طلاق ولا ظهار، فعليه كفارة يمين، وإن لم ينو شيئًا ففيه قولان، أحدهما: لا يلزمه شيء. والثاني: يلزمه كفارة يمين. وإن صادف جارية، فنوى عتقها وقع العتق، وإن نوى تحريمها لزمه بنفس اللفظ كفارة يمين، وإن نوى الظهار منها، لم يصح، ولم يلزمه شيء، وقيل: يلزمه كفارة يمين. وإن لم ينو شيئًا ففيه قولان؛ أحدهما: لا يلزمه شيء. والثاني: عليه كفارة يمين. وإن صادف غير الزوجة والأمة لم تحرم، ولم يلزمه شيء. وهذا مذهب الشافعي، وحجة هذا القول أن اللفظ أفاد التحريم، والتحريم متردد بين التحريم بالطلاق أو بالظهار أو بالإيلاء، فإذا صرفه إلى بعضها بالنية انصرف إليه؛ لأنه استعمله فيما هو صالح له، وكذا عتق الأمة؛ لأن العتق يحرمها عليه، وتحريم

العين يلزمه بنفس اللفظ كفارة يمين؛ لظاهر قوله تعالى: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} (¬1). وحديث ابن عباس هذا. السادس: أنه ظهار بإطلاقه وإن لم ينوه، إلا أن ينوي به الطلاق أو اليمين فينصرف إلى ما نواه. وهذا ظاهر مذهب أحمد. وعنه رواية ثانية أنه بإطلاقه يمين إلا أن يصرفه بالنية إلى الظهار أو الطلاق، فينصرف إلى ما نواه. وعنه رواية أخرى ثالثة، أنه ظهار بكل حال، ولو نوى غيره. وعنه رواية رابعة حكاها أبو الحسين في "فروعه" أنه طلاق بائن. وإذا قال المتكلم بالتحريم: أعني به الطلاق - متصلًا، فعنه روايتان؛ إحداهما: أنه طلاق، فيتفرع عنه أنه هل يلزمه الثلاث، أو واحدة؟ على روايتين. والثانية: أنه ظهار أيضًا، كما لو قال: أنت علي كظهر أمي، أعني به الطلاق. هذا تحقيق مذهبه، وحجة هذا القول أن اللفظ صريح في التحريم، وتحريم الإنسان لزوجته منكر من القول وزور، لأن التحليل والتحريم إلى الله سبحانه، فيكون هذا ظهارًا، لأن الظهار هو منكر وزور، وغايته تحريم الزوجة، وهذا قد صرح فيه بالتحريم، وإنما صح صرفه إلى الطلاق بالنية، لأنه يصلح كناية عنه، وكذلك إذا نوى به اليمين كان يمينًا لصلاحيته الكناية عن اليمين، لأن المآل إلى التحريم الذي هذا اللفظ صالح له، وأما الرواية بأنه ظهار ولا ينصرف إلى غيره فمرجعه إلى أنه لما كان صريحًا في الظهار، وقد نسخ الله تعالى ما كان عليه أمر الجاهلية من جعل الظهار طلاقا، فصار اللفظ غير محتمل للطلاق فلا تؤثر النية، ويتخرج على أصل أحمد الفرق ¬

_ (¬1) الآية 2 من سورة التحريم.

بين أن يقصد إنشاء التحريم وبين الحلف به، فيكون في الحلف به حالفا يلزمه كفارة يمين، وفي تنجيزه أو تعليقه بشرط مقصود مظاهرًا يلزمه كفارة الظهار، وهذا يوافق المنقول عن ابن عباس أنه جعله مرة ظهارًا ومرة يمينًا. السابع: أنه إن نوى به ثلاثًا، فهي ثلاث، وإن نوى به واحدة، فواحدة بائنة، وإن نوى به يمينًا، فهي يمين، وإن لم ينو شيئًا فهي كذبة لا شيء فيها. وهذا مذهب سفيان الثوري حكاه ابن حزم (¬1)، وحجة هذا القول تؤخذ مما تقدم. الثامن: أنه طلقة واحدة بائنة بكل حال. وهذا مذهب حماد بن أبي سليمان، وحجة هذا القول أنه قد أراد تحريم الزوجة، والتحريم الحقيقي إنما هو بالطلاق الثلاث أو بالطلقة البائنة، فيقتصر على أقل مراتبه وهو الطلقة البائنة. التاسع: أنه إذا نوى ثلاثًا فثلاث، وإن نوى واحدة، أو (أ) لم ينو شيئًا، فواحدة بائنة. وهذا مذهب إبراهيم النخعي حكاه ابن حزم (1)، وحجته أن الثلاث يحتملها اللفظ، فإذا نوى صح ذلك، وإن لم ينو اقتصر على أقل المراتب. العاشر: أنه طلقة رجعية. حكاه ابن الصباغ وصاحبه أبو بكر الشاشي ¬

_ (أ) في جـ: إن.

عن الزهري عن عمر بن الخطاب، وحجته أن التحريم المطلق يصدق بالواحدة لا سيما على قول من يجعل الطلقة الرجعية محرمة للوطء، فيقتصر على ذلك والزيادة لا موجب لها. الحادي عشر: أن هذا يقتضي تحريم الزوجة، ولم يذكروا طلاقًا ولا ظهارًا ولا يمينًا، بل ألزموه بموجب تحريمه. قال ابن حزم (¬1): صح هذا عن علي ورجال من الصحابة لم يسموا، وعن أبي هريرة، وصح عن الحسن وخلاس بن عمرو وجابر بن زيد وقتادة أنهم أمروه باجتنابها فقط، وهذا القول مرجعه إلى التوقف في حكمه، والاقتصار على صريح اللفظ. الثاني عشر: التوقف في ذلك لا يحرمها المفتي على الزوج ولا يحلها له كما رواه الشعبي عن علي أنه قال: ما أنا بمحلها ولا محرمها عليك، إن شئت فتقدم، وإن شئت فتأخر (¬2). وهذا القول يخالف الذي قبله، من حيث إن الأول جزم بالتحريم وإن توقف في أي نوع، وهذا لم يجزم بالتحريم. الثالث عشر: الفرق بين أن يوقع التحريم منجزًا أو معلقًا تعليقًا مقصودا، وبين أن يخرجه مخرج اليمين، فالأول ظهار بكل حال، ولو نوى به الطلاق ولو وصله بقوله: أعني به الطلاق. والثاني يمين يلزمه كفارة يمين، فإذا قال: أنت علي حرام. أو: إذا دخل رمضان فأنت علي حرام. فظهار، وإذا قال: إن سافرت، أو إن كلمت هذا، أو كلمت فلانًا، فامرأتي عليَّ ¬

_ (¬1) المحلى 11/ 384. (¬2) تقدم تخريجه ص 58.

حرام. فيمين مكفرة، وهذا ذهب إليه ابن تيمية. وقوله: لقد كان لكم. الحديث. فيه استشهاد أنه لا يحرم بالتحريم ما حرمه على نفسه، فإن الأسوة بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد أنكر الله عليه تحريم ما أحل الله له، ولا يلزم من ظاهره أنه لا كفارة، بل الكفارة لازمة كما قال تعالى: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} (¬1). وكما ثبت في بعض ألفاظ الحديث عن ابن عباس: فعاتبه الله في ذلك، وجعل له كفارة اليمين. أخرجه البخاري (¬2). وأشار ابن عباس إلى قصة التحريم في قوله تعالى: {لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} (¬3). واختلف العلماء في السبب، هل المراد تحريم العسل أو تحريم مارية أو غير ذلك؟ وقد أخرج النسائي (¬4) بسند صحيح عن أنس: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كانت له أمة يطؤها، فلم تزل به حفصة وعائشة حتى حرمها، فأنزل الله تعالى هذه الآية: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ}. وهذا أصح طرق هذا السبب، وله شاهد مرسل أخرجه الطبري (¬5) بسند صحيح عن زيد بن أسلم التابعي الشهير قال: أصاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أم إبراهيم ولده في بيت بعض نسائه، فقالت: يا رسول الله، في بيتي وعلى فراشي؟! فجعلها عليه حرامًا، فقالت: يا رسول الله، كيف تحرم عليك الحلال؟ فحلف بالله لا يصيبها، فنزلت. قال زيد بن أسلم: فقول الرجل لامرأته: أنت علي ¬

_ (¬1) الآية 2 من سورة التحريم. (¬2) البخاري 2/ 657 ح 4913، وهذا اللفظ أخرجه الترمذي 5/ 391 ح 3318. (¬3) الآية 1 من سورة التحريم. (¬4) النسائي 7/ 71. (¬5) الطبري في تفسيره 28/ 155.

حرام. لغو، وإنما تلزمه كفارة يمين إن حلف. والتأسي وقع بفعل النبي - صلى الله عليه وسلم -، فإنه حرم على نفسه وكفر عن يمينه، وليس من تناول (أ) الخطاب للأمة فإن خطاب النبي - صلى الله عليه وسلم - الخاص به ليس خطابًا للأمة على ما هو الصحيح. 892 - وعن عائشة رضي الله عنها: أن ابنة الجون لما أدخلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ودنا منها، قالت: أعوذ بالله منك. قال: "لقد عذت بعظيم، الحقي بأهلك". رواه البخاري (¬1). قوله: أن ابنة الجون. اختلف في اسم ابنة الجون؛ ففي كتاب أبي نعيم في "معرفة الصحابة" أن اسمها عمرة بنت الجون (¬2)، وفي إسناده عبيد بن القاسم (ب) (¬3) وهو متروك، وفي رواية للبخاري (¬4) أن اسمها أميمة بنت النعمان بن شراحيل، وجزم الكلبي بأن اسمها أسماء بنت النعمان بن شراحيل بن الأسود بن الجون الكندية (¬5)، وكذا محمد بن إسحاق ومحمد بن حبيب (¬6) وغيرهما، ولعل اسمها أسماء ولقبها أميمة، ووقع في "المغازي" أنها أسماء ¬

_ (أ) في جـ: يتأول. (ب) في جـ: القسيم. وينظر تهذيب الكمال 19/ 229.

بنت كعب الجونية (¬1)، فلعل في نسبها من اسمه كعب فنسبت إليه، وقيل: أسماء بنت (أ) الحارث بن النعمان، وقد وقع في نسخة الصغاني للبخاري أن ابنة الجون الكلبية (¬2)، وقد روى ابن سعد (¬3)، عن الواقدي، عن ابن أخي الزهري، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة، قالت: تزوج النبي - صلى الله عليه وسلم - الكلابية. فذكر مثل حديث الباب، والظاهر أن الكلابية تصحيف الكندية، والكلابية قصة أخرى ذكرها ابن سعد (¬4) أيضًا بهذا السند إلى الزهري، وقال: اسمها فاطمة بنت الضحاك بن سفيان، استعاذت منه فطلقها، فكانت تلقط البعر وتقول: أنا الشقية. قال: وتوفيت سنة ستين. ومن طريق عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، أن الكندية لما وقع التخيير اختارت قومها، ففارقها، فكانت تقول: أنا الشقية (¬5). ومن طريق [سعيد] (ب) بن أبي هند، أنها استعاذت منه فأعاذها (5). ومن طريق ¬

_ (أ) زاد في جـ: الأسود بن. (ب) في الأصل، جـ: شعبة. وانظر تهذيب الكمال 11/ 93.

الكلبي، اسمها العالية بنت ظبيان بن عمرو (¬1)، وحكى ابن سعد (¬2) أيضًا أن اسمها عمرة بنت يزيد بن عبيد وقيل: بنت يزيد بن الجون، وقال ابن عبد البر (¬3): أجمعوا على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - تزوج الجونية، واختلفوا في سبب فراقه لها، فقال قتادة: لما دخل عليها دعاها فقالت: تعال أنت. فطلقها، وقيل: كان بها وضح (¬4) كالعامرية (¬5)، قال: وزعم بعضهم أنها قالت: أعوذ بالله منك. فقال: "قد عذت بمعاذ؛ وقد أعاذك الله مني". فطلقها. قال: وهذا باطل، وإنما قاله لامرأة من بني [العنبر] (أ) وكانت جميلة، فخافت نساؤه أن تغلبهن عليه، فقلن لها: إنه يعجبه أن يقال له: أعوذ بالله منك. ففعلت فطلقها، ولكن الحكم [بالبطلان] (ب) غير قويم مع ثبوت ذلك في "الصحيح" وكثرة الروايات، والقول الذي نسبه إلى قتادة ذكر مثله أبو سعيد النيسابوري عن شرقي بن قطامي (¬6)، قال ابن سعد (2): اختلف علينا اسم الكلابية؛ ¬

_ (أ) في الأصل، جـ: العشير. وفي الاستيعاب: سليم، والمثبت من الفتح، وورد في أسد الغابة 7/ 17 بلعنبر. (ب) في الأصل: بالطلاق.

فقيل: فاطمة بنت الضحاك بن سفيان. وقيل: عمرة بنت يزيد بن عبيد. وقيل: سنا (أ) بنت سفيان بن عوف. وقيل: العالية بنت ظبيان بن عمرو بن عوف. فقال بعضهم: هي واحدة واختلف في اسمها. وقال بعضهم: بل كن جميعًا ولكل واحدة منهن قصة غير قصة صاحبتها. ثم ترجم الجونية، فقال: أسماء بنت النعمان. ثم أخرج من طريق عبد الواحد بن أبي عون، قال: قدم النعمان بن أبي الجون الكندي على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: يا رسول الله، ألا أزوجك أجمل أيم في العرب؛ كانت تحت ابن عم لها فتوفي، وقد رغبت (ب) فيك؟ قال: "نعم". قال: فابعث من يحملها إليك. فبعث معه أبا أسيد الساعدي، قال أبو أسيد: فأقمت ثلاثة أيام، ثم تحملت معي في محفة (¬1)، فأقبلت بها حتى قدمت المدينة، فأنزلتها في بني ساعدة، ووجهت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو في بني عمرو بن عوف فأخبرته. الحديث. قال ابن أبي عون (¬2): وكان ذلك في ربيع الأول سنة تسع. ثم أخرج ذلك من طريقين، وفي تمام القصة، قيل لها: استعيذي منه؛ فإنه أحظى لك عنده. وخدعت لما رُئي من جمالها، وذكر لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - من حملها على ما قالت، فقال: "إنهن صواحب يوسف وكيدهن". وقد اختلفت الروايات في سبب طلاقها؛ هل هو بسبب الاستعاذة كما ¬

_ (أ) في مصدر التخريج: سبا. وانظر الإصابة 7/ 714. (ب) في جـ: رغب.

في حديث عائشة وحديث أبي أسيد، أو أنها كرهت لما بسط يده إليها كما في رواية سهل عن أبيه؟ فيحتمل أن القصة واحدة، وأنه وقع مجموع الأمرين واقتصر الراوي على البعض، وأن القصة متعددة، ويدل عليه أن الذي في [حديث] (أ) أبي أسيد اسمها أسماء، والذي في حديث سهل اسمها أميمة، وقد أخرج البخاري أيضًا في باب الأشربة (¬1) من حديث أبي أسيد فذكر الحديث وأنها نزلت في أجم (¬2) بني ساعدة، فخرج النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى جاءها فدخل عليها، فإذا امرأة منكسة رأسها، فلما كلمها قالت: أعوذ بالله منك. فقال: "أعذتك مني". فقالوا لها: أتدرين من هذا؟ هذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جاء ليخطبك. قالت: كنت أنا أشقى من ذلك. فظاهر هذه القصة أنه لم يكن قد عقد بها، ولذا قال المصنف رحمه الله تعالى: يحمل على تعدد القصة، وأن هذه لم يكن قد عقد بها والأخرى قد عقد بها. وأما القول بأن الكلابية مستعيذة، والكندية كذلك، وأن قصتهما متفقة، فمستبعد؛ لأن الاستعاذة يستبعد أن تكون من امرأتين بالخديعة، فإن العادة تقضي بشيوع ذلك، فلا يكاد يحصل مع واحدة بعد أن يبلغها ما وقع مع غيرها. وقوله: "الحقي بأهلك". فيه دلالة على أنه طلاق، لأنه لم يرو أنه زاد ¬

_ (أ) في الأصل: رواية.

غير ذلك فيكون كناية طلاق، إذا أريد به الطلاق كان طلاقًا. قال البيهقي (¬1): زاد ابن أبي ذئب عن الزهري: "الحقي بأهلك". جعلها تطليقة. قال: وهذا من قول الزهري، وجاء في قصة كعب بن مالك لا قيل له: "اعتزل امرأتك". قال: الحقي بأهلك فكوني عندهم (¬2). فلم يرد الطلاق فلم تطلق، وقد ذهب إلى هذا الجمهور من العلماء منهم الأئمة الأربعة وغيرهم، وكذا غيره من الألفاظ المحتملة للطلاق مثل: أنت حرام. وقد حكم علي وابن عمر في قوله: أنت خلية. أنها ثلاث (¬3). وقال عمر: واحدة، وهو أحق بها (¬4). وفرق معاوية بين رجل وامرأته قال لها: إن خرجت فأنت خلية (¬5). وقال علي وزيد في البرية: إنها ثلاث (¬6). وقال عمر: هي واحدة، وهو أحق بها (¬7). وكذا يقع الطلاق من العجمي والتركي، فعرف من هذا أن الطلاق يقع باللفظ الذي يحتمله مجازًا إذا نواه. وقال أهلُ الظاهر: لا يقع الطلاق بقوله: الحقي بأهلك. قالوا: و (أ) ¬

_ (أ) زيادة في الأصل: قول.

النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن عقد على ابنة الجون، وإنما أرسل إليها ليخطبها، قالوا: ويدل على ذلك ما جاء في حديث أبي أسيد في "صحيح البخاري" (¬1) أنه قال لها: "هبي لي نفسك". فقالت: وهل تهب الملكة نفسها للسوقة؟ فأهوى ليضع يده عليها لتسكن، فقالت: أعوذ بالله منك. ولكنه يبعده قوله: فأهوى ليضع يده عليها. وفي رواية: فلما دخل عليها (¬2). فإن مثل ذلك لا يكون إلا مع زوجة، وإن كان الدخول يحتمل أنه لم يرد به الدخول على الزوجة، وإنما هو الدخول إلى المحل للخطبة منها، وعرض الأمر عليها، والنبي - صلى الله عليه وسلم - له أن يتزوج من [غير] (أ) عقد الولي له، ومن غير إذن الزوجة، فكان مجرد إرساله إليها أو إحضارها ورغبته فيها كافيًا في ذلك، ويكون قوله: "هبي لي نفسك". تطييبًا لخاطرها واستمالة لقلبها، ويؤيده قوله في رواية لابن سعد (¬3): أنه اتفق مع أبيها على مقدار صداقها، وأن أباها قال له: إنها رغبت فيك. واعلم أن التي لم يدخل بها النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولم يضرب عليها الحجاب، لا يكون لها حكم زوجات النبي - صلى الله عليه وسلم - في تحريم النكاح على الغير، كما روي أنه تزوج بهذه المهاجر بن أبي أمية، فأراد عمر معاقبتها، فقالت: ما ضرب علي الحجاب، ولا سميت أم المؤمنين. فكف عنها (¬4). وعن الواقدي (¬5): ¬

_ (أ) ساقطة من: الأصل.

سمعت من يقول: إن عكرمة بن أبي جهل خلف عليها. قال: وليس ذلك بثبت (أ). والله أعلم. وروي أنها توفيت في خلافة عثمان وأنها ماتت كمدًا (¬1). 893 - وعن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا طلاق إلا بعد نكاح، ولا عتق إلا بعد ملك". رواه أبو يعلى، وصححه الحاكم، وهو معلول. وأخرج ابن ماجه عن المسور بن مخرمة مثله، وإسناده حسن، لكنه معلول أيضًا (¬2). الحديث أخرجه الحاكم (¬3) من طريق محمد بن المنكدر، قال الدارقطني (¬4): الصحيح مرسل ليس فيه جابر. قال يحيى بن معين (¬5): لا يصح عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا طلاق قبل نكاح". وأصح شيء فيه حديث ابن المنكدر عمن سمع طاوسًا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسلًا. وقال أبو داود الطيالسي (¬6): حدثنا ابن أبي ذئب، حدثني من سمع عطاء عن جابر نحوه. ورواه ابن أبي شيبة (¬7) عن وكيع عن ابن أبي ذئب عن عطاء وابن المنكدر عن ¬

_ (أ) في جـ: يثبت.

جابر. واستدركه الحاكم (¬1) من حديث وكيع، وهو معلول. ورواه أبو قرة في "سننه" عن ابن جريج عن عطاء عن جابر مرفوعًا (¬2). وقال ابن عبد البر (¬3): روي من وجوه إلا أنها عند أهل العلم بالحديث معلولة. وحديث المسور اختلف فيه عن الزهري؛ فقال علي بن الحسين بن واقد: عن هشام عن سعيد عن الزهري عن عروة عن المسور. وقال حماد بن خالد: عن هشام بن سعد عن الزهري عن عروة عن عائشة، وعن أبي بكر الصديق، وأبي هريرة، وأبي موسى الأشعري، وأبي سعيد الخدري، وعمران بن حصين، وغيرهم. ذكرها البيهقي في "الخلافيات" (¬4)، وأما الحاكم (¬5) فصححه من حديث جابر وقال: أنا متعجب من الشيخين كيف أهملاه؟! فقد صح على شرطهما من حديث ابن عمر وعائشة وعبد الله بن عباس ومعاذ بن جبل وجابر. انتهى. وقد تكلم على جميع طرقه، قال البيهقي (4): أصح حديث فيه حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، قال الترمذي (¬6): هو أحسن شيء روي في الباب. وهو عند أصحاب "السنن" (¬7) بلفظ: "ليس على رجل طلاق ¬

_ (¬1) الحاكم 2/ 420. (¬2) أبو قرة -كما في التلخيص الحبير 3/ 212. (¬3) الاستذكار 18/ 122. (¬4) التلخيص الحبير 3/ 211. (¬5) الحاكم 2/ 419. (¬6) الترمذي 3/ 486. (¬7) أبو داود 2/ 264 ح 2190، وابن ماجه 1/ 660 ح 2047، والترمذي 3/ 486 ح 1181، والنسائي 7/ 12.

فيما لا يملك" الحديث. ورواه البزار (¬1) من طريقه بلفظ: "لا طلاق قبل نكاح، ولا عتق قبل ملك". وقال البيهقي في "الخلافيات" (¬2): قال البخاري: أصح شيء فيه وأشهره حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده. وحديث الزهري عن عائشة، وعن علي، ومداره على جويبر عن الضحاك في النزال بن سبرة عن علي، وجويبر متروك (¬3). ورواه ابن الجوزي في "العلل" (¬4) من طريق أخرى عن علي، وفيه عبد الله بن زياد بن سمعان وهو متروك (¬5). وفي "الطبراني" (¬6) من طريق [عبد الله بن أبي أحمد بن جحش] (أ) عن علي، وعن المسور بن مخرمة. رواه ابن ماجه (¬7) بإسناد حسن. الحديث فيه دلالة على أنه لا يقع الطلاق على المرأة الأجنبية، فإن كان ذلك تنجيزًا فإجماع، وإن كان تعليقًا بالنكاح، كأن يقول: إن نكحت فلانة فهي طالق. فللعلماء في ذلك ثلاثة أقوال: فذهب الشافعي وأحمد وداود -وهو مذهب زيد بن علي والهدوية والصادق، وأخرجه البخاري عن اثنين وعشرين من الصحابة والتابعين إلى ¬

_ (أ) في الأصل، جـ: عبيد الله بن أبي أحمد بن حجر. والمثبت من مصدر التخريج، وينظر تهذيب الكمال 14/ 292.

أنه لا يصح منه مطلقًا سواء كانت معينة أو لا، وذهب أبو حنيفة وأصحابه وهو أحد قولي المؤيد بالله إلى أنه يصح التعليق مطلقًا، وذهب مالك في المشهور عنه وربيعة والثوري والليث وابن أبي ليلى وابن مسعود و [أصحاب] (أ) مالك- إلى التفصيل وهو أنه إن خص، بأن يقول: كل امرأة أتزوجها من بني فلان أو من بلد كذا فهي طالق. أو قال: في وقت كذا. وقع الطلاق، وإن عمم بأن يقول: كل امرأة أتزوجها فهي طالق. لم يقع شيء، قال صاحب "نهاية المجتهد" (¬1): سبب الخلاف، هل من شرط وقوع الطلاق وجود الملك متقدمًا بالزمان على الطلاق، أم ليس من شرطه؟ فمن قال: هو من شرطه، قال: لا يتعلق الطلاق بالأجنبية. ومن قال: ليس من شرطه إلا وجود الملك فقط. قال: يقع. وأما الفرق بين التخصيص والتعميم فاستحسان مبني على المصلحة، وذلك أنه إذا وقع التعميم، فلو قلنا بوقوعه امتنع منه التزويج، فلم يجد سبيلًا إلى النكاح الحلال فكان من باب النذر بالمعصية، وأما إذا خصص فلا يمتنع منه ذلك. انتهى. وقال في "الهَدْي" (¬2): إن القائل: إن تزوجت فلانة فهي طالق. مطلق لأجنبية؛ فإنها حين أنشأ الطلاق أجنبية، والمتجدد هو نكاحها، فهو كما لو قال لأجنبية: إن دخلت الدار فأنت طالق. فدخلت وهي زوجته لم تطلق إجماعًا. انتهى. ¬

_ (أ) ساقط من: الأصل.

والقول الأول هو الراجح لعموم الحديث المذكور، وإن كان في إسناده مقال فهو متأيد بكثرة الطرق، وأيضًا فقد روى الحاكم (¬1) من طريق ابن عباس قال: ما قالها ابن مسعود، وإن كان قالها فزلة من عالم. في الرجل يقول: إن تزوجت فلانة فهي طالق. قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ} (¬2). ولم يقل: إذا طلقتموهن ثم نكحتموهن، ورواه عنه بلفظ آخر وفي آخره: فلا يكون طلاق حتى يكون نكاح (¬3). وهذا علقه البخاري (¬4)، وأخرج الدارقطني (¬5) من حديث زيد بن علي بن الحسين بن علي عن آبائه أن رجلًا أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله، إن أمي عرضت علي قريبة لها أن أتزوجها فقلت: إن تزوجتها فهي طالق ثلاثًا. فقال: "هل كان قبل ذلك من ملك؟ " قال: لا. قال: "لا بأس، تزوجها". وإسناده ضعيف، وأورده (¬6) أيضًا عن أبي ثعلبة الخشني قال: قال عم لي: اعمل لي عملًا حتى أزوجك بنتي. فقلت: إن تزوجتها فهي طالق ثلاثًا. ثم بدا لي أن أتزوجها، فأتيت النبي - صلى الله عليه وسلم -. فذكر الحديث. وفيه علي بن [قرين] (أ) (¬7) وهو متروك، ولكن هذه ¬

_ (أ) في النسخ: يزيد. والمثبت من مصادر الترجمة.

الأحاديث بعضها يشد بعضًا فيترجح العمل بها والله أعلم. والخلاف في العتق كالخلاف في الطلاق فيصح عند أبي حنيفة وأصحابه والأصح من روايتين عن أحمد وعليه أصحابه، وفرق على أصله صاحب "الهَدْي" (¬1) بين العتق والطلاق؛ بأن العتق له قوة وسراية، فإنه يسري إلى ملك الغير، ولأنه يصح أن يجعل الملك سببًا للعتق، كما لو اشترى عبدًا ليعتقه عن كفارة أو نذر، أو اشتراه بشرط العتق، ولأن العتق من باب القرب والطاعات وهو يصح النذر بها، وإن لم يكن المنذور به مملوكًا، كقولك: لئن آتاني الله من فضله لأتصدقن بكذا وكذا. 894 - وعن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا نذر لابن آدم فيما لا يملك، ولا عتق له فيما لا يملك، ولا طلاق له فيما لا يملك". أخرجه أبو داود والترمذي وصححه (¬2)، ونقل عن البخاري أنه أصح ما ورد فيه (¬3). تقدم الكلام في ذلك وسيأتي ما يتعلق بالنذرِ. 895 - وعن عائشة رضي الله تعالى عنها عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "رفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصغير حتى يكبَر، وعن المجنون حتى يعقل أو يفيق". رواه أحمد والأربعة إلا الترمذي وصححه ¬

_ = الحديث. الجرح والتعديل 6/ 201، وميزان الاعتدال 3/ 151. (¬1) زاد المعاد 5/ 217. (¬2) أبو داود، كتاب الطلاق، باب في الطلاق قبل النكاح 2/ 264 ح 2190، والترمذي كتاب الطلاق، باب لا طلاق قبل النكاح 3/ 486 ح 1181. (¬3) علل الترمذي ص 173 ح 302.

الحاكم، وأخرجه ابن حبان (¬1). وقال يحيى بن معين (¬2): ليس يرويه إلا حماد بن سلمة عن حماد بن أبي سليمان. يعني عن إبراهيم عن الأسود عنها، ورواه أبو داود والنسائي وأحمد والدارقطني والحاكم وابن حبان وابن خزيمة (¬3) من طرق عن علي، وفيه قصة جرت له مع عمر علقها البخاري (¬4)، ووصل البغوي في "الجعديات" (¬5) عن علي بن الجعد عن شعبة عن الأعمش عن أبي ظبيان عن ابن عباس، أن عمر أتي بمجنونة قد زنت وهي حبلى، فأراد أن يرجمها، فقال له علي: أما بلغك أن القلم قد وضع عن ثلاثة؟ فذكره، وتابعه ابن نمير ووكيع وغير واحد عن الأعمش (¬6)، ورواه جرير بن حازم عن الأعمش فصرح فيه بالرفع (¬7)، وعلق البخاري (¬8) أيضًا عن علي رضي الله عنه: كل ¬

_ (¬1) أحمد 6/ 100، 101، وأبو داود، كتاب الحدود، باب المجنون يسرق أو يصيب حدًّا 4/ 137 ح 4398، وابن ماجه، كتاب الطلاق، باب طلاق المعتوه والصغير والنائم 1/ 658 ح 2041، والنسائي، كتاب الطلاق، باب من لا يقع طلاقه من الأزواج 6/ 156، والحاكم، كتاب البيوع 2/ 59، وابن حبان، كتاب الإيمان، باب التكليف 1/ 355 ح 142. (¬2) انظر التلخيص الحبير 1/ 183. (¬3) أبو داود 4/ 137، 138 ح 4399، والنسائي في الكبرى 4/ 323 ح 7343، وأحمد 1/ 154، 155، والدارقطني 3/ 138، 139 ح 173، والحاكم 1/ 258، وابن حبان 1/ 356 ح 143. (¬4) البخاري 12/ 120. (¬5) الجعديات 1/ 233 ح 740. (¬6) أبو داود 4/ 137، 138 ح 4399، 4400، والبيهقي 8/ 264. (¬7) ابن حبان 1/ 356 ح 143. (¬8) البخاري 9/ 338.

طلاق جائز إلا طلاق المعتوه. ووصله البغوي في "الجعديات" (¬1) عن [عابس] (أ) بن ربيعة أن عليًّا قال: كل طلاق جائز إلا طلاق المعتوه. وهكذا أخرجه سعيد بن منصور (¬2) عن علي، وأخرج الترمذي (¬3) مثله من حديث أبي هريرة مرفوعًا وزاد في آخره: "المغلوب على عقله". والمعتوه: بفتح الميم وسكون المهملة وضم المثناة وسكون الواو بعدها هاء، وهو الناقص العقل فيدخل فيه الطفل والمجنون والسكران. والحديث فيه دلالة على أن الثلاثة لا يتعلق بهم الخطاب التكليفي، وهذا مجمع عليه حيث كان الصغير لا يميز، وأما الخطاب الوضعي ففيه تفصيل، وهو إن صدر من الأفعال التي توجب حكمًا وضعيًّا كالجنايات فالحكم لازم على تفاصيل مذكورة في علم الفروع، وأما الألفاظ كالطلاق ونحوه، فالظاهر الإجماع في حق النائم أنه لا يقع منه، وأما الصبي فالجمهور أنه لا يقع منه حتى يبلغ، وروي عن الحسن وابن المسيب أنه يصح منه إذا عقل وميّز (¬4)، وحدّه عند أحمد أن يطيق الصيام ويحصي الصلاة، وعن عطاء إذا بلغ اثنتي عشرة سنة، وروي عن عمر وعن مالك رواية إذا ناهز الاحتلام. ذكره في "المختصر"، والمشهور عن مالك أنه لا يلزمه حتى يبلغ. ¬

_ (أ) في الأصل، جـ: عامر. والمثبت من مصدر التخريج، وينظر تهذيب الكمال 13/ 472.

وقوله في الحديث: "حتى يكبَر". محتمل أن يراد به البلوغ، وأن يراد به ما ذكر، والعلماء مختلفون أيضًا بما يحصل البلوغ، فالاحتلام في حق الذكر مع إنزال النبي بلوغ إجماعًا، وفي حق الأنثى عند الهدوية، وكذا عندهم الإمناء في حال اليقظة (أإذا كان أ) لشهوة، والخلاف للمنصور فيما كان عن جماع، وكذا خروجه لغير شهوة، قال الإمام المهدي: لأنه قد كمل انعقاده، ونبات الشعر الأسود المتجعد في العانة بعد التسع السنين بلوغٌ عند الهدوية. وقال أبو حنيفة: لا يكون بلوغًا. وقال الشافعي: يكون بلوغا في حق أولاد المشركين. وله في المسلم قولان، ومضي خمسة عشر سنة منذ الولادة بلوغ في حق الذكر والأنثى؛ لحديث ابن عمر، أنه لم يجزه النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو ابن أربع عشرة سنة، وأجازه في السنة الثانية، وهو في خمس عشرة سنة (¬1). وقال أبو حنيفة: ويكون بمضي ثماني عشرة للذكر وسبع عشرة للأنثى، وفي حق الأنثى الحيض والحبل، وقال الإمام يحيى: الحبل ليس في نفسه سببًا للبلوغ، وإنما هو كاشف عن نزول المني الذي هو سبب، والحكم لأولهما. وقال أبو مضر من الهدوية: لا تبلغ في الحيض إلا بعد إكمال الثلاث. وقال أبو جعفر: لا تبلغ بالحبل حتى يحصل النفاس، واخضرار الشارب في الرجل عند الفم سبب للبلوغ، وعند المنصور بالله تفلك الثدي بلوغ في حق المرأة. وفي قوله: "وعن المجنون حتى يفيق". فيه دلالة على أن طلاق المجنون ¬

_ (أ- أ) ساقط من: جـ.

لا يقع، وهو مجمع عليه، والعلة فيه ذهاب العقل، واختلف العلماء في السكران، هل حكمه حكم العاقل فيقع طلاقه، أو حكم المجنون فلا يقع؟ فذهب إلى الأول علي رضي الله عنه وابن عباس وابن عمر والحسن البصري والزهري والنخعي وابن المسيب [والضحاك] و (أ) (ب) سليمان بن يسار والهادي وزيد بن علي والمؤيد وأبو حنيفة وأصحابه ومالك والشافعي، وذهب إلى الثاني [عثمان] (أ) وجابر بن زيد وعمر بن عبد العزيز وطاوس والقاسم بن محمد والناصر وأبو طالب وتخريج أبي العباس والطحاوي والبتي وربيعة والليث وإسحاق بن راهويه والمزني ويحيى بن سعيد الأنصاري وحميد بن عبد الرحمن وأبو ثور والشافعي في أحد قوليه والمصحح عنه الأول، واستقر على ذلك مذهب أحمد وصرح برجوعه إليه فقال في رواية عنه: الذي لا يأمر بالطلاق إنما أتى خصلة واحدة وهو تحليلها لزوجها، والذي يأمر بالطلاق أتى بخصلتين حرمها عليه وأحلها لغيره، وقال في رواية الميموني: قد كنت أقول: إن طلاق السكران يجوز حتى غلب عليَّ أنه لا يجوز طلاقه؛ لأنه لو أقر لم يلزمه، ولو باع لم يجز بيعه، والجناية لا تلزمه. قال أبو بكر (جـ) عبد العزيز: وبهذا أقول. وهو مذهب أهل الظاهر كلهم. احتج بعضهم لأهل القول الأول بقوله تعالى: {لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} (¬1). فإنه نهاهم عن قربان الصلاة حال السكر، والنهي يقتضي ¬

_ (أ) ساقطة من: الأصل. (ب) زاد بعده في جـ: ابن. (جـ) زاد في الأصل، جـ: بن. وهو أبو بكر عبد العزيز بن جعفر بن أحمد الحنبلي، المعروف بغلام الخلال، كان أحد أهل الفهم، موثوقا به في العلم، متسع الرواية، توفي سنة ثلاث وستين وثلاثمائة. طبقات الحنابلة 2/ 119 - 127.

التكليف، والمكلف يصح منه الإنشاءات، ولأن إيقاع الطلاق عقوبة له، ولأن ترتيب الطلاق على التطليق من باب ربط الأحكام بأسبابها فلا يؤثر فيه السكر، ولأن الصحابة رضي الله عنهم أقاموه مقام الصاحي في كلامه؛ فإنهم قالوا: إذا شرب سكر، وإذا سكر هذى، وإذا هذى افترى، وحد المفترى ثمانون (¬1). لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا قيلولة (¬2) في الطلاق". أخرجه سعيد بن منصور في "سننه" (¬3)، ولما رواه عطاء بن عجلان عن عكرمة عن ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "كل طلاق جائز إلا طلاق المعتوه والمغلوب على عقله" (¬4). ولأن الصحابة أوقعوا عليه الطلاق، أخرج أبو عبيد (¬5) أن رجلًا طلق امرأته وهو سكران، فرفع إلى عمر بن الخطاب، وشهد عليه أربع نسوة ففرق بينهما. وأخرج (5) من حديث سعيد بن المسيب أن معاوية أجاز طلاق السكران. وأجيب عن هذا الاستدلال؛ أما الآية الكريمة: فليس توجيه النهي إلى السكران بألا يقرب الصلاة وإنما هو نهي عن السكر الذي يلزم من إدامته الدخول في الصلاة وهو عليه، أو أنه نهي للثمل (¬6) الذي يعقل الخطاب، وقد احتج بالآية أهل القول الثاني؛ لقوله: {حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ}. فقال ¬

_ (¬1) النسائي في الكبرى 3/ 252، 253 ح 5288. (¬2) أي لا رجوع فيه إذا طلقها ثلاثًا. قواعد الفقه للبركتي ص 438. (¬3) سنن سعيد بن منصور 1/ 275، 276 ح 1130، 1131. (¬4) ابن عدي 5/ 2003، وينظر المحلى 9/ 265. (¬5) أبو عبيد -كما في المحلى 11/ 536. (¬6) الثمل: الذي أخذ فيه الشراب. ينظر الوسيط (ث م ل).

بعضهم: إنه سبحانه جعل قول السكران غير معتبر؛ لأنه لا يعلم ما يقول، والقول بأنه مكلف باطل، إذ الإجماع منعقد على أن شرط التكليف العقل، ومن لا يعقل ما يقول فليس بمكلف، وكان يلزم لو كان مكلفًا أن يقع طلاقه إذا كان مكرها على شربها أو غير عالم بأنها خمر، وهم لا يقولون به، وأما كون ذلك وقع في حقه مع عدم العقل عقوبة، فاعتبار وقوعه عقوبة يحتاج إلى دليل، ولا دليل عليه، وأما جعله من ربط الأحكام بأسبابها كالجنايات، فهذا محل نزاع، فإنه قال عثمان البتي: لا يلزمه عقد ولا بيع ولا حد إلا حد الخمر فقط. وهذا إحدى الروايتين عن أحمد أنه كالمجنون في كل فعل يعتبر له العقل. والذين اعتبروا أفعاله كالليث دون أقواله فرقوا بفرقين: أحدهما: أن إسقاط أفعاله ذريعة إلى تعطيل القصاص، إذ كل من أراد قتل غيره أو الزنى أو السرقة سكر وفعل ذلك، وليس هذا من مقاصد الشرع أنه إذا فعل جرمًا واحدا لزمه حكمه، وإذا تضاعف جرمه بالسكر وفعل المحرم الآخر سقط عنه الحكم، وهذا مما تأباه قواعد الشرع وأصوله. والفرق الثاني: أن إلغاء أقواله لا يتضمن مفسدة؛ لأن (أ) القول المجرد من غير العاقل لا مفسدة فيه بخلاف الأفعال، فإن مفاسدها لا يمكن إلغاؤها إذا وقعت، فإلغاء أفعاله ضرر محض وفساد مستشر، بخلاف أقواله، فإن صح الفرقان بطل الإلحاق، وإن لم يصحا كانت التسوية بين أقواله وأفعاله متعينة، ثم إن قولهم: إنه من ربط الأحكام بأسبابها. إن أرادوا أن السبب هو إصدار لفظ الطلاق مطلقا، لزمهم وقوع الطلاق من المجنون والنائم ¬

_ (أ) في جـ: إلا أن.

والسكران وإن لم يعص بالسكر، وإن قالوا: إن ذلك مشروط بالشروط، وهي البلوغ والعقل وغيرهما. فالسكران خارج عن ذلك الاعتبار، فلا يثبت كون لفظ السكران سببًا إلا بدليل، ولم يثبت ذلك حتى يربط به الحكم، وهل النزاع إلا في هذا؟! وأما أن الصحابة جعلوه كالصاحي في قولهم: إذا شرب سكر. إلى آخره، فقال ابن حزم (¬1): هو خبر مكذوب، قد نزه الله عليًّا وعبد الرحمن عنه، وفيه من المناقضة ما يدل على بطلانه، فإن فيه إيجاب الحد على من هذى، والهاذي لا حد عليه. وأما حديث: "لا قيلولة في الطلاق". فخبر لا يصح، ولو صح لوجب حمله على طلاق مكلف يعقل دون من لا يعقل، ولهذا لم يدخل فيه طلاق المجنون والصبي والمبرسم، وخبر: "كل طلاق جائز إلا طلاق المعتوه". مثله، لا يصح، ولو صح لكان في حق المكلف، مع أن السكران إما معتوه أو ملحق به، وقد ادعت طائفة أنه معتوه، وقالوا: المعتوه في اللغة الذي لا عقل له ولا يدري ما يتكلم به، وأما أن الصحابة أوقعوا طلاقه، فالصحابة مختلفون، فأخرج ابن أبي شيبة (¬2) عن عثمان أنه قال: ليس لمجنون ولا سكران طلاق. وقال عطاء: طلاق السكران لا يجوز. وقال ابن طاوس عن أبيه: طلاق السكران لا يجوز. وقال القاسم بن محمد: لا يجوز طلاقه. وصح عن عمر بن العزيز أنه أتي بسكران طلق فاستحلفه بالله الذي لا إله إلا هو، لقد طلقها وهو لا يعقل؛ فحلف فرد عليه امرأته، وضربه ¬

_ (¬1) المحلى 11/ 540. (¬2) ابن أبي شيبة 5/ 30.

الحد (¬1). وأما الرواية عن ابن عباس فهي من طريقين في إحداهما الحجاج بن أرطاة (¬2)، وفي الثانية إبراهيم بن أبي يحيى (¬3)، وهي معارضة أيضًا بما أخرجه ابن أبي شيبة وسعيد بن منصور جميعا (¬4) عن هشيم عن [عبد] (أ) الله بن طلحة الخزاعي عن أبي يزيد [المديني] (ب) عن عكرمة عن ابن عباس قال: ليس لسكران ولا مضطهد طلاق. والمضطهد بضاد معجمة ساكنة، ثم طاء مهملة مفتوحة، ثم هاء ودال مهملة، وهو المغلوب المقهور. وروى ذلك البخاري (¬5) تعليقًا، قال ابن عباس: طلاق السكران والمستكره ليس بجائز. أي بواقع. واحتجوا أيضًا بأنه عاص بفعله لم يَزُلْ عنه الخطاب بذلك ولا الإثم (جـ)؛ لأنه يؤمر بقضاء الصلوات وغيرها مما وجب عليه قبل وقوعه في السكر أو فيه. وأجاب الطحاوي بأنه لا يختلف حكم فاقد العقل بين أن يكون ذهاب عقله بسبب من جهته أو من جهة غيره، إذ لا ¬

_ (أ) في الأصل، جـ: عبيد. والمثبت من الفتح 9/ 392 ومصدرى التخريج. (ب) في الأصل، جـ، الفتح: المزنى. والمثبت من مصدري التخريج. وينظر تهذيب الكمال 34/ 409. (جـ) زاد في الأصل: عليه.

فرق بين من عجز عن القيام في الصلاة بسبب من قبل الله أو من قبل نفسه، كمن كسر رجل نفسه، فإنه يسقط عنه فرض القيام، وتعقب بأن القيام انتقل إلى بدل وهو القعود، فافترقا، وأجاب ابن المنذر (¬1) عن الاحتجاج بقضاء الصلوات بأن النائم يجب عليه قضاء الصلاة، ولا يقع طلاقه، فافترقا، وقال ابن بطال (¬2): الأصل في السكران العقل، والسكر شيء طرأ على عقله، فمهما وقع منه من كلام مفهوم فهو محمول على الأصل، حتى يثبت فقدان عقله. واحتج أهل القول الثاني بما وقع في قصة حمزة، قال البخاري (¬3): قال عليٌّ: بقر حمزة خواصر شارفي، فطفق النبي - صلى الله عليه وسلم - يلوم حمزة، فإذا حمزة قد ثمل محمرة عيناه، ثم قال حمزة: وهل أنتم إلا عبيد لأبي. فعرف النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قد ثمل، فخرج وخرجنا معه. قال ابن القيم (¬4): وهذا القول لو قاله غير سكران لكان ردة وكفرًا، فلم يؤاخذ بذلك حمزة. يعني: فدل على أن قول السكران غير معتبر. والجواب عنه بأن الخمر كانت مباحة حينئذ، والقائلون باعتبار طلاق السكران، إنما هو إذا كان عاصيًا بها، وبما تقدم من الآثار، وقد عرفت الجواب عن ذلك. وقال ابن المرابط (¬5): إذا تيقنا ذهاب عقل السكران لم يلزمه طلاق، وإلا لزمه. ومثله ذكر الإمام يحيى، وقال ¬

_ (¬1) ابن المنذر كما في الفتح 9/ 391، والذي في شرح ابن بطال 7/ 413 أن ابن المنذر ذكره عن بعض أهل العلم. (¬2) شرح صحيح البخاري لابن بطال 7/ 415. (¬3) البخاري 6/ 196 ح 3091. (¬4) زاد المعاد 5/ 210. (¬5) الفتح 9/ 391.

ابن رشد المالكي في "نهاية المجتهد" (¬1): سبب الخلاف اختلافهم، هل حكمه حكم المجنون أم بينهما فرق؟ فمن قال: هو والمجنون سواء، إذ (أ) كان كلاهما فاقد العقل، ومن شرط التكليف العقل. قال: لا يقع. ومن قال: الفرق بينهما أن هذا السكران أدخل الفساد على عقله بإرادته، والمجنون بخلاف ذلك. ألزم السكران الطلاق، وذلك من باب التغليظ عليه. انتهى. وإذا تنبهت لما تلونا عليك، وهو معظم ما ذكره العلماء في المسألة، لم يترجح أي القولين بدليل واضح، والله سبحانه أعلم بالصواب. واعلم أن السبكي ذكر في الحديث سؤالين (¬2). أحدهما: أن قوله: "حتى يبلغ". و: "حتى يستيقظ". و: "حتى يفيق". عادات مستقبلة، والفعل المعني بها هو رفع ماض، والماضي لا يجوز أن يكون غايته مستقبلة؛ لأن مقتضى كون الفعل ماضيًا كون إجراء المعنى جميعًا ماضيه، والغاية ظرف المعنى، ويستحيل أن يكون المستقبل ظرفًا للماضي؛ لأن الآن [فاصل] (ب) بينهما، والغاية إما داخلة في المعنى فيكون ماضيًا، وإما خارجة مجاورة، فالمجاور هو الآن، فيكون الآن هو الغاية لا المستقبل الذي الآن فاصل بينه وبين المعنى. ¬

_ (أ) في جـ: إذا. (ب) في الأصل: فاصلة.

الثاني: أن الرفع يستدعي سبق وضع، ولم يكن القلم موضوعًا. وأجاب عن الأول بالتزام حذف في الكلام، وهو رفع القلم، فلا يزال مرتفعًا حتى يبلغ، إذ هو مرتفع حتى يبلغ. وعن الثاني أن الرفع لا يستدعي تقدم وضع، والبيهقي قال (¬1): إن الأحكام إنما نيطت بخمس عشرة سنة من عام الخندق، وقبل ذلك كانت تتعلق بالتمييز. فإن ثبت هذا، احتمل أن يكون المراد بهذا الحديث انقطاع ذلك الحكم، وبيان أنه ارتفع التكليف عن الصبي وإن ميّز حتى يبلغ، فيصح فيه أنه رفع بعد الوضع، وهذا الاعتبار صحيح في النائم، فإنه كان عليه التكليف قبل نومه، وفي المجنون أيضًا إذا كان المجنون بعد التكليف، والله أعلم. ¬

_ (¬1) الإبهاج للسبكي 1/ 159، وينظر الأشباه والنظائر 1/ 225.

كتاب الرجعة

كتاب الرجعة 896 - عن عمران بن حصين رضي الله عنه، أنه سُئل عن الرجل يطلق، ثم يراجع ولا يُشْهِدُ؛ فقال: أشهِدْ على طلاقها، وعلى رجعتها. رواه أبو داود (¬1) هكذا موقوفًا، وسنده صحيح. وأخرجه البيهقي (¬2) بلفظ: أنّ عمرانَ بن حصين سئل عمن راجع امرأته ولم يُشْهِدْ، فقال: أرجَعَ في غير سنة! فليشهدِ (أ) الآن. وزاد الطبراني (¬3) في رواية: [وليستغفرِ] (ب) الله. الحديث فيه دلالة على شرعية الرجعة، وقد أجمع المسلمون على أن الزوج يملك رجعة زوجته في الطلاق الرجعي، ما دامت في العدة، من غير اعتبار رضاها ورضا وليها، إذا كان الطلاق بعد المسيس، وكان الحكم بصحة الرجعة مجمعًا عليه، لا (جـ) إذا كان مختلفًا فيه، كما في التي مر عليها ثلاثة أطهار، أو ثلاث حيض دون ثلاثة أطهار، والتي انقطع حيضها (د) لعارض وقد مضت عليها ثلاثة أشهر، والتي مضت عدتها ولم ¬

_ (أ) في جـ: فتشهد. (ب) في الأصل، جـ: واستغفر، والمثبت من مصدر التخريج، وفي بلوغ المرام ص 235: ويستغفر. (جـ) في جـ: إلا. (د) في جـ: حيضتها.

تعلم بالطلاق، فإنه مع اختلاف المذهب بين الزوجين لا يثبت حكم الرجعة إلا بحكم؛ لقوله تعالى: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ} (¬1). والحديث فيه دلالة على وجوب الإشهاد، ومثله قوله تعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} (¬2). وقد ذهب إلى وجوب الإشهاد الشافعي في قوله القديم، واختاره في رواية الربيع وكذا الناصر، وذهب إلى أن الإشهاد مستحب مالك والشافعي في الجديد والهدوية وأبو حنيفة وأصحابه، واحتج لذلك في "البحر" بحديث ابن عمر (¬3)، وهو قوله: "فلْيراجعها". ولم يذكر الإشهاد، فلو كان واجبًا لذكره، وقد يقال: إنه لم يذكره لكونه قد عُرِف حكمه؛ لأن القصة وقعت بعد نزول سورة "الطلاق"، وقد ذكر فيها الإشهاد. وقال في "نهاية المجتهد" (¬4): إن قياس الرجعة على سائر الحقوق التي ينشئها الإنسان لنفسه، وهي لا يجب فيها الإشهاد، فكان قرينة على حمل الأمر على الندب. انتهى. أو لأن قوله تعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ}. مرتب على قوله: {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ}. وهو لا يجب الإشهاد على الطلاق اتفاقًا بينهم، فكذلك الرجعة. قال الموزعي في "تيسير (أ) البيان": وقد اتفق الناس على أن الطلاق من غير إشهاد جائز، وأما الرجعة فيحتمل أن تكون في معنى الطلاق؛ لأنها قرينته فلا يجب فيها الإشهاد، ولأنها حق للزوج، فلا يجب ¬

_ (أ) في جـ: تفسير. وينظر معجم المؤلفين 11/ 24.

عليه الإشهاد على قبضه، ويحتمل أن يجب الإشهاد، وهو ظاهر الخطاب. انتهى. وأما الحديث فلا حجة واضحة [فيه] (أ)؛ لاحتمال الاجتهاد من الصحابي، إذ الاجتهاد له مسرح في هذا الحكم فيمكن استنباطه من الآية. فمن قال بوجوب الإشهاد لا تكون الرجعة عنده إلا بالقول ولا يصح بالفعل، ولا بد أن يكون القول صريحًا غير كناية؛ لأن الشهود لا يطلعون على النية، ولفظها الصريح: راجعتك. وما يصرف منه، وهذا مجمع عليه، و: رددتك. و: أمسكتك. الأصح أنه صريح، لقوله تعالى: {أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ} (¬1). وقوله تعالى: {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} (¬2). وكذا: تزوجتك. و: نكحتك. صريح؛ لأنهما صريحان في ابتداء النكاح، فكذا في دوامه. والكناية: أعدت الحل الكامل بيني وبينك. أو: أدمت المعيشة. وقال الإمام يحيى: لا تنعقد الرجعة بالكناية وإن نواها كالنكاح. وقال الشافعي: تنعقد بالكناية قياسًا على الطلاق. قال الإمام المهدي: تشبيهها بالنكاح أولى. والقائلون بعدم وجوب الإشهاد اختلفوا في الرجعة بالفعل؛ فقال الشافعي والإمام يحيي وأبو طالب: محرم فلا تحل به، ولأن الله سبحانه وتعالى ذكر فيها الإشهاد، فأفهم أنها لا تكون إلا بما يمكن معه الإشهاد، وهو القول. ويتفرع على قولهم أنه إذا وطئ لزم المهر في أحد قولي الشافعي، وسواء راجعها بعده أم لا، وفي القول الآخر والإمام يحيى: لا يلزم المهر. إذ ¬

_ (أ) ساقطة من: الأصل.

أصل مِلك النكاح باق، بدليل التوارث، ولا تستأنف العدة عندهم، إذ يتداخلان لكونهما من واحد. والقائلون بأنها تكون بالفعل اختلفوا؛ هل من شرطه النية أم لا؟ فقال مالك: لا يكون بالفعل إلا إذا نوى به الرجعة. لأن الفعل عنده ينزل منزلة القول مع النية، وقال أبو حنيفة وأصحابه والعترة وإسحاق والليث والنخعي: يصح به وإن لم ينو وإن أثم بذلك؛ لأن العدة مدة تخيير، والتخيير يصح بالقول (أوالفعل أ). وقال أحمد: بل تصح الرجعة به ولا إثم؛ لعموم قوله تعالى: {إلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ} (¬1). وهي زوجة. ومقدمات الوطء جميعها رجعة عند الهدوية، وقال أبو حنيفة: التقبيل واللمس ونظر الفرج رجعة لا نظر سائر الجسد. وقال مالك: التقبيل ليس برجعة. وعند من اعتبرها بالفعل تصح بوطء المجنون كإتلاف ما فيه خيار، ولو حائضة أو محرمة أو مكرهة (أأو مكرها أ) لا بلفظه، والسكران على الخلاف في طلاقه إذا راجع باللفظ، ولا حد عند من منع الرجعة بالفعل وإن علما، لشبهة الزوجية. ويحرم على الزوج مضاررة الزوجة بالرجعة؛ لقوله تعالى: {وَلَا تُضَارُّوهُنَّ} (¬2). وقوله: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} (¬3). ويجب عليه إعلام الزوجة بالرجعة لئلا تزوج غيره، فإن تزوجت جاهلة فالنكاح باطل، وهي لزوجها الذي ارتجعها، وقد ذهب إلى هذا الجمهور ¬

_ (أ- أ) ساقط من: جـ.

من العلماء، ومنهم الشافعي وأبو حنيفة والكوفيون، وقال به داود، وهو مروي عن علي رضي الله عنه، وذهب مالك فيما صرح به في "الموطأ" (¬1) إلى أنها للثاني دخل بها أو لم يدخل. (أوبه أ) قال الأوزاعي والليث والبصري. وروى ابن القاسم عن مالك أنه رجع عنه، وقال: الأول أولى بها إلا أن يدخل الثاني. وأثبت المدنيون من أصحابه قوله الأول، قالوا: ولم يرجع عنه؛ لأنه أثبته في "موطآته" إلى يوم مات وهو يُقرأُ عليه، وهو قول عمر بن الخطاب، رواه عنه مالك في "الموطأ". وقد روي عن عمر أنه قال: إن الزوج الذي ارتجعها مخير بين أن تكون امرأته، أو يرجع عليها بما كان أصدقها (¬2). وحجة مالك ما رواه ابن وهب عن [يونس] (ب) عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب أنه قال: مضت السنة في الذي يطلق امرأته، ثم يراجعها، ثم يكتمها رجعتها فتحل، فتنكح زوجا غيره، أنه ليس له من أمرها شيء، ولكنها لمن تزوجها (¬3). وقد قيل: إن هذا الحديث إنما يروى عن ابن شهاب فقط، وحجة القول الأول أن العلماء قد أجمعوا على أن الرجعة صحيحة وإن لم تعلم بها المرأة، بدليل أنهم قد أجمعوا على أن الزوج الأول أحق بها قبل أن تزوج، وإذا كانت الرجعة صحيحة كان زواج الثاني فاسدًا، فإن نكاح الغير لا تأثير له في إبطال الرجعة، لا قبل الدخول ولا بعده، وهو ¬

_ (أ- أ) ساقط من: جـ. (ب) في الأصل: موسى.

الأظهر إن شاء الله تعالى. ويشهد لذلك ما أخرجه الترمذي (¬1) عن سمرة بن جندب، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "أيما امرأة [تزوجها] (أ) اثنان فهي للأول منهما، ومن باع بيعًا من رجلين فهو للأول منهما". واختلف العلماء في مقدار ما يجوز للزوج أن يطلع عليه من الرجعية ما دامت في العدة؛ فقال [مالك] (ب): لا يخلو معها، ولا يدخل عليها إلا بإذنها، ولا ينظر إلى شعرها، ولا بأس أن يأكل معها إذا [كان] (جـ) معهما غيرهما. وحكى ابن القاسم أنه رجع عن إباحة الأكل معها. وقال أبو حنيفة: لا بأس أن تزين الرجعية لزوجها وتطّيب له، و [تشوَّف] (د) له، وتبدي له الثياب والكحل. وبه قال الثوري (هـ) وأبو يوسف والأوزاعي والهدوية. وكلهم قالوا: لا يدخل عليها إلا أن تعلم بدخوله بقول، أو حركة بتنحنح أو خفق. ¬

_ (أ) في الأصل: يزوجها، وعند الترمذي: زوجها وليان. (ب) ساقط من: الأصل. (جـ) ساقطة من: الأصل، جـ. والمثبت من مختصر اختلاف العلماء 2/ 384، والهداية في تخريج أحاديث البداية 7/ 60. (د) في الأصل: تسوق. والتشوف: التزين. وينظر لسان العرب (ش وف). (هـ) في جـ: النووي.

897 - وعن ابن عمر رضي الله عنهما، أنه لما طلق امرأته قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لعمر: "مُرْه فليراجعها". متفق عليه (¬1). تقدم الكلام في ذلك (¬2). ¬

_ (¬1) البخاري، كتاب الطلاق، باب قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ ...} 9/ 345 ح 5251، ومسلم، كتاب الطلاق، باب تحريم طلاق الحائض بغير رضاها 2/ 1093 ح 1471. (¬2) تقدم ص 10 - 12.

باب الإيلاء والظهار والكفارة

باب الإيلاء والظهار والكفارة الإيلاء أصله في اللغة: الحلف على الشيء، يقال فيه: آلى يؤلي إيلاء، وتألّى تألِّيًا، وأْتلى ائتلاء، ويستعمل بمعنى اليمين، وجمعه ألايا بالتخفيف كعطايا، قال الشاعر (¬1): قليل الألايا حافظ ليمينه ... فإن سبقت منه الأليَّة بَرَّتِ فجمع بين المفرد والجمع. وفي الشرع: الامتناع باليمين من وطء الزوجة، ولهذا عدي فعله بـ"من" في قوله: {يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} (¬2). لتضمينه معنى: يمتنعون. والظهار: بكسر الظاء مشتق من الظهر؛ لقول القائل: أنت علي كظهر أمي. وإنما خص الظهر من بين الأعضاء لأن كل مركوب من الحيوان يسمى ظهرًا، لحصول الراكب على ظهره، فشبهت الزوجة به، أو أنه كنى بالظهر عن البطن؛ لما كان ذكر البطن كالتصريح بذكر العورة، وكأن الظهر [عمود البطن] (أ) كما قال عمر رضي الله عنه: يجيء أحدهم على عمود بطنه (¬3). 898 - وعن عائشة رضي الله عنها قالت: آلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من نسائه وحرم، فجعل الحرام حلالا، وجعل لليمين كفارة. رواه الترمذي، ¬

_ (أ) ساقط من: الأصل.

ورواته ثقات، ورجح الترمذي إرساله على وصله (¬1). وفيه دلالة على جواز حلف الرجل من زوجته، ولكن لم يكن في الحديث تصريح بالإيلاء المصطلح عليه في عرف الشرع، وهو الحلف من وطء الزوجة، وقول أكثر أهل العلم أن الإيلاء لا بد فيه من التصريح بالامتناع من الوطء لا مجرد الامتناع من الزوجة، والخلاف فيه لحماد بن [أبي] (أ) سليمان شيخ أبي حنيفة، وهو مسبوق بالخلاف أيضًا، وقد أخرج الطبري (¬2) من طريق سعيد بن المسيب: إن حلف ألا يكلم امرأته يومًا أو يومين فهو إيلاء، إلا إن كان (5) يجامعها ولا يكلمها فليس بمؤلٍ. وكان إيلاؤه شهرًا كما ثبت في "صحيح البخاري" (¬3)، واختلفت الروايات في سبب إيلائه - صلى الله عليه وسلم - وفي تحريمه؛ ففي رواية البخاري (¬4) لحديث ابن عباس عن عمر رضي الله عنه لما سأله عن المرأتين اللتين قال الله تعالى: {إِنْ تَتُوبَا} (¬5) الحديث الطويل. قال عمر: فاعتزل النبي - صلى الله عليه وسلم - نساءه من أجل ذلك الحديث الذي أفشته حفصة إلى عائشة. ولم يفسر في هذه الرواية الحديث الذي أفشته حفصة، وفيه أيضًا: وكان قال: "ما أنا بداخل عليهن ¬

_ (أ) ساقطة من: الأصل، جـ. وينظر تهذيب الكمال 7/ 269. (ب) زاد في الأصل: لا.

شهرًا". من شدة موجدته عليهن حين (أ) عاتبه الله. وهذا أيضًا مبهم، وذكر محمد بن الحسن المخزومي في كتابه "أخبار المدينة" بسند له مرسل أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يبيت في المشربة، ويقيل عند أراكة على خلوة بئر كانت هناك. والمراد بالمعاتبة قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ} الآية (¬1). وفي "الصحيحين" أن الذي حرم على نفسه العسل (¬2)، أو تحريم مارية (¬3). ووقع في رواية يزيد بن رومان عن عائشة عند ابن مردويه (¬4) بالجمع بين القولين، وفي آخره بعد أن ذكر قصة العسل أن حفصة في يومها استأذنته أن تأتي أباها، فأذن لها فذهبت، فأرسل إلى جاريته مارية فأدخلها بيت حفصة، قالت حفصة: فرجعت فوجدت الباب مغلقًا، فخرج ووجهه يقطر، وحفصة تبكي، فعاتبته، فقال: "أشهدك أنها علي حرام، انظري لا تخبري بهذا امرأة، وهي عندك أمانة". فلما خرجت قرعت حفصة الجدار الذي بينها وبين عائشة، فقالت: ألا أبشرك، إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد حرم أمته. فنزلت. وأخرج ابن مردويه (4) من طريق الضحاك عن ابن عباس أنها وجدت معه مارية، فقال: "لا تخبري عائشة حتى أبشرك ببشارة، إن أباك يلي هذا الأمر ¬

_ (أ) في جـ: حتى.

بعد أبي بكر إذا أنا مت". فذهبت إلى عائشة فأخبرتها، فعاتبها على ذلك، ولم يعاتبها على أمر الخلافة، فلهذا قال الله تعالى: {عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ} (¬1). وأخرج الطبراني (¬2) نحوه عن أبي هريرة، وفيهما ضعف. وأخرج ابن سعد (¬3) سببًا رابعًا من طريق عمرة عن عائشة، قالت: أُهديت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - هدية، فأرسل إلى كل امرأة من نسائه نصيبها، فلم ترض زينب بنت جحش بنصيبها، فزادها مرة أخرى فلم ترض، فقالت عائشة: لقد [أقمأت] (أ) وجهك؛ ترد عليك الهدية؟ فقال: "لأنتن أهون على الله من أن [تقمئنني] (ب)، لا أدخل عليكن شهرا" الحديث. ومن طريق الزهري عن عروة عن عائشة نحوه وفيه: ذبح ذبحًا فقسمه بين أزواجه. الحديث (¬4). وسببًا خامسًا أخرجه مسلم (¬5) من حديث جابر قال: جاء أبو بكر والناس جلوس بباب النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يؤذن لأحد منهم، فأذن لأبي بكر فدخل، ثم جاء عمر فاستأذن فأذن له، فوجد النبي - صلى الله عليه وسلم - جالسًا وحوله نساؤه. فذكر الحديث. وفيه: "هن حولي كما ترى يسألنني النفقة". فقام ¬

_ (أ) في الأصل، جـ: أقمت. والمثبت من مصدر التخريج، وينظر الفتح 9/ 290. وأقمأْتُه: صغرتُه وذلَّلته. اللسان (ق م أ) وقال الشيخ محمد فؤاد عبد الباقي: أي ما راعت عظيم شأنك. سنن ابن ماجه 1/ 664. (ب) في الأصل، جـ: يقمني. والمثبت من مصدر التخريج.

أبو بكر إلى عائشة، وقام عمر إلى حفصة، ثم اعتزلهن شهرًا. فذكر نزول آية التخيير. قال المصنف رحمه الله تعالى (¬1): واللائق بمكارم أخلاقه - صلى الله عليه وسلم - وسعة صدره، وكثرة صفحه، أن يكون مجموع هذه الأشياء سببًا لاعتزالهن. وقوله: وحرم. أي حرم مارية، أو العسل، كما ذكر في الأسباب، فيندفع بذلك احتمال تحريم جماع نسائه حتى يكون من باب الإيلاء على ما ذهب إليه الجمهور، وقد جزم ابن بطال وجماعة أنه - صلى الله عليه وسلم - امتنع من جماع نسائه في ذلك الشهر. قال المصنف (¬2): ولم أقف على نقل صريح في ذلك، فإنه لا يلزم من ترك دخوله عليهن ألا تدخل إحداهن عليه في المكان الذي اعتزل فيه، إلا إن كان المكان المذكور من المسجد، فيتم استلزام عدم الدخول عليهن -مع استمرار الإقامة في المسجد- العزم على ترك الوطء لامتناع الوطء في المسجد. 899 - وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: إذا مضت أربعة أشهر يوقف المؤلي حتى يطلق، ولا يقع عليه الطلاق حتى يطلق. أخرجه البخاري (¬3). اعلم أن الإيلاء وقع الخلاف فيه بين العلماء في الأمر الذي يعلق به ¬

_ (¬1) الفتح 9/ 290. (¬2) الفتح 9/ 427. (¬3) البخاري، كتاب الطلاق، باب قول الله تعالى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ...} 9/ 426 ح 5291.

الإيلاء، وفي مدته، وفي اعتبار اللفظ فيه، وفي أنه [يكون] (أ) طلاقًا بعد مضي المدة، وبما يحصل الفيء، فأما ما يعلق به الإيلاء، فهو ترك الجماع للزوجة صريحًا أو كناية، وقد تقدم الرواية عن ابن المسيب أنه قد يكون مؤليًا بترك الكلام، وكذا أخرج الطبري (¬1) عن القاسم بن محمد وسالم بن عبد الله بن عمر فيمن قال لامرأته: إن كلمتك سنة فأنت طالق. قال: إن مضت أربعة أشهر ولم يكلمها طلقت، وإن كلمها قبل سنة فهي طالق. وأخرج من طريق يزيد بن الأصم أن ابن عباس قال: ما فعلت امرأتك لعهدي بها سيئة الخلُق؟ قال: لقد خرجت وما أكلمها. قال: [أدركها] (ب) قبل مضي أربعة أشهر، فإن مضت فهي تطليقة (¬2). ففيه دلالة على أن الإيلاء يقع بترك الكلام، وبغير قسم أيضًا. وأما المدة: فهي مطْلقة أو مؤقتة، فالمطْلقة ينعقد الإيلاء فيها عند الأكثر، وذهب أبو العباس إلى أنه لا ينعقد، لقوله تعالى: {أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ} (¬3). والجواب أن الأربعة إنما هي مدة التربص لا مدة الإيلاء، فلا دلالة. وأما المؤقتة: فذهب العترة والحنفية وجماعة من التابعين إلى أنها تنعقد بالأربعة الأشهر؛ لظاهر الآية الكريمة، إلا أن أبا حنيفة يقول: إنها تطلق إذا مضت الأربعة ولم يفئْ. وعند غيره أنها لا تطلق، ولكن للمرأة المطالبة ¬

_ (أ) في الأصل: يقع. (ب) في الأصل، جـ: اتركها. والمثبت من مصدر التخريج.

بالفيء أو بالطلاق، والموقع للطلاق يقول: إن الآية تدل على ذلك من ثلاثة أوجه: أحدهما: أن عبد الله بن مسعود قرأ: (فإن فاءوا فيهن فإن الله غفور رحيم) (¬1). فإضافة الفيئة إلى المدة يدل على استحقاق الفيئة فيها، وهذه القراءة إما أن تجرى مجرى خبر الواحد فيوجب العمل، وإن لم يكن قرآنا. الثاني: أن الله جعل مدة الإيلاء أربعة أشهر، فلو كانت الفيئة (أبعدها لزادت أ) على مدة النص، وذلك غير جائز. الثالث: أنه لو وطئها في مدة الإيلاء لوقعت الفيئة موقعها، فدل على استحقاق الفيئة فيها. وذهب الجمهور من العلماء، وروي عن بضعة عشر من الصحابة؛ منهم عثمان وعلي وعائشة وابن عمر، ويروى عن عمر أيضًا، ومنهم أحمد والشافعي ومالك، إلى أنه لا يكون مؤليًا إلا بأكثر من أربعة أشهر، والأربعة الأشهر إنما هي مدة لإمهال الزوج، لا تستحق الزوجة المطالبة فيها، فبعد مضيها يثبت لها المطالبة بالفيء أو بالطلاق، ويحبسه الحاكم حتى يطلق، أو يوقع الحاكم عنه الطلاق على الخلاف في ذلك، قالوا: لأن الله جعل لهم مدة التربص أربعة أشهر، فلا تستحق المطالبة فيها (ب) بل تكون المطالبة فيما ¬

_ (أ- أ) في جـ: بعد أن زادت. (ب) بعده في الأصل: بل يكون المطالبة فيها.

بعدها، فكانت كأجل الدين؛ لأن الله تعالى يقول: {فَإِنْ فَاءُوا}. بفاء التعقيب وهو بعد الأربعة، فلو كانت المدة أربعة أو أقل لكانت المدة قد انقضت، فلا تطالب بعدها، والتعقيب هو للمدة لا (أ) للإيلاء؛ لبعده، ولأن الله سبحانه وتعالى خير في الآية بين الفيئة والعزم على الطلاق، فيكونان في وقت واحد، وهو بعد مضي الأربعة، ولو كان الطلاق يقع بمضي الأربعة والفيئة قبل مضيها لم يكن تخييرًا؛ لأن حق المخير بينهما أن يقع أحدهما في الوقت الذي يصح فيه الآخر كالكفارة، وهذا الوجه أشار إليه الشافعي، ولأن الله تعالى لما جعل مدة الانتظار أربعة أشهر، فلا سبيل عليه مدة بقائها، فإذا مضت كان عليه السبيل؛ إما أن يفيء، وإما أن يطلق، كما لو قال: أجلتك أربعة أشهر. لم يكن له الطالبة حتى تنقضي المدة، ولأن الله سبحانه وتعالى أضاف عزم الطلاق إلى الرجل، وليس انقضاء المدة من فعل الرجل، ولذلك كانت عائشة إذا حلف الرجل ألا يأتي امرأته فيدعها خمسة أشهر، لا ترى ذلك شيئًا حتى يوقَف، وتقول: كيف قال الله تعالى: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} (¬1). وذهب الحسن والنخعي وقتادة وابن أبي ليلى إلى أن الإيلاء يقع بقليل الزمان وكثيره. ويروى عن عبد الله بن مسعود (¬2). ودليلهم ظاهر قوله تعالى: {يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ}. من غير تقييد، وقد يجاب عنه بأن الله سبحانه وتعالى ضرب ¬

_ (أ) ساقط من: جـ.

الأربعة الأشهر ليرجع فيها المؤلي عن المضاررة والعمل بمقتضى يمينه، وذلك يقتضي أن تزيد المدة على أربعة أشهر. وروي عن ابن عباس أن المؤلي من حلف لا يصيب امرأته أبدًا. والفيئة في اللغة بمعنى الرجوع، والمراد بها هنا هو رجوع الزوج إلى وطء الزوجة، وهذا في حق القادر، وأما المعذور فيبين عذره، ويقول: لو قدرت لفئت. وعند الهدوية أن يقول: رجعت عن يميني. وقال عكرمة: فيئة المعذور بالنية. وإليه ذهب أبو ثور وأحمد؛ وذلك لأن الفيئة هو الرجوع عن اليمين، وهي عبارة عن التوبة عن المضاررة من الزوج لزوجته، والتوبة لا تحتاج إلى لفظ إلا أنه يقال: هي توبة متعلقة بالاستحلال من حق الغير، ولابد من الإفهام بذلك، وهو يكون باللفظ، وتجب الكفارة مع الوطء، وهو قول أكثر أهل العلم، ويروى عن ابن عباس وزيد بن ثابت، وهو الجديد للشافعي، وقال النخعي والحسن والقديم من قولي الشافعي: لا كفارة تجب. وظاهر الآية الكريمة عموم الحكم للحر والعبد وأنهما سواء، وبهذا قال الشافعي وأحمد وأبو ثور وأهل الظاهر، وذهب مالك إلى تنصيف مدته قياسًا على تنصيف حده وطلاقه، ويروى عن الزهري وعطاء وإسحاق، وذهب أبو حنيفة إلى اعتبار نقصان المدة بالنساء لا بالرجال؛ قياسًا على العدة، وبه قال الحسن والنخعي، وقد يرد قياس مالك بالفرق بين الحُكمين؛ لأن الحد حق لله، ومبناه على الدرء والإسقاط، والإيلاء حق للآدمي ومبناه على التغليظ والاحتياط، وأما قياسه على الطلاق فهو معارَض بقياسه على الفيئة؛ لأن الشارع ضرب المدتين توسعة (أ) للأزواج في أداء ما ¬

_ (أ) في جـ: بوسعه.

وجب [منه] (أ) دفع الضرار، ويرد على قياس أبي حنيفة ذلك على العدة، بأن حكم الإيلاء جعل الله اعتباره إلى الرجال، وحكم العدة اعتباره إلى النساء، فكيف يعتبر حكم وجب للرجال بحكم وجب للنساء؟ وعموم الآية يقتضي صحة الإيلاء من كل زوجة، صغيرة أو كبيرة، رتقاء (¬1) أو قرناء (¬2)، أو مريضة، أو غير ذلك. والفقهاء مختلفون في ذلك، فمنهم من أخذ بالعموم، ومنهم من جعل ذلك في حق الصالحة للجماع (ب)، وهو من خصص العموم بالمعنى، وهو عدم المضاررة في حق من لم تكن صالحة للجماع، حتى ذهب مالك إلى أن من قصد المضاررة بترك الوطء و (جـ) لم يؤْل بلسانه يكون مُؤْليًا، والجمهور على خلافه. وأجمعوا على أن الإيلاء يتعلق بالزوجة دون المملوكة؛ لقوله تعالى: {يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} (¬3). وقوله تعالى: {وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ} (¬4). وليس في الإماء طلاق؛ ولأنه لا يجب للمملوك على مالكه شيء من المؤنة. ¬

_ (أ) ساقط من: الأصل. (ب) بعده في الأصل: ومنهم. (جـ) في جـ: أو.

واعلم أن الإيلاء في لسان العرب هو الحلف مطلقًا، قال الشاعر (¬1): فآليت لا أنفك أحدو قصيدة ... تكون وإياها بها مثلًا بعدي ومن أهل العلم من ذهب إلى أن الإيلاء هنا كما (أ) في اللغة، ينعقد بكل يمين على الامتناع من الوطء، سواء حلف بالله أو بغيره، وبه قال الجمهور والشافعي في الجديد، ويروى عن ابن عباس، وقال به أبو حنيفة وأصحابه ومالك، وذهب العترة وقول الشافعي في القديم إلى أنه لا ينعقد إلا بالحلف بالله تعالى، قالوا: لأنه لا يكون يمينًا إلا ما كان بالله تعالى، فلا تشمله الآية. 900 - وعن سليمان بن يسار قال: أدركت بضعة عشر رجلًا من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كلهم كانوا يقفون المؤلي. رواه الشافعي (¬2). هو أبو أيوب، ويقال: أبو عبد الرحمن، سليمان بن يسار مولى ميمونة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأخو عطاء بن يسار، بفتح الياء تحتها نقطتان وتخفيف السين المهملة، من أهل المدينة، وكبار التابعين، كان فقيهًا فاضلا ثقة عابدًا ورعًا حُجة، وهو أحد فقهاء المدينة السبعة، قال الحسن بن محمد: سليمان بن يسار أفهم عندنا من سعيد بن المسيب. ولم يقل: أعلم ولا أفقه. روى عن ابن عباس وأبي هريرة وأم سلمة، روى عنه الزهري ويحيى بن سعيد ¬

_ (أ) ساقط من: جـ.

الأنصاري وغيرهما من الأعلام، مات سنة سبع ومائة وهو ابن ثلاث وسبعين سنة. وأخرج الشافعي (¬1) بلفظ: بضعة عشر رجلًا. وأخرج إسماعيل القاضي (¬2) من طريق يحيى بن سعيد الأنصاري، عن سليمان بن يسار، قال: أدركت بضعة عشر رجلًا من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قالوا: الإيلاء لا يكون طلاقًا حتى يوقفَ. وأخرج الدارقطني (¬3) من طريق سهيل بن أبي صالح عن أبيه أنه قال: سألت اثني عشر رجلًا من الصحابة عن الرجل يؤلي، فقالوا: ليس عليه شيء حتى تمضي أربعة أشهر فيوقَف، فإن فاء وإلا طلق. وأخرج إسماعيل (2) عن سليمان بن يسار من وجه آخر، قال: أدركنا الناس يقفون الإيلاء إذا مضت الأربعة. وأخرج البخاري (¬4) أن (أ) ابن عمر كان يقول في الإيلاء الذي يسمي الله: لا يحل لأحد (ب) بعد الأجل إلا أن يمسك بالمعروف أو يعزم بالطلاق، كما أمر الله سبحانه. وقال البخاري (¬5): قال لي إسماعيل، هو ابن أبي أويس (جـ): حدثني مالك عن نافع عن ابن ¬

_ (أ) في جـ: و. (ب) ساقط من: جـ. (جـ) في جـ: إدريس.

عمر: إذا مضت أربعة أشهر يوقف حتى يطلق، ولا يقع عليه الطلاق حتى يطلق. ويُذكر ذلك عن عثمان وعلي وأبي الدرداء وعائشة واثني عشر رجلًا من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -. انتهى. وأثر ابن عمر أخرجه الإسماعيلي من طريق معن بن عيسى عن مالك بلفظ: أنه كان يقول: أيما رجل آلى من امرأته، فإذا مضت أربعة أشهر يوقف حتى يطلق أو يفيء، ولا يقع عليه طلاق إذا مضت حتى يوقف. وكذا أخرجه الشافعي (¬1) عن مالك، وزاد: فإما أن يطلق وإما أن يفيء. وهذا تفسير للآية من ابن عمر، وتفسير الصحابة في مثل هذا له حكم الرفع عند البخاري ومسلم كما نقله الحاكم، وأثر عثمان وصله الشافعي وابن أبي شيبة وعبد الرزاق (¬2) من طريق طاوس أن عثمان بن عفان كان يوقف المؤلي، فإما أن يفيء وإما أن يطلق. وفي سماع (أ) طاوس من عثمان نظر. وأخرجه إسماعيل القاضي في "الأحكام" (¬3) من وجه آخر منقطع عن عثمان أنه كان لا يرى الإيلاء شيئًا، وإن مضت أربعة أشهر حتى يوقف. ومن طريق سعيد بن جبير عن عمر نحوه، وهذا منقطع أيضًا، فالطريقان عن عثمان يعضد أحدهما الآخر، وجاء عن عثمان خلافه، فأخرج عبد الرزاق والدارقطني (¬4) من طريق عطاء الخراساني، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن عثمان وزيد ¬

_ (أ) في جـ: سماعه.

ابن ثابت: إذا مضت أربعة أشهر فهي تطليقة بائنة. وقد سئل أحمد عن ذلك فرجح رواية طاوس، وأما أثر علي فوصله الشافعي وأبو بكر بن أبي شيبة (¬1) من طريق [عمرو] (أ) بن سلمة أن عليًّا وقف المؤلي. وسنده صحيح، وأخرج مالك (¬2) عن جعفر بن محمد عن أبيه عن علي نحو قول [ابن] (ب) عمر: إذا مضت الأربعة أشهر لم يقع عليه الطلاق حتى يوقف؛ فإما أن يطلق وإما أن يفيء. وهذا منقطع، يعتضد بالذي قبله. وروي [عن] (جـ) زيد بن علي عن أبيه، عن جده. رواه عنه في "أصول الأحكام". وأخرج سعيد بن منصور (¬3) من طريق عبد الرحمن بن أبي ليلى: شهدت عليًّا أوقف رجلًا عند الأربعة بالرحبة؛ إما أن يفيء وإما أن يطلق. وسنده صحيح أيضًا، وأخرج إسماعيل القاضي (¬4) من طريق سعيد بن المسيب أن أبا الدرداء قال: يوقف في الإيلاء عند انقضاء الأربعة؛ فإما أن يطلق وإما أن يفيء. وسنده صحيح إن ثبت سماع ابن المسيب من أبي الدرداء. وأما أثر عائشة فأخرج عبد الرزاق (¬5) عن معمر عن قتادة أن أبا الدرداء وعائشة قالا. فذكر مثله، وهذا منقطع. وأخرج سعيد بن منصور (¬6) بسند صحيح عن عائشة بلفظ: أنها ¬

_ (أ) في الأصل، جـ: عمر. والمثبت من مصدري التخريج. وينظر تهذيب الكمال 22/ 49. (ب) ساقطة من: في الأصل، جـ. والمثبت من الفتح 9/ 428. (جـ) في الأصل، جـ: عنه. والمثبت يوافق ما في الفتح 9/ 429.

كانت لا ترى الإيلاء شيئًا حتى يوقَف. وللشافعي (¬1) عنها نحوه. وسنده صحيح أيضًا (أ). الأثر المذكور وما عضده من الآثار، يدل على إيقاف المؤلي بعد مضي الأربعة، والمراد بإيقافه هو أنه يطالَب؛ إما بالفيء أو بالطلاق، ولا يقع الطلاق بمجرد مضي المدة، وهذا هو الذي ذهب إليه الجمهور من الصحابة والعلماء، وذهب الكوفيون إلى أنه إن فاء بالجماع قبل انقضاء المدة استمرت عصمته، وإن مضت المدة وقع الطلاق بنفس مضي المدة، ولا عدة؛ لأنه لا تربص على المرأة بعد انقضائها. وقال أبو حنيفة وأصحابه: إنه يكون الطلاق بائنًا؛ إذ لا فائدة للمرأة لو كان رجعيًّا. وذهب النخعي إلى أنها تكون رجعية؛ إذ لا مقتضِي للبينونة، ولما روي عن علي رضي الله عنه: إذا مضت أربعة أشهر فهي تطليقة (¬2). كذا رواه الإمام المهدي في "البحر"، ولكنه أخرجه الطبري (¬3) بسند لا بأس به عن علي: إن مضت الأربعة الأشهر ولم يفئْ طلقت طلقة بائنة. وأخرجه (3) بسند صحيح عن ابن مسعود أيضًا، وبسند حسن عن علي وزيد بن ثابت مثله (3). وعن جماعة من التابعين من الكوفيين وغيرهم كابن الحنفية وقبيصة بن ذؤيب وعطاء والحسن وابن ¬

_ (أ) ساقط من: جـ.

سيرين مثله. وأخرج (أمن طريق أ) ابن المسيب وأبي بكر بن عبد الرحمن وربيعة ومكحول والزهري والأوزاعي: تطلق، لكن طلقة رجعية. وأخرج سعيد بن منصور (¬1) من طريق جابر بن زيد: إذا آلى فمضت أربعة أشهر، طلقت بائنًا ولا عدة عليها. وأخرج إسماعيل القاضي (¬2) في "أحكام القرآن" بسند صحيح عن ابن عباس مثله. واخرج سعيد بن منصور (¬3) من طريق مسروق: [إذا مضت الأربعة بانت بطلقة وتعتد بثلاث حيض. وأخرج إسماعيل (2) من وجه آخر عن مسروق] (ب) عن ابن مسعود مثله. وأخرج ابن أبي شيبة (¬4) بسند صحيح عن أبي قلابة أن النعمان بن بشير آلى من امرأته، فقال ابن مسعود: إذا مضت أربعة اشهر فقد بانت منه (جـ) بتطليقة. فإذا عرفت ما تلوناه عليك من تعارض الآثار واختلاف علماء الصحابة والتابعين في ذلك، فالرجوع إلى الترجيح، وهو ترجيح القول الأول بظاهر الآية، وهو أن قوله سبحانه وتعالى: {فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (¬5). بعد قوله: {وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ}. فيه إيماء إلى أن عزم الطلاق بقول ليناسبه السماع، ¬

_ (أ- أ) ساقط من: جـ. (ب) ساقط من: الأصل، جـ. والمثبت من الفتح 9/ 428. (جـ) في جـ: منك.

ولو كان يقع بمجرد مضي المدة لكفى ذكر {عَلِيمٌ} من دون {سَمِيعٌ} كما هو المعروف من بلاغة كتاب الله سبحانه، وإحكام نظمه، ورصانة مبانيه، وإشارة فواصله إلى ما دلت عليه الجملة السابقة، ولأنه قال بذلك جمهور الصحابة، والترجيح قد يقع بالأكثر. واعلم أنه إذا طلق فعند الجمهور أن الطلاق يكون رجعيًّا، إلا أن مالكًا قال: لا تصح رجعته إلا إن جامع في العدة، وإذا فاء فإن كان قادرًا كان فيئه بالوطء، وإن كان عاجزًا كان فيئه باللفظ، بأن يقول: رجعت عن يميني. أو: ندمت على يميني، وإذا قدرت على الوطء فعلته. ومتى قدر أجبر على الوطء، ولا إمهال إلا إذا كان مقيدًا الإيلاء بمدة، فيمهل بعد مضي ما قيد به يومًا أو يومين، لضعف حكمه بعد مضي المدة، إذ لا حنث، قال الإمام يحيى: ويمهل حتى يأكل ويشرب أو يصلي أو يخف الشابع أو ينام الناعس إجماعًا، للمسامحة في ذلك، لا شهرًا ونحوه إجماعًا، وفي الثلاثة الأيام وجهان: يلزم فصلًا بين قليل المدة وكثيرها، ولا؛ إذ لا عذر. انتهى. وإذا كان غائبًا فإن كان دون مسافة القصر رجع فورًا ولا إمهال، وإن كان مسافة القصر فاء باللفظ، وكان حكمه حكم العاجز، وذكر الإمام المهدي في "البحر" أنه يرجع فورًا أيضًا إن (أ) لم يستوطن ذلك الكان، فإن استوطنه طلبها إليه. وكذا إن كان محرمًا كان فيئه باللفظ، فإن أراد الوطء كان لها منعه؛ لأن فعله منكر، وكذا إذا كان مظاهرًا منها قبل التكفير، فيجبر على العتق، ويمهل حتى يشتري رقبة يومًا أو يومين، وإن كان معسرًا ¬

_ (أ) في جـ: وإن.

ووجب عليه الصوم، فاء باللفظ لطول المدة، ولها منعه إذا طلب الوطء قبل التكفير، والله سبحانه أعلم. 901 - وعن ابن عباس رضي الله عنه قال: كان إيلاء الجاهلية السنة والسنتين، فوقت الله أربعة أشهر، فإن كان أقل من أربعة أشهر فليس بإيلاء. أخرجه البيهقي (¬1). وأخرجه الطبراني (¬2) أيضًا من حديث ابن عباس، وقال الشافعي: كانت العرب الجاهلية تحلف بثلاثة أشياء؛ الطلاق، والظهار، والإيلاء، فنقل الله سبحانه الإيلاء والظهار عما كانا عليه في الجاهلية من إيقاع الفرقة على الزوجة إلى ما استقر عليه حكمهما في الشرع، وبقي حكم الطلاق على ما كان عليه. الحديث فيه دلالة على أن أقل ما ينعقد به الإيلاء أربعة أشهر، وقد تقدم الكلام على ذلك. 902 - وعن ابن عباس رضي الله عنه، أن رجلًا ظاهر من امرأته، ثم وقع عليها، فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: إني وقعْت عليها قبل أن أكفر. قال: "فلا تقربها حتى تفعل ما أمرك الله به". رواه الأربعة وصححه الترمذي، ورجح النسائي إرساله (¬3)، ¬

_ (¬1) البيهقي، كتاب الإيلاء، باب الرجل يحلف لا يطأ امرأته أقل من أربعة أشهر 7/ 381. (¬2) الطبراني في المعجم الكبير 11/ 158 ح 11356. (¬3) أبو داود، كتاب الطلاق، باب في الظهار 2/ 275 ح 2223، 2225، والترمذي، كتاب الطلاق، باب ما جاء في المظاهر يواقع قبل أن يكفر 3/ 503 ح 1199، والنسائي، كتاب الطلاق، باب الظهار 6/ 167، وابن ماجه، كتاب الطلاق، باب المظاهر يجامع قبل أن يكفر 1/ 666 ح 2065.

ورواه البزار (¬1) من وجه آخر عن ابن عباس، وزاد فيه: "كفِّر ولا تعد". الحديث بلفظ النسائي، وفي رواية له (¬2): "اعتزلها حتى تقضي ما عليك". وفي رواية لأبي داود (¬3) قال: "فاعتزلها حتى تكفر عنك". ورجاله ثقات، وأعله أبو حاتم والنسائي بالإرسال (¬4)، وقال ابن حزم (¬5): رواته ثقات ولا يضره إرسال من أرسله. وطريق البزار عن خصيف عن عطاء عن ابن عباس بلفظ، أن رجلًا قال: يا رسول الله، إني ظاهرت من امرأتي، رأيت ساقها في القمر فواقعتها قبل أن أكفر. قال: "كفِّر ولا تعد". قوله: أن رجلًا ظاهر من امرأته. لم أر تسمية الرجل المظاهر، والظهار كما عرفت في اشتقاقه أنه مشتق من الظهر، وهو قول الرجل لزوجته: أنت عليَّ كظهر أمي. [فيكنون] (أ) بالظهر الذي هو محل الركوب، ويشبهون به المرأة، كما أن الزوجة موطوءة للزوج، فكنوا بالظهر عما يستهجن ذكره، وأضافوا الظهر إلى الأم؛ لأنها أم المحرمات. قال الشافعي رحمه الله تعالى: سمعت من أرضى من أهل العلم بالقرآن يذكرون أن أهل الجاهلية كانوا يطلقون بثلاث؛ الظهار والإيلاء والطلاق، ¬

_ (أ) في الأصل، جـ: فيكون. والمثبت هو الصواب.

فأقر الله سبحانه الطلاق طلاقًا، وحكم في الإيلاء أن يمهل المؤلي أربعة أشهر، ثم جعل عليه أن يفيء أو يطلق، وحكم في الظهار بالكفارة، وأعلم سبحانه وتعالى بأنه محرم تحريمًا مغلظًا؛ لا فيه من المنكر والزور والكذب والإجماع على تحريمه. واختلف العلماء فيما إذا شبهها بغير ظهر أمه؛ فذهب العترة ومالك والشافعي في أظهر قوليه أنه يكون ظهارًا. وقال في القول الآخر: لا يكون ظهارًا. وقال أبو حنيفة: يكون الظهار بالعضو الذي يحرم النظر إليه. واختلفوا أيضًا إذا شبهها بغير الأم من المحارم؛ فذهب أكثر العترة إلى أنه لا يكون ظهارًا؛ نظرًا إلى ظاهر النص الوارد. وذهب مالك والشافعي وأبو حنيفة وأصحابه والناصر والإمام يحيى إلى أنه يصح بغير الأم من المحارم ولو من الرضاع؛ نظرًا إلى المعنى المعلل به، فيثبت بالقياس على الأم، إذ العلة التحريم المؤبد، وهو حاصل. وقال ابن القاسم من أصحاب [مالك] (أ): ولو من الرجال. وذهب مالك وأحمد والبتي إلى أنه ينعقد، وإن لم يكن المشبه به محرمًا على التأبيد كالأجنبية، بل قال أحمد: حتى في (ب) البهيمة. وعموم الخطاب بالآية يقضي أن الظهار يصح من زوج مكلف حرًّا أم عبدًا، مسلمًا أم كافرًا، سليمًا أم خصيًّا أم مجبوبًا (جـ). واشترط العترة وأبو حنيفة وأصحابه والنخعي الإسلام في المظاهر؛ لأن ¬

_ (أ) في الأصل، جـ: الشافعي. والمثبت من المغني 11/ 59. (ب) في جـ: من. (جـ) غير منقوطة في الأصل، وفي جـ: مجنونا. والمثبت أنسب للسياق.

من لوازمه الكفارة، وهي لا تصح من الكافر، ولو كان التحريم يرتفع بغير الكفارة، لم يكن تحريم ظهار، فإن من لوازمه الكفارة إلا في المؤقت، ولم يشترطه الشافعي وأصحابه وزيد بن علي فقالوا: يصح من الكافر؛ لعموم الخطاب، ويكفر بالعتق والإطعام لا الصوم، فإنه متعذر في حقه. وأجيب بأن العتق والإطعام إذا خرجا لأجل الكفارة كانا قربة، وهي لا تصح من الكافر. ولا يصح الظهار من الأمة المملوكة عند العترة والحنفية والشافعية؛ لأن قوله تعالى: {مِنْ نِسَائِهِمْ} (¬1). لا يتناول المملوكة في عرف اللغة، وللاتفاق في الإيلاء أنها غير داخلة في عموم النساء، وقياسًا على الطلاق. وذهب مالك والثوري وعطاء وجماعة، وروى العمراني ذلك عن علي أنه يصح من الأمة؛ لعموم لفظ النساء. إلا أن عطاء قال: لا يجب إلا نصف الكفارة. وقال الأوزاعي: إن كان يطأ الأمة صح الظهار منها، وإن لم تكن موطوءة له فهي يمين يلزم فيها الكفارة، ويصح من الأمة المزوجة، والخلاف لموسى بن جعفر والبستي من الناصرية، قالوا: لأن المراد من قوله تعالى: {مِنْ نِسَائِهِمْ}. الحرائر. والجواب أن الظاهر هو الزوجات. ويصح من العبد لزوجته عند الأكثر، وقال قوم: لا يصح؛ لتعذر التكفير. والجواب أن الصوم لا يتعذر في حقه فيتعين عليه. وقال مالك: إنه يصح أن يكفر بالإطعام بإذن مولاه. وقال أبو ثور: إن أعطاه سيده عبدًا صح أن يكفر به. والجواب أن الإطعام والإعتاق فرعا الملك، وهو لا يملك. ¬

_ (¬1) الآية 2 من سورة المجادلة.

واختلف العلماء في إضافة النساء إلى الضمير في قوله تعالى: {مِنْ نِسَائِهِمْ}. هل هي في الزوجات، كما هو الظاهر؛ لدلالة الإضافة على الاختصاص، أو فيمن يصح للرجل نكاحها وإن لم تكن في الحال زوجة، والإضافة تصح لأدنى اختصاص؟ فقال بالأول الشافعي وداود وأبو ثور، وهو قول ابن عباس، وقال بالثاني مالك وأبو حنيفة والثوري والأوزاعي، وهو قول عمر رضي الله عنه، وفرق قوم بين أن يقول: كل امرأة أتزوجها فهي علي كظهر أمي. فلا يصح، وبين أن يعين أو يقيد، بأن يقول: إن تزوجت فلانة. أو: من قرية كذا. أو: قبيلة كذا. فيصح، وبه قال ابن أبي ليلى. واختلفوا أيضًا هل الظهار كالطلاق أو كاليمين؟ فمن قال بالأول، قال: لا يصح من المرأة الظاهرة من زوجها، ولا يلزم به شيء. وبه قال مالك والشافعي، ومن جعله كاليمين أوجب عليها كفارة ظهار، ومن العلماء من أوجب عليها كفارة يمين. والحديث فيه دلالة على أنه يحرم وطء المُظاهرة قبل التكفير، هو مجمع على التحريم؛ لقوله تعالى: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} (¬1). ولا يسقط بالوطء قبل التكفير ولا يتضاعف، بل هي بحالها كفارة واحدة كما قال - صلى الله عليه وسلم -: "حتى تفعل ما أمرك الله". قال الصلت بن دينار: سألت عشرة من الفقهاء عن المظاهر يجامع قبل أن يكفر، فقالوا: كفارة واحدة. قال: وهم الحسن وابن سيرين [ومورق] (أ) وبكر وقتادة وعطاء وطاوس ومجاهد ¬

_ (أ) في الأصل، جـ: ومسروق. والمثبت من المحلى 11/ 263، والمغني 11/ 111.

وعكرمة. قال: والعاشر أراه نافعًا. وهذا قول الأئمة. الأربعة، وصح عن ابن عمر وعمرو بن العاص أن عليه كفارتين (¬1). وذكر سعيد بن منصور (¬2) عن الحسن وإبراهيم في الذي يظاهر ثم يطؤها قبل أن يكفر: عليه ثلاث كفارات. وذكر عن الزهري وسعيد بن جبير وأبي يوسف أن الكفارة تسقط. ووجهه أنه فات وقتها ولم يبق له سبيل [إلى] (أ) إخراجها قبل المسيس. والجواب عن هذا أن فوات وقت الأداء لا يسقط الواجب في الذمة كالصلاة والصيام وسائر العبادات، ووجه وجوب الكفارتين أن إحداهما للظهار الذي اقترن به العود، والثانية للوطء المحرم، كالوطء في رمضان نهارًا، وكوطء المُحْرِم، ولا يعلم لإيجاب الثلاث وجه إلا أن يكون عقوبة على إقدامه [على الحرام] (ب). والحديث فيه دلالة على تحريم الوطء، واختلف العلماء في تحريم المقدمات؛ فذهب العترة وأبو حنيفة ومالك وأحد قولي الشافعي إلى أن حكمه حكم المسيس في التحريم، ولأنه شبهها بمن يحرم في حقها الوطء ومقدماته، وذهب الثوري وأحد قولي الشافعي إلى أنه لا تحرم؛ لأن المسيس هو الوطء وحده، ولا يشمل المقدمات إلا مجازًا، ولا يصح أن يراد؛ لئلا يجمع بين الحقيقة والمجاز. وذهب الأوزاعي إلى أنه يحل له الاستمتاع بما ¬

_ (أ) في الأصل: على. (ب) في الأصل، جـ: كالحرام. والمثبت أنسب للسياق.

فوق الإزار كالحائض. 903 - وعن سلمة بن صخر رضي الله عنه قال: دخل رمضان، فخفت أن أُصيب امرأتي، فظاهرت منها، فانكشف لي منها شيء ليلة، فوقعت عليها، فقال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "حرر رقبة". فقلت: لا أملك إلا رقبتي. قال: "فصم شهرين متتابعين". قلت (أ): وهل أصبت الذي أصبت إلا من الصيام؟ قال: "أطعم عَرَقًا من تمر ستين مسكينًا". أخرجه أحمد والأربعة إلا النسائي، وصححه ابن خزيمة وابن الجاورد (¬1). هو سلمة بن صخر البياضي بفتح الباء الموحدة وتخفيف الياء تحتها نقطتان وبالضاد المعجمة، أنصاري خزرجي كان أحد البكائين، روى عنه سليمان بن يسار وابن المسيب، قال البخاري (¬2): ولا يصح حديثه. يعني هذا الذي في الظهار. الحديث رووه (ب) بلفظ: كنت امرأ أصيب من النساء ما لا يصيب غيري، فلما دخل شهر رمضان خفت أن أصيب من امرأتي شيئًا، فظاهرت منها حتى ينسلخ شهر رمضان، فبينا هي تحدثني ذات ليلة، فكشف لي منها ¬

_ (أ) في جـ: قال. (ب) في جـ: رواه.

شيء، فما نشبت أن نزوت عليها. الحديث، وأعله عبد الحق (¬1) بالانقطاع، وأن سليمان لم يدرك سلمة، حكى ذلك الترمذي (¬2) عن البخاري. وقال الترمذي (¬3): اسم سلمة سلمان أيضًا. ورواه الحاكم والبيهقي (¬4) من طريق محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان وأبي سلمة بن عبد الرحمن، أن سلمة بن صخر البياضي جعل امرأته عليه كظهر أمه إن غشيها حتى يمضي رمضان. والحديث استدل به الرافعي على صحة الظهار المعلق، ولفظ البيهقي فيه تعليق وتوقيت، والذي في "السنن" توقيت من دون تعليق. الحديث دل على ترتيب خصال الكفارة كما نص عليه تعالى، وأن الواجب تقديم الإعتاق للرقبة إن أمكنت، وقد أجمع أهل العلم على الترتيب الذي ذكر الله سبحانه، وأطلق في الحديث كما في الآية الكريمة الرقبة، ولم يشترط فيها الإيمان كما قيدها سبحانه في آية القتل، فأخذ بالإطلاق طاوس والنخعي وزيد بن علي وأبو حنيفة وأبو يوسف وأجازوا عتق الذمية، ولم يؤخذ بالتقييد الذي في آية القتل لاختلاف السبب، وأشار الزمخشري (¬5) إلى أن القياس غير معتبر؛ لعدم الاشتراك في العلة، فإن المناسبة في آية القتل أنه لما أخرج رقبة مؤمنة من صفة الحياة إلى الموت كان كفارته (أ) إدخال رقبة مؤمنة في حياة الحرية، وإخراجها عن موت الرقيّة، فإن الرق يقتضي سلب ¬

_ (أ) في جـ: كفارة.

التصرف عن المملوك، فأشبه الموت الذي يقتضي سلب التصرف عن الميت، وكان في إعتاقه إثبات التصرف، فأشبه الإحياء الذي يقتضي إثبات التصرف للحي. وذهب أكثر العترة ومالك والشافعي إلى أنه لا يجزئ إعتاق الكافرة، وذلك لأنه لما قيد في كفارة القتل بالإيمان، فكذلك يقيد المطلق (أفي كفارة أ) الظهار وإن اختلف السبب. وفي السنة ما يدل على اشتراط الإيمان في الكفارة، كما روي عن معاوية بن الحكم (¬1) السلمي قال: أتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلت: يا رسول الله، إن جارية لي كانت ترعى غنمًا، فجئتها وفقدت شاة من غنمي، فسألتها عنها، فقالت: أكلها الذئب. [فأسِفْتُ] (ب) عليها، وكنت من بني آدم، فلطمت وجهها، وعلي رقبة، أفأعتقها؟ فقال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أين الله؟ ". فقالت: في السماء. فقال: "من أنا؟ ". فقالت: أنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. قال: "أعتقها فإنها مؤمنة". فسؤال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لها عن الإيمان، وعدم سؤاله عن صفة الكفارة وسببها، وترك الاستفصال مع قيام الاحتمال ينزل منزلة العموم في المقال، وهذه قاعدة بنى عليها الشافعي في كثير من المواضع، وإطلاق الرقبة يتناول إجزاء المعيبة (جـ) بأي عيب كان، وقد ذهب إليه أكثر العترة وداود، وذهب أبو ثور والليث وزفر إلى أنه لا يجزئ المعيب قياسًا على الهدايا والضحايا بجامع التقريب إلى الله تعالى، وذهب الشافعي إلى أنه إن كان كامل المنفعة ¬

_ (أ- أ) في جـ: بكفارة. (ب) في الأصل، جـ: فالتفت. والمثبت موافق لما في مصدر التخريج. (جـ) غير واضحة في جـ، وفي الحاشية: المعتقة قيل إنه المعيبة.

كالأعور أجزأ، وإن نقصت منافعه لم يجزئ، إذا كان ذلك ينقصها نقصانًا ظاهرًا كالأقطع والأعمى؛ إذ العتق تمليك المنفعة وقد نقصت، وذهب أبو حنيفة إلى أن المعتبر كمال الأعضاء والمنافع، فلا يجزئ ذاهب عضوين أخوين، ولا أصم ولا أبكم، ولا ذاهب رجل ويد من جانب، ويجزئ من خلاف. وتجزئ الأمة الرتقاء عند الهدوية والحنفية والشافعية، والمجبوب ونحوه، خلافًا لمالك، ومن أطبق جنونه فللشافعي فيه قولان، ويجزئ ولد الزنى خلافًا للأوزاعي والزهري وطاوس والنخعي والشعبي؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "ولد الزنى شر الثلاثة" (¬1). وقال الشافعي: لا يجزئ ذو المرض الخوف كالسل والإسهال والحمى المطبقين (أ)، ولا مقطوع الإبهام أو أصبعين من يد، أو أنملتي السبابة والوسطى لا الخنصر والبنصر، ولا أصلخ، بالصاد المهملة والخاء المعجمة، وهو الذي لا يتكلم ولا يسمع. وفي "القاموس" (¬2): هو الأصم. ويجزئ المدبر عند العترة والشافعي والبتي؛ لكمال رقِّه، إذ يجوز بيعه في حال. وقال أبو حنيفة وأصحابه: لا يجزئ؛ إذ استحق العتق بالتدبير. ولا تجزئ أم الولد عند من حرم بيعها، لاستحقاقها العتق. وذهب الباقر والصادق والإمامية ورواية عن الشافعي إجزاؤها. ولا يجزئ المكاتب إذا كره فسخ الكتابة، وذهب إلى هذا الهدوية والشافعي ومالك والأوزاعي والثوري، وقال أبو حنيفة وأصحابه: إذا قد ¬

_ (أ) في جـ: المطبقة.

أدى شيئًا من مال الكتابة لم يجز وإن رضي بالفسخ؛ لكونه صار غير كامل. وذهب أبو ثور وابن أبي ليلى إلى أنه يجزئ ما بقي عليه درهم لبقاء الملك، ولا يجزئ ذو رحم محرم، لاستحقاقه الحرية بملكه، وذهب أبو حنيفة وأصحابه إلى أنه إذا تملكه ناويًا لعتقه عن الكفارة أجزأ عن الكفارة؛ لأنه اقترن سببا العتق، وهما الملك والعتق عن الكفارة، فيرجح العتق عن الكفارة؛ لما فيه من القربة؛ ولفظ الرقبة ظاهر في كمالها، فلا يجزئ عتق البعض، والأصح عند الشافعية أنه يصح عتق البعض ويجزئ إذا كان الباقي جزءًا؛ لأنه يتبعض العتق عندهم ولا يسري، [وأما] (أ) على قول من يقول بالسراية، فلا يصح ذلك، إلا أن الهدوية وأبا يوسف ومحمدًا يقولون في المشترك إذا أعتقه أحد الشركاء: فإن كان موسرًا فهو ضامن لحصة الشريك، فهو كمعتق الكل فيجزئه، وإن كان معسرًا لم يجزئه؛ لوجوب السعاية على العبد، فلم يكن معتقًا للكل، ومقتضى قواعد الهدوية لا بد أن ينوي عتق الجميع؛ لأنهم اشترطوا أن يتناول العتق كل الرقبة، فلو نوى عتق حصته لم يجزئه؛ ولو ضمن النصف الآخر. وقال أبو حنيفة: لا يجزئ مطلقًا لتبعيض العتق؛ لأنه لا يعتق إلا نصيبه ويبقى نصيب الشريك. ومثله عن الناصر إلا أنه يقول بوجوب السعاية عن الموسر والمعسر. ويجزئ عتق من كان مغصوبًا على مالكه لكمال الملك خلافًا لأكثر أصحاب الشافعي؛ لأنه مغلوب على منافعه، فلا يحصل القصد بالعتق، والجواب بأن الحرية قد حصلت وإن كانت منافعه مغصوبة. ولا يجزئ عتق ¬

_ (أ) ساقط من: الأصل.

نصفين من عبدين، وقال الشافعي: يجزئه، إذ النصفان كالرقبة الكاملة. قوله: قال: "فصم شهرين متتابعين". والمعتبر في الشهر برؤية الهلال إذا صام من أوله، وإن كان ناقصا عن الثلاثين، وإن ابتدأ الصوم بعد مضي يوم أو أيام وجب عليه إتمام ثلاثين يومًا، وإن أفطر وجب الاستئناف إلا لعذر كالمرض، أو السفر الذي يخشى الضرر من الصيام فيه، أو لتخلل "أيام العيدين والتشريق، وإذا وطئ في الشهرين استأنف فيها؛ لأنه سبحانه قال: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} (¬1). فلا بد أن يكون الصيام متقدما على التماسِّ، إلا أنه إن وطئ نهارًا متعمدًا استأنف إجماعًا؛ لقوله تعالى: {مُتَتَابِعَيْنِ}. وإن وطئها ليلًا فذهب البصري والهدوية وأبو حنيفة ومحمد والثوري والنخعي إلى أنه يستأنف ولو ناسيًا؛ لقوله تعالى: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا}. وذهب الشافعي وأبو يوسف إلى أنه لا يضر ويجوز؛ إذ علة النهي إفساد الصوم، ولا فساد بوطء الليل. والجواب أن الآية عامة. وإن وطئ نهارًا ناسيًا استأنف أيضًا عند البصري والنخعي والثوري والهدوية وأبي حنيفة ومحمد؛ إذ الآية عامة، وذهب الناصر والإمام يحيى والشافعي وأبو يوسف إلى أنه لا يضر؛ لأنه لم يفسد الصوم، فكذا التتابع، والجواب أنه ليس العلة فساد الصوم، وإنما عموم الدليل للأحوال كلها دل على أنه لا تتم الكفارة به إلا من قَبل التماس. وسر المسألة أنه سبحانه أوجب أمرين؛ أحدهما تتابع الشهرين، والثاني وقوع صيامهما قبل التماس، فلا يكون قد أتى بما أمر به إلا بمجموع الأمرين. ¬

_ (¬1) الآية 4 من سورة المجادلة.

وإن أفطر لعذر مأيوس ثم زال بنى على صومه عند الهدوية ومالك وأحمد وأحد قولي الشافعي، وقال أبو حنيفة وللشافعي: بل يستأنف لاختياره التفريق. قلنا: العذر صيره كغير الختار. وإن كان العذر مرجوًّا، فكذلك يبني (أ) عليه عند أبي طالب وأبي العباس. وقال المؤيد بالله والإمام يحيى والناصر: لا يبني عليه، لأن الرجاء صيره كالمختار. والجواب أنه لا اختيار مع العذر. واعلم أن ظاهر قوله تعالى: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ}. أنه لا يعدل إلى الصوم [إلا] (ب) إذا لم يجد الرقبة، وأما إذا وجدها وإن كان يحتاجها لخدمته للعجز، فلا يصح منه الصوم، ولا يقاس ما هنا على التيمم، فإنه يصح وإن وجد الماء إذا احتيج إليه، وذلك لأن التيمم قد شرع مع العذر، فكأن الاحتياج إليه كالعذر. والصوم قال سبحانه فيه: {فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ}. ومن له عذر كالزمانة والمرض، هو غير مستطيع، فيجوز له العدول إلى الإطعام، إلا أن ظاهر حديث أوس أن شدة الشبق إلى الجماع يكون عذرًا في العدول إلى الإطعام وإن لم يحصل عليه ضرر في تركه، وللشافعية في ذلك نظر، هل يكون عذرًا حتى يعد صاحبه غير مستطيع للصوم أو لا؟ والصحيح عندهم اعتبار ذلك، ويلحق به من يجد رقبة لا غناية عنها، فإنه يسوغ له الانتقال إلى الصوم مع وجودها؛ لكونه في حكم غير الواجد. ¬

_ (أ) في جـ: ينبني. (ب) ساقط من: الأصل.

والإطعام هو كما نص عليه تعالى "إطعام ستين مسكينًا"، (أولا بد أن يكون ستين مسكينًا أ) عند الهدوية ومالك وأحمد والشافعي، وذهب أبو حنيفة وأصحابه وأحد قولي زيد بن علي وأحد قولي الناصر إلى أنه يقوم مَقام ذلك إطعام واحد ستين يومًا أو أكثر من واحد بقدر طعام ستين مسكينًا، قالوا: لأنه في اليوم الثاني مستحق كقبل الدفع إليه. والجواب أن الظاهر من الآية الكريمة هو تغاير المساكين بالذات، ولأحمد ثلاثة أقوال؛ كقول الجمهور، وكقول أبي حنيفة، والثالث: إن وجد غير المسكين لم يجز الصرف إليه، وإلا أجزأ إعادة الصرف إليه. وهو أصح الأقوال على مذهبه. وقوله: "أطعم عرقا من تمر". لفظ الترمذي (¬1) في رواية له: فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لفروة بن عمرو: "أعطه ذلك العَرَق -وهو مكتل يأخذ خمسة عشر صاعًا، أو ستة عشر صاعًا- أطعم (ب) ستين مسكينًا". وأخرجه عبد الرزاق في "المصنف" (¬2)، وفي رواية له (¬3) قال: "اذهب إلى صاحب صدقة بني زريق (جـ) فقل له، فليدفعها إليك، فأطعم عنك منها وسقًا ستين مسكينًا، ثم استعن (د) بسائره عليك وعلى عيالك". وفي رواية لأبي داود ¬

_ (أ - أ) ساقط من: جـ. (ب) في مصدر التخريج: إطعام. (جـ) في جـ: رزيق. وينظر جمهرة أنساب العرب ص 357. (د) في جـ: استغن.

والترمذي (¬1): قال: "فأطعم وسقًا من تمر بين ستين مسكينًا". وجاء في رواية أبي داود (¬2) في حديث أوس بن الصامت قال: " (أفإني سأعينه أ) بعَرَق من تمر". قلت: يا رسول الله، وإني أعينه بعَرَق آخر. قال: "قد أحسنت". قال: "فأطعمِي بها عنه ستين مسكينًا". قال: والعَرَق ستون صاعًا. وفي رواية أخرى (¬3) نحوه إلا أنه قال: والعَرَق مكتل يسع ثلاثين صاعًا. قال أبو داود: هذا أصح الحديثين. وفي رواية عن أبي سلمة بن عبد الرحمن قال: العَرَق زنبيل يأخذ خمسة عشر صاعًا (¬4). وفي رواية لهذا الخبر (¬5): قال: فأتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بتمر فأعطاه إياه، وهو قريب من خمسة عشر صاعًا. وفي رواية أخرى (¬6): أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أعطاه خمسة عشر صاعًا من شعير إطعام ستين مسكينًا. وهي من رواية عطاء عن أوس، قال أبو داود (6): لم يدرك عطاء أوسًا. وفي رواية عبد بن حميد (¬7) عن عكرمة قال: فأتي النبي - صلى الله عليه وسلم - بشيء من تمر، فقال له: "خذ هذا فاقسمه". فقال: ما بين لابتيها أفقر مني! فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: "كله أنت وأهلك". وفي رواية عبد ¬

_ (أ - أ) في مصدر التخريج: فأتي ساعتئذ، وأشار في حاشية عون المعبود أنه في نسخة: فإني سأعينه. كما هنا. عون المعبود 2/ 234.

ابن حميد (¬1) عن يزيد بن زيد الهمداني: فأعانه النبي - صلى الله عليه وسلم - بخمسة عشر صاعًا. إلخ. وفي رواية ابن سعد (¬2) عن عمران بن أنس ذكر القصة إلى أن قال: "فمريه فليأت أم المنذر بنت قيس، فليأخذ منها شطر وسق، فليتصدق به على ستين مسكينًا". [قال] (أ): فجعل يطعم مدين من تمر كل مسكين. وأخرج الطبراني (¬3) من حديث ابن عباس القصة بطولها إلى أن قال: "فمريه فلينطلق إلى فلان فليأخذ منه شطر وسق من تمر، فليتصدق به على ستين مسكينًا وليراجعك". فالحديث اختلفت الروايات في قدر ما أمر به النبي - صلى الله عليه وسلم - وما أعان المذكورَيْن (سلمة بن صخر وأوس بن الصامت) (ب)، والعلماء اختلفوا في ذلك أيضًا؛ فذهب الهدوية والمؤيد بالله وأبو حنيفة وأصحابه والثوري إلى أن الواجب ستون صاعًا من تمر أو ذرة أو شعير أو زبيب، أو نصفه من بر، ولأبي حنيفة رواية أن الزبيب كالبر لكل مسكين نصف صاع. قال الإمام المهدي في "البحر" (¬4): لإعانته - صلى الله عليه وسلم - سلمة بن صخر بستين صاعًا تمرًا، فقيس عليه غيره. انتهى. وأنت خبير بما قدمنا من الروايتين فلا يتم الاحتجاج، وقال الشافعي: الواجب لكل مسكين مد، والمد ربع الصاع، وهو مد النبي - صلى الله عليه وسلم -. قال الإمام المهدي (¬5) في الاحتجاج ¬

_ (أ) في الأصل: قالت. (ب) ساقط من: جـ. والمثبت من هامش الأصل.

له: لإعانته - صلى الله عليه وسلم - الواطئ في رمضان بعَرَق خمسة عشر صاعًا تمرًا، قلنا: في كفارة وطء رمضان لا الظهار، فافترقا، سلمنا، فحديث سلمة بن صخر أرجح، إذ هو صاحب القصة، وصاحب العَرَق مجهول. انتهى كلامه. ولا يخفى ما فيه من القصور، فإن حديث سلمة فيه الرواية بخمسة عشر صاعًا، وأكثر الروايات لحديث أوس بن الصامت، ومع التعارض فالترجيح للكثرة، وأكثر الروايات بخمسة عشر صاعًا، واختلفت الرواية عن مالك، فرواية كالشافعي (أ)، والمشهورة عنه أنه مد بمد هشام، ومد هشام مد ونصف مد بمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقيل: مدان. وقيل: مد وثلث. لأن به يحصل الكفاية (ب) في الغداء والعشماء، وأنكر الشافعي هذا على مالك، فقال: من شرع لكم مد هشام وقد أنزل الله تعالى الكفارات على نبيه - صلى الله عليه وسلم - قبل أن يولد هشام؟! وفي رواية عن أبي حنيفة أن لكل مسكين مدين (جـ) قياسًا على فدية الأذى كما في حديث كعب بن عجرة (¬1). والحديث فيه دلالة على أن الكفارة لا تسقط بالعجز عن أنواعها، وهذا قول الشافعي وإحدى الروايتين عن أحمد، وذهبت طائفة إلى سقوطها بالعجز كما تسقط الواجبات بالعجز عنها وعن أبدالها، وذهبت طائفة إلى أن كفارة رمضان لا تبقى في ذمته بل تسقط، وأما غيرها فلا تسقط، وهذا الذي صححه أبو البركات بن تيمية، واحتج القائل بسقوطها بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - ¬

_ (أ) في جـ: الشافعي. (ب) في جـ: الكفارة. (جـ) في جـ: مد. وينظر تفسير القرطبي 17/ 286.

أمره أن يأكلها هو وعياله، والرجل لا يكون مصرفًا لكفارته، كما لا يكون مصرفًا لزكاته، وأرباب القول الأول يقولون: إذا عجز عنها وكفر الغير عنه جاز أن يصرفها إليه كما في قصة المجامع في نهار رمضان. وهذا مذهب أحمد؛ رواية واحدة عنه في كفارة وطء رمضان، وروايتان في سائر الكفارات، وفي بعض روايات الحديث دلالة على أنه إذا أعسر بالكفارة وكفر عنه غيره، جاز صرف كفارته إليه، وقريب من هذا الزكاة إذا قبضها منه الإمام صح أن ترد إليه كما ذكره الهدوية، وهي الرواية الصحيحة عن الإمام أحمد. واعلم أن قصة سلمة بن صخر لم تكن هي السبب في نزول الآية الكريمة الواردة في الظهار، وأن ظاهر القصة كما في بعض رواياتها، أنه ظاهر ظهارًا مؤقتًا في شهر رمضان تحرزًا أن يفاجئه طلوع الفجر وهو مباشر لزوجته، كما في بعض الروايات مصرحًا بذلك، لما كان عليه من شدة الداعي إلى النكاح، وإن صادفه الفجر وهو مباشر للزوجة لا يقدر على النزع، فظاهر منها إلى انقضاء شهر رمضان، وأنه قد كان نزل آية الظهار فعرف حكمه. وأما سبب الآية فهو قصة أوس بن الصامت، وكان الظهار في الجاهلية طلاقًا، ولذلك جادلت زوجته في ذلك؛ فقال الإمام المهدي في "البحر": إن السبب هو قصة أوس كما في رواية البخاري، أو قصة سلمة كما في رواية الترمذي، وهم، وقد عرفت ما تلوناه عليك من روايات الترمذي، وقد استشكل التقي السبكي شمول الآية الكريمة لقصة أوس بن الصامت من جهة تقدم السبب وتأخر النزول، فكيف ينعطف على ما مضى مع أن الآية لا تشمل إلا من وجد منه الظهار بعد نزولها؛ لأن قوله تعالى: {الَّذِينَ

يُظَاهِرُونَ} (¬1). مبتدأ متضمن لمعنى الشرط بدليل الفاء في قوله: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} (¬2). والمبتدأ المتضمن لمعنى الشرط مستقبل. وأجاب عنه بأن دخول الفاء في الخبر يستدعي العموم في كل مظاهر، وذلك يشمل الحاضر والمستقبل. قال: وأما دلالة الفعل على الاختصاص بالمستقبل ففيه نظر. كذا قال. انتهى. وأنت خبير بأن هذا الجواب لا يدفع الإشكال. ويمكن أن يقال: إن الآية الكريمة تدل على ما ذكر، ودخول قصة أوس ثبتت ببيان النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الآية الكريمة في حقه وفي حق من سيكون منه في المستقبل، أو أن المقام مقام الماضي؛ لأنه في بيان حكمه، إلا أنه عبر بصيغة المستقبل مجازًا، للتنبيه على أن الحكم لا يختص به، وأن ذلك له ولغيره، ورجح التعبير بالمستقبل؛ لأن المقصود الأصلي هو شرع الحكم في المستقبل، ومثل هذا واقع كثير. وتدل قصة أوس بن الصامت على أنه إذا قصد بلفظ الظهار الطلاق لم يقع الطلاق وكان ظهارًا، وقد ذهب إلى هذا أحمد بن حنبل والشافعي وغيرهما والإمام يحيى، قال الشافعي: ولو ظاهر يريد طلاقًا كان ظهارًا، أو طلق يريد ظهارًا كان طلاقًا. هذا لفظه، ونص أحمد أنه إذا قال: أنت علي كظهر أمي. أعني به الطلاق. كان ظهارًا ولا تطلق به. وكذا قال في "البحر" بعد ذكر كلام الإمام، إذ لا حكم لنيته ما لم يوضع له اللفظ حقيقة أو مجازًا. وعلله ابن القيم في "الهدي" (¬3) بأن الظهار كان طلاقًا في ¬

_ (¬1) الآية 2 من سورة المجادلة. (¬2) الآية 3 من سورة المجادلة. (¬3) زاد المعاد 5/ 327.

الجاهلية فنسخ، فلم يجز أن يعاد إلى الأمر المنسوخ، وأيضًا فأوس بن الصامت إنما نوى به الطلاق لما كان عليه، وأجرى عليه حكم الظهار دون الطلاق، وأيضًا فإنه صريح في حكمه، فلم يجز جعله كناية في الحكم الذي أبطله الله بشرعه (أ)، وقضاء الله [أحق] (ب)، وحكم الله أوجب. قال: وفيه خلاف شاذ أنه يكون طلاقًا. وقواه الإمام المهدي، قال في "البحر": قلت: بل تطلق إذ هو كناية طلاق، إذ كان موضوعًا له في الابتداء. والجواب عنه ما مر من كلامه. وأما قول الإمام في "البحر": قلت: وخبر أوس مخالف للقياس، إذ قصد به الطلاق حيث كان طلاقًا في الجاهلية، ولقول امرأته خولة: اللهم إن أوسًا طلقني. الخبر. والمعلوم أن من قصد به الطلاق لم يكن مظاهرًا، لكن لما أراد الله سبحانه نقل هذا اللفظ في الشرع عن التحريم المطلق إلى تحريم خاص، جعل طلاق أوس ظهارًا ترخيصًا له لأجل شكاء زوجته وابتهالها كما حكى الله عنها، وأعلى ما ينقل اللفظ إلى معنى آخر وهو الظهار، ما لم يصرفه اللافظ إلى غير ما نقل إليه، فلا يقاس على حكم أوس فيمن قصد بظهاره الطلاق؛ لخصوصيته بما (جـ) ذكرنا، وهذا أمر واضح اقتضاه البرهان كما ترى. انتهى. فقوله: مخالف للقياس. غير مستقيم، إذ هذا من إثبات حكم شرعي مخالف لما كان عليه في الجاهلية، فلم يكن هناك قاعدة شرعية عامة أخرج هذا الحكم من بين أفرادها حتى يكون مخالفا لقياسها، فإن الشرع إذا جعل ¬

_ (أ) ساقط من: جـ. (ب) ساقط من: الأصل، جـ. والمثبت من مصدر التخريج. (جـ) في جـ: لما.

هذا اللفظ لا يحتمل الطلاق بصريحه ولا يتعلق به، وبيّن أنه منكر من القول وزور -لم يكن حقيقة ولا مجازًا في الطلاق، فالحكم ثابت فيه وفي غيره؛ إما بالقياس أو بدلالة قوله - صلى الله عليه وسلم -: "حكمي على الواحد حكمي على الجماعة" (¬1). وهذا وإن كان فيه مقال، فقد ثبت من طريق صحيحة: "ما قولي لامرأة واحدة إلا كقولي لمائة امرأة" (¬2). وهو في معناه فتنبه لذلك. ¬

_ (¬1) ينظر كشف الخفاء 1/ 364 ح 1161. (¬2) أحمد 6/ 357، والترمذي 4/ 129 ح 1597، والنسائي 7/ 152.

باب اللعان

باب اللعان اللعان مأخوذ من اللعن، لأن الملاعن يقول في الخامسة: لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين. واختير لفظ اللعان دون الغضب في التسمية؛ لأنه قول الرجل، وهو الذي بدئ به في الآية، وهو أيضًا يبدأ به، وله أن يرجع عنه فيسقط عن المرأة بغير عكس، وقيل: سمي لأن اللعن الطرد والإبعاد، وهو مشترك بينهما، وإنما خصت المرأة بلفظ الغضب لعظم الذنب بالنسبة إليها؛ لأن الرجل إذا كان كاذبًا كان ذنبه القذف فقط، والمرأة إذا كانت كاذبة فقد خانت زوجها لتلويث فراشه، وعرضت بإلحاق من ليس من الزوج به، وأثبتت له الميراث وهو لا يستحقه، والرحامة فيما بينه وبين أقارب الأب. واللعان والالتعان والملاعنة بمعنى، ويقال: تلاعتا والتعنا ولاعن الحاكم بينهما. والرجل ملاعن والمرأة ملاعنة. لوقوعه غالبًا من الجانبين. والإجماع على أن اللعان مشروع، وعلى أنه لا يجوز مع عدم التحقيق، واختلف في وجوبه على الزوج، فذكر في "الشفاء" للأمير حسين أنه يجب إذا كان ثمَّ ولد وعلم أنه لم يقربها. وقال في "مهذب الشافعي" (¬1) و (أ) "الانتصار": إنه مع غلبة الظن بالزنى من المرأة أو العلم يجوز ولا يجب، ومع عدم الظن يحرم. قال والعلماء: والحكمة في مشروعية اللعان هو حفظ الأنساب ودفع المضرة عن الأزواج. ¬

_ (أ) في جـ: في.

904 - عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: سأل فلان فقال: يا رسول الله، أرأيت أن لو وجد أحدنا امرأته على فاحشة، كيف يصنع؟ إن تكلم تكلم بأمر عظيم، وإن سكت سكت على مثل ذلك. فلم يجبه، فلما كان بعد ذلك أتاه فقال: إن الذي سألتك عنه قد ابتليت به. فأنزل الله الآيات في سورة "النور"، فتلاهن عليه، ووعظه وذكره، وأخبره أن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة، قال: لا، والذي بعثك بالحق ما كذبت عليها. ثم دعاها فوعظها كذلك، قالت: لا، والذي بعثك بالحق إنه لكاذب. فبدأ بالرجل فشهد أربع شهادات بالله، ثم ثنى بالمرأة، ثم فرق بينهما. رواه مسلم (¬1). قوله: سأل فلان. ورد في هذه الرواية مبهما، وقد ورد تفسيره في غيرها من حديث ابن عمر بأنه عويمر العَجْلاني، وقد جاء في "الصحيحين" (¬2) أنه من الأنصار، وهو من الأنصار بالحِلْف، وكذا سمي في رواية سهل بن سعد (¬3) بعويمر، وكذا قال ابن العربي وأبو العباس القرطبي (¬4)، وأما ملاعنة هلال بن أمية، فهي من رواية أنس وابن عباس (¬5). واختلف العلماء أيهما كان سبب نزول آية اللعان، قال النووي في "شرح ¬

_ (¬1) مسلم، كتاب اللعان 2/ 1130، 1131 ح 4/ 1493. (¬2) البخاري 9/ 458 ح 5314، ومسلم 2/ 1132، 1133 ح 9/ 1494. (¬3) البخاري 9/ 446 ح 5308، ومسلم 2/ 1129 ح 1492. (¬4) عارضة الأحوذي 5/ 183، والفتح 8/ 450. (¬5) سيأتي ح 1018.

مسلم" (¬1): قال بعضهم: السبب عويمر العجلاني، واستدل بقوله - صلى الله عليه وسلم - لعويمر: "قد أنزل الله فيك وفي صاحبتك". وقال جمهور العلماء: سبب نزولها قصة هلال بن أمية، وكان أول رجل لاعن في الإسلام، قال الماوردي في "الحاوي": قال الأكثرون: قصة هلال بن أمية أسبق من قصة العجلاني. قال: والنقل فيهما مشتبه ومختلف. وقال ابن الصباغ في "الشامل": قصة هلال تبين أن الآية نزلت فيه أولًا. قال: وأما قوله - صلى الله عليه وسلم - لعويمر: "إن الله قد أنزل فيك وفي صاحبتك". فمعناه: ما نزل في قصة هلال؛ لأن ذلك حكم عام لجميع الناس. قال المصنف رحمه الله تعالى (¬2)، وسبقه النوويُّ، وسبق النوويَّ الخطيبُ البغدادي: يحتمل أن يكون هلال سأل أولًا، ثم سأل عويمر، ونزلت في شأنهما معًا. وكذا قال أبو العباس القرطبي: يحتمل أن تكون القضيتان متقاربتي الزمان، فنزلت في شأنهما معًا. انتهى. ويحتمل أن تكون الآية أنزلت على النبي - صلى الله عليه وسلم - مرتين، أي كرر نزولها عليه كما قاله بعض العلماء في "الفاتحة"، وقصة اللعان كانت في السنة الأخيرة من زمان النبي - صلى الله عليه وسلم - كما في حديث البخاري (¬3) المذكور في الحدود عن الزهري، قال: قال سهل بن سعد: شهدت المتلاعنين وأنا ابن خمس عشرة سنة. ووقع في نسخة [أبي] (أ) اليمان (¬4) عن الزهري عن سهل بن ¬

_ (أ) في الأصل: ابن.

سعد، قال: توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا ابن خمس عشرة سنة. لكن جزم الطبري وأبو حاتم (¬1) وابن حبان (¬2) بأن اللعان كان في شعبان سنه تسع، وجزم به غير واحد من المتأخرين، ووقع في حديث عبد الله بن جعفر عند الدارقطني (¬3) أن قصة اللعان كانت منصرف النبي - صلى الله عليه وسلم - من تبوك، وهو قريب من قول الطبري ومن وافقه، لكن في إسناده الواقدي، فلا بد من تأويل أحد القولين إن أمكن، وإلا فحديث الزهري أصح، [مع] (أ) أن التوجه إلى تبوك كان في رجب، وقد ثبت في "الصحيحين" (¬4) أن هلال بن أمية أحد الثلاثة الذين تيب عليهم، وفي قصته أن امرأته استأذنت له النبي - صلى الله عليه وسلم - أن تخدمه، فأذن لها بشرط ألا يقربها، فقالت: إنه لا حراك به. وفيه: أن ذلك كان بعد أن مضى لهم أربعون يومًا، فكيف تقع قصة اللعان في الشهر الذي انصرفوا فيه من تبوك، ويقع لهلال مع كونه فيما ذكر من الشغل بنفسه وهجران الناس له؟ وقد ثبت في حديث ابن عباس أن آية اللعان نزلت في حقه، وكذا عند مسلم من حديث أنس، وكذا في حديث ابن عباس عند أبي داود (¬5)، ولعلها كانت في شعبان سنه عشر لا تسع، وكانت الوفاة النبوية في شهر ربيع الأول سنة إحدى عشرة باتفاق، فيلتئم حينئذ مع ¬

_ (أ) ساقطة من: الأصل.

حديث سهل بن سعد، ووقع عند مسلم (¬1) من حديث ابن مسعود بتعيين اليوم دون الشهر، فقال: كنا ليلة جمعة في المسجد. فذكر القصة، واسم امرأة عويمر خولة بنت عاصم، قاله ابن منده في كتاب "الصحابة" وتبعه أبو نعيم (¬2)، ولا تعرف لها رواية، وكأن سلفهما في ذلك ابن الكلبي (¬3)، وحكى القرطبي عن مقاتل بن سليمان أنها خولة بنت قيس، وذكر ابن مردويه (3) أنها بنت أخي عاصم، فأخرج من طريق الحكم عن عبد الرحمن بن أبي ليلى أن عاصم بن عدي لما نزلت: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} (¬4). قال: يا رسول الله، أنَّى لأحدنا أربعة شهداء؟ فابتلي به في بنت أخيه، وفي سنده مع إرساله ضعف، وأخرج ابن أبي حاتم في "التفسير" (¬5) عن مقاتل بن حيان، قال: لما سأل عاصم عن ذلك ابتلي به في أهل بيته، فأتاه ابن عمه، تحته ابنة عمه، رماها بابن [عمه] (أ)، المرأة والزوج والخليل بنو عم عاصم. وعند ابن مردويه (3) في مرسل ابن أبي ليلى ¬

_ (أ) في جـ، والفتح 9/ 448: عمة.

المذكور أن الرجل الذي رمى عويمر امرأته به هو شَريك ابن سَحْماء، [واسم والد شريك] (أ) عبدة بن مغيث بن الجد بن العجلان، وعويمر العجلاني هو عويمر بن أشقر في رواية القعنبي عن مالك، وكذا عند أبي داود وأبي عوانة (¬1) من رواية الزهري، وفي "الاستيعاب" (¬2): عويمر بن أبيض. وعند الخطيب (¬3): عويمر بن الحارث بن زيد بن الجد بن عجلان، ولعل أباه كان يلقب أشقر أو أبيض، وشريك ابن سحماء كان أخا للبراء بن مالك، ولكن أم البراء هي أم أنس وهي أم سليم، ولعله كان أخاه من الرضاعة، وفي تفسير مقاتل (¬4) أن والدة شريك التي يقال لها: سحماء. كانت حبشية، وقيل: كانت يمانية. وعند الحاكم (¬5) من مرسل ابن سيرين كانت أمة سوداء. وحكى عبد الغني بن [سعيد] (ب) (4) وأبو نعيم في "الصحابة" (¬6) أن لفظ شريك صفة له لا اسم، وأنه كان شريكًا لرجل يهودي، يقال له: ابن ¬

_ (أ) في الأصل، جـ: وشريك هو. والمثبت من الفتح 9/ 448، وينظر الاستيعاب 2/ 507، والإصابة 3/ 344. (ب) في الأصل، جـ: سعد. والمثبت عن مصدر التخريج.

سحماء. وحكى البيهقي في "المعرفة" (¬1) عن الشافعي أن شريك بن سحماء كان يهوديًّا، وأشار عياض (1) إلى بطلانه، وجزم بذلك النووي (¬2) تبعًا له، وقال: كان صحابيًّا، وكذا عدّه جمع من الصحابة، فيجوز أن يكون أسلم بعد ذلك، ويعكر على هذا قول ابن الكلبي (1): إنه شهد أحدًا. وكذا قول غيره: إن أباه شهد بدرًا. وهذا هو الذي قذف به امرأته هلال بن أمية، ولا يمتنع أن يتهم شريك ابن سحماء بالمرأتين معًا، ولا سيما مع قربه من امرأة عويمر واختلاطه بهلال بن أمية، فقد ذكر البيهقي في "الخلافيات" (1) من مرسل ابن سيرين أنه كان يأوي إلى منزل هلال. وسيأتي في باب حد القذف أن أول لعان كان في قصة هلال، ونذكر هناك زيادة بحث في هذا (¬3) إن شاء الله تعالى. ووقع في "السيرة لابن حبان" (¬4) في حوادث سنة تسع: ثم لاعن بين عويمر بن الحارث العجلاني وهو الذي يقال له: عاصم. [وبين امرأته بعد العصر في المسجد] (أ). قال المصنف رحمه الله (¬5): والذي يظهر لي أنه تحريف، وكأنه كان في الأصل: الذي سأل له عاصم. كما ثبت في ¬

_ (أ) ساقطة من: الأصل، جـ. والمثبت من مصدر التخريج.

البخاري (¬1) أن عويمرًا قال لعاصم أن يسأل له النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكان عاصم بن عدي بن الجد بن العجلان سيد بني العجلان. وقوله: إن سكت سكت على مثل ذلك. أي على أمر عظيم. وقوله: فلم يجبه. السبب في ترك الجواب هو ما قال الشافعي (¬2): كانت المسائل فيما لم ينزل فيه حكم [زمن] (أ) نزول الوحي ممنوعة، لئلا ينزل في ذلك ما يوقعهم في مشقة وعنت، كما قال الله تعالى: {لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ} (¬3). وكما ورد في الحديث المخرج في "الصحيح" (¬4): "أعظم الناس جرمًا من سأل عن شيء لم يحرم، فحرم من أجل مسألته". وقد استمر جماعة من السلف على كراهة السؤال عما لم يقع، لكن عمل الأكثر على خلافه، فلا يخفى ما فرعه الفقهاء من المسائل قبل وقوعها. وقال النووي (¬5): المراد كراهة المسائل التي لا يحتاج إليها، لا سيما ما كان فيها هتك ستر مسلم، أو إشاعة فاحشة، أو شناعة عليه، وليس المراد المسائل المحتاج إليها إذا وقعت، فقد كان المسلمون يسألون عن النوازل، فيجيبهم - صلى الله عليه وسلم - بغير كراهة، وكان - صلى الله عليه وسلم - يحب التيسير (ب) على أمته. وفي حديث ¬

_ (أ) في الأصل، جـ: ومن. والمثبت من الفتح 9/ 449. (ب) في جـ: الستر.

جابر: ما نزلت آية اللعان إلا لكثرة السؤال. أخرجه الخطيب في "المبهمات" (¬1). وقوله: فلما كان بعد ذلك. إلى آخره. ظاهره أن سؤال عويمر وقع قبل أن يبتلى بالقصة، لكنه وقع في نفسه إرادة الاطلاع على الحكم فابتلي به، كما يقال: البلاء موكل بالمنطق. ولذلك قال: إن الذي سألتك عنه قد ابتليت به. ويحتمل أنه قد كان وقع، فسأل عنه أولًا ولم يصرح به، عسى أن يحصل المخرج قبل أن يفصح بالأمر، فلما لم يحصل له أفصح به، ويحتمل أنه قد كان وقع معه ريبة من المرأة لإدراك مخايل الفجور فيها، فسأل، ثم وقع ذلك الأمر بمشاهدته. وقوله: ووعظه وذكره. من عطف التفسير، فإن التذكير هو الوعظ، وعذاب الدنيا بالحد -لأجل القذف إن كان كاذبا- أهون من عذاب الآخرة الموعود به في قوله تعالى: {لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (¬2). وقوله: فبدأ بالرجل. إلى آخره. ظاهره شرعية البداءة بالرجل كما هو مقدم في الآية الكريمة، ولكن الآية الكريمة العطف فيها بالواو، وهي لا تقتضي الترتيب، وقد قام الإجماع بأن تقديم الرجل سنة، واختلف العلماء في الوجوب، فذهب الجمهور منهم الشافعي والهادي والقاسم والمؤيد وأبو طالب وأبو العباس والإمام يحيى وأشهب من المالكية ورجحه ابن العربي، ¬

_ (¬1) الأسماء المبهمة ص 481. (¬2) الآية 23 من سورة النور.

إلى أن التقديم واجب، والحجة على ذلك أن فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - للآية الكريمة، ففيه دلالة على أن التقديم معتبر واجب، ولقوله - صلى الله عليه وسلم - لهلال: "البينة وإلا حدٌّ في ظهرك" (¬1). فكان لدفع الحد عن الرجل، فلو بدأ بالمرأة لكان دافعًا لأمر لم يثبت، ولأن الرجل يمكنه أن يرجع بعد أن يلتعن، فيندفع عن المرأة. وذهب أبو حنيفة وابن القاسم من المالكية إلى أنه يصح البداءة بالمرأة؛ لأن الآية الكريمة لا تدل على لزوم البداءة بالرجل، ولم يكن في الحديث صيغة دلالة. والجواب عنه ما تقدم، وإذا بُدئ بالمرأة فعند الأولين يجب الإعادة ما لم يحكم الحاكم، وعند الشافعي: يعيد ولو حكم؛ لمخالفة النص. والجواب عنه: أن المسألة ظنية، والحكم [ينفذ] (أ) في الظني. وقوله: ثم فرق بينهما. فيه دلالة على أنه لا تقع الفرقة إلا بتفريق الحاكم، ولا تقع بمجرد اللعان. وقد ذهب إلى هذا الهدوية والحنفية ورواية عن أحمد، وقال به محمد بن أبي صفرة من المالكية، ثم اختلفوا في هذا التفريق لو أكذب نفسه؛ فقال أبو حنيفة ومحمد بن [الحسن] (ب) وعبيد الله بن الحسن: إنه يجوز له نكاحها. وهو رواية عن أحمد، وقال أبو يوسف: هو تحريم مؤبد (¬2). والذي عليه جمهور العلماء حصول الفرقة باللعان من غير توقف على تفريق، وبه قال مالك والشافعي (¬3) وأحمد وزفر، ثم قال ¬

_ (أ) في الأصل: يبعد. (ب) في الأصل: الحسين.

الشافعي وبعض المالكية: تحصل الفرقة بتمام لعانه وإن لم تلتعن هي. وقال أحمد: لا يحصل ذلك إلا بتمام لعانهما معًا. وهو المشهور عند المالكية وبه قال أهل الظاهر، قالوا: وهي فرقة فسخ، وحرمة مؤبدة. وأجاب الجمهور عن هذا الحديث بأنه ليس معناه إنشاء الفرقة بينهما، بل إظهار ذلك، وبيان حكم الشرع فيه، ويدل لذلك قوله عليه الصلاة والسلام: "لا سبيل لك عليها". وهو في "الصحيحين" (¬1) وغيرهما، قال ابن دقيق العيد (¬2): يحتمل أن يكون: "لا سبيل لك عليها". راجعًا إلى المال. وقوله في حديث سهل، وهو في "صحيح مسلم" (¬3): فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ذلكم التفريق بين كل متلاعنين". قال أبو بكر بن العربي (¬4): أخبر عليه الصلاة والسلام بقوله: "ذلكم". عن قوله: "لا سبيل لك عليها". وقال: كذا حكم كل متلاعنين. وإن كان الفراق لا يكون إلا بحكم فقد نفذ الحكم فيه من الحاكم الأعظم - صلى الله عليه وسلم - بقوله: "ذلكم التفريق بين كل متلاعنين". ولو أشار إلى الطلاق لتزوجها بعد زوج بحكم القرآن. وروى أبو داود وغيره (¬5) من طريق عباد بن منصور عن عكرمة عن ابن عباس. الحديث، وفيه: وقضى -أي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن لا بيت لها عليه ولا قوت؛ من أجل أنهما يتفرقان من غير طلاق، ولا متوفى عنها. وروى أبو داود (¬6) أيضًا من حديث سهل بن سعد في حديث المتلاعنين قال: فمضت السنة بعدُ في المتلاعنين أن يفرق ¬

_ (¬1) البخاري 9/ 457 ح 5312، ومسلم 2/ 1131، 1132 ح 5/ 1493. (¬2) شرح عمدة الأحكام 4/ 67. (¬3) مسلم 2/ 1130 ح 3/ 1492. (¬4) عارضة الأحوذي 5/ 191. (¬5) أبو داود 2/ 284، 285 ح 2256، والبيهقي 7/ 394. (¬6) أبو داود 2/ 282 ح 2250.

بينهما، ثم لا يجتمعان أبدا. وروي البيهقي (¬1) في حديث سهل: ففرق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بينهما وقال: "لا يجتمعان أبدًا". وعن علي وابن مسعود قالا (1): مضت السنة في المتلاعنين ألا يجتمعا أبدًا. وعن عمر بن الخطاب (1): [يفرق] (أ) بينهما، ولا يجتمعان أبدًا. والخلاف في هذه المسألة بين أبي حنيفة والجمهور قريب المدرك من الخلاف بينهم وبينه في استحقاق القاتل السلب وفي إحياء الموات هل يقف كل منهما على إذن الإمام، ويجعل قوله - صلى الله عليه وسلم -: "من قتل قتيلا له عليه بينة فله سلبه تنفيلًا" (¬2). وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "من أحيا أرضًا ميتة فهي له" (¬3) - إذنًا حكميًّا نحتاج معه في كل وقت إلى إذن الإمام في كل زمان كما أذن هو في ذلك الزمان؟ كما جعل تفريقه عليه الصلاة والسلام هنا بين المتلاعنين بطريق الحكم والقضاء، حتى يحتاج في كل واقعة إلى تفريق القاضي، والجمهور يجعلون ذلك في المواضع الثلاثة بيانًا للشرع العام المطرد، سواء قاله الإمام أم لم يقله؛ وقال عثمان البتي (¬4): لا أثر للعان في الفرقة، ولا يحصل به فراق أصلًا، وسبقه إلى ذلك مصعب بن الزبير، ففي "صحيح مسلم" (¬5): أنه لم يفرق بين المتلاعنين. ¬

_ (أ) في الأصل، جـ: ففرق. والمثبت من مصدر التخريج.

وحكاه الطبري عن جابر بن زيد (¬1)، وحكي عن طائفة من فقهاء البصرة، وحجته في ذلك ما وقع في حديث سهل روايته لقصة عويمر أنه قال بعد التلاعن: كذبت عليها يا رسول الله إن أمسكتها. فطلقها ثلاثًا قبل أن يأمره رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. أخرجه في "الصحيحين" (¬2) وسيأتي قريبا، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم ينكر عليه الطلاق بعد اللعان، بل هو أنشأ طلاقها، ونزه نفسه أن يمسكها، وقرره على قوله: إن أمسكتها. وفيه إشعار بإمكان الإمساك. وأجيب عن ذلك بأن الطلاق وقع منه بغير إذن من النبي - صلى الله عليه وسلم -، والطلاق لم يزد التحريم الواقع باللعان إلا تأكيدًا، فلا يحتاج إلى إنكاره ودفع حكمه، وأما قوله: كذبت عليها إن أمسكتها. فهو لا يدل على أن إمساكها بعد اللعان مأذون فيه شرعًا، وإنما بادر إلى فراقها، وإن كان الأمر صائرًا إليه وذهب أبو عبيد إلى أن الفرقة تقع بمجرد القذف. واختلف العلماء في فرقة اللعان؛ هل هي فسخ أو طلاق بائن؟ فذهب الهدوية والناصر والمؤيد والشافعي وأحمد وغيرهم إلى أنها فسخ، قالوا: لأنها توجب تحريمًا مؤبدًا فكانت فسخا كفرقة الرضاع؛ لقوله: "لا يجتمعان أبدًا". ولأن اللعان ليس صريحًا في الطلاق ولا كناية فيه. وذهب أبو حنيفة ورواية عن محمد بن الحسن إلى أنها طلاق بائن، قالوا: لأنها لا تكون إلا من زوجة، فهي من أحكام النكاح المحضة، فهي طلاق؛ إذ هو من أحكام النكاح المختصة به، بخلاف الفسخ فإنه قد يكون من أحكام غير النكاح؛ كالفسخ بالعيب. والجواب أنه لا يلزم من اختصاصه بالنكاح أن ¬

_ (¬1) الفتح 9/ 447. (¬2) البخاري 6/ 54 ح 5259، ومسلم 2/ 1129 ح 1/ 1492.

يكون طلاقًا، كما أنه لم يلزم فيه نفقة ولا غيرها، فإن أكذب نفسه بعد اللعان، فاختلف العلماء القائلون بتأبيد التحريم؛ فقال أبو حنيفة: تحل له لزوال المعنى المحرم. وقال مالك [والشافعي] (أ): لا تحل له أبدًا لقوله: "لا سبيل لك عليها". وهو مذهب سعيد بن المسيب، قال (¬1): فإن أكذب نفسه فهو خاطب من الخطاب. وقال سعيد بن جبير (¬2): تردُّ إليه ما دامت في العدة. وقال الهادي في "المنتخب": إنه يرتفع تأبيد التحريم أيضًا، وتعود إليه إذا أراد رجوعها بعقد جديد (ب). وأما سائر الأحكام فيلزمه الحد ويلحق به نسب الولد إذا كان الولد حيًّا، فإن كان قد مات لم يرثه، وإن كان للولد ولد فحكى أبو جعفر في "شرح الإبانة" عن الهادي أنه يثبت نسب الولد ويرث منه، وقال الناصر والشافعي: إنه يثبت نسب الولد المنفي سواء كان له ولد أم لا. واعلم أن ظاهر الحديث هذا والآية الكريمة في اللعان أنه يصح اللعان بين كل زوجين؛ سواء كانا مسلمين أو كافرين، حرَّين أو عبدين، عدلين أو فاسقين، محدودين في قذف أو أحدهما كذلك، وقد ذهب إلى هذا الحسن وابن المسيب وربيعة وسليمان بن يسار والشافعي ومالك وأحمد وإسحاق، وذهب أهل الرأي والأوزاعي والثوري والعترة إلى أنه لا يصح؛ ¬

_ (أ) ساقط من: الأصل. (ب) زاد في جـ: لا يحل أبدا لقوله لا سبيل لك عليها.

لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا لعان بين مملوكين ولا كافرين". رواه عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده؛ أخرجه ابن عبد البر في "التمهيد" (¬1)، وذكر الدارقطني (¬2) من حديثه أيضًا عن أبيه عن جده مرفوعًا: "أربعة ليس بينهم لعان؛ ليس بين الحر والأمة لعان، وليس بين الحرة والعبد لعان، وليس بين المسلم واليهودية لعان، وليس بين المسلم والنصرانية لعان". وذكر عبد الرزاق (¬3) في "مصنفه" عن ابن شهاب، قال: من وصية النبي - صلى الله عليه وسلم - لعتاب بن أسيد أن لا لعان بين [أربعة] (أ). فذكره. وأجاب الأولون عن حديث عمرو بن شعيب، بأن من دون عمرو ليس فيهم من يحتج به. قاله ابن عبد البر، وأما حديث الدارقطني ففي طريق الحديث عثمان بن عبد الرحمن الوقاصي، وهو متروك بإجماعهم، فالطريق به مقطوعة، وأما حديث عبد الرزاق فهو من مراسيل الزهري، وهي ضعيفة عندهم، وعتاب بن أسيد كان عاملًا للنبي - صلى الله عليه وسلم - على مكة، ولم يكن بمكة يهودي ولا نصراني حتى يوصيه ألا يلاعن بينهما، فبقي العمل بإطلاق الآية الكريمة، والحديث على العموم، واحتج بعض القائلين بالمنع، بأن اللعان جعل بدل الشهادة وقائمًا مقامها عند عدمها، ولا يصح إلا ممن تصح منه الشهادة، ولهذا تحد المرأة بلعان الزوج إذا نكلت، ولقوله تعالى: {فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ} (¬4). فسماه شهادة. وأجاب الآخرون عن ¬

_ (أ) في الأصل: الأربع، وكتب فوقه: الأربعة، كذا. وفي المصنف: أربع.

ذلك، بأنه قد ورد قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لولا ما مضى من الأيمان لكان لي ولها شأن" (¬1). فسماه يمينًا، واليمين يصح من الكافر والعبد، وهذه الرواية بهذا اللفظ، وإن كانت مخالفة لما في "صحيح البخاري" (¬2) فإن لفظه: "لولا ما مضى من كتاب الله". فهي من رواية عباد بن منصور، ولم يقدح فيه إلا بأنه قدري، وقد ثبت في الصحيح الاحتجاج بجماعة من القدرية والشيعة ممن علم صدقه. وأما تسميته شهادة فلقول الملتعن في يمينه: أشهد بالله. فسمى ذلك شهادة وإن كان يمينًا اعتبارًا بلفظها، وهو مصرح به فيه بالقسم وجوابه، ولو قال الحالف: أشهد بالله. انعقدت يمينه بذلك، سواء نوى اليمين أو أطلق، والعرب تعد ذلك يمينًا في لغاتها (أ) واستعمالها، قال قيس (¬3): وأشهد عند الله أني أحبها ... فهذا لها عندي فما عندها ليا وقد قال جماعة: إن اليمين تنعقد بقول الحالف: أشهد. وإن لم يذكر معه لفظ المقسم به من غير نية اليمين، كما في رواية عن أحمد، والرواية الثانية تكون يمينًا مع النية، كما هو قول الأكثر، ويتلقى بما يتلقى به القسم، قال في "الهدي النبوي" (¬4): والصحيح أنه جامع للأمرين الشهادة واليمين، ولهذا اعتبر فيه ما يعتبر في اليمين من التأكيد في الجواب، فهو يمين مقرونة ¬

_ (أ) في جـ: لعانها.

بالشهادة، وشهادة مقرونة باليمين، وجعل الملتعن لقبول قوله كالشاهد، فإن نكلت المرأة مضت شهادته وحُدَّت، وإن التعنت عارضت شهادته فسقط الحد عنها. انتهى. وذهب العترة وأبو حنيفة وأصحابه إلى أنه لا يصح من أخرس؛ إذ لا يصح قذفه، ولا من خرساء؛ إذ لا يحد قاذفها، وذهب الشافعي ومالك إلى أنه يصح من الأخرس كطلاقه. وصرح به البخاري (¬1)، قال: وإذا قذف الأخرس [امرأته] (أ) بكتابة -بمثناة ثم موحدة- أو إشارة أو إيماء معروف، فهو كالمتكلم؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد أجاز الإشارة في الفرائض -في الأمور المفروضة- وهو قول بعض أهل الحجاز وأهل العلم، أي من غيرهم، وخالف الحنفية والأوزاعي وإسحاق، وهو رواية عن أحمد اختارها بعض المتأخرين، ثم قال: وقال الله تعالى: {فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا} (¬2). وجه الاستدلال أن مريم نذرت ألا تتكلم، فكانت في حكم الأخرس، فأشارت إشارة مفهمة، اكتفوا بها عن معاودة سؤالها، وإن كانوا أنكروا عليها ما أشارت به، قال: وقال الضحاك -أي ابن مزاحم-: {إلا رَمْزًا}. أي: إشارة. ثم قال: وقال بعض الناس: لا حد ولا لعان بالإشارة من الأخرس وغيره، ثم زعم إن طلق بكتاب أو إشارة أو إيماء جاز، وليس بين الطلاق والقذف فرق، فإن قال: القذف لا يكون إلا بكلام. قيل ¬

_ (أ) ساقطة من: الأصل.

له: وكذلك الطلاق لا يكون إلا بكلام -أي وأنت وافقت على وقوعه بغير الكلام- فيلزمك مثله في الحد واللعان. ثم قال: وإلا بطل الطلاق والقذف، وكذلك العتق، يعني: إما أن يقال بصحتها جميعها بالإشارة، أو لا تعتبر الإشارة فيها، والتفرقة تَحَكُّمٌ بغير دليل، وبعض الحنفية وافق في هذا البحث وقال: القياس بطلان الجميع، لكن عملنا به في غير اللعان والحد استحسانًا. ومنهم من قال: منعناه لأنها غير صريحة. وهذه عمدة من وافق الحنفية من الحنابلة وغيرهم، ورده ابن التين بأن المسألة مفروضة فيما إذا كانت الإشارة مفهمة إفهامًا واضحًا، لا يبقى معه ريبة (¬1). ومثل هذا قول الإمام يحيى، فإنه قال: إن أفهم بكتابته أو إشارته صح؛ إذ هو كالناطق. قال الإمام المهدي في "البحر": قلنا: ليس بصريح. 905 - وعن ابن عمر رضي الله عنهما، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال للمتلاعنين: "حسابكما على الله تعالى، أحدكما كاذب، لا سبيل لك عليها". قال: يا رسول الله، مالي. قال: "إن كنت صدقت عليها فهو بما استحللت من فرجها، وإن كنت كذبت عليها فذاك أبعد لك منها". متفق عليه (¬2). قوله: "حسابكما على الله". مبين بقوله: "أحدكما كاذب". فإذا كان أحدهما كاذبا فالله هو المتولي لجزائه، المميز للصادق عن الكاذب، وأما في العمل الدنيوي فالأيمان قد دفعت مجازاة الكاذب. ¬

_ (¬1) ينظر الفتح 9/ 440، 441. (¬2) البخاري، كتاب الطلاق، باب المتعة للتي لم يفرض لها لقوله تمالى: {لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ...} 9/ 496 ح 5350، ومسلم، كتاب اللعان 2/ 1131 ح 5/ 1493.

وقوله: "لا سبيل لك عليها". هو حكم بالفرقة بينهما، وقد تقدم الكلام في ذلك. وقوله: مالي. أراد به الصداق الذي سلمه إليها، يريد أن يرجع له، فأجابه - صلى الله عليه وسلم - بأنك استوفيته بدخولك عليها، وتمكينها لك من نفسها، وأوضح له بتقسيم مستوعب، فقال: إن كنت صادقًا فيما ادعيته عليها فقد استوفيت حقك منها قبل ذلك، وإن كنت كذبت عليها فذلك أبعد لك عن مطالبتها؛ لئلا تجمع علينا الظلم في عرضها، ومطالبتها بمال قبضته منك قبضًا صحيحًا تستحقه. وقد انعقد الإجماع على أن المدخول بها تستحق جميعه، واختلف في غير المدخول بها، فالجمهور على أن لها النصف كغيرها من المطلقات قبل الدخول، وقال أبو الزناد والحكم وحماد: لها جميعه. وقيل: لا شيء لها أصلا. قاله الزهري، وروي عن مالك. 906 - وعن أنس رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ابصروها (أ)، فإن جاءت به أبيض سبطًا، فهو لزوجها، وإن جاءت به أكحل جعدا، فهو للذي رماها به". متفق عليه (¬1). الحديث أخرجه مسلم والنسائي (¬2) في قصة هلال بن أمية، وتمام النعت في هذه الرواية في الأول: "قضيء العين". وقضيء العين بالقاف والضاد المعجمة مهموزًا فعيل هو فاسد العين، "فهو لهلال". وفي الطرف الثاني: ¬

_ (أ) في جـ: انظروها.

" [أحمش] (أ) الساقين". وأحمش (ب) الساقين: أي دقيقهما، والحُمُوشة الدقة، وقال النووي (¬1): (جـ ممتلئ الساقين: وهو بالخاء المعجمة جـ). والسبط: بفتح المهملة وكسر الباء الموحدة وإسكانها وبعدها طاء مهملة، هو التام الخلق من الرجال. كذا ذكره ابن الأثير (¬2). والأكحل: الذي منابت أجفانه سود، كأن فيها كحلًا، وهي خِلقة. والجعد من الرجال: القصير، وقال الهروي: الجعد -بفتح الجيم- في صفات الرجال تكون مدحًا وتكون ذمًّا، فإذا كان مدحًا فله معنيان؛ أحدهما، أن يكون معصوب الخلق شديد الأسر. والثاني، أن يكون شعره غير سَبْط، لأن السبوطة أكثرها في شعور العجم. وأما الجعد المذموم فله معنيان؛ أحدهما للقصير التردد، والآخر النحيل، يقال: جعد الأصابع، وجعد اليدين. أي نحيل، وقد جاء في صفة الولد في قصة عويمر العجلاني (¬3): "إن جاءت به أحمر قصيرا كأنه وَحَرَة، فلا أراها إلا قد صدقت وكذب عليها، وإن جاءت به أسود أعين ذا أليتين، فلا أراه إلا قد صدق عليها". فجاءت به على المكروه من ذلك. ¬

_ (أ) في الأصل، جـ: أخمش. وعند مسلم: حمش. والمثبت من النسائي. (ب) في جـ: أحمش. (جـ - جـ) كذا في الأصل، جـ، والذي في شرح صحيح مسلم: قوله: وكان خدلا. هو بفتح الخاء المعجمة وإسكان الدال المهملة وهو الممتلئ الساق.

وفي أخرى للبخاري ومسلم (¬1): "فإن جاءت به أدعج العينين، عظيم الأليتين، فلا أُراه إلا قد صدق، وإن جاءت به أحيمر كأنه وَحَرَة، فلا أراه إلا كاذبا". فجاءت به على النعت المكروه. وفي رواية ابن عباس لقصة العجلاني: وكان ذلك الرجل مصفرًّا، قليل اللحم، سبط الشعر، وكان الذي ادعى عليه أنه وجده مع أهله خدلا آدم، كثير اللحم، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "اللهم بيِّن". فوضعت شبيهًا بالذي ذكر زوجها أنه وجده عندها. أخرجه مسلم والبخاري والنسائي (¬2). وفي رواية ابن عباس لقصة هلال (¬3): "إن جاءت به أصيهب، أُرَيصِح، أثيبج، ناتئ الأليتين، حمش الساقين، فهو لهلال، وإن جاءت به أورق جعدا جُماليًّا، خَدَلَّج الساقين، سابغ الأليتين، فهو للذي رميت به". وفي رواية (¬4): "فإن جاءت به أكحل العينين، سابغ الأليتين، خدلج الساقين". وجاء في رواية ابن مسعود عند مسلم وأبي داود (¬5): فلما أدبرا، قال: "لعلها أن تجيء به أسود جَعْدًا". فجاءت به أسود جعدًا. والمراد بالأحمر هنا هو الأبيض الذي فيه حمرة. والوَحَرة بفتح الحاء المهملة: دويبة [كالعظاءة] (أ) تلصق الأرض، وأراد المبالغة في قصره. والأعين: واسع العين. والأدعج: شديد سواد العين مع سعتها، ¬

_ (أ) في الأصل، جـ: كالعصاة. والمثبت من النهاية 5/ 160.

ورجل أدعج: أسود. والآدم: شديد السمرة. والخَدْل: الغليظ من الرجال. والأصيهب: تصغير الأصهب وهو الأشقر، والأصهب من الإبل: الذي يخالط بياضه حمرة. والأريصح بالصاد والحاء المهملتين تصغير الأرصح، والصاد بدل من السين، والأصل الأرسح. والأرصع بالصاد والعين المهملتين بمعناه، فعلى هذا قد أبدل السين صادا العين حاء (¬1). والأثيبج تصغير الأثبج وهو الناتئ الثَّبَجِ، وهو ما بين الكتفين، وإنما جاء بهذه الصفات مصغرة لكونها صفةً لمولودٍ. والأورق هو الأسمر. والجُمَاليُّ العطم الخلقة كأنه الجمل في القَدْر. والخَدَلَّج الضخم. وسابغ الأليتين عظيمهما. الحديث فيه دلالة على أن اللعان يصح للمرأة الحامل، ولا يؤخر اللعان إلى بعد الوضع، وقد ذهب إلى هذا الجمهور، والخلاف في ذلك للهدوية وأبي يوسف ومحمد، وهو مروي عن أبي حنيفة وأحمد، فقالوا: لا تلاعن لنفي الحمل؛ لجواز أن يكون ريحا فينفَشَّ، فلا يكون للعان حينئذ معنى، والحديث يرد عليهم، ولأن الحمل مظنون بأمارات تدل عليه، ولذلك ثبت للحامل أحكام تخالف الحائل؛ كالنفقة، والفطر في الصيام إذا خافت على الولد، وتأخير الحد والقصاص، وغير ذلك، كاستلحاق الحمل. ودل الحديث أيضًا على أنه ينتفي الولد باللعان وإن لم يصرح بنفيه، وإن لم يذكر النفي في اليمين، وقد ذهب إلى هذا أبو بكر عبد العزيز من أصحاب أحمد؛ عملًا بظاهر الأحاديث، وقال به بعض أصحاب مالك وأهل الظاهر، وذهبت الهدوية إلى أنه يصح نفي الولد وهو حمل، ويؤخر اللعان إلى بعد ¬

_ (¬1) وهو الخفيف لحم الأليتين. النهاية 2/ 226.

الوضع، وذلك إذا وضعت لدون ستة أشهر من وقت النفي لا أكثر، لجواز أن الحمل كان بعد النفي، وقال أبو حنيفة: لا يصح نفي الحمل واللعان عليه، فإن لاعنها حاملًا ثم أتت بالولد لزمه عنده، ولم يتمكن من نفيه أصلًا؛ لأن اللعان لا يكون إلا بين الزوجين، وهذه قد بانت (أ) بلعانها في حال حملها، وقال مالك والشافعي وجماعة من أهل الحجاز: يصح نفي الحمل وينتفي عنه؛ للأحاديث التي مرت. قال الشافعي: يحتاج الرجل إلى ذكر الولد دون المرأة. وقال الحربي: يحتاجان إلى ذكره. وقال الشافعي: إذا لم ينف الولد في الملاعنة ولم يتعرض له، فله أن يعيد اللعان لانتفائه، ولا إعادة على المرأة، وإن أمكنه النفي والرفع إلى الحاكم فأخر لغير عذر حتى ولدت لم يكن له أن ينفيه كما في الشفعة. وكلامهم مبني بأنه وقع من هلال وعويمر التصريح بنفي الولد، ولا مستند في الأحاديث، فإنه لم يذكر في روايته، وتجويز أنه وقع لا يفيد، إلا أنه [أخرج] (ب) مالك (¬1) عن نافع عن ابن عمر: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لاعن بين رجل وامرأته، وانتفى من ولده، ففرق بينهما، وألحق الولد بالمرأة. وفي حديث سهل (¬2): وكانت حاملًا فأنكر حملها. ولكن ذلك لا يثبت اشتراط الانتفاء، مع أن قوله: وكانت حاملًا. بيَّن البخاري ¬

_ (أ) في جـ: فاتت. (ب) ساقط من: الأصل.

أنه من قول الزهري، وقد جاء في رواية البخاري (¬1) من طريق عبد الرحمن بن القاسم عن ابن عباس في قصة هلال بلفظ: فوضعت شبيهًا بالرجل الذي ذكر زوجها أنه وجد عندها، فلاعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بينهما. ظاهره أن الملاعنة تأخرت إلى وضع الحمل، قال المصنف رحمه الله (¬2): قد أوضحت أن رواية ابن عباس هذه هي في القصة التي في حديث سهل بن سعد، وتقدم قبلُ من حديث سهل أن اللعان وقع بينهما قبل أن تضع، فعلى هذا تكون الفاء في قوله: فلاعن. معقبة بقوله: فأخبره بالذي وجد عليه امرأته. ويحتمل -على بعد- أن يكون مرتين؛ مرة بسبب القذف، ومرة بسبب الانتفاء، والله أعلم. انتهى. 907 - وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر رجلًا أن يضع يده عند الخامسة على فيه، وقال: "إنها موجبة". رواه أبو داود [والنسائي] (أ) ورجاله ثقات (¬3). أخرجه أبو داود والنسائي من حديث كليب بن شهاب عن ابن عباس، وأخرجه أبو داود (¬4) من رواية عباد بن منصور عن عكرمة عن ابن عباس، ولم ¬

_ (أ) ساقط من: الأصل، جـ. والمثبت من بلوغ المرام ص 239.

يذكر فيه الأمر بوضع الرجل يده على فم الملاعن عند الخامسة، وأما المرأة فلم يذكر في رواية أنه أمر امرأة أن تضع يدها على في المرأة، وإن أوهم ذلك كلام الرافعي (¬1). وقوله: "إنها موجبة". أي: موجبة لحلول اللعنة عليه إن كان كاذبًا. فيه دلالة على أنه مشروع من الحاكم المبالغة في منع الحالف من الحلف خشية أن تكون يمينه فاجرة فتحل العقوبة [به] (أ)؛ ولذلك لم يكتف النبي - صلى الله عليه وسلم - بوعظهما باللفظ حتى كان المنع بالفعل. 908 - وعن سهل بن سعد رضي الله عنه في قصة المتلاعنين، قال: لما فرغا من تلاعنهما، قال: كذبت عليها يا رسول الله إنْ أمْسكتها. فطلقها ثلاثا قبل أن يأمره رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. متفق عليه (¬2). تقدم الكلام في ذلك. 909 - وعن ابن عباس رضي الله عنه، أن رجلا جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: إن امرأتي لا ترد يد لامس. قال: "غَرِّبْها". قال: أخاف أن تتبعها نفسي. قال: "فاستمتع بها". رواه أبو داود (¬3) والبزار ورجاله ثقات. ¬

_ (أ) ساقطة من: الأصل.

وأخرجه النسائي (¬1) من وجه آخر عن ابن عباس بلفظ قال: "طلقها". قال: لا أصبر عنها. قال: "فأمسكها". أخرجه أبو داود والنسائي (¬2) أيضًا من حديث عكرمة عن ابن عباس، وأخرجه النسائي من رواية عبد الله بن عبيد بن عمير، وأخرجه الشافعي (¬3) من طريق عبد الله المذكور، قال: جاء رجل. فذكره مرسلًا، وقد اختلف في إسناده وإرساله، قال النسائي: المرسل أولى بالصواب. وقال في الموصول: إنه ليس بثابت. يعني من رواية عبد الله، وأطلق عليه النووي الصحة (¬4)، يعني رواية أبي داود، ولكن نقل ابن الجوزي عن أحمد أنه قال: لا يثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا الباب شيء، وليس له أصل. فتمسك بهذا ابن الجوزي، فأورد الحديث في "الموضوعات" (¬5) مع أنه أورده بإسناد صحيح، وله طريق أخرى أخرجها أبو حاتم (¬6) عن مولى لبني هاشم، فقال: جاء رجل. فذكره، ورواه الثوري فسمى الرجل [هشامًا] (أ) مولى بني هاشم، وأخرجه الخلال (4) والطبراني والبيهقي (¬7) من وجه آخر عن عبيد الله ¬

_ (أ) في الأصل، جـ: هاشما. والمثبت من مصدر التخريج والتلخيص الحبير 3/ 225.

ابن [عمرو] (أ)، ولفظه: لا تمنع يد لامس. قوله: لا ترد يد لامس. اختلف العلماء في معنى ذلك، فقيل: معناه الفجور، وأنها لا تمتنع ممن يطلب منها الفاحشة. وبهذا قال أبو عبيد والخلال والنسائي وابن الأعرابي والخطابي والغزالي والنووي، واستدل به الرافعي على هذا الحكم، وعلى هذا أنه لا يجب تطليق من فسقت بالزنى، إذا كان الرجل لا يقدر على مفارقتها، وقيل: المراد أنها تبذر، ولا تمنع أحدًا طلب منها شيئًا من مال زوجها، وبهذا قال أحمد والأصمعي ومحمد بن ناصر ونقله عن علماء الإسلام وابن الجوزي، وأنكر على من ذهب إلى القول الأول، وقال في "النهاية" (¬1): وهو أشبه بالحديث؛ لأن المعنى الأول يشكل على ظاهر قوله تعالى: {وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} (¬2). وإن كان في معنى الآية وجوه كثيرة، ورجح القاضي أبو الطيب المعنى الأول؛ لأن السخاء مندوب إليه إذا كان من مالها، وإن كان من مال الزوج فهو يمكنه التحفظ من ذلك، فلا يوجب المسارعة إلى الطلاق، ولكنه يرد عليه ما ذكر، إلا أن يقال: إنه قد روي بلفظ: "أمسكها". بدل قوله: "استمتع بها". وهو يحتمل أمسمكها عن الزنى. فيزول المحظور من نكاح الزانية. أو: أمسكها عن التبذير بالمال. فكذلك مع أنه يحتمل أن يكون المراد بأنها لا ترد يد لامس لمن أراد لمسها لمن يتلذذ بها من دون جماع، وإلا لكان قاذفا لها، ¬

_ (أ) في الأصل، جـ: عمر. والمثبت من مصادر التخريج. وينظر تهذيب الكمال 19/ 136.

أو أنها تمتنع ممن أراد منها الفاحشة ولم يكن قد وقع منها ذلك، وإنما أدرك منها مخايل المساهلة وعدم التحرز، والله أعلم (¬1). 910 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه، أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول حين نزلت آية التلاعنين: "أيما امرأة أدخلت على قوم من ليس منهم، فليست من الله في شيء، ولم يدخلها الله جنته، وأيما رجل جحد ولده وهو ينظر إليه، احتجب الله عنه، وفضحه على رءوس الأولين والآخرين". أخرجه أبو داود والنسائي وابن ماجه وصححه ابن حبان (¬2). الحديث أخرجوه من حديث سعيد المقبري عن أبي هريرة، تفرد به عنه عبد الله بن يونس، وهو لا يعرف إلا بهذا الحديث، ففي تصحيحه نظر، وصححه أيضًا الدارقطني (1) مع اعترافه بتفرد عبد الله. وفي الباب عن ابن عمر في "مسند البزار" (2)، وفيه إبراهيم بن يزيد [الخُوزي] (أ) وهو ضعيف، وروى أحمد (¬3) من طريق مجاهد عن ابن عمر نحوه، وأخرجه الطبراني في "الأوسط" (¬4) عن عبد الله بن أحمد عن أبيه عن وكيع، وقال: تفرد به ¬

_ (أ) في الأصل: الجوزي. وفي جـ: الحوزي. والمثبت من التلخيص، وينظر الإكمال 3/ 17.

وكيع. قوله: "وهو ينظر إليه". لعل المراد به: وهو يعلم أنه ولده. أو أنه قيد أغلبي، وإلا فجحد الولد محرم، وإن لم يكن مشاهِدًا للجاحد. 911 - وعن عمر رضي الله عنه قال: من أقر بولده طرفة عين، فليس له أن ينفيه. أخرجه البيهقي (¬1)، وهو حسن موقوف. أخرجه البيهقي من رواية [مجالد] (أ) عن الشعبي عن شريح عن عمر. ومن طريق قبيصة بن ذؤيب (1) أنه كان يحدث عن عمر، أنه قضى في رجل أنكر ولدًا من المرأة وهو في بطنها، ثم اعترف به وهو في بطنها، حتى إذا ولدت أنكره، فأمر به عمر، فجلد ثمانين جلدة لفريته عليها، ثم ألحق به الولد. وإسناده حسن. الحديث فيه دلالة على أنه لا يصح النفي بعد الإقرار بالولد، وهذا مجمع عليه، وأما إذا سكت بعد أن علم بالولد ولم ينفه، فقال المؤيد: إنه يلزمه وإن لم يعلم أن له النفي؛ لأن ذلك حق يبطل بالسكوت، وذلك كالشفيع إذا أبطل شفعته قبل علمه باستحقاقها. وذهب أبو طالب وأبو العباس إلى أن له النفي متى علم أن له النفي، إذ لا يثبت التخيير من دون علم، فإن سكت عند العلم لحق ولم يمكن من (ب) النفي بعد ذلك، ولا يعتبر ¬

_ (أ) في الأصل: مجاهد. (ب) ساقطة من: جـ.

عندهم فور ولا تراخ، بل السكوت كالإقرار. وقال الإمام يحيى والشافعي: إن نفيه يكون على الفور، وحد الفور ألا يتراخى إلا قدر ما يلبس، أو ينتعل، أو يسرج دابته، أو يأكل، أو يحرز ما يخشى ضياعه، أو يصلي، أو يجهز ميته، أو يكون في زيارة من حضر موته، أو نحو ذلك، ثم يأتي الحاكمَ للنفي، إذ مثل هذه لا يُعد تراخيًا عرفًا، وأحد قولي الشافعي أن له إلى ثلاثة أيام بعد الولادة؛ لقوله تعالى: {تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ} (¬1). وقد قال في القصة: {عَذَابٌ قَرِيبٌ} (¬2). وقال أبو حنيفة: القياس الفور، والاستحسان يسوغ التراخي يومًا أو يومين لينظر في أمره. وعن أبي حنيفة: بل إلى سبعة أيام ليكمل التأمل. وعن أبي يوسف ومحمد: بل آخر مدة النفاس، أربعين يومًا. وقال مجاهد وعطاء: النفي على التراخي، ما لم يقرَّ به، إذ دليل ذلك لم يعتبر الفور. وأجاب عن ذلك الإمام يحيى بأنه خيار شُرع لدفع ضرر يلحق بالسكوت، فكان على الفور كخيار الأمة إذا [أعتقت] (أ). وقال الإمام الهدي في "الغيث": إنه حق يبطل بالسكوت الطويل، فيبطل بالقليل. وأنت خبير برِكَّة الجواب. ومن إذا سكت وهي حامل وقد علم بالحمل، فقال مالك: لم يكن له نفيه بعد الولادة. وقال الشافعي: إذا علم الزوج بالحمل، وأمكنه الحاكم من اللعان ولم يلاعن، لم يكن له أن ينفيه. وقال أبو حنيفة: لا ينفى الولد وهو حمل، وإنما يكون ¬

_ (أ) في الأصل: بين.

النفي بعد الوضع. ومقتضى قول الهدوية أنه يصح النفي في وقت الحمل - أنه إذا لم ينفه لم يكن له النفي بعد الولادة، وهو الظاهر من إطلاق الأدلة، والله أعلم. 912 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلًا قال: يا رسول الله، إن امرأتي ولدت غلاما أسود. قال: "هل لك من إبل؟ ". قال: نعم. قال: "فما ألوانها؟ ". قال: حمر. قال: "فهل فيها من أورق؟ ". قال: نعم. قال: "فأنى ذلك؟ ". قال: لعله نزعه عرق. قال: "فلعل ابنك هذا نزعه عرق". متفق عليه (¬1). وفي رواية لمسلم (¬2): وهو يعرِّض بأن ينفيه. وقال في آخره: ولم يرخص له في الانتفاء منه. قوله: أن رجلا. جاء في روايهَ للبخاري (¬3): أن أعرابيا. وللنسائي (¬4): رجلا من أهل البادية. وعند ألي داود (¬5): أعرابيا من بني فزارة. وكذا عند مسلم وأصحاب "السنن" (¬6)، واسم هذا الأعرابي ضمضم بن قتادة، ذكره عبد الغني في "المبهمات" (¬7). ¬

_ (¬1) البخاري، كتاب الطلاق، باب إذا عرض بنفي الولد 9/ 442 ح 5305، ومسلم، كتاب اللعان 2/ 1137 ح 18/ 1500. (¬2) مسلم، كتاب اللعان 2/ 1137 ح 19/ 1500. (¬3) البخاري 13/ 296 ح 7314. (¬4) الفتح 9/ 443. وبهذا اللفظ عند ابن ماجه 1/ 645 ح 2003. (¬5) أبو داود 2/ 286 ح 2260. (¬6) مسلم تقدم في حديث الباب، وأبو داود تقدم في الحاشية السابقة، والترمذي 4/ 382 ح 2128، والنسائي 6/ 178، وابن ماجه 1/ 645 ح 2002. (¬7) المستفاد من مبهمات المتن والإسناد لأبي زرعة العراقي 2/ 1076 ح 409.

وقوله: إن امرأتي ولدت غلامًا. قال المصنف رحمه الله تعالى (¬1): لم أقف على اسم المرأة ولا على اسم الغلام. والمرأة من بني عجل، وزاد البخاري في رواية يونس: وإني أنكرته. أي استنكرته بقلبي. ولم يرد الإنكار باللفظ، وإلا لكان تصريحًا [بالنفي] (أ) لا تعريضًا، بقوله: أسود. والتعريض بقوله: أسود. لأن المعنى: إني أبيض فكيف يكون مني الغلام الأسود؟ وقوله: "أورق". بوزن أفعل، وهو الذي فيه سواد وليس بحالك، بل يميل إلى الغبرة، ومنه قيل للحمامة: ورقاء. وقوله: "فأنى ذلك؟ ". بفتح النون الثقيلة، أي: من أين أتاها اللون المخالف لها؟ هل هو بسبب فحل من غير لونها طرأ عليها، أو لأمر آخر؟ وقوله: "لعله نزعه". بالضمير في "لعل"؛ اسمها، وهذا ثبت في رواية كريمة، وهي في غيرها من نسخ البخاري بحذف الضمير، ويكون "نزعه" منصوب باسمية "لعل"، وجوز ابن مالك بأن الاسم ضمير الشأن محذوف، فتكون "نزعه" مرفوعة، والمعنى أنه يحتمل أن يكون في أصولها ما هو باللون المذكور فاجتذبه إليه. وقوله: "نزعه عرق". المراد بالعرق الأصل من النسب، شبهه بعرق الشجرة، ومنه قولهم: فلان عريق في الأصالة. أي أن أصله مناسب. ¬

_ (أ) في الأصل، جـ: بالقذف. والمثبت من الفتح.

وكذا: معرق في الكرم أو اللؤم. وأصل النزع الجذب، فكأنه جذبه إليه لشبهه، يقال فيه: نزع الولد لأبيه وإلى أبيه، ونزعه أبوه ونزعه إليه. وقد يطلق على الميل. وقوله: "فلعل ابنك" إلخ. فيه ضرب المثل، وتشبيه المجهول بالمعلوم تقريبًا لفهم السامع، قال الخطابي (¬1): هو أصل في قياس الشبه. وقال ابن العربي (¬2): فيه دليل على صحة القياس والاعتبار بالنظير. وتوقف فيه ابن دقيق العيد؛ لأن هذا تشبيه في أمر وجودي، و [النزاع] (أ) إنما هو في التشبيه في الأحكام الشرعية. ودل الحديث على أنه لا يجوز الانتفاء من الولد بالقرينة الدالة على عدم انتسابه إليه، وأن الولد يلحق به، وإن كان لونه يخالف لون أبيه، قال القرطبي (¬3) -وقد سبقه ابن رشد- لا خلاف في أنه لا يحل نفي الولد باختلاف الألوان المتقاربة؛ كالسمرة والأدمة ولا في البياض والسواد، إذا كان قد أقر بالوطء ولم تمض مدة الاستبراء. وكأنه أراد في مذهبه، وإلا فالخلاف ثابت عند الشافعية بتفصيل؛ وهو إن لم ينضم إليه قرينة زنًى لم يجز النفي، وإن اتهمها فأتت بولد على لون الرجل الذي اتهمها به جاز النفي على الصحيح، وعند الحنابلة يجوز النفي مع القرينة مطلقًا، والخلاف ¬

_ (أ) في الأصل، جـ: القياس. والمثبت من الفتح 9/ 444.

إنما هو عند عدمها، والحديث يحتمل؛ لأنه لم يذكر في الحديث أن معه قرينة على الزنى، وإنما هو مجرد مخالفة اللون. وفي الحديث دلالة على تقديم حكم الفراش على ما يشعر به مخالفة الشبه. وفيه الاحتياط للأنساب (أوإثباتها مع الإنكار أ)، والزجر عن تحقيق ظن السوء. وقال القرطبي (¬1): يؤخذ منه منع المسلسل، وأن الحوادث لا بد لها أن تستند إلى أول ليس بحادث. وفي قوله في رواية لمسلم: وهو يعرِّض بنفيه. يدل على أن التعريض بالقذف لا يثبت حكم القذف حتى يقع التصريح، خلافًا للمالكية في أن التعريض الذي يجب فيه القذف عندهم إنما هو ما يفهم منه القذف كما يفهم من التصريح. وقد يجاب بأن الزيادة لم تكن في أصل الحديث، أو المراد أن صورته صورة التعريض وليس بتعريض حقيقة؛ لأنه إنما جاء سائلًا مستفتيًا عن الحكم لا وقع له من الربية، فلما ضرب له المثل أذعن. وقال المهلب (1): التعريض إذا كان على جهة السؤال لا حد فيه، وإنما يجب الحد في التعريض إذا كان على سبيل الواجهة والمشاتمة. وقال ابن المنير (1): [الفرق] (ب) بين الزوج والأجنبي في التعريض؛ أن الأجنبي يقصد الأذية المحضة، والزوج قد [يعذر] (جـ) بالنسبة إلى صيانة النسب، والله أعلم. ¬

_ (أ - أ) في الفتح: وإبقائها مع الإمكان. (ب) في الأصل، جـ: يفرق. والمثبت من الفتح. (جـ) في الأصل، جـ: يعذره. والمثبت من الفتح.

باب العدة والإحداد

باب العدة والإحداد العدة اسم لمدة تتربص بها المرأة عن التزويج بعد وفاة زوجها أو فراقه لها؛ إما بالولادة أو الأقراء أو الأشهر، والإحداد بالحاء المهملة بعدها دالان مهملتان بينهما ألف، والحداد أيضًا، يقال: أحدت المرأة تحد إحدادًا. وحدت تحد بضم الحاء وكسرها. كذا ذكره الجمهور، وتقول: امرأة حاد. ولا تقول: امرأة (أ) حادة. قال أهل اللغة: أصل الإحداد المنع، ومنه سمي البواب حدادا لمنعه الداخل، وسميت العقوبة حدًّا؛ لأنها تردع عن المعصية. وقال ابن دَرَسْتويه: معنى الإحداد منع المعتدة نفسها الزينة، وبدنها الطيب، ومنع الخُطَّاب من خطبتها، ولا يطمع فيها كما منع الحد المعصية. وقال الفراء: سمي الحديد حديدا للامتناع به. ويروى بالجيم. حكاه الخطابي، قال: يروى بالحاء والجيم، وبالحاء أشهر، والجيم مأخوذة من جددت الشيء إذا قطعته، فكأن المرأة انقطعت عن الزينة. وقال أبو حاتم: أنكر الأصمعي حدت، ولم يعرف إلا أحدت. وقال الفراء: كان القدماء يؤثرون أحدت، والأخرى أكثر في كلام العرب. وفي الشرع: ترك الطيب والزينة (¬1). 913 - عن المسور بن مخرمة أن سبيعة الأسلمية رضي الله عنها نفست بعد وفاة زوجها بليال، فجاءت النبي - صلى الله عليه وسلم - فاستأذنته أن تنكح، فأذن لها، فنكحت. رواه البخاري (¬2) وأصله في "الصحيحين". وفي ¬

_ (أ) ساقطة من: جـ.

لفظ (¬1): أنها وضعت بعد وفاة زوجها بأربعين ليلة. وفي لفظ لمسلم (¬2): قال الزهري: ولا أرى بأسا أن تزوج وهي في دمها غير أنه لا يقربها زوجها حتى تطهر. هو أبو (أعبد الله أ) المسور؛ بكسر الميم وسكون السين المهملة وفتح الواو، ابن مخرمة؛ بفتح الميم والخاء المعجمة الساكنة والراء المهملة المفتوحة، الزهري القرشي ابن أخت عبد الرحمن بن عوف، ولد بمكة بعد الهجرة بسنتين، وقدم به المدينة في ذي الحجة سنة ثمان، وهو أصغر من ابن الزبير بأربعة أشهر، وقبض النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو ابن ثماني سنين، وسمع منه وحفظ عنه، وحدث عن عمر وعبد الرحمن بن عوف، وكان فقيها فاضلا، لم يزل بالمدينة إلى أن قتل عثمان، وانتقل إلى مكة ولم يزل بها إلى أن مات معاوية، وكره بيعة يزيد، ولم يزل مقيمًا بمكة إلى أن نفذ يزيد عسكره وحاصر مكة وبها ابن الزبير، فأصاب المسور حجر من حجارة المنجنيق وهو يصلي في الحِجر فقتله، وذلك في مستهل ربيع الأول سنة أربع وستين، روى عنه عروة بن الزبير وعلي بن الحسين وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة وأبو أمامة بن سهل (ب) بن حنيف وابن أبي مليكة. ¬

_ (أ- أ) كذا في الأصل، جـ، والمشهور أن المسور بن مخرمة يكنى أبا عبد الرحمن. وينظر أسد الغاية 5/ 175، وتهذيب الكمال 27/ 581، وسير أعلام النبلاء 3/ 390، والإصابة 6/ 119. (ب) في جـ: سهيل. وينظر تهذيب الكمال 2/ 525.

وقوله: أن سبيعة. بمهملة وموحدة ثم مهملة، تصغير [سبع] (أ)، ووقع في البخاري (¬1) في المغازي: سبيعة بنت الحارث. وذكرها ابن سعد (¬2) في المهاجرات، ووقع في رواية لابن إسحاق عند أحمد (¬3): سبيعة بنت أبي برزة الأسلمي. فإن كان محفوظا فهو أبو برزة آخر غير الصحابي المشهور، وهو إما كنية للحارث والد سبيعة، [أو] (ب) نسبت في الرواية المذكورة إلى جدها. ونفست؛ بضم النون وكسر الفاء، أي ولدت. وقوله: وفاة زوجها بليال. كذا أبهم المدة في هذه الرواية، وقد ثبت عند أحمد (3) في رواية محمد بن إبراهيم التيمي عن أبي سلمة عن سبيعة: بشهرين. وفي رواية داود بن عاصم (جـ) (¬4): فولدت لأدنى من أربعة أشهر. وهذه فيها إبهام، وفي رواية يحيى بن أبي [كثير] (د) في البخاري (¬5) في تفسير سورة " الطلاق ": فوضعت بعد موته بأربعين ليلة، كذا في رواية [شيبان] (هـ) ¬

_ (أ) في الأصل، جـ: سبيع. والمثبت من الفتح 9/ 471. (ب) في الأصل: إن. (جـ) في الفتح 9/ 473، والنسائي: داود بن أبي عاصم. قال البخاري في التاريخ الكبير 3/ 231: ويقال: داود بن عاصم. وينظر تهذيب الكمال 8/ 405. (د) في الأصل، جـ: بكير. والمثبت من الفتح 9/ 473. وينظر تهذيب الكمال 31/ 504. (هـ) في الأصل، جـ: سفيان. والمثبت من الفتح 9/ 473، وهو شيبان بن عبد الرحمن التميمي. وينظر تهذيب الكمال 12/ 592، 593.

عنه، وفي رواية حجاج عند النسائي (¬1): بعشرين ليلة. وعند ابن أبي حاتم من رواية أيوب عن يحيى: بعشرين ليلة أو خمس عشرة ليلة. ووقع في رواية الأسود: فوضعت بعد وفاة زوجها بثلاثة وعشرين يوما أو خمسة وعشرين يوما. كذا عند الترمذي والنسائي (¬2)، وعند ابن ماجه (¬3): ببضع وعشرين [ليلة] (أ). وكأن الراوي ألغى الشك، وأتى بلفظ يشمل الأمرين. ووقع في رواية عبد ربه بن سعيد (¬4): بنصف شهر. وكذا في رواية شعبة (ب): [بلفظ] (جـ): خمسة عشر، نصف شهر. وكذا في حديث ابن مسعود عند أحمد (¬5). والجمع بين هذه الروايات متعذر؛ لاتحاد القصة، ولعل ذلك هو السر في إبهام من أبهم المدة، إذ (د) محل الخلاف أن تضع لدون أربعة أشهر وعشر، وهو هاهنا كذلك، فأقل ما قيل في هذه الروايات: نصف شهر. وأما ما وقع في بعض الشروح أن في البخاري رواية: عشر ليال. وفي رواية الطبراني (¬6): ثمان أو سبع. فهو في مدة إقامتها بعد الوضع إلى أن استفتت ¬

_ (أ) ساقط من: الأصل، جـ. والمثبت من مصدر التخريج. (ب) في الأصل: سعيد. وفوقها في مخطوط جـ كما في الأصل. (جـ) ساقط من: الأصل. (د) في جـ: أن.

النبي - صلى الله عليه وسلم - لا في مدة بقية الحمل، وأكثر ما قيل فيه (أ) بالتصريح: شهرين. وبغير التصريح: دون أربعة أشهر. وزوجها هو سعد بن خَوْلة، توفي في حجة الوداع، وهو المذكور في حديث زيارة النبي - صلى الله عليه وسلم - لسعد بن أبي وقاص، ورثى له النبي - صلى الله عليه وسلم - أن مات بمكة وهي مهاجره؛ لكراهة عود المهاجر إلى أرض هاجر منها، ونقل ابن عبد البر (¬1) الاتفاق على أنه توفي في حجة الوداع بمكة، واعترض الاتفاق بأن محمد بن [سعد] (ب) (¬2) ذكر أنه مات قبل الفتح، وذكر الطبري (جـ) أنه مات سنة سبع، وقد ذكر في البخاري في تفسير سورة "الطلاق" أنه قتل، ومعظم الروايات أنه مات، وهو المعتمد، إلا أنه إذا صحت رواية القتل فهي لا تنافيها رواية الموت، وإن لم تصح فالعمل على رواية الموت. وقوله: فأذن لها أن تنكح. في الحديث دلالة على أن الحامل المتوفى عنها تنقضي عدتها بوضع الحمل، وإن لم يمض عليها أربعة أشهر وعشر، فيجوز لها أن تنكح، وقد ذهب إلى هذا الجماهير من الصحابة ومن بعدهم من علماء الأمصار محتجين بالحديث الصحيح، وبقوله تعالى: {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} (¬3). والآية وإن كان ما قبلها في ¬

_ (أ) ساقط من: جـ. (ب) في الأصل، جـ: سعيد. (جـ) في جـ: الطبراني.

المطلقات ولكن ذلك لا يخصص العموم. وذهب علي وابن مسعود والشعبي والهدوية والمؤيد بالله والناصر إلى أنها تعتد بآخر الأجلين؛ إما وضع الحمل إن تأخر عن الأربعة الأشهر والعشر، أو بالمدة المذكورة إن تأخرت عن وضع الحمل، قالوا: لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} (¬1). فالآية الكريمة فيها عموم وخصوص من وجه، وقوله تعالى: {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ}. كذلك، فجمع بين الدليلين بالعمل بهما، والخروج من العهدة بيقين، بخلاف ما إذا عمل بأحدهما. أجاب عن ذلك الأولون بأن حديث سبيعة نص في الحكم مبين (أ) بأن آية "النساء القصرى" شاملة للمتوفى عنها، ويؤيد ذلك ما أخرجه عبد الله في زوائد (ب) "السند" وأبو يعلى والضياء في "المختارة" (¬2) وابن مردويه، عن أبي بن كعب قال: قلت: يا رسول الله، {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ}. أهي المطلقة ثلاثا [أو] (جـ) المتوفى عنها؟ قال: "هي المطلقة ثلاثا والمتوفى عنها". وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه والدارقطني (¬3) من وجه آخر ¬

_ (أ) في جـ: يبين. (ب) في جـ: رواية. (جـ) في الأصل، جـ: و. والمثبت من مصادر التخريج.

عن أبي بن كعب قال: لما نزلت هذه الآية قلت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يا رسول الله، هذه الآية مشتركة أو مبهمة؟ قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أية آية؟ ". قلت: {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ}، المطلقة والمتوفى عنها؟ قال: "نعم". وأخرج عبد الرزاق وسعيد بن منصور وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وأبو داود والنسائي وابن ماجه وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه (¬1) من طرق عن ابن مسعود، أنه بلغه أن عليًّا يقول: تعتد آخر الأجلين. فقال: من شاء لاعنته، أن الآية التي في سورة "النساء القصرى" نزلت بعد سورة "البقرة"؛ {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ}. بكذا (أ) وكذا شهر (ب)، وكل مطلقة ومتوفى عنها (جـ) زوجها فأجلها أن تضع. وأخرج عبد الرزاق وابن أبي شيبة وعبد بن حميد والطبراني وابن مردويه عن ابن مسعود (¬2) قال: من شاء حالفته أن سورة "النساء الصغرى" أنزلت بعد الأربعة الأشهر وعشر، {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ}. ¬

_ (أ) في جـ: لكذا. (ب) في جـ: أشهر. (جـ) ساقط من: جـ.

وأخرج عبد بن حميد (¬1) عن ابن مسعود قال: من شاء لاعنته أن الآية التي في "النساء القصرى"؛ {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} نسخت ما في "البقرة". وأخرج ابن مردويه (¬2) عن ابن مسعود قال: نسخت سورة "النساء القصرى" كل عدة، {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} أجل كل حامل؛ مطلقة أو متوفى عنها زوجها أن تضع حملها. وأخرجه الحاكم في "التاريخ" والديلمي (¬3) عن ابن مسعود مرفوعًا. وأخرج عبد بن حميد والبخاري والطبراني وابن مردويه (¬4) عن ابن مسعود قال: أتجعلون عليها التغليظ ولا تجعلون لها الرخصة؟ أنزلت سورة "النساء القصرى" بعد الطولى؛ {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ}، إذا وضعت فقد انقضت العدة. وأخرج ابن مردويه (¬5) عن أبي سعيد الخدري قال: نزلت سورة "النساء القصرى" بعد التي في "البقرة" بسبع سنين. وأخرج عبد الرزاق (¬6) عن أبي بن كعب قال: قلت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إني أسمع الله يذكر: {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ}، والحامل التوفى عنها زوجها أن تضع حملها؟ فقال لي النبي - صلى الله عليه وسلم -: "نعم". ¬

_ (¬1) عبد بن حميد -كما في الدر المنثور 14/ 554 (طبعة هجر). (¬2) ابن مردويه -كما في الدر المنثور 6/ 236. (¬3) الحاكم في التاريخ -كما في الدر المنثور 6/ 236 - والديلمي ح 6860. (¬4) عبد بن حميد وابن مردويه -كما في الدر المنثور 6/ 236 - والبخاري 8/ 193، 654 ح 4532، 4910، والطبراني في المعجم الكبير 9/ 385 ح 9647. (¬5) ابن مردويه -كما في الدر المنثور 6/ 236. (¬6) عبد الرزاق 6/ 472 ح 11717.

وأخرج عبد الرزاق وابن أبي شيبة وعبد بن حميد والبخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه وابن جرير وابن المنذر وابن مردويه (¬1) عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، قال: كنت أنا وابن عباس وأبو هريرة، فجاء رجل فقال: أفتني في امرأة ولدت بعد زوجها بأربعين ليلة، أحلت؟ فقال ابن عباس: تعتد آخر الأجلين. قلت أنا: {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ}. قال ابن عباس: ذلك في الطلاق. قال أبو سلمة: أرأيت لو أن امرأة جرت حملها سنة، فما عدتها؟ قال ابن عباس: آخر الأجلين. قال أبو هريرة: أنا مع ابن أخي. يعني أبا سلمة. فأرسل ابن عباس غلامه كريبًا إلى أم سلمة يسألها هل مضت في ذلك سنة؟ فقالت: قتل زوج سبيعة الأسلمية وهي حبلى، فوضعت بعد موته بأربعين ليلة، فخطبت فأنكحها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن مردويه (¬2) عن أبي السنابل بن بعكك، أن سبيعة بنت الحارث وضعت بعد وفاة زوجها بثلاثة وعشرين يومًا، [فتشوفت] (أ) للنكاح، فأنكر ذلك عليها، أو عيب عليها، فسئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "إن تفعل فقد خلا أجلها". ¬

_ (أ) في الأصل، جـ: فتشرفت. والمثبت من مصدر التخريج.

وأخرج ابن مردويه (¬1) عن عائشة قالت: مكثت امرأة ثلاثًا وعشرين ليلة، فأتت النبي - صلى الله عليه وسلم - فذكرت ذلك، فقال: "استفلحي لأمرك". يقول: تزوجي. وأخرج ابن أبي شيبة وابن مردويه (¬2) عن سبيعة الأسلمية أنها توفي زوجها، فوضعت بعد وفاته بخمس وعشرين ليلة، فتهيأت، فقال لها أبو السنابل بن بعكك: قد أسرعت، اعتدي آخر الأجلين أربعة أشهر وعشرا. قالت: فأتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخبرته، فقال: "إن وجدت زوجا صالحا فتزوجي". وأخرج عبد الرزاق وابن أبي شيبة وعبد بن حميد (¬3) عن المسور بن مخرمة، أن زوج سبيعة الأسلمية توفي وهي حامل، فلم تمكث إلا ليالٍ يسيرة حتى نفمست، فلما تعلت -أي: برئت- من نفاسها ذكرت ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأذن لها فنكحت. وأخرج عبد بن حميد (¬4) عن الحسن، ان امراة توفي عنها زوجها، فولدت بعد أيام، فاختضبت وتزينت، فمر بها أبو السنابل بن بَعْكَك فقال: كذَبْتِ، إنما هو آخر الأجلين. فأتت النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخبرته بذلك، فقال: ¬

_ (¬1) ابن مردويه -كما في الدر المنثور 6/ 236. (¬2) ابن أبي شيبة 4/ 299، وابن مردويه -كما في الدر المنثور 6/ 236. (¬3) عبد الرزاق 6/ 473 ح 11722، وابن أبي شيبة 4/ 297، وعبد بن حميد -كما في الدر المنثور 6/ 236. (¬4) عبد بن حميد -كما في الدر المنثور 6/ 236.

"كذب أبو السنابل، تزوجي". وأخرج عبد بن حميد (¬1) عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، أنه تمارى هو وابن عباس في المتوفى عنها زوجها وهي حُبلى، فقال ابن عباس: آخر الأجلين. وقال أبو سلمة: إذا ولدت فقد حلت. فجاء أبو هريرة فقال: أنا مع ابن أخي. لأبي سلمة، ثم أرسلوا إلى عائشة فسألوها. فقالت: ولدت سُبيعة بعد وفاة زوجها بليال، فاستأذنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأمرها فنكحت. وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد (¬2) عن عبيد الله بن عبد الله، قال: أرسل مروان عبد الله بن عتبة إلى سبيعة بنت الحارث يسألها عما أفتاها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأخبرته أنها كانت عند سعد بن خولة، فتوفي عنها في حجة الوداع، وكان بدريا، فوضعت حملها قبل أن تمضي أربعة أشهر وعشر من وفاته، فلقيها أبو السنابل بن بعكك حين تَعَلَّت من نفاسها، وقد اكتحلت وتزينت، فقال: لعلك تريدين النكاح! إنها أربعة أشهر وعشر من وفاة زوجك. قالت: فأتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فذكرت ذلك له، وذكرت له ما قال أبو السنابل. فقال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "اربَعِي بنفسك (¬3)، فقد حل أجلك إذا وضعت حملك". وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد (¬4) عن علي في الحامل إذا وضعت بعد وفاة زوجها، قال: تعتد أربعة أشهر وعشرا. ¬

_ (¬1) عبد بن حميد -كما في الدر المنثور 6/ 236. (¬2) عبد الرزاق 6/ 473 ح 11722، وعبد بن حميد -كما في الدر المنثور 6/ 236. (¬3) اربعي بنفسك: نَفِّسي عن نفسك وأخرجيها من بؤس العدة وسوء الحال. ينظر النهاية 2/ 187. (¬4) ابن أبي شيبة 4/ 297، وعبد بن حميد -كما في الدر المنثور 6/ 236.

وأخرج ابن أبي شيبة (¬1) عن سعيد بن المسيب، أن عمر استشار علي ابن أبي طالب وزيد بن ثابت، قال زيد: قد حلت. وقال علي: أربعة أشهر وعشرا. قال زيد: أرأيت إن كانت نسْئًا (¬2). قال علي: فآخر الأجلين. [قال عمر] (أ): لو وضعت ذا بطنها وزوجها على نعشه لم يدخل حفرته لكانت قد حلت. وأخرج ابن المنذر (¬3) عن مغيرة، قال: [قلت للشعبي] (ب): ما أصدق أن علي بن أبي طالب كان يقول: عدة المتوفى عنها زوجها آخر الأجلين. قال: بلى، فصدِّقْ به كأشد ما صدقت بشيء؛ كان علي يقول: إنما قوله: {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ}. في المطلقة. فهذه الأحاديث المروية في تفسير الآية الكريمة تدل على أن الآية معمول بعمومها في جميع العدد، وأن عموم آية "البقرة" مخصص بهذه الآية الكريمة، ومع تأخر نزولها كما في هذه الروايات يكون تخصيصها لعموم الآية السابقة متفقا عليه، قال الإمام المهدي في "البحر" بعد أن ذكر حجة القول الأول بحديث سبيعة: قلت: إن تأخر الخبر عن آية الأشهر فقوي، وإلا فهي أقوى للجمع. انتهى. يعني أن الحديث إذا كان متأخرا كان ¬

_ (أ) ساقط من: الأصل، جـ. والمثبت من مصدر التخريج. (ب) في الأصل، جـ: قال الشعبي. والمثبت من مصدر التخريج.

مخصصا لعموم آية "البقرة"؛ لأن السنة المتأخرة تكون مخصصة لعموم القرآن، وأما مع تقدم قصة سبيعة أو مع جهل التاريخ يكون العمل بالآية، فعلى الأول (أ) لكونها ناسخة لحديث سبيعة، و (ب) مع جهل التاريخ لترجيح الآية. وأقول: أولًا، كلام "البحر" مبني على قول من لم يبن العام على الخاص مطلقا، ويقول: إن العام المتأخر ناسخ للخاص المتقدم. وثانيا، أنه قد ثبت بما تلونا عليك في قصة الأسلمية أنها متأخرة عن الآية، فهو معمول بالحديث، وآية سورة "النساء القصرى" متأخرة النزول مبين (جـ) المراد بعمومها من السنة، فالعمل بذلك صحيح. وقال الجمهور: إنه يجوز العقد عليها وإن لم تطهر من النفاس كما تقدم في حديث ابن شهاب. وقال الشعبي والحسن والنخعي وحماد بن أبي سليمان: لا تنكح حتى تطهر. ولعل مستندهم ما وقع في بعض ألفاظ حديث سبيعة: فلما تعلت من نفاسها. ولا حجة لهم (د) في ذلك؛ لأن "تعلت" تحتمل أن يراد به برئت من ألم النفاس، وإن كان الدم باقيا، ويحتمل طهرت، والأول أرجح، فإنه قد جاء ما هو صريح كما في قوله: "حل أجلك إذا وضعت حملك". وغيره، وكذا هو ظاهر الآية الكريمة، وهو قوله: {أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ}. وإن حرم وطؤها لعلة أخرى وهو بقاء دم النفاس، وقد اختلف في الوضع الذي تنقضي ¬

_ (أ) في جـ: الأولى. (ب) في جـ: أو. (جـ) في جـ: بينهن. (د) في جـ: له.

به العدة؛ فذهب العترة والشافعي إلى أنه يشترط فيه أن يكون لاحقا بمن اعتدت منه المرأة، كلو نكحت وهي حامل من زنًى ثم طلقها الزوج أو مات عنها فلا تنقضي عدتها بذلك، وقال أبو حنيفة: إنها تنقضي به العدة لعموم {أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ}. والجواب: أن الخطاب للناكحات الحاملات عن الأزواج. ولا بد من وضع الحمل جميعه، وإذا كان متخلقا فإجماع، وأما إذا كان غير متخلق فإن كان مضغة لا تخلُّق فيها، فذهب العترة إلى أنه لا تنقضي به العدة؛ لجواز أنه دم منعقد، وقال في "المنهاج" وشرحه "العجالة": وبمضغة فيها صورة آدمي خفية أخبر بها القوابل (¬1). أي فإن العدة تنقضي بها أيضًا، ومثل هذا رواه الإمام المهدي عن الشافعي، ثم قال: فإن لم يكن صورة -أي بينة ولا خفية- وقلن -أي القوابل-: هي أصل آدمي. انقضت على المذهب، لأن القصد من العدة معرفة براءة الرحم، وهي تحصل برؤية الدم. فمثل هذا أول، أي قول أول، للشافعي، والقول الثاني: إنها لا تنقضي. وهو مخرج من الغرة (أ) وأمية الولد كما نص عليه فيهما، والأول فرق بأن الأصل براءة الذمة من الغرة، فلا تجب بالشك، وأمية الولد منوطة باسم الولد، وهذا لا يسمى ولدًا، والعدة منوطة باسم الحمل، وهذا [لا] (ب) يسمى حملًا بخلاف العلقة، وهذه الطريقة هي الصحيحة أن المسألة على القولين، والطريقة الثانية القطع بالأول. انتهى. ¬

_ (أ) في الأصل: العدة. (ب) ساقط من: الأصل، جـ. والمثبت يقتضيه السياق.

وقال النووي في "شرح مسلم" (¬1): وقال العلماء من أصحابنا وغيرهم: سواء كان الحمل ولدا أو أكئر، كامل الخلقة أو ناقصها، أو علقة أو مضغة، فتنقضي العدة بوضعه إذا كان فيه صورة خلق آدمى، سواء كان صورة خفية تختص النساء بمعرفتها، أم جلية يعرفها كل أحد. وتوقف ابن دقيق العيد فيه من جهة أن الغالب في إطلاق وضع الحمل هو الحمل التام المتخلق، وأما خروج المضغة والعلقة فهو نادر، والحمل على الغالب أقوى. قال المصنف (¬2) رحمه الله تعالى: ولهذا نقل عن الشافعي قول بأن العدة لا تنقضي بوضع قطعة لحم ليس فيها صورة بينة ولا خفية، وظاهر الحديث والآية الكريمة الإطلاق فيما تحقق كونه حملًا، وأما ما لا يتحقق كونه حملًا فلا؛ لجواز أنه (أ) قطعة لحم، والعدة لازمة بيقين فلا تنقضي بالمشكوك فيه. 914 - وعن عائشة رضي الله عنها قالت: أمرت بريرة أن تعتد بثلاث حيض. رواه ابن ماجه (¬3) ورواته ثقات، لكنه معلول. الحديث تأيد بما أخرجه أحمد (¬4) عن عفان عن همام بحديث بريرة مطولًا، وفيه أنها تعتد عدة الحرة. وقد جاء في بعض طرقه: تعتد بحيضة. وهي مرجوحة، ويحتمل أن أصله: تعتد بحيض. فيكون المراد الجنس لما استبرئ (ب) به ولا يقصد الموحدة الفردية، وإنما المقصد الموحدة النوعية، ¬

_ (أ) في جـ: كونه. (ب) في جـ: تستبرئ.

والتأويل أولى، وهو يدل على أن العدة معتبرة بالمرأة -عند من يجعل عدة المملوك دون عدة الحر- لا بالزوج، على القول الأظهر أن زوجها كان مملوكًا. 915 - وعن الشعبي عن فاطمة بنت قيس، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في المطلقة ثلاثا: "ليس لها سكنى ولا نفقة". رواه مسلم (¬1). هو أبو عمرو عامر بن شراحيل بن عبد الله الشعبي الهمْداني الكوفي، تابعي جليل القدر، فقيه كبير، قال: أدركت خمسمائة من الصحابة أو أكثر يقولون: علي وطلحة والزيير [في الجنة] (أ). قال ابن عيينة: كان ابن عباس في زمانه، والشعبي في زمانه، والثوري في زمانه. ولد لست سنين خلت من خلافة عثمان ومات سنة أربع ومائة، وله اثنتان وستون سنة، وفي "الكاشف" (¬2) أنه ولد في خلافة عمر. وفي "مرآة الزمان" لليافعي (¬3) أنه مات وله بضع وثمانون سنة. مر به ابن عمر وهو يحدث بالمغازي، فقال: شهدت القوم وهو أعلم بها مني. وقال ابن سيرين لأبي بكر الهذلي (ب): الزم الشعبي، فلقد رأيته يستفتى وأصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - بالكوفة. وقال الزهري: العلماء أربعة؛ ابن المسيب بالمدينة، والشعبي بالكوفة، والحسن البصري ¬

_ (أ) ساقطة من: الأصل. (ب) في جـ: البدلي. وينظر السير 4/ 300.

بالبصرة، ومكحول بالشام. الحديث أخرجه مسلم وأخرجه بألفاظ غير هذا موافقة في المعنى، وهو يدل على أن المطلقة ثلاثًا لا تستحق سكنى ولا نفقة، وقد ذهب إلى هذا ابن عباس، والحسن، وعطاء، والشعبي، وأحمد في إحدى الروايات عنه، والقاسم، والإمامية، وإسحاق بن راهويه وأصحابه، وداود، وسائر أهل الحديث، فقالوا: لا تجب النفقة ولا السكنى. وذهب عمر بن الخطاب، وعمر بن عبد العزيز، والناصر، والإمام يحيى، وأبو حنيفة، والثوري، وأهل الكوفة، إلى وجوب النفقة والسكنى؛ قالوا: أما السكنى فلقوله تعالى: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ} (¬1). وأما النفقة فلأنها محبوسة عليه. وذهب الشافعي ومالك وآخرون إلى وجوب السكني لها دون النفقة؛ لقوله تعالى: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ}. وأما النفقة فلقوله تعالى: {وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ}. ومفهوم الشرط يدل على أنها لا تحب لغير الحامل، وأما الرجعية التي ليست بحامل فوجوب النفقة لها بدليل الإجماع، وذهب الهادي والمؤيد إلى وجوب النفقة دون السكني في البائن، قالوا: لقوله تعالى: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ} (¬2). وإذ حبست بسببه كالرجعية، ولا سكنى لها؛ [لأن] (أ) قوله تعالى: {مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ}. يدل على أن ذلك حيث يكون الزوج، وهو يقتضي الاختلاط، ولا يكون ذلك ¬

_ (أ) في الأصل: إذ.

إلا في حق الرجعية. قالوا: وأما تقييد النفقة بحالة الحمل فليس ذلك للعمل بالمفهوم، وإنما هو لما كانت مدة الحمل قد تطول بحسب الأغلب فاستبعد وجوب الإنفاق فيها كلها، فنبه بالتقييد على وجوبها فيها وإن طالت المدة. ورده ابن السمعاني بأنه لا أغلبية في طول مدة الحمل، بل تكون تارة أقصر، وتارة مساوية، وتارة أطول، فلا تظهر فائدة غير التخصيص. واعلم أنه قد طعن علي حديث فاطمة بنت قيس قديمًا وحديثًا بثمانية مطاعن؛ أولها، ما رواه مسلم (¬1) في "الصحيح" عن أبي إسحاق قال: كنت مع الأسود بن يزيد جالسا في المسجد الأعظم ومعنا الشعبي، فحدث الشعبي بحديث فاطمة بنت قيس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يجعل لها سكنى ولا نفقة، فأخذ الأسود كفا من حصى فحصبه به، فقال: ويلك! تحدث بمثل هذا؟ قال عمر: لا نترك كتاب ربنا وسنة نبينا - صلى الله عليه وسلم - لقول امرأة، لا ندري أحفظت أم نسيت، لها السكنى والنفقة، قال الله تعالى: {لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إلا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} (¬2). قالوا: فهذا عمر قال: سنة نبينا. وقد ثبت أن قول الصحابي (أ): سنة نبينا. مرفوع، وإذا تعارضت رواية عمر ورواية فاطمة، كانت روايته أرجح. الثاني، قول عائشة رضي الله عنها: ما لفاطمة (ب) بنت قيس خير إن ¬

_ (أ) في جـ: الصحابة. (ب) في النسخ: بفاطمة. والمثبت من مصدر التخريج، والمعنى كأنها تشير إلى ما تقدم وأن الشخص لا ينبغي له أن يذكر شيئًا عليه فيه غضاضة. الفتح 9/ 479.

تذكر هذا الحديث. أخرجه في "الصحيحين" (¬1). وفي "صحيح البخاري" (¬2) عن عائشة قالت: إن فاطمة كانت في مكان وحش (¬3)، فخص على ناحيتها، فلذلك أرخص لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. يعني في الخروج. الثالث، ما روى عبد الله بن صالح كاتب الليث، قال: حدثني الليث بن سعد حدثني جعفر عن ابن هرمز عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، قال: كان محمد بن أسامة بن زيد يقول: كان أسامة إذا ذكرت فاطمة شيئًا من ذلك، يعني من انتقالها في عدتها، رماها بما في يده (¬4). الرابع، أن مروان لما حُدث بحديث فاطمة، قال: لم نسمع هذا إلا من امرأة، سنأخذ بالعصمة التي وجدنا الناس عليها (¬5). الخامس، ما رواه أبو داود في "سننه" (¬6)، قال سعيد بن المسيب: إنها كانت امرأة لَسِنَة، فوضعت على يدي ابن أم مكتوم. السادس: ما رواه أبو داود (¬7) عن سليمان بن يسار، قال في خروج فاطمة: إنها كانت من سوء الخلق. ¬

_ (¬1) البخاري 9/ 477 ح 5324، 5326، ومسلم 2/ 1120 ح 1481. (¬2) البخاري 9/ 477 ح 5325، 5326. (¬3) وحش: خلاء لا ساكن به. النهاية 5/ 161. (¬4) المحلى 1/ 690. (¬5) المحلى 11/ 698. (¬6) أبو داود 2/ 298 ح 2296. (¬7) أبو داود 2/ 297 ح 2294.

السابع، ما أخرجه النسائي (¬1) من إنكار الأسود بن يزيد على الشعبي لما أفتى بذلك، وقال: ويلك! لم تفتي بمثل هذا؟ قال عمر لها: إن جئت بشاهدين يشهدان أنهما سمعاه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وإلا لم نترك كتاب ربنا لقول امرأة. الثامن، ما أخرجه أبو محمد بن حزم (¬2) عن أبي سلمة بن عبد الرحمن وقد ذكر حديث فاطمة بنت قيس، ثم قال: فأنكر الناس عليها ما كانت تحدث من خروجها قبل أن تحل. فالوا: وقد عارض رواية فاطمة صريح رواية عمر في إيجاب النفقة والسكنى؛ فروى حماد بن سلمة عن حماد بن أبي [سليمان] (أ)، أنه أخبره إبراهيم النخعي بحديث الشعبي عن فاطمة بنت قيس، فقال له إبراهيم: إن عمر أخبر بقولها، فقال: لسنا بتاركي آية من كتاب الله وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - لقول امرأة؛ لعلها أوهمت، سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: "لها السكنى والنفقة". انتهى. وقد أجيب عن المطاعن بما حاصله أنها تضمنت أربعة أمور؛ أحدها، كون الراوي امرأة، ولم تقترن بشاهدين عدلين يتابعانها على حديثها. ثانيها، أن الرواية تخالف ظاهر القرآن. الثالث، أن خروجها من المنزل لم يكن لأنه لا حق لها في السكنى، بل لإيذائها أهل زوجها بلسانها. الرابع، معارضة روايتها لرواية عمر. ¬

_ (أ) في الأصل، جـ: سلمة. والمثبت من مصدر التخريج.

وأجيب عنها: أما الأول، فكون الراوي امرأة غير قادح، فكم من سنن ثبتت عن النساء، يعلم ذلك من اطلع على السنن، وعرف مسانيد الصحابة، وعدم متابعة غيرها لها من الصحابة لا يقدح أيضًا، فإن من قبِل رواية الواحد، وهم الأكثر، لا يفرقون بين المرأة والرجل، وأما عمر رضي الله عنه فإنه قد فعل مثل هذا في حق أبي موسى الأشعري في خبر الاستئذان (¬1) حتى شهد اثنان، ولعل ذلك للتردد في الحفظ، وإلا فقد قبِل خبر الضحاك بن سفيان الكلابي في توريث امرأة أشيم (أ) من الدية (¬2)، وقبل لعائشة رضي الله عنها عدة أحاديث تفردت بها. وأما الثاني، وهو مخالفتها لظاهر القرآن، فإن الجمع ممكن بحمل هذا الحديث على التخصيص لبعض أفراد العام، أو نسخ مع التراخي، والتخصيص بخبر الواحد صحمِح إلا عند الحنفية، فلا مخالفة حينئذ. وأما الثالث، وهو أن خروجها كان لفحش في لسانها، فهو مستبعد في حقها، فهي من خيار الصحابة وفضلائهم من المهاجرات الأول، وكان لو أمرها النبي - صلى الله عليه وسلم - بكف لسانها لم تخالفه. وأما الرابع، وهو معارضة روايتها برواية عمر، وهي تورد من وجهين، أحدهما، قوله: لا ندع كتاب ربنا وسنة نبينا. وأن هذا من حكم المرفوع. والثاني، قوله: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "لها السكنى والنفقة". ¬

_ (أ) في جـ: أسلم.

والجواب عن ذلك، بأن الإمام أحمد أنكر هذه الزيادة من قول عمر، وجعل يتبسم ويقول: أين في كتاب الله إيجاب النفقة والسكنى للمطلقة ثلاثًا؟ وقال: لا يصح هذا عن عمر. قاله أبو الحسن الدارقطني، وأما حديث إبراهيم النخعي الذي مر، فإبراهيم لم يسمعه من عمر، فإنه لم يولد إلا بعد موت عمر بسنين، فذلك على تقدير ثبوته لا يكون إلا بواسطة، والواسطة قد تكون ممن قصر حفظه وثقته في رواية الحديث، ولو كان ذلك ثابتًا لروي لفاطمة في دفع حديثها وانقطعت حجتها. وقد تناظر في هذه المسألة ميمون بن مهران وسعيد بن المسيب، فذكر له ميمون حديث فاطمة، فقال له سعيد: تلك امرأة فتنت الناس. فقال له ميمون: لئن كانت إنما أخذت بما أفتاها به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما فتنت الناس، وإن لنا في رسول الله أسوة حسنة. مع أن حديث فاطمة احتج به جماعة من الفقهاء في عدة أحكام، فمالك والشافعي وجمهور الأمة يحتجون به في سقوط نفقة المبتوتة إذا كانت حائلًا، والشافعي نفسه احتج به على جواز جمع الثلاث؛ لأن في بعض ألفاظه؛ فطلقني ثلاثًا. واحتج به من يرى جواز نظر المرأة إلى الرجال، واحتج به الأئمة كلهم على جواز خطبة الرجل على خطبة أخيه إذا لم تكن المرأة قد سكنت إلى الخاطب الأول، وعلى جواز ذكر ما في الرجل إذا كان على وجه النصيحة لمن استشاره أن يزوجه أو يعامله أو يسافر معه، وأن ذلك ليس بغيبة، وعلى جواز نكاح القرشية من غير القرشي، وعلى وقوع الطلاق وإن لم يكن الزوج حاضرًا عند الزوجة، وعلى

جواز التعريض بالخطبة في حق البائن، والله أعلم. 916 - وعن أم عطية رضي الله عنها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تُحِدّ امرأة على ميت فوق ثلاث، إلا على زوج أربعة أشهر وعشرا، ولا تلبس ثوبا مصبوغا إلا ثوب عصب، ولا تكتحل ولا تمس طيبا إلا إذا طهرت، نبذة من قسط وأظفار". متفق عليه، وهذا لفظ مسلم (¬1). ولأبي داود والنسائي (¬2) من الزيادة: "ولا تختضب". وللنسائي (¬3): "ولا تمتشط". الحديث. قوله: "لا تحد امرأة". فيه دلالة على أنه لا يحل للمرأة الإحداد على غير الزوج، أبا كان أو غير أب، فوق الثلاث، وأنه يجوز الإحداد الثلاث أو أقل منها، وكأن هذا القدر أبيح لأجل غلبة الطباع البشرية للإنسان، وأنه لا يكاد يقدر أن يدفع الجزع والحزن ويتسلى عن المصائب بالكلية، وكانت الشريعة على الحنيفية السهلة وتوسيع الأمر إذا ضاق؛ لطفًا من الله ورحمة، كما أراد بعباده اليسر، ولم يحملهم على الإصر والعسر، وقد أخرج أبو داود في "المراسيل" (¬4)، من حديث عمرو بن شعيب، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رخص للمرأة أن تحد على أبيها سبعة أيام، وعلى من سواه ثلاثة أيام. فلو صح كان مخرجًا للأب من هذا العموم، ولكنه مرسل أو معضل؛ لأن عمرو بن شعيب ¬

_ (¬1) البخاري، كتاب الحيض، باب الطيب للمرأة عند غسلها من المحيض 1/ 413 ح 313، ومسلم، كتاب الطلاق، باب وجوب الإحداد في عدة الوفاة 2/ 1127 ح 938/ 66. (¬2) أبو داود 2/ 301 ح 2303، والنسائي 6/ 204. (¬3) النسائي 6/ 202، 203. (¬4) المراسيل ص 208.

إنما أدرك صغار الصحابة وروى عنهم القليل، وجل روايته عن التابعين. وقوله: "امرأة". يخرج الصغيرة. وقد ذهب إلى هذا أبو حنيفة وأصحابه وتخريج أبي (أ) العباس للهادي، والخلاف للجمهور، قالوا (ب): وذكر المرأة خرج مخرج الغالب، ولأن التكليف على وليها يمنعها من الطيب والزينة، ولأن العدة واجبة على الصغيرة كالكبيرة، ولأنه لا تحل خطبتها، وكذا في الرواية الأخرى: "لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر" (¬1). فالتقييد بالإيمان إنما هو لأن المؤمنة هي المعتبرة في بيان ما يجب عليها ويحرم، وإن كانت الكافرة كذلك، والخلاف لأبي ثور وبعض المالكية. وقوله: "على ميت". ظاهره [أنه] (جـ) لا إحداد على المطلقة، فإن كان رجعيا فإجماع، وإن [كان] (د) بائنًا، فذهب أنه لا إحداد عليها الجمهور، وهو مذهب الهادي، والمؤيد، والإمام يحيى، والشافعي، ومالك، وربيعة، ورواية عن أحمد، لظاهر التقييد بالميت، فالمفهوم أن غيره لا إحداد عليه، ولأن الإحداد إنما شرع لقطع ما يدعو إلى الجماع، وكان هذا في حق [المنبتة] (هـ) لتعذر رجوعها إلى الزوج، وأما المطلقة بائنًا، فلأنه (و) يصح أن ¬

_ (أ) في جـ: ابن. (ب) في جـ: قال. (جـ) في الأصل: أن. (د) في الأصل: كانت. (هـ) في الأصل، جـ: المميتة. والمثبت يقتضيه السياق. (و) في جـ: فإنه.

تعود مع زوجها بعقد إذا لم تكن مثلثة، وذهب علي وزيد بن علي وتخريج أبي العباس للهادي وأبو حنيفة وأصحابه وأبو [عبيد] (أ) وأبو ثور إلى وجوب الإحداد على المطلقة بائنًا قياسًا على المتوفى عنها، وقال به بعض الشافعية والمالكية، قالوا: لأنهما اشتركتا في العدة واختلفتا في سببها، ولأن العدة تحرم النكاح فحرمت دواعيه، والإحداد معقول المعنى، وهو أن إظهار الزينة والطيب والحلي مما يدعو المرأة إلى الرجال، ويدعو الرجال إليها، فلا يؤمن أن تكذب في انقضاء عدتها استعجالًا لذلك، فمنعت من دواعي ذلك وسدت إليه الذريعة. وهذا الحديث لا يدل على وجوب الإحداد رأسًا، وإنما المفهوم يدل على حله على الزوج المدة المذكورة، وقال بوجوبه في حق المنبتة الأكثر، ويدل على ذلك حديث أم سلمة أخرجه أبو داود (¬1)، أنه قال: "المتوفى عنها زوجها لا تلبس المعصفر من الثياب، ولا الممشقة، ولا الحلي، ولا تكتحل، ولا تختضب". وأخرج أيضًا (¬2) عنها قالت: دخل علي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين توفي أبو سلمة وقد جعلت علي صبرًا، فقال: "ما هذا يا أم سلمة؟ ". قلت: صبر يا رسول الله، ليس فيه طيب. قال: "إنه يشبُّ الوجه، فلا تجعليه إلا بالليل، وتنزعيه بالنهار، ولا تمتشطي بالطيب، ولا بالحناء، فإنه خضاب". قالت: قلت: يا رسول الله، بأي شيء أمتشط؟ قال: "بالسدر، تُغلِّفين (ب) به رأسك". وذهب الحسن البصري فيما رواه عنه حماد بن ¬

_ (أ) في الأصل، جـ: عبيدة. والمثبت من الفتح 9/ 486. (ب) زاد في جـ وفي حاشية الأصل: أي تلطخين. وينظر اللسان (غ ل ف).

سلمة عن حميد أنه قال (¬1): إن المطلقة ثلاثًا والمتوفى عنها زوجها (أ) يكتحلان، ويمتشطان، ويتطيبان، ويختضبان، وينتعلان، ويصبغان ما [شاءتا] (ب). ومثله الحكم بن عتيبة فيما رواه عن شعبة: أن المتوفى عنها لا تحد. وكذا نقل الخلال بسنده عن أحمد عن هشيم عن داود عن الشعبي، أنه كان لا يعرف الإحداد (¬2)، قال أحمد: ما كان بالعراق أشد تبحرًا من هذين. يعني الحسن والشعبي. قال: وخفي ذلك عليهما. انتهى. وحجتهما ما رواه أحمد (¬3) وصححه ابن حبان، عن أسماء بنت عميس، قالت: دخل عليَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اليوم الثالث من قتل جعفر بن أبي طالب، فقال: "لا تحدي بعد يومك". هذا لفظ أحمد، وفي رواية له ولابن حبان والطحاوي (¬4): لما أصيب جعفر أتانا النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: "تسَلَّبي ثلاثا، ثم اصنعي ما شئت". وأخرج ابن حزم (1) من طريق [الخشني] (جـ) محمد بن عبد السلام عن عبد الله بن شداد بن الهاد، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لامرأة جعفر بن أبي طالب: "إذا ¬

_ (أ) ساقط من: الأصل. (ب) في الأصل، جـ: شاء. والمثبت من مصدر التخريج. (جـ) في الأصل، جـ: الحسن بن. والمثبت موافق لما في مصدر التخريج.

كان ثلاثة أيام فالبسي، أو بعد ثلاثة أيام". شك شعبة. ومن طريق حماد بن سلمة عن عبد الله بن شداد بن الهاد (¬1)، أن أسماء بنت عميس استأذنت النبي - صلى الله عليه وسلم - أن تبكي على جعفر وهي امرأته، فأذن لها ثلاثة أيام، ثم بعث إليها بعد ثلاثة أيام، أن تطهري واكتحلي. قالوا: وهذا ناسخ لأحاديث الإحداد؛ لأنه بعدها، فإن أم سلمة أمرت بالإحداد بعد موت زوجها، وموته متقدم على قتل جعفر رضي الله عنهما. وقد أجيب عن هذا بأجوبة؛ منها، أنه مخالف للأحاديث الصحيحة، وقد أجمعوا على خلافه. ولا يخفى ما في هذا الجواب من الركَّة. ومنها، أن جعفرا قتل شهيدًا، والشهداء أحياء عند ربهم. وهذا كذلك، فإنه كان يلزم جريه في حق غيره من الشهداء كحمزة وغيره. ومنها، أن أحاديث وجوب الإحداد ناسخة لهذه الأحاديث المبيحة. ذكره الطحاوي، ودعوى النسخ لا تصح مع ما قد عرفت من تأخر قصة أسماء بنت عميس، بل الأمر بالعكس. ومنها، أنه يحتمل أن أسماء فعلت من الإحداد قدرًا زائدًا على ما يجب عليها، فنهيت بعد الثلاث عن ذلك الزائد، ووسع لها في الثلاث لشدة ما ألم بها من المصيبة. ومنها، أنه يحتمل أنها كانت حاملًا، فوضعت بعد الثلاثة الأيام فانقضت عدتها، وحديث: "تسَلَّبي ثلاثا". يحمل على أنه - صلى الله عليه وسلم - اطلع على أن عدتها تنقضي بعد الثلاث، ويكون من أعلام النبوة. ومنها، أنه يحتمل أنه كان قد أبان طلاقها، فتكون عدتها عدة طلاق ولا إحداد عليها، كما سبق الخلاف. ومنها، أن حديث عبد الله بن شداد إن كانت روايته لذلك عن قول النبي - صلى الله عليه وسلم - فهو منقطع؛ لأنه لم يسمع من النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا رآه، وإن كان ¬

_ (¬1) المحلى 11/ 664.

روايته عن أسماء فقد قال البيهقي (¬1): إنه لم يسمع من أسماء. وهذه العلة مدفوعة، فقد صححه أحمد لكنه قال: إنه مخالف للأحاديث الصحيحة. وأما طريق حماد بن سلمة ففيها الحجاج بن أرطاة (¬2)، ولا يعارض بحديثه حديث الأثبات فرسان الحديث. وهذه الأجوبة لا يخفى عليك ما فيها، وقد روى ابن حبان لفظ "تسلبي"، فقال: "تسلمي". بالميم بدل الباء، وقد فسرها بأنه أمرها بالتسليم لأمر الله تعالى، قال: ولا مفهوم للتقييد بالثلاث؛ لأن الحكمة كون القلق يكون في ابتداء الأمر أشد. ويدفع هذا التصحيف التكلف فيه التأويل ما وقع في رواية البيهقي وغيره (¬3): فأمرني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن أتسلب ثلاثا. فتبين خطؤه. وقوله: "أربعة أشهر وعشرًا". قيل: الحكمة فيه أن الولد يتكامل تخليقه، وينفخ فيه الروح بعد مضي مائة وعشرين يومًا، وهي زيادة على أربعة أشهر بنقصان الأهلة، فجبر الكسر إلى العقد على طريق الاحتياط، وذكر العشر مؤنثا لإرادة الليالي، والمراد مع أيامها عند الجمهور، فلا تحل حتى تدخل الليلة الحادية عشرة، وعن الأوزاعي وبعض السلف: تنقضي بمضي الليالي العشر بعد الأشهر، وتحل في أول اليوم العاشر. وقوله: "ثوبا مصبوغا". ظاهره يعم المعصفر والمزعفر وغير ذلك، قال ¬

_ (¬1) البيهقي 7/ 438. (¬2) تقدمت ترجمته في 2/ 168. (¬3) البيهقي -كما في الفتح 9/ 488.

ابن المنذر (¬1): أجمع العلماء على أنه لا يجوز للحادة لبس الثياب المعصفرة ولا المصبغة إلا ما صبغ بسواد، فرخص فيه مالك والشافعي؛ لكونه لا يتخذ للزينة، بل هو من لباس الحزن. وقال المهدي في "البحر": ويحرم من اللباس المصبوغ للزينة ولو بالمغرة، وهو (أ) تراب أحمر، وهو المِشْق أيضًا وما في منزلته؛ لحسن صنعته، والمطرز والمنقوش بالصبغ والحلي جميعًا. وقال الإمام يحيى: لها لبس البياض والسواد والأكهب (¬2) وما بلي صبغه والخاتم والودع والزقر (¬3). ومثله ذكر ابن دقيق العيد (¬4) في الأبيض من الثياب، ومنع بعض المالكية المرتفع منها الذي يتزين به، وكذلك الأسود إذا كان مما يتزين به، وقال النواوي (¬5): رخص أصحابنا فيما لا يتزين به ولو كان مصبوغًا، واختلف في الحرير، والأصح عند الشافعية منعه مطلقًا، مصبوغًا أو غير مصبوغ؛ لأنه أبيح للنساء التزين به، والحادة ممنوعة من التزين، فكان في حقها كما في حق الرجال، وفي التحلي بالذهب والفضة وباللؤلؤ ونحوه وجهان، الأصح جوازه، وفيه نظر من جهة المعنى في المقصود بلبسه، وفي المقصود بالإحداد، فإنه عند تأملهما يترجح المنع، والله أعلم. انتهى. وقوله: "إلا ثوب عصب". بعين مهملة مفتوحة ثم صاد ساكنة مهملة ¬

_ (أ) في جـ: هي.

ثم باء موحدة، والثوب مضاف إلى العصب، وثوب العصب من برود اليمن، وهو ما يعصب غزله؛ أي يربط ثم يصبغ ثم ينسج معصوبًا، فيخرج موشًّى لبقاء ما عصب منه أبيض لم ينصبغ، وإنما يعصب السدَى دون اللحمة، وقال صاحب "المنتهى" (¬1): هو المفتول من برود اليمن. وذكر أبو موسى المديني في "ذيل الغريب" (¬2) عن بعض أهل اليمن، أنه من دابة بحرية تسمى [فرس] (أ) فرعون يتخذ منها الخرز (ب) وغيره ويكون أبيض. وهذا غريب، وأغرب منه قول السهيلي (¬3): إنه نبات لا ينبت إلا باليمن. وعزاه لأبي حنيفة الدينوري. وأغرب منه قول الداودي (1): المراد بثوب العصب الأخضر، وهي الحبرة. قال المصنف (1) رحمه الله تعالى: وليس له سلف في ذلك. وفيه دلالة على جواز لبس ما صبغ غزله قبل نسجه كالمعصوب؛ لعدم الزينة، ويلحق به ما كان صبغه لغير الزينة مثل السواد، أو كان الصبغ لتقبيح المصبوغ أو لستر الوسخ، قال الشافعي (¬4) رحمه الله تعالى: وفي الثياب زينتان؛ أحدهما، جمال الثياب على اللابسين. والثاني، الستر للعورة. فالثياب زينة لمن يلبسها، وإنما نهيت الحادة عن زينة بدنها ولم تنه عن ستر عورتها، فلا بأس أن تلبس كل ثوب من البياض، لأن البياض ليس يزين، ¬

_ (أ) ساقطة من: الأصل، جـ. والمثبت من الفتح. (ب) في جـ: الحرير.

وكذلك الصوف والوبر، وكل ما ينسج على وجهه ولم يدخل عليه صبغ؛ من خز أو غيره، وكذلك كل صبغ لم يرد به التزين كالسواد وما صبغ لتقبيح، أو لنفي الوسخ عنه، فأما ما كان من زينة، أو وشي في ثوب أو غيره، فلا تلبسه الحادة، وذلك لكل حرة أو أمة، كبيرة أو صغيرة، مسلمة أو ذمية. انتهى كلامه. قال ابن عبد البر (¬1): وقول الشافعي في هذا الباب نحو قول مالك، وقال أبو حنيفة: لا تلبس ثوب عصب ولا خز، وإن لم يكن مصبوغًا، إذا أرادت به الزينة، وإن لم ترد به الزينة فلا بأس بلبس الثوب المصبوغ، وإذا اشتكت عينها اكتحلت. انتهى. وظاهر كلام الأئمة أن مدار النهي على التعليل بالزينة، فالمعصوب إذا كان فيه زينة منعت منه، ويكون الحديث مخصصا بالمعنى المناسب للمنع. وقال [أبو] (أ) محمد بن حزم (¬2): إنها تجتنب الثياب المصبغة فقط، ومباح لها أن تلبس بعدُ ما شاءت من حرير أبيض أو أصفر من لونه الذي لم يصبغ، والصوف الذي من أصله أصفر من غير صبغ، ومباح لها أن تلبس المنسوج بالذهب، والحلي كله من الذهب والفضة والجوهر والياقوت والزمرد وغير ذلك. وهذا جمود منه على ظاهر قوله - صلى الله عليه وسلم -: "ولا تلبس ثوبًا مصبوغا". ويرد عليه في حل الحلي ما في "سنن أبي داود" (¬3) من حديث أم سلمة، أنه قال - صلى الله عليه وسلم -: "المتوفى عنها زوجها لا ¬

_ (أ) ساقطة من: الأصل، جـ.

تلبس المعصفر من الثياب، ولا الممشقة، ولا الحلي، ولا تكتحل، ولا تختضب". إلا أنه قال (¬1): لا يصح الحديث؛ لأنه من رواية إبراهيم بن طهمان بن سعيد الخراساني. ورد عليه بأن إبراهيم من الحفاظ الأثبات الثقات، وقد صحح حديثه ابن المبارك، وأحمد بن حنبل وأبو حاتم (أ) وثَّقاه، وقال ابن معين والعجلي: لا بأس به. وقال أبو حاتم: صدوق حسن الحديث. وقال عثمان بن سعيد الدارمي: كان ثقة في الحديث، لم يزل الأئمة يشتهون حديثه، ويرغبون فيه، ويوثقونه. وقال أبو داود: ثقة. وقال إسحاق بن راهويه: كان صحيح الحديث، حسن الرواية، كثير السماع، ما كان بخراسان أكثر حديثًا منه، وهو ثقة، وروى له الجماعة. وقال يحيى بن أكثم القاضي: كان من أنبل من حدث بخراسان والعراق والحجاز وأوثقهم وأوسعهم علما. وقال المسعودي: سمعت مالك بن سليمان يقول: مات إبراهيم بن طهمان سنة ثمان وستين ومائة بمكة، ولم يخلف مثله (¬2)، وإنما قدح عليه بالإرجاء، كذا ذكر الدارقطني (¬3)، وقد قيل: إنه رجع عن ذلك. وقوله: "ولا تكتحل". فيه دلالة على تحريم الاكتحال على الحادة من دون حاجة، وهو قول الجمهور من العلماء، وقالت طائفة من أهل ¬

_ (أ) في جـ: حامد.

العلم: يجوز مع كراهة؛ جمعًا بين أدلة التحريم والحل، وهو قوله لأم سلمة: "اجعليه بالليل وامسحيه بالنهار". وقال بعض الشافعية: للسوداء أن تكتحل. وكأنهم خصصوا عموم النهي بالمعنى المقصود من الحكم، وهو أن التحريم إنما هو لأجل الزينة، وظاهر النهي سواء دعت إليه حاجة أم لا، وقد ذهب إلى هذا [أبو] (أ) محمد بن حزم، فقال (¬1): لا تكتحل ولو ذهبت عيناها، لا ليلًا ولا نهارًا، وحجته ما في حديث أم سلمة المتفق عليه (¬2): أن امرأة توفي عنها زوجها فخافوا على عينها، فأتوا النبي - صلى الله عليه وسلم - فاستأذنوه في الكحل، فما أذن فيه، بل قال "لا". مرتين أو ثلاثًا. وذهب الجمهور من العلماء كمالك وأحمد وأبي حنيفة والشافعي وأصحابهم إلى أنه يجوز الاكتحال بالإثمد للتداوي، وحجتهم حديث أم سلمة الذي أخرجه أبو داود (¬3)، أنها قالت في كحل الجلاء: لا تكتحلي به إلّا من أمر لا بد منه يشتد عليك، فتكتحلين بالليل، وتغسلينه بالنهار. وقوله (¬4) - صلى الله عليه وسلم -[لأم سلمة] (ب) وقد جعلت على وجهها صبرًا، فقال: "إنه يشب الوجه". فقال: "لا تجعليه إلا بالليل، وتنزعيه بالنهار". قال أبو عمر ابن عبد البر (¬5): وهذا عندي وإن كان مخالفًا لحديثها الآخر الناهي عن الكحل مع الخوف على ¬

_ (أ) ساقطة من: الأصل، جـ. (ب) ساقط من: الأصل.

العين، إلا أنه يمكن الجمع بأنه عرف من حال التي نهاها أن حاجتها إلى الكحل خفيفة غير ضرورية، والإباحة في الليل لدفع الضرر بذلك، فلو كان لا يغني الوضع في الليل جاز لها في النهار، والضرورة تنقل المحرم إلى الإباحة، ولذلك جعل مالك حديث الإباحة في الليل مفسرًا لحديث النهي، وقد ذكر مالك في "موطئه" (¬1) أنه بلغه عن سالم بن عبد الله وسليمان بن يسار، أنهما كانا يقولان في المرأة يتوفى عنها زوجها: إنها (أ) إذا خشيت على بصرها من رمد بعينها، أو شكوى أصابتها، أنها تكتحل وتَداوى بالكحل، وإن كان فيه طيب. قال أبو عمر (¬2): لأن القصد إلى التداوي لا إلى الطيب، والأعمال بالنيات. وقال أبو محمد بن قدامة في "المغني" (¬3): إنما تمنع الحادة من الكحل بالإثمد؛ لأنه الذي (أ) تحصل به الزينة، فأما الكحل بالتوتيا (¬4) والعنزروت (ب) (¬5) ونحوهما فلا بأس به؛ لأنه لا زينة فيه، بل يقبح العين. قال: ولا تمنع من جعل الصبر على غير وجهها من بدنها، لأنه إنما منع منه في الوجه لأنه يصفره فيشبه الخضاب، فلهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إنه يشب الوجه". قال: ولا تمنع من تقليم ¬

_ (أ) ساقط من: الأصل. (ب) في الأصل: العنزردت.

الأظفار، ونتف الإبط، وحلق الشعر المندوب إلى حلقه، ولا من الاغتسال بالسدر، والامتشاط به؛ لحديث أم سلمة، ولأنه يراد للتنظيف لا للطيب. قال الإمام يحيى: ولها أن تدهن بالزيت والسمن. وقوله: "ولا تمس طيبا". فيه دلالة على تحريم الطيب، ولا خلاف في تحريمه عند من أوجب الإحداد، وهو شامل للمسك والعنبر والكافور والند (¬1) والغالية (¬2) والزَّبَاد (¬3) والذريرة (¬4) والبخور، والأدهان المطيبة كماء الورد وماء القرنفل وماء زهر الرانج وغير ذلك. وقوله: "إلا إذا طهرت". يعني إذا اغتسلت عند الطهر من الحيض. وقوله: "نبذة". بضم النون، القطعة من الشيء. وقوله: "من قسط". بقاف مضمومة، "وأظفار". بالواو العاطفة، ويقال: كست. بالكاف. قال أبو عبد الله البخاري (¬5): القسط والكست مثل الكافور والقافور. أي يجوز في كل منهما الكاف والقاف، ويقال بإبدال الطاء في القسط بالتاء المثناة. قال النووي (¬6): القسط والأظفار نوعان معروفان من البخور، وليسا من مقصود الطيب، رخص فيه للمغتسلة من ¬

_ (¬1) الند: ضرب من الطيب يدخَّن به. التاج (ن د د). (¬2) الغالية: نوع من الطيب مركب من مسك وعنبر وعود ودهن. النهاية 3/ 383. (¬3) الزباد: هو نوع من الطيب يجمع من بين أفخاذ هرٍّ معروف يكون بالصحراء، يُصاد ويُطعم قطع اللحم ثم يعرق فيكون من عرق بين فخذيه حينئذ هذا الطيب، وهذا الحيوان أكبر من الهر الأهلي وهو معروف. الجامع لمفردات الأدوية والأغذية 2/ 156. (¬4) الذريرة: نوع من الطيب مجموع من أخلاط. النهاية 2/ 157. (¬5) البخاري 9/ 492 عقب ح 5343. (¬6) صحيح مسلم بشرح النووي 10/ 119.

الحيض لإزالة الرائحة الكريهة، تتبع به أثر الدم، لا للطيب. قال المصنف رحمه الله تعالى (¬1): المقصود من التطيب بهما أن يخلطا في أجزاء أخر من غيرهما، ثم تسحق فتصير طيبًا، والمقصود بهما هنا كما قال [الشيخ] (أ) أن تتبع بهما أثر الدم لإزالة الرائحة لا للتطيب. وزعم الداودي أن المراد أنها تسحق القسط وتلقيه في الماءآخر غسلها لتذهب رائحة الحيض، واستدل به على جواز استعمال ما فيه منفعة لها، وإن كانت ممنوعة منه، إذا استعملته لغير الوجه الذي منعت منه، والله أعلم. وقوله: "ولا تمتشط". النهي محمول على الامتشاط بما فيه طيب، تفسره رواية أبي داود المتقدمة: "ولا تمتشطي بالطيب". والله أعلم. 917 - وعن أم سلمة رضي الله عنها قالت: جعلت على عينيَّ صبرًا بعد أن توفي أبو سلمة، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنه يشب الوجه، فلا تجعليه إلا بالليل، وانزِعيه بالنهار، ولا تمتشطي بالطيب ولا بالحناء، فإنه خضاب". قلت: بأي شيء أمتشط؟ قال: "بالسدر". رواه أبو داود والنسائي (¬2) وإسناده حسن. 918 - وعنها رضي الله عنها، أن امرأة قالت: يا رسول الله، إن ابنتي مات عنها زوجها، وقد اشتكت عينها، أفتكحلها؟ قال: "لا". متفق عليه (¬3). ¬

_ (أ) ساقط من: الأصل، جـ. والمثبت من الفتح.

الحديث أخرجه أبو داود والنسائي من حديث ابن وهب، وفي إسناده المغيرة بن الضحاك (¬1)، عن أم حكيم بنت أَسيد (¬2)، عن أمها، عن [مولاة] (أ) لها، عن أم سلمة، وقد أعله عبد الحق والمنذري (¬3) بجهالة حال المغيرة ومن فوقه، ويؤيده ما رواه الشافعي (¬4) عن مالك، أنه بلغه. فذكر نحوه، ويؤيده رواية "الصحيحين" في جوابه على المرأة المذكورة، والمرأة السائلة هي عاتكة بنت نعيم أخت عبد الله بن نعيم، وزوجها المغيرة المخزومي، وقع مسمى في "موطأ ابن وهب" (¬5)، وقد تقدم ما يتعلق بفقه الحديث. وقوله: "أفتكحلها؟ ". هو بضم الحاء. 919 - وعن جابر رضي الله عنه قال: طلقت خالتي، فأرادت أن تَجُدَّ نخلها، فزجرها رجل أن تخرج، فأتت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: "بل (ب) جدي نخلك، فإنك عسى أن تصدَّقي، أو تفعلي معروفا". رواه مسلم (¬6). ¬

_ (أ) في الأصل، جـ: مولى. والمثبت من مصدر التخريج. (ب) كذا في الأصل، جـ. وفي مسلم: بلى.

بوب له مسلم (¬1): باب جواز خروج المعتدة البائن. فذكره، وأخرجه أبو داود والنسائي (¬2) بزيادة: طلقت خالتي ثلاثًا. دل على جواز خروج المعتدة في عدة البائن من منزلها في النهار للحاجة إلى ذلك، ولا يجوز لغير حاجة، وقد ذهب إلى ذلك علي والقاسم والمنصور بالله وأبو حنيفة، كما أذن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وعلله بالصدقة أو فعل معروف، وظاهره التعليق بالغرض الديني أو الدنيوي، ولقوله تعالى: {لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ} (¬3) الآية. فالآية مطلقة في النهي عن الخروج، والحديث مقيد ذلك بالغرض، وظاهر الآية الإطلاق في البائن والرجعي، قالوا: ويجوز الخروج للحاجة والعذر ليلًا ونهارًا. قالوا: ومن العذر الخوف وخشية انهدام المنزل ونحو ذلك. قال الإمام يحيى: ومن العذر إخراج صاحب المنزل إياها عند انقضاء مدة الإجارة، أو لأجل تعذر الأجرة والإفلاس. قال: لقوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} (¬4). ومثل هذا ذكره في "عجالة المنهاج" للشافعية، قال: وكذا إذا تأذت بالجيران أو هُمْ بها، أذى شديدًا؛ إزالةً للضرر، وقال الله تعالى: {لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إلا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ}. والفاحشة مفسرة بالبذاءة؛ إما على الأحماء، أو غيرهم. انتهى. وذهب مالك والثوري والليث والشافعي وأحمد وآخرون إلى أنه يجوز ¬

_ (¬1) مسلم 2/ 1121. (¬2) أبو داود 2/ 298 ح 2297، والنسائي 6/ 209، وليس عند النسائي لفظ: "ثلاثًا". (¬3) الآية 1 من سورة الطلاق. (¬4) الآية 78 من سورة الحج.

خروجها في النهار مطلقًا (أ)، وحكاه في "البحر" عن أحد قولي الشافعي إلى أنه يجوز الخروج في النهار مطلقا دون الليل، قالوا: للحديث المذكور، وقياسًا على عدة الوفاة. قال الإمام المهدي: قلنا: الجداد عذر، والوفاة صيرتها في حكم الأجنبية. وقد يجاب عنه بأنه إن أراد بالعذر ما يدعو إليه غرض، فالحق ما ذهب إليه المجوزون مطلقًا، وإن أراد بالعذر هو الأمر الذي تدعو إليه الحاجة، ويحصل الضرر بفواته، فالحديث يدل على خلافه، فإنه علله بالصدقة أو فعل المعروف. وقوله: أن تجُدَّ. بالدال المهملة، كذا في النهاية (¬1)، ويدل الحديث على استحباب الصدقة من التمر عند جذاذه، والهدية، واستحباب التعريض لصاحبه بفعل ذلك، والتذكير بالمعروف والبر. وخالة جابر ذكرها أبو موسى (¬2) في "ذيل الصحابة" في المبهمات. 920 - وعن فريعة بنت مالك، أن زوجها خرج في طلب أعبد له فقتلوه، قالت: فسألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن أرجع إلى أهلي، فإن زوجي لم يترك لي مسكنا يملكه ولا نفقة، فقال: "نعم". فلما كنت في الحجرة ناداني، فقال: "امكثي في بيتك حتى يبلغ الكتاب أجله". قالت: فاعتددت فيه أربعة أشهر وعشرا. قالت: فقضى به بعد ذلك عثمان. أخرجه أحمد والأربعة وصححه الترمذي والذهلي وابن حبان ¬

_ (أ) ساقط من: الأصل.

والحاكم وغيرهم (¬1). هي الفريعة، بضم الفاء وفتح الراء وسكون الياء وبالعين المهملة، بنت مالك بن سنان، ويقال لها: الفارعة. وهي أخت أبي سعيد الخدري، شهدت بيعة الرضوان، ولها رواية، حديثها عند أهل المدينة، روت عنها زينب بنت كعب بن عجرة. الحديث أخرجوه كلهم من حديث سعد بن إسحاق بن كعب، عن عمته زينب بنت كعب بن عجرة، عن الفريعة، قال ابن عبد البر (¬2): هذا حديث معروف مشهور عند علماء الحجاز والعراق. وأعله عبد الحق تبعًا لابن حزم (¬3) بجهالة حال زينب (¬4)، [وقال] (أ) (¬5): سعد بن إسحاق غير مشهور العدالة، مالك وغيره يقول فيه: إسحاق بن سعد. وسفيان يقول: ¬

_ (أ) في الأصل: وبأن.

سعيد. وتعقب بأن زينب هذه من التابعيات، وهي امرأة أبي سعيد، روى عنها سعد بن إسحاق وليس بسعيد، وقد ذكرها ابن حبان في كتاب "الثقات" (¬1)، والذي غرَّ أبا محمد قول علي بن المديني (¬2): لم يرو عنها غير سعد بن إسحاق. هذا مدفوع أيضًا؛ فإنه قد روى عنها [سليمان] (أ) بن محمد بن كعب بن عجرة حديث: اشتكى الناس عليًّا، فقام النبي - صلى الله عليه وسلم - خطيبا، فسمعته يقول: "يأيها الناس، لا تشكوا عليًّا، فوالله إنه لأخشن في ذات الله أو في سبيل الله" (¬3). فهي امرأة تابعية كانت تحت صحابي، روى عنها الثقات ولم يطعن فيها بحرف، واحتج الأئمة بحديثها وصححوه، وأيضًا فإن سعد بن إسحاق (¬4) وثقه يحيى بن معين والنسائي والدارقطني. وقال أبو حاتم (¬5): صالح. وذكره ابن حبان في [كتاب] (ب) "الثقات" (¬6). وقد روى عنه الناس؛ حماد بن زيد، وسفيان الثوري، وعبد العزيز الدراوردي، وابن جريج، ومالك بن أنس، ويحيى بن سعيد الأنصاري، والزهري وهو أكبر منه، وحاتم بن إسماعيل، وداود بن قيس، ¬

_ (أ) في الأصل: سلما. وفي جـ: سلمان. والمثبت هو الصواب، وينظر التاريخ الكبير 4/ 35. (ب) في الأصل، جـ: كتب.

وخلق سواهم من الأئمة، ولم يعلم فيه بقدح ولا بجرح، ومثل هذا يحتج به اتفاقًا. الحديث فيه دلالة على أن المتوفى عنها تعتد في بيتها الذي نوت الاعتداد فيه ولا تخرج منه إلى غيره؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - قال: "امكثي في بيتك حتى يبلغ الكتاب أجله". وقد ذهب إلى هذا جماعة من الصحابة والتابعين ومن بعدهم؛ فروى سعيد بن المسيب أن عمر رد نسوة من ذي الحليفة حاجات أو معتمرات، توفي عنهن أزواجهن (¬1). وقال عبد الرزاق (¬2) عن مجاهد: كان عمر وعثمان يرجعانهن حاجات أو معتمرات من الجحفة أو ذي الحليفة. وأخرج أن امرأة زارت أهلها وهي متوفى عنها في عدتها، فضربها الطلق، فأتوا عثمان فقال: احملوها إلى بيتها وهي تطلق (¬3). وأخرج عن ابن عمر أنه كانت له ابنة تعتد من وفاة زوجها، فكانت تأتيهم بالنهار فتحدث إليهم، فإذا كان الليل أمرها أن ترجع إلى ييتها (¬4). وأخرج ابن أبي شيبة (¬5)، أن عمر رخص للمتوفى عنها أن تأتي أهلها بياض يومها، وأن زيد بن ثابت رخص لها في بياض يومها. وأخرج عبد الرزاق (¬6) عن ابن مسعود في نساء نعي إليهن أزواجهن، وشكين الوحشة، فقال ابن مسعود: يجتمعن بالنهار، ثم ترجع كل امرأة منهن إلى بيتها بالليل. وأخرج الحجاج بن المنهال أن امرأة سألت أم ¬

_ (¬1) مالك 2/ 591، وعبد الرزاق 7/ 33 ح 12072، والطحاوي في شرح المعاني 3/ 79. (¬2) عبد الرزاق 7/ 33 ح 12071. (¬3) عبد الرزاق 7/ 32 ح 12067. (¬4) عبد الرزاق 7/ 31 ح 12064. (¬5) ابن أبي شيبة 5/ 186، 187. (¬6) عبد الرزاق 7/ 32 ح 12068.

سلمة بأن أبي مريض، وأنا في عدة، أفآتيه أمرضه؟ قالت: نعم، [ولكن] (أ) بيتي أحد طرفي الليل في بيتك (¬1). وأخرج سعيد بن منصور (¬2) أنه سئل الشعبي عن ذلك، فقال: كان أكثر أصحاب ابن مسعود أشد شيء في ذلك، يقولون: لا تخرج. وكان الشيخ -يعني علي بن أبي طالب- يرحلها. وأخرج حماد بن سلمة أن عروة بن الزبير قال: المتوفى عنها زوجها تعتدُّ في بيتها إلا أن ينتوي أهلها فتنتوي معهم (¬3). وأخرج سعيد بن منصور (¬4) عن القاسم بن محمد، وسالم بن عبد الله، وسعيد بن المسيب، قالوا: لا تبرح المتوفى عنها حتى تنقضي عدتها. وأيضًا عن عطاء وجابر كذلك (¬5). وأخرج وكيع (¬6) عن إبراهيم النخعي: لا بأس أن تخرج بالنهار، ولا تبيت إلا في منزلها. وأخرج حماد عن ابن سيرين في مريضة نقلها أهلها بعد وفاة زوجها، ثم سألوا، فكلهم يأمرهم أن ترد إلى بيتها. قال ابن سيرين: فرددناها في نمط (¬7). وقال بهذا أحمد، ومالك، والشافعي، وأبو حنيفة، وأصحابهم، والأوزاعي، وأبو عبيد، وإسحاق. وقال ابن عبد البر (¬8): وبه يقول جماعة فقهاء الأمصار بالحجاز والشام والعراق ومصر، وقضى به ¬

_ (أ) ساقط من: الأصل، جـ. والمثبت من مصدر التخريج.

عثمان بمحضر من المهاجرين والأنصار، وتلقاه أهل الشام والحجاز والعراق ومصر بالقبول، ولم يطعن أحد منهم في حديث الفريعة ولا في رواته. ويجب لها السكنى في مال زوجها؛ لقوله تعالى: {غَيْرَ إخْرَاجٍ} (¬1). والآية الكريمة وإن كان قد نسخ منها استمرار النفقة والكسوة حولًا، فالسكنى باق حكمها مدة العدة كما قال الشافعي رحمه الله تعالى (¬2): حفظت عمن أرضى به من أهل العلم أن نفقة المتوفى عنها زوجها وكسوتها حولًا منسوختان بآية الميراث، ولم أعلم مخالفًا فيما وصفت من نسخ نفقة المتوفى عنها زوجها وكسوتها سنة أو أقل من سنة. ثم قال: ثم احتمل سكناها [إذ] (أ) كان مذكورًا مع نفقتها بأن يقع عليها اسم المتاع أن يكون منسوخًا في السَّنة وأقل منها، كما كانت الكسوة والنفقة منسوخة، واحتمل أن يكون نسخ في السنة، وأثبت في عدة المتوفى عنها حتى تنقضي بآخر (ب) هذه الآية، يعني قوله: {غَيْرَ إِخْرَاجٍ}. وأن تكون داخلة في جملة المعتدات؛ فإن الله تعالى يقول في المطلقات: {لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إلا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} (¬3). فلما فرض الله سبحانه في المعتدة من الطلاق السكنى، وكانت المعتدة من الوفاة في معناها، احتملت أن يجعل لها السكنى؛ لأنها في معنى المعتدات، فإن [كان] (جـ) هذا ¬

_ (أ) في الأصل، جـ: إذا. والمثبت من الأم. (ب) في الأم: بأصل. (جـ) ساقط من: الأصل.

هكذا، فالسكنى لها في الكتاب منصوص أو في معنى من نُصَّ لها بالسكنى، وإن لم يكن هذا ففرض السكنى لها في السنة. وهذا ما فهم من حديث الفريعة، وهذا أصح قوليه رحمه الله تعالى. وقال الشافعي في كتاب العدد (¬1): الاختيار لورثة الميت أن يسكنوها، وإن لم يفعلوا فقد ملكوا المال دونه، ولأن قوله - صلى الله عليه وسلم -: "امكثي في بيتك". وقد ذكَرَتْ أنه لا بيت لزوجها -يدل على وجوب سكونها في بيت زوجها إذا كان له بيت بالطريق الأولى. وهذا القول ذهب إليه الإمام يحيى، وقواه الإمام المهدي في "البحر" قال: قلت: وهو قوي. وذهب جمع من الصحابة والتابعين والأئمة إلى أنه لا سكنى للمتوفى عنها؛ فأخرج عبد الرزاق (¬2)، عن عروة بن الزبير، أن عائشة كانت تفتي المتوفى عنها بالخروج في عدتها، وخرجت بأختها أم كلثوم حين قتل عنها طلحة بن عبيد الله إلى مكة في عمرة. وأخرج عن ابن عباس، أنه قال: إنما قال الله عزَّ وجلَّ: تعتد أربعة أشهر وعشرًا. ولم يقل: تعتد في بيتها. فتعتد حيث شاءت (¬3). ومثله أخرجه علي بن المديني (¬4). وأخرج عبد الرزاق (¬5) أن جابر بن عبد الله يقول: تعتد المتوفى عنها حيث شاءت. وأخرج عن الشعبي أن علي بن أبي طالب كان يرحل المتوفى عنهن في عدتهن (¬6). وأخرج عن طاوس وعطاء أنهما قالا: المتوفى ¬

_ (¬1) الأم 5/ 227. (¬2) عبد الرزاق 7/ 29 ح 12054. (¬3) عبد الرزاق 7/ 29 ح 12051، 12052. (¬4) أخرجه ابن حزم في المحلى 11/ 672 من طريق ابن المديني. (¬5) عبد الرزاق 7/ 30 ح 12059. (¬6) عبد الرزاق 7/ 30 ح 12056.

عنها والمبتوتة تحجان وتعتمران وتنتقلان وتبيتان (¬1). وأخرج عن عطاء قال: لا يضر المتوفى عنها أين اعتدت (¬2). وقال ابن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن عطاء وأبي الشعثاء قالا جميعا: المتوفى عنها تخرج في عدتها حيث شاءت (¬3). وأخرج ابن أبي شيبة (¬4)، عن عطاء: المطلقة ثلاثا والمتوفى عنها تحجان في عدتهما. قال (¬5): الحسن يقول مثل ذلك. وأخرج ابن وهب عن عمر بن عبد العزيز، أن المتوفى عنها وهي في سفر تلحق بأهلها ودار أبيها فتعتد فيهما (¬6). وأخرج عن يحيى بن سعيد الأنصاري في رجل توفي بالإسكندرية ومعه امرأته [وله بها دار] (أ) وله بالفسطاط دار، فقال: إن أحبت أن تعتد حيث توفي زوجها فلتعتد، وإن أحبت أن ترجع إلى دار زوجها وقراره بالفسطاط فتعتد فيها فلترجع (6). وأخرج مثل ذلك عن ابن عمر (6). وذهب إلى هذا القول الهادي في أنه لا تجب لها السكنى، وأن الواجب (ب) عليها ألا تبيت إلا في منزلها، وحجتهم كما تقدم في كلام ابن عباس أن الله أمرها باعتداد أربعة أشهر وعشر، ولم يأمرها بمكان معين. وما ¬

_ (أ) ساقط من: جـ، والمحلى. (ب) في جـ: أوجب.

أخرجه أبو داود (¬1)، عن ابن عباس أنه قال: نسخت هذه الآية عدتها عند أهلها، فتعتد حيث شاءت. قال عطاء: ثم جاء الميراث فنسخ السكنى، فتعتد حيث شاءت. والجواب ما عرفت في حكاية القول الأول، وأن النسخ غير ثابت، والسنة قائمة بثبوت السكنى في حديث الفريعة من غير وضوح المعارض، قال في "الهدي" (¬2): وعلى القول بثبوت السكنى، فهو حق عليها إذا تركه لها الورثة، ولم يكن عليها فيه ضرر، أو كان المسكن لها، فلو حولها الوارث أو طلبوا منها الأجرة، لم يلزمها المسكن، وجاز لها التحول، وفي انتقالها إلى حيث شاءت، أو يتعين [عليها] (أ) السكون في أقرب المساكن إلى مسكن الوفاة قولان، فإن خافت هدما أو غرقا، أو [نحو ذلك أو] (ب) حولها صاحب المنزل لكونه [عارية] (ب)، أو إجارة انقضت مدتها، أو منعها السكنى تعديا، أو امتنع من إجارته، أو طلب أكثر من أجرة المثل، أو لم تجد ما تكتري به، أو لم تجد إلا من مالها، فلها أن تنتقل؛ لأنها حال عذر، ولا يلزمها بذل أجرة المسكن، وإنما الواجب عليها فعل السكنى لا تحصيل المسكن، فإذا تعذرت السكنى سقطت. هذا قول أصحاب أحمد والشافعي، فإن قيل: فهل السكنى حق على الورثة تقدم الزوجة به على الغرماء أو على الميراث، أو لا حق لها في التركة سوى ¬

_ (أ) في الأصل: لها. (ب) ساقط من: الأصل.

الميراث؟ قيل: هذا موضع اختلف فيه؛ فقال الإمام أحمد: إن كانت حائلًا فلا سكنى لها في التركة ولكن عليها ملازمة المنزل إذا بذل لها كما تقدم، وإن كانت حاملًا ففيه روايتان؛ إحداهما: أن الحكم كذلك. والثاني: أن لها السكنى حق ثابت في المال تقدم به على الورثة والغرماء، ويكون من رأس المال. ولا تباع الدار في دينه بيعا يمنعها سكناها (أ) حتى تنقضي عدتها، وإن تعذر ذلك فعلى الوارث أن يكتري لها منزلًا من مال الميت، فإن لم يفعل أجبره الحاكم، وليس لها أن تنتقل عنه إلا لضرورة، وإن اتفق الوارث والمرأة على نقلها عنه لم يجز؛ لأنه يتعلق بهذه السكنى حق الله تعالى، فلم يجز اتفاقهما على إبطالها. هذا مقتضى نص الأئمة، وهو منصوص أحمد، وعنه رواية ثالثة، أن للمتوفى عنها السكنى بكل حال حاملا كانت أو حائلا، فصار في مذهبه ثلاث روايات؛ وجوبها للحامل والحائل، وإسقاطها في حقهما، ووجوبها للحامل دون الحائل. هذا تحصيل مذهبه في المتوفى عنها. وأما مذهب مالك، فلها السكنى حاملا كانت أو حائلا، وإيجاب السكنى عليها مدة العدة، قال أبو عمر (¬1): فإذا كان المسكن بكراء، فقال مالك: هي أحق بسكناه من الورثة والغرماء، وهو من رأس مال المتوفى، إلا أن يكون إجارة مع الزوج، وأراد أهل المسكن إخراجها، وإذا كان المسكن لزوجها، لم يبع في دينه حتى تنقضي عدتها. وقال غيره من أصحاب مالك: هي أحق بالسكنى من الورثة والغرماء، إذا كان الملك ¬

_ (أ) في جـ: سكانها.

للميت، أو كان قد أدى كراءه. وفي "التهذيب": لا سكنى لها في مال الميت، وإن كان موسرا. وروى محمد عن مالك أن الكراء لازم للميت في ماله، ولا تكون الزوجة أحق به، وتحاص الورثة في السكنى، وللورثة إخراجها، إلا أن تحب السكنى في حصتها، أو تؤدي كراء حصتهم. وأما مذهب الشافعي، فإن له في سكنى المتوفى عنها قولين؛ أحدهما: لها السكنى حاملا كانت أو حائلا. والثاني: لا سكنى لها حاملا كانت أو حائلا. ويجب عنده ملازمتها للمسكن في العدة بائنا كانت أو متوفًّى عنها، وملازمة البائن للمنزل آكد من ملازمة المتوفَّى عنها؛ فإنه يجوز للمتوفى عنها الخروج نهارا لقضاء حوائجها، ولا يجوز ذلك للبائن في أحد قوليه وهذا القديم، ولا يوجبه في الرجعية بل تستحقه. وأما أحمد فعنده ملازمة المتوفى عنها آكد من الرجعية، ولا يوجبه في البائن، وأورد أصحاب الشافعي على نصه بوجوب ملازمة المنزل على المتوفى عنها مع نصه في أحد القولين، على أنه لا سكنى لها، وقالوا: كيف يجتمع النصان؟ وأجابوا بجوابين؛ أحدهما: أنه لا يجب عليها ملازمة المنزل على ذلك القول، لكن لو التزم الوارث أجرة المسكن وجبت عليها اللازمة حينئذ. وأطلق أكثر أصحابه الجواب هكذا. والثاني: أن ملازمة المنزل واجبة عليها، ما لم يكن عليها فيه ضرر، بأن تطالب بالأجرة، أو يخرجها الوارث أو المالك، فيسقط حينئذ. وأما أصحاب أبي حنيفة، فقالوا: لا يجوز للمطلقة الرجعية ولا للبائن الخروج من بيتها ليلا ولا نهارا، وأما المتوفى عنها فتخرج نهارا وبعض الليل، ولكن لا تبيت إلا في منزلها. قالوا: والفرق أن المطلقة نفقتها في مال زوجها، فلا يجوز لها الخروج كالزوجة، بخلاف المتوفى عنها، فإنها لا

نفقة لها، فلا بد أن تخرج في النهار لإصلاح حالها. قالوا: وعليها أن تعتد في المنزل الذي يضاف إليها بالسكنى حال وقوع الفرقة، قالوا: فإن كان نصيبها من دار الميت لا يكفيها أو أخرجها الورثة من نصيبهم انتقلت؛ لأن هذا عذر، والسكون في بيتها عبادة، والعبادة تسقط بالعذر. قالوا: فإن عجزت عن كراء البيت الذي هي فيه لكثرته، فلها أن تنتقل إلى بيت أقل منه كراء. وهذا من كلامهم يدل على أن أجرة السكن عليها، وإنما يسقط عنها لعجزها عن أجرته. ولهذا صرحوا بأنها تسكن في نصيبها من التركة إن كفاها، وهذا لأنه لا سكنى عندهم للمتوفى عنها حاملا كانت أو حائلا، إنما عليها أن تلزم مسكنها الذي توفي زوجها وهي فيه ليلا ونهارا، فإن بذله لها الورثة، وإلا كانت الأجرة عليها. فهذا تحرير مذاهب الناس في هذه المسألة ومآخذ الخلاف فيها، وبالله التوفيق. انتهى كلام "الهدي النبوي". وأما مذهب الهادي، فهي لا تستحق السكنى حائلا كانت أو حاملا، ولا تبيت إلا في منزلها، ويجوز لها الخروج نهارا. ومذهب زيد بن علي أنه لا سكنى لها، ولها الخروج من موضع عدتها والانتقال إلى غيره. 921 - وعن فاطمة بنت قيس رضي الله عنها قالت: قلت: يا رسول الله، إن زوجي طلقني ثلاثا، وأخاف أن يقتحم عليَّ. قالت: فأمرها فتحولت رواه مسلم (¬1). الحديث فيه دلالة على أن المطلقة بائنة يجب عليها الاعتداد في بيتها، ¬

_ (¬1) مسلم، كتاب الطلاق، باب المطلقة ثلاثا لا نفقة لها 2/ 1121 ح 1482.

وأنه يجوز الخروج للعذر، وقد تقدم الكلام على أحكام الحديث (¬1). وقوله: يقتحم علي. أي يدخل بغير رضاي، والاقتحام هو الدخول في الأمر على كره وشدة. 922 - وعن عمرو بن العاص قال: لا تلبسوا علينا سنة نبينا؛ عدة أم الولد إذا توفي عنها سيدها أربعة أشهر وعشر. رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه، وصححه الحاكم، وأعله الدارقطني بالانقطاع (¬2). الحديث؛ قال ابن المنذر (¬3): ضعفه أحمد وأبو عبيد. وقال محمد بن موسى (¬4): سألت أبا عبد الله عنه، فقال: لا يصح. وقال الميموني (¬5): رأيت أبا عبد الله يعجب من حديث عمرو بن العاص هذا، ثم قال: [أين] (أ) سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا؟ وقال: أربعة أشهر وعشر، إنما هي عدة الحرة من النكاح، وإنما هذه أمة خرجت من الرق إلى الحرية. وقال المنذري: في إسناد حديث عمرو مطر بن طهمان أبو رجاء الوراق، وقد ضعفه غير واحد، وقال ¬

_ (أ) في الأصل، جـ: أي. والمثبت من مصدر التخريج.

المزي في "التهذيب" (¬1): قال أبو طالب: سألت أحمد بن حنبل عن مطر الوراق، فقال: كان يحيى بن سعيد يضعف حديثه عن عطاء. وفال عبد الله بن أحمد بن حنبل: سألت أبي عن مطر الوراق، قال: كان يحيى بن سعيد يشبه حديث مطر الوراق بابن أبي ليلي في سوء الحفظ. قال عبد الله: فسألت أبي عنه، فقال: ما أقربه بابن أبي ليلى في عطاء خاصة. وقال: مطر في عطاء ضعيف الحديث. قال عبد الله: قلت ليحيى بن معين: مطر الوراق؟ فقال: ضعيف في حديث عطاء بن أبي رباح. وقال النسائي: ليس بالقوي، وبعد فهو ثقة. وقال أبو حاتم الرازي (¬2): صالح الحديث. وذكره ابن حبان في كتاب "الثقات" (¬3)، واحتج به مسلم، فلا وجه لضعف الحديث به، وإنما علة الحديث أنه من رواية قبيصة بن ذؤيب، عن عمرو بن العاص، ولم يسمع منه. قاله الدارقطني. وقال الدارقطني (¬4): هو موقوف على عمرو؛ لأنه لم يقل: لا تلبسوا علينا سنة نبينا. والصواب: لا تلبسوا علينا ديننا. فهو موقوف. وله علة أخرى ذكرها البيهقي وهي الاضطراب، فإنه قد روي على ثلاثة أوجه؛ أحدها: هذا. والثاني: عدة أم الولد عدة الحرة. والثالث: عدتها إذا توفي عنها سيدها أربعة أشهر وعشر، فإذا عتقت فعدتها ثلاث حيض. والأقاويل الثلاثة عنه ذكرها البيهقي (¬5)، ¬

_ (¬1) تهذيب الكمال 28/ 53، 54. (¬2) الجرح والتعديل 8/ 288. (¬3) الثقات 5/ 435. (¬4) سنن الدارقطني 3/ 309. (¬5) البيهقي في السنن الكبرى 7/ 448.

وقال: قال الإمام أحمد: حديث منكر. وقد روى خلاس (أ) عن علي مثل رواية قبيصة عن عمرو، ولكن خلاس بن عمرو (ب) (¬1) قد تكلم في حديثه؛ فقال أيوب (¬2): لا يروى عنه فإنه صحفي، وكان مغيرة لا يعبأ بحديثه. وقال أحمد (¬3): روايته عن علي يقال: إنها كتاب. وقال البيهقي (¬4): روايات خلاس عن علي ضعيفة عند أهل العلم بالحديث، يقال: هي من صحيفة. ومع ذلك فقد روى مالك، عن نافع (¬5)، عن ابن عمر في أم الولد يتوفى عنها سيدها، قال: تعتد بحيضة. فإن ثبت عن علي وعمرو ما روي عنهما فهي مسألة نزاع بين الصحابة. الحديث فيه دلالة على أن أم الولد إذا توفي عنها سيدها، أن عدتها عدة الزوجة الحرة المتوفى عنها. وقد ذهب إلى هذا الأوزاعي والإمام يحيى، وهو رواية عن الناصر، وهو قول الظاهرية وإسحاق. وروي عن ابن المسيب وسعيد بن جبير والحسن وابن سيرين (¬6)، قالوا: قياسا على الحرة، فإنها لما ¬

_ (أ) ساقط من: جـ. (ب) في جـ: عمر.

عتقت بالموت وهي موطوءة للسيد، فقد صارت عدة حرة بسبب الموت، وهي أربعة أشهر وعشر. وذهب مالك والشافعي وأحمد والليث وأبو ثور وجماعة إلى أن عدتها حيضة، وبه قال ابن عمر، وهو قول عروة بن الزبير والقاسم بن محمد والشعبي والزهري. قال مالك: فإن كانت ممن لا تحيض اعتدت ثلاثة أشهر ولها السكنى. وقال أبو حنيفة وأصحابه والثوري: عدتها ثلاث حيض. وهو قول علي وابن مسعود رضي الله عنه وعطاء والنخعي. وقال قوم: عدتها نصف عدة الحرة. وعند الهدوية وهو قول مكحول، ونسبه في "البحر" إلى القاسمية، أنها تعتد بحيضتين. وحجة مالك ومتابعيه أنها ليست زوجة فتعتد عدة الوفاة، ولا مطلقة فتعتد عدة ثلاث حيض، فلم يبق إلا استبراء رحمها، وذلك يكون بحيضة تشبيها بالأمة يموت عنها سيدها، وذلك مما لا خلاف فيه. وحجة أبي حنيفة أن العدة إنما وجبت عليها وهي حرة وليست بزوجة فتعتد عدة الوفاة، ولا بأمة فتعتد عدة أمة، فوجب أن يُستبرأ رحمها بعدة الأحرار. وحجة من أوجب عليها نصف عدة الحرة تشبيهها بالزوجة الأمة، وحجة قول الهدوية هو تشبيهها بعدة البائع والمشتري، فإنهم يوجبون على البائع الاستبراء بحيضة، وعلي المشتري كذلك، والجامع زوال الملك، وندبت ثالثة، قال في "البحر": لقول علي (أ) رضي الله عنه وهو توقيف. قال في "الغيث": ولأن عدة الوفاة لما خالفت عدة الطلاق ¬

_ (أ) كتب في حاشية الأصل: وهو ما روي عن علي رضي الله عنه أنه قال: أم الولد إذا مات عنها سيدها تعتد ثلاث حيض. وكتب بعدها: من خط المؤلف رحمه الله.

في الحرة على سبيل الوجوب، خالفت هنا على سبيل الاستحباب. قال ابن رشد المالكي (¬1): سبب الخلاف أنها مسكوت عنها، وهي مترددة الشبه بين الأمة والحرة، فأما من شبهها بالزوجة الأمة فضعيف، وأضعف منه من شبهها بعدة الحرة المطلقة. انتهى. وإذا عرفت ما ذكرناه من رجوع الأقوال إلى ما ذكر، فالرجوع إلى ما دل عليه حديث عمرو أولى؛ لأنه (أ) وإن كان فيه المقال المذكور فقد تأيد بغيره (ب) وبالقياس المذكور، والله أعلم. 923 - وعن عائشة رضي الله عنها قالت: إنما الأقراء الأطهار. أخرجه مالك في قصة بسند صحيح (¬2). الحديث قال الشافعي (¬3): أخبرنا مالك، عن ابن شهاب، عن عروة، عن عائشة، أنها قالت وقد جادلها في ذلك ناس، وقالوا: إن الله يقول: {ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} (¬4). فقالت عائشة: صدقتم، وهل تدرون ما الأقراء؟ الأقراء الأطهار. قال الشافعي: أخبرنا مالك، عن ابن شهاب قال: ما أدركت أحدًا من فقهائنا إلا وهو يقول هذا. يريد الذي قالت عائشة. الحديث فيه دلالة على أن الأقراء التي ذكرت في العدة هي الأطهار، ¬

_ (أ) في جـ: فإنه. (ب) في جـ: تفسيره.

واعلم أن القرء -بفتح القاف وضمها- يطلق في اللغة على الطهر وعلى الحيض، واختلفوا هل هو مشترك بينهما، أو حقيقة في أحدهما مجاز في الآخر؟ قال الجوهري (¬1): القرء بالفتح الحيض، والجمع أقراء وقروء، وفي الحديث: [دعي الصلاة] (أ) أيام أقرائك" (¬2). والقرء أيضًا الطهر، وهو من الأضداد (¬3). وقال أبو عبيد (ب) (¬4): الأقراء الحيض. ثم قال: الأقراء الأطهار. وقال الكسائي (¬5): والقرء؛ أقرأت المرأة، إذا حاضت. وقال ابن فارس (¬6): القروء أوقات، يكون للطهر مرة، وللحيض مرة، والواحد قرء، ويقال: القرء هو الطهر. ثم قال: وقوم يذهبون إلى أن القرء الحيض. فحكى قول من جعله مشتركًا بين أوقات الطهر والحيض، وقول من جعله لأوقات الطهر، وقول من جعله لأوقات الحيض، وكأنه لم يختر واحدًا منهما، بل جعله لأوقاتهما، قال: وأقرأت المرأة إذا خرجت من الحيض إلى الطهر، ومن الطهر إلى الحيض. وفي كلامه دلالة على أنه لا يقال للطهر إلا إذا كان الحيض متقدمًا عليه أو متأخرًا عنه، فلا يقال لطهر الصغيرة والآيسة: قرء. ¬

_ (أ) في الأصل، جـ: لا. والمثبت من الصحاح. (ب) في جـ: عبد الله.

والأظهر أنه لفظ مشترك. وذهب الإمام يحيى والهادي إلى أنه حقيقة في الحيض مجاز في الطهر. وذهب بعض الشافعية إلى العكس، والأكثر منهم إلى الاشتراك، ولا خلاف أن المراد به في قوله تعالى: {ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ}. أحدهما لا مجموعهما، وذهب عبد الله بن عمر (أ) وزيد بن ثابت وعائشة (¬1) -وهو مروي عن الفقهاء السبعة فقهاء المدينة، وأبان بن عثمان، والزهري، وعامة فقهاء المدينة- ومالك، والشافعي، وأحمد في إحدى الروايتين عنه -وهو مروي عن علي رضي الله عنه (¬2) - أن الأقراء الأطهار المراد بها في الآية الكريمة في قوله تعالى: {ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ}. قال الشافعي (¬3): ويدل على ذلك دلالتان؛ إحداهما، الكتاب الذي دل عليه السنة، والأخرى، اللسان؛ فالكتاب قال الله تعالى: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} (¬4). وقد قال - صلى الله عليه وسلم - في حديث ابن عمر: "ثم تطهر، ثم إن شاء أمسك، وإن شاء طلق، فتلك العدة التي أمر الله أن تطلق لها النساء" (¬5). وفي حديث أبي الزبير، أنه سمع ابن عمر يذكر طلاق امرأته حائضًا، فقال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا طهرت فليطلق أو يمسك". وتلا النبي - صلى الله عليه وسلم -: إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لقبل عِدَّتِهِنَّ، أو في قبل ¬

_ (أ) في جـ: عمرو.

عدتهن) " (¬1). قال الشافعي: أنا شككت، فأخبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الله عزَّ وجلَّ أن العدة بالطهر دون الحيض وقرأ: (فطلقوهن لقبل عدتهن). وهو أن يطلقها طاهرًا، لأنها (أ) حينئذ تستقبل (ب) عدتها، ولو طلقت حائضًا لم تكن مستقبلة عدتها إلا بعد الحيض. واللسان، هو أن القرء اسم معناه الحبس، تقول العرب: هو يقرأ الماء في حوضه. و: في سقائه. وتقول العرب: يقرأ الطعام في شدقه. يعني يحبس الطعام في شدقه. وتقول العرب إذا حبس الرجل الشيء: قرأه. يعني خبأه، وقال عمر: العرب تقرأ في صحافها. أي تحبس في صحافها. وقال الأعشى (¬2): أفي (جـ) كل عام أنت جاشم غزوة ... تحل (د) لأقصاها عزيم عزائكا مورثة عزا وفي الحي (هـ) رفعة ... لما ضاع فيها من قروء نسائكا فالقرء في البيت بمعنى الطهر؛ لأنه ضيع أطهارهن في غزاته وآثرها عليهن. وذهب جماعة من أكابر الصحابة وغيرهم إلى أن الأقراء هي الحيض، أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وابن مسعود وأبو موسى وعبادة بن ¬

_ (أ) في جـ: لأنه. (ب) بعده في جـ: بقبل. (جـ) في الديوان: وفي. (د) في الديوان: تشد. (هـ) في الديوان: الحمد.

الصامت وأبو الدرداء وابن عباس ومعاذ بن جبل (¬1). وهو قول أصحاب عبد الله بن مسعود كلهم؛ كعلقمة والأسود وإبراهيم وشريح، وقول الشعبي والحسن وقتادة، وقول أصحاب ابن عباس؛ سعيد بن جبير وطاوس، وهو قول سعيد بن المسيب، وهو قول أئمة الحديث؛ كإسحاق بن إبراهيم وأبي عبيد القاسم والإمام أحمد، فإنه رجع إليه واستتقر عليه مذهبه، وكان يقول أولًا: إنه الطهر. وهو قول أئمة أهل الرأي، كأبي حنيفة وأصحابه، قالوا: لأنه لم يستعمل في كلام الشارع إلا للحيض كقوله - صلى الله عليه وسلم - للمستحاضة: "دعي الصلاة أيام أقرائك" (¬2). وقوله تعالى: {وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ} (¬3). وهذا هو الحيض أو (أ) الحمل؛ لأن المخلوق في الرحم هو أحدهما. وبهذا قال السلف والخلف، هو الحمل والحيض. وقال بعضهم: الحمل. وبعضهم: الحيض. ولم يقل أحد: إنه الطهر. ولما رواه أبو داود وابن ماجه والترمذي (¬4) من حديث عائشة، أنه قال - صلى الله عليه وسلم -: "طلاق الأمة تطليقتان، وعدتها حيضتان". قال الترمذي: غريب لا نعرفه إلا من حديث مظاهر بن أسلم (¬5)، ومظاهر لا ¬

_ (أ) في جـ: و.

يعرف له في العلم غير هذا الحديث. ولفظ الدارقطني (¬1) فيه: "طلاق العبد اثنتان". وروى ابن ماجه (¬2)، من حديث عطية العوفي، عن ابن عمر، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "طلاق الأمة اثنتان، وعدتها حيضتان". وأخرج ابن ماجه (¬3)، عن عائشة رضي الله عنها قالت: أمرت بريرة أن تعتد ثلاث حيض. وأخرج النسائي (¬4): أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر امرأة ثابت بن قيس بن شماس لما اختلعت، أن تتربص حيضة واحدة، وتلحق بأهلها. ومثله في "سنن أبي داود" (¬5). وفي الترمذي (¬6)، أن الربيع بنت معوذ اختلعت على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأمرها النبي - صلى الله عليه وسلم -، أو أمرت، أن تعتد بحيضة. وروى أحمد وابو داود (¬7) في سبايا أوطاس: "لا توطأ حامل حتى تضع، ولا غير ذات حمل حتى تحيض حيضة". وقد أجيب من جانب من قال: الأقراء الأطهار. بجوابين؛ مجمل ومفصل؛ أما المجمل؛ فهو أن النبي - صلى الله عليه وسلم - فسر العدة التي أمر الله أن تطلق لها النساء بالأطهار، فلا التفات بعد ذلك إلى شيء يخالفه، ولأن عائشة أم المؤمنين زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - تكلمت فيما يتعلق بالنساء، وهو العدة، وقالت: إن الأقراء الأطهار. و: ¬

_ (¬1) الدارقطني 4/ 39 ح 113. (¬2) ابن ماجه 1/ 672 ح 2079. (¬3) ابن ماجه 1/ 671 ح 2077. (¬4) النسائي 6/ 186. (¬5) أبو داود 2/ 276، 277، ح 2229. (¬6) الترمذي 3/ 491 ح 1185. (¬7) أحمد 3/ 28، وأبو داود 2/ 254 ح 2157.

إذا قالت حذام فصدقوها ... فإن القول ما قالت حذام (¬1) وأما الجواب المفصل؛ فحديث: "دعي الصلاة أيام أقرائك" (¬2). فقد أجاب عنه الشافعي، قال (¬3): زعم إبراهيم بن إسماعيل بن علية: الأقراء الحيض. واحتج بحديث سفيان عن أم سلمة أنه - صلى الله عليه وسلم - قال في امرأة استحيضت أن تدع الصلاة أيام أقرائها. قال الشافعي: وما حدث بهذا سفيان قط، إنما قال سفيان، عن أم سلمة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "تدع الصلاة عدد الليالي والأيام التي كانت تحيضهن (أ) " (¬4). أو قال: "أيام أقرائها". الشك من أيوب الذي روى عنه سفيان لا يدري قال هذا [أو] (ب) هذا، فجعله هو حديثا على ناحية ما يريد، فليس هذا بصدق. قال (¬5): وقد أخبرنا مالك، عن نافع، عن سليمان بن يسار، عن أم سلمة، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لتنتظر عدد الليالي والأيام التي كانت تحيضهن من الشهر قبل أن يصيبها الذي أصابها، ثم لتدع الصلاة، ثم لتغتسل ولتصل". "ونافع أحفظ عن سليمان من أيوب، يقول بمثل أحد معنيي أيوب الذي رواهما. انتهى كلامه. وأما قوله تعالى: {وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي ¬

_ (أ) في جـ، ونسخة من سنن البيهقي: تحيض. (ب) في جـ: و.

أَرْحَامِهِنَّ} (¬1). فإنه الحيض أو الحبل أو كلاهما، ولا ريب أن الحيض داخل في ذلك، ولعن تحريم كتمانه لا يدل على أن القروء المذكورة في الآية هي الحيض، فإنها إذا كانت الأطهار فإنها تنقضي [بالطعن] (أ) في الحيضة الرابعة أو الثالثة، فكتمان الحيض يلزم منه عدم معرفة انقضاء الطهر الذي تتم به العدة، فتكون دلالة الآية على أن القروء الأطهار أظهر. وأما حديث عائشة: "طلاق الأمة طلقتان، وقرؤها حيضتان". فهو حديث ضعيف من حديث مظاهر بن أسلم، قال فيه أبو حاتم الرازي (¬2): منكر الحديث. وقال يحيى بن معين: لا يعرف. وضعفه أبو عاصم أيضًا (¬3). وقال أبو داود (¬4): هذا حديث مجهول. وقال الخطابي (¬5): أهل الحديث ضعفوا هذا الحديث. وقال البيهقي (¬6): لو كان ثابتا قلنا به إلا [أنا لا نثبت] (ب) حديثًا يرويه من نجهل عدالته. وقال الدارقطني (3): الصحيح عن القاسم بخلاف هذا. ثم روى عن زيد بن أسلم قال: سئل القاسم عن الأمة كم تطلق؟ قال: طلاقها اثنتان، وعدتها حيضتان. قال: فقيل له: أبلغك عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا؟ ¬

_ (أ) في الأصل، جـ: بالظعن. والمثبت هو الصواب. (ب) في جـ: أنه لا يثبت.

فقال: لا. وقال البخاري في "تاريخه" (¬1): مظاهر بن أسلم عن القاسم عن عائشة يرفعه: "طلاق الأمة تطليقتان، وعدتها حيضتان". قال أبو عاصم: أخبرنا ابن جريج عن مظاهر، ثم لقيت مظاهرًا فحدثنا به، وكان أبو عاصم يضعف مظاهرًا، وأخرج من حديث يحيى بن سليمان في قصة أنه قال القاسم: إن هذا ليس في كتاب الله ولا سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولكن عمل به المسلمون. انتهى. فهو يضعف رفع الحديث. وأما حديث ابن عمر فعطية العوفي (¬2) ضعفه غير واحد من الأئمة، وقد قال الدارقطني (¬3): الصحيح عن ابن عمر، ما رواه سالم ونافع أنه كان يقول: طلاق العبد الحرة تطليقتان، وعدتها ثلاثة قروء، وطلاق الحر الأمة تطليقتان، وعدتها عدة الأمة حيضتان. قال الشافعي رحمه الله تعالى (¬4): أخبرنا مالك عن نافع عن ابن عمر أنه قال: إذا طلق الرجل امرأته، فدخلت في الدم من الحيضة الثالثة، فقد برئت منه، ولا ترثه، ولا يرثها. فهذا مذهب عائشة وابن عمر أن الأقراء الأطهار بلا شك، فكيف يكون عندهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - خلاف ذلك ولا يذهبان إليه؟! وحديث بريرة يجاب عنه بمثل هذا، وأما الاستدلال بالاستبراء بحيضة، فالاستبراء لا شك أنه ورد بحيضة، وهو النص عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو قول جمهور الأمة، والقول الصحيح من قولي ¬

_ (¬1) التاريخ الصغير 2/ 119. (¬2) عطية بن سعد بن جنادة العوفي الجدلي، تقدمت ترجمته في 4/ 251. (¬3) سنن الدارقطني 4/ 38. (¬4) الأم 5/ 210.

الشافعي. والفرق بين الاستبراء والعدة أن العدة وجبت قضاء لحق الزوج، فاختصت بزمان حقه وهو الطهر، وبأنها تتكرر، فيعلم منها البراءة بواسطة الحيض، بخلاف الاستبراء. وقد أجيب عن هذه الأجوبة؛ أما قول الشافعي: ما حدث بهذا سفيان. فجوابه أن الشافعي لم يسمع ذلك عن سفيان، فقال بموجب ما سمعه، لكنه قد سمعه من سفيان من لا يستراب في حفظه وأمانته وعدالته، وقد ثبت في "السنن" من حديث فاطمة بنت أبي حبيش أنها سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال لها: "إذا جاء قرؤك فلا تصلي، فإذا مر قرؤك فتطهري ثم صلي ما بين القرء إلى القرء". رواه أبو داود بإسناد صحيح (¬1). وأما حديث سفيان الذي قال فيه: "لتنتظر عدد الليالي والأيام التي كانت تحيضهن من الشهر" (¬2). فهو لا يعارض، فإنه قد يكون [رواية] (أ) بالمعنى، وهي جائزة ومفسرة أن المراد بالقروء أيام الحيض، فإنه لو لم يكن ذلك اللفظ هو المراد بالآخر، لما (ب) جاز من الراوي أن يبدل اللفظ بلفظ آخر غير مرادف، فمثل أيوب [السختياني] (جـ) الذي لا مدافع له عن الإمامة والعدالة والصدق والورع لا يحمل إلا على هذا المحمل الصحيح. ¬

_ (أ) في جـ: روايته. (ب) في جـ: ما. (جـ) في الأصل: السجستاني. وفي جـ: السحاني.

وأما حديث عائشة رضي الله عنها (¬1)، فهو وإن كان في طريقه مظاهر، فهو معتضد بغيره، فيصح العمل به، وقد أخرج الحاكم (¬2) من حديث عثمان بن [سعد] (أ) القرشي، عن ابن أبي مليكة، قال: جاءت فاطمة بنت أبي حبيش إلى عائشة. وذكر الحديث. ثم قال: "قولي لها: فلتدع الصلاة في كل شهر أيام قروئها". قال الحاكم: هذا حديث صحيح، وعثمان بن [سعد] (أ) الكاتب (¬3) بصري ثقة عزيز الحديث يجمع حديثه. قال البيهقي (¬4): قد تكلم فيه غيره، ولكنه قد تابعه الحجاج بن أرطاة على ابن أبي مليكة عن عائشة. وفي "المسند" (¬5)، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لفاطمة: "إذا أقبلت أيام أقرائك فأمسكي عليك". وفي "سنن أبي داود" (¬6) من حديث عدي بن ثابت في المستحاضة: "تدع الصلاة أيام أقرائها، ثم تغتسل وتصلي". وفيها عن فاطمة بنت أبي حبيش أنه قال لها - صلى الله عليه وسلم -: "فإذا أتى قرؤك فلا تصلي، فإذا مر قرؤك فتطهري ثم صلي ما بين [القرء إلى القرء] (ب) ". وقد يرد على هذا بأن إطلاق القرء هنا على الحيض لعله من كلام الراوي، غيَّر لفظ "الحيض" ¬

_ (أ) في الأصل، جـ: سعيد. والمثبت من مصدر التخريج، وينظر تهذيب الكمال 19/ 375. (ب) في الأصل: القروء إلى القروء.

إلى "القرء" روايةً بالمعنى. وأما حديث مظاهر فهو وإن كان مظاهر ممن لا يحتج به، ولكنه قد يعضد بغيره فيقوى ويحتج به. وأما عمل عائشة بخلاف ما روت، فهو لا يقدح فيه، فإن [المعول] (أ) عليه أن مخالفة الراوي لا توجب رد حديثه، وأن المعتبر بما روى لا بما رأى. وأما تضعيف حديث ابن عمر بعطية العوفي فهو وإن ضعفه أكثر أهل الحديث، فقد احتمل الناس حديثه وخرجوه في السنن. وقال يحيى بن معين في رواية عباس (5) الدوري عنه (¬1): صالح الحديث. وقال ابن عدي (¬2): روى عنه جماعة من الثقات، وهو مع ضعفه يكتب حديثه. فيعتضد به وإن لم يعتمد عليه وحده. وأما مخالفة مذهب ابن عمر، فلا تكون قادحة كما عرفت. وأما الفرق بين الاستبراء والعدة، فالجميع حق للزوج، فإن الحائض للزوج الاستمتاع منها في زمن الحيض كما له الوطء في زمن الطهر، فلا يصلح فارقًا. 924 - وعن ابن عمر رضي الله عنهما: طلاق الأمة تطليقتان، وعدتها حيضتان. رواه الدارقطني، وأخرجه مرفوعًا وضعفه (¬3). ¬

_ (أ) في الأصل، جـ: المعمول. والمثبت هو الصواب. (ب) في جـ: عياش.

وأخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجه (¬1) من حديث عائشة، وصححه الحاكم، وخالفوه فاتفقوا على ضعفه. تقدم (أ) الكلام على الحديث، وهو يدل على أن الأمة تخالف الحرة، وأن الأمة تبين من زوجها بطلقتين. وهذه المسألة اختلف فيها السلف والخلف على أربعة أقوال؛ الأول: أن طلاق العبد والحر سواء. وهذا مذهب أهل الظاهر جميعهم، حكاه عنهم أبو محمد بن حزم (¬2)، واحتجوا بعموم النصوص الواردة في الطلاق من غير فرق بين عبد وحر. الثاني: أنه إذا كان أحد الزوجين رِقًّا، كان الطلاق اثنتين. وهذا رواه حماد بن سلمة، عن [عبيد] (ب) الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر، قال: الحر يطلق الأمة تطليقتين وتعتد حيضتين، والعبد يطلق الحرة تطليقتين وتعتد ثلاث حيض (¬3). وذهب إلى هذا عثمان البتي. الثالث: أن الطلاق بالرجال، فيملك الحر ثلاثا وإن كانت زوجته أمة، والعبد اثنتين وإن كانت زوجته حرة. وهذا قول الشافعي، ومالك، وأحمد في ظاهر كلامه، وهو قول زيد بن ثابت، وعائشة، وأم سلمة، وعثمان بن عفان، وعبد الله بن عباس (¬4)، والقاسم، وسالم، وأبي سلمة، ¬

_ (أ) بعده في جـ: الحديث. (ب) في الأصل، جـ: عبد. والمثبت من مصدر التخريج. وينظر تهذيب الكمال 19/ 124.

وعمر بن عبد العزيز، ويحيى بن سعيد، وربيعة، وأبي الزناد، وسليمان بن يسار، وعمرو بن شعيب، وابن المسيب، وعطاء، واحتج في "البحر" لهذا القول بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "الطلاق بالرجال، والعدة بالنساء" (¬1). ولم أر من خرجه. وقال في الجواب: قلنا: أراد أن الطلاق إنما يقع من الرجل لا المرأة. الرابع: أن الطلاق بالنساء كالعدة، كما روى (أ) شعبة، عن أشعث بن سوار، عن الشعبي، عن مسروق، عن ابن مسعود: السنة الطلاق، والعدة بالنساء (¬2). وروى عبد الرزاق (¬3)، عن محمد بن يحيى، وغير واحد، عن عيسى، عن الشعبي، عن اثني عشر رجلا من الصحابة، قالوا: الطلاق والعدة بالمرأة. هذا لفظه. وهو قول الحسن، وابن سيرين، وقتادة، وإبراهيم، والشعبي، وعكرمة، ومجاهد، والثوري، والحسن بن حي، وأبي حنيفة وأصحابه. فهذه الأقوال الأربعة كما عرفت، وسبب الخلاف أن الأحاديث الواردة قد عرفت ما فيها من الضعف، ووردت الآثار عن الصحابة وهي متعارضة، وليس بعضها أولى من بعض، وبقي القياس وتجاذبه طرفان؛ طرف المطلِّق، وطرف المطلَّقة، فمن راعى طرف المطلِّق، قال: هو الذي يملك الطلاق فيتنصف في حقه كما تتنصف عليه سائر أحكام الحر. ومن ¬

_ (أ) بعده في جـ: عن.

راعى طرف المطلَّقة، قال: الطلاق يقع عليها وتلزمها العدة والتحريم وتوابعها فيتنصف برقها. ومن نصف برق أيِّ الزوجين كان راعى الأمرين وأعمل الشبهين. ومن قال بأنهما كالحر رأى أن الآثار لم تثبت، والمنقول عن الصحابة متعارض، والقياس كذلك، فلم يتعلق بشيء من ذلك، وتمسك بإطلاق النصوص الدالة على أن الطلاق الرجعي طلقتان، ولم يفرق الله بين حر وعبد، ولا بين حرة ولا أمة، {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} (¬1). قالوا: والحكمة التي جُعل الطلاق الرجعي لأجلها [اثنتين] (أ)، هي في الحر والعبد سواء. قالوا: وقد قال مالك: إن له أن ينكح أربعًا كالحر؛ لأن حاجته إلى ذلك كحاجة الحر. وقال الشافعي وأحمد: أجله في الإيلاء كأجل الحر؛ لأن ضرر الزوجة في الصورتين. وقال أبو حنيفة: إن طلاقه وطلاق الحر سواء، إذا كانت المرأتان حرتين؛ لإطلاق نصوص الطلاق وعمومها للحر والعبد. وقال أحمد بن حنبل والناس معه: صيامه في الكفارات كلها وصيام الحر سواء، وحدّه في السرقة والشراب حدّ الحر سواء. وإذا طلق العبد زوجته تطليقتين ثم عتق بعد ذلك، هل يبقى ذلك الحكم، ويكون حكمها حكم المثلثة، أو يكون له حكم الحر؟ في ذلك أربعة أقوال للفقهاء؛ أحدها: أنها لا تحل له حتى تنكح زوجا غيره، حرة كانت أو أمة. وهذا قول الشافعي [وأحمد] (ب) في إحدى الروايتين عنه. الثاني: أن له أن يعقد عليها عقدًا مستأنفًا من غير اشتراط زوج وإصابة ¬

_ (أ) في الأصل، جـ: اثنتان. (ب) ساقط من: الأصل، جـ. والمثبت من زاد المعاد 5/ 272.

منه. وقد ذهب إلى هذا أحمد في إحدى الروايتين عنه، وإحدى الروايتين للشافعية. وأخرج أصحاب "السنن" من حديث أبي حسن مولى بني نوفل (¬1)، أنه استفتى ابن عباس في مملوك كانت تحته مملوكة فطلقها تطليقتين ثم عتقا بعد ذلك، هل يصلح له أن يخطبها؟ قال: نعم، قضى بذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬2). قال الإمام أحمد (¬3)، عن عبد الرزاق: إن ابن المبارك قال [لعمر: من أبو حسن هذا؟ لقد] (أ) تحمل صخرة عظيمة. انتهى. قال المنذري (¬4): وأبو حسن هذا قد ذكر بخير وصلاح. وقد وثقه أبو زرعة وأبو حاتم الرازيان (¬5)، غير أن الراوي عنه عمر بن معتب (¬6)، وقد قال علي بن المديني (¬7): هو منكر الحديث. وقال النسائي (¬8): ليس بالقوي. الثالث: أن له أن يرتجعها في عدتها، وأن ينكحها بعدها بدون زوج ولو لم يعتق. وهذا مذهب أهل الظاهر جميعهم، فإن عندهم الحر والعبد في ¬

_ (أ) في الأصل، جـ: لعمر بن معتب عن أبي حسن هذا. والمثبت من المسند، والعلل ومعرفة الرجال 1/ 220، وزاد المعاد 5/ 272.

الطلاق سواء. وروى سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن أبي معبد مولى ابن عباس، عن ابن عباس، أن عبدًا له طلق امرأته طلقتين، فأمره ابن عباس أن يراجعها فأبى، فقال ابن عباس: هي لك فاستحلها بملك اليمين (¬1). القول الرابع: أن زوجته إن كانت حرة ملك عليها تمام الثلاث، وإن كانت أمة حرمت عليه حتى تنكح زوجًا غيره. وهذا قول أبي حنيفة. وقوله: وعدتها حيضتان. فيه دلالة على أن عدة الأمة نصف عدة الحرة، إلا أنه لما لم يمكن أن تجعل العدة حيضة ونصفًا كملت حيضتين، كما روى حماد بن زيد، عن عمرو بن أوس الثقفي، أن عمر بن الخطاب قال: لو استطعت أن أجعل عدة الأمة حيضة ونصفًا لفعلت. فقال له رجل: يا أمير المؤمنين، فاجعلها شهرًا ونصفًا (¬2). وقد روى عبد الرزاق (¬3)، عن ابن جريج، قال: أخبرني أبو الزبير، أنه سمع جابر بن عبد الله يقول: جعل لها عمر حيضتين؛ يعني الأمة. وأخرج عن عتبة بن مسعود عن عمر: ينكح العبد اثنتين، ويطلق تطليقتين، وتعتد الأمة حيضتين، فإن لم تحض فشهرين. أو قال: شهرًا ونصفًا (¬4). وأخرج عن ابن مسعود قال: يكون عليها نصف العذاب، ولا يكون لها نصف الرخصة (¬5)؟! وقال ابن وهب: ¬

_ (¬1) ابن حزم في المحلى 11/ 581 من طريق سفيان به. (¬2) ابن حزم في المحلى 11/ 711 من طريق حماد بن زيد به. (¬3) عبد الرزاق 7/ 222 ح 12875. (¬4) عبد الرزاق 7/ 221 ح 12872. (¬5) عبد الرزاق 7/ 222 ح 12879.

أخبرني رجال من أهل العلم أن نافعًا وابن قسيط ويحيى بن سعيد وربيعة وغير واحد من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والتابعين قالوا: عدة الأمة حيضتان (¬1). ورواه (1) عن القاسم بن محمد، وقال القاسم: مع أن هذا ليس في كتاب الله عزَّ وجلَّ، ولا نعلمه سنة من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولكن قد مضى أمر الناس على هذا. وروي ذلك بإسناد صحيح عن علي (¬2) رضي الله عنه. ورواه الزهري عن زيد بن ثابت (¬3). وأخرجه مالك (¬4)، عن نافع، عن عبد الله بن عمر. وهو مذهب فقهاء المدينة؛ سعيد بن المسيب، والقاسم، وسالم، وزيد بن أسلم، وعبد الله بن عتبة، والزهري، ومالك، وفقهاء مكة؛ كعطاء بن أبي رباح، ومسلم بن خالد، وغيرهما، وفقهاء البصرة؛ كقتادة، والحسن، وابن سيرين، وفقهاء الكوفة؛ كالثوري، وأبي حنيفة وأصحابه، وفقهاء الحديث، كأحمد، وإسحاق، والشافعي، وأبي ثور، وغيرهم. فالحديث يدل على هذا، وهو متأيد بعمل الصحابة وبالقياس على الحد. وذهب الظاهرية كما قاله أبو محمد بن حزم (¬5) أنه مذهب أبي سليمان، وجميع أصحابنا إلى أن عدة الأمة كعدة الحرة سواء؛ لعموم آيات العدد الثلاث للحرة والأمة، قال (¬6): لأن الله تعالى علمنا العدد في الكتاب، فقال: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} (¬7). {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ ¬

_ (¬1) ابن حزم في المحلى 11/ 712 من طريق ابن وهب به. (¬2) ابن أبي شيبة 5/ 166. (¬3) ابن حزم في المحلى 11/ 712، 713 من طريق الزهري. (¬4) الموطأ 2/ 574 ح 50. (¬5) المحلى 11/ 714. (¬6) المحلى 11/ 711، 712. (¬7) الآية 228 من سورة البقرة.

مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} (¬1). وقال تعالى: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} (¬2). وقد علم الله تعالى إذ أباح لنا زواج الإماء أن عليهن العدد المذكورات، وما فرق عزَّ وجلَّ بين حرة ولا أمة في ذلك، {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} (¬3). قال: وثبت عمن سلف مثل قولنا؛ قال (¬4) محمد بن سيرين: ما أرى عدة الأمة إلا كعدة الحرة، إلا أن تكون مضت في ذلك سُنة، فالسنة أحق أن تتبع. قال (4): وذكر أحمد بن حنبل أن قول مكحول: إن عدة الأمة في كل شيء كعدة الحرة. انتهى كلامه. ومثل هذا (أ) في كتب الهدوية؛ قال الإمام المهدي في "البحر": مسألة: والأمة كالحرة في عدتها إذ لم يفصل الدليل. انتهى كلامه. ولم يحك خلافًا. والجواب عن ذلك أن العمومات في الآيات الثلاث مخصوصة بالأحاديث المتقدمة، وهي وإن كانت فيها مقال ولكنها متأيدة بآثار (ب) كثيرة، بل ظاهر ما تقدم أنه إجماع الصحابة، والإجماع كاف في ¬

_ (أ) زاد في جـ: وهو المحكي. (ب) في جـ: بآيات.

التخصيص، والقياس كذلك مؤيد، مع أن الآيات إذا تأمل الفطن لسياقها وجدها لا تتناول الإماء، فإن قوله: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ}. في حق الحرائر، فإن افتداء الأمة إلى سيدها لا إليها، وكذا قوله تعالى: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا} (¬1). فجعل ذلك إلى الزوجين، والمراد به العقد، وفي الأمة ذلك يختص بسيدها، وكذا قوله تعالى: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} (¬2). والأمة لا فعل لها في نفسها، مع أن ابن سيرين لم يجزم بذلك وأخبر به عن رأيه، والرواية عن مكحول لم يذكر لها ابن حزم سندًا، وإنما حكاه عن أحمد عنه، فلم يبق معهم أحد من السلف إلا رأي ابن سيرين المعلق على عدم سنة متبعة. وفي الاعتداد بالأشهر في حق الصغيرة والآيسة ثلاثة أقوال وهي للشافعي، وهي ثلاث روايات عن أحمد، فأكثر الروايات أنها شهران. رواه عنه جماعة من أصحابه، وهو إحدى الروايتين عن عمر بن الخطاب. ذكرها الأثرم وغيره عنه. وحجة هذا القول أن عدتها بالأقراء حيضتان، فجعل كل شهر مكان حيضة. والقول الثاني: أن عدتها شهر ونصف. نقلها عنه الأثرم والميموني. وهذا قول علي بن أبي طالب، وابن عمر، وابن المسيب، وأبي حنيفة، والشافعي في أحد أقواله. وحجته أن التنصيف في الأشهر ممكن فينصف بخلاف. والقول الثالث أن عدتها ثلاثة أشهر كوامل. وهو إحدى الروايتين عن عمر، وقول ثالث للشافعي. وحجة هذا القول أن العدة إنما هي لأجل براءة الرحم، وهي لا تحصل بدون ثلاثة أشهر في حق الحرة والأمة ¬

_ (¬1) الآية 230 من سورة البقرة. (¬2) الآية 234 من سورة البقرة.

جميعًا؛ لأن الحمل يكون نطفة أربعين يومًا، ثم علقة أربعين يومًا، ثم مضغة أربعين، وهو الطور الثالث الذي يمكن أن يظهر فيه الحمل، وهو بالنسبة إلى الحرة والأمة سواء، بخلاف الأقراء، فإن الحيضة الواحدة يعلم بها براءة الرحم، ولذا اكتفي بها في استبراء الأمة. 925 - وعن رويفع بن ثابت رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسقي ماءه زرع غيره". أخرجه أبو داود والترمذي، وصححه ابن حبان، وحسنه البزار (¬1). هو رويفع، تصغير رافع، بضم الراء المهملة، ابن ثابت بن سكن، من بني مالك بن النجار، الأنصاري، عداده في المصريين، توفي سنة ست وأربعين. الحديث، وأخرجه الحاكم (¬2) من حديث ابن عباس في خبر أوله: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى يوم خيبر عن بيع المغانم حتى تقسم، وقال: "لا تسق ماءك زرع غيرك". وأصله في النسائي (¬3). الحديث فيه دلالة على أنه يحرم وطء الحامل من غير الواطئ، سواء كان ذلك الحمل لاحقًا بغيره أم لا، وذلك كالأمة المشتراة إذا كانت حاملا من ¬

_ (¬1) أبو داود، كتاب النكاح، باب في وطء السبايا 2/ 254 ح 2158، والترمذي، كتاب النكاح، باب ما جاء في الرجل يشتري الجارية وهي حامل 3/ 437 ح 1131، وابن حبان، كتاب السير، باب ذكر الزجر عن انتفاع المرء بالغنائم على سبيل الضرر بالمسلمين فيه 11/ 186 ح 4850، والبزار في البحر الزخار 6/ 297 ح 2314. (¬2) الحاكم 2/ 137. (¬3) النسائي 7/ 301.

غيره والمسبية. و (أ) ظاهر الحديث إذا كان الحمل متحققًا، وأما إذا كان الحمل غير متحقق وتملَّك (ب) الأمة بسبي أو شراء أو غيره، فسيأتي، ويدخل في عموم الحديث (جـ) ما إذا زنت المرأة المزوجة أو وطئت غلطًا؛ أنه لا يجوز للزوج أن يطأها حتى يستبرئها بحيضة، وقد ذهب إلى وجوب العدة على الزانية (د) مالك وإسحاق بن راهويه وربيعة، وقيل: يستبرئ بحيضة. وذهب العترة، والفريقان الحنفية والشافعية، وابن سيرين، إلى أنه لا عدة على زانية، قالوا: لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "الولد للفراش" (¬1). ولأن عمر جلد الغلام والصبية، وزوَّج الغلام بالصبية، ولم يُنكَر؛ فدل على عدم وجوب الاستبراء. والجواب عنه: أن الوطء مظنة الحمل، فيجب الاجتناب كما في حق من تحقَّق حملها، ولا يدل قوله: "الولد للفراش". على المدَّعى؛ لأن المراد أنه غير لاحق بالزاني فقط، ومذهب الإمام أحمد بن حنبل أنه لا يجوز نكاح الزانية بالكلية، حتى تتوب ويرتفع عنها اسم الزانية والبغي والفاجرة؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - فرق بين الرجل وبين المرأة التي (هـ تزوج بها هـ)، فوجدها حبلى، وجلدها الحد، وقضى لها بالصَّداق. أخرجه أبو داود (¬2). وهذا صريح في بطلان العقد على الحاملة من زنًى. قال المصنف رحمه الله تعالى في ¬

_ (أ) ساقط من: الأصل. (ب) في جـ: ملك. (جـ) ساقط من: جـ. (د) في جـ: الرواية. (هـ- هـ) في جـ: تزوجها.

"التلخيص" (¬1): هذا. الحديث -يعني حديث رويفع- احتج به الحنابلة على فساد نكاح الحامل من الزنى، واحتج به الحنفية على امتناع وطئها، وأجاب الأصحاب عنه بأنه ورد في السبي، لا في مطلق النساء، وتعقب بأن العبرة بعموم اللفظ. انتهى. وقوله: "زرع غيره". استعارة أصلية مصرِّحة بشبه الحمل بالزرع، بجامع [النماء] (أ) وتولُّده عن المادة الشبيهة (ب) بالماء. 926 - وعن عمر رضي الله عنه في امرأة المفقود: تتربَّص أربع سنين، ثم تعتدُّ أربعة أشهر وعشرًا. أخرجه مالك والشافعي (¬2). أخرجه من حديث يحيى بن سعيد، [عن سعيد] (جـ) بن المسيب، عن عمر: أيما (د) امرأة فقدت زوجها، فلم تدر أين هو، فإنها تنتظر أربع سنين، ثم تنتظر أربعة أشهر وعشرًا. ورواه عبد الرزاق (¬3)، عن ابن جريج، عن يحيى به. ورواه أبو عبيد (¬4)، عن محمد بن كثير، عن الأوزاعي، عن ¬

_ (أ) في الأصل: الثمار. (ب) في جـ: المشبهة. (جـ) ساقط من: الأصل، جـ. والمثبت من مصدري التخريج. (د) في جـ: بأن.

الزهري، عن سعيد، عن عمر وعثمان به. ورواه البيهقي (¬1) من طرق (أ) أخرى عن عمر. وقال ابن أبي شيبة (¬2): ثنا غندر، ثنا شعبة، عن منصور، عن مجاهد، عن ابن أبي ليلى، عن عمر نحوه. وللدارقطني (¬3) من طريق عاصم (ب) الأحول عن أبي عثمان، قال: أتت (جـ) امرأة عمر بن الخطاب فقالت: استهوت (د) الجن زوجها. فأمرها أن تتربَّص أربع سنين، ثم أمر ولي الذي استهوته الجن أن يطلقها، ثم أمرها بعد أن تعتد أربعة أشهر وعشرًا. وأخرج ابن أبي شيبة (2)، قال: حدثنا عبد الأعلى، عن معمر، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، أن عمر بن الخطاب وعثمان قالا في امرأة المفقود: [تربَّص أربع] (هـ) سنين، وتعتدّ أربعة أشهر وعشرًا. وأخرج أبو [عبيد] (و) (¬4)، عن جابر بن زيد أنه شهد ابن عباس وابن عمر تذاكرا امرأة المفقود، فقالا: تتربص [بنفسها] (ز) أربع ¬

_ (أ) في جـ: طريق. (ب) في الأصل، جـ: هاشم. والمثبت من مصدر التخريج، وينظر تهذيب الكمال 13/ 485. (جـ) بعده في جـ: عمر. (د) في جـ: أسهرت. (هـ) في الأصل: تتربص أربعة. (و) في الأصل، جـ: عبيدة. والمثبت من مصدري التخريج. (ز) ساقط من: الأصل.

سنين، ثم تعتدّ عدة الوفاة. الحديث فيه دلالة على أن امرأة المفقود بعد مضي المدة المذكورة تبين من زوجها، وقد ذهب إلى هذا عمر، ومالك، وأحمد، وإسحاق، وأحد قولي الشافعي، وروي أيضًا عن ابن مسعود و (أ) عن جمع من التابعين، كالنخعي، وعطاء، والزهري، ومكحول، والشعبي (¬1)، واتفق أكثرهم على أن التأجيل من يوم يُرفَع أمرها إلى الحاكم، وعلى أنها تعتدّ عدة الوفاة بعد مضي الأربع السنين، وذهب أبو يوسف، ومحمد، ورواية عن أبي حنيفة، وأحد قولي الشافعي، أنها لا تخرج عن عهد الزوجية حتى يصحّ لها موته أو طلاقه أو ردته، ولا بد أن تتيقَّن ذلك، قالوا: لأن عقدها ثابت بيقين، فلا يرتفع إلا بيقين. وقال المؤيد بالله: إنه يكفي في ذلك الظن الغالب الحاصل بخبر العدل. واحتج في "البحر" بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "امرأة المفقود امرأته حتى يأتيها البيان" (¬2) الآتي. وروى الشافعي (¬3) من طريق المنهال (¬4) بن عمرو، عن عَبَّاد (ب) بن عبد الله، عن علي، أنه قال في امرأة المفقود: إنها لا تتزوج. وذكر في مكان آخر تعليقا (¬5)، فقال: وقال علي في امرأة المفقود: امرأة ¬

_ (أ) ساقط من: جـ. (ب) في الأصل: قتادة. وفي جـ: عبادة. والمثبت من مصدر التخريج، وينظر تهذيب الكمال 14/ 138.

ابتُلِيَت، فلتصبر لا تنكح حتى يأتيها يقين موته. وقال البيهقي (¬1): هو عن علي مطولًا مشهور (أ). وأخرج عبد الرزاق (¬2) أن عليًّا قال في امرأة المفقود: هي امرأة ابتليت، فلتصبر حتى يأتيها موت أو طلاق. وأخرج (¬3) أيضًا عن علي قال: تربَّص حتى تعلم أحي هو أو ميت. وقال (¬4) عن ابن جريج أنه قال: بلغني أن ابن مسعود وافق عليًّا. وأخرج (¬5) من طريق عبد الرحمن بن أبي ليلى، أن عمر لما عاد المفقود مكَّنه من أخذ زوجته. وفيه انقطاع مع ثقة رجاله، قالوا: فإن لم تتيقَّن ما تقدَّم، تربَّصت العمر الطبيعي. قال القاسم: وهو مائة وعشرون سنة من مولده. وقال المؤيد بالله: مائة وخمسون سنة إلى مائتين. وقال الإمام يحيى: لا وجه للتربُّص، لكن إن ترك لها الغائب ما يقوم بها فهو كالحاضر؛ إذ لم يفتها إلا الوطء، وهو حق له لا لها، وإلا فسَخها الحاكم عند مطالبتها من دون انتظارٍ؛ لقوله تعالى: {وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا} (¬6)، {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} (¬7)، "لا ضرر (ب) ¬

_ (أ) في جـ: مشهورا. (ب) في الأصل، جـ: ضر. والمثبت من مصادر التخريج.

ولا ضرار في الإسلام" (¬1). والحاكم شرع لرفع المضارة في الظهار والإيلاء، وهذا أبلغ، والفسخ مشروع كالعيب ونحوه. قال: والتقدير بالعمر الطبيعي والأربع لا دليل عليه من كتاب أو سنة؛ لأنهم إن جوزوا لها النكاح بمضيها (أ) لأجل الضرر، فأيّ ضرر أبلغ من تربُّصها هذه المدة، وإن كان لحصول اليقين ببينونتها، فلا يقين بذلك، وإن كان لنصٍّ أو قياس، فلا شيء منهما. قال الإمام المهدي: أما الطبيعي فقدروه عند تعذر اليقين والبَيِّنة الكاملة، ليحصل أقوى مراتب الظن؛ [إذ لا قرينة أقوى من ذلك فيطلبوها، ولابد مع مضي المدة من حصول الظن] (ب)، ولا يكفي مجرد المدة، وإلا لزم فيمن غاب وقد بقي يومان من عمره الطبيعي أن تزوّج امرأته، ولا قائل به. قال الإمام المهدي: ولا شك أن في التربُّص المذكور حرجًا، فالفسخ قوي. قال الإمام يحيى: فإن غلب في الظن موته لأي الأمارات القوية، جاز تزويجها بلا فسخ، وتعتدّ من عند الظن كلو قامت بينة، فإن عاد رجعت إليه، بخلاف الفسخ. وهذا الذي ذكره الإمام يحيى إحداثُ قولٍ ثالث رافع للقولين السابقين اللذين ظهرا في أيام السلف من الصحابة ومن بعدهم. واعلم أنه قال عبد الرزاق (¬2): أخبرنا الثوري، عن يونس بن خَبَّاب (جـ)، ¬

_ (أ) في جـ: بعد مضيها. (ب) ساقط من: الأصل. (جـ) في الأصل: حبان. وفي جـ: حبان. والمثبت من مصدر التخريج، وينظر تهذيب الكمال 32/ 503.

عن مجاهد، عن الفقيد الذي فقد، قال: دخلت الشِّعْب فاستهوتْني الجنّ، فمكثت أربع سنين، فأتت امرأتي عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فأمرها أن تتربَّص أربع سنين من حين رفعتْ أمرها إليه، ثم دعا وليه فطلَّقها، ثم أمرها أن تعتدّ أربعة أشهر وعشرًا، ثم جئتُ بعدما تزوجتْ، فخيَّرني عمر بينها وبين الصداق الذي اصدقتُها. ورواه ابن أبي شيبة (¬1) من طريق يحيى بن جعدة، عن عمر به. ورواه البيهقي (¬2) من طريق أخرى. والله أعلم. وقال بالتخيير هذا القائلون بأنها تعتدّ. وقال أكثرهم: إن اختار الأول الصداق، غرمه له الثاني. وخالف سعيد بن السيب في المفقود في صفِّ القتال؛ أنها تربَّص سنةً واحدة، وفي غير الصف أربع سنين. وفرَّق مالك بين القتال في (أ) دار الحرب أو (أ) دار الإسلام. 927 - وعن المغيرة بن شعبة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "امرأة المفقود امرأته حتى يأتيها البيان". أخرجه الدارقطني بإسناد ضعيف (¬3). أخرجه الدارقطني بلفظ: "حتى يأتيها الخبر". وأخرجه البيهقي (¬4) ¬

_ (أ) في جـ: و.

بلفظ: "حتى يأتيها البيان". ولكن ضعفه أبو حاتم (¬1)، والبيهقي (¬2)، وعبد الحق (¬3)، وابن القطان (¬4)، وغيرهم. الحديث تقدَّم الكلام عليه في الحديث الذي قبله. 928 - وعن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يبيتنَّ رجل عند امرأة إلا أن يكون ناكحًا، أو ذا محرم". أخرجه مسلم (¬5). في لفظ مسلم زيادة: "عند امرأة ثيب". بزيادة لفظ: "ثيب". وجاء في بعض نسخ مسلم: "أو ذات محرم". وقوله: "ناكحا". المراد أن يكون ذلك الرجل زوجًا للمرأة، أو يكون ذا محرم، وهذا هو الظاهر، وقد فسره بعضهم بأن المراد بالناكح هي المرأة المزوَّجة، يعني وزوجها حاضر، فيبيت قريبها في بيتها بحضرة الزوج. وهذا التفسير خلاف الظاهر، قال العلماء: وإنما خصَّ الثيب بالذكر لكونها التي يُدخَل إليها غالبًا، وأما البكر فمصونة متصوّنة في العادة، مجانبة للرجال أشد مجانبة، فلم يُحتَجْ إلى ذكرها، وهو أيضًا من باب الأوْلى، لأنه إذا نهي عن الثيب التي يتساهل الناس في الدخول عليها في العادة، فالبكر ¬

_ (¬1) علل ابن أبي حاتم 1/ 431، 432 ح 1298. (¬2) البيهقي 7/ 445. (¬3) الأحكام الوسطى 3/ 228. (¬4) كما في التلخيص الحبير 3/ 232. (¬5) مسلم، كتاب السلام، باب تحريم الخلوة بالأجنبية والدخول عليها 4/ 1710 ح 2171.

أوْلى. والحديث يدل على أنه يحرم الخلوة بالأجنبية، وإباحة الخلوة بالمحرم، وهذان الأمران مجمع عليهما. وضابط المحرم: هو (أ) كل من حرم عليه نكاحها على التأبيد بسببٍ مباحٍ لحرمتها. فقولنا: على التأبيد. احتراز من أخت الزوجة، وعمتها، وخالتها، ونحوهن. وقولنا: بسبب مباح. احتراز من أم الموطوءة بشبهة وبنتها، فإنها حرام على التأبيد، لكن لا بسبب مباح، فإن وطء الشبهة لا يوصف بأنه مباح ولا محرم، ولا بغيرهما من أحكام الشرع الخمسة، لأنه ليس فعل مكلف. وقولنا: لحرمتها. احتراز من الملاعنة، فهي حرام على التأبيد؛ لا لحرمتها، بل [تغليظ] (ب) عليهما. 929 - وعن ابن عباس رضي الله عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا يخلون رجل بامرأة إلا مع ذي محرم". أخرجه البخاري (¬1). الحديث، الكلام عليه تقدم فيما قبله. 930 - وعن أبي سعيد رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في سبايا أوطاس: "لا توطأ حامل حتى تضع، ولا غير ذات حمل حتى تحيض حيضة". أخرجه أبو داود وصححه الحاكم (¬2). ¬

_ (أ) ساقط من: جـ. (ب) في الأصل: تغليظا.

وله شاهد عن ابن عباس رضي الله عنهما في الدارقطني (¬1). وحديث ابن عباس قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن توطأ حامل حتى تضع، أو حائل حتى تحيض. قال الدارقطني: إن ابن صاعد قال: إن [العابدي] (أ) راويه من حديث ابن عيينة تفرد بوصله وغيره أرسله، ورواه الطبراني في "الصغير" (¬2) من حديث أبي هريرة بإسناد ضعيف، وأبو داود (¬3) من حديث رويفع بن ثابت بلفظ: "لا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يقع على امرأة من السبي حتى يستبرئها بحيضة". وروى ابن أبي شيبة (¬4) عن علي رضي الله عنه قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن توطأ الحامل حتى تضع، أو الحائل حتى تستبرأ بحيضة. لكن في إسناده ضعف وانقطاع. قوله: أوطاس. هو اسم واد في ديار هوازن، وهو موضع حرب حنين. كذا قال القاضي عياض (¬5). وقد ذهب إليه بعض أهل السير، قال المصنف رحمه الله تعالى (5): والراجح أن وادي أوطاس غير وادي حنين، ويوضح ذلك ما ذكر ابن إسحاق أن الوقعة كانت في وادي حنين، وأن هوازن لما ¬

_ (أ) غير منقوطة في: الأصل، جـ. وفي الدارقطني: العائذي. والمثبت من تهذيب الكمال 15/ 378، وينظر الأنساب 4/ 107، 119.

انهزموا صارت طائفة منهم إلى الطائف، وطائفة إلى بجيلة، وطائفة إلى أوطاس، فأرسل النبي - صلى الله عليه وسلم - عسكرًا مقدمهم أبو عامر الأشعري إلى من مضى إلى أوطاس كما يدل عليه حديث الباب؛ يعني حديث البخاري (¬1)، ثم توجه هو بعساكره إلى الطائف، وقال أبو عبيد البكري (¬2): أوطاس واد في ديار هوازن. انتهى. الحديث فيه دلالة على أنه يجب استبراء المسبية إذا أراد السابي وطأها، فإن كانت حاملا فبوضع الحمل، وإن كانت غير ذات حمل فبحيضة، وهذا المنصوص عليه، لأنه ورد في حق السابين (أ)، وقيس على (ب) السابي المشتري والمتملك بأي وجه من وجوه التمليك بجامع ابتداء التملك (جـ)، وقد ذهب إلى هذا العترة والحنفية والشافعية ومالك والثوري والنخعي، وظاهر قوله: "ولا غير ذات حمل حتى تحيض حيضة". يعم البكر والثيب، وقياسًا على العدة حيث تجب مع العلم ببراءة الرحم، ويؤيده قول عمر: من ابتاع جارية قد بلغت الحيض فليتربص بها حتى تحيض، فإن كنت لم تحض فليتربص (د) خمسا وأربعين ليلة (¬3). وقد وجبت العدة على الصغيرة والآيسة، ¬

_ (أ) في جـ: السابلين. (ب) زاد في جـ: غير. (جـ) في جـ: التمليك. (د) زاد في جـ: لها.

والاستبراء عدة، فتجب على الجميع، وذهب جماعة إلى أن الاستبراء إنما يكون في حق من لم يعلم براءة رحمها، وأما من علم براءة رحمها، فلا استبراء عليها، وهذا رواه عبد الرزاق (¬1) عن ابن عمر قال: إذا كانت الأمة عذراء لم يستبرئها إن شاء. ورواه البخاري (¬2) في "الصحيح" عنه، وذكر حماد بن سلمة (¬3)، قال: حدثنا علي بن زيد عن أيوب [بن] (أ) عبد الله اللخمي عن ابن عمر قال: وقعت في سهمي جارية يوم جلولاء كأن عنقها إبريق فضة. قال ابن عمر: فما ملكت نفسي أن جعلت أقبلها والناس ينظرون. وأخرج البخاري في "الصحيح" (¬4) مثل ذلك عن علي رضي الله عنه من حديث بريدة، قال: بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عليًّا إلى خالد -يعني باليمن- ليقبض الخمس، فاصطفى علي منها صبية، وأصبح وقد اغتسل، فقلت لخالد: أما ترى إلى هذا؟! وفي رواية: فقال خالد لبريدة: ألا ترى ما صنع هذا؟! قال بريدة: وكنت أبغض عليًّا، فلما قدمنا على النبي - صلى الله عليه وسلم - ذكرت له، فقال: "يا بريدة، أتبغض عليًّا؟ ". فقلت: نعم. فقال: "لا تبغضه، فإن له في الخمس أكثر من ذلك". فهذه الجارية إما أن تكون بكرا فلم ير علي وجوب استبرائها (ب)، وإما أن تكون في آخر حيضة فاكتفى ¬

_ (أ) في الأصل، جـ: عن. والمثبت من التاريخ الكبير 1/ 419، والجرح والتعديل 2/ 215. (ب) في جـ: الاستبراء فيها.

بالحيضة قبل تملكه لها، وعلى كل تقدير فلا بد أن تكون قد تحقق براءة رحمها، ويؤيد هذا ما أخرجه الإمام أحمد (¬1) من حديث رويفع: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا ينكحن ثيبا من السبايا حتى تحيض". ويكون هذا (أ) مخصصا لعموم: "ولا غير ذات حمل حتى تحيض". وإلى هذا يرجع مذهب مالك. وقال أبو عبد الله [المازري] (ب) من المالكية: والقول الجامع في ذلك أن كل أمة أمن عليها الحمل فلا يلزم فيها الاستبراء، وكل من غلب على الظن كونها حاملًا، أو شك في حملها، أو تردد في فيه، فالاستبراء لازم فيها، وكل من غلب على الظن براءة رحمها لكنه يجوز حصوله، فإن المذهب على قولين في ثبوت الاستبراء وسقوطه، ثم خرج على ذلك الفروع المختلفة كاستبراء الصغيرة التي تطيق الوطء والآيسة، وفيه روايتان عن مالك. قال صاحب "الجواهر": ويجب في الصغيرة إذا كانت ممن قارب سن الحمل كبنت ثلاث عشرة وأربع عشرة، وفي إيجاب الاستبراء إذا كانت ممن يطيق الوطء ولا يحمل مثلها كبنت تسع وعشر روايتان، أثبته في رواية ابن القاسم، ونفاه في رواية ابن عبد الحكم، وإن كانت ممن لا يطيق الوطء فلا استبراء فيها. قال: ويجب الاستبراء ممن جاوزت سن الحيض ولم تبلغ سن اليأس مثل ابنة الأربعين والخمسين، وأما التي قعدت عن المحيض وتأيست عنه، فهل يجب فيها الاستبراء أو لا يجب؟ روايتان لابن القاسم ¬

_ (أ) ساقط من: جـ. (ب) في الأصل، جـ: المازني.

وابن عبد الحكم. قال [المازري] (أ): ووجه استبراء الصغيرة التي تطيق الوطء والآيسة، لأنه يمكن فيهما الحمل على الندور، أو [لمخافة] (ب) الذريعة، لئلا تدعي في مواضع الإمكان أن لا إمكان. قال: ومن ذلك استبراء الأمة خوفًا أن تكون زنت، وهو المعبر عنه بالاستبراء لسوء الظن، وفيه قولان، والنفي لأشهب. قال: ومن ذلك استبراء من كان الغالب على السادات عدم وطئهن، ومن ذلك استبراء من باعها مجبوب أو امرأة أو ذو محرم، ففي وجوبه روايتان عن مالك، ومن ذلك [استبراء] (جـ) المكاتبة [إذا كانت] (د) تتصرف ثم عجزت فرجعت إلى سيدها، فابن القاسم يثبت الاستبراء، وأشهب ينفيه، ومن ذلك استبراء البكر. قال أبو الحسن اللخمي: هو مستحب على وجه الاحتياط غير واجب. وقال غيره من أصحابه: هو واجب. ومن ذلك إذا استبرأ البائع الأمة وعلم المشتري أنه قد استبرأها، فإنه يجزئ استبراء البائع عن استبراء المشتري، ومن ذلك إذا أودعه أمة فحاضت عند المودَع حيضة ثم اشتراها، لم يحتج إلى استبراء ثان، وأجزأت تلك الحيضة عن استبرائها، وهذا بشرط ألا تخرج، ولا يكون سيدها يدخل عليها، ومن ذلك أن يستبرئها من زوجته، أو ولد له صغير في عياله وقد حاضت عند البائع، فابن القاسم يقول: إذا كانت لا تخرج أجزأه ذلك. وأشهب يقول: إذا كانت مع المشتري في دار وهو ذابّ عنها وناظر في أمرها أجزأه (هـ) ذلك، ¬

_ (أ) في الأصل، جـ: المازني. (ب) في الأصل: لحماية. (جـ) في الأصل: اشتراء. (د) ساقط من: الأصل. (هـ) بعده في جـ: في.

سواء كانت تخرج أو لا تخرج، ومن ذلك أن سيد الأمة إذا كان غائبًا فحين قدم اشتراها منه رجل قبل أن تخرج، أو خرجت وهي حائض، فاشتراها قبل أن تطهر، فلا استبراء عليه، ومن ذلك إذا بيعت (أ) وهي حائض في أول حيضها، فالمشهور من مذهبه أن ذلك يكون استبراء لها، لا تحتاج إلى حيضة مستأنفة، ومن ذلك الشريك يشتري نصيب شريكه من الجارية، وهي تحت يد المشتري منهما وقد حاضت في يده، فلا استبراء عليها (ب). انتهى كلامه. وهذا الكلام ينبئ أن مأخذ مالك في الاستبراء إنما هو للعلم ببراءة الرحم، فحيث لا تعلم ولا تظن البراءة وجب الاستبراء، وحيث تعلم أو تظن البراءة فلا استبراء. وقال بهذا أبو العباس بن سريج والإمام أبو العباس بن تيمية، واختاره الإمام محمد بن أبي بكر المعروف بابن قيم الجوزية، وهذا الذي ذكروه قوي، فإن الحكم ليس بتعبدي محض، بل له معنى معقول مناسب للحكم، وهو براءة الرحم للبعد من اختلاط الأنساب، والأحاديث الواردة في سبايا أوطاس منبهة على هذا التعليل؛ ففي "صحيح مسلم" (¬1) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم حنين بعث جيشًا إلى أوطاس، فلقي عدوًّا فقاتلوهم فظهروا عليهم وأصابوا سبايا، وكان ناس من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تحرجوا من غشيانهن من أجل أزواجهن من المشركين، فأنزل الله عزَّ وجلَّ في ذلك: ¬

_ (أ) في جـ: ابتيعت. (ب) في جـ: عليه.

{وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إلا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} (¬1). أي فهن حلال لكم. فكأن التحرج إنما هو في حق من يظن أنها قد وطئها زوج، وفيه من حديث أبي الدرداء (¬2) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مر بامرأة مجح (¬3) على باب فسطاط، فقال: "لعله [يريد] (أ) أن يلم بها؟ ". قالوا: نعم. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لقد هممت أن ألعنه لعنًا يدخل معه قبره؛ كيف يورثه وهو لا يحل له؟ كيف يستخدمه وهو لا يحل له؟ ". وفي الترمذي (¬4) من حديث عرباض بن سارية، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حرم وطء السبايا حتى يضعن ما في بطونهن. وفيه من حديث (ب) رويفع بن ثابت (¬5)، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يسقي ماءه ولد غيره". قال الترمذي: حديث حسن. ولأبي داود (¬6) من حديثه أيضًا: "لا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يقع على امرأة من السبي حتى يستبرئها". وذكر البخاري (¬7) في "صحيحه" عن ابن عمر: إذا وهبت الوليدة التي توطأ، أو بيعت، أو عتقت، فلتستبرأ بحيضة، ولا تستبرأ العذراء. وأخرج عبد الرزاق (¬8) عن معمر عن طاوس: لا ¬

_ (أ) ساقطة من: الأصل، جـ. والمثبت من مصدر التخريج. (ب) بعده في جـ: بشير.

يقعن رجل على حامل ولا حائل حتى تحيض. فهذه الأحاديث فيها إيماء إلى أن العلة الحمل أو تجويزه، وقد عرفت أن الحكم منصوص في السبايا، وقيس عليه انتقال الملك بالشراء وغيره، وذهب داود الظاهري وعثمان البتي إلى أنه لا يجب الاستبراء في غير السبي، أما داود فلأنه لا يثبت الحكم بالقياس، ولأن الشراء ونحوه عقد كالتزويج، وأجيب بأنه قد روي عن علي رضي الله عنه: من اشترى جارية فلا يقربها حتى تستبرأ بحيضة (¬1). وقد تقدم مثله عن عمر (¬2) رضي الله عنه، ولا يقاس على النكاح للفرق، فإن النكاح لا يقتضي ملك الرقبة. كذا ذكره في "البحر"، ولا يخفى ركة الجواب، إذ لا دخل لملك الرقبة في هذا الحكم مع اشتراكهما في الوصف المناسب، وهو العلم ببراءة الرحم المفضي إلى اختلاط الأنساب. وإطلاق هذه الأحاديث في السبايا، وتوقيت الوطء بوضع الحمل أو الحيضة، (أيقضي بحل أ) الوطء، وإن لم يدخلن (ب) في الإسلام، فإنه لو كان الإسلام شرطا لبينه النبي - صلى الله عليه وسلم -، وإلا لزم تأخير البيان عن وقت الحاجة، مع أن فيهم حديثي عهد بالإسلام يخفى عليهم هذا الحكم، وحصول الإسلام من جميع السبايا، وكانوا عدة آلاف بعيد، بل في غاية البعد أن يسلموا جميعهم دفعة واحدة، لا تتخلف عن الإسلام منهن جارية واحدة من غير عرض الإسلام ولا إكراه عليه، ولم يكن لهن رغبة وبصيرة في الدخول في الإسلام يقتضي المبادرة إلى الإسلام قبل ¬

_ (أ- أ) في جـ: بمضي محل. (ب) في جـ: تدخل.

كل شيء، فمقتضى هذه السنة وعمل الصحابة في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قاض بجواز الوطء من دون إسلام، وقد ذهب إلى هذا طاوس وغيره، وقواه صاحب "المغني" (¬1) وقوى أدلته. والله أعلم. 931 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "الولد للفراش وللعاهر الحجر". متفق عليه من حديثه (¬2). ومن حديث عائشة رضي الله عنها في قصةٍ (¬3)، وعن ابن مسعود عند النسائي (¬4)، وعن عثمان عند أبي داود (¬5). الحديث ذكره البخاري من طرق، قال ابن عبد البر (¬6) هو أصح ما روي، فإنه جاء عن بضعة وعشرين نفسًا من الصحابة. قال المصنف (¬7) رحمه الله: وفي الباب عن عمر (أ) وعثمان وابن مسعود وابن الزبير وابن عمرو وأبي أمامة وعمرو (ب) بن خارجة وزيد بن أرقم، وزاد شيخنا: معاوية ¬

_ (أ) في جـ: ابن عمر. (ب) في جـ: عمرو، وكتب فوقها: عثمان.

وابن عمر. وزاد ابن منده (¬1) في "تذكرته": معاذ بن جبل وعبادة بن الصامت وأنس بن مالك وعلي بن أبي طالب والحسين بن علي وعبد الله بن حذافة وسعد بن أبي وقاص وسودة بنت زمعة. وقد وقع لي من حديث ابن عباس وأبي مسعود البدري (أ) وواثلة بن الأسقع وزينب بنت جحش، وجميع هؤلاء وقع عندهم: "الولد للفراش وللعاهر الحجر". انتهى. والحديث فيه دلالة على ثبوت نسب الولد بالفراش من الأب، واختلف العلماء في معنى "الفراش"؛ فذهب الأكثر أنه اسم للمرأة، وقد يعبر به عن حالة الافتراش، وذهب أبو حنيفة إلى أن الفراش اسم للزوج، ونقل ابن الأعرابي (1) ذلك، وأنشد عليه قول جرير (¬2): * باتت تعانقه وبات فراشها * البيت، وهو إما أن يكون مع الحرة، فلا يثبت الفراش منها إلا بإمكان الوطء في نكاح صحيح أو فاسد، وهذا مذهب الهادي والشافعي وأحمد، وذهب أبو حنيفة إلى أنه يثبت بنفس العقد، وإن علم أنه لم يجتمع بها، بل ولو طلقها عقيبه في المجلس. وذهب ابن تيمية (¬3) إلى أنه لا بد من معرفة الدخول المحقق، وقال: إن ¬

_ (أ) بعده في جـ: وابن عباس.

الإمام أحمد أشار إليه في رواية حرب، فإنه قال فيمن طلق قبل البناء وأتت امرأته بولد فأنكره: إنه ينتفي عنه بغير لعان. واختار هذا القول ابن القيم (¬1)، قال: وهل يَعُدُّ أهل اللغة والعرف المرأة فراشا قبل البناء بها؟! وكيف تأتي الشريعة بإلحاق نسب من لم يبْنِ بامرأته ولا دخل بها ولا اجتمع بها، بمجرد إمكان ذلك؟! وهذا الإمكان قد يقطع بانتفائه عادة، فلا تصير المرأة فراشا إلا بدخول محقق. انتهى كلامه. وقد ترجح القول الأول بأن ذلك هو اللائق بالاحتياط في لحوق النسب، ومعرفة الوطء المحقق يتعذر معرفته في حق [غير] (أ) الزوجين، والإشكال إنما هو مع تناكرهما، ففي ثبوته مع إمكان الوطء احتياط في ثبوت النسب، وإلا كان ذريعة لكثير ممن يريد مجرد سفح الماء من غير أن يَلحقه ولد أن ينكر وجود الوطء منه، والشهادة متعذرة، وقد جعل الله له المخرج باللعان، إذا لم يكن منه الولد. ويُشترط أن تأتي بالولد بعد مضي أقل مدة الحمل، وهذا مجمع عليه، إلا أن أبا حنيفة يقول: من يوم العقد. وعند الجمهور من إمكان الوطء؛ لما أومأ إليه النص، وهو قوله تعالى: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا} (¬2). وقوله ¬

_ (أ) ساقطة من: الأصل.

تعالى: {وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ} (¬1). فإنه يعلم منه أن أقل مدة الحمل ستة أشهر، وإنما اشتُرط مُضي أقل مدة الحمل؛ لأنها لو ولدت لأقل من ذلك، قطعنا أنه من قبل العقد، إلا أنه إذا عاش مدة أكثر مما لغير الناقص فذلك لازم، وينتفي بغير لعان، وإن عاش المدة التي يعيش الناقص، كان لاحقا وجرى له حكم الولد، ويُشترط إمكان البلوغ من الزوجين، فلا يلحق بمن كان دون التسع اتفاقًا إذ لم يُعتد ولد لمثله، ويلحق بابن العشر اتفاقًا، إذ قد يمني مثله ولو كان نادرًا، إذ قد حصل الإمكان، وفي ابن التسع تردد؛ قال الشافعي: لا يلحق، إذ لا يمني مثله. وقال الإمام يحيى وأبو إسحاق: يلحق، إذ قد تحيض المرأة لتسع، فيجوز الإمناء في الصبي. والقصد الإمكان، وأما إذا كان النكاح باطلًا فلا يكفي الإمكان، بل لا بد من تحقق الوطء إذ لا حكم للعقد، ويثبت الفراش للخصي والمجبوب؛ لإمكان إلقاء الماء في الرحم، ولا عبرة بقول الأطباء أن ماءه رقيق لا يُخلق منه ولد، وإذا حاضت المرأة ثلاث حيض بعد الطلاق، ثم تزوجت فأتت بولد لدون ستة أشهر، لم يلحق بالأول ولا بالثاني، لأن الحيض يتعذر مع الحمل، والظاهر أنه حيض. وقال الشافعي: بل يلحق بالأول. لأنه لا يتعذر الحيض مع الحمل عنده. وهذا الكلام في الزوجة، وأما فراش الأمة، فظاهر الحديث أنه شامل له، وأنه يثبت الفراش للأمة بالوطء، إذا كانت مملوكة للواطئ، أو في شبهة ملك، إذا اعترف به السيد، أو ثبت بوجه، فإن الحديث ورد في وليدة زمعة، ولفظه في رواية عائشة رضي الله عنها قالت: اختصم سعد بن أبي وقاص ¬

_ (¬1) الآية 14 من سورة لقمان.

وعبد بن زمعة في غلام، فقال سعد: يا رسول الله، هذا ابن أخي عتبة (أ) بن أبي وقاص، عهد إليَّ أنه ابنه، انظر إلى شبهه. وقال عبد بن زمعة: هذا أخي يا رسول الله، ولد على فراش أبي من وليدته. فنظر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى شبهه، فرأى شبهًا بينا بعتبة، فقال: "هو لك يا عبد بن زمعة، الولد للفراش وللعاهر الحجر، واحتجبي منه يا سودة". فلم تره سودة قط (¬1). والحديث كان في فتح مكة، فإنه أثبت الولد بفراش زمعة للوليدة المذكورة، فسبب الحكم ومحله إنما كان في الأمة، وهذا قول الجمهور، وذهب إليه الشافعي ومالك والنخعي وأحمد وإسحاق، ونسبه الإمام يحيى إلى مذهب الهدوية، وذهب أبو حنيفة -وهو مذهب الهدوية والثوري- أن الأمة لا يثبت فراشها إلا بدعوى الولد، ولا يكفي الإقرار بالوطء، فإن لم تدَّعه فلا نسب له وكان ملكًا لمالك الأمة، وإذا قد ثبت فراشها فما ولدته بعد ذلك لحق بالسيد، وإن لم يدَّع المالك ذلك، قالوا: فالفرق بين الحرة والأمة أن عقد النكاح في الحرة إنما يراد للاستفراش [والوطء] (ب) بخلاف ملك اليمين، فإن الوطء والاستفراش تابع وأغلب المنافع غيره، وأجيب عن ذلك بأن الكلام في الأمة التي اتخذت للوطء، فإن الغرض من الاستفراش قد حصل بها، فإذا عرف الوطء كانت فراشًا، ولا يحتاج إلى استلحاق، وهذا الحديث شاهد له؛ فإن عبد بن زمعة لما قال: ولد على فراش أبي. ألحقه النبي - صلى الله عليه وسلم - بزمعة، ولم ينظر إلى الشبه البين الذي فيه المخالف للملحق به، وهذا في حق الأمة المذكورة، ¬

_ (أ) في جـ: عتيبة. (ب) ساقطة من: الأصل.

ولا يجوز تخصيصه منه، فإن العام الوارد على سبب خاص يكون نصا في السبب لا يصح تخصيصه، والخلاف فيه عند أهل الأصول في نوع السبب أو في عينه، والأرجح أنه في نوعه، وأجابت الحنفية ومن قال بقولهم، بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يُلحقه بعبدٍ على أنه أخ له، وإنما ألحقه به مملوكًا، ويدل عليه (أ) أن اللام ظاهرها التمليك في قوله: "هو لك". ويؤكده أنه قد جاء في بعض ألفاظه: "هو لك عبد" (¬1). وجاء في رواية: "احتجبي منه يا سودة، فليس لك بأخ" (¬2). ورجاله رجال الصحيح، إلا شيخ مجاهد وهو يوسف مولى آل (ب) الزبير (¬3)، وقد طعن البيهقي في سنده (¬4) وقال: فيه جرير (¬5) وقد نسب في آخر عمره إلى سوء الحفظ، وفيه يوسف وهو غير معروف. وأجيب عن ذلك بأن قوله: "هو لك". اللام فيه للاختصاص لا للملك، ورواية: "هو لك عبد" (1). باطلة لا تصح أصلا، ومعارضة بالرواية الصحيحة المصرحة بالأخوة، وهو ما أخرجه الإمام البخاري (¬6): "هو لك، هو أخوك يا عبد بن ¬

_ (أ) في جـ: على. (ب) في جـ: أبي.

زمعة". قالوا: أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - سودة بالاحتجاب [منه] (أ)، فلو كان أخًا لها لم يأمرها بالاحتجاب منه. وأجيب عن ذلك بأنه على سبيل الاحتياط والورع والصيانة لأمهات المؤمنين من بعض المباحات مع الشبهة، وذلك لما رآه - صلى الله عليه وسلم - في الولد من الشبه البيّن بعتبة بن أبي وقاص. وفي الحديث دلالة على أن لغير الأب أن يستلحق الولد، مثل استلحاق (ب) عبد بن زمعة للأخ المذكور، بإقراره أن الفراش لأبيه، وظاهر الرواية وإن لم يصدقه سائر الورثة، فإن سودة لم يُذكر منها تصديق ولا إنكار، وإن كان سكوتها وعدم إنكارها لما ادعاه أخوها، قد يُدَّعى أنه قائم مقام الإقرار منها، وقد اتفق أهل العلم على أن للأب أن يستلحق، فأما الجد فإن كان الأب موجودًا لم يؤثر استلحاقه شيئًا، وإن كان معدومًا، وهو كل الورثة، صح إقراره وثبت نسب المقر به، وإن كان بعض الورثة وصدقوه فكذلك، وإلا لم يثبت نسبه، إلا أن يكون أحد الشاهدين فيه مع شاهد آخر، والحكم في الأخ كالحكم في الجد سواء، والأصل في ذلك أن من حاز المال ثبت النسب بإقراره، واحدًا كان أو جماعة، وهذا أصل مذهب أحمد والشافعي؛ لأن الورثة قاموا مقام الميت وحلوا محله، ومذهب الهدوية أنه لا يصح الاستلحاق من غير الأب، وإنما المقر به يشارك المقر في الإرث دون النسب، ومذهب الشافعي أن الإقرار من الوارث هو إقرار خلافة ونيابة عن الميت، وكذا مذهب أحمد فلا يشترط عدالة المستلحق بل ولا إسلامه، وقالت المالكية: هو إقرار شهادة، فتعتبر فيه أهلية الشهادة. وحكى ابن القصار عن مذهب مالك أن الورثة إذا أقروا ¬

_ (أ) في الأصل: عنه. (ب) بعده في جـ: ابن.

بالنسب لحق، وإن لم يكونوا عدولًا، والمعروف من مذهب مالك خلافه، ويدل الحديث على أن للوصي أن يستلحق لموصيه، ويكون كالوكيل له؛ لأن سعدا لم ينكر عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - ما وقع منه من الدعوى، والفراش يثبت أيضًا بالبينة بأن المُدَّعَى ولد على الفراش، أو أنه ابنه أقرّ به، والحديث يدل عليه، وذهبت المالكية إلى أن مثل هذا الحديث مما يدل على (أ) مشروعية حُكم بين حُكمين، وهو أن يأخذ الفرع [شبها] (ب) من أكثر من أصل، فيعطى أحكاما؛ لأن الفراش يقتضي إلحاقه بزمعة، والشبه إلحاقه بعتبة، فأعطي الفرع حُكما بين حُكمين؛ فروعي الفراش في إثبات النسب، وروعي الشبه البيِّن بعتبة في أمر سودة بالاحتجاب، قالوا: وهذا أولى التقديرات، فإن الفرع إذا دار بين أصلين فألحق بأحدهما فقط، فقد أبطل شَبهه بالثاني من كل وجه، فإذا ألحق بكل واحد منهما من وجه، كان أولى من إلغاء أحدهما من كل وجه. وهذا من أحسن الأحكام وأبينها وأوضحها، ولا يمتنع ثبوت النسب من وجه دون وجه كما ذهب أبو حنيفة والأوزاعي وغيرهم، أنه لا يحل أن يتزوج ابنته من الزنى، وإن كان لها حكم الأجنبية، واعترض ذلك ابن دقيق العيد (¬1) بأن هذا الحكم إنما هو إذا دار الفرع بين أصلين شرعيين، يقتضي الشرع الإلحاق بكل واحد منهما من حيث النظر، يعني القياس على أصلين، وههنا لا يقتضي الشرع إلا إلحاق هذا الولد بالفراش، والشبه ها هنا غير ¬

_ (أ) بعده في جـ: أن. (ب) في الأصل: منها.

مقتض للإلحاق، فالحكم بأن الأمر بالاحتجاب للاحتياط [أولى] (أ)، وأنت خبير بأن المثبت لذلك لم يجعله من باب الإلحاق بأصلين، وإنما أثبت هذا الحكم بدليل شرعي سني، وحكمه - صلى الله عليه وسلم - على الواحد حكم على الجماعة، فيكون هذا الحكم -وهو إثبات النسب بالنظر إلى ما يجحب للمدعى من أحكام البنوة- ثابتًا له، وبالنظر إلى ما يتعلق بالغير من النظر إلى المحارم غير ثابت، وهو وقوف على مدلول الواقعة، والحديث يدل على أن الولد لا يثبت إلا بالفراش، لإفادة هذه الصيغة الحصر، ولكن ثبوت الفراش قد يكون بالعقد بالشروط المتقدمة أو بظهور الوطء في حق الأمة وغيرها من المغلوط بها، ونحو ذلك كما تقدم، وإذا قد ثبت الفراش، فلا يُنفى من الحرة الولد إلا بلعان كما تقدم، وأما الأمة فإذا قد ولدت وادعاه على القول باشتراط الدعوى، أو بثبوت الوطء عند من لم يشترط الدعوى، فما حدث من الولد لحق نسبه من دون تجديد دعوى، وذهب الناصر إلى وجوب الدعوى في كل ولد وإلا لم يلحق، فإذا أراد نفي الولد من الأمة بعد ثبوت الفراش لم يكن له ذلك عند الهدوية، وذهب الشافعية؛ قال الرافعي: وهو المنصوص للشافعي. وقال في "الروضة": هو المذهب والمنصوص. ونسبه في "البحر" إلى الحنفية، وهو مروي عن المنصور بالله، أن للسيد النفي للولد إذا علم أنه ليس منه. وقد أخرج ذلك البيهقي (¬1) عن عمر وابن عباس وزيد بن ثابت؛ أنهم أنكروا أولادًا من جواريهم ونفوهم. وقد يقوى هذا القول بأن الله سبحانه جعل للأزواج المخرج من لحوق من لم يكن ¬

_ (أ) ساقطة من: الأصل.

منهم باللعان في حق الزوجات، فلو لم يكن للسيد النفي لزم أن يلحق به من لم يكن منه، واللعان غير مشروع في حقه، وكان في ذلك الحكم غاية العبث والحرج، والله سبحانه أحكم. واختلف العلماء في القافة هل يثبت بها النسب أم لا؛ فذهب العترة وأبو حنيفة إلى أنه لا يثبت النسب بها؛ لأن قوله: "الولد للفراش". يدل على أن القافة غير معتبرة؛ لإفادة مثل هذا التركيب الحصر. وذهب الشافعي وغيره إلى ثبوت النسب بها، إلا أنه إنما يكون فيما أشكل من وطأين محرمين؛ كالمشتري والبائع يطأان الجارية في طهر قبل الاستبراء، كذا قال النواوي (¬1)؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قرر مجزِّزا المدلجي في قوله: هذه الأقدام بعضها من بعض. في حق أسامة وزيد -أخرج القصة البخاري ومسلم (¬2) - فقرر قوله، واستبشر بذلك، ودخل على عائشة وأسارير وجهه تَبرُق، وأخبرها بما قاله المدلجي. وقال - صلى الله عليه وسلم - في حق الملاعنة: "إن جاءت به على نعت كذا، فهو لشريك بن سحماء" (¬3). وقال: "لولا الأيمان لكان لي ولها شأن" (¬4). وقال في جواب أم سليم لما قالت: أو تحتلم المرأة؟ فقال: "مم يكون الشبه؟! " (¬5). وقال: "إن (أ) ماء الرجل إذا سبق ماء المرأة كان الشبه له، وإذا ¬

_ (أ) ساقط من: جـ.

سبق ماؤها كان الشبه لها" (¬1). وأخرج سعيد بن منصور (¬2) عن عمر، في امرأة وطئها رجلان في طهر، فقال القائف: قد اشتركا فيه جميعًا. فجعله بينهما. قال الشعبي: وعليٌّ يقول: هو ابنهما وهما أبواه يرثانه. أخرجه سعيد (2) أيضًا. وروى الأثرم بإسناده عن سعيد بن المسيب في رجلين اشتركا في طهر امرأة، فحملت فولدت غلامًا يشبههما، فرفع ذلك إلى عمر فدعا القافة فنظروا، فقالوا: نراه يشبههما. فألحقه بهما وجعله يرثهما ويرثانه (¬3). ولا يعرف في الصحابة قط من يخالف عمر وعليًّا في ذلك، بل حكم عمر بهذا في المدينة وبحضرة المهاجرين والأنصار ولم ينكره منهم منكر، وأجابت الحنفية عن ذلك، بأن نسب أسامة قد ثبت بالفراش، وسرور النبي - صلى الله عليه وسلم - بقول القائف إنما هو لإلزام الخصم الذي يقول بالقافة؛ لأن المنافقين كانوا يحبون الطعن في نسب أسامة، وكانت العرب تعتبر القافة، فكان في قول القائف إقناع للخصم، وقطعٌ للجاجه في الباطل وتماديه في العناد، فلم يكن سكوت النبي - صلى الله عليه وسلم - عن إنكارها واستبشاره دلالة على ثبوتها طريقًا في إثبات النسب، وبأن قصة الملاعنة تدل على عدم اعتبار الشبه؛ لأنه لو كان معتبرًا لما لاعن ولقال: انتظروها، فإن جاءت به كذا فهو لكذا. فما فعل اللعان إلا لأنه لا يُعتبر، وبأن ما ذكر من الشبه بسبب المني لا يدل على اعتبار ذلك في ثبوت النسب، وبأن حكم عليٍّ وعمر قد وقع فيه الاختلاف، فقد روي ذلك، وروي عن عمر أن القائف قال له: قد اشتركا فيه. فقال له ¬

_ (¬1) البخاري 6/ 362 ح 3329. (¬2) سعيد بن منصور -كما في زاد المعاد 5/ 419 - وينظر تحفة الأحوذي 3/ 194. (¬3) شرح معاني الآثار 4/ 163.

عمر: [والِ] (أ) أيهما شئت (¬1). فلم يعتبر قول القائف. والجواب عن ذلك؛ أما قصة أسامة، فإن الاحتجاج بها إنما هو لسكوت النبي - صلى الله عليه وسلم - عن إنكار كونها طريقا يثبت بها النسب، مع أنه لم يسبق من النبي - صلى الله عليه وسلم - إظهار إنكارها حتى يقال: إن تقريره لا يكون مثبتًا لها. وإن ذلك مثل مُضي كافر ذمي إلى كنيسته مما قد عرف إنكاره، ولم ينكره في الحال اعتمادًا على ذلك، فكان سكوته عن إنكارها تقريرًا لثبوتها طريقًا، والاستبشار بذلك يزيده وضوحًا. وأما قصة الملاعنة، فالنسب كان ثابتًا بالفراش، والفراش هو أقوى ما يثبت به، فلا تعارضه القافة، فإنها إنما تعتبر مع الاحتمال عند القائل بها، فلا يعارض الفراش ويبطل حكمه إلا الأيمان التي شرعها الله سبحانه لدفعه، فيكون معنى قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لولا الأيمان لكان لي ولها شأن" (¬2). أي لولا ما شرعه الله من الأيمان، ولم يشرع القافة في مثل ذلك، وأما ثبوت الشبه بسبق المني فهو مثبت للشبه الذي يستند إليه القائف، وهو محصل للظن الذي ثبت اعتباره في كثير من الأحكام الشرعية. وأما قصة الذي ولدت امرأته ولدًا أسود مخالفًا للون أبيه (¬3)، فلم يمكنه من النفي بمخالفة الشبه لثبوت ما هو أقوى منه، وهو الفراش، فلم يقو (ب) ¬

_ (أ) في الأصل، جـ: إلى. والمثبت من مصادر التخريج. (جـ) في جـ: يقف.

على معارضته، مع أن في الجواب بقوله: "لعلها نزعة عرق" (¬1). ما يدل على أن الشبه معتبر، وأما ما روي عن عمر بقوله: [والِ] (أ) أيهما شئت (ب). فهو غير ثابت ولا يعرف صحته [عن عمر] (جـ)، مع أن قوله: [والِ]، (أ) أيهما شئت. لم يكن فيه إبطال لقول القائف، فإن القائف قد حكم باشتراكهما فيه. ومسألة إذا ألحقه القائف باثنين، فيها خلاف أيضًا، ذهب الشافعي إلى إبطال قوليهما، قال: لأنه لا يكون للرجل إلا أب واحد. وقال الجمهور: بل يصح أن يُلحقه باثنين. ونص أحمد في رواية مهنّا (¬2) إلى أنه يصح أن يلحقه بثلاثة، وقال صاحب "المغني" (¬3): إنه يلحق بمن ألحقه القائف وإن كثروا؛ لأنه إذا جاز إلحاقه باثنين جاز إلحاقه بأكثر من واحد. وقد جوز الهدوية والحنفية في الأمة المشتركة والمشتراة الموطوءة في طهر واحد، وادعاه الشركاء - لحوقه بهم. وقال محمد بن الحسن: لا يلحق بأكثر من ثلاثة. وقال أبو حامد: لا يلحق بأكثر من اثنين. وهو قول أبي يوسف، قال الملحقون: إنه إذا جاز تخلق الولد من ماء اثنين، جاز من أكثر من ذلك. وقد أخرج أبو داود والنسائي (¬4) من طريقين، في إسناد إحداهما من لا يحتج به، ¬

_ (أ) في الأصل، جـ: إلى. (ب) في جـ: يثبت. (جـ) ساقطة من: الأصل.

والطريق الأخرى كل رجالها ثقات إلا احتمال الإرسال فيها، أن عليًّا رضي الله عنه أتى إليه ثلاثة وهو باليمن وقعوا على امرأة واحدة في طهر واحد يتنازعون في ولد، فسأل اثنين أن يُقرَّا لهذا، قالا: لا. حتى سألهم جميعًا، فجعل كلما سأل اثنين قالا: لا. فأقرع بينهم، فألحق الولد بالذي صارت عليه القرعة، وجعل عليه ثلثي الدية، قال: فذكر ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - فضحك حتى بدت نواجذه. فهذه القصة رجع فيها إلى القرعة، وقد اختلف الفقهاء في هذا الحكم؛ فذهب إسحاق بن راهويه إلى العمل بظاهر هذا، وقال: هو السنة في دعوى الولد. وكان الشافعي يقول به في القديم، وأما الإمام أحمد بن حنبل فسئل عن هذا ورجح عليه حديث القافة، وقال: حديث القافة أحب إلي. وبقي الكلام في تغريم الدية، ولعله يقال: إنه لما تعين له بالقرعة صار حكمه حكم المتلف للولد عليهما، وضمان الحر بالدية كمن أتلف عبدًا له شريك فيه، فإنه يضمن حصة الشريك، والله أعلم. وقوله: "وللعاهر الحجر". العاهر الزاني، يقال: عهر. أي زنى. ويختص بالليل، ومعنى: له الحجر. أي له الخيبة، ولا حق له في الولد، وعادة العرب أنها تقول: له الحجر. و: بفيه الأثلب. وهو التراب. ونحو ذلك، يريدون ليس له إلا الخيبة. وقيل: المراد بالحجر هنا، أنه يرجم بالحجارة. وهو ضعيف؛ لأنه لا يرجم بالحجارة إلا المحصن.

باب الرضاع

باب الرضاع هو بفتح الراء وكسرها، والرضاعة بفتح الراء وكسرها، وقد رضع يرضع بفتح الضاد في الماضي وكسرها في المضارع رضعًا كضرب يضرب ضربًا، وأرضعته أمه، وامرأة مرضع؛ أي لها ولد ترضعه، فإن أردت حدوث ذلك المعنى قلت: مرضعة. بالهاء. 932 - وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تحرم المصة والمصتان". أخرجه مسلم (¬1). المصة، الواحدة من المص، وهو أخذ اليسير من الشيء، كذا في "الضياء" (¬2)، وفي "القاموس" (¬3): مصصته بفتح العين وكسرها: [شربته] (أ) شربًا رفيقًا. والحديث فيه دلالة على أن مص الصبي للثدي مرة أو مرتين لا يحرم ولا يكون للرضاع به حكم، وأما الزائد على ذلك كالثلاث، فيؤخذ من مفهوم العدد أن ذلك يحرم، وقد ذهب إلى هذا أبو ثور وأبو عبيد وابن المنذر وداود بن علي الظاهري، وهو رواية عن أحمد، وقد اختلف العلماء في هذا؛ ¬

_ (أ) في الأصل: شرفته.

فذهبت طائفة من السلف والخلف إلى أنه يحصل التحريم بقليل الرضاع وكثيره، وهو مروي عن علي وابن عباس (¬1)، وهو قول سعيد بن المسيب والحسن والزهري وقتادة والحكم وحماد والأوزاعي والثوري، وهو مذهب الهادي والقاسم وأبي حنيفة ومالك. وحدُّه ما وصل الجوف [بنفسه] (أ)، وزعم الليث بن سعد أن المسلمين أجمعوا على أن قليل الرضاع وكثيره يحرم منه ما يفطر الصائم، وهذا رواية عن الإمام أحمد. وذهب الشافعي، وهو رواية عن أحمد، إلى أنه لا يثبت بأقل من خمس رضعات، وهو قول عبد الله بن مسعود وعبد الله بن الزبير (¬2)، وعطاء وطاوس، وهو إحدى روايات ثلاث عن عائشة، ورواية (¬3) أنه لا يحرم أقل من سبع، والثالثة (¬4): لا يحرم أقل من عشر. وحجة الأولين أنه سبحانه علق التحريم باسم الرضاع، فحيث وجد اسمها وجد حكمها، والنبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "يحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب" (¬5). وهو موافق لإطلاق القرآن، وثبت في "الصحيحين" (¬6) عن ¬

_ (أ) ساقطة من: الأصل.

عقبة بن الحارث، أنَّه تزوج أم يحيى بنت أبي إهاب، فجاءت أمة سوداء فقالت: قد أرضعتكما. فذكر ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: "كيف وقد زعمت أن قد أرضعتكما؟ ". ولم يسأل عن عدد الرضاع، قالوا: ولأنه قد يتعلق به التحريم، فاستوى قليله وكثيره كالوطء الموجب له، ولأن إنشاز العظم وإنبات اللحم يحصل بقليله وكثيره، ولأن أصحاب العدد قد اختلفت أقوالهم في الرضعة وحقيقتها واضطربت أشد الاضطراب، وما كان هكذا لم يجعله الشارع نصابًا؛ لعدم ضبطه والعلم به. وحجة من قال بتحريم ما زاد على الاثنتين، أنَّه قد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال: "لا تحرم المصة والمصتان". وفي رواية (¬1): "الإملاجة والإملاجتان". وفي حديث آخر (¬2): أن رجلًا قال: يا رسول الله، هل تحرم المصة الواحدة؟ قال: "لا". وهذه الأحاديث صحيحة رواها مسلم في "صحيحه"، فهي دالة نصًّا على أن الواحدة والاثنتين لا تحرمان، ويؤخذ من مفهوم العدد أن الزائد على ذلك يحرم، ويدل عليه عموم الآية الكريمة. قالوا: ولأن ما يعتبر فيه العدد والتكرار يعتبر فيه الثلاث، ولأنها أول مراتب الجمع، وقد اعتبرها الشارع في مواضع كثيرة، وحجة من اعتبر الخمس ما سيأتي من حديث عائشة رضي الله عنها، وقد أخبَرت عائشة بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - توفي والأمر على ذلك (¬3). وقوله - صلى الله عليه وسلم - لسهلة بنت سهيل: "أرضعي سالمًا خمس رضعات تحرمي عليه" (¬4). والعمل به لا يخالف حديث: "المصة ¬

_ (¬1) مسلم 2/ 1074 ح 1451/ 18. (¬2) مسلم 1/ 1075 ح 1451/ 23. (¬3) مسلم 2/ 1075 ح 1452/ 24، وأبو داود 2/ 230 ح 2062. (¬4) مالك 2/ 605 ح 12، وأحمد 6/ 201، وسيأتي ح 934 بدون موضع الشاهد.

والمصتان"؛ لأن ذلك دلالة مفهوم، وهذا دلالة مفهوم، ويرجع إلى الترجيح بينهما بأن هذا نص على المقصود، لأنه لبيان أول مراتب التحريم، فلو لم يكن أول مراتب التحريم، وجوزنا أن التحريم حاصل بدونها، كان فيه تلبيس على السامع، ولم يبين له وقت الحاجة، بخلاف دلالة: "لا تحرم المصة والمصتان". فإنه يدل على أن هذا القدر لا يحرم، وإن كان الثلاث والأربع مثل هذا، والاقتصار على هذا القدر لا يوقع في الخطأ، والاعتراض على حديث عائشة بأنها روت ذلك قرآنًا، والقرآن لا يثبت بخبر الواحد، ولم تروه خبرًا عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، فإذا لم يثبت كونه قرآنا، ولم تروه خبرًا، فلا يعمل به - مندفع بأنه وإن لم يثبت كونه قرآنا ولا تجري [عليه] (أ) أحكام القرآن من أحكام اللفظ، فقد روته عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، فله حكم الخبر في جواز العمل؛ لأنهما حكمان متغايران، وقد عمل بمثل ذلك الفقهاء؛ فالشافعي وأحمد في هذا الموضع، وأبو حنيفة احتج بقراءة ابن مسعود في صيام الكفارة: (فصيام ثلاثة أيام متتابعات) (¬1). ومالك وأصحابه في فرض الأخ من الأم السدس بقراءة أُبي: (وله أخ أو أخت من أم) (¬2). والناس كلهم احتجوا بهذه القراءة، وكانت سند الإجماع، وهذا مثل رواية عمر: (الشيخ والشيخة إذا زنيا) (¬3). ¬

_ (أ) ساقطة من: الأصل.

وحجة من قال بالسبع ما أخرجه ابن أبي خيثمة (¬1) بإسناد صحيح عن عائشة رضي الله عنها، رواها عبد الله بن الزبير، وعبد الرزاق (¬2) من طريق عروة: كانت عائشة تقول: لا تحرم دون سبع رضعات أو خمس. وحجة من قال بالعشر ما أخرجه في "الموطأ" (¬3) عن عائشة رضي الله عنها: لا يحرم دون العشر. وعن حفصة كذلك (¬4)، وهذان المذهبان لا حجة لهما ظاهرة إلا على القول بأن قول الصحابي يكون حجة، ولكنه لا يعارض ما تقدم من الأحاديث المرفوعة، والموقوف دون المرفوع لا يقوى على المعارضة. وقد سئل طاوس عن قول من يقول: لا يحرم من الرضاع دون سبع رضعات. فقال: قد كان ذلك، ثم حدث بعد ذلك أمر جاء بالتحريم، المرة الواحدة [تحرم] (أ) (¬5). وقد روي مذهب آخر، وهو الفرق بين أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - وغيرهن، قال طاوس: كان لأزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - رضعات محرمات، ولسائر الناس رضعات معلومات، ثم ترك ذلك بعد (¬6). ¬

_ (أ) في الأصل، جـ: تحريم. والمثبت من مصدر التخريج.

والرضعة فعلة من الرضاع، فهي مرة منه؛ كضربة وجلسة وأكلة، فمتى التقم الثدي فامتص منه ثم تركه باختياره من غير عارض كان ذلك رضعة، والقطع العارض لتنفس أو استراحة يسيرة أو لشيء يلهيه ثم يعود عن قرب لا يخرجه عن كونه رضعة واحدة، كما أن الآكل إذا قطع أكلته بذلك ثم عاد عن قريب كان ذلك أكلة واحدة، وهذا مذهب الشافعي، وللشافعية فيما إذا قطعته المرضعة ثم عاد إليه الصبي وجهان، هل ذلك رضعتان -لأن الرضاع يكون من الراضع والمرضع- أو رضعة واحدة؟ لأن الاعتبار بفعل الرضيع، كما أنَّه لو رضع وهي نائمة صح ذلك. [وكذلك إذا انتقل من ثديها الأول إلى ثديها الآخر أنها رضعة واحدة أو أنها] (أ) رضعتان، لأنه ارتضع وقطعه باختياره؟ ومذهب الإمام أحمد بن حنبل فيه تفصيل. قال صاحب "المغني" (¬1): إذا قطع قطعًا بينًا باختياره كان ذلك رضعة، فإن عاد كانت رضعة أخرى، وإن قطع لضيق نفس أو للانتقال من ثدي إلى ثدي أو لشيء يلهيه، أو قطعت عليه المرضعة، نُظِر؛ فإن لم يعد قريبًا فهي رضعات، وإن عاد في الحال ففيه وجهان؛ أحدهما أن الأولى رضعة، فإذا عاد فهي رضعة أخرى. والثاني أن جميع ذلك رضعة كما هو مذهب الشافعي، والله أعلم. ¬

_ (أ - أ) ساقطة من: الأصل.

933 - وعنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "انظرن مَن إخوانكن، فإنما الرضاعة من المجاعة". متفق عليه (¬1). لفظ الحديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دخل عليها وعندها رجل، فكأنه تغير وجهه، كأنه كره ذلك، فقالت: إنه أخي. فقال: "انظرن من إخوانكن، فإنما الرضاعة من المجاعة". قال المصنف (¬2) رحمه الله تعالى: لم أقف على اسمه وأظنه ابنًا لأبي القعيس، وغلط من قال: هو عبد الله بن يزيد رضيع عائشة. لأن عبد الله هذا تابعي باتفاق الأئمة، وكأن أمه التي أرضعت عائشة عاشت بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - فولدته، فلهذا قيل له: رضيع عائشة. وقوله في الحديث: "انظرن من إخوانكن". بلفظ "من" في رواية الكشميهني، وفي رواية غيره: "ما إخوانكن". والأولى أوجه؛ لأن "من" لمن يعقل، والمعنى الأمر بالتأمل فيما وقع من الرضاع، هل هو رضاع صحيح بشرطه، من وقوعه في زمن الرضاع ومقدار الإرضاع؟ فإن الحكم الَّذي ينشأ من الرضاع، إنما يكون إذا وقع الرضاع المشترط، قال المهلب: المعنى: انظرن ما سبب هذه الأخوة، فإن حرمة الرضاع إنما هي في الصغر، حين تسد الرضاعة المجاعة. وقال أبو عبيد (¬3): معناه أن الَّذي إذا جاع كان طعامه الَّذي يشبعه اللبن من الرضاع، لا حيث يكون الغذاء بغير الرضاع. ¬

_ (¬1) البخاري، كتاب النكاح، باب من قال: لا رضاع بعد حولين 9/ 146 ح 5102، ومسلم كتاب الرضاع، باب إنما الرضاعة من المجاعة 2/ 1078 ح 1455/ 32. (¬2) الفتح 9/ 147، 148. (¬3) غريب الحديث 2/ 149.

وقوله: "فإنما الرضاعة من المجاعة". تعليل للباعث على إمعان النظر والفكر، بأن الرضاعة التي تثبت بها الحرمة وتحل بها الخلوة هي حيث يكون الرضيع طفلًا يسد اللبن جوعته؛ لأن معدته ضعيفة يكفيها اللبن، وينبت بذلك لحمه فيصير جزءًا من المرضعة، فيشترك في الحرمة مع أولادها، فهو في قوة: [لا رضاعة] (أ) معتبرة إلا المغنية عن المجاعة، أو المطعمة من المجاعة. كقوله تعالى: {أَطْعَمَهُمْ من جُوعٍ} (¬1). ويؤيده حديث ابن مسعود الآتي: "لا رضاع إلا ما أنشز العظم وأنبت اللحم" (¬2). وحديث أم سلمة: "لا يحرم من الرضاع إلا ما فتق الأمعاء" (¬3). أخرجه الترمذي وصححه. والحديث فيه دلالة على أن الرضاع إنما يثبت له الحكم حيث كان الصبي يحتاجه لسد جوعته، وهو من يعتاد مثله الاكتفاء باللبن، وتعلق الحكم بالمظنة وإن كان الناس يختلف حالهم في ذلك ولم يكن فيه تحديد. مدة ولا تقدير ما الَّذي يحصل به ذلك، ففيه إجمال بالنظر إلى هذا الحكم، قال المصنف (¬4) رحمه الله تعالى: يمكن أن يستدل به على أن الرضعة الواحدة لا تحرم؛ لأنها لا تغني من جوع، وإذا كان يحتاج إلى تقدير فأولى ما يؤخذ به ما قدرته الشريعة وهو خمس رضعات، واستدل به على أن التغذية بلبن المرضعة تحرم، سواء كان بشرب أم أكل بأي صفة كان؛ وَجُورًا ¬

_ (أ) في الأصل: لرضاعة، وفي جـ: ولا رضاعة.

أو سَعوطا (¬1)، أو غير ذلك، لأن ذلك يسد من الجوع. وهذا قول الجمهور، وخالفت الهدوية والحنفية في الحقنة فقالوا: لا توجب تحريمًا. وقال الليث وأهل الظاهر: إن الرضاع المحرم إنما يكون بالتقام الثدي ومص اللبن منه. وهو جمود على مسمى الرضاع كما هو مذهبهم. 934 - وعنها قالت: جاءت سهلةُ بنتُ سُهَيلٍ فقالت: يا رسولَ اللَّهِ، إن سالمًا مولى أبي حُذيفةَ معنا في بيتنا، وقد بلَغ ما يبلُغُ الرجالُ. فقال: "أرضِعِيهِ تحرمي عليه". رواه مسلم (¬2). الحديث فيه دلالة على أن الرضاع يثبت له حكم التحريم ولو كان الراضع كبيرًا بالغًا، وهذا مذهب عائشة، ورواه مالك (¬3) عن ابن شهاب أنَّه سئل عن رضاعة الكبير، فقال: أخبرني عروة بن الزبير بحديث أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - سهلة بنت سهيل برضاع سالم ففعلت، وكانت تراه ابنًا لها. قال عروة: فأخذت بذلك عائشة أم المؤمنين، فمن كانت تحب أن يدخل عليها من الرجال، فكانت تأمر أختها أم كلثوم وبنات أخيها يرضعن من أحبت أن يدخل عليها من الرجال. وقال عبد الرزاق (¬4): ثنا ابن جريج قال: سمعت عطاء بن أبي رباح وسأل رجل فقال: سقتني امرأة من لبنها بعد ما كنت رجلًا كبيرًا، أفأنكحها؟ قال عطاء: لا تنكحها. فقلت له: وذلك رأيك؟ قال: نعم، كانت عائشة تأمر بذلك بنات أخيها. وهذا قول ثابت عن ¬

_ (¬1) الوجور جعل الدواء وشبهه في الفم. والسعوط جعله في الأنف. ينظر التاج (وجـ ر، س ع ط). (¬2) مسلم كتاب الرضاع، باب رضاعة الكبير 2/ 1076 ح 1453/ 27. (¬3) الموطأ 2/ 605، 606 ح 12. (¬4) عبد الرزاق 7/ 458 ح 13883.

عائشة، ويروى عن علي (¬1) وعروة بن الزبير، وهو قول الليث بن [سعد] (أ) وأبي محمد بن حزم، ولم ينسبه في "البحر" إلا إلى عائشة وداود الظاهري، وحجتهم هذا الحديث، وهو حديث صحيح لا يمتري أحد في صحته، صريح في أن رضاع الكبير يحرم مثل رضاع الصغير، قالوا: وهو مبين للمراد من قوله تعالى. {حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} (¬2) أن المراد إنما هي الرضاعة الموجبة للنفقة للمرضعة، والتي يجبر عليها الأبوان رضيا أم كرها، ويزيد ذلك وضوحًا آخر الآية، وهو قوله تعالى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ}. وقوله تعالى: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ} (¬3). مطلق غير موقت الرضاع فيه بوقت، فهذا الحديث يبين أن (ب) الإطلاق مقصود، والرد بأن هذا خاص بسالم كما قال بعض أزواج رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، كما روي عن أم سلمة أنها قالت: ما نرى هذا إلا خاصًّا بسالم، وما ندري لعله رخصة لسالم (¬4) -لا يدفع الحديث، لأن ذلك تظنن، ولا يعارض السنة الصحيحة، ولذلك قالت عائشة: أما لك في رسول الله أسوة حسنة (¬5)؟ فسكتت أم سلمة ولم ¬

_ (أ) في الأصل، جـ: سعيد وأبي محمد بن سعد. (ب) ساقطة من: الأصل.

تنطق بحرف، ولو كان خاصًّا بسالم لبينه النبي - صلى الله عليه وسلم - كما بين اختصاص أبي بُردة بالتضحية بالجذعة من المعز (¬1). ودعوى النسخ؛ لأن هذه القصة كانت في أول الهجرة نزلت عقيب نزول قوله تعالى: {ادْعُوهُمْ لِأَبآئِهِمْ} (¬2). ولأن راوي أحاديث الصغير ابن عباس (¬3) وأبو هريرة وأم سلمة (¬4) لا تتم، فإن النسخ إنما يصح ويتم إذا عرف التاريخ والتقدم والتأخر وعدم احتمال التأويل، وهذه منتفية، وكون ابن عباس وأبي هريرة من المتأخرين لا يفيد التاريخ؛ لأنهما لم يصرحا بالسماع، وهو يجوز أنهما سمعا من غير النبي - صلى الله عليه وسلم -، مع أن في بعض روايات سالم ما يدل على أن قصتها متأخرة عن اعتبار الحولين، فإنها قالت: كيف أرضعه وهو رجل كبير؟ فاستنكارها يدل على أن هذا التحليل بعد اعتقاد التحريم، والتأويل أيضًا ممكن كما أولت الآية الكريمة. وذهب الجمهور من الصحابة والتابعين والفقهاء إلى أن الرضاع المعتبر ما كان في الصغر، واختلفوا في قدر ذلك على أقوال؛ فذهب العترة والشافعي وأحمد وأبو يوسف ومحمد إلى أنَّه يشترط أن يكون في الحولين، ولا يحرم ما كان بعدهما، وصح ذلك عن عمر وابن مسعود وأبي هريرة وابن عباس وابن عمر (¬5)، وروي عن سعيد بن المسيب والشعبي وابن ¬

_ (¬1) البخاري 2/ 465 ح 976، ومسلم 3/ 1552، 1553 ح 1961/ 5. (¬2) الآية 5 من سورة الأحزاب. (¬3) سيأتي ح 939. (¬4) سيأتي ح 938. (¬5) عبد الرزاق 7/ 465 ح 13904 - 13906، وابن أبي شيبة 4/ 290، 291، والدارقطني 4/ 173.

شبرمة، وهو قول سفيان وإسحاق وأبي عبيد وابن حزم وابن المنذر وداود وجمهور أصحابه. وقالت طائفة: الرضاع المحرم ما كان قبل الفطام. ولم يقدروه بزمن. صح ذلك عن أم سلمة وابن عباس، وروي عن علي (¬1)، ولم يصح عنه، وهو قول الحسن والزهري وقتادة وعكرمة والأوزاعي، قال الأوزاعي: إن فطم وله عام واحد [و] (أ) استمر فطامه ثم رضع في الحولين لم يحرم هذا الرضاع شيئًا، فإن تمادى رضاعه ولم يفطم، فإنه ما كان في الحولين يحرم، وما كان بعدهما فإنه لا يحرم وإن تمادى الرضاع. وقالت طائفة: المحرم ما كان في الصغر. ولم يوقته هؤلاء بوقت، وروي هذا عن ابن عمر وابن المسيب وأزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - خلا عائشة (¬2). وقال أبو حنيفة وزفر: ثلاثون شهرًا. وعن أبي حنيفة رواية أخرى كقول أبي يوسف ومحمد. وقال مالك في المشهور من مذهبه (¬3): يحرم في الحولين وما قاربهما، ولا حرمة له بعد ذلك. ثم روي عنه اعتبار أيام يسيرة، وروى عنه شهران، وروي عنه شهر ونحوه، وروى عنه الوليد بن مسلم وغيره أن ما كان بعد ¬

_ (أ) ساقطة من: الأصل، جـ. والمثبت من المحلى 11/ 198.

الحولين من رضاع بشهر أو شهرين أو ثلاثة فإنه عندي من الحولين. وهذا هو المشهور عند كثير من أصحابه، والذي رواه عنه أصحاب "الموطأ" وكان يقرأ عليه إلى أن مات. قوله فيه: وما كان من الرضاع بعد الحولين، فإن قليله وكثيره لا يحرم شيئًا، إنما هو بمنزلة الماء. هذا لفظه، وقال (¬1): إذا فصل الصبي قبل الحولين، واستغنى بالطعام عن الرضاع، فما ارتضع بعد ذلك لم يكن للرضاع حرمة. وقال الحسن بن صالح وابن أبي ذئب وجماعة من أهل الكوفة: مدة الرضاع ثلاث سنين، فما زاد عليها لم يحرم. وقال عمر بن عبد العزيز: مدته إلى سبع سنين. وكان يزيد بن هارون يحكيه عنه كالمتعجب من قوله، وروي عنه خلاف هذا. وحكي عن ربيعة أن مدته حولان واثنا عشر يومًا. وذهب شيخ الإسلام ابن تيمية إلى أن الرضاع يعتبر فيه الصغر، إلا فيما دعت إليه الحاجة كرضاع الكبير الَّذي لا يستغنى عن دخوله [على] (أ) المرأة ويشق احتجابها عنه كحال سالم مع امرأة أبي حذيفة، فمثل هذا الكبير إذا أرضعته للحاجة أثّر رضاعه، وأما من عداه فلا بد من الصغر، وفي هذا جمع للأحاديث الواردة، والعمل بها ممكن، وهو الواجب ما أمكن، وحجة القائلين باعتبار الحولين قوله تعالى: {حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ ¬

_ (أ) في الأصل: عن.

الْرَّضَاعَةَ}. فدل على أنَّه لا حكم لما بعدهما فلا يتعلق به التحريم، وقد تقدم بيان المراد من الآية، وحديث ابن عباس: "لا رضاع إلا ما كان في الحولين". وحديث ابن مسعود: "لا يحرم من الرضاع إلا ما أنشز العظم وأنبت اللحم". ورضاع الكبير لا ينبت لحمًا ولا ينشز عظمًا. والجواب ممكن عن الاحتجاج المذكور، بأن المراد بـ: "لا رضاع إلا ما كان في الحولين". أي الرضاع المحتاج إليه في حق الصغير النافع له، المغني عن الطعام والشراب. وأما حديث ابن مسعود فقد يدَّعى فيه أن رضاع الكبير بفعل ما ذكر، ويكون الغرض منه بيان أن القليل لا ينفع كالمصة، فإنها لا تنبت لحمًا، ويؤيده ذكر الخمس الرضعات أو العشر. وحديث: "لا رضاع إلا ما كان في الثدي" (¬1). قد يصلح متمسَّكًا لمن يقول: الرضاع لا يكون إلا قبل الفطام. وإن فسر الثدي بأيام الحولين كان حجة لأهل الحولين، وأما حجة من اعتبر الفطام فحديث أم سلمة: "يحرم من الرضاع ما كان قبل الفطام". وحديث ابن عباس: "لا رضاع بعد الفطام". علق الحكم بالفطام، وحديث: "الرضاعة من المجاعة". يفهم منه ذلك، فإن المراد سد الجوع، ولا يكون سد الجوع إلا فيمن لا يستغني بغير الرضاع، ويجاب عنه بأن الحكم معلق بالحالة الأغلبية، وإلا فقد لا يرضع أحد غير أيام اللِّبَأ (¬2) ويستغني بغير الرضاع، وأما حجة من قال بالثلاث أو بالسبع فلم أقف عليها، والله أعلم. 935 - وعنها أن أفلح أخا أبي القعيس جاء يستأذن عليها بعد الحجاب، قالت: فأبيت أن آذن له، فلما جاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخبرته ¬

_ (¬1) سيأتي ح 938. (¬2) اللبأ: أول الألبان عند الولادة. النهاية 4/ 221، واللسان (ل ب أ).

بالذي صنعته، فأمرني أن آذن له عليَّ، وقال: "إنه عمك". متفق عليه (¬1). أفلح بالفاء والحاء المهملة مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقيل: مولى أم سلمة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم -. والقُعَيس بقاف، وعين وسين مهملتين، مصغرًا، وجاء في رواية مسلم: هو أفلح بن قعيس. قال المصنف (¬2): والمحفوظ أفلح أخو أبي القعيس، ويحتمل أن يكون اسم أبيه قعيسًا أو اسم جده فنسب إليه، فتكون كنيته -أي الأخ- أبا القعيس، وافقت اسم أبيه أو اسم جده، ويؤيده ما وقع في الأدب (¬3) من طريق عقيل عن الزهري: [فإن] (أ) أخا [أبي] (ب) القعيس. وكذا وقع عند النسائي (¬4) من طريق وهب بن كيسان عن عروة، وفي مسلم (¬5) من رواية ابن عيينة عن الزهري: أفلح بن أبي القعيس. وكذا لأبي داود (¬6) عن هشام بن عروة عن أبيه، ولمسلم (¬7) من طريق ابن جريج عن عطاء أخبرني عروة أن عائشة قالت: استأذن عليَّ عمي من الرضاعة أبو ¬

_ (أ) في الأصل: كان. (ب) في الأصل، جـ: بنى. والمثبت من مصدر التخريج.

الجعد. قال: فقال لي هشام: إنما هو أبو القعيس. وكذا عند مسلم (¬1) من طريق أبي معاوية عن هشام: استأذن عليها أبو القعيس. وسائر الرواة عن هشام قالوا: أفلح أخا أبي القعيس. كما هو المشهور، ووقع عند سعيد بن منصور والطبراني (¬2) أن الَّذي استأذن عليها أبو القعيس. واسم أبي القعيس وائل بن أفلح الأشعري، وكذا سماه الدارقطني، وحكى هذا ابن عبد البر (¬3)، وحكى أيضًا أن اسمه الجعد، فعلى هذا يكون أخوه وافق اسمه اسم أبيه، ويحتمل أن يكون أبو القعيس [نسب] (أ) لجده، ويكون اسمه وائل بن قعيس بن أفلح، قال ابن عبد البر: لا أعلم لأبي القعيس ذكرًا إلا في هذا الحديث. الحديث فيه دلالة على ثبوت حكم الرضاع في حق زوج المرضعة وأقاربه كالمرضعة، وذلك لأن سبب اللبن هو ماء الرجل والمرأة معًا، فوجب أن يكون الرضاع منهما، كالجد لما كان سبب ولد الولد أوجب تحريم ولد الولد به لتعلقه بولده، ولذلك قال ابن عباس في هذا الحكم: اللقاح واحد. أخرجه ابن أبي شيبة (¬4)، فإن الوطء يدر اللبن، فللرجل فيه نصيب، وقد ذهب إلى هذا الجماهير من الصحابة والتابعين، والعترة، وفقهاء الأمصار؛ ¬

_ (أ) في الأصل، جـ: نسبا. والمثبت من الفتح 9/ 150.

كالأوزاعي في أهل الشام، والثوري وأبي حنيفة وصاحبيه في أهل الكوفة، وابن جريج في أهل مكة، ومالك في أهل المدينة، والشافعي وأحمد وإسحاق وأبي ثور وأتباعهم، والحديث يدل دلالة صريحة على ذلك، وفي رواية سفيان عند أبي داود (¬1) زيادة تصريح، قالت: دخل عليَّ أفلح، فاستترت منه، فقال: أتستترين مني وأنا عمك؟ قلت: من أين؟ قال: أرضعتك امرأة أخي. قلت: إنما أرضعتني المرأة ولم يرضعني الرجل. الحديث. ووقع في رواية شعيب (¬2) في آخره من الزيادة قال عروة: فبذلك كانت عائشة تقول: حرموا من الرضاع ما يحرم من النسب. وفي رواية سفيان بن عيينة (¬3): ما تحرمون من النسب. وظاهره الوقف، وقد جاء في رواية مسلم (¬4) في هذا الحديث قال - صلى الله عليه وسلم -: "لا تحتجبي منه، فإنه يحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب". والخلاف في ذلك عن ابن عمر وابن الزبير ورافع بن خديج وزينب بنت أم سلمة (¬5) وعائشة في رواية مالك في "الموطأ" وسعيد بن منصور في "السنن" (¬6) وأبي عبيد في كتاب النكاح بإسناد حسن -وعن سعيد بن المسيب وأبي سلمة والقاسم وسالم وسليمان بن يسار وعطاء بن يسار والشعبي وإبراهيم النخعي وأبي قلابة وإياس بن معاوية، ¬

_ (¬1) أبو داود 2/ 228 ح 2057. (¬2) البخاري 8/ 531، 532 ح 4796. بلفظ: ما تحرمون من النسب. (¬3) سعيد بن منصور في سننه 1/ 237 ح 951، 952. بلفظ: ما يحرم من النسب. (¬4) مسلم 2/ 1070 ح 1445/ 9. (¬5) مصنف عبد الرزاق 7/ 474 ح 13943، وابن أبي شيبة 4/ 349، والمحلى 11/ 170، 171. (¬6) مالك 2/ 604، وسعيد بن منصور 1/ 239 ح 963.

أخرجها ابن أبي شيبة وعبد الرزاق وسعيد بن منصور (¬1) وابن المنذر وعن ابن سيرين وربيعة الرأي وإبراهيم بن علية وابن بنت الشافعي وداود وأتباعه، وأغرب عياض ومن تبعه في تخصيصهم ذلك بداود وإبراهيم، قالوا: لا يثبت حكم الرضاع للرجل؛ لأن الرضاع إنما هو للمرأة التي اللبن منها، ويدل على ذلك قول الله تعالى: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ} (¬2). ولما روي أن عبد الله بن الزبير أرسل إلى زينب بنت أم سلمة يخطب ابنتها أم كلثوم على حمزة بن الزبير، وكان حمزة أمه الكلبية، وكانت زينب قد رضعت من أسماء بنت أبي بكر زوجة الزبير، فقالت: لا تحل له هي ابنة أخته. فقال عبد الله: إنما أردت المنع، أما ما ولدت أسماء فهم إخوتك، وأما ما كان من عدا أسماء فليسوا لك بلإخوة، فأرسلي فسلي عن هذا. فأرسلت فسألت وأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - متوافرون، فقالوا لها: إن الرضاعة من قبل الرجل لا تحرم شيئًا. فأنكحتها إياه، فلم تزل عنده حتَّى هلك عنها (¬3). قالوا: ولم ينكر ذلك الصحابة رضي الله عنهم. والجواب عن ذلك أن الآية الكريمة لم يكن فيها ما يعارض الحديث، فإن ذكر الأمهات لا يدل على أن ما عداهن ليس كذلك، فإنه مفهوم لقب. وقوله: ¬

_ (¬1) مصنف عبد الرزاق 7/ 472، 474 ح 13936، 13943، 13944، ومصنف ابن أبي شيبة 4/ 349، 350، وسنن سعيد بن منصور 1/ 238، 239، 245 ح 158 - 960، 963، 988. (¬2) الآية 23 من سورة النساء. (¬3) الشافعي 7/ 265، 266، وابن أبي شيبة 4/ 349، 350.

{وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ}. [يحتمل] (أ) للتناول على فرض ثبوت حكم اللبن للرجل وعدم التناول على تقرير عدمه، وأما سؤال الصحابة، فالمسألة اجتهادية، ولعل من قال بالجواز يذهب إلى هذا اجتهادًا منه، واجتهاد الصحابي لا يكون حجة على الصحيح، ولا تصح دعوى الإجماع لسكوت الصحابة عن الإنكار، لأن المسألة اجتهادية، وقد صح عن علي (¬1) القول باعتباره، وكذا عن ابن عباس أخرجه البخاري لما سئل عن الحل، فقال: لا، اللقاح واحد (¬2). إلا أنَّه يلزم الحنفية ذلك، لأن عائشة عملت بخلاف ما روت، والعمل عندهم بما رأى لا بما روى، وألزم الشافعي والمالكية مثل ذلك، وذلك أنهم يقدمون عمل أهل المدينة على الخبر الآحادي، وقد قال عبد العزيز بن محمد عن ربيعة: إن لبن الفحل لا يحرم. قال عبد العزيز: وهذا رأي فقهائنا إلا الزهري. قال الشافعي: فيلزمهم على هذا؛ إما يردوا هذا الخبر وهم لم يردوه، أو يردوا ما خالف الخبر، يعني من عمل أهل المدينة، فيخالفون أصلهم. انتهى. والحديث قد يستدل به على أن قليل الرضاع يحرم كما يحرم كثيره، لعدم الاستفصال فيه، ويجاب عنه بأن عدم الذكر لا يدل على أنَّه لم يستفصل في نفس الأمر، وعلى أن من شك في أمر يتوقف عنه حتَّى يسأل العلماء عنه، وأن من اشتبه عليه الأمر طالب المدعي ببيانه، وأنه يجب الحجاب ¬

_ (أ) كذا في الأصل، جـ، ولعل الصواب: محتمل.

من الأجانب، وأن المحرم يستأذن على محرمه، وأن المرأة لا تأذن في بيت الرجل إلا بإذنه، وقد جاء في رواية (¬1) زيادة: "تربت يداك". وهو يؤخذ من الزيادة أنَّه لا ينبغي الجزم بالحكم قبل الاستثبات فيه، والله سبحانه أعلم. 936 - وعنها رضي الله عنها قالت: كان فيما أنزل من القرآن: (عشر رضعات معلومات يحرمن). ثم نسخن بخمس معلومات، فتُوفِّي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهن فيما يقرأ من القرآن. رواه مسلم (¬2). الحديث تقدم الكلام في أحكامه (¬3). وقوله: معلومات. فائدة التقييد به بأنه لا يثبت حكم الرضاع إلا بعد تعدد الرضعات، وأنه لا يكفي في ذلك الظن، ويشترط تحقق العشر، وإلا فالرجوع إلى الأصل وهو عدم ثبوت حكم الرضاع. وقوله: فيما يقرأ. بضم الياء، يعني أن النسخ بخمس رضعات تأخر إنزاله جدًّا حتَّى إنه - صلى الله عليه وسلم - توفي وبعض لم الناس يقرأ خمس رضعات، ويجعلها قرآنا متلوًّا؛ لكونه لم يبلغه النسخ لقرب عهده، فلما بلغهم النسخ بعد ذلك رجعوا عن ذلك، وأجمعوا على أنَّه لا يتلى. والنسخ على ما هو معروف ثلاثة أنواع؛ أحدها، ما نسخ حكمه وتلاوته كـ: (عشر رضعات). والثاني، ما نسخ تلاوته دون حكمه كـ: (خمس رضعات)، وكـ: (الشيخ والشيخة إذا زنيا ¬

_ (¬1) مسلم 2/ 1069 ح 1445/ 4. (¬2) مسلم، كتاب الرضاع، باب التحريم بخمس رضعات 2/ 1075 ح 1452/ 24. (¬3) ينظر ما تقدم ص 275 - 280.

فارجموهما) (¬1). والثالث، ما نسخ حكمه وبقيت تلاوته، وهو الأكثر، كقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوَنَ مِنكُمْ} الآية (¬2). وقد تقدم تحقيق القول في حكم هذا الحديث. 937 - وعن ابن عباس رضي الله عنهما، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أريد على ابنة حمزة، فقال: "إنها لا تحل لي، إنها ابنة أخي من الرضاعة، ويحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب". متفق عليه (¬3). الحديث، قوله: أريد. القائل له بذلك علي رضي الله عنه كما أخرجه مسلم من حديثه، وابنة حمزة اختلف في اسمها على سبعة أقوال؛ أمامة وعمارة وسلمى وعائشة وفاطمة وأمة الله ويعلى. وحكى المزي (¬4) في أسمائها أم الفضل، وجزم ابن بشكوال (¬5) بأن ذلك كنية، والنبي - صلى الله عليه وسلم - رضع من ثويبة أمة أبي لهب بعد أن أرضعت حمزة، ثم أرضعت أبا سلمة. وقوله: "ويحرم من الرضاع ما يحرم من النسب". وذلك بالنظر إلى المرضع، وأن أقاربه أقارب للرضيع، وأما أقارب الرضيع فلا علاقة بينهم وبين ¬

_ (¬1) تقدم ص 278. (¬2) الآية 240 من سورة البقرة. (¬3) البخاري، كتاب النكاح، باب: [وَأُمَهَاتِكُمْ الْلَائِي أَرْضَعْنَكُمْ} 9/ 140 ح 5100، ومسلم كتاب الرضاع، باب تحريم ابنة الأخ من الرضاعة 2/ 1071، 1072 ح 1447/ 13. (¬4) تهذيب الكمال 35/ 397. (¬5) غوامض الأسماء المبهمة 12/ 710.

المرضع، فلا يثبت [لهم] (أ) حكم من الأحكام، والأحكام التي تثبت في الرضاع هي: جواز النظر، والخلوة، والمسافرة، لا غير ذلك من التوارث ووجوب الإنقاق والعتق بالملك والشهادة والعقل وإسقاط القصاص. قال القرطبي (¬1): وقع في رواية (¬2): "ما يحرم من الولادة". وفي رواية: "ما يحرم من النسب". وهو دال على جواز نقل الرواية بالمعنى. قال: ويحتمل أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - قال اللفظين في وقتين. 938 - وعن أم سلمة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يحرم من الرضاع إلا ما فتق الأمعاء، وكان قبل الفطام" .. رواه الترمذي وصححه هو والحاكم (¬3). قوله: "فتق الأمعاء". أي سلك فيها؛ من الفتق بمعنى الشق، والأمعاء جمع المعى، بفتح الميم وكسرها. تقدم الكلام في الحديث. 939 - وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لا رضاع إلا في الحولين. رواه الدارقطني وابن عدي (¬4) مرفوعًا وموقوفًا ورجحا الوقوف. ¬

_ (أ) ساقطة من: الأصل.

الحديث أخرجه الدارقطني من حديث عمرو بن دينار عن ابن عباس، وقال: تفرد برفعه الهيثم بن جميل (¬1) عن ابن عيينة، وكان ثقة حافظًا. وقال ابن عدي: يعرف بالهيثم، وغيره لا [يرفعه] (أ) وكان يغلط. ورواه سعيد بن منصور (¬2) عن ابن عيينة فوقفه. وقال البيهقي (¬3): الصحيح أنَّه موقوف. وروى البيهقي (3) عن عمر وابن مسعود التحديد بالحولين. وهو يدل على اعتبار الحولين، وإن كان يحتمل أن النفي إنما هو لنفع الرضاع للمولود، أو لما يجب على الأب فيه تسليم أجرة المرضعة، ويكون معناه ما دلت عليه الآية الكريمة، وقد تقدم الكلام في ذلك. 940 - وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا رضاع إلا ما أنشز العظم، وأنبت اللحم". أخرجه أبو داود (¬4). الحديث أخرجه أبو داود بلفظ: "لا رضاع إلا ما أنشز". إلخ، من حديث أبي موسى الهلالي عن أبيه عن ابن مسعود. وأبو موسى (¬5) وأبوه، قال أبو حاتم (¬6): مجهولان. لكن أخرجه البيهقي (¬7) من وجه آخر، من ¬

_ (أ) في الأصل، جـ: يعرفه. والمثبت من التلخيص الحبير 4/ 4.

حديث أبي حصين عن أبي عطية مع قصة. قوله: "أنشز". ويروى بالراء المهملة، أي شد العظم وقواه، من الإنشار بمعنى الإحياء، وروي بالزاي المعجمة، أي رفعه وأعلاه وأكبر حجمه، وهو من النشز المرتفع من الأرض. كذا في "النهاية" (¬1). تقدم الكلام في الحديث. 941 - وعن عقبة بن الحارث رضي الله عنه، أنَّه تزوج أم يحيى بنت أبي إهاب، فجاءت امرأة فقالت: قد أرضعتكما. فسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: "كيف وقد قيل؟ ". ففارقها عقبة، فنكحت زوجًا غيره. أخرجه البخاري (¬2). هو أبو سروعة عقبة بن الحارث بن عامر القرشي النوفلي، وذكر أهل النسب أن أبا سروعة أخوه، وأنهما أسلما جميعًا يوم الفتح، وعداد عقبة في أهل مكة، روى عنه عبد الله بن أبي مليكة وعبيد بن أبي مريم، وقيل: إن ابن أبي مليكة لم يسمع منه، وأن عبيد بن أبي مريم بينهما. وسروعة بكسر السين المهملة وسكون الراء وفتح الواو والعين المهملة، وعبيد بضم العين المهملة، وأم يحيى صحابية واسمها غنية بفتح العجمة وكسر النون بعدها ياء تحتانية مثقلة، وفي النسائي (¬3) اسمها زينب، ولعل غنية لقبها، وإهاب بكسر الهمزة وبالباء الموحدة. ¬

_ (¬1) النهاية 5/ 54، 55. (¬2) البخاري، كتاب النكاح، باب شهادة المرضعة 9/ 152 ح 5104. (¬3) النسائي -كما في الفتح 5/ 268.

قوله: فجاءت امرأة. قال المصنف (¬1) رحمه الله تعالى: لم أعرف اسمها، واحتمل أنها مملوكة، أو غير مملوكة، وجزم الإمام أحمد بن حنبل بأنها أمة، رواه عنه جماعة كأبي طالب ومهنا وحرب وغيرهم، وقال الإسماعيلي: قد جاء في بعض طرقه: فجاءت مولاة لأهل مكة. قال: وهذا اللفظ يطلق على الحرة [التي] (أ) عليها الولاء، فلا دلالة فيه على أنها كانت رقيقة. وتعقب بأنه صرح البخاري في كتاب الشهادة بأنها أمة سوداء، وما عرفتَ عن أحمد. والحديث فيه دلالة على أن شهادة المرضعة تقبل وحدها، وبوب على ذلك البخاري، وقال: باب شهادة المرضعة. وقد ذهب إلى هذا الإمام أحمد بن حنبل كما قال علي بن [سعيد] (ب): سمعت أحمد يسأل (جـ) عن شهادة المرأة الواحدة في الرضاع، فقال: تجوز على قول عقبة بن الحارث. وهو قول الأوزاعي، ونقل عن عثمان وابن عباس والزهري والحسن (¬2) وإسحاق، وروى عبد الرزاق (¬3) عن ابن جريج عن ابن شهاب، قال: فرق عثمان بين ناس تناكحوا بقول امرأة سوداء أنها أرضعتهم. قال ابن شهاب: الناس يأخذون [بذلك] (5) من قول عثمان. واختاره أبو عبيد إلا أنَّه قال: ¬

_ (أ) في الأصل: الَّذي. (ب) في الأصل، جـ، والفتح 5/ 268: سعد. وهو علي بن سعيد بن جرو أبو الحسن النسوي، كبير القدر، صاحب حديث، كان يناظر الإمام أحمد مناظرة شافية، روى عنه جزأين مسائل. طبقات الحنابلة 1/ 224، 225. (جـ) في الأصل، جـ: يسأله. والمثبت من الفتح 5/ 268. (د) في الأصل، جـ: ذلك. والمثبت من الفتح.

يجب على الرجل [المفارقة] (أ)، ولا يجب على الحاكم الحكم بذلك، وإن شهد معها غيرها وجب الحكم به. وروي عن مالك أيضًا. وفي رواية [عنه] (ب): بشرط أن يفشو ذلك. وروي عن مالك أنَّه لا يقبل في الرضاع إلا شهادة امرأتين. وبه قال ابن القاسم [من] (جـ) أصحابه: بشرط أن يفشو قولهما (د) بذلك قبل الشهادة. ومن المالكية من لم يشترط الفشو، وهو مذهب مطرف وابن الماجشون. وذهب العترة والحنفية إلى أنَّه لا يقبل في الرضاع إلا رجلان أو رجل وامرأتان كغيره من الأحكام، ولا تكفي شهادة المرضعة، لأنها تُقرر فعلها، قال في "البحر": لقوله تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ} (¬1) الآية. وقد أخرج أبو عبيد (¬2) من طريق عمر وعلي بن أبي طالب وابن عباس والمغيرة بن شعبة، أنهم امتنعوا من التفرقة بين الزوجين بذلك، وقال عمر: فرق بينهما إن جاءت بينة، وإلا فخل بين الرجل والمرأة، ولو فتح هذا الباب لم تشأ امرأة أن تفرق بين زوجين إلا فعلت. وذهب الشافعي إلى أنها تقبل مع ثلاث نسوة بشرط ألا تتعرض لطلب أجرة. وهذه الأقوال راجعة إلى عموم دليل الشهادة، وقد اعتبر فيها العدد، ¬

_ (أ) في الأصل، جـ: المفارق. والمثبت من الفتح 5/ 268. (ب) ساقطة من: الأصل. (جـ) في الأصل: و. (د) في جـ: قولها.

وأجابوا عن هذا الحديث بأنه محمول على الاستحباب والتحرز عن مظان الاشتباه، والجواب عنه بأن ذلك خلاف الظاهر لا سيما مع ذكر أنَّه تكرر سؤاله للنبي - صلى الله عليه وسلم - في ذلك أربع مرات (¬1)، وأجابه بقوله: "كيف وقد قيل؟ " (¬2). وفي بعضها: "دعها". وفي رواية الدارقطني (¬3): "لا خير لك فيها". ولو كان من باب الاحتياط لأمره بالطلاق مع أن في جميع الروايات لم يذكر الطلاق، ولا منع بن أن يكون هذا الحكم مخصوصًا من عموم الشهادة المعتبر فيها [العدد] (أ)، كما اعتبر أكثر المخالفين لهذا في عورات النساء شهادة المرأة الواحدة، مع أن العلة واحدة في ذلك، لأنه قلَّما يطلع عليه الرجال، فالضرورة داعية إلى اعتبار ذلك. 942 - وعن زياد السهمي قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن تسترضع الحمقاء. أخرجه أبو داود (¬4)، وهو مرسل، وليست لزياد صحبة. الحمقاء: المرأة خفيفة العقل. والنهي عن ذلك لما أن الطباع تكتسب. ¬

_ (أ) ساقطة من: الأصل.

باب النفقات

باب النفقات النفقات: جمع نفقة، والمراد بها الشيء الَّذي يبذله الإنسان فيما يحتاجه هو أو غيره من الطعام والشراب وغيره. 943 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: دخلت هند بنت عتبة امرأة أبي سفيان على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت: يا رسول الله، إن أبا سفيان رجلٌ شحيحٌ، لا يعطيني هن النفقة ما يكفيني ويكفىِ بَنيَّ إلا ما أخذت من ماله بغير علمه، فهل علي في ذلك من جناح؟ فقال: "خذي من ماله بالمعروف ما يكفيك ويكفى بنيك". متفق عليه (¬1). قوله: دخلت هند. هي هند بنت عتبة بن ربيعة بن عبد شمس بن عبد مناف، أسلمت بعد إسلام زوجها أبي سفيان، وهو أسلم [بعد] (أ) أن أخذته خيل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ليلة الفتح وأجاره العباس، ثم دخل مكة مسلمًا، فغضبت هند لإسلامه وأخذت بلحيته، ثم إنها بعد استقرار النبي - صلى الله عليه وسلم - بمكة جاءت فأسلمت وبايعت، قتل أبوها عتبة وعمها شيبة وأخوها الوليد بن عتبة يوم بدر فشق عليها، فلما قتل الحمزة رضي الله عنه يوم أحد فرحت بذلك، وعمدت إلى بطه فشقته وأخذت كبده فلاكتها ثم لفظتها، ماتت في المحرم سنة أربع عشرة يوم مات أبو قحافة والد أبي بكر، وأخرج ابن سعد في ¬

_ (أ) ساقطة من: الأصل.

"الطبقات" (¬1) ما يدل على أنها عاشت بعد ذلك، وأن عثمان لما أفرد معاوية بولاية الشام (أ) وأشخص أبا سفيان إلى معاوية ومعه ابناه عتبة وعنبسة، فكتبت هند إلى معاوية: قد قدم عليك أبوك وأخواك فاحمل أباك على فرس وأعطه أربعة آلاف درهم، واحمل عتبة على بغل وأعطه ألفي درهم، واحمل أخاك عنبسة على حمار وأعطه ألف درهم. ففعل ذلك، فقال أبو سفيان: أشهد الله أن هذا عن رأي هند. وكان عتبة [منها] (ب)، وعنبسة من غيرها، أمه عاتكة بنت أبي أزيهر الأسدي (جـ). وذكر الميداني في "الأمثال" (1) أنها عاشت بعد أبي سفيان، وأن رجلًا سأل معاوية أن يزوجه أمه، فقال: إنها قعدت عن الولد. وكانت وفاة أبي سفيان في خلافة عثمان سنة اثنتين وثلاثين. وأبو سفيان هو صحر بن حرب بن أمية بن عبد شمس، [زوجها] (د)، وكان قد رأس في قريش بعد وقعة بدر وسار بهم في أحد، وساق الأحزاب يوم الخندق، ثم أسلم ليلة الفتح. قولها: رجل شحيح. الشح البخل مع حرص، فيكون أخص من هذا الوجه من البخل، والبخل يختص بمنع المال، والشح بكل شيء، وقيل: ¬

_ (أ) بعده في جـ: جميعا. (ب) ساقطة من: الأصل. (جـ) كذا في الأصل، جـ. وفي الفتح 9/ 508: الأزدي. وفي الإصابة 8/ 10: الدوسي. (د) في الأصل، جـ: تزوجها. والمثبت من الفتح الموضع السابق.

الشح لازم [كالطبع] (أ)، والبخل غير لازم. قال القرطبي (¬1): لم تُرد هند وصف أبي سفيان بأن هذا حاله مطلقًا بل حاله معها، فإن كثيرًا من الرؤساء يفعل ذلك مع أهله ويؤثر الأجانب، وفي بعض ألفاظ البخاري (¬2): رجل مِسِّيك. بكسر الميم وتشديد السين على المبالغة، وقيل: بوزن شحيح. قال النووي (1): هذا هو الأصح من حيث اللغة، وإن كان الأول أشهر في الرواية. وفي هذا دلالة على جواز ذكر الإنسان بما يكره إذا كان على وجه الاشتكاء أو الاستفتاء، وهو أحد المواضع التي يجوز فيها الغيبة. والذكر بصيغة التعطم في قولها: إن أبا سفيان. بالكنية. وقد يقال: إن الكنية كانت أشهر فيه من اسمه، فهو وجه تخصيصها. والحديث فيه دلالة على وجوب كفاية الزوجة والأولاد، وظاهره عموم الولد ولو كان كبيرًا لعدم الاستفصال، وإن كان ذلك أنه - صلى الله عليه وسلم - عارف بأولادها وهم صغار. والظاهر أن فيهم من كان بالغًا كمعاوية، فإنه أسلم مع أبيه عام الفتح وعمره نحو من ثماني وعشرين سنة. وقد يُجاب عنه بأنها واقعة عين لا عموم لها، إلا أن جوابه عليها بقوله: "وبنيك". عموم لفظ، وهو لا يُقصر على سببه. ¬

_ (أ) في الأصل، جـ: كالطمع. والمثبت من الفتح 9/ 508.

وفيه ذكر الكفاية من غير تقدير للنفقة، وقد ذهب إلى هذا الجمهور من العلماء ومنهم الهادي والقاسم والمؤيد وأبو طالب، وهو قول الشافعي حكاه عنه الجويني، وهو مطابق لقوله تعالى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} (¬1). وذهب الشافعي إلى تقديرها بالأمداد، فعلى الموسر كل يوم مُدَّان، والمتوسط مُدٌّ ونصف، والمعسر مدٌّ، وهذا رواية عن مالك أيضًا، وذكبر في "المنتخب" للهادي أن الموسر عليه ثلاثة أمداد سوى الإدام، والمعسر (أ) مدٌّ ونصف، وفي "الفنون" للهادي: في كل يوم مدان، وفي كل شهر درهمان للإدام. وقال القاضي أبو يعلى (¬2): الواجب رطلان من الخبز في كل يوم في حق الموسر والمعسر، وإنما يختلفان في صفته وجودته؛ لأن الموسر والمعسر مستويان في قدر المأكول، وإنما يختلفان في الجودة [والرداءة] (ب) وغيرها. قال النواوي (¬3): وهذا الحديث حجة على من اعتبر التقدير. قال المصنف رحمه الله (¬4): ليس صريحا في الرد عليهم، ولكن التقدير بما ذكر يحتاج إلى دليل، فإن ثبت حملت الكفاية في الحديث على ذلك المقدَّر. وقولها: إلا ما أخذت من ماله بغير علمه. في هذا دلالة على أن الأم ¬

_ (أ) في جـ: المعتبر. (ب) ساقطة من: الأصل.

لها أن تنفق على أولادها، وأن لها ولاية على (أ) ذلك مع تمرد الأب، وعلى أن من تعذر عليه استيفاء ما يجب له جاز له ذلك بغير حكم؛ وذلك لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يبين لها أن ذلك حرام عليها، فإنها قالت: هل عليَّ من جناح. وأجاب عليها بإباحة الأخذ في المستقبل، فيدل (ب) أن الماضي كذلك. ولا يقال: إن الإباحة في المستقبل حكم منه - صلى الله عليه وسلم -. وذلك جائز بالحكم إجماعًا، بخلاف الماضي فإنه سكت عن جوابه. لأنا نقول: هي سألت عما وقع منها في الماضي، فلو كان ذلك غير جائز لبين ذلك ولما ألغى الجواب عنه وعدل إلى الأمر لها بالأخذ، مع أنَّه قد جاء في لفظ للبخاري (¬1) ذكره في باب المظالم أنَّه قال: "لا حرج عليك أن تطعميهم بالمعروف". وظاهره نفي الحرج قبل الأمر وبعده. ويستدل به على جواز القضاء على الغائب، كما قال الرافعي في القضاء على الغائب: احتج أصحابنا على الحنفية [بمنعهم] (جـ) القضاء على الغائب بقصة هند، وكان [ذلك] (5) قضاء من النبي - صلى الله عليه وسلم - على زوجها وهو غائب. قال النواوي (¬2): لا يصح الاستدلال بمثل هذه القصة؛ لأنها كانت بمكة وكان أبو سفيان حاضرًا بها، وشرط القضاء على الغائب أن يكون غائبًا عن ¬

_ (أ) في جـ: مع. (ب) بعده في جـ: على. (جـ) في الأصل: مع منعهم. (د) ساقطة من: الأصل.

البلد أو [مستترا] (أ) لا يُقدر عليه أو متعذرًا، ولم يكن هذا في أبي سفيان، فلا يكون هذا قضاء ويكون إفتاء، وقد وقع في كلام الرافعي في مواضع أنَّه إفتاء. انتهى. وقد أخرج ابن سعد في "طبقاته" (¬1) أن أبا سفيان كان جالسًا معها في المجلس. ورجال إسناده رجال الصحيح، إلا أنَّه أُرسِل (ب) عن الشعبي أن هندًا لما بايعت لي جاء قوله: {وَلَا يَسْرِقْنَ} (¬2). قالت: قد كنت أصبت من مال أبي سفيان. فقال أبو سفيان: فما أصبت من مالي فهو حلال لك. ويمكن تعدد القصة، فإن هذا وقع لما بايعت، ثم جاءت مرة أخرى فسألت عن الحكم، وتكون فهمت من الأول إحلال أبي سفيان لها ما مضى، فسألت عما يستقبل، لكن يشكل على ذلك ما أخرجه ابن منده في "المعرفة" (¬3) عن عروة قال: قالت هند لأبي سفيان: إني أريد أن أبايع. قال: فإن فعلت فاذهبي معك برجل من قومك. فذهبت إلى عثمان فذهب معها، فدخلت منتقبة، فقال: "بايعي على ألا تشركي" الحديث. وفيه: فلما فرغت قالت: يا رسول الله، إن أبا سفيان رجل بخيل. الحديث. قال: "ما تقول يا أبا سفيان؟ ". قال: أما يابسًا فلا، وأما رطبًا فأحله. وذكر أبو نعيم ¬

_ (أ) في الأصل: متعززا، وفي جـ: متعزز. والمثبت من شرح مسلم. (ب) في الفتح 9/ 510: مرسل.

في "المعرفة" (¬1) أن عبد الله بن محمد تفرد به، وهو ضعيف (¬2)، وأول حديثه يقضي بأن أبا سفيان كان غائبًا، وآخره يدل على أنَّه حاضر (أ)، إلا أن يحتمل أنَّه كان غائبًا فأرسل إليه لما شكت [منه] (ب)، ويؤيده ما أخرجه الحاكم في تفسير "الممتحنة" من "المستدرك" (¬3) أنَّه لما اشترط: {وَلَا يَسْرِقْنَ}، قالت هند: لا أبايعك على السرقة، إني أسرق من زوجي. فكَف حتَّى أرسل إلى أبي سفيان يتحلل لها منه، فقال: أما الرَّطْب فنعم، وأما اليابس فلا. وهذا المذكور يدل على أنَّه قضاء على حاضر، ويرد (جـ) على هذا تبويب البخاري (¬4) بقوله: باب القضاء على الغائب. وذكر (د) هذا الحديث في الباب، فقد رجح أنَّه كان غائبًا، وتكفي الغَيبة عن مجلس الحكم وإن لم يكن خارجا عن البلد كما هو الظاهر. ويرجح كونه قضاء لا إفتاء التعبير بصيغة الأمر حيث قال: "خذي". ولو كانت فتيا لقال: لا حرج عليكِ إذا أخذتِ. ولأن الأغلب من تصرفاته الحكم، ويرجح كونه فتيا وقوع الاستفهام في القصة، وتفويض تقدير ما ¬

_ (أ) في جـ: خاص. (ب) ساقطة من: الأصل. (جـ) في جـ: يرجح رد. (د) في جـ: ذلك على.

تأخذ إليها، ولو كان قضاء لم يفوض ذلك إليها وهي المدعية، ولأنه لم يستحلفها على ما ادعت ولا كلَّفها (أ) البينة. وقد يجاب عن ذلك بأن الاستفهام لا ينافي طلبها الحكم، وتقدير النفقة أنَّه وكلها في ذلك إلى العرف في الكفاية، وهو في حكم المقدر، وأنه حكم بعلمه بصدقها، فلم يطلب منها اليمين ولا البينة، ويكون ذلك حجة لمن يجيز للحاكم أن يحكم بعلمه، مع أنَّه يجوز أن يقال: كل حكم صدر من الشارع فإنه ينزل منزلة الإفتاء بذلك الحكم في تلك الواقعة. وفي الحديث دلالة على أن الحاكم أو الفتي يجوز له الإطلاق، ولا يحتاج إلى أن يقيد ذلك بأن يقول: إن ثبت ذلك كان كذا. فإن قيَّد جاز. وأنه يجوز الاعتماد على العرف في الأمور (ب) التي ليس فيها تحديد شرعي. وأنه يجوز للمرأة الخروج من بيتها لحاجتها. والله أعلم. 944 - وعن طارق المحاربي قال: قدمنا المدينة، فإذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قائم على المنبر يخطب الناس ويقول: "يد المعطي العليا، وابدأ بمن تعول، أمك وأباك، وأختك وأخاك، ثم أدناك أدناك". رواه النسائي، وصححه ابن حبان والدارقطني (¬1). هو طارق بن عبد الله المحاربي، روى عنه جامع بن شداد، ورِبْعي - ¬

_ (أ) في جـ: كفلها. (ب) في جـ: الأموال.

بكسر الراء وسكون الباء الموحدة وكسر العين المهملة وتشديد الياء- ابن حِراش، بكسر الحاء المهملة وتخفيف الراء وبالشين المعجمة. قوله: "يد المعطي العيا". فيه تفسير للحديث الآخر: "اليد العليا خير من اليد السفلى". وقد فسَّر في "النهاية" (¬1) اليد العليا بالمعطية أو بالمنفقة، واليد السفلى بالسائلة أو المانعة. وفي قوله: "وابدأ بمن تعول". فيه دلالة على وجوب الإنفاق على القريب، وقد فصل ذلك في وجوب التقديم، فالأم قبل الأب. إلى آخر ما ذكر. والحديث فيه دلالة على أن الأم تقدم على الأب في البر عند ألا يتسع المال للوفاء بذلك، بتقديم الأم في اللفظ. قال عياض (¬2): ذهب الجمهور إلى أن الأم تفضَّل في البر على الأب. وقيل: يكونان سواء. ونقله بعضهم عن مالك، والصواب الأول. وقد ذهب إلى أنهما سواء بعض الشافعية، لكن نقل الحارث المحاسبي (2) الإجماع على تفضيل الأم في البر، وفيه نظر. والمنقول عن مالك ليس صريحًا في ذلك، فقد ذكره ابن بطال (¬3) قال: سئل مالك: طلبني أبي فمنعتني أمي. قال: أطع أباك ولا تعص أمك. قال ابن بطال: هذا يدل على أنَّه يرى أنهما سواء في البر. كذا قال، وليس الدلالة بواضحة. قال: وسئل الليث عن المسألة بعينها فقال: أطع أمك فإن لها ثلثي ¬

_ (¬1) النهاية 3/ 294. (¬2) الفتح 10/ 402. (¬3) شرح البخاري لابن بطال 9/ 190، 191.

البر. وهذا كلام الليث على مقتضى الرواية التي كرر فيها ذكر الأم مرتين والأب مرة واحدة، وقد أخرجها البخاري في "الأدب المفرد" وأحمد وابن ماجة وصححه الحاكم (¬1) ولفظه: "إن الله يوصيكم بأمهاتكم، ثم يوصيكم بأمهاتكم، ثم يوصيكم بآبائكم، ثم يوصيكم بالأقرب فالأقرب". وأخرج الحاكم (¬2) من حديث أبي رِمْثة -بكسر الراء والثاء المثلثة وسكون الميم-: "أمك أمك (أ) وأباك، ثم أختك وأخاك، ثم أدناك أدناك". مثل حديث طارق في الجمع بالواو بين الأم والأب، إلا أن حديث البخاري (¬3) عن أبي هريرة -بذكر الأم ثلاث مرات، ثم الأب معطوف بـ "ثم"- صريح في تقديم الأم على الأب كما ذكره الجمهور، وسائر الروايات تقيد بذلك. وفي "البحر" للإمام المهدي: مسألة: ومن لا يَجد إلا لأحد أبويه فوجوه؛ الأب أولى لولايته والانتساب إليه. الثاني: الأم للخبر. الثالث: سواء، إذ لا ترجيح. انتهى. والأولى الاهتداء بما هدى إليه النبي - صلى الله عليه وسلم - ونبّه على علة ذلك في كتاب الله سبحانه وتعالى حيث قال: {حَمَلَتهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ} (¬4). ¬

_ (أ) سقط من: جـ.

وقال: {حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا} (¬1). بعد التوصية بالوالدين، فما ذاك إلا لزيادة الحق والعناية بها. وقوله: "وأختك" إلى آخره. فيه دلالة على وجوب إنفاق القريب المعسر، فإنه تفسير لقوله: "وابدأ بمن تعول". فقد جعل المذكورين من عياله، وما ذاك إلا لوجوب النفقة عليهم، وقد ذهب إلى هذا عمر وابن أبي ليلى والحسن بن صالح والهادي (أ) وأبو ثور، إلا أنَّه قيد قول المذكورين في "البحر" بأن يكون القريب وارثًا بالنسب، واحتج على ذلك بقوله تعالى: {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} (¬2). واللام للجنس، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا صدقة وذو رحم محتاج" (¬3). وقال أبو حنيفة وأصحابه: يلزم النفقة للرحم المَحْرَم فقط؛ إذ القصد الصلة والمواساة، وأما غير المحارم فالنكاح عوض عن الصلة. قلنا: لا دليل على ذلك. وقال الشافعي وأصحابه: بل للأصول والفصول (¬4) فقط؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم - لمن قال: معي دينار: "أنفقه على ولدك" الخبر (¬5). ولم يذكر الأقارب. قلنا: ولا الوالدين. فجوابكم جوابنا. وقال مالك: بل للوالد والولد فقط؛ لقوله تعالى: {لَا تُضَارَّ وَالِدَةُ} الآية (2). ولم يذكر غيرهما، والمراد: في الإنفاق قلنا: لدليل آخر. انتهى كلام "البحر". ¬

_ (أ) بعده في جـ: وأحمد.

والذي في "المنهاج" و"شرحه" (¬1) أن النفقة تجب لفقير غير مكتسب، زَمِنا أو صغيرًا أو مجنونًا، لعجزه عن كفاية نفسه، وفي معنى الزمن: العاجز بالمرض والعمى. قاله البغوي، وإن لم يكن زمنًا أو صغيرًا أو مجنونًا فأقوال: أحسنها: تجب؛ لأنه يقبح أن يكلف قريبه الكسب مع اتساع ماله. والثاني: المنع، للقدرة على الكسب، فإنه نازل منزلة المال. والثالث: تجب نفقة الأصل على الفروع دون العكس؛ لأنه ليس من المصاحبة بالمعرف أن يكلف أصله التكسب على كبر السن، قال في "عجالة المحتاج (أ) " (¬2): الثالث أظهر، والله أعلم. انتهى. وفي "كنز الدقائق" (¬3) للحنفية: يلزم لقريب محرم فقير عاجز عن الكسب بقدر الإرث. فهذا المنقول يخالف ما ذكره في "البحر". وفي قوله: "ثم أختك وأخاك". فيه مثل ما تقدم عند الاجتماع. فائدة: اختلف العلماء في نفقة الزوجة والأقارب هل تسقط [للماضي] (ب) أم يجب التسليم لما قد مضى؟ على أقوال؛ الأول، أنهما يسقطان بمضي الزمان. وهذا مذهب أبي حنيفة، وإحدى الروايتين عن أحمد. والثاني، أنهما لا يسقطان إذا كان القريب طفلًا. وهذا وجه للشافعية. والثالث، أنَّه ¬

_ (أ) في الأصل: المنهاج. وينظر مقدمة محقق طبقات الأولياء لابن الملقن ص 60. (ب) في الأصل: الماضي.

تسقط نفقة القريب دون نفقة الزوجة. وهذا قول الهادي والمشهور من مذهب الشافعي وأحمد ومالك. والذين أسقطوها بمضي الزمان، منهم من قال: إذا كان الحاكم قد فرضها لم تسقط. وهذا قول بعض الشافعية والحنابلة، ومنهم من قال: لا يؤثر فرض الحاكم في وجوبها شيئًا إذا سقطت بمضي الزمان. وذكر أبو البركات في "المحرر" (¬1) أن نفقة الزوجة تلزم إذا كان قد فرضها الحاكم، ونفقة القريب لا تلزم بالفرض إلا أن يستدان عليه بإذن الحاكم. ورجح هذا القول ابن القيم في "الهدي" (¬2) وقال: إنه الأصوب نقلًا وتوجيها. قال: وإنما ذكر استقرارها بالفرض في "الوسيط" و"الوجيز" و"شرح الرافعي" وفروعه. والذين قالوا: تسقط بالمطل. عللوا سقوطها بأنها إنما شرعت للمواساة لأجل إحياء النفس، وهذا قد انتفى بالنظر إلى الماضي، وأما نفقة الزوجة فهي واجبة لا لأجل المواساة، ولذلك يجب مع غنى الزوجة، ولإجماع الصحابة على عدم سقوطها، فإنه صح عن عمر رضي الله عنه أنَّه كتب إلى أمراء الأجناد في رجال غابوا عن نسائهم، فأمرهم بأن ينفقوا أو يطلِّقوا، فإن طلَّقوا بعثوا بنفقة ما مضى (¬3). ولم يخالف عمر في ذلك أحد منهم. والمسقطون لنفقة الزوجة بالمطل قالوا: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يذكر لهند أن تأخذ لما مضى. والزوجة إنما وجب لها بالعقد المهر، وأما النفقة فإنما وجبت لكونها معه عانية أسيرة، فهي من جملة عياله، ونفقتها مواساة، ولأن نفقتها بالمعروف ¬

_ (¬1) ينظر المحرر 2/ 114، 115. (¬2) زاد المعاد 5/ 505، 506. (¬3) سيأتي ح 952.

كنفقة القريب، وما وجب بالمعروف فهو مواساة لإحياء نفس؛ إما بسبب الملك، أو بسبب الحبس، أو لكونه بينه وبين من يواسيه رحامة وقرابة، فإذا استغنى (أ) بمضي الزمان فلا وجه لإلزام الزوج بها، ولأن نفقة الزوجة تجب يومًا فيومًا، فهي كنفقة القريب، وما مضى فقد استغنت عنه الزوجة، فلا وجه لإلزام الزوج به، وقد صرَّح أصحاب الشافعي بأن كسوة الزوجة وسكناها يسقطان بمضي الزمان إذا قيل: إنهما متاع لا تمليك. فإن لهم في ذلك وجهين. 945 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "للمملوك طعامه وكسوته، ولا يكلف من العمل إلا ما يطيق". رواه مسلم (¬1). في الحديث دلالة على وجوب إنفاق المملوك وكسوته، وهذا أمر مجمع عليه، وظاهر الحديث أنَّه لا يتعين إطعامه مما يأكله السيد، وأن الواجب من أي طعام (ب) يكفيه، وقد جاء تقييده بالمعروف في رواية، ويحمل الأمر بالتسوية في قوله - صلى الله عليه وسلم -: "أطعموهم مما تأكلون، وألبسوهم مما تلبسون، ولا تكلفوهم ما يغلبهم، فإن كلفتموهم فأعينوهم". أخرجه مسلم (¬2) من حديث ¬

_ (أ) بعده في جـ: عنها. (ب) زاد في الأصل: الَّذي.

أبي ذر- على الاستحباب لا الإيجاب، وهذا مجمع عليه، والواجب النفقة بالمعروف بحسب البلدان والأشخاص، سواء كان من جنس نفقة السيد ولباسه أو دونه أو فوقه، حتَّى لو قتر على نفسه تقتيرًا خارجًا عن عادة أمثاله؛ إما زهدًا، وإما شحًّا، لا يحل له التقتير على المملوك وإلزامه بموافقته إلا برضاه. وقوله: "ولا يكلف من العمل إلا ما يطيق". أجمع العلماء على ذلك، وأنه إذا كان العمل لا يطيقه وجب على السيد أن يعينه بنفسه أو بغيره. 946 - وعن حكيم بن معاوية القشيري، عن أبيه قال: قلت: يا رسول الله، ما حق زوجة أحدنا عليه؟ قال: "أن تطعمها إذا طعمت، وتكسوها إذا اكتسيت". الحديث تقدم في عشرة النساء (¬1). 947 - وعن جابر رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث الحج بطوله، قال في ذكر النساء: "ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف". أخرجه مسلم (¬2). الحديث فيه دلالة على وجوب نفقة الزوجة وكسوتها بالمعروف، وهو مجمع عليه، وقد تقدم تفصيل ذلك قريبًا. 948 - وعن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: قال ¬

_ (¬1) تقدم ح 838. (¬2) تقدم ح 577.

رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "كفى بالمرء إثمًا أن يضيع من يقوت". رواه النسائي، وهو عند مسلم بلفظ: "أن يحبس عمن يملك قوته" (¬1). الحديث فيه دلالة على وجوب النفقة على من يجب [إيقاته] (أ)، فإنه إذا كان يلحقه الإثم الَّذي هو الكفاية عن أن ينضم إليه غيره من المآثم في استحقاق العقاب - دل على المبالغة في الوجوب. والمراد بـ "من يقوت": من تلزمه نفقته من أهله وعياله وعبيده، وهو مِن: قاته يَقوته، إذا حفظه. ويقال: أقاته يُقيته، إذا أعطاه قوته. وقد فُسِّر المقيت من أسماء الله تعالى بالحفيظ، أو الَّذي يعطي الخلائق أقواتهم. وقوله: وهو عند مسلم. إلى آخره. هو خاص بنفقة المملوك، وأصله أنَّه جاء عبد الله بن عمر قهرمان له، فقال له: أعطيت الرقيق قوتهم؟ قال: لا. قال: فانطلق فأعطهم، فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "كفى بالرجل إثمًا أن يحبس عمن يملك قوته". وفي رواية لمسلم أخرى مثل رواية النسائي (¬2)، وقد تقدم الكلام في تفصيل من تجب نفقته، والله أعلم. 949 - وعن جابر رضي الله عنه يرفعه في الحامل المتوفَّى [عنها] (ب)، قال: "لا نفقة لها". أخرجه البيهقي، ورجاله ثقات، لكن قال: ¬

_ (أ) في الأصل، جـ: إنفاقه. والمثبت يقتضيه السياق. (ب) ساقطة من: الأصل.

المحفوظ وقفه (¬1). وثبت نفي النفقة في حديث فاطمة بنت قيس كما تقدم، رواه مسلم (¬2). الحديث أخرجه البيهقي (¬3) من طريق الربيع عن الشافعي قال: أخبرنا عبد المجيد، عن ابن جريج، عن أبي الزبير، عن جابر قال: ليس للمتوفى عنها زوجها نفقة، حسبها الميراث. موقوفًا. وقد رواه محمد بن عبد الله الرقاشي قال: حدثنا حرب بن العالية، عن أبي الزبير، عن جابر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحامل المتوفى عنها زوجها: "لا نفقة لها" (¬4). وأخرج (4) عن ابن الزبير أنَّه كان يعطي لها النفقة، حتَّى بلغه أن ابن عباس قال: لا نفقة لها. فرجع عن قوله ذلك، يعني في الحامل المتوفى عنها زوجها. ورواه عطاء بن أبي رباح، عن ابن عباس قال: لا نفقة لها، وجبت المواريث (4). والحديث فيه دلالة على أن المتوفى عنها لا نفقة لها، والنص في حق الحامل، والحائل (¬5) بالطريق الأَوْلى، والمراد أن الحامل مُخرَجة عن عموم قوله ¬

_ (¬1) البيهقي، كتاب العدد، باب من قال: لا نفقة للمتوفى عنها حاملا ... 7/ 430، 431. (¬2) تقدم برقم ح 915. (¬3) البيهقي 7/ 430. (¬4) البيهقي 7/ 431. (¬5) يقال: حالت المرأة -والنخلة والناقة وكل أنثى- حِيالا، بالكسر، لم تحمل، فهي حائل. المصباح المنير (ح ول).

تعالى: {وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوأ عَلَيْهِنَّ} (¬1). وأن الآية باقٍ تحت عمومها المطلقات. وقد اختلف العلماء في نفقة المتوفى عنها هل تجب أم لا؟ فذهب ابن عمر والهادي والقاسم والناصر والحسن بن صالح إلى وجوبها؛ لقوله تعالى: {مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ} (¬2). ونسخُ المدة لا يوجب نسخ النفقة؛ لأنها نُسخت بقوله تعالى: {أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} (¬3). ولم يذكر فيها النفقة، فنسخُ المدة لا يوجب نسخ ما عداها. وذهب الشافعية والحنفية ومالك والمؤيد بالله إلى أنَّه لا نفقة للمتوفى عنها. قالوا: لأنها قد نسخت الآية الكريمة، وهي قوله تعالى: {مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ}. لأنه كان تحب النفقة بالوصية، فلما نُسخت الوصية بالمتاع؛ إما بقوله تعالى: {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا}. وإما بآية المواريث، وإما بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا وصية لوارث" (¬4). ووجوب التربص أربعة أشهر وعشرًا لا يوجب النفقة -فلا دليل حينئذ على وجوب نفقة المتوفى عنها حائلًا أو حاملًا، والأصل براءة الذمة. وعلل في "البحر" قولهم بأنه لا استمتاع، ووجوبها لأجله، بدليل سقوطها بالنشوز، قلنا: بل لأجله أو حبسها بسببه. قالوا: لا، كالمستبرأة (أ). قلنا: حبس المستبرأة (ب) غير مستند ¬

_ (أ) في جـ: كالمشتراة. (ب) في جـ: المشتراة.

إلى عقد، فضعف. انتهى. وذهب علي وابن مسعود وشريح وابن أبي ليلى إلى أنها تجب للحامل لا للحائل؛ لقوله: {وَإِنْ كُنَّ أُوْلَاتِ حَمْلٍ} (¬1) الآية. قلنا: العلة تعمُّهما، وهي حبسهما عن الأزواج. كذا في "البحر"، وكان الأَولى أن نقول: إن آية الطلاق وردت في المطلقات، فلا تتناول المتوفى عنهن. وأما حديث فاطمة بنت قيس فقد تقدم الكلام عليه، وهو وارد في حق المطلقة بائنًا (¬2)، والله أعلم. 950 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "اليد العليا خير من اليد السفلى، ويبدأ أحدكم بمن يعول، تقول المرأة: أطعمني أو طلقني". رواه الدارقطني (¬3)، وإسناده حسن. أخرجه الدارقطني من حديث عاصم، عن أبي صالح، عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا (¬4)، إلا أن في حفظ عاصم (¬5) شيئًا. وأخرجه البخاري (¬6) موقوفًا على أبي هريرة. وفي رواية الإسماعيلي (6) قالوا: يا أبا هريرة، شيء تقوله من رأيك أو من قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: هذا من كِيسي. بكسر الكاف للأكثر، أي من حاصله، إشارة إلى أنَّه من استنباطه ¬

_ (¬1) الآية 6 من سورة الطلاق. (¬2) تقدم ص 184 - 191. (¬3) الدارقطني، كتاب النكاح، باب المهر 3/ 296، 297 ح 190. (¬4) الدارقطني 3/ 297. (¬5) تقدمت ترجمته في 1/ 263. (¬6) البخاري 9/ 500 ح 5355.

مما فهمه من الحديث الرفوع، ووقع في رواية الأصيلي (¬1) بفتح الكاف، أي من فطنته. وتقدم الكلام في اليد العليا. وقولى: "ابدأ بمن تعول". أي مَن تجب عليك نفقته، يقال: عال الرجل أهله، إذا مانهم، أي قام بما يحتاجون إليه من قوت وكسوة، وهو أمر بتقديم ما يجب على ما لا يجب. وفي تمام كلام أبي هريرة في البخاري: ويقول العبد: أطعمني واستعملني. وفي رواية الإسماعيلي؛ ويقول خادمك: أطعمني وإلا بعني (أ). ويقول الابن: إلى من تدعني؟ وفي رواية النسائي والإسماعيلي (¬2): تكلني. وقد استُدل بهذا على أن المرأة إذا أعسر الزوج بنفقتها كان لها أن تطلب التفريق، وهو قول جمهور العلماء، وسيأتي، وبأن الولد تجب نفقته ولو كان كبيرًا. قال ابن المنذر (¬3): اختُلف في نفقة من بلغ من الأولاد ولا مال له ولا كسب؛ فأوجبت طائفة النفقة لجميع الأولاد أطفالًا كانوا أو بالغين، إناثًا ¬

_ (أ) في جـ: بعتني.

وذكرانًا، إذا لم يكن لهم أموال يستغنون بها، وذهب الجمهور إلى أن الواجب أن ينفق عليهم حتَّى يبلغ الذكر أو تتزوج الأنثى، ثم لا نفقة على الأب إلا إن كانوا زَمْنَى، فإن كانت لهم أموال فلا وجوب على الأب، وألحق الشافعي ولد الولد وإن سفل بالولد في ذلك. انتهى. وبأن الواجب نفقة العبد أو بيعه، وذلك واضح. 951 - وعن سعيد بن المسيب، في الرجل لا يجد ما ينفق على أهله، قال: يفرق بينهما. أخرجه سعيد بن منصور (¬1) عن سفيان عن أبي الزناد عنه قال: قلت لسعيد: سنة؟ فقال: سنة. وهذا مرسل قوي. الحديث رواه الشافعي (¬2) عن سفيان عن أبي الزناد، قال: قلت لسعيد بن المسيب. فذكره، قال الشافعي (2): والذي يشبه أن يكون قول سعيد: سنة. بسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ومراسيل سعيد معمول بها لما عرف من عادته أنَّه لا يرسل إلا عن ثقة، إلا أنَّه قال ابن حزم (¬3): لعله أراد سنة عمر. وهذا خلاف الظاهر، ورواه عبد الرزاق (¬4)، عن الثوري، عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب، وأخرجه أيضًا الدارقطني (¬5)، قال: حدثنا عثمان بن أحمد بن السماك وعبد الباقي بن قانع وإسماعيل بن علي قالوا (أ): أخبرنا ¬

_ (أ) في الأصل، جـ: قالا. والمثبت من مصدر التخريج.

أحمد بن علي [الخزاز] (أ)، قال: حدثنا إسحاق بن إبراهيم الباوردي، قال: حدثنا إسحاق بن منصور، قال: حدثنا حماد بن سلمة، عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب في (5) الرجل لا يجد ما ينفق على امرأته، قال: يفرق بينهما. وبهذا الإسناد إلى حماد بن سلمة، عن عاصم بن بهدلة، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مثله (¬1)، وأخرجه البيهقي (¬2) بهذا الإسناد. وهذا الحديث يدل على أن للزوجة إذا أعسر زوجها عن الإنفاق عليها لعدم المال وتعذر التكسب بأي وجه -أن تفسخ نكاح الزوج، وقد ذهب إلى هذا علي وعمر وزيد بن ثابت وأبو هريرة والحسن البصري وابن المسيب وحماد وربيعة ومالك والشافعي، في الأظهر من قوليه، وأحمد والإمام يحيى، وحجتهم على ذلك ما عرفت، ويتأيد بقوله تعالى: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ} (¬3). {وَلَا تُضَارُّوْهُنَّ} (¬4). من نحوها، وبالقياس على العيب الطارئ، وذهب طاوس والزهري والثوري والهدوية وأبو حنيفة وأصحابه وهو قول للشافعي إلى أنَّه لا فسخ بالإعسار عن النفقة، قالوا: لقوله تعالى: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ ¬

_ (أ) في الأصل، جـ: الحذاء. والمثبت من مصدر التخريج. (ب) في جـ: قال.

لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلا مَا آتَاهَا} (¬1). وإذا لم يكلفه الله تعالى النفقة في هذه الحال فقد ترك ما لا يجب عليه ولا يأثم بتركه، فلا يكون سببا للتفريق بينه وبين حبه وسكنه وتعذيبه بذلك، ولأنه قد روى مسلم (¬2) في "صحيحه" عن جابر قال: دخل أبو بكر وعمر على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فوجداه حوله نساؤه [واجما] (أ) ساكنا، فقال (¬3): يا رسول الله، لو رأيت بنت خارجة سألتني النفقة فقمت إليها فوجأت [عنقها] (ب). فضحك النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال: "هن حولي كما ترى يسألننى النفقة". فقام أبو بكر إلى عائشة يجأ عنقها، وقام عمر إلى حفصة يجأ عنقها، كلاهما يقول: تسألين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما ليس عنده؟! فقلق: والله لا نسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيئًا أبدًا ما ليس عنده. واعتزلهن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شهرًا. فقالوا: فهذا أبو بكر وعمر يضربان ابنتيهما بحضرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ سألتاه نفقة لا يجدها، فلو كان ذلك لهما وهما طالبتان لحق لم يقرهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على ما صنعا، ولبين أن لهما أن تطالبا مع الإعسار حتَّى يثبت على تقدير ذلك المطالبة بالفسخ، ولم يزل الصحابة منهم الموسر والمعسر، وكان معسروهم أكثر، ولم يعلم النبي - صلى الله عليه وسلم - ¬

_ (أ) في الأصل: راجما. ووجم وجوما، اشتد حزنه حتَّى أمسك عن الكلام. صحيح مسلم بشرح النووي 10/ 81. (ب) في الأصل، جـ: عينها. والمثبت من مصدر التخريج. ووجأت عنقها، يقال وجأ يجأ إذا طعن. وينظر صحيح مسلم بشرح النووي 10/ 81، 82.

أحدًا منهم أن لزوجته الفسخ، ولا فسخ [أحد] (أ) منهم، ولأن المرأة لو طال مرضها حتَّى تعذر على الزوج جماعها وجبت عليه النفقة، ولم يمكن من الفسخ، فكذلك في جانب الزوج، وأما حديث ابن المسيب فهو مرسل، والسنة محتملة، وأما حديث أبي هريرة الَّذي رواه في: "الصحيح" (¬1): "تقول المرأة: أطعمني أو طلقني". وقال أبو هريرة: إنه من كيسه، فلعل هذا الحديث بمعناه ويكون موقوفًا، وقد يجاب عن ذلك بأن الآية الكريمة لا تدل على عدم النفقة بالكلية، فإنه قال: {فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ}. وقوله: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلا وُسْعَهَا} (¬2). لا يدل على عدم الفسخ، فإنه إنما يدل على سقوط الوجوب عنه، وأما الفسخ فهو حق للمرأة تطالب به، وبأن قصة أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يعدموا النفقة بالكلية، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد استعاذ من الفقر المدقع (¬3)، ولعل ذلك أنَّه فيما زاد على قوام البدن، وفي بعض الأوقات مما قد يعتاد الناس التسامح به في حق النفس وحق من ينفقونه، وأيضًا أنهن لم يسألن الطلاق أو الفسخ، ولا ترضى نفوسهن بذلك ولو عدمن الحياة، وقد خيرهن الله سبحانه [فاخترن] (ب) الرسول والدار الآخرة، فلا يصح الاحتجاج بذلك، وأما سائر الصحابة فكذلك، ولذلك لا قيل لمالك بذلك، قال: ليس ¬

_ (أ) في الأصل، جـ: أحدا. (ب) في الأصل، جـ: فاختارين.

الناس اليوم كذلك، إنما تزوجته رجاء. يعني أن نساء الصحابة كن يردن الآخرة وما عند الله، ولم يكن مرادهن الدنيا، فلم يكنَّ يبالين بعسر أزواجهن، وأما نساء اليوم فإنما يتزوجن رجاء الدنيا من الأزواج والنفقة والكسوة، وأما حديث ابن المسيب فقد عرفت أنه من مراسيله، والمختار العمل بها. وقوله: السنة. ظاهر أن المراد بها سنة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وحديث أبي هريرة المرفوع يؤيده (¬1)، وإسناده لا بأس به، والآيات تؤيد ذلك، وبأنه قد ثبت في الإيلاء والظهار المطالبة بالطلاق والحبس حتى يطلق، وعند اللبس بالمطلقة (أ) أيضًا إذا تمرد عن الطلاق فسخ النكاح الحاكم. واختلفوا في تأجيله بالنفقة؛ فقال مالك: إنه يؤجل شهرًا ونحوه، فإن انقضى الأجل وهي حائض أخر حتى تطهر. وعند الشافعية في الأظهر أنه يمهل ثلاثة أيام، لأنها مدة قريبة، ولها الفسخ صبيحة الرابع إلا أن يسلم نفقته، لانتفاء الضرر إذن، ولو مضى يومان بلا نفقة وأنفق الثالث وعجز الرابع [بَنَتْ] (ب)، لتضررها بالاستئناف فتصبر يومًا آخر ويفسخ في تاليه، وقيل: يستأنف لزوال العجز الأول، ولها الخروج زمان المهلة لتحصيل النفقة، لأنه إذا لم يوف ما عليه لا يملك الحجر عليها، وعليها الرجوع ليلًا إلى منزل الزوج، لأنه وقت الدعة، وعلى القول بأنه طلاق لا بد من الرفع إلى ¬

_ (أ) في جـ: المطلق. والعبارة غير واضحة كما ترى. (ب) في الأصل: نبت. وفي جـ: ثبت. والمثبت من منهاج الطالبين 1/ 120.

الحاكم ليجبره على الإنفاق أو يطلق عنه، وهو أحد وجهين عند المالكية، والوجه الثاني أنه فسخ، فترافعه إلى الحاكم ليثبت الإعسار ثم تفسخ هي، ولا يسقط عليها الفسخ برضاها له؛ لأن النفقة حق يتجدد، وكذا لو نكحته عالمة بإعساره، وقال حماد بن أبي [سليمان] (أ): يؤجل سنة ثم يفسخ، قياسًا على العنين. وقال عمر بن عبد العزيز: يضرب له شهر أو شهران. وعند أحمد روايتان، إلا أن في مذهب أحمد أنها إذا اختارت الفسخ رفعته إلى الحاكم، فيخير (ب) الحاكم بين أن يفسخ عليه، أو يجبره على الطلاق، أو يأذن لها في الفسخ، فإن فسخ أو أذن في الفسخ فهو فسخ لا طلاق، ولا رجعة له وإن أيسر في العدة، وإن أجبره على الطلاق فطلق رجعيا فله رجعتها، وظاهر كلام أحمد أنه إذا رضيت بإعساره لم يتجدد لها الحق كالعيب، وقد روى ابن وهب عن ابن لهيعة عن محمد بن عبد الرحمن، أن رجلًا شكا إلى عمر بن عبد العزيز بأنه أنكح ابنته رجلًا لا ينفق عليها، فأرسل إلى الزوج فأتى، فقال: أنكحني وهو يعلم أن ليس في شيء. فقال عمر: أنكحته وأنت تعرفه، فما الذي أصنع؟ اذهب بأهلك (¬1). وقد روي عنه الفسخ وضرب الأجل شهرًا، وأنه لا فسخ مطلقًا، وقد حكي في المسألة عن [عبيد] (جـ) الله بن الحسن العنبري قاضي البصرة أن الزوج إذا أعسر بالنفقة حبس حتى يجد ما ينفقه. رواه ابن حزم وصاحب "المغني" (¬2) وغيرهما، ¬

_ (أ) في الأصل، جـ: سلمة. وينظر تهذيب الكمال 7/ 269. (ب) في جـ: فيجبر. (جـ) في الأصل، جـ: عبد. والمثبت من مصدري التخريج، وينظر أخبار القضاة لوكيع 2/ 88.

وهو قول عجيب، لأي شيء يسجن وما يغني عنه السجن أو عن زوجته؟! ويجمع له بين عذاب الفقر وعذاب السجن والبعد عن أهله. وفي المسألة أيضًا مذهب آخر، وهو أن الزوجة إذا كانت موسرة وزوجها معسر كلفت النفقة على زوجها، ولا ترجع عليه إذا أيسر من بعد. وهذا مذهب أبي محمد بن حزم (¬1)؛ محتجًّا بقوله تعالى: {وعَلَى الْوَارِثِ مِثلُ ذَلك}. والزوجة وارثة، ولكن يرد عليه سياق الآية الكريمة، فإنها في حق المولود الصغير. ورجح ابن القيم (¬2) أنه إذا غير الرجل المرأة بأنه ذو مال فتزوجته فظهر معدمًا لا شيء له، أو كان ذا مال وترك الإنفاق على امرأته ولم تقدر على أخذ كفايتها من ماله بنفسها ولا بالحاكم- أن لها الفسخ، وإن تزوجته عالمة بعسرته، أو كان موسرًا ثم أصابته جائحة اجتاحت ماله، فلا فسخ لها في ذلك. واختلف أيضًا العلماء في الفسخ بالإعسار بالصداق؛ فذهب الجمهور إلى أنه لا يثبت، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه، والصحيح من مذهب أحمد، واختاره عامة أصحابه، وهو قول كثير من أصحاب الشافعي، وفصل الشيخ أبو إسحاق وأبو علي بن أبي هريرة، فقالا: إن كان قبل الدخول ثبت به الفسخ، وإن كان بعده لم يثبت. وهو أحد الوجوه في مذهب أحمد. وفي "عجالة المحتاج على المنهاج" أن في إعساره بالمهر أقوالا (أ)؛ أظهرها: يفسخ [قبل الوطء] (ب) للعجز عن تسليم العوض مع بقاء ¬

_ (أ) في الأصل، جـ: أقوال. (ب) ساقطة من: الأصل.

[المعوض] (أ) كالإفلاس، لا بعده (¬1) لتلف [المعوض] (ب)، فصار العوض دينًا في الذمة. والثاني: يثبت مطلقًا؛ أما قبل الوطء فلما تقدم، وأما بعده فلأن البضع لا يتلف بوطأة واحدة. والثالث: المنع مطلقًا؛ لأنه ليس لها في فوات المهر وتأخيره مثل ضرر فوات النفقة، وليس هو على قياس الأعواض حتى يفسخ العقد بتعذره. والقطع بالفسخ قبل الدخول عزاه الرافعي لجماعة، ونسبه في "الشرح الصغير" للأكثرين، والمصنف تبع "المحرر" في ترجيح طرد الخلاف في الحالين، وصرح الرافعي بأن هذا الخيار على الفور، ومقتضى ما في "التتمة" خلافه. الثاني: لو قبضت بعضه وأعسر الزوج بباقيه ليس لها الفسخ، وإن كان قبل الدخول. قاله ابن الصلاح في "فتاويه"، والرافعي وغيره أطلق المسألة. انتهى. 952 - وعن عمر رضي الله عنه أنه كتب إلى أمراء الأجناد في رجال غابوا عن نسائهم؛ أن يأخذوهم بأن ينفقوا أو يطلقوا، فإن طلقوا بعثوا بنفقة ما حبسوا. أخرجه الشافعي ثم البيهقي بإسناد حسن (¬2). الحديث أخرجه البيهقي من طريق الشافعي بإسناده، قال: أخبرنا مسلم ¬

_ (أ) في الأصل، جـ: الغرض. والمثبت من مغني المحتاج 3/ 444، والإقناع للشربيني 2/ 488. (ب) في الأصل، جـ: العوض. والمثبت من المصدرين السابقين.

ابن خالد (أ) عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر، أن عمر بن الخطاب، ورواه ابن المنذر من طريق عبد الرزاق عن عبيد الله بن عمر به وأتم إسنادًا، وهو في "مصنف عبد الرزاق" (¬1)، وذكر أبو حاتم (¬2) في "العلل" عن حماد بن سلمة عن [عبيد] (ب) الله به، قال: وبه نأخذ. الحديث فيه دلالة على أن نفقة الزوجة لا تسقط بالمطل، وقد تقدم الكلام فيه، وأن الزوج إذا لم ينفق أجبر على الطلاق مع إيساره، وهذا كما عرفت اختاره ابن القيم، والله أعلم. 953 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله، عندي دينار؟ قال: "أنفقه على نفسك". قال: عندي آخر؟ قال: "أنفقه على ولدك". قال: عندي آخر؟ قال: "أنفقه على أهلك". قال: عندي آخر؟ قال: "أنفقه على خادمك". قال: عندي آخر؟ قال: "أنت أعلم". أخرجه الشافعي واللفظ له وأبو داود، وأخرجه النسائي والحاكم بتقديم الزوجة على الولد (¬3). الحديث. قال ابن حزم (¬4): اختلف يحيى القطان والثوري، فقدم يحيى ¬

_ (أ) في جـ: خلدة. وينظر تهذيب الكمال 27/ 509. (ب) في الأصل: عبد.

الزوجة على الولد، وقدم سفيان الولد على الزوجة، فينبغي ألا يقدم أحدهما على الآخر بل يكونان سواء؛ لأنه قد صح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا تكلم تكلم ثلاثًا (¬1)، فيحمل أن يكون في إعادته إياه قدم الولد مرة، ومرة قدم الزوجة، فصارا سواء. قال المصنف (¬2) رحمه الله تعالى: وفي "صحيح مسلم" (¬3) من رواية جابر [تقديم] (أ) الأهل على الولد من غير تردد، فيمكن أن يرجح إحدى الروايتين. 954 - وعن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده، قال: قلت: يا رسول الله، من أبر؟ قال: "أمك". قلت: ثم من؟ قال: "أمك". قلت: ثم من؟ قال "أمك". قلت: ثم من؟ قال: "أباك، ثم الأقرب فالأقرب". أخرجه أبو داود [والترمذي] (ب) وحسنه (¬4). وأخرجه (جـ) والحاكم (¬5)، وأخرجه أبو داود (¬6) من طريق كليب بن منفعة الحنفي عن جده نحوه. تقدم الكلام على الحديث (¬7). ¬

_ (أ) في الأصل: يقدم. وفي جـ: فقدم. والمثبت من التلخيص الحبير. (ب) ساقطة من: الأصل، جـ. (جـ) بعده في الأصل: النرمدو، وكتب فوقه كذا. وبعده في جـ: الترمذي و.

باب الحضانة

باب الحضانة الحضانة مصدر بكسر الحاء المهملة، من حضن الصبي حضنا وحضانة بالكسر، جعله في حضنه أو رباه، [كاحتضنه [(أ)، والطير بيضه حضنا وحضانا وحضانة بكسرهما وحضونا، وهو مأخوذ من الحضن بكسر الحاء، وهو ما دون الإبط إلى الكشح، [أو] (ب) لصدر والعضدان وما بينهما، وجانب الشيء وناحيته، كذا في "القاموس" (¬1)، ولم يضبطه في الضياء بالكسر، وما أطلق فهو مفتوح. وهي في الشرع: حفظ من (جـ) لا يستقل بأمره وتربيته ووقايته عما يهلكه أو يضره. 955 - وعن عبد الله بن [عمرو] (د) رضي الله عنهما، أن امرأة قالت: يا رسول الله، إن ابني هذا كان بطني له وعاء، وثديي له سقاء، وحجري له حواء، كان أباه طلقني وأراد أن ينزعه مني. فقال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أنت أحق به ما لم تنكحي". رواه أحمد وأبو داود وصححه الحاكم (¬2). الحديث. ¬

_ (أ) في الأصل: كأحضنته. (ب) في الأصل، جـ: و. والمثبت من القاموس المحيط. (جـ) في جـ: ما. (د) في الأصل، جـ: عمر. وانظر مصادر التخريج وكلام المصنف التالي.

قال المصنف رحمه الله (¬1): أخرجوه من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده. ووقع في الأصل (¬2) "ابن عمر" بضم العين، وهو وهم، وإنما هو ابن عمرو بن العاص. وقوله: وعاء. [بفتح] الواو والد، وقد يضم، كذا في "القاموس" (¬3)، وهو الظرف، والسقاء ككساء [جلد] (أ) السخلة إذا أجذع، يكون للماء واللبن، والحواء بكسر الحاء والمد اسم المكان الذي يحوى الشيء؛ أي يضمه ويجمعه، والمراد من هذا أن الأم شاركت الأب في الولادة وزادت عليه بهذه الخصوصيات، فكان الولد أمس بها وأقرب رحما (ب)، فاستحقت التقدم عند المنازعة في الولد، وفي هذا تنبيه على المعنى المقتضي للحكم وأن المعاني والعلل معتبرة في إثبات الأحكام مستقرة في الفطر السليمة حتى فطر النساء، فالحديث يدل على أنه إذا تنازع الأبوان في حضانة الصغير الذي لا يستغني بنفسه، فالأم أحق به ما لم يحصل ما يمنعها من الحضانة، والظاهر أن هذا الحكم مجمع عليه، وقد قضى به أبو بكر بين عمر وزوجته من الأنصار أم ولده عاصم بعد أن ¬

_ (أ) في الأصل، جـ: جلدة، والمثبت من القاموس المحيط (س ق ي). (ب) بعده في جـ: منها.

طلقها وأخذ ولده منها، فقال أبو بكر: خل بينها وبين ولدها. قال ابن عبد البر (¬1): رلي ي هذا من وجوه منقطعة ومتصلة، تلقاه أهل العلم بالقبول (أوالعمل أ)، ورواه مالك في "الموطأ" (¬2). قال بهابن عبد البر: وفيه دليل [على أن عمر] (ب) كان مذهبُه في ذلك خلف مذهب أبي بكر، لكنه سَلَّمَ [للقضاء] (جـ) وقضى به في خلافته، ولم يخالفهما أحد من الصحابة. وقد أخرج مثل هذا عبد الرزاق (¬3) عن ابن عباس، وفي آخر القصة أنه قال: ريحها وفراشها وحرها خير له منك حتى يشب ويختار لنفسه. وقال في رواية الثوري (¬4): الأم أعطف وألطف وأرحم وأحنى وأخبر وأرأف، هي أحق بولدها ما لم تتزوج. وقوله: "ما لم تنكحي". فيه دلالة على أن حق الحضانة للأم يبطل بالنكاح، وقد ذهب إلى هذا العترة وأبو حنيفة والشافعي ومالك وأحمد في المشهور عنه، وقال ابن المنذر (¬5): أجمع على هذا كل من أحفظ عنه من أهل ¬

_ (أ- أ) ساقطة من: جـ. (ب) ساقطة من: الأصل. (جـ) في الأصل، جـ: القضاء، والمثبت من مصدر التخريج.

العلم. وقضى به شريح (¬1). وهذا هو المدلول عليه بمفهوم الشرط. وذهب الحسن البصري (¬2)، وهو قول أبي محمد بن حزم (¬3)، إلى أن الحضانة لا تسقط بالنكاح. قال ابن حزم: فإن أنس بن مالك كان عند والدته وله من العمر عشر سنين، وأتى به أبو طلحة زوج والدته إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وكان عند والدته وهي مزوجة، وكذا أم سلمة تزوجت بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وبقي ولدها في كفالتها، وكذا ابنة حمزة قضى بها النبي - صلى الله عليه وسلم - لخالتها وهي مزوجة. قال ابن حزم: وما احتج به الجمهور من حديث عبد الله بن عمرو ففيه مقال، وأنه صحيفة، وكذلك ما احتجوا به مما رواه عبد الرزاق (¬4) من حديث أبي سلمة بن عبد الرحمن أنه قال: كانت امرأة من الأنصار تحت رجل من الأنصار، فقتل عنها يوم أحد، وله منها ولد، فخطبها عم ولدها ورجل إلى أبيها، فأنكح الآخر، فجاءت (أ) النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت: أنكحني أبي رجلا لا أريده، وترك عم ولدى، فأخذ مني ولدي. فدعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أباها، فقال: "أنت الذي لا نكاح لك، اذهبي فانكحي عم ولدك". فلم ينكر أخذ الولد منها لما تزوجت، بل أنكحها عم الولد لتبقى لها الحضانة- فهو مرسل. وأجيب عنه بأن حديث عمرو بن شعيب (¬5) قبله الأئمة وعملوا ¬

_ (أ) بعده في جـ: إلى.

به؛ كالبخاري وأحمد وابن المديني والحميدي وإسحاق بن راهويه وأمثالهم، فلا يلتفت إلى القدح فيه، وأما حديث أبي سلمة (¬1) فهو من كبار التابعين، وقد حكى القصة عن الأنصارية، ولا ينكر لقاؤه لها، فلا يتحقق الإرسال، ولو تحقق الإرسال فمرسل جيد له شواهد مرفوعة وموقوفة، فليس الاعتماد عليه وحده، والإسناد كان كان فيه رجل مجهول، فإنه قال: أبو الزبير، عن رجل صالح من أهل المدينة. فهو من باب تعديل الراوي لمن روى عنه، كان لم يذكر اسمه فهو خارج عن الجهالة، فإن التدليس إنما أكثر (أ) في المتأخرين أن يقع التدليس مع غير ثقة، وأبو الزبير (¬2) وإن كان قد يقع منه التدليس فليس معروفًا بالتدليس عن المتهمين والضعفاء، فإن تدليسه من جنس تدليس السلف عن غير متهم ولا مجروج، وأما ما احتج به فهو لا يتم إلا مع طلب من تنتقل إليه الحضانة، وأما مع عدم طلبه فلا نزاع في أن للأم المزوجة أن تقوم بولدها، حيث لا منازع لها، ولم يذكر في القصص المذكورة أنه حصل نزاع في ذلك، وذهب الإمام أحمد في إحدى الروايتين عنه؛ نص عليه في رواية مهنا بن يحيى الشامي، فقال (¬3): إذا تزوجت الأم وابنها صغير أخذ منها. قيل له: والجارية مثل الصبي؟ قال: لا، الجارية تكون مع أمها إلى سبع سنين. وقال ابن أبي موسى: وعن أحمد أن الأم ¬

_ (أ) في حاشية الأصل: ذكر. وأشار أنها نسخة.

أحق بحضانة البنت وإن تزوجت إلى أن تبلغ. وقول رابع: أنها إذا تزوجت بنسيب من الطفل لم تسقط حضانتها. ثم اختلف أصحاب هذا القول على ثلاثة أقوال: أحدها: أن المشروط أن يكون الزوج نسيبًا للطفل فقط. وهذا ظاهر قول أحمد. الثاني: أنه يشترط مع ذلك أن يكون ذا رحم محرم. وهو قول أصحاب أبي حنيفة والهدوية. الثالث: [أنه يشترط أن يكون بين الزوج وبين الطفل إيلاد؛ بأن يكون جدًّا للطفل. وهذا قول مالك وبعض أصحاب أحمد] (أ). 956 - [و] (ب) عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن امراة قالت: يا رسول الله، إن زوجي يريد أن يذهب بابني، وقد نفعني وسقاني من بئر أبي عنبة (¬1). فجاء زوجها، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "يا غلام، هذا أبوك، وهذه أمك، فخذ بيد أيهما شئت". فأخذ بيد أمه فانطلقت به. رواه أحمد والأربعة وصححه الترمذي (¬2). ¬

_ (أ) كتب في الأصل، جـ: بياض، والمثبت من زاد المعاد 5/ 455. (ب) ساقطة من: الأصل.

الحديث أخرجوه من حديث هلال بن (أأبي ميمونة أ) عن أبي هريرة، وفي رواية ابن أبي شيبة (¬1) عن أبي هريرة، قال؛ جاءت امراة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: "استهما فيه". وصححه ابن القطان. الحديث فيه دلالة على أن الصغير بعد استغنائه بنفسه يخير بين الأم والأب، وقد ذهب إلى هذا الشافعي وأصحابه والإمام يحيى؛ لهذا الحديث، وأخرج البيهقي (¬2) من طريق الشافعي، أن عمر خير غلاما بين أبيه وأمه. وأخرج أيضًا من طريق الشافعي عن عمارة الجرمي قال: خيرني علي رضي الله عنه بين أمي وعمي، ثم قال لأخ في أصغر مني: وهذا أيضًا لو قد بلغ مبلغ هذا لخيرته. قال الشافعي: قال إبراهيم في روايته مثله، وزاد في الحديث: وكنت ابن سبع أو ثمان سنين. وفي رواية يحيى القطان (¬3) أنه اختصم فيه أمه وعمه إلى علي بن أبي طالب، قال: فخيرني علي ثلاثًا، كلهن أختار أمي ومعي أخ لي صغير، فقال علي: هذا إذا بلغ مبلغ هذا خير. وذهب إلى هذا إسحاق بن راهويه، قال حرب بن إسماعيل: سألته: إلى متى يكون الصبي مع الأم إذا طلقت؟ قال: أحب أن يكون مع الأم (ب) إلى ¬

_ (أ- أ) في جـ: ميمون. واختلف في اسمه؛ فقيل: هلال بن علي بن أسامة. وقيل: هلال بن أبي ميمونة، وقيل: هلال بن أبي هلال. تهذيب الكمال 30/ 343. (ب) في جـ: الأب.

سبع سنين، ثم يخير. قلت له: أترى التخيير؟ قال: شديدا (أ). قلت (ب): فأقل من سبع سنين لا يخير؟ قال: قد قال بعضهم إلى خمس، وأنا أحب إلى سبع. وذهب الإمام أحمد إلى أن الصغير إلى دون سبع سنين أمه أولى، كان بلغ سبع سنين فالذكر فيه ثلاث روايات؛ [إحداها] (جـ) -وهي الرواية الصحيحة المشهورة من مذهبه- أنه يخير، وهي اختيار أصحابه، وإن لم يخير أقرع بينهما، كان رجع في اختياره نقل إليه. والثانية: أن الأب أحق به من دون تخيير. والثالثة: الأم أحق به كما قبل السبع. وفي الأنثى، المشهور من مذهبه أن الأم أحق بها إلى تسع سنين، فإذا بلغت تسع سنين فالأب أحق بها من غير تخيير، ورواية عنه أن الأم أحق بها حتى تبلغ، ولو تزوجت الأم، ورواية عنه أنها تخير بعد التسع كالذكر. وذهبت الهدوية ومالك وأبو حنيفة إلى أنه لا يخير، إلا أنه قالت الهدوية وأبو حنيفة: إن الأم أولى بهما إلى وقت الاستغناء بالنفس، ومتى حصل الاستغناء بالنفس فالأب أولى بالذكر، والأم بالأنثى. وقال مالك: الأم أحق بالولد، ذكرًا كان أو أنثى. وروى ابن القاسم: حتى يبلغ، ولا يخير بحال. ¬

_ (أ) في الأصل: سديدا. وشديدا يعني حقًّا صحيحًا. مشارق الأنوار 2/ 246. (ب) في الأصل: قال. (جـ) في الأصل، جـ: أحدها، والمثبت هو الصواب.

وفي رواية الإمام المهدي في "البحر" أن الأم أولى بالأنثى حتى تزوج ويدخل بها الزوج، والذكر للأب حتى يبلغ، إذ لا استغناء قبل ذلك. وقال الليث بن سعد: الأم أحق بالابن حتى يبلغ ثمان سنين، وبالبنت حتى تبلغ، ثم الأب أحق بهما بعد ذلك. وقال الحسن بن حي: الأم أولى بالبنت حتى [يكعب] (أ) ثدياها، وبالغلام حتى ينفع، فيخيران بعد ذلك بين أبويهما. وحجة من لم يقل بالتخيير عموم قوله - صلى الله عليه وسلم -: "أنت أحق به ما لم تنكحي". ولو كان الاختيار إلى الصغير لم تكن أحق به. والجواب عنه بأن هذا؛ إما عام باعتبار الزمان المقدر، أو مطلق خصص أو قيد بما ثبت من التخيير، فلا معارضة. ودليل من قال بتخيير الذكر دون الأنثى، أن التخيير وقع في حق الولد الذكر في حديث أبي هريرة، ولكنه في حديث رافع الآتي قريبًا في رواية أن المخير أنثى، فإذا صح ذلك فلا يتم الاحتجاج، مع أن القياس للأنثى على الذكر بجامع الصغر (ب) صحيح، وإن أمكن أن يقال: وصف الذكورة صالح لاعتباره في التخيير. وذلك لأن الولد الذكر للاعتناء بشأنه ومحبته عند والدته لا يكون اختياره لأحدهما منفرًا للآخر عنه، بخلاف الأنثى فإنها إذا اختارت الأم مثلًا كان ذلك منفرًا للأب عن محبتها مع ما جبلت نفوس كثير من الناس ولا سيما الأعراب على بغض الإناث، فيكون ذلك مفضيًا ¬

_ (أ) في الأصل: تكعب. وكعوب الثدي: نهوده. (ب) في هامش الأصل: الصفة.

إلى تضييع حقها ومنعها عن كثير من المصالح، ولأن الصغير ينقل إلى من اختار ثانيًا، وفي حق الأنثى ذلك ينافي ما يعتبر في حقهن من الحجاب ولزوم البيوت وعدم صيانتها عن البروز. وإذا لم يختر الصبي واحدًا منهما، ففي وجه في مذهب أحمد والشافعي يكون للأم بلا قرعة، لأن الحضانة كانت لها، وإنما نقل عنها باختياره، وإذا لم يختر بقي على الأصل، والأظهر أنه يقرع بينهما، وقد جاءت القرعة في رواية في حديث أبي هريرة أخرجه البيهقي (¬1) بلفظ: فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "استهما". فقال الرجل: من يحول بيني وبين ولدي؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للابن: "اختر أيهما شئت". فاختار أمه فذهبت به. فذكر الاستهام دليل على اعتباره، لكن الاختيار مقدم عليه، والقرعة هي طريق شرعي يعتبر عند تساوي المستحقين، وقدم الاختيار عليها لاتفاق ألفاظ الحديث عليه وعمل الخلفاء الراشدين به. واعلم أن الحضانة معتبر فيها رعاية حق الحاضن، ومصلحة المحضون، ولهذا قال مالك والليث: إذا لم تكن الأم في موضع حرز وتحصين أو كانت غير مرضية، فللأب أخذ البنت منها. وكذلك الإمام أحمد في الرواية المشهورة عنه، وكذا الأب فإنه تعتبر قدرته على الحفظ والصيانة، فإن كان مهملًا لذلك، أو عاجزًا عنه، أو غير مرضي، أو ذا دياثة، والأم بخلافه، فهي أحق بلا ريب. وقال في "الهدي النبوي" (¬2): إن من قدم بتخيير أو ¬

_ (¬1) البيهقي 8/ 3. (¬2) زاد المعاد 5/ 474، 575.

قرعة أو بنفسه، فإنما هو إذا حصلت به مصلحة الولد، ولو كانت الأم أصون من الأب وأغير منه قدمت عليه، ولا التفات إلى قرعة ولا اختيار الصبي في هذه الحالة، فإنه ضعيف العقل يؤثر البطالة واللعب، فإذا اختار من يساعده على ذلك لم يلتفت إلى اختياره، وكان عند من هو أنفع له وخير، ولا تحتمل الشريعة غير هذا، والنبي - صلى الله عليه وسلم - قد قال: "مروهم بالصلاة لسبع، واضربوهم على تركها لعشر وفرقوا بينهم في المضاجع" (¬1). والله تعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} (¬2). وقال الحسن: علموهم وأدبوهم وفقهوهم. فإذا كانت الأم تتركه في المكتب أو تعلمه القرآن، والصبي يؤثر اللعب ومعاشرة أقرانه، وأبوه يمكنه من ذلك، فأمه أحق به ولا تخيير ولا قرعة، وكذلك العكس، ومتى أخل أحد الأبوين بأمر الله ورسوله في الصبي وعطله والآخر مراع له فهو أحق وأولى به، وسمعت شيخنا رحمه الله يقول: تنازع أبوان صبيًّا عند الحاكم، فخيره بينهما فاختار أباه، فقالت أمه: سله لأي شيء يختاره. فسأله، فقال: أمي تبعثني كل يوم [للمكاتب] (أ) والفقيه يضربني، وأبي يتركني ألعب مع الصبيان. فقضى به للأم، وقال: أنت أحق به. قال شيخنا: وإذا ترك أحد الأبوين تعليم الصبي وأمره الذي أوجبه الله عليه فهو عاص، ولا ولاية له عليه، بل كل من لم يقم بالواجب في ولايته فلا ولاية ¬

_ (أ) في الأصل، جـ: للمكاتب. والمثبت من زاد المعاد 5/ 475.

له، بل إما أن يرفع يده عن الولاية ويقام من يفعل الواجب، وإما أن يضم إليه من يقوم بالواجب معه، إذ المقصود طاعة الله ورسوله بحسب الإمكان. قال شيخنا: وليس هذا الحق من جنس الميراث الذي يحصل بالرحم والنكاح والولاء، وسواء كان الوارث فاسقًا أو صالحًا، بل هذا من جنس الولاية التي لا بد فيها من القدرة على الواجب والعلم به وفعله بحسب الإمكان. قال: فلو قدر أن الأب تزوج امرأة لا تراعي مصلحة ابنته ولا تقوم بها، وأمها أقوم بمصلحتها من تلك الضرة، فالحضانة هنا للأم قطعًا. انتهى كلامه، وهو كلام حسن لا بد من اعتباره، والله أعلم. 957 - وعن رافع بن سنان رضي الله عنه أنه أسلم، وأبت امرأته أن تسلم، فأقعد النبي - صلى الله عليه وسلم - الأم في ناحية والأب في ناحية، وأقعد الصبي بينهما، فمال إلى أمه فقال: "اللهم اهده". فمال إلى أبيه، فأخذه. أخرجه أبو داود والنسائي وصححه الحاكم (¬1). الحديث في سنده اختلاف كثير وألفاظ مختلفة (¬2)، قال ابن المنذر: لا يثبته أهل النقل، وفي إسناده مقال. المقال في عبد الحميد بن جعفر بن رافع (¬3) ضعفه الثوري ويحيى بن سعيد، وثبت عند الدارقطني أن الصبي أنثى، واسمها عميرة، وقال ابن الجوزي: رواية من روى أنه كان غلامًا أصح. وقال ابن القطان: لو صح رواية من روى أنها بنت، لاحتمل أن تكون قصتين، لاختلاف المخرجين. ¬

_ (¬1) أبو داود، كتاب الطلاق، باب إذا أسلم أحد الأبوين 2/ 280 ح 2244، والنسائي، كتاب الطلاق، باب إسلام أحد الزوجين 6/ 185، والحاكم، كتاب الطلاق 2/ 206، 207. (¬2) ينظر التلخيص الحبير 4/ 11. (¬3) تقدمت ترجمته في 3/ 73.

الحديث فيه دلالة على ثبوت الحضانة للأم الكافرة وإن كان ولدها مسلمًا، فإن التخيير دليل ثبوت الحق، فلو كان لا حق لها في الحضانة لم يخير الصغير، وقد ذهب أهل الرأي وابن القاسم وأبو ثور إلى هذا، وذهب الجمهور إلى أنه لا حضانة للكافرة على ولدها المسلم، قالوا: لأن الحاضن حريص على تربية الطفل على دينه، وأن ينشأ عليه، فيصعب بعد كبره وعقله انتقاله عنه، وقد يغيره عن فطرة الله التي فطر عليها عباده، ولأن الله سبحانه قطع الموالاة بين المسلمين والكفار، وجعل المسلمين بعضهم أولياء بعض. وأجابوا عن الحديث بما عرفت من التضعيف وبما فيه من الاضطراب، فروي أنه كان الخير ابنًا، وروي بنتًا، وقال إمام الحرمين: إن هذه القصة كانت في مولود غير مميز. والجواب غير مفيد، فإن المانعين لم يفرقوا، وبالنسخ قال القاضي مُجَلِّي، ولعل النسخ وقع بقوله تعالى: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلً} (¬1). وبأنه هو قد عرف أن دعاءه يستجاب، وأن الصبي يختار الأب، ولا يخفى بُعدُ الأجوبة، وأن أشدها تضعيف الحديث، ومن العجب أن المثبتين لحضانة الكافرة لا يثبتون حضانة الفاسق، وقد اشترط العدالة وعدم الفسق أصحاب أحمد والشافعي والهدوية وغيرهم، واشتراطها في غاية البعد، ولو اشترط في الحاضن العدالة لضاع أطفال العالم ولعظمت المشقة على الأمة واشتد العنت، ولم يزل من [حين] (أ) ظهر الإسلام إلى أن تقوم الساعة أطفال الفساق بينهم لا يتعرض ¬

_ (أ) في الأصل: حيث.

لهم أحد في الدنيا مع كونهم الأكثرين، ولم يعلم في الإسلام أنه انتزع [طفل] (أ) من أبويه أو من أحدهما بفسقه، ولم يزل الفسق في الناس، ولم يمنع النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا أحد من الصحابة فاسقًا من تربية ابنه وحضانته له، [مع العلم] (5) بأنه وقع في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - وخلفائه شرب الخمر والزنى والسرقة وغير ذلك، ولم ينتزع طفل من أبيه لذلك. وقد اشترط في الحاضن أن يكون عاقلًا، فلا حضانة لمجنون ولا لمعتوه ولا طفل، لأنهم محتاجون إلى من يحضنهم ويكفلهم. وقد اشترط الحرية، قالوا: لأن المملوك لا ولاية له على نفسه، فلا يتولى غيره، والحضانة ولاية، وقد اشترطها الهدوية وأصحاب الأئمة الثلاثة، وقال مالك في حر له ولد من أمة: إن الأم أحق به إلا أن تباع فتنتقل، فيكون الأب أحق بها. وهذا صحيح، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا قوله والدة عن ولدها" (¬1). وقال: "من فرق بين الدة وولدها فرق الله بينه وبين أحبته يوم القيامة" (¬2). ومنافعها وإن كانت مملوكة للسيد، فحق الحضانة وإن استغرق وقتًا فهو مستثنى من ذلك كالأوقات التي تستثنى للمملوك في حاجة نفسه وعبادة ربه. 958 - وعن البراء بن عازب رضي الله عنه، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قضى في ابنة حمزة لخالتها، وقال: "الخالة بمنزلة الأم". أخرجه البخاري (¬3). ¬

_ (أ) في الأصل: الطفل. (ب) ساقط من: الأصل.

وأخرجه أحمد (¬1) من حديث علي فقال: "والجارية عند خالتها، فإن الحالة والدة". الحديث فيه دلالة على ثبوت حق الخالة في الحضانة وأنها بمثابة الأم، وكأن التشبيه بالأم يقضي بأنها أولى من الأب ومن أم الأم، ولكن خص ذلك الإجماع، وظاهره أن حضانة المرأة المزوجة أولى من الرجال، فإن عصبة المذكورة من الرجال موجودون طالبون للحضانة، كما تدل عليه القصة، واختصام علي وزيد وجعفر بعد خروجهم من مكة في عمرة القضاء، وتبعتهم بنت حمزة -واسمها عمارة، وقيل: فاطمة. وقيل: أمامة. وقيل: أمة الله. وقيل: سلمى. وأمامة هو المشهور- وهي تنادي: يا عم يا عم. فأخذ علي بيدها، ثم تنازع فيها الثلاثة. وفي رواية للبخاري (أ): حتى ارتفعت أصواتهم، فأيقظوا النبي - صلى الله عليه وسلم - من نومه. فقال علي: أنا أخرجتها وهي بنت عمي. زاد أبو داود (¬2): وعندي ابنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهي أحق بها. وقال جعفر: بنت عمي، وخالتها تحتي. أي زوجتي، وقال زيد بن حارثة: بنت أخي. أراد أنه وآخى النبي - صلى الله عليه وسلم - بينه وبين حمزة، فقضى بها النبي - صلى الله عليه وسلم - لخالتها. وفي رواية ابن عباس (¬3): فقال: "جعفر أولى بها". وفي حديث علي عند أبي داود وأحمد (¬4): "وأما الجارية فأقضي بها ¬

_ (أ) كذا في الأصل، جـ، وعزاها الحافظ في الفتح 7/ 506 إلى ابن سعد وهي في الطبقات 4/ 35.

لجعفر". وفي رواية [أبي سعيد السكري] (أ): "ادفعاها إلى جعفر، فإنه أوسعكم". وقال: "الخالة بمنزنة الأم". وقد استشكل كثير من الفقهاء هذا، فإن القضاء إن كان لجعفر فليس محرمًا لها، وهو وعلي سواء في القرابة، كان كان للخالة فهي مزوجة، ولهذا إن ابن حزء (¬1) طعن في القصة بجميع طرقها، وقد رد عليه في ذلك؛ وكفى بصحتها عند البخاري، وإنما غرَّد تضعيف علي ابن المديني لإسرائيل (¬2)، ولكنه أبي تضعيفه سائر أهل الحديث ووثقوه وثبتوه، قال أحمد (¬3): ثقة. تعجب من حفظه، وقال أبو حاتم (¬4): هو أتقن أصحاب أبي إسحاق. وهو كان يحفظ حديث أبي إسحاق كما يحفظ السورة من القرآن، وسائر الطرق كذلك لا مطعن فيها وقد رد عليه، فإن كان الحكم للخالة كما هو الظاهر، فالنكاح لا يسقط حقها من حضانة البنت كما هو إحدى الروايتين عن أحمد، أو لأن نكاحها تقريب من المحضونة، فلا تسقط حضانتها كما هو المشهور في مذهب أحمد، أو لأن الحق في المزوجة للزوج، فإذا رضي بالحضانة وأحب بقاء الطفل في حجره لم تسقط الحضانة، وهذا وجه صحيح، فإن السر في ذلك مراعاة حق الزوج وتوفر المرأة لمطالبه منها، والحضانة تشغل عن ذدك، فإذا رضي بذلك أسقط حقه، وقد ذهب إلى هذا الحسن البصري ويحيى بن حمزة، وهو مذهب [أبي] (ب) محمد بن حزم، أو ¬

_ (أ) في الأصل، جـ: سعيد البكري، والمثبت من الفتح 7/ 506. (ب) ساقصة من: الأصل، جـ.

لأن النكاح إنما يسقط حضانة الأم وحدها حيث كان المنازع لها الأب، وأما غيرها فلا يسقط حقها من الحضانة بالتزويج، أو الأم والمنازع لها غير الأب، وهذا فيه جمع بين حديث "أنت أحق به ما لم تنكحي" (¬1) وبين هذه القصة، وقد ذهب إلى هذا محمد بن جرير الطبرى، وقد يتأيد ذلك بما عرف من أن المرأة المطلقة يشتد بغضها لزوجها المطلق ولمن يتعلق به، فقد يبلغ بها الشأن إلى أن تهمل ولدها من الزوج الأول قصدًا لإغاظته، وتبالغ في التحبب عند الزوج الثاني بتوفير حقه، هذا إذا كان الحكم للخالة، وإن كان القضاء لجعفر فهو دليل على أن ابن العم وغيره من العصبة لهم حق في الحضانة، وأنهم أولى من الأجانب، ولكنه يحتمل أن المراد بقوله: فقضى بها لجعفر. أنه قضى بها لزوجة جعفر، ولكن لما كان جعفر هو القيم بالزوجة المتصرف في أعمالها، أطلق أن القضاء له في ذلك وإن كان لزوجته، بل وفي قوله: "فإنه أوسعكم". ما يدل على أن المعتبر في الحضانة هو القيام بالمحضون، فمن كان أقوم قيامًا كان هو الأولى، وقد احتج به بأن الخالة أولى من العمة، فإن العمة كانت موجودة، خلافًا لأحمد فإنه قال: العمة أولى من الخالة. إلا أنه يقال: لا دلالة؛ لأن العمة لم تطلب، وهذا إنما هو مع الطلب. وفي قوله: "إن الخالة أم". يعني في هذا الحكم الخاص، لأنها تقرب منها في الحنو والشفقة والاهتداء إلى ما يصلح الولد، فلا يتم احتجاج من قال: إن الخالة ترث، لأن الأم ترث، وأن القرابة من جهة الأم أولى من جهة الأب. فائدة: بقيت أمامة في كفالة جعفر حتى قتل، وأوصى بها جعفر إلى علي رضي الله عنه، فمكثت عنده حتى بلغت، فعرضها على النبي - صلى الله عليه وسلم - ¬

_ (¬1) تقدم ح 955.

فقال: "هي ابنة أخي من الرضاعة" (¬1). 959 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا أتى أحدكم خادمه بطعامه، فإن لم يجلسه معه فليناوله لقمة أو لقمتين". متفق عليه، واللفظ للبخاري (¬2). الحديث. قوله: "أحدكم". منصوب؛ مفعول "أتى"، و"خادمه" مرفوع؛ فاعل "أتى"، والخادم يطلق على الذكر والأنثى، أعمّ من أن يكون مملوكًا أو حرّا، ومحمله إذا كان الخادم حرا، فإن كانت أنثى والخدوم ذكرًا، أن يكون محرمًا، وكذا في صورة العكس. وقوله: "فإن لم يجلسه". وقع في روايةٍ عند أحمد والترمذي (¬3)، عن (أ) أبي هريرة: "فليجلسه معه، فإن لم يجلسه معه فليناوله". وفي رواية لأحمد (¬4) عنه: "فادعُه، فإن أبي فأطعمه منه". ولابن ماجه (¬5): "فليَدعُه فليأكل معه، فإن لم يفعل". والضمير في قوله: "فإن أبى". وفي قوله: ¬

_ (أ) في جـ: عند.

"فإن لم يفعل". يحتمل أن يكون للسيد، [والمعنى] (أ): إذا ترفَّع السيد عن مؤاكلة غلامه. ويحتمل أن يكون للخادم، والمعنى أنه إذا تواضع من مؤاكلة سيده. واللفظ المذكور في هذا الكتاب يؤيِّد الأول، وفي رواية لأحمد (¬1): أمرنا أن ندعوه، فإن كره أحدنا أن يَطْعَم معه فليُطعِمه في يده. كذلك صريح في الأول. وقوله: "فليناوله لقمة". اللُّقمة بالضم اللام و (ب) هو ما يُلتَقَم، وقد فتح. وقد رواه الترمذي (¬2) بلفظ: "لقمة فقط". ولفظ البخاري (¬3): "فليناوله أُكْلَة أو أُكلتين، أو لقمة أو لقمتين". بضم الهمزة في الأكلة، وهو شك من الراوي بين الأكلة أو اللقمة. وفي لفظ مسلم (3): "فإن كان الطعام مشفوها". بالشين المعجمة والفاء، أي قليلًا (¬4) وهو كذا مفسَّر في رواية أبي داود (¬5)، "فليضع في يده منه أكلة أو أكلتين". قال أبو داود (¬6): يعني لقمة أو لقمتين. ومقتضى ذلك أنه لا يجب إشباع الخادم من هذا المُعيَّن (جـ)، ¬

_ (أ) ساقط من: الأصل. (ب) ساقط من: جـ. (جـ) في جـ: العين.

بل يشبعه منه أو من غيره. وهو يبين المراد من حديث أبي ذر (¬1): "أطعموهم مما تطعمون". أنه ليس المراد إلزام المؤاكلة للخادم، وإنما المراد ألا يستأثر عليه بشيء، بل يشركه في كل شيء. وقد نقل ابن المنذر عن جميع أهل العلم (¬2)، أن الواجب إطعام الخادم من غالبٍ القوت الذي يأكل منه مثلُه في تلك البلدة، وكذلك الإدام والكسوة، و (أ) أن للسيد أن يستأثر بالنفيس من ذلك، وإن كان الأفضل المشاركة. وقال الشافعي بعد أن ذكر الحديث (¬3): هذا عندنا والله أعلم على وجهين: أَوْلاهما بمعناه (ب)، أن إجلاسه معه أفضل، فإن لم يفعل فليس بواجب، أو (جـ) يكون الخيار بين أن يجلسه أو يناوله، وقد يكون اختيارًا (د) غير حتم. انتهى. وفي تمام الحديث: "فإنه ولي حرَّه وعلاجَه". دلالة على أن ذلك يتعلَّق بالخادم الذي له عناية في تحصيل الطعام، فيندرج في ذلك الحامل للطعام؛ لوجود المعنى فيه وهو تعلُّق نفسه به، إلا أن في ترجمة البخاري وهو قوله: باب (هـ) الأكل مع الخادم (¬4). ما يدل على أن المقصود به عموم الخادم، ¬

_ (أ) ساقط من: الأصل. (ب) في جـ: بمعنى. (جـ) في جـ: أن. (د) في جـ: أمره اختيار. (هـ) في جـ: بأن.

وإن لم تكن له عناية في تحصيل الطعام، والله أعلم. 960 - وعن ابن عمر رضي الله عنهما، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "عُذِّبت امرأة في هرّة، سجنتْها حتى ماتت، فدخلت النار فيها؛ لا هي أطعمتها وسقتها إذ هي حبستها، ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض". متفق عليه (¬1). قوله: "عذبت امرأة". قال المصنف رحمه الله تعالى (¬2): لم أقف على اسمها، ووقع في رواية أنها "حِمْيَريَّة"، وفي أخرى أنها "من بني إسرائيل" وكذا لمسلم (¬3)، والجمع ممكن؛ لأن طائفة من حِمْيَر دخلوا في اليهودية، فقوله: "من بني إسرائيل". نسبة إلى دينها لأنها على دين بني إسرائيل، ونسبتها إلى حمير نسبة إلى قبيلتها، (أوقد وقع للبيهقي أ) في كتاب "البعث" (¬4) ما يدل على ذلك. وقوله: "في هرة". أي بسبب هرة، والهرة أنثى السِّنَّوْر، والهر الذكر، ويجمع الهر على هِرَرَة، كقرد وقِرَدَة، وتجمع الهرة على هِرَر كقِرْبَة وقِرَب. وقوله: "من خشاش الأرض". بفتح المعجمة، ويجوز ضمها ¬

_ (أ- أ) في جـ: وبه وقع.

وكسرها، وشينين معجمتين بينهما ألف، والمراد هوام الأرض وحشراتها من فأرة ونحوها. قال النووي (¬1): وروي بالحاء المهملة، والمراد نبات الأرض. قال: وهو ضعيف أو غلط (أ). وجاء في رواية: "من حشرات الأرض" (¬2). والحديث فيه دلالة على تحريم قتل الهر، فإن العذاب إنما يكون على فعل (ب) محرم، فإن ظاهر الحديث أنها (جـ) عذبت بسبب قتلها بالحبس، قال القاضي عياض (¬3): يحتمل أن تكون المرأة عذبت بالنار حقيقة أو بالحساب؛ لأن من نوقش الحساب عذب. انتهى. والاحتمال الأول هو الأظهر، بل هو مصرح في روايات مسلم وغيره، ثم يحتمل أن تكون المرأة كافرة فعذبت بكفرها، وزيدت عذابًا بسبب ذلك، وهذا أخرجه الحافظ أبو نعيم في "تاريخ أصبهان" (¬4)، وكذا البيهقي في "البعث والنشور" (¬5)، قال النووي (1): والأظهر أنها كانت مسلمة، وإنما دخلت النار بهذه المعصية. والتحذير المقصود من الحديث إنما يتم على هذا التقدير. ¬

_ (أ) في جـ: غليط. (ب) في جـ: قتل. (جـ) في جـ: أنما.

والحديث فيه دلالة أيضًا على جواز اتخاذ الهرة ورباطها إذا لم يهمل إطعامها وسقيها. ويلتحق بذلك غير الهرة فيما كان في معناها، قال القرطبي (¬1): ويدل على أن الهر لا يملك، وإنما يجب إطعامه على من حبسه. انتهى. ولا يخفى أنه ليس في الحديث ما يدل على ذلك، بل في رواية همَّام (¬2) ما يدل بأن الهرة تملك، وهو قوله: "في هرة لها". فإن اللام تدل على الاختصاص، وهو يكون بالملك، فيكون في الحديث دلالة على أن الحيوان المملوك إذا سيبه مالكه في محل يكون فيه طعامه وسقيه جاز ذلك، والله أعلم. ¬

_ (¬1) الفتح 6/ 358. (¬2) مسلم 4/ 2023 ح 2619.

كتاب الجنايات

كتاب الجنايات الجنايات جمع جناية، مصدر من جنَى الذنب عليه يجنيه جناية، أي جرّ إليه، وجمع المصدر لاختلاف أنواعه، فإنها (أ) تكون في النفس وفي الأطراف. 961 - عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني محمد رسول الله إلا بإحدى ثلاث؛ الثيبُ الزاني، والنفسُ بالنفسِ، والتارك لدينه المفارق للجماعة". متفق عليه (¬1). الحديث فيه دلالة على أنه لا يحل قتل المسلم إلا لأحد (ب) الأسباب الثلاثة. وقوله: "الثيب الزاني". المراد به الزاني المحصن، والمراد (جـ) رجمه بالحجارة حتى يموت، وهذا حكم مجمع عليه، وسيأتي إيضاحه وشروطه (د) إن شاء الله تعالى. وقوله "النفس بالنفس". المراد به القصاص بشروطه، وسيأتي أيضًا إن ¬

_ (أ) زاد في جـ: قد. (ب) في جـ: لإحدى. (جـ) بعده في جـ: به. (د) في جـ: شرطه.

شاء الله تعالى. وقد يستدل بعمومه أصحاب أبي حنيفة في قتل (أ) المسلم بالذمي والحر بالعبد، وجمهور العلماء على خلافه، منهم مالك والشافعي وأحمد والليث. وقوله: "التارك لدينه". هو عامٌّ في كل مرتدٍّ عن الإسلام بأي ردة كان، فيُقتل إن لم يرجع إلى الإسلام، ويتناول أيضًا كل خارج عن الجماعة ببدعة أو بغي أو غيرهما، والخوارج إذا قاتلوا وأفسدوا، ويرد الصائل، فإنه يجوز قتله دفعًا إلا أنه يقال: إنه مندرج تحت قوله: "التارك لدينه المفارق للجماعة". أو المراد في هؤلاء أنه يجوز قتلهم قصدًا، وهو لا يقتل قصدًا، وقتله دفعًا. وقوله: "يشهد أن لا إله إلا الله". تفسير لقوله: "مسلم". وقوله: "الثيب الزاني". وقع في نسخ مسلم "الزان" بحذف الياء وهي لغة صحيحة، قرئ بها في السبع في قوله تعالى: {الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ} (¬1). وفي غيره، والأشهر في اللغة إتيان الياء في كل هذا. 962 - وعن عائشة رضي الله عنها عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يحل قتل مسلم إلا بإحدى ثلاث خصال؛ زان مُحصَن فيُرجَم، أو رجل يقتُل (ب) مسلما متعمدا فيُقتَل، ورجل يخرج من الإسلام، فيحارب الله ¬

_ (أ) في جـ: قتله. (ب) في جـ: قتل. وهو لفظ النسائي.

ورسوله؛ فيقتل، أو يُصلَب، أو يُنفَى من الأرض". رواه أبو داود والنسائي وصححه الحاكم (¬1). الحديث، الكلام فيه تقدم في الذي قبله. وفي قوله: "يخرج من الإسلام". يكون استثناؤه مما قبله لشموله له، باعتبار ما كان عليه، وإلا فقد صار غير مسلم في الحال بعد خروجه من الإسلام. 963 - وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أول ما يُقضى بين الناس يوم القيامة في الدماء". متفق عليه (¬2). الحديث فيه دلالة على تعظيم الذنب الكائن بسبب [دم] (أ) ابن آدم، فإن البداية إنما تكون بالأهم، وذلك لأن الذنب يعظم بعظم المفسدة وتفويت المصلحة، وإعدام البنية الإنسانية غاية في ذلك، وقد ورد في التغليظ في ذلك. النصُّ في كتاب الله سبحانه وتعالى، وأحاديثُ صحيحة، وأخبار (ب) شهيرة. و"أول" مضافٌ إلى "ما" الموصولة، والعائد محذوف، والتقدير: يقضى فيه. ويجوز أن تكون "ما" مصدرية، والمعنى: أول قضاء يكون في ¬

_ (أ) ساقط من: الأصل. (ب) في جـ: أخباره.

الدماء. ويجوز أن يكون المصدر بمعنى اسم المفعول، أي أول مَقْضِىّ يكون في الدماء. و "في الدماء" خبر على كل تقدير. ولا يعارض الحديث حديث: "أول ما يحاسب العبد عليه صلاته". أخرجه أصحاب "السنن" من حديث أبي هريرة (¬1). لأن الأول محمول على ما يتعلق بمعاملات الخلق، والثاني فيما يتعلق بعبادة الخالق (أ)، وقد جمع النسائي (¬2) في روايته في حديث ابن مسعود ولفظه: "أول ما يحاسب العبد عليه صلاته، وأول ما يقضى بين الناس في الدماء". وحديث علي (¬3): أنا أول من يجثو للخصومة يوم القيامة. يعني هو ورفيقاه حمزة وعبيدة، وخصومهم عتبة وشيبة ابنا ربيعة والوليد بن [عتبة] (ب)، مندرج في ذلك، وفي حديث الصُّور عن أبي هريرة: "أول ما يُقضَى بين الناس في الدماء، ويأتي كل قتيل قد حمل رأسه، فيقول: يا رب، سل هذا فيم قتلني" الحديث (¬4). وفي حديث نافع بن جُبير عن ابن عباس يرفعه: "يأتي المقتول معلق رأسه بإحدى يديه، ملبِّيًا قاتله بيده الأخرى، تشخب أوداجه دمًا، ¬

_ (أ) في جـ: الخلق. (ب) في الأصل، جـ: عقبة. والمثبت من حديث علي عند البخاري 8/ 443، 444 ح 4744.

حتى يقفا بين يدي الله" (¬1) الحديث. هذا في الدماء، والقضاء في الأموال في حديث ابن عمر رفعه: "من مات وعليه دينار أو درهم، قُضي من حسناته". أخرجه ابن ماجه (¬2). وقد استشكل إعطاء الثواب، وهو لا يَتَنَاهٍ في مقابلة العقاب وهو مُتناهٍ، وأجيب بأنه محمول على أنه يعطي من أجر حسناته ما يوازي عقوبة سيئاته من غير المضاعفة التي يضاعف بها الله سبحانه وتعالى الحسنات؛ لأن ذلك من محض الفضل الذي يخصُّ الله به من يشاء من عباده. كذا قاله البيهقي (¬3). وهذا لا يستقيم إلا على أصول أهل السنة، ولا يناسب أصول العدلية المعتزلة. والله سبحانه أعلم. 964 - وعن سمرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من قتل عبده قتلناه، ومن جدع عبده جدعناه". رواه أحمد والأربعة، و [حسنه] (أ) الترمذي (¬4). وهو من رواية الحسن البصري، عن سمرة، وقد اختلف في سماعه ¬

_ (أ) في الأصل، جـ: صححه. والمثبت من بلوغ المرام ص 254، ولفظ الترمذي: حسن غريب.

منه (أ). وفي رواية أبي داود والنسائي: "ومن خصى عبده خصيناه". وصحح الحاكم (¬1) هذه الزيادة. الحديث ضعفه يحيى بن معين (¬2)، وقال: إن الحسن لم يسمع من سمرة شيئًا، هو كتاب. وقال في [الحديث] (ب): ذاك في سماع البغداديين، ولم يسمع الحسن من سمرة. وذهب بعضهم إلى أنه لم يسمع منه غير حديث العقيقة (¬3). وأما علي بن المديني فكان يثبت سماع الحسن من سمرة (¬4). وقال قتادة [راويه] (جـ) عن الحسن: ثم إن الحسن نسي هذا الحديث، وقال: "لا يقتل حر بعبد" (¬5). ولكن يقال: يحتمل أن الحسن لم ينسه، وإنما لم يعمل به لضعفه (¬6). والحديث فيه دلالة على أن السيد يقاد بالعبد في النفس والأطراف، ويقاس عليه إذا كان القاتل غير السيد بقياس الأَوْلى، وقد ذهب إلى هذا إبراهيم النخعي (د)، وهو متأيد بعموم قوله تعالى: ¬

_ (أ) ساقط من: جـ. (ب) في الأصل: حديث. (جـ) في الأصل، جـ: رواية. والمثبت يقتضيه السياق. (د) بعده في جـ: وغيره.

{النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} الآية (¬1). وذهب أبو حنيفة وصاحباه إلى أنه يقتل الحر بالعبد إذا كان القاتل غير السيد؛ لعموم الآية الكريمة وتخصيص السيد بأحاديث المثلة الآتية (أ)، ولم يثبت القود. وذهب العترة جميعًا، والشافعي، ومالك، وأحمد، وأبو ثور، إلى أنه لا يُقاد الحر بالعبد مطلقًا؛ وذلك لما يفهم من دليل الخطاب من قوله تعالى: {الْحُرُّ بِالْحُرِّ} (¬2). فهو يحتمل أن يكون معناه: أن الحر لا يقتل بغير الحر، لما يستفاد من تعريف المبتدأ من القصر، وحديث سمرة ضعيف أو منسوخ، أو خرج مخرج التحذير من وقوع مثل ذلك، وقد يحتجّ لنسخه بما أخرجه البيهقي (¬3) من حديث عمر: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يقاد مملوك من مالكه، ولا ولد من والده". أخرجه في قصة مَن مثَّل بأَمَته. قال أبو صالح (3): وقال الليث: وهذا القول معمول به. وأخرجه من طريق أخرى (3)، وفي الطريقين عمر بن عيسى (ب) (¬4)، ¬

_ (أ) ساقطة من: جـ. (ب) في جـ: عباس.

ويذكر عن البخاري (¬1) أنه منكر الحديث. وأخرج من حديث عبد الله بن عمرو (¬2) في قصة زنباع لما جبَّ عبده وجدَع أنفه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من مثّل بعبده أو حرق بالنار، فهو حرّ، وهو مولى الله ورسوله". فأعتقه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يقتصّ من (أ) سيده. وفيه المثنى بن الصباح (¬3) وهو ضعيف لا يحتج به. ورواه الحجاج بن أرطاة من طريق أخرى (2)، ولا يحتج به، ورواه سوار أبو (ب) حمزة (¬4)، وهو ليس [بالقوي] (جـ). وأخرج أيضًا (2) من طريق عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، أن رجلًا قتل عبده متعمدا، فجلده النبي - صلى الله عليه وسلم - مائة جلدة، ونفاه سنة، ومحا سهمه من المسلمين ولم يُقده به وأمره أن يعتق رقبة، وأخرج (2) أيضًا عن علي رضي الله عنه قال: أُتِي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - برجل قتل عبده متعمدًا، فجلده رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مائة، ونفاه سنة، ومحا سهمه من المسلمين، ولم يُقده به. ¬

_ (أ) ساقط من: الأصل. (ب) في الأصل، جـ: بن. والمثبت من مصدر التخريج. (جـ) في الأصل: بقوي.

وفي (أ) طريقه إسماعيل بن عياش، لكن رواه عن الأوزاعي (¬1)، وروايته عن الشاميين قوية، لكن من دونه محمد بن عبد العزيز الشامي (¬2)، قال فيه أبو حاتم (¬3): لم يكن عندهم بالمحمود، وعنده غرائب. ورواه ابن عدي من حديث عمر مرفوعًا (¬4)، وفيه عمر بن عيسى الأسلمي، وهو منكر الحديث. وأخرج (¬5) أيضًا عن عمرو بن شعيب، أن أبا بكر وعمر رضي الله عنهما كانا يقولان: لا يُقتَل المؤمن بعبده، ولكن يُضرب، ويُطال حبسه، ويُحرم سهمه. قال (5): وأسانيد هذه الأحاديث ضعيفة، لا تقوم بشيء منها الحجة، إلا أن أكثر أهل العلم على ألا يُقتَل الرجل بعبده، وقد رويناه عن سليمان بن يسار والشعبي والزهري وغيرهم. وأخرج ابن أبي شيبة (¬6)، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، أن ¬

_ (أ) في الأصل: من.

أبا بكر وعمر رضي الله عنهما كانا لا يقتلان الحر بقتل العبد. وأخرج البيهقي (¬1) عن علي رضي الله عنه: من السنة ألا يُقتَل حرٌّ بعبدٍ. وفي إسناده جابر الجعفي (¬2). وأخرج (¬3) عن ابن عباس، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يُقتَل حر بعبد". قال: وفي إسناده ضعف. ضعفه بجويبر (¬4) وغيره من المتروكين. وأخرج (3) عن قتادة، عن الحسن قال: لا يُقاد الحر بالعبد. وأخرج (3) عن أبي جعفر، عن بكير، أن السنة مضت (أ) بألا يقتل الحر المسلم بالعبد، وإن قتَله عمدًا، وعليه العقل. وأخرج (3) عن ابن شهاب أنه قال: لا قودَ بين الحر والعبد في شيء، إلا أن العبد إذا قتَل الحر عمدًا قُتِل به. قال (3): وروينا عن ابن جريج عن عطاء مثله. فهذه الأحاديث وإن كان فيها ضعف فبعضها يقوي بعضا، فيمكن أن يدعى التخصيص بها لعموم قوله تعالى: {النَّفْسَ ¬

_ (أ) بعده في جـ: بأن السنة مضت.

بِالنَّفْسِ} (¬1). وتأيّدها بمفهوم قوله: {الْحُرُّ بِالْحُرِّ} (¬2). وأما قَتْل العبد بالحرِّ فإجماع. 965 - وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "لا يُقاد الوالدُ بالولد". رواه أحمد والترمذي وابن ماجه، وصححه ابن الجارود والبيهقي (¬3). وقال الترمذي: إنه مضطرب. الحديث، في إسناد الترمذي الحجاج بن أرطاة، وطريق أحمد والدارقطني والبيهقي أيضًا أصح منها، وقد ذكر البيهقي قصة المدلجي (¬4) الذي حذف ابنه بالسيف حتى نزف الدم منه ومات، وصحح البيهقي سنده، لأن رواته ثقات. ورواه الترمذي من حديث سراقة (¬5)، وإسناده ضعيف، وفيه اضطراب واختلاف على عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده؛ فقيل: عن عمرو (أ). وقيل: عن سراقة. ¬

_ (أ) كذا في النسخ، والتلخيص الحبير 4/ 16، ولعل الصواب: عُمَر. وينظر سنن الدارقطني 3/ 141، والدراية 2/ 264.

وقيل: بلا واسطة. وهي عند أحمد (¬1)، وفيها [ابن لهيعة، ورواه الترمذي أيضًا وابن ماجه (¬2) من حديث ابن عباس وفي إسناده] (أ) إسماعيل بن مسلم المكي (¬3) وهو ضعيف، لكن تابعه (ب) [عبيد الله بن الحسن] (جـ) العنبري عن عمرو بن دينار. قاله البيهقي (¬4). وقال عبد الحق (¬5): هذه الأحاديث كلها معلولة، لا يصح منها شيء. وقال الشافعي (¬6): حفظت عن عدد (د) من أهل العلم لقيتهم، ألا يُقتل الوالد بالولد، وبذلك أقول. قال البيهقي (¬7): طرق هذا الحديث منقطعة. وأكده الشافعي بأن عددًا من أهل العلم يقولون به. والحديث فيه دلالة على أن الوالد لا يُقاد بابنه إذا قتَله عمدًا، سواء كان ¬

_ (أ) ساقطة من: الأصل، جـ. والمثبت من التلخيص الحبير 4/ 16. (ب) في جـ: تابع. (جـ) في الأصل: الحسن بن عبيد الله. وفي جـ: الحسن بن عبد الله. والمثبت من البيهقي. (د) في جـ: عدة.

بالذبح أو بغيره، وقد ذهب إلى هذا الجمهور من الصحابة؛ علي، وعمر، وعثمان، وغيرهم، والحنفية، والشافعية، وأحمد، وإسحاق، والعترة جميعًا. وذهب مالك إلى أنه يقاد بالولد إذا أضجعه وذبحه. قال: لأن ذلك عمد (أ) حقيقة لا يحتمل غيره. وأما إذا كان على غير هذه الصفة مما كان يحتمل عدم تعمُّد إزهاق الروح وقضد التأديب من الأب، وإن كان في حق غيره يُحكَم فيه بالعمد، وذللث كما روي في قصة المدلجي الذي حذف ابنه بالسيف، وإنما فرق بين الأب وغيره، وذللث لأن الأب لما (ب) له من الشفقة على ابنه، وغلبة قصد التأديب عند فعله ما يغضب الأب -فيحمل (¬1) على عدم قصد القتل كما في قصة المدلجي، فإنه لما أغضب الولد والده حذَفه بالسيف، بخلاف غيره من سائر الناس، فإن الظاهر في مثل استعمال الجارح في المقتل (جـ) هو قصد العمد، والعمدية أمر خفي لا يحكم بإثباتها إلا بما يظهر من قرائن الأحوال، والفرق هذا حسن، إلا أن الجمهور عللوا الحكم في حق الأب لثبوت حقه على الابن، وقالوا: إن الأب سبب في وجود الولد، فلا يكون الولد سببًا في إعدامه، فيبقى الدليل على عمومه، ألا يقاد الوالد بالولد، واستشهاد عمر بالحديث على قصة المدلجي لا يكون مخصصًا لعمومه، بل هي مندرجة من ¬

_ (أ) في جـ: عمدًا. (ب) في جـ: بما. (جـ) في جـ: القتل.

جملة أفراده. وذهب [البتي] (أ) إلى أنه يجب القود؛ لعموم: {النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} (¬1) وغيرها. ويجاب بأن العموم مخصوص، ولعله لم يثبت عنده الخبر، وقد عرفت ما فيه، فبقي عنده العموم سالمًا من التخصيص، ويلزمه الدية كما في قصة المدلجي، فإن عمر قال له: اعدد على ماء قديد عشرين ومائة بعير حتى أقدم عليك. فلما قدم عليه عمر أخذ من تلك الإبل ثلاثين حقة وثلاثين جذعة وأربعين خلفة، ثم قال: أين أخو المقتول؟ فقال: هأنذا. قال: خذها، فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "ليس لقاتل شيء". ولا يرث من الدية إجماعًا ولا من غيرها أيضًا عند الجمهور، وذهب بعض أصحاب الشافعي وفقهاء البصرة إلى أنه يرث من المال دون الدية لآيات المواريث -قال الإمام المهدي في "البحر": لنا عموم الخبر، وهو قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يرث القاتل" (¬2). ولا كفارة عليه لعمده عند زيد بن علي، والهادي، والناصر - وأبو حنيفة وأصحابه، وأحد قولي الشافعي. وذهب مالك، وأحد قولي الشافعي، والقاسم، إلى وجوب الكفارة لسقوط القود كالخطأ، والجد من قبل الأب أو من قبل الأم كالأب في سقوط القود، وذهب بعض أصحاب الشافعي والحسن بن صالح إلى أنه يقاد ¬

_ (أ) في الأصل: البستي.

ممن عدا الأب كالأم والجد، قال في "البحر": (أمخالف للإجماع أ)؛ إذ يعمهم لفظ الوالد. 966 - وعن أبي جحيفة رضي الله عنه قال: قلت لعلي رضي الله عنه: هل عندكم شيء من الوحي غير القرآن؟ قال: لا، والذي فلق الحبة، وبرأ النسمة، إلا فهم يعطيه الله رجلا في القرآن، وما في هذه الصحيفة. قلت: وما في هذه الصحيفة؟ قال: العقل، وفكاك الأسير، ولا يقتل مسلم بكافر. رواه البخاري (¬1). وأخرجه أحمد، وأبو داود، والنسائي (¬2)، من وجه آخر عن علي وقال فيه: "المؤمنون تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم، وهم يد على من سواهم، ولا يقتل مؤمن بكافر، ولا ذو عهد في عهده". وصححه الحاكم (¬3). قوله: هل عندكم؟ الخطاب لعلي رضي الله عنه، والجمع إما [لتعليته] (ب) على غيره من أهل البيت، وإن كانوا غائبين، أو للتعظيم، وقد جاء مثل هذا في قوله (¬4): ¬

_ (أ - أ) في جـ: يخالف الإجماع. (ب) هذه الكلمة جاءت في الأصل غير منقوطة.

*ولو شئت حرَّمت النساء سواكمُ* وقوله: شيء من الوحي. قد جاء هذا في البخاري بألفاظ؛ في باب العلم (¬1): هل عندكم كتاب؟ قال: لا. وفي الجهاد (¬2): هل عندكم شيء من الوحي؟ وفي الديات (¬3): هل عندكم شيء مما ليس في القرآن؟ وفي "مسند إسحاق بن راهويه" (¬4): هل علمت شيئًا من الوحي؟ قال المصنف رحمه الله تعالى (¬5): وإنما مسألة أبو جحيفة عن ذلك؛ لأن جماعة من الشيعة كانوا يزعمون لأهل البيت، لا سيما علي، اختصاصًا بشيء من الوحي لم يطلع عليه غيرهم، وقد سأل عليًّا رضي الله عنه عن هذه المسألة أيضًا قيس بن عُباد (أ)، بضم العين المهملة وتخفيف الموحدة، والأشتر النخعي (¬6). وقوله: [لا] (ب). رد لمن يعتقد اختصاصه بشيء من الوحي، والظاهر ¬

_ (أ) في جـ: عبادة. (ب) ساقط من: الأصل.

أن المسئول [عنه] (أ) هو ما يتعلق بالأحكام الشرعية من الوحي الشامل لكتاب الله العجز، ولسنة النبي - صلى الله عليه وسلم -، فإن الله سبحانه وتعالى سماها وحيًا، [إذ] (ب) فسر قوله: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3)} (¬1). بما هو أَعمُّ من القرآن، ويدل عليه قوله: وما في هذه الصحيفة. ويؤيده أيضًا ما أخرجه أحمد والبيهقي في "الدلائل" (¬2)، أن عليًّا كان يأمر بالأمر، فيقال: قد فعلناه. فيقول: صدق الله ورسوله. فقال له الأشتر: هذا الذي تقول، هو شيء عهده إليك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خاصة من دون الناس؟ فذكره بطوله. فلا يلزم منه نفي ما يُنسب إلى علي رضي الله عنه من علم الجفر (¬3) وغيره، أو (جـ) أن يقال: إنه مندرج في قوله: إلا فهم يعطيه الله رجلا في القرآن. فإنه كما ينسب إلى كثيرٍ مما فتح الله عليه بأنواع العلوم، ونوّر بصيرته، يُستنبَط ذلك من القرآن. ¬

_ (أ) ساقط من: الأصل. (ب) في الأصل: وإذا. (جـ) في جـ: و.

وقوله: إلا فهم. استثناء من لفظ شيء، ويكون مرفوعًا على البدلية، ويجوز نصبه على الاستثناء، والفهم بمعنى المفهوم، وهو المأخوذ من فحوى لفظ القرآن، أو من معناه، إما بالقياس أو بغيره، فيكون الاستثناء متصلًا، وإن كان بمعناه المصدري كان البدلية على مذهب بني تميم في المنقطع، ويكون المعنى أن من أعطاه الله الفهم كان عنده الزيادة، ويكون علي رضي الله عنه مندرجًا في ذلك اندراجًا أوليًّا لتحقُّق الفهم عنده، واشتهاره [بمعرفة ما] (أ) خفي ودق من الأحكام وغيرها. وقوله: وما في هذه الصحيفة. أي الورقة المكتوبة. وللنسائي (¬1) من طريق الأشتر: فأخرج كتابًا من قِراب سيفه. وقوله: العقل. أي الدية، وإنما سميت الدية عقلًا، لأنهم كانوا يعطون فيها الإبل، ويربطونها بفناء دار المقتول بالعقال، وهو الحبل، ووقع في رواية ابن ماجه (¬2) بدل العقل الديات. والمراد أحكامها ومقاديرها وأصنافها. وقوله: فكاك. بكسر الفاء وفتحها، وقال الفراء: الفتح أفصح. والمعنى أن فيها حكم تخليص الأسير من يد العدو، والترغيب في ذلك. وقوله: ولا يقتل مسلم. بنصب "يقتل" لعطفه على الاسم وهو فكاك، أو العقل، يعني أنه مكتوب حكم تحريم قتل المسلم بالكافر في ¬

_ (أ) في الأصل: بما.

الصحيفة مع هذه الأمور، وقد جاء في رواية البخاري ومسلم (¬1): قال: ما عندنا شيء نقرؤه إلا كتاب الله وهذه الصحيفة. فإذا فيها: "المدينة حرم". ولمسلم (¬2): وأخرج صحيفة [مكتوب] (أ) فيها: "لعن الله من ذبح لغير الله". الحديث. ولأحمد (¬3): فيها فرائض الصدقة. والجمع بين هذه الأحاديث، أن الصحيفة واحدة وروى كلٌّ ما حفظه منها (ب)، وهو يدل على أنه لا يقتل المسلم بالكافر قودًا، وقد ذهب إلى هذا الجمهور. وذهبت الحنفية إلى أنه يقتل المسلم بالذمي إذا قتله بغير استحقاق ولا يقتل بالمستأمن. والشعبي والنخعي: يقتل باليهودي والنصراني دون المجوسي. واحتجوا بقوله: "ولا ذو عَهْدٍ في عهده". فإن هذا اللفظ ظاهره أنه معطوف على قوله: مؤمن. فلا بد من تقدير في الثاني، كما في الطرف الأول، فيقدر: ولا ذو عهدٍ في عهده بكافر. ولابد من تقييد الكافر في المعطوف بلفظ الحربي، لأن الذمي يقتل بالذمي ويقتل بالمسلم، وإذا كان التقييد لا بد منه في المعطوف، وهو مطابق للمعطوف عليه، فلا بد من تقدير مثل ذلك في المعطوف عليه، فيكون التقدير: لا يقتل مؤمن بكافر حربي. ومفهوم حربي أنه يقتل بالذمي بدليل مفهوم المخالفة، و (جـ) إن كانت الحنفية ¬

_ (أ) في الأصل: مكتوبة. (ب) في جـ: فيها. (جـ) ساقط من: جـ.

لا تعمل بالمفهوم، فالظاهر أنهم يقولون: الحديث يدل على أنه لا يقتل بالحربي صريحًا، وأما قتله بالذمي فبعموم قوله تعالى: {النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} (¬1). ولما (أ) رواه عبد الرحمن [بن البيلماني] (ب)، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قتل مسلمًا بمعاهد، وقال: "أنا أكرم من وفى بذمته". أخرجه البيهقي (¬2). فهذا الحديث مرسل، وقد جاء في رواية عمار بن مطرٍ: عن ابن البيلماني، عن ابن عمر مرفوعًا. قال البيهقي: وهو خطأ من وجهين، أحدهما: وصله بذكر ابن عمر. والآخر: أنه رواه عن إبراهيم، عن ربيعة، وإنما يرويه إبراهيم عن ابن المنكدر، والحمل فيه على عمار بن مطر الرهاوي (¬3)، فقد كان يقلب الأسانيد، ويسرق (جـ) الأحاديث، حتى كثر ذلك في رواياته، وسقط (د) عن حد الاحتجاج به. قال الدارقطني (¬4): ابن البيلماني (¬5) ضعيف لا تقوم به حجة إذا وصل الحديث، فكيف بما ¬

_ (أ) في جـ: بما. (ب) في جـ: السلماني. (جـ) في جـ: سرق. (د) في جـ: يسقط.

يرسله؟ وقال أبو عبيد القاسم بن سلام (¬1): هذا حديث ليس بمسند، ولا يُجعَل مثله إمامًا تُسفَك به دماء السلمين. قال: [وقد أخبرني عبد الرحمن بن مهدي، عن عبد الواحد بن زياد، قال] (¬2): قلت لزفر: إنكم تقولون: إنا ندرأ الحدَّ بالشبهات. وإنكم جئتم إلى أعظم الشبهات فأقدمتم عليها. قال: وما هو؟ قال: قلت: المسلم يقتل بالكافر. قال: فاشهد أنت على رجوعي عن هذا. قال: وكذلك قول أهل الحجاز لا يقيدونه به. وأما قوله: "ولا ذو عهد في عهده". فإن ذا العهد الرجل من أهل دار الحرب، يدخل إلينا بأمان، فقتله محرَّم على السلمين حتى يرجع إلى مأمنه، وأصل هذا من قوله تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ} (¬3). وقال علي بن المديني (¬4): حديث ابن البيلماني هذا إنما يدور على إبراهيم بن أبي يحيى (¬5) ليس له وجه حجاج، إنما أخذه عنه. وهذا غير مسلم، وقد أخرجه أبو داود في "المراسيل" (¬6)، ¬

_ (¬1) غريب الحديث 2/ 105، 106. (¬2) جعل محقق غريب الحديث هذه الزيادة في الحاشية، وقد ذكرها عن أبي عبيد بإسناده هذا؛ البيهقي في سننه 8/ 31، والحافظ في الفتح 12/ 262، وينظر السير 8/ 35. (¬3) الآية 6 من سورة التوبة. (¬4) ينظر سنن البيهقي 8/ 31. (¬5) تقدمت ترجمته في 5/ 312. (¬6) المراسيل ص 155.

والطحاوي (¬1)، من طريق سليمان بن بلال، عن ربيعة، عن ابن البيلماني. وذكر الشافعي في "الأم" (¬2) كلامًا حاصله أن حديث ابن البيلماني كان في قصة المستأمن الذي قتله عمرو بن أمية. قال: فعلى هذا لو ثبت لكان منسوخًا؛ لأن حديث: "لا يقتل مسلم بكافر". خطب به النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم الفتح -كما في رواية عمرو بن شعيب (¬3) - وقضية عمرو بن أمية متقدمة على ذلك بزمان. وخطبة يوم الفتح كانت بسبب [القتيل الذي قتلته] (أ) خزاعة وكان له عهد، فخطب النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: "لو قتلت مؤمنًا (ب) بكافر لقتلته (جـ) به" (¬4). وقال: "لا يقتل مؤمن بكافر، ولا ذو عهد في عهده" (¬5). فأشار بحكم الأول إلى ترك اقتصاصه من الخزاعي بالمعاهد الذي قتله، وبالحكم (د) الثاني إلى النهي عن الإقدام على ما فعله (هـ) ¬

_ (أ) في الأصل، جـ: القتل الذي قتله. والمثبت من الفتح 12/ 262. (ب) زاد في الأصل: مسلما. (جـ) في جـ: لقتله. (د) في جـ: فالحكم. (هـ) في جـ: فعل.

القاتل المذكور، والله أعلم. وقد يؤيَّد القول بعدم الاقتصاص بقصة اليهودي الذي لطمه المسلم لما قال: لا والله الذي اصطفى موسى على البشر. فلطمه المسلم، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يُثبت له الاقتصاص (¬1)، وهو حجة على الكوفيين الذين يثبتون الاقتصاص باللطمة، وأما من لا يثبت الاقتصاص باللطمة فلا يستقيم التأييد عنه. وذهب مالك والليث إلى أنه يقتل المسلم بالذمي إذا قتله غيلة، و (أ) والغيلة أن يضجعه فيذبحه. وقد يستأنس لهذا القول بما روى عمرو بن دينار (¬2)، أن عمر رضي الله عنه كتب في مسلم قتل نصرانيًّا: إن كان القاتل قَتَّالًا فاقتلوه، وإن كان غير قتال فذروه ولا تقتلوه. وأخرج البيهقي (¬3)، عن سفيان، عن عمرو بن دينار، عن شيخٍ قال: كتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه في مسلم قتل معاهدًا، فكتب: إن كانت طيرة في غضب فأغرم أربعة آلاف، وإن كان لصًّا عاديًا فاقتله. وأخرج (3) عن عمرو بن دينار، عن القاسم بن أبي بزة، أن رجلًا مسلمًا قتل رجلًا من أهل الذمة بالشام، فرُفِع إلى أبي عبيدة بن الجراح، فكتب فيه إلى عمر، فكتب عمر: إن كان ذلك منه خلقًا فقدِّمْه فاضرب عنقه، وإن كانت هي طيرة طارها فأغرمه ديته أربعة آلاف. فهذا يدل على أن معتاد القتل يقتل، وما قال مالك في القاتل غيلة ¬

_ (أ) في جـ: وقال.

كذلك (أ)، وهو يُفهَم من التعليل بقوله: [إن] (ب) كانت طيرة في غضب. فالقاتل غيلة لم يكن طيرة في غضب، وكذا المُضْجِع له الذابح لم يكن طيرة في غضب، وقد عمل بهذا الهادي فيمن اعتاد قتل عبيده، أنه يُقتَل، وكذا في حق الأب إذا قتل ابنه وكان له عادة، ولكن قال الشافعي (¬1): قلنا: ولا يُعمَل بحرف من هذا؛ لأن هذه الأحاديث منقطعات أو ضعاف، أو تجمع الانقطاع والضعف جميعًا، وقد أخرج الطبراني عن الحسن بن ميمون (¬2) عن عبد (جـ) الله بن عبد الله مولى بني هاشم، عن أبي الجنوب الأسدي قال: أُتي علي بن طالب برجل من المسلمين قتل رجلًا من أهل الذمة. قال: فقامت عليه البينة، فأمر بقتله، فجاء أخوه، فقال: إني قد عفوت. قال: فلعلهم هددوك وفرقوك وقرعوك (د)؟ قال: لا، ولكن قتله لا يرد عليَّ أخي، وعوضوني ورضيت. قال: أنت أعلم، من كان له ذِمَّتنا، فدمه كدمنا، وديته كديتنا. كذا قال: حسن. في رواية أبان. وفي رواية غيره: حسين بن ميمون (¬3). وفي إسناده أبو الجنوب (¬4)، قال الدارقطني (¬5): هو ضعيف ¬

_ (أ) ساقط من: جـ. (ب) في الأصل: أو. (جـ) في جـ: عبيد. وينظر تهذيب الكمال 20/ 213، 214. (د) كذا في الأصل، جـ، وعند البيهقي: فزعوك. ولم ترد عند الشافعي.

الحديث. قال الشافعي في القديم (¬1): وفي حديث أبي جحيفة عن علي رضي الله عنه: ما دلكم أن عليًّا (أ) يروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - شيئًا ويقول بخلافه؟ انتهى. وقوله: "تتكافأ دماؤهم". أي تتساوى في القصاص والديات. والكفء: النظير والمساوي. ومنه الكفاءة في النكاح؛ وهو أن يكون الزوج مساويًا للمرأة في حسبها ودينها ونسبها وبيتها، وغير ذلك، والمراد أنه لا فرق بين الشريف والوضيع في الدم، وهو على خلاف ما كان عليه الجاهلية من المفاضلة وعدم المساواة. وقوله: "يسعى بذمتهم أدناهم". يعني أنه (ب) إذا أمَّن المسلم حربيًّا، كان أمانه أمانًا من جميع المسلمين، ولو كان ذلك المسلم امرأة، بشرط أن يكون المؤمن مكلفًا، فإنه يكون أمانًا من الجميع، فلا يجوز نكث ذلك. وقوله: "وهم يد على من سواهم". أي هم مجتمعون على أعدائهم، لا يسعهم التخاذل، بل يعاون (جـ) بعضهم بعضًا على جميع الأديان والملل، كأنه جعل أيديهم يدًا واحدة، وفعلهم فعلًا واحدًا. 967 - وعن أنس بن مالك رضي الله عنه، أن جاريةً وجِد رأسُها قد رضَّ بين حجرين، فسألوها: من صنع بك هذا؟ فلان؟ فلان؟ حتى ¬

_ (أ) بعده عند البيهقي: لا. وينظر نيل الأوطار 7/ 17. (ب) ساقط من: جـ. (جـ) في جـ: يعادون.

ذكروا (أ) يهوديًّا، فأومأت برأسها، فأخذوا اليهودي فأقرَّ، فأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يُرَضّ رأسه بين حجرين. متفق عليه (¬1)، واللفظ لمسلم. الحديث فيه دلالة على أن القتل بالمثقل (5) يوجب القصاص كالقتل بالمحدد (جـ)، وقد ذهب إليه العترة، والشافعي، ومالك، ومحمد بن الحسن، وأبو يوسف، وغيرهم؛ لظاهر (د) الحديث، والمعنى المناسب ظاهر قوي لصيانة الدماء من الإهدار، ولأن القتل بالمثقل (ب) كالقتل (هـ) بالمحدد في إزهاق الروح، فلو لم يجب القصاص أدى ذلك إلى أن يتخذ ذريعة إلى إهدار القصاص، وفات الغرض المقصود من إثبات القصاص، وهو الحياة التي قال فيها سبحانه وتعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} (¬2). وذهب أبو حنيفة، والشعبي، والنخعي، إلى أنه لا قصاص في المثقل، واحتج بحديث النعمان بن بشير قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "كل شيء خطأ إلا السيف، ولكل خطأ أرش (و) " (¬3). وفي لفظ آخر برواية أخرى (¬4) عنه، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ¬

_ (أ) بعده في جـ: لها. (ب) في جـ: بالمقتل. (جـ) في جـ: بالحديد. (د) في جـ: بظاهر. (هـ) ساقط من: جـ. (و) بعده في جـ: إلا السيف.

"إن لكل شيء خطأ إلا السيف -يعني الحديدة- ولكل خطأ أرش". وفي رواية أخرى عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "كل شيء سوى الحديدة خطأ، ولكل خطأ أرش". أخرجه البيهقي (¬1). ومدار هذا الحديث على جابر الجعفي (¬2)، وقيس بن الربيع (¬3)، ولا يحتج بهما، ويعتذر عن هذا الحديث بأنه حصل من الرضخ الجرح، والأصح من مذهبه أنه يوجب القصاص، أو أن اليهودي كان عادته قتل الصبيان، فهو من الساعين في الأرض فسادًا، ويجاب عنه بأن الحديث المذكور قد عرف ضعفه، وهذا الحديث صحيح لا يقاومه ذلك، وما ذكر من الاعتذارات خلاف الظاهر، مع أن أبا حنيفة لا يقف على مفاد الحديث، فإنه يثبت القتل بالمحدد؛ من حديد أو حجر أو خشب، أو كان معروفًا بقتل الناس [بالمنجنيق] (أ) أو بالإلقاء في النار، واختلفت الرواية عنه في مثقل الحديد كالدبوس (¬4)، وأما إذا كانت الجناية بما لا يقصد به القتل غالبًا وتعمد القتل به كالعصا والسوط واللطمة و [القضيب] (ب) والبندقة ونحوها؛ فقال مالك والليث والهدوية: يجب ¬

_ (أ) في الأصل: بالنحسق. وكتب فوقه في جـ: بالخنق، وكتب بجواره حرف الطاء. والمثبت موافق لما في صحيح مسلم بشرح النووي 11/ 158. (ب) في الأصل: النصب. وفي جـ: العصب. والمثبت من صحيح مسلم بشرح النووي 11/ 159.

فيها القود. وقال الشافعي وأبو حنيفة والأوزاعي والثوري وأحمد وإسحاق وأبو ثور وجماهير العلماء من الصحابة والتابعين فمن بعدهم: لا قصاص فيه، وهو شبه العمد، وفيه الدية؛ مائة من الإبل مغلظة، منها أربعون خلفة (¬1) في بطونها أولادها. أخرجه الشافعي (¬2) عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. وقال ابن أبي ليلى (¬3): إن قتل بالحجر أو العصا؛ فإن كرر ذلك فهو عمد، وإلا فخطأ. وقال عطاء وطاوس (3): شرط العمد أن يكون بسلاح. وقوله: قد رضَّ رأسهما بين حجرين. وفي رواية لمسلم (¬4): فقتلها بحجر فجيء بها إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وبها رمق. وفي رواية (¬5): قتل جارية من الأنصار على حلي لها، ثم ألقاها في قليب، ورضخ رأسها بالحجارة، فأمر به النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يرجم حتى يموت، فرجم حتى مات. والجمع بين الروايات، وهو أنه إذا وضع رأسها على حجر ورمى بحجر آخر فقد رجم، وقد رضَّ، وقد رضخ، وقيل: يحتمل أنه رجمها الرجم المعروف مع الرضخ؛ لقوله: ثم ألقاها في قليب. ويدل الحديث على أن الرجل يقتل بالمرأة، ويقتص منه أيضًا فيما دون النفس، وقد ذهب إلى هذا الجمهور، وظاهر قول البخاري أنه إجماع؛ لأنه قال (¬6): وقال أهل العلم: يقتل الرجل بالمرأة. وحكى ابن ¬

_ (¬1) الخلفة؛ بفتح الخاء وكسر اللام: الحامل من النوق، وتجمع على خلفات وخلائف. النهاية 2/ 68. (¬2) الأم 6/ 8. (¬3) مصنف عبد الرزاق 9/ 271، 272 ح 17173، 17175. (¬4) مسلم 3/ 1299 ح 1672/ 15. (¬5) مسلم 3/ 1299 ح 1672/ 16. (¬6) البخاري 12/ 214.

المنذر (¬1) الإجماع على ذلك، وحكى القاضي أبو الوليد الباجي في "المنتقى" (¬2) عن الحسن البصري أنه لا يقتل الذكر بالأنثى، وحكاه الخطابي في "معالم السنن" (¬3)، ودليله مفهوم قوله تعالى: {وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى} (¬4). ويرد عليه بقوله تعالى: {النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} (¬5). وإن كان ذلك لا يستقيم إلا على القول بأن شرع من قبلنا يلزمنا ما لم ينسخ، وبالحديث المذكور، ويتأيد ذلك بالإجماع المذكور، أو بأنه قول الأكثر والمخالف نادر، وقد أخرج البيهقي (¬6)، عن عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن أبيه قال: كان من أدركت من فقهائنا الذين يُنتهى إلى قولهم؛ منهم سعيد بن المسيب، وعروة بن الزبير، والقاسم بن محمد، وأبو بكر بن عبد الرحمن، وخارجة بن زيد بن ثابت، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة، وسليمان بن يسار في مشيخة جلة سواهم من نظرائهم أهل فقه وفضل، وربما اختلفوا في الشيء، فأخذنا بقول أكثرهم وأفضلهم رأيًا، وكان الذي وعيت عنهم على هذه القصة، أنهم يقولون: المرأة تقاد من الرجل عينًا بعين، وأذنا بأذن، وكل شيء من الجراح على ذلك، وإن قتلها قتل بها. ورويناه عن الزهري وغيره. وروى سفيان الثوري عن المغيرة عن إبراهيم قال: القصاص بين الرجل والمرأة في العمد. وعن جابر عن الشعبي مثله، وعن جعفر بن برقان عن عمر بن ¬

_ (¬1) الإجماع ص 71. (¬2) المنتقى 7/ 121. (¬3) معالم السنن 4/ 14. (¬4) الآية 178 من سورة البقرة. (¬5) الآية 45 من سورة المائدة. (¬6) البيهقي 8/ 40.

عبد العزيز مثله، قال البيهقي (¬1): وروينا عن الشعبي وإبراهيم بخلافه فيما دون النفس. وذهب القاسم والهادي والناصر وأبو طالب، ورواه ابن المنذر (¬2) عن علي رضي الله عنه بسند فيه انقطاع، وروي عنه مثل قول الجمهور، ورواه أيضًا عن عثمان البتي - إلى أن يقاد الرجل بالمرأة ويتوفى ورثته نصف ديته، قالوا: لتفاوتهما في الدية، وقد قال تعالى: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} (¬3). والقصاص المساواة، والجواب عنه بما تقدم من الحديث، والتأييد بما تقدم ولم يذكر زيادة، والمساواة قد وقعت بالاقتصاص؛ لأن المراد المساواة في الجرح ألا يزيد المقتص على ما وقع فيه من الجرح. ويدل الحديث على أنه يكون القود بمثل ما قتل به، وقد ذهب إلى هذا الجمهور، وهو متأيد بقوله تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} (¬4). وبقوله تعالى: {فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} (¬5). وبما رواه البراء رضي الله عنه أنه قال - صلى الله عليه وسلم -: "من [عَرّض عَرّضنا] (أ) له (¬6)، ومن حرق حرقناه، ومن غرق غرقناه". أخرجه البيهقي (¬7). وهذا فيما كان ¬

_ (أ) في الأصل: غرض غرضنا.

السبب الذي قتل به يجوز فعله، وأما إذا كان لا يجوز فعله كمن قتل بالسحر، فإنه لا يمكن فعله. واختلف مذهب أصحاب الشافعي فيما إذا قتل باللواط أو بإيجار (¬1) الخمر، فمنهم من قال: يسقط اعتبار المماثلة للتحريم كما في السحر. ومنهم من قال: يدس فيه خشبة، ويوجر الخل، وإذا اختار ولي الدم القتل بالسيف كان له. إلا أن بعضهم استثنى من قتل بالخنق، فقال: لا يعدل إلى السيف. وادعى أنه عدول إلى أشد، وأن الخنق يغيب الحس، فيكون أسهل، واختلف فيمن قتل بعصا فاقتص بالضرب بالعصا فلم يمت، هل يكرر عليه؟ فقيل: يكرر. وقيل: إن لم يمت قتل بالسيف. وكذا فيمن قتل بالتجويع. وذهبت العترة والكوفيون منهم أبو حنيفة وأصحابه إلى أنه لا يكون الاقتصاص إلا بالسيف، واحتجوا بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا قود إلا بالسيف". وهو ضعيف أخرجه البزار وابن عدي (¬2) من حديث أبي بكرة، وذكر البزار الاختلاف فيه مع ضعف إسناده، وقال ابن عدي: طرقه كلها ضعيفة. وهو أيضًا على خلاف قاعدة الحنفية من أن آحادي السنة لا يخصص الكتاب ولا ينسخه، واحتجوا بالنهي عن المثلة، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا قتلتم فأحسنوا القتلة" (¬3). ويجاب عنه بأنه مخصوص بما ذكر من [الاقتصاص] " (أ). ويدل قوله: فأقر. على أن الإقرار في القتل يكفي مرة واحدة؛ إذ لا دلالة على التكرير. ¬

_ (أ) في الأصل: الاختصاص. وكتب في حاشيته: الاقتصاص. وأشار إلى أنها نسخة.

968 - وعن عمران بن حصين رضي الله عنه، أن غلامًا لأناس فقراء قطع أذن غلام لأناس أغنياء، فأتوا النبي - صلى الله عليه وسلم - فلم يجعل لهم شيئًا. رواه أحمد والثلاثة (¬1) بإسناد صحيح. أخرجه أبو داود، قال: حدثنا أحمد بن حنبل، قال: حدثنا معاذ بن هشام، قال: حدثني أبي، عن قتادة، عن أبي نضرة، عن عمران بن حصين. الحديث فيه دلالة على عدم غرامة الفقير، إلا أنه قال البيهقي (¬2): إن كان المراد بالغلام فيه المملوك فإجماع أهل العلم على أن جناية العبد في رقبته، فهو يدل والله أعلم على أن الجناية كانت خطأ، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما لم يجعل عليه شيئًا؛ لأنه التزم أرش جنايته، فأعطاه من عنده متبرعًا بذلك، وقد حمله أبو سليمان الخطابي (¬3) رحمه الله على أن الجاني كان حرًّا، [و] (أ) كانت الجناية خطأ، وكانت عاقلته فقراء، فلم يجعل عليهم شيئًا؛ إما لفقرهم، وإما لأنهم لا يعقلون الجناية الواقعة على العبد، إن كان المجني عليه مملوكًا. قال البيهقي: وقد يكون الجاني غلامًا حرًّا غير بالغ، وكاهما جنايته عمدا، فلم يجعل أرشها على عاقلته، وكان فقيرًا فلم يجعله في الحال عليه، ¬

_ (أ) في الأصل، جـ: أو. والمثبت من معالم السنن وسنن البيهقي.

أو رآه على عاقلته فوجدهم فقراء، فلم يجعله عليه لكون جنايته في حكم الخطأ، ولا عليهم لكونهم فقراء. والله أعلم. انتهى. وقول البيهقي: ولم يجعل أرشها على عاقلته. هذا هو مذهب الشافعي, أن عمد الصغير يكون في ماله ولا تحمله العاقلة. وقوله: أو رآه على عاقلته. يعني مع احتمال أنه خطأ، وهو اتفاق، أو مع احتمال أنه عمد كما ذهب إليه العترة وأبو حنيفة ومالك. والله أعلم. 969 - وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله عنهما، أن رجلا طعن رجلا بقرن في ركبته، فجاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: أقدني. فقال: "حتى تبرأ". ثم جاء إليه فقال: أقدني. فأقاده، ثم جاء إليه فقال. يا رسول الله، عَرَجْتُ. فقال: "قد نهيتك فعصيتني، فأبعدك الله وبطل عرجك". ثم نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يقتص من جرح حتى يبرأ صاحبه. رواه أحمد والدارقطني (¬1)، وأُعِلَّ بالإرسال. الحديث من رواية عمرو بن شعيب، والإعلال فيها بالإرسال قد دفع بأنه [لا إرسال فيها] (أ)، وأن عمرو بن شعيب لقي جده. وأخرجه أبو بكر بن أبي شيبة (¬2): ثنا ابن علية عن أيوب عن عمرو بن دينار عن جابر. الحديث. وكذا أخرجه عثمان بن أبي شيبة (2) بالإسناد، قال أبو الحسن الدارقطني ¬

_ (أ) ساقط من: الأصل.

الحافظ (¬1): أخطأ فيه ابنا أبي شيبة، وخالفهما أحمد بن حنبل وغيره فرووه عن ابن علية عن أيوب عن عمرو مرسلًا، وكذلك قال أصحاب عمرو بن دينار عنه وهو المحفوظ مرسلًا. وأخرج البيهقي (¬2) من حديث جابر بإسناد آخر، وقال: تفر به عبد الله الأموي عن ابن جريج، وعنه يعقوب بن حميد. وأخرج (2) من حديث جابر قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "تقاس الجراحات، ثم يستأنى بها سنة، ثم يقضى فيها بقدر ما انتهت إليه". وفي إسناده ابن لهيعة (¬3)، وكذا رواه جماعة من الضعفاء عن أبي الزبير عن جابر، ومن وجهين آخرين عن جابر، ولم يصح شيء من ذلك (¬4)، وروي من وجه آخر عن ابن عباس (2). الحديث فيه دلالة على أنه لا يقتص في الجراحات حتى يحصل البرء من ذلك وتؤمن السراية، ولكنه غير واجب لتمكينه - صلى الله عليه وسلم - أن يقتص، وقد ذهب إلى هذا الشافعي، وذهب العترة وأبو حنيفة ومالك إلى أنه يجب الانتظار إلى أن يندمل الجرح وتؤمن السراية، قال الإمام المهدي في "البحر": وهذا الحديث معارض بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "اصبروا حتى يستقر الجرح" الخبر. وهو أصرح ومطابق للقياس، ولعله خشي موت الجاني فعجل. انتهى. ¬

_ (¬1) الدارقطني 3/ 89. (¬2) البيهقي 8/ 67. (¬3) تقدمت ترجمته في 1/ 175. (¬4) ينظر نصب الراية 4/ 376 - 379.

والخبر المذكور هو أن صفوان بن المعطل جرح حسان بن ثابت، فجاء رهطه من الأنصار ليقتص لهم، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "اصبروا حتى يستقر الجرح، فإن اندمل أخذتم القصاص في الجرح، وإن صار نفسا أخذتم القصاص في النفس" (¬1). ولا يخفى أن [الوجوب] (أ) لا يتم وأنه يكون محمولًا على الندب بقرينة التمكين من الاقتصاص في الحديث المذكور، فلا تتم المعارضة. وقوله: ومطابق للقياس. لم يظهر ما قيس عليه. وقوله: ولعله خشي موته. لا يخفى ما فيه من البعد، والله أعلم. 970 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: اقتتلت امرأتان من هذيل، فرمت إحداهما الأخرى بحجر فقتلتها وما في بطنها، فاختصموا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن دية جنينها غرة؛ عبد أو وليدة، وقضى بدية المرأة على عاقلتها، وورثها ولدها ومن معهم، فقال حَمَل بن النابغة الهذلي: يا رسول الله، كيف نغرم من لا شرب ولا أكل، ولا نطق ولا استهل؟ فمثل ذلك يُطلّ. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنما هذا من إخوان الكهان". من أجل سجعه الذي سجع. متفق عليه (¬2). وأخرجه أبو داود والنسائي من حديث ابن عباس، أن عمر رضي الله عنه سأل من شهد قضاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الجنين، قال: فقام حمل بن ¬

_ (أ) في الأصل، جـ: الجواب. والمثبت يستقيم به السياق، وينظر نيل الأوطار 7/ 175.

النابغة فقال: كنت بين [يدي] (أ) امرأتين، فضربت إحداهما الأخرى. فذكره مختصرًا، وصححه ابن حبان والحاكم (¬1). قولي: اقتتلت امرأتان. اسمهما مليكة بنت عويم، وأم عفيف بنت مسروح. فضربت أم عفيف مليكة. كذا في رواية الطبراني (¬2)، وفي رواية ابن عباس: أم عطيف (¬3). وبه جزم الخطيب في "المبهمات" (¬4)، وزاد بعض شراح "العمدة" (¬5): وقيل: أم مكلف. وقيل: أم مليكة. وقوله: من هذيل. في رواية الطبراني (¬6): أن (ب) إحداهما عامرية. وفي رواية لمسلم (¬7): من بني لحيان. بكسر اللام وفتحها؛ بطن من هذيل. وقوله: فرمت إحداهما الأخرى بحجر. زاد في رواية (¬8): فأصابت ¬

_ (أ) ساقطة من: الأصل. (ب) في جـ: في.

بطنها وهي حامل. وفي رواية أبي داود (¬1): فضربت إحداهما الأخرى بمسطح. وعند مسلم (¬2) عن المغيرة بن شعبة: ضربت امرأة ضرتها بعمود فسطاط وهي حبلى، فقتلتها. وفي رواية (¬3): فضربت الهذلية العامرية بعمود فسطاط أو خباء. وفي حديث عويم (¬4): بمسطح بيتها. وقوله: فقتلتها وما في بطنها. وفي رواية (¬5): فقتلت ولدها في بطنها. وفي رواية (¬6): فقتلتها وجنينها. وفي رواية (¬7): فطرحت جنينها. وفي رواية أبي داود (¬8): فأسقطت غلاما قد نبت شعره. وفي رواية لمسلم (¬9): في جنين امرأة سقط ميتًا. وقوله: غرة؛ عبد أو أمة. بتنوين "غرة"، و"عبد" بدل، وهكذا ضبطه الجمهور، قال القاضي عياض (¬10): ورواه بعضهم بالإضافة. قال: والأول أوجه وأقيس. وذكر صاحب "المطالع" (¬11) الوجهين، ثم قال: الصواب ¬

_ (¬1) تقدم في حديث الباب. (¬2) مسلم 3/ 1310 ح 1682/ 37. (¬3) الطبراني في الكبير 1/ 160، 161 ح 514. (¬4) الطبراني في الكبير 17/ 141 ح 352. (¬5) البخاري 10/ 216 ح 5758. (¬6) أبو داود 4/ 190 ح 4572، والنسائي 8/ 21. (¬7) البخاري 10/ 216 ح 5759، ومسلم 3/ 1309 ح 1681/ 34. (¬8) أبو داود 4/ 190، 191 ح 4574. (¬9) مسلم 3/ 1309 ح 1681/ 35. (¬10) كذا في شرح النووي 11/ 175، وفي مشارق الأنوار 2/ 131: وأكثر المحدثين يروونه على الإضافة، والأول الصواب. (¬11) ينظر شرح النووي 11/ 175.

رواية التنوين. ويؤيده ما في "صحيح البخاري" (¬1): قضى النبي - صلى الله عليه وسلم - بالغرة عبد أو أمة. و "أو" هنا للتقسيم لا للشك، قال الباجي (¬2): يحتمل أن يكون للشك، وأن المرفوع من الحديث (ألفظ: بغرة. وأ) لفظ: عبد أو أمة. شك من الراوي في المراد بها. قال الجوهري (¬3): كأنه عبر بالغرة عن الجسم كله كما قالوا: أعتق رقبة. وأصل الغرة بياض في الوجه، ولهذا قال أبو عمرو (¬4): المراد بالغرة الأبيض منها خاصة. قال: ولا يجزئ الأسود. وقال: ولولا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أراد بالغرة معنى زائدًا على شخص العبد والأمة لما نكَّرها، واقتصر على لفظ: عبد أو أمة. وهو خلاف ما اتفق عليه الفقهاء أنه لا يتعين الأبيض، ويجزئ الأسود، وإنما المعتبر أن يكون قيمتها عشر دية الأم، أو نصف عشر دية الأب. قال أهل اللغة (¬5): الغرة عند العرب أنفس الشيء، وأطلقت هنا على الإنسان؛ لأن الله تعالى خلقه في أحسن تقويم. وقال داود: إنه يحزئ ما يطلق عليه اسم الغرة كالفرس. وقد وقع في حديث أبي هريرد: عبد أو أمة أو فرس أو بغل (¬6). وكذا وقع عند عبد الرزاق (¬7) في رواية ابن طاوس عن أبيه ¬

_ (أ - أ) سقط من: جـ.

مرسلًا بلفظ: غرة عبد أو أمة أو فرس. وأشار البيهقي (¬1) إلى أن ذكر الفرس في المرفوع وهم، وأن ذلك أدرج من بعض رواته على سبيل التفسير للغرة، وذكر أنه في رواية حماد بن زيد عن عمرو بن دينار عن طاوس بلفظ: فقضى أن في الجنين غرة. قال طاوس: الفرس غرة. وكذا أخرجه الإسماعيلي (¬2) عن عروة بن الزبير، وكأنهما رأيا المعنى المشهور للغرة إنما هو في الفرس، وقد استعمل للآدمي كما في حديث الوضوء (¬3)، وقد تطلق على الشيء النفيس؛ آدميًّا كان أو غيره، ذكرا أم أنثى. وعلى قول الجمهور أقل ما يجزئ من العبد والأمة، أن يكون سليما من العيوب؛ لأن الغرة الخيار، وزاد الشافعي اشتراط ألا ينقص عن سبع سنين، لأن من كان دون ذلك لا يستقل بنفسه. قال بعضهم: لا يؤخذ ما زاد على خمس عشرة سنة في الذكر، و [في] (أ) الأنثى ما زاد على عشرين. والأظهر أنه يجزئ وإن جاوز الستين، ما لم يضعفا ويخرجا عن الاستقلال؛ لأن ذلك يجرى مجرى العيب. والحديث فيه دلالة على أن الجنين إذا مات بسبب الجناية وجب فيه الغرة، وظاهره الإطلاق، سواء انفصل عن أمه وخرج ميتًا، أو مات في بطنها، ولابد أن يعلم كونه جنينًا، بأن يخرج منه يد أو رجل، وإلا فالأصل براءة الذمة وسقوط الدية، وإن كان الإمام المهدي صرح ¬

_ (أ) ساقط من: الأصل.

في "الأزهار" (¬1) على أصل الهدوية بأنه لا شيء فيمن مات بقتل أمه إن لم ينفصل، فهو مبني على أنه لم يتحقق ثبوت الجنين، وأما إذا تحقق ثبوته، وهو بخروج شيء منه، فالغرة لازمة فيه. وظاهر ألفاظ الحديث أنه لا بد أن يكون قد تخلق وجرى فيه الروح ليتصف بأنه قتلته الجناية، والشافعية فسروه بما ظهر فيه صورة الآدمي؛ من يد أو أصبع أو غيرهما، وإن لم تظهر فيه الصورة، وشهد أهل الخبرة بأن ذلك أصل الآدمي، فحكمه كذلك إذا كانت تلك الصورة صورة خفية، وكذا إذا لم توجد فيه صورة خفية ولكنه أصل آدمى على ما هو غير الأظهر عندهم، والأظهر أنها لا تجب، وإن شك أهل الخبرة أنه أصل آدمي، لم يجب فيه شيء اتفاقا. والحديث ورد في جنين حرة، وأما جنين الأمة فلعله يخصص بالقياس على ديتها، وكما أن الواجب قيمتها في ضمانها، فيكون (أ) في جنينها الأرش، منسوب إلى القيمة، وقياسه على جنين الحرة، فإن اللازم فيه نصف عشر الدية، فيكون اللازم نصف عشر القيمة، وتأتي في أهل الذمة على الخلاف في الدية، وتجب الغرة عند الهدوية بعينها مقومة بخمسمائة، وعند الصادق والباقر الواجب عشر الدية، وقد روي ذلك عن علي. قال الإمام المهدي: في الجمع بين العين والقيمة [جمع] (ب) بين الأدلة ¬

_ (أ) بعده في جـ: الواجب. (ب) في الأصل: جمعا.

فوجب، ومهما أمكن العبد أو الأمة لم يلزم الولي قبول غيرهما؛ إذ هما الواجب كوجوب أجناس الدية، فلم يلزم قبول غيرهما، فإن تعذرا فوجهان؛ ذهب الإمام يحيى إلى أنه ينتقل إلى خمس من الإبل، إذ هي الأصل في الديات، وإذ روي عن عمر وعن زيد بن ثابت ولم يخالفا. وقيل: يعدل إلى القيمة كما إذا [أتلف عبدًا] (أ)، والغرة لازمة لأجل الولد لا لأجل الأم، فلو احترجت الأم بالولادة لزم لها أرش الجراحة، وإن كان مجردا [لم تجب] (ب) فيه حكومة. ويدل الحديث على أن اللازم في المرأة المذكورة هو الدية، ولا يجب القصاص، وهذا مما يستدل به من أثبت شبه العمد، أو أن ذلك [بحجر] (جـ) أو عمود صغير لا يقصد به القتل بحسب الأغلب، فتجب فيه الدية على العاقلة ولا قصاص (د)، وبهذا التوجيه لا يتم احتجاج الحنفية بأنه لا يجب القصاص في القتل بالمثقل. وقوله: وقضى بدية المرأة على عاقلتها. والمراد بالعاقلة هم العصبة، وقد جاء مفسرا بأنهم من عدا [الولد] (هـ) وذوي الأرحام؛ كما في حديث أسامة بن عمير عند البيهقي (¬1) فقال أبوها: إنما يعقلها بنوها. فاختصموا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: "الدية على العصبة، وفي الجنين غرة". وبهذا ¬

_ (أ) في الأصل: تلف عبد. (ب) في الأصل، جـ: وجب. (جـ) في جـ: لحجر صغير. (د) بعده في جـ: فيه. (هـ) في الأصل: الوالد.

بوب البخاري (¬1): باب جنين المرأة، وأن العقل على الوالد وعصبة الوالد لا على الولد. وقوله: وورثها ولدها ومن معهم. يعني: أن المرأة التي قضى عليها النبي - صلى الله عليه وسلم - بالغرة توفيت؛ فقضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأن ميراثها لبنيها (أ) وزوجها، وأن العقل على عصبتها. وهذا لفظ مسلم [في] (ب) رواية. فعلى هذا فقوله: فورثها. الضمير يعود إلى القاتلة - ولدها ومن مع الولد، وهو الزوج، (جـ إلا أن النووي جـ) قال: إن الميتة هي المجني عليها. وتأول قوله: قضى عليها بالغرة. أي قضى لها، والضمير في قوله: والعقل على عصبتها. أي القاتلة، وفيه تعسف، والملجئ له التصريح في الروايات أنها ماتت المجني عليها، ولكن لا مانع أن تموت الجانية أيضًا عقيب الجناية، والله أعلم. وفيه دلالة على أن الولد ليس (د) من العصبة، قال الشافعي (¬2): ولم أعلم مخالفا في أن العاقلة العصبة، وهم القرابة من قِبل الأب. وقوله: فقال حَمَل بن النابغة. بفتح الحاء المهملة والميم، وهو ابن مالك بن النابغة، منسوب إلى جده في الحديث، وحمل هو زوج المرأة القاتلة وهو ¬

_ (أ) في الأصل بدون نقط، وفي جـ: لبنتها. (ب) في الأصل: وفي. (جـ - جـ) في جـ: لأن الثوري. وينظر شرح مسلم 11/ 177. (د) ساقط من: جـ.

من عصبتها، وجاء في رواية: أن القائل (أ) أبوها، وأنه قال: يعقلها بنوها. وفي حديث عويم عند الطبراني (¬1): فقال أخوها العلاء بن مسروح: يا رسول الله، أنغرم. الحديث. وعند أبي يعلى (¬2) من حديث جابر: فقالت عاقلة القاتلة. ويمكن الجمع بين الروايات بأن يكون كل من أبيها وأخيها وزوجها قالوا ذلك؛ لأنهم كلهم من عصبتها. وقوله: فمثل ذلك يطل. روي بالياء المضمومة على صيغة المضارع [المجهول] (ب)، وتشديد اللام، ومعناه: يهدر ويلغى ولا يضمن. وروي بالباء الموحدة وتخفيف اللام على أنه فعل ماض من البطلان، وهو بمعنى الملغى أيضًا، وكلتا الروايتين في "الصحيحين" وغيرهما، قال النووي (¬3): وأكثر نسخ بلادنا بالمثناة، ونقل القاضي أن جمهور الرواة في "صحيح مسلم" ضبطوه بالموحدة. قال أهل اللغة: يقال: طُلَّ دمه. بضم الطاء، وأطل، أي هدر، وأطله الحاكم وطله أي أهدرها، وجوز بعضهم: طل دمه بفتح الطاء في اللازم، وأباها الأكثرون. وقوله: "إنما هذا من إخوان الكهان". قال العلماء: إنما ذم سجعه لوجهين: ¬

_ (أ) في الأصل بدون نقط، وفي جـ: القاتل. (ب) ساقطة من: الأصل.

أحدهما: أنه عارض به حكم الشرع ورام إبطاله. والثاني: أنه تكلفه في مخاطبته. وهذان الوجهان من السجع مذمومان، وأما السجع الذي ورد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في بعض الأوقات، وهو مشهور في الحديث فليس من هذا؛ لأنه لا يعارض [حكم الشرع] (ب)، ولا يتكلفه، فلا نهي فيه، بل هو حسن. ويؤيده ما في بعض رواياته (¬1): "أسجع كسجع الأعراب؟ ". فأشار إلى أن بعض السجع هو المذموم لا كله، والله أعلم. وحديث أبي داود (¬2) في سؤال عمر رضي الله عنه أخرجه أيضًا البخاري (¬3) من حديث المغيرة: أن عمر سأل عن إملاص المرأة، وهي التي يضرب بطها فتلقي جنينها، فقال: أيكم سمع من النبي - صلى الله عليه وسلم - فيه شيئًا؟ فقال المغيرة: قضى النبي - صلى الله عليه وسلم - بالغرة، عبد أو أمة. فقال عمر: من شهد معك؟ فقام محمد بن مسلمة فشهد بذلك. وتفسير الإملاص في هذه الرواية أخص من قول أهل اللغة: إن الإملاص أن تزلقه المرأة قبل الولادة. هكذا نقله أبو داود في "السنن" (¬4) عن أبي عبيد، وهو كذلك في "الغريب" (¬5) له. وقال الخليل (¬6): أملصت المرأة والناقة: إذا رمت ولدها. ¬

_ (أ) ساقط من: الأصل.

وقال ابن القطاع (¬1): أملصت الحامل ألقت ولدها. ووقع في بعض الروايات: ملاص. بغير ألف؛ كأنه اسم للمصدر المنسوب إلى الولد؛ يقال: ملاص الولد. أو اسم لتلك الولادة كالخداج. وقال هشام (1): الملاص الولد. ولعله بتقدير مضاف؛ أي خروج الولد. وقال صاحب "البارع" (1): الإملاص الإسقاط؛ وإذا قبضت على شيء فسقط من يدك، تقول: أملص من يدي إملاصا وملص ملصا. 971 - وعن أنس رضي الله عنه أن الرُّبيِّعَ بنت النضر عمته كسرت ثنية جارية، فطلبوا إليهم العفو فأبوا، فعرضوا الأرش فأبوا، فأتوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأبوا إلا القصاص، وأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالقصاص، فقال أنس بن النضر: يا رسول الله، أتكسر ثنية الربيع؟ لا، والذي بعثك بالحق، لا تكسر ثنيتها. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "يا أنس، كتاب الله القصاص". فرضي القوم، فعفوا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره". متفق عليه (¬2) واللفظ للبخاري. الرُّبيع: بضم الراء والباء الموحدة المفتوحة وبعدها ياء مشددة مكسورة أخت أنس بن النضر، عمة أنس بن مالك، وفي "سنن البيهقي" (¬3): الربيع بنت معوذ. قال المصنف رحمه الله تعالى (¬4): وهو غلط، والمحفوظ أنها بنت النضر. ¬

_ (¬1) الفتح 12/ 250. (¬2) البخاري، كتاب الصلح، باب الصلح في الدية 5/ 306 ح 2703، ومسلم، كتاب القسامة، باب إثبات القصاص في الأسنان وما في معناها 3/ 1302 ح 1675. (¬3) البيهقي 8/ 39. (¬4) الفتح 12/ 215.

وقوله: كسرت ثنية جارية. في البخاري في كتاب [الديات] (أ): لطمت جارية فكسرت ثنيتها. وفي رواية الفزاري (¬1): جارية من الأنصار. وفي رواية معتمر (¬2): امرأة بدل جارية. وهو [يبين] (ب) أن المراد بالجارية المرأة الشابة، لا المرأة الرقيقة. ووقع في البخاري (¬3) في كتاب [الديات] (أ) أيضًا بلفظ: وجرحت [أخت] (جـ) الربيع إنسانا (د). قال أبو ذر (¬4): كذا وقع، والصواب الربيع بنت النضر. وكذا قال الكرماني (¬5)، ثم قال: إلا أن يقال: هذه امرأة أخرى، لكن لم ينقل عن أحد. كذا قال. وقد ذكر جماعة أنهما [قصتان] (هـ)، وكذا وقع في مسلم (¬6) أن أخت الربيع أم حارثة، وأنها قالت أم الربيع: يا رسول الله، أيقتص من فلانة؟ الحديث. وجزم ابن حزم (¬7) بأنهما [قصتان] (و) صحيحتان وقعتا لامرأة واحدة؛ إحداهما أنها جرحت إنسانا ¬

_ (أ) في الأصل، جـ: الجنايات. والمثبت من الفتح 12/ 187. (ب) في الأصل كتب مكان هذه الكلمة رمز م، وفي جـ: تبين. (جـ) في الأصل: بنت. (د) في جـ: أسنانا. (هـ) في الأصل: قضيتان. (و) في الأصل، والمحلى: قضيتان.

فقضى عليها بالضمان، والأخرى أنها كسرت ثنية جارية فقضى عليها بالقصاص، وحلفت أمها في الأولى، وأخوها في الثانية. وقال البيهقي (¬1) بعد أن أورد الروايتين: ظاهر الخبر يدل على أنهما [قصتان] (أ). قال المصنف رحمه الله (¬2): في [القصتين] (ب) مغايرات؛ منها: هل الجانية الربيع أو أختها؟ وهل الجناية كسر الثنية أو الجراحة؟ وهل الحالف أم الربيع أو أخوها أنس؟ وقوله: فطلبوا. أي أهل الجانية، إليهم، أي أهل المجني عليها، [العفو] (جـ) فأبوا، أي أهل المجني عليها - العفو بغير أرش، فعرضوا الأرش، فأبوا. زاد البخاري في باب الصلح لفظ: إلا القصاص (¬3). وقوله: فأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالقصاص. فيه دلالة على الاقتصاص في العظم، فأما السن بكمالها ففي ذلك نص قوله تعالى: {وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ} (¬4). وإن كان ذلك [حكاية] (د) عن المكتوب في التوراة، فشرع من قبلنا يلزمنا إذا ورد على لسان نبينا - صلى الله عليه وسلم - من غير إنكار له، كما هو المختار. وقد قام الإجماع على قلع السن بالسن في العمد، وأما الكسر فهذا الحديث ¬

_ (أ) في الأصل، جـ: "قضيتان". (ب) في الأصل: القضيتين. (جـ) ساقطة من: الأصل، جـ، والمثبت من لفظ الحديث. (د) ساقط من: الأصل.

دليل عليه إذا عرفت المماثلة، وأمكن ذلك من دون سراية إلى غير الواجب، قال أبو داود (¬1): قلت لأحمد: كيف في السن؟ قال: تبرد. أي يبرد من سن الجاني بقدر ما كسر من سن المجني عليه. وقال بعضهم: الحديث محمول على القلع، وأنه أراد (أ) بقوله: كسرت. قلعت، وهو بعيد. وقد قام الإجماع أنه لا قصاص في العظم الذي يخاف منه ذهاب النفس، [أو] (ب) لم تتأت فيه المماثلة بألا يوقف على قدر الذاهب، وقال الشافعي والليث والحنفية: لا قصاص في العظم غير السن، لأن دون العظم حائل من جلد ولحم وعصب، [يتعذر] (جـ) معه المماثلة، فلو أمكنت لحكمنا بالقصاص، ولكن لا يصل إلى العظم حتى ينال ما دونه مما لا يعرف قدره. وقال الطحاوي (¬2): اتفقوا على أنه لا قصاص في عظم الرأس، فيلحق به سائر العظام. وتعقب بأنه قياس مخالف للنص، فإن في هذا الحديث كسر الثنية، وأمر بالقصاص. وقوله: أتكسر ثنية الربيع. قد يؤول هذا الإنكار بأنه لم يرد به الرد للحكم والمعارضة، وإنما أراد به أن يؤكد النبي - صلى الله عليه وسلم - طلب الشفاعة منهم، وأكد طلبه من النبي - صلى الله عليه وسلم - بالقسم. وقيل: إن ذلك قبل أن يعلم أن القصاص ¬

_ (أ) زاد في الأصل، جـ: به. والصواب حذفها. (ب) في الأصل: إذ. (جـ) في الأصل: متعدر. دون نقط.

حتم، وأنه مخير بينه وبين الدية أو العفو. وقيل: إنه لم يرد الإنكار، وإنما قاله توقعًا ورجاء من فضل الله أن يلهم الخصوم الرضا؛ حتى يعفوا أو يقبلوا الأرش، وقد وقع الأمر على ما أراد، فألهمهم العفو. وفي الحلف دلالة على أنه يجوز الحلف فيما يظن وقوعه. وقوله (أ): "كتاب الله القصاص". المشهور الرفع على أنه مبتدأ وخبر، ويجوز النصب على المصدر والفعل محذوف أي كتب كتاب الله، والقصاص مفعول به لكتاب أو للفعل المقدر أو على الإغراء، والقصاص بدل من كتاب، أو منصوب بفعل محذوف، أو القصاص مرفوع على أنه خبر مبتدأ محذوف، والمعنى في ذلك: حكم كتاب الله القصاص، فهو على تقدير حذف مضاف، وقيل: المراد بالكتاب الحكم. أي: حكم الله القصاص. وقيل: أشار إلى قوله تعالى: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} (¬1). وقيل: إلى قوله: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} (¬2). وقيل: إلى قوله: {وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ} (1). وقوله: "إن من عباد الله" إلخ. هذا تعجب منه - صلى الله عليه وسلم - بوقوع مثل هذه؛ من حلف أنس على نفي فعل الغير مع إصرار الغير على إيقاع ذلك الفعل، وكأن قضية (ب) ذلك أن العادة أن يحنث في يمينه، فألهم الله الغير العفو، فبرَّ ¬

_ (أ) ساقط من: جـ. (ب) في جـ: قصته.

قسم أنس، وأن هذا الاتفاق وقع إكراما من الله لأنس ليبرَّ يمينه، وأنه من جملة عباد الله الذين يجيب دعاءهم، ويعطيهم مآربهم (أ). وفيه جواز الثناء على من وقع له ذلك عند أمن الفتنة عليه، والله أعلم. 972 - وعن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من قتل في عِمِّيَّا أو رِمِّيَّا، بحجر، أو سوط، أو عصا، فعقله عقل الخطأ، ومن قتل عمدا فهو قود، ومن حال دونه فعليه لعنة الله". أخرجه أبو داود والنسائي وابن ماجه بإسناد قوي (¬1). الحديث أخرجهُ (ب). قوله: "عِمِّيَّا" بكسر العين المهملة وتشديد اليم والقصر فِعِّيلَى من العمى، كالرِّمِّيَّا من الرَّمْي، والخِصِّيصى مِن [التَّخْصِيص] (جـ)، وهي مصادر، والمراد أن يوجد بينهم قتيل فيعمى أمره، ولا يتبين قاتله، وقد استعمل العمياء في معنى غير جهالة، كما في قوله - صلى الله عليه وسلم -: "ينزو الشيطان بين الناس فيكون دمًا في عمياء في غير ضغينة" (¬2). أي: في غير جهالة، من غير حقد وعداوة. ¬

_ (أ) في جـ: إربهم. (ب) بعده بياض في الأصل، جـ بمقدار سطر وربع. (جـ) في الأصل، جـ: التخصاص. والمثبت من النهاية 3/ 305.

الحديث فيه دلالة على أن من لم يعرف قاتله، أنه يجب فيه الدية، وتكون على العاقلة، وظاهره من دون أيمان القسامة، وهو قريب من مذهب الناصر، إلا أن الناصر يقول: الدية تكون في بيت المال. واحتج بما روي عن عمر (¬1) رضي الله عنه، أنه قتل رجل في الطواف، ولم يعرف قاتله، فاستشار عمر الصحابة، وكان فيهم علي رضي الله عنه، فأشار بأن ديته تكون في بيت المال. إلا أنه يحتمل أن يكون ذلك لكونهم غير محصورين، وروي مسدد في "مسنده" (¬2) من طريق يزيد بن مذكور أن رجلًا زحم يوم الجمعة فمات، فوداه علي من بيت المال. قال ابن بطال (¬3): قد اختلف في ذلك على عمر وعلي (¬4): هل تجب ديته في بيت المال [أو لا؟ وبه] (أ) قال إسحاق. أي قال بالوجوب؛ وتوجيهه من حيث المعنى؛ أنه مسلم مات بفعل قوم من المسلمين، فوجبت ديته في بيت مال السلمين، ويحتج له بما ورد في قصة اليمان والد حذيفة أنه قتله بعض المسلمين، وهو يظن أنه من المشركين، فوداه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬5). ورجاله ثقات. ¬

_ (أ) ساقطة من: الأصل.

وذهب الحسن البصري إلى أن ديته تجب على جميع من حضر؛ وذلك لأنه مات بفعلهم، فلا يتعداهم إلى غيرهم، وقد يحتج له بما وقع في لفظ البخاري (¬1) أنه قال حذيفة: غفر الله لكم. يعني: أن ضمانه قد لزم الحاضرين بقوله: غفر الله لكم. في معنى: عفوت عنكم. والعفو إنما هو عن شيء قد استحق. ولا حجة في ذلك. وقول للشافعي أنه يقال لوليه: ادَّع على من شئت واحلف. فإن حلف استحق الدية، وإن نكل حلف المدعى عليه على النفي، وسقطت المطالبة، وتوجيهه أن الدم لا يجب إلا بالطلب، وقال مالك: إنه يهدر. وتوجيهه أنه إذا لم يعلم قاتله بعينه استحال أن يؤخذ به أحد. وذهبت الهدوية إلى أن الحاضرين الذين وقع بينهم القتل إن كانوا منحصرين لزمت القسامة، وجرى فيه حكمها من الأيمان والدية، وإن كانوا غير منحصرين كانت الدية في بيت المال، وهو أخذ من القولين الأولين بطرف من كل قول. وقوله: "أو رميا بحجر" إلى آخره. تقدم الكلام في ذلك، وهو حجة أيضًا لمن يثبت شبه العمد. وقوله: "ومن قتل عمدا فهو قود". يدل على أن موجب القتل العمد هو القود عينًا، وقد ذهب إلى هذا أبو حنيفة وأصحابه، ورواية ابن القاسم عن مالك وزيد بن علي والداعي والطبري وأحد قولي الشافعي ورواية عن أحمد، واحتجوا بما تقدم من حديث الربيع (¬2) حيث قال: "كتاب الله ¬

_ (¬1) البخاري 12/ 211 ح 6883. (¬2) تقدم ح 971.

القصاص". وقوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ} (¬1). قالوا: فالواجب هو القصاص، وأما الدية فإنها لا تجب إلا إذا رضي الجاني، ولا يجبر الجاني على تسليم الدية، وذهب الهدوية والناصر وقول للشافعي ولأحمد ولمالك، وهو مذهب أبي ثور وداود وأكثر فقهاء المدينة من أصحاب مالك وغيرهم، ورواية أشهب عن مالك إلى أن موجب القتل أحد الأمرين؛ إما القصاص، وإما الدية، قالوا: لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "ومن قتل له قتيل فهو بخير النظرين؛ إما أن يقيد، وإما أن يدي" (¬2). وقوله تعالى: {وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} (1). قال الأولون: معنى: "بخير النظرين": أن ولي المقتول مخير بشرط أن يرضى الجاني أن يغرم الدية. ويجاب بأن التقييد خلاف الظاهر، ويجاب عنه بأنه أوجب المصير إليه الجمع بينه وبين المعارض له. وقال في "الهدي" (¬3): في المسألة ثلاثة أقوال، وهي روايات عن الإمام أحمد: أحدها: أن الواجب أحد شيئين؛ إما القصاص، أو الدية، والخيرة في ذلك إلى الولي بين أربعة أشياء: العفو مجانًا، والعفو إلى الدية، والقصاص، ولا خلاف بين تخييره بين هذه الثلاثة، والرابعة: المصالحة إلى أكثر من الدية. فيه وجهان؛ أشهرهما مذهبا جوازه. والثاني: ليس له العفو على مال إلا الدية أو دونها. وهذا أرجح دليلًا، فإن اختار الدية سقط القود، ولم يملك طلبه بعد، وهذا مذهب الشافعي وإحدى الروايتين عن مالك. ¬

_ (¬1) الآية 178 من سورة البقرة. (¬2) سيأتي ح 976. (¬3) زاد المعاد 3/ 454.

والقول الثاني: أن موجبه القود عينًا، وأنه ليس له أن يعفو إلى الدية إلا برضا الجاني، فإن عفا إلى الدية ولم يرض الجاني فقوده بحاله، وهذا مذهب مالك في الرواية الأخرى وأبي حنيفة. والقول الثالث: أن موجبه القود عينًا مع التخيير بينه وبين الدية، وإن لم يرض الجاني، فإذا عفا عن القصاص إلى الدية فرضي الجاني فلا إشكال، وإن لم يرض فله العود إلى القصاص، فإن عفا عن القود مطلقًا؛ فإن قلنا: الواجب أحد شيئين. فله الدية، وإن قلنا: الواجب القصاص عينًا. سقط حقه منها، فإن قيل: فما تقولون لو مات القاتل؟ قيل: في ذلك قولان؛ أحدهما: تسقط الدية. وهو مذهب أبي حنيفة؛ لأن الواجب عندهم القصاص عينًا، وقد زال محل استيفائه بفعل الله تعالى، فأشبه ما لو مات العبد الجاني، فإن أرش الجناية لا ينتقل إلى ذمة السيد (أ)، وهذا بخلاف تلف الرهن و [موت] (ب) الضامن؛ حيث لا يتلف الحق لثبوته في ذمةِ الراهن والمضمون عنه، فلم يسقط بتلف الوثيقة. وقال الشافعي وأحمد: تتعين الدية في تركته؛ لأنه تعذر استيفاء القصاص من غير إسقاط، فوجا الدية لئلا يذهب حق الورثة من الدم والدية مجانًا، ولو اختار القصاص، ثم رجع إلى الدية والعفو عنه، ففيه وجهان؛ أحدهما: له ذلك؛ لأنه انتقال من أعلى إلى أدنى. وثانيهما: ليس له ذلك؛ لأنه لما اختار القصاص أسقط حقه من الدية، فليس له الرجوع إليها. وهذا الحديث -يعني: "فهو بخير النظرين"- لا يعارض قوله - صلى الله عليه وسلم -: ¬

_ (أ) في جـ: العبد. (ب) في الأصل: ثبوت.

"من قتل عمدًا فهو قود". لأن هذا يدل على ثبوت القود بالقتل العمد، وذلك يدل على أن الخيرة له بين استيفائه هذا الواجب، وبين بدله، وهو الدية فلا تعارض. انتهى. 973 - وعن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا أمسك الرجل الرجل وقتله الآخر، يقتل الذي قتل، ويحبس الذي أمسك". رواه الدارقطني موصولًا ومرسلًا، صححه ابن القطان، ورجاله ثقات، إلا أن البيهقي [رجح المرسل] (¬1) (أ). الحديث من رواية سفيان الثوري عن إسماعيل بن أمية عن نافع عن ابن عمر مرفوعًا، قال البيهقي (¬2) رحمه الله: هذا غير محفوظ. وقد قيل: عن إسماعيل عن سعيد بن المسيب مرفوعًا. والصواب عن سفيان عن إسماعيل بن أمية، قال: قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في رجل أمسك رجلًا وقتله الآخر، قال: "يقتل القاتل ويحبس الممسك". وعن سفيان عن جابر عن عامر عن علي رضي الله عنه أنه قضى بذلك. وكذلك رواه ابن المبارك عن معمر عن إسماعيل بن أمية، يرفعه قال: "اقتلوا القاتل واصبروا الصابر". يعني: احبسوا الذي حبسه. الحديث فيه دلالة على أنه لا قتل على الممسك، والقود يلزم القاتل، ¬

_ (أ) في جـ: صحح الإرسال. وأشار في الأصل فوق كلمة الإرسال أنه في نسخة: إرساله.

ويلزم الممسك الحبس، وقد ذهب إلى هذا العترة والحنفية والشافعية، ولقوله تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى} (¬1). وذهب مالك والنخعي وابن أبي ليلى إلى أنهما يقتلان جميعًا؛ إذ هما مشتركان في قتله، لأنه لولا الإمساك لما انقتل. وأجيب بأن النص منع الإلحاق، وأيضًا فإن حكم ذلك حكم الحافر للبئر والمردي إليها، فإن الضماق على المردي دون الحافر اتفاقًا، وذهب ربيعة إلى أنه يحبس الممسك حتى يموت. ومثله ذكر الأمير الحسين في "الشفا"، قال: لفعل علي رضي الله عنه. وظاهر هذا الخلاف أن ذلك واجب في ضمانه، وأجيب عنه بأن فعل علي رضي الله عنه إنما فعله للتأديب والتعزير، فعرض موته في أثناء الحال، وليس حبسه مقصودًا إلى أن يموت. والجمهور يحملون الحديث في حبس الصابر أنه يحبس تأديبًا، وهو موكول إلى نظر الإمام من غير تحديد، وهو خلاف ظاهر الحديث؛ فإن قوله: "يقتل الذي قتل، ويحبس الذي أمسك". من غير بيان، يَقْضي بما ذكره ربيعة، والتقييد زيادة بغير دليل. والله أعلم. 974 - وعن عبد الرحمن بن البيلماني أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قتل مسلمًا بمعاهد، وقال: "أنا أولى من وفى بذمته". أخرجه عبد الرزاق هكذا مرسلًا، ووصله الدارقطني بذكر ابن عمر فيه، وإسناد الوصول واه (¬2). تقدم الكلام في الحديث قريبًا (¬3). ¬

_ (¬1) الآية 194 من سورة البقرة. (¬2) عبد الرزاق، باب قود المسلم بالذمي 10/ 101 ح 18514، مرسلًا، والدارقطني، كتاب الحدود والديات وغيره 3/ 134، 135 ح 165. (¬3) ينظر ما تقدم ص 374 - 381.

975 - وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قتل غلام غيلة؛ فقال عمر رضي الله عنه: لو اشترك فيه أهل صنعاء لقتلتهم به. أخرجه البخاري (¬1). الأثر أخرجه البخاري بأصح إسناد، ولم يصرح فيه بعدد القاتلين، وقد أخرجه ابن أبي شيبة (¬2) من وجه آخر (أ) أن عمر رضي الله عنه قتل سبعة من أهل صنعاء برجل. إلخ. و [أخرجه] (ب) "الموطأ" (¬3) بسند آخر عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب، أن عمر رضي الله عنه قتل خمسة أو ستة برجل قتلوه غيلة، وقال: لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلتهم به جميعًا. وتمالأ بهمزة بعد اللام، أي توافق. وأخرجه قاسم بن أصبغ والطحاوي والبيهقي (¬4) عن ابن وهب، قال: حدثني جرير بن حازم أن المغيرة بن حكيم الصنعاني حدثه عن أبيه، أن امرأة بصنعاء غاب عنها زوجها، وترك في حجرها ابنًا له من غيرها غلامًا، يقال له: أصيل. فاتخذت المرأة بعد زوجها خليلًا، فقالت له: إن هذا الغلام يفضحنا فاقتله. فأبى، فامتنعت منه فطاوعها، فاجتمع على قتل الغلام الرجل ورجل آخر، والمرأة وخادمها، فقتلوه، ثم قطعوه ¬

_ (أ) زاد في جـ: عن نافع. (ب) في الأصل: أخرج.

أعضاء، وجعلوه في عيبة -بفتح المهملة وسكون التحتانية ثم موحدة مفتوحة، وهي وعاء من أدم- وطرحوه في ركية -بفتح الراء وكسر الكاف وتشديد التحتانية، وهي البئر التي لم تطو- في ناحية القرية، ليس فيها ماء. [فذكر] (أ) القصة وفيه: فأخذ خليلها فاعترف، ثم اعترف الباقون فكتب يعلى -وهو يومئذ أمير- بشأنهم إلى عمر رضي الله عنه، فكتب عمر، فقتلهم جميعًا، وقال: والله لو أن أهل صنعاء اشتركوا في قتله لقتلتهم أجمعين. وأخرجه أبو الشيخ في كتاب "الترهيب" (¬1) من وجه آخر. وفي "فوائد أبي الحسن بن رَزْقويه" (¬2) بسند جيد إلى أبي المهاجر عبد الله بن عميرة من بني قيس بن ثعلبة قال: كان رجل يسابق الناس كل سنة بأيام، فلما قدم وجد مع وليدته سبعة رجال يشربون، فأخذوه فقتلوه. فذكر القصة في اعترافهم وكتاب الأمير إلى عمر وفي جوابه: أن اضرب أعناقهم، واقتلها معهم، فلو أن أهل صنعاء اشتركوا في دمه لقتلتهم. وهذه القصة غير الأولى، وسنده جيد. وقوله: غِيلة. بكسر الغين المعجمة؛ أي سرًّا. والأثر فيه دلالة على أنه تقتل الجماعة بالواحد، وقد ذهب إلى هذا الجمهور من فقهاء الأمصار، وهو مروي عن علي وعمر وابن عباس وابن عمر (¬3) وغيرهم، ويحتج لذلك بما ¬

_ (أ) في جـ: يذكر. وغير منقوطة في: الأصل، والمثبت من الفتح.

روي عن عمر من الأثر المذكور، وما أخرجه البخاري (¬1) عن علي رضي الله عنه في رجلين شهدا على رجل بالسرقة، فقطعه علي رضي الله عنه، ثم أتياه بآخَر، فقالا: هذا الذي سرق، وأخطأنا على الأول. فلم يجز شهادتهما على الآخَر، وأغرمهما دية الأول، وقال: لو أعلم أنكما تعمدتما لقطعتكما. ولا فرق بين القصاص في الأطراف والنفس. وذهب الناصر والباقر والصادق وابن سيرين والإمامية، وروي في "البحر" ورواية عن مالك إلى أنه يختار الورثة واحدًا من الجماعة، ورواية عن مالك: يقرع بينهم؛ فمن خرجت عليه القرعة قتل، ويلزم الباقون الحصة من الدية. قالوا: لأن الكفاية معتبرة، ولا تقتل الجماعة بالواحد كما أن الحر لا يقتل بالعبد. وأجاب في "البحر" عليهم، بأنهم لم يقتلوا لصفة زائدة في المقتول، بل لكون كل منهم قاتلا. وذهب ربيعة وداود، وهو قول ابن الزبير والزهري، وروي عن جابر، إلى أنه لا قصاص على الجماعة، بل الدية رعاية للمماثلة، ولا وجه لتخصيص أحدهم. وأجاب في "البحر" بأن هذا القول مخالف للإجماع، والأولى الجواب بأن حكم عمر في عصر الصحابة، ولا مخالف له، فصار إجماعًا. وقال في "نهاية المجتهد" (¬2): عمدة من قتل بالواحد الجماعة النظر إلى ¬

_ (¬1) البخاري 12/ 226 معلقًا. (¬2) الهداية في تخريج أحاديث البداية 8/ 429.

المصلحة، فإنه مفهوم أن القتل إنما شرع [ليقي] (أ) القتل كما نبه عليه الكتاب العزيز في قوله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاأُولِي الْأَلْبَابِ} (¬1). وإذا كان ذلك كذلك، فلو لم يقتل الجماعة بواحد لتذرع الناس إلى القتل بأن يتعمدوا بالجماعة، لكن للمعترض أن يقول: إن هذا إنما كان يلزم لو لم يقتل من الجماعة، فأما إن قتل منهم واحد، وهو الذي يظن إتلافه غالبا على الظن، فليس يلزم أن يبطل الحد، حتى يكون سببًا للتسلط على إذهاب النفوس، وعمدة من قتل الواحد بالواحد قوله تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ}. وأما قطع الجماعة بالواحد وكذا سائر الجروح، فذهب إليه الجمهور، وقال به مالك والشافعي، وقد تقدم الرواية عن علي رضي الله عنه، وقالت الحنفية: ذلك خاص بالنفس. 976 - وعن أبي شريح الخزاعي قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "فمن قتل له قتيل بعد مقالتي هذه، فأهله بين خيرتين؛ إما أن يأخذوا العقل، أو يقتلوا". أخرجه أبو داود والنسائي (¬2)، وأصله في "الصحيحين" من حديث أبي هريرة بمعناه (¬3). ¬

_ (أ) غير منقوطة في الأصل، وفي بداية المجتهد: لتقي.

أبو شريح اسمه خويلد بن عمرو الكعبي الخزاعي؛ وقيل: اسمه عمرو بن خويلد. وقيل: كعب بن عمرو. وقيل: هانئ بن عمرو. والأول أصح وأكثر، أسلم قبل الفتح، مات بالمدينة سنة ثمان وستين، وروى عنه نافع بن جبير وسفيان بن أبي العوجاء وعطاء بن يزيد الليثي، وهو مشهور بكنيته، عداده في أهل الحجاز، وشريح بضم الشين المعجمة والحاء المهملة (¬1). الحديث قاله النبي - صلى الله عليه وسلم - عام الفتح في اليوم الثاني لما قتلت خزاعة رجلا من بني ليث بقتيل لهم في الجاهلية، اسم القاتل خراش بن أمية واسم المقتول ابن الأثوع بالثاء المثلثة والعين المهملة، قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في أثناء كلامه: "ثم إنكم معشر خزاعة قتلتم هذا الرجل من هذيل، وإني عاقله". ثم قال: "فمن قتل له ... " الحديث. وقد جاء في رواية لأبي داود وابن ماجه وعلقه الترمذي من وجه آخر (¬2) عن أبي شريح بلفظ: "فإنه يختار إحدى ثلاث؛ إما أن يقتص، وإما أن يعفو، وإما أن يأخذ الدية، فإن أراد الرابعة فخذوا على يديه". أي إن أراد زيادة على القصاص أو الدية. وقوله: "فأهله بين خيرتين". دليل على أن الخيار إلى ورثة المقتول، وقد تقدم الخلاف في ذلك. ¬

_ (¬1) ينظر الاستيعاب 4/ 1688، وأسد الغابة 6/ 164، 165، والإصابة 7/ 204. (¬2) أبو داود 4/ 167 ح 4496، وابن ماجه 2/ 876 ح 2623، والترمذي 4/ 14، 15 عقب ح 1406.

باب الديات

باب الديات الديات بتخفيف التحتانية: جمع دية، كعدات جمع عدة، وأصلها وِدْية مصدر ودى القتيل يديه، إذا أعطى وليه ديته، ويسمى ما يعطى ورثة القتيل دية؛ تسمية بالمصدر، وفاء الكلمة محذوف معوض عنه تاء التأنيث، والأمر منه على حرف واحد، تقول: دِ القتيل، بدال مكسورة، وإذا وقفت ألحقت به هاء السكت، والدية أعم مما لا قصاص فيه وفيما فيه القصاص، ولو كان القصاص هو الأصل كما في العمد عند البعض. 977 - وعن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، عن جده، أَن النبي - صلى الله عليه وسلم - كتب إلى أهل اليمن. فذكر الحديث وفيه: "إن من اعتبط مؤمنا قتلًا عن بينة فإنه قود، إلا أن يرضى أولياء المقتول، وإن في النفس الدية مائة من الإبل، وفي الأنف إذا أوعب جدعه الدية، وفي اللسان الدية، وفي الشفتين الدية، وفي الذكر الدية، وفي البيضتين الدية، وفي الصلب الدية، وفي العينين الدية، وفي الرجل الواحدة نصف الدية، وفي المأمومة ثلث الدية، وفي الجائفة ثلث الدية، وفي المنقلة خمس عشرة من الإبل، وفي كل أصبع من أصابع اليد والرجل عشر من الإبل، وفي السن خمس من الإبل، وفي الموضحة خمس من الإبل، وإن الرجل يقتل بالمرأة، وعلى أهل الذهب ألف دينار". أخرجه أبو داود في "المراسيل"، والنسائي، وابن خزيمة، وابن الجارود، وابن حبان،

واختلفوا في صحته (¬1). أبو بكر اسمه كنيته، ولي القضاء بالمدينة لعمر بن عبد العزيز، حدث عن عروة بن الزبير وعمرة بنت عبد الرحمن وعمر بن عبد العزيز، وروى عنه ابنه محمد وعبد الله ويحيى بن سعيد الأنصاري وغيرهم (¬2). الحديث أخرجه أبو داود في "المراسيل" عن ابن شهاب، قال: قرأت في كتاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعمرو بن حزم حين بعثه إلى نجران، وكان الكتاب عند أبي بكر بن حزم. ورواه النسائي وابن حبان والحاكم والبيهقي (¬3) موصولًا مطولًا من حديث الحكَم بن موسى عن يحيى بن حمزة عن سليمان بن داود حدثني الزهري عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه عن جده، وفرقه الدارمي (¬4) في "مسنده" عن الحكم مقطعًا. وقد اختلف أهل الحديث في صحة هذا الحديث؛ فقال أبو داود في "المراسيل" (¬5): قد أُسند هذا الحديث ولا يصح، والذي في إسناده سليمان بن داود وهم، إنما هو سليمان بن أرقم. وقال في موضع آخر (¬6): لا أحدث ¬

_ (¬1) أبو داود في المراسيل، باب كم الدية ص 211، 212 ح 257، والنسائي، كتاب القسامة، باب ذكر حديث عمرو بن حزم في العقول واختلاف الناقلين له 8/ 57، 58، وابن خزيمة, كتاب التاريخ، باب صدقة البقر بذكر لفظ مجمل غير مفسر 4/ 19 ح 2269، وابن الجارود، باب في الديات ص 216 ح 784، وابن حبان، كتاب التاريخ، باب كتب النبي - صلى الله عليه وسلم -، ذكر كتبة المصطفى - صلى الله عليه وسلم - كتابه إلى أهل اليمن 14/ 501 - 510 ح 6559. (¬2) أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم الأنصاري النجاري المدني القاضي، اسمه وكنيته واحد، وقيل: إنه يكنى أبا محمد. ثقة عابد. التقريب ص 624. وينظر تهذيب الكمال 33/ 137. (¬3) الحاكم 1/ 395 - 397، والبيهقي 4/ 89. (¬4) الدارمي 2/ 192، 193. (¬5) المراسيل ص 213. (¬6) سؤالات أبي عبيد الآجري لأبي داود ص 195 ح 1579.

به، وقد وهم الحكم في قوله: سليمان بن داود. وقد حدثني محمد بن الوليد الدمشقي، أنه قرأ في أصل يحيى بن حمزة: سليمان بن أرقم. وهكذا قال أبو زرعة الدمشقي (¬1): أنه الصواب، وتبعه صالح بن محمد جزرة وأبو الحسن الهروي وغيرهما (¬2). وقال ابن حزم (¬3): صحيفة عمرو بن حزم منقطعة، لا تقوم بها حجة، وسليمان بن داود متفق على تركه (¬4). وقال عبد الحق (¬5): سليمان بن داود هو الذي يروي هذه النسخة عن الزهري ضعيف، ويقال: إنه سليمان بن أرقم. وتعقبه ابن عدي (¬6)، فقال: هذا خطأ، إنما هو سليمان بن داود، وقد جوَّد الحكم بن موسى. وقال أبو زرعة (¬7): عرضت على أحمد، فقال: سليمان بن داود [هذا ليس بشيء. وقال ابن حبان: سليمان بن داود] (5) اليمامي ضعيف، وسليمان بن داود الخولاني ثقة (¬8)، وكلاهما يروي عن الزهري، والذي روى حديث الصدقات هو الخولاني، فمن ضعفه فإنما ظن أن الراوي هو اليمامي. ¬

_ (أ) ساقط من: الأصل، جـ. والمثبت من التلخيص الحبير 4/ 18.

وصححه الحاكم وابن حبان والبيهقي (¬1)، ونقل عن أحمد أنه قال (¬2): أرجو أن يكون صحيحًا. قال: وقد أثنى على سليمان بن داود الخولاني هذا أبو زرعة وأبو حاتم وعثمان بن سعيد وجماعة من الحفاظ. قال الحاكم (¬3): وحدثني أبو أحمد الحسين بن علي عن ابن أبي حاتم عن أبيه أنه سئل عن حديث عمرو بن حزم، فقال: سليمان بن داود عندنا ممن لا بأس به. وقد صحح الحديث بالكتاب المذكور جماعة من الأئمة لا من حيث الإسناد بل من حيث الشهرة؛ فقال الشافعي في "رسالته" (¬4): لم يقبلوا هذا الحديث حتى يثبت (أ) عندهم أنه كتاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وقال ابن عبد البر (¬5): هذا كتاب مشهور عند أهل السير، معروف ما فيه عند أهل العلم معرفة يستغنى بشهرتها عن الإسناد؛ لأنه أشبه التواتر في مجيئه لتلقِّي الناس له بالقبول والمعرفة. قال: ويدل على شهرته ما روى ابن وهب عن مالك عن الليث بن [سعد] (ب) عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب قال: وجد كتاب عند آل حزم يذكرون أنه كتاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وقال العقيلي (¬6): هذا حديث ¬

_ (أ) في جـ ونسخ من الرسالة: ثبت. (ب) في الأصل، جـ: سعيد. والمثبت من مصدر التخريج.

ثابت محفوظ، إلا أنَّا نرى أنه كتاب غير مسموخ عمن فوق الزهري. وقال يعقوب بن سفيان (¬1): لا أعلم في جميع الكتب المنقولة كتابًا أصح من كتاب عمرو بن حزم هذا، فإن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والتابعين يرجعون إليه ويدَعون رأيهم. وقال الحاكم (¬2): قد شهد عمر بن عبد العزيز وإمام عصره الزهري بالصحة لهذا الكتاب. ثم ساق ذلك بسنده إليهما، وقد وصله نعيم بن حماد عن ابن المبارك عن معمر عن عبد الله بن أبي بكر بن حزم عن أبيه عن جده (¬3)، وجده محمد بن عمرو بن حزم ولد في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولكن لم يسمع منه (¬4)، وكذا أخرجه عبد الرزاق (¬5) عن معمر من طريقه. قوله: كتب النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى أهل اليمن. ذكر فيه الفرائض والسنن والديات. وقوله: "اعتبط". هو بالعين المهملة والطاء المهملة افتعل، من عبط الناقة، إذا ذبحها من غير مرض ولا داء، ومات عَبْطةً: أي صحيحًا شابًّا من غير هرم، قال أمية (¬6): مَن لم يمُتْ عَبْطةً يَمُتْ ... هَرَمًا للموت كأس والمرء ذائقها واعتبط كعبط، قال تأبط شرا (¬7): ¬

_ (¬1) انظر المعرفة والتاريخ 2/ 216. (¬2) الحاكم 1/ 397. (¬3) أخرجه ابن عبد البر في التمهيد 17/ 396، 397 من طريق نعيم به. وليس فيه: عن جده. (¬4) جامع التحصيل ص 267، تحفة التحصيل ص 284. (¬5) عبد الرزاق 9/ 306 ح 17314. (¬6) ديوانه ص 50، 51. (¬7) البيت لقطري بن الفجاءة من قصيدة له، وهي في الحماسة لأبي تمام 1/ 161، وأمالي المرتضى 1/ 636، 637، وبهجة المجالس 1/ 470.

ومَن لم يُعْتبَطْ يسأمْ ويَهْرَمْ ... وتُسلمه المَنونُ إلى انْقِطاعِ والمراد في الحديث أن يقتله بلا جناية كانت منه، ولا جريرة توجب قتله، فإن القاتل يقاد به. وكذا قوله - صلى الله عليه وسلم -: "من قتل مؤمنًا فاعتبط (أ) بقتله، لم يقبل الله منه صرفًا ولا عدلًا" (¬1). قال الخطابي في "معالم السنن" (¬2): [معنى] (ب): اعتبط بقتله، أي قتله ظلمًا لا عن قصاص. وذكر نحو هذا، إلا أنه قال أبو داود (¬3) في آخر الحديث: قال خالد بن دهقان راوي الحديث: سألت يحيى بن يحيى الغساني عن قوله: "اعتبط (أ) بقتله". فقال: الذي يقاتل في الفتنة، فيرى أنه على هدى لا يستغفر الله منه. وهذا التفسير يدل على أنه من الغبطة بالمعجمة، وهي الفرح والسرور وحسن الحال؛ لأن القاتل يفرح بقتل خصمه، وإذا كان المقتول مؤمنًا وفرح بقتله دخل في هذا الوعيد. وقوله: "وإن في النفس الدية مائة من الإبل". فيه دلالة على أن الإبل هي الواجبة في الدية، وقد روى ابن قتيبة (¬4) أن أول من قضى بأنها مائة من الإبل أبو سيارة، وقيل: عبد المطلب. وجاءت الشريعة مقررة، وقد ذهب إلى هذا القاسم والشافعي، قالوا: وبقية الأصناف كانت مصالحة لا تقديرًا شرعيًّا. إلا أن في آخر هذا الحديث: "وعلى أهل ¬

_ (أ) عند أبي داود: غبطة. (ب) في الأصل، جـ: معناه. والمثبت هو الصواب.

الذهب ألف مثقال (أ) ". وظاهره أنه أصالة، وإن كان يحتمل أنهم لما عدموا الإبل، وجب عليهم الذهب عوضًا عن الإبل، وكان قيمة المائة في ذلك العصر ألف مثقال. وقد روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، أن عمر حين استخلف قام خطيبًا وقال: إن الإبل قد غلت. ففرضها على أهل الورق اثني عشر ألف درهم، وعلى (ب أهل الذهب ألف دينار ب)، وعلى أهل البقر مائتي بقرة، وعلى أهل الشاء ألفي شاة، وعلى أهل الحلل مائتي حلة (¬1). وأخرج أبو داود والنسائي (¬2)، عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يُقَوِّم دية الخطأ على أهل القرى أربعمائة دينار، أو عدلها من الورق، ويقومها على أثمان الإبل؛ إذا غلت رفع في قيمتها، وإذا (جـ هاجت ورخصت جـ) نقص من قيمتها، وبلغت على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما بين أربعمائة إلى ثمانمائة، وعدلها من الورق ثمانية آلاف درهم. قال: وقضى على أهل البقر بمائتي بقرة، ومن كان دية عقله في شاء فألفي شاة. فعلى قول الشافعي لا يؤخذ إلا قيمة الإبل، وهذا قوله بمصر. وذهب مالك -وقول الشافعي في العراق ورواه في "البحر" عن أبي حنيفة- أنها تكون على أهل الذهب ألف دينار، وعلى أهل الورق اثني عشر ألف درهم. وأخرج أبو داود (¬3) عن ابن عباس، أن رجلًا من بني عدي قتل، فجعل ¬

_ (أ) في الحديث المتقدم: دينار. وهذه اللفظة موقوفة على عمر في المغني 12/ 9 والمبدع 8/ 363، وانظر المهذب 2/ 196. (ب - ب) في جـ: أصل المذهب ألف درهم. (جـ - جـ) عند أبي داود: هاجت رخصا، وعند النسائي: هانت.

رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ديته اثني عشر ألفا. وفي رواية النسائي (¬1) أن رجلًا قتل رجلًا على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فجعل النبي - صلى الله عليه وسلم - ديته اثني عشر ألفًا. وفي رواية الترمذي (¬2) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جعل الدية اثني عشر ألفًا. وفي أخرى عن عكرمة، ولم يذكر ابن عباس، وسيأتي ذلك في حديث ابن عباس. وعند أهل العراق من الورق عشرة آلاف درهم، وذلك لقول عمر (¬3): هي على أهل الذهب ألف دينار، وعلى أهل الورق اثنا عشر ألفا. وأهل العراق قالوا: إن عمر قوّم الدينار بعشرة دراهم. وأجمعوا على تقويم المثقال بها في الزكاة. وذهب الهادي والمؤيد وأبو يوسف ومحمد بن الحسن والفقهاء السبعة المدنيون، أنها على أهل الشاء ألفا (أ) شاة، وعلى أهل البقر مائتا بقرة، وعلى أهل البرود مائتا (ب) حلة، وحجتهم ما روي عن عمر، ورواه أيضًا زيد بن علي، وروي عن عمر بن عبد العزيز أنه كتب إلى الأجناد أن الدية كانت على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مائة بعير (¬4) قال: فإن كان الذي أصابه من الأعراب فديته من الإبل، لا يكلف الأعرابي الذهب ولا الورق، فإن لم يجد الأعرابي مائة من الإبل فعدلها من الشاء ألفا (أ) شاة. وأجاب الأولون بأنه لو جاز أن تقوم بالشاء والبقر لجاز أن تقوم بالطعام على أهل الطعام، وبالخيل على أهل ¬

_ (أ) في جـ: ألف. (ب) في جـ: مائة.

الخيل، وهذا لا يقول به أحد، ويجاب عنه بأن ذلك ورد به الأثر فاقتصر عليه، مع أنه أخرج أبو داود (¬1) عن عطاء، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قضى في الدية على أهل الإبل [مائة] (أ) من الإبل، وعلى أهل البقر مائتي بقرة، وعلى أهل الشاء ألفي شاة، وعلى أهل الحلل مائتي حلة، وعلى أهل القمح شيئًا لم يحفظه محمد بن إسحاق. وفي رواية عنه عن جابر قال: فرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وذكر ما تقدم، قال: وعلى أهل الطعام شيئًا لا أحفظه. أخرجه أبو داود (¬2). فهذا يدل على تيسير الأمر، وأنه لا يجحب على من عليه الدية إلا من النوع الذي يجده ويعتاد التعامل به في ناحيته، وأن تلك أصول كما ذهب إليه الهادي، فيما عدا [الخيل] (ب) والطعام. وقوله: "وفي الأنف إذا أوعب جدعه". أي قطع جميعه، والفعل مبني للمفعول، وجدعه نائب كتاب الفاعل. والأنف مركبة من قصبة ومارن وأرنبة وروثة؛ القصبة: هي العظم المنحدر من مجتمع الحاجبين، والمارن: الغضروف الذي يجمع المنخرين، والروثة: طرف الأنف، ولهذا يقال: فلان يضرب بلسانه إلى روثة أنفه (¬3). وفي "القاموس" (¬4): المارن الأنف أو طرفه أو ما لان منه. والأرنبة طرف الأنف، والروثة طرف الأرنبة. ¬

_ (أ) ساقطة من الأصل، جـ. والمثبت من مصدر التخريج. (ب) في الأصل: الحلل.

والحديث يدل على أنه إذا قطعت من العظم المنحدر من مجتمع الحاجبين أن فيها الدية، وهذا مجمع عليه، وظاهره وإن لم يذهب الشم، ويلزم في كل واحد من هذه الأربعة وحده حكومة عند الهادي، وذهب الناصر والفقهاء إلى أن في المارن الدية، وفي بعضه حصته، قال الإمام المهدي في "البحر": قلت: المارن وحده لا يسمى أنفًا، وإنما الدية في الأنف. انتهى. ويجاب عنه بأن الشافعي (¬1) روى عن طاوس، قال: عندنا في كتاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الأنف إذا قطع مارنه مائة من الإبل. قال الشافعي: وهذا أبين من حديث آل حزم. قال في "عجالة المنهاج": والمارن ما لان من الأنف وخلا عن العظم. قاله الرافعي في "المحرر". قال: ويشتمل على ثلاث طبقات؛ الطرفين والوتيرة بينهما. وقال الماوردي: هو ما لان من الحاجز بين النخرين المتصل بقصبة الأنف. وإن الدية إنما تكمل (أ) باستيعابه مع المنخرين، في كل من طرفيه والحاجز ثلث، توزيعًا للدية على المنخرين والحاجز. وقيل: في الحاجز حكومة، [وفيهما] (ب) دية؛ لأن الجمال وكمال المنفعة فيهما دون الحاجز. وهذا ما حكي عن [النص] (جـ) وصححه البغوي. انتهى. وقد أخرجه البيهقي من حديث عمرو بن شعيب (¬2)، قال: قضى ¬

_ (أ) في جـ: تكمله. (ب) في الأصل: وفيها. (جـ) في الأصل: النضر.

النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا جدعت ثندوة الأنف بنصف العقل؛ خمسون من الإبل، أو عدلها من الذهب والورق. قال في "النهاية" (¬1): أراد بالثندوة هنا روثة الأنف، وهي طرفه ومقدمه. وقوله: "وفي اللسان الدية". والمراد به إذا قطعه من أصله، أو قطع منه ما منع الكلام، وهذا مجمع عليه، وإن قطع منه ما بطل به بعض الحروف فحصته معتبرة بعدد الحروف، وقيل: بحروف اللسان فقط وهي ثمانية عشر حرفًا، لا حروف الحلق وهي ستة، ولا حروف الشفة وهي أربعة، والأول أولى؛ لأن النطق لا يتأتى إلا باللسان. قوله: "وفي الشفتين الدية". وحد الشفتين من تحت المنخرين إلى منتهى الشدقين في عرض الوجه، وفي طوله من أعلى الذقن إلى أسفل الخدين، وهذا مجمع عليه. والجمهور أن في كل واحدة منهما نصف الدية على سواء، وذهب زيد بن ثابت (¬2) إلي أن في العليا ثلثًا، وفي السفلى ثلثين من الدية؛ إذ منافعها أكثر؛ لحفظها (أ) الطعام والشراب. قوله: "وفي الذكر الدية". إذا قطع من أصله ففيه الدية، وهذا مجمع عليه، وإن قطع الحشفة ففيها الدية عند مالك وبعض أصحاب الشافعي، واختاره الإمام المهدي لمذهب الهدوية. وعند مالك أنه يلزم في قطع الذكر ¬

_ (أ) في جـ: لحفظ.

دية للحشفة وحكومة لباقي الذكر. وذهب الإمام يحيى والشافعي إلى أنه لا فرق بين العنّين والسليم، والصغير والكبير، وذهب البعض إلى أن فيه ثلث الدية. والجمهور إلى أن في ذكر العنِّين والخصِيّ حكومة إلا أنه إذا كان زال منه قوة الإيلاج، وإلا لزم فيه الدية. والله سبحانه أعلم. قوده: "وفي البيضتين الدية". وهو مجمع على ذلك، والجمهور أن في [إحداهما] (أ) نصف الدية. وروي عن سعيد بن المسيب أن في البيضة اليسرى ثلثي الدية، لأن الولد يكون منها، وفي اليمنى ثلث الدية (¬1). ورواه في "البحر" عن علي رضي الله عنه. وقد جاء في لفظ: "في الأنثيين الدية". وهما البيضتان، كذا في "القاموس" و"الضياء" و"الصحاح" (¬2)، وذكر في " الغيث" شرح "الأزهار" أن الأنثيين هما الجلدتان المحيطتان بالبيضتين. قوله: "وفي الصلب الدية". وهو مجمع عليه، فإن ذهب النبي مع الكسر فديتان. قوله: "وفي العينين الدية". وهو مجمع عليه، وفي أحدهما النصف، واختلف العلماء في الأعور إذا ذهبت عينه الصحيحه (ب) بالجناية؛ فذهب ¬

_ (أ) في الأصل: أحدهما. (ب) ساقطة من: جـ.

الأوزاعي والنخعي والهادي والحنفية والشافعية إلى أن الواجب فيها نصف الدية، إذ لم يفصل الدليل، وهو ما في حديث عمرو بن حزم، وفي العين نصف الدية، وقياسًا على من له يد واحدة، فليس له إلا نصف الدية، وهو مجمع عليه، وذهب علي وعمر وعثمان وابن عمر والزهري ومالك والليث وأحمد وإسحاق إلى أن الواجب فيها الدية كاملة، لأنها في معنى العينين. واختلفوا أيضًا في القود منه إذا جنى على عين واحدة، فالجمهور على ثبوت القود، وذهب أحمد إلى أنه لا قود. قوله: "وفي الرجل الواحدة نصف الدية". وحدُّ الرجل التي تجب فيها الدية من مفصل الساق، فإن قطع من الركبة لزم نصف الدية، وحكومة في الزائد. قوله؛ "وفي المأمومة ثلث الدية". المأمومة: هي ما بلغت أم الرأس، وأم الرأس قال في "القاموس" (¬1): هو الدماغ أو الجلدة الرقيقة (أ) التي عليها. قوله: "وفي الجائفة ثلث الدية". هي مأخوذة من الجوف، والجوف قال في "القاموس" (¬2): هو البطن. وقال (2): الجائفة: هي [طعنةٌ تبلغ الجوف، وكذا قال في "الضياء": الجائفة هي] (ب) الطعنة التي تبلغ الجوف أو تنفذه، ومنه الحديث: "في الجائفة ثلث الدية". وقال في "النهاية" (¬3): ¬

_ (أ) في جـ: الرفيعة. (ب) ساقطة من: الأصل.

في الجوف في قوله - صلى الله عليه وسلم -: "ولا تنسوا الجوف وما وعى" (¬1). أي ما دخل إليه من الطعام والشراب، وقال في الجائفة (¬2): هي الطعنة التي تنفذ إلى الجوف، يقال: جفته إذا أصبت جوفه، وأجفته (أ) الطعنة وجفته بها، والمراد [بالجوف] (ب) كل ما له قوة محيلة [كالبطن] (جـ) والدماغ. انتهى. فظاهر كلام "النهاية" أن الجائفة تشمل ما كان له عمق، وإن لم تكن في البطن، وقريب منه ما ذكره الإمام المهدي في "البحر"، وهي ما وصل جوف العضو من ظهر أو صدر أو ورك أو عنق أو (د) ساق أو عضد؛ مما له جوف، ثلث الدية. قال الإمام يحيى: وإنما تكون في المجوف، وأما غير المجوف فلا؛ كلو جرح أنفه حتى وصل باطنها فحكومة. انتهى. وقال الإمام المهدي في "الغيث": الجائفة هي من ثغرة النحر إلى المثانة، وهي ما بين السبيلين. وكلام "البحر" والإمام يحيى متأول بأن ما كان في سائر الأعضاء ففيه ثلث دية ذلك العضو، وكلام "الغيث" هو الأنسب بالحديث، فإن تعظيم الأرش إنما هو لما يخشى من الضرر، والضرر الكامل إنما هو في ذلك المحل، وكذا في الدماغ، كما قال في "النهاية"، إلا أنه مأمومة، ولكنه قد تكون الجناية في داخل الرأس من غير أن تكون مأمومة، ¬

_ (أ) زاد في الأصل، جـ: و. والصواب بدونها، كما في مصدر التخريج. (ب) في الأصل، جـ: بالحديث. والمثبت من النهاية. (جـ) في الأصل، جـ: كالجوف. والمثبت من النهاية. (د) زاد في جـ: عضو.

فتكون جائفة، وأما إذا مرقت الجائفة، وخرجت من الجانب الآخر، فهي جائفتان، وفيها ثلثا الدية، وقد أخرج البيهقي (¬1) عن سعيد بن المسيب أن رجلا رمى رجلًا فأصابته جائفة فخرجت من الجانب الآخر، فقضى فيها أبو بكر رضي الله عنه بثلثي الدية. والله أعلم. وقال في "نهاية المجتهد" (¬2): اتفقوا على أن الجائفة من جراح الجسد، لا من جراح الرأس، وأنها لا يقاد منها، وأن فيها ثلث الدية، وأنها جائفة متى وقعت في الظهر والبطن، واختلفوا إذا وقعت في غير ذلك من الأعضاء فنفذت إلى تجويفه؛ فحكى مالك (¬3) عن سعيد بن المسيب أن في كل جراحة نافذة إلى تجويف عضو من الأعضاء -أي عضو كان- ثلث دية ذلك العضو. وحكى عن ابن شهاب أنه كان [لا] (أ) يرى ذلك، وهو الذي اختاره مالك؛ لأن القياس عنده في هذا لا يسوغ، وإنما [سنده] (ب) في ذلك الاجتهاد من غير توقيف. وأما سعيد فإنه قاس ذلك على الجائفة؛ على نحو ما روي عن عمر رضي الله عنه في موضحة الجسد. انتهى. قوله: "وفي المنقلة خمس عشرة". وهي التي تخرج منها صغار العظام وتنتقل في أماكنها، وقيل: التي تنقل العظم، أي: تكسره. كذا في "النهاية" (¬4)، وفي "القاموس" (¬5): الشجة التي تَنَقَّل منها فراش العظام، وهي ¬

_ (أ) ساقطة من الأصل، جـ، والمثبت من الموطأ والهداية. (ب) في الأصل، جـ: عنده. والمثبت من الهداية.

قشور تكون على العظم دون اللحم. وقال الإمام المهدي في "البحر": وهي ما تُنَقِّل (أ) عظمًا في (ب) الرأس. فكلام الإمام المهدي أخص مما ذكر في "النهاية". قوله: "وفي كل أصبع من أصابع اليد والرجل عشر من الإبل". وهذا ذهب إليه جمهور العلماء، وأن الأصابع في ذلك على سواء، وأن كل أنملة فيه ثلث العشر إلا الإبهام فالنصف، وذهب إلى هذا علي وابن مسعود وابن عباس (¬1)، وقد روي عن عمر رضي الله عنه، أنه قضى في الإبهام والتي تليها بعقل نصف الدية، وفي الوسطى بعشر، وفي التي تليها بتسع، وفي الخنصر بست، ورجع عن ذلك (¬2)، وروي عن مجاهد أنه قال: في الإبهام خمس عشرة، وفي التي تليها عشر، وفي الوسطى [عشر] (جـ)، وفي التي تليها ثمانٍ، وفي الخنصر سبع (¬3). قوله: "وفي السنن خمس". ظاهره العموم لكل سنن في مقدم الفم أو في جوانبه، وهو قول جمهور العلماء، وبه قال ابن عباس (¬4)، وروى مالك (¬5) عن عمر أنه قضى في الضرس بجمل. وروى عن علي وعن ابن ¬

_ (أ) في جـ: نقل. (ب) في جـ: من. (جـ) ساقطة من: الأصل.

عباس وعن عمر: في كل ثنية خمسون دينارًا، وفي الناجذ أربعون، وفي الناب ثلاثون، وفي كل ضرس خمس وعشرون. وقول للشافعي: في كل سن خمس من الإبل إلى تمام الدية، ثم لا شيء. وقال سعيد بن المسيب: في الأضراس بعيران. وأجاب الجمهور بأن قوله: "وفي السنن خمس". يشمل الثنايا وغيرها من الأسنان، وقياسًا على الأصابع في عدم المفاضلة. قوله: "وفي الموضحة خمس". والموضحة: هي التي توضح العظم، أي تكشفه، ذهب إلى هذا العترة والحنفية والشافعية، وقال به أبو بكر وعمر وزيد بن ثابت (¬1)، ولم يخالفهم أحد من الصحابة. وذهب مالك إلى أنهما إن كانت في الأنف أو اللحي الأسفل فحكومة، وإلا فنصف العُشر. وذهب ابن المسيب إلى أن في الموضحة عُشر الدية. والمراد بالموضحة إذا كانت في الرأس، وحكم الوجه حكم الرأس إجماعًا؛ إذ هما كالعضو الواحد. قوله: "وأن الرجل يقتل بالمرأة". تقدم الكلام عليه قريبًا (¬2). وقوله: "وعلى أهل الذهب" إلخ. تقدم الكلام عليه في أول هذا البحث (¬3). 978 - وعن ابن مسعود رضي الله عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "دية الخطأ أخماسًا؛ عشرون حقة، وعشرون جذعة، وعشرون بنات ¬

_ (¬1) ينظر مصنف عبد الرزاق 9/ 305 - 307 ح 17311، 17317، 17321. (¬2) تقدم ص 384 - 387. (¬3) تقدم ص 424 - 426.

مخاض، وعشرون بنات لبون، وعشرون بني لبون". أخرجه الدارقطني، وأخرجه الأربعة بلفظ: "وعشرون بنو مخاض". بدل: "بني لبون" (¬1). وإسناد الأول أقوى. وأخرجه ابن أبي شيبة (¬2) من وجه آخر موقوفًا، وهو أصح من المرفوع. وأخرجه أبو داود والترمذي (¬3) من طريق عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رفعه: "الدية ثلاثون حقة، وثلاثون جذعة، وأربعون خلفة في بطونها أولادها". الحديث أخرجه الدارقطني بأسانيد، (أإلا أن البيهقي اعترض الدارقطني بعد أن ساق الحديث بأسانيده- وفيها أ): "بنو مخاض". بدل: "بني لبون" - وقال (¬4): إنّ جعل الدارقطني بني لبون غلط منه. إلا أن البيهقي ¬

_ (أ- أ) في جـ: وفيه.

قال: إنه قد رآه في رواية محمد بن إسحاق بن خزيمة في كتابه، وهو إمام في رواية وكيع عن سفيان وقال: "بنو لبون". فلم يكن حينئذ الغلط من الدارقطني، فلعل الخلاف فيه من فوق (¬1)، وقال البيهقي (¬2): وفي رواية سعيد بن بشير عن قتادة عن أبي مجلز عن أبي عبيدة عن ابن (أ) مسعود كذلك: "بني لبون". ورواه من حديث يحيى بن أبي زائدة عن أبيه، وغيره عن أبي إسحاق عن علقمة عن ابن مسعود: "بني مخاض". وقوله: وإسناد الأول أقوى؛ لأن حديث أبي داود فيه خِشْف بن مالك الطائي (¬3)، قال الدارقطني (¬4): وهو رجل مجهول، لم يروه عنه إلا زيد بن جبير بن حرمل الجشمي، ولم يروه عن زيد إلا حجاج بن أرطاة (¬5)، والحجاج مشهور بالتدليس، وبأنه يحدث عمن [لم] (ب) يلقه (جـ) ولم يسمع منه. قال (¬6): ورواه جماعة من الثقات عن الحجاج واختلفوا عليه فيه. قال البيهقي (¬7): وكيفما كان فالحجاج غير محتج به، وخشف مجهول، والصحيح أنه موقوف على (د) عبد الله بن مسعود، والصحيح عن عبد الله أنه ¬

_ (أ) في جـ: أبي. (ب) ساقطة من: الأصل، جـ. والمثبت من مصدر التخريج. (جـ) في جـ: نقله. (د) في جـ: عن.

جعل أحد أخماسها بني المخاض، في الأسانيد التي ذكرناها، لا (أ) كما توهمه شيخنا أبو الحسنن الدارقطني رحمنا الله وإياه. وحديث عمرو بن شعيب في دية العمد، ولفظه: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من قتل متعمدًا، دفع إلى أولياء المقتول، فإن شاءوا قتلوا، وإن شاءوا الدية، وهي ثلاثون حقة، وثلائون جذعة، وأربعون خلفة، وما صولحوا عليه فهو لهم" (¬1). وذلك لتشديد العقل. الحديث فيه دلالة على أن دية الخطأ أخماس كما ذكر، وقد ذهب إلى هذا الشافعي ومالك وجماعة من العلماء، وهو مذهب أبي حنيفة، إلا أن أبا حنيفة جعل مكان "بني لبون" "بني مخاض" كما في رواية الأربعة لحديث ابن مسعود. وذهب الحسن البصري والشعبي والهادي والمؤيد وأبو طالب إلى أن الدية أرباع في الخطأ، وفي العمد أسقط منها ابن اللبون، واحتج لذلك في "البحر" بما رواه السائب بن يزيد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "دية الإنسان خمس وعشرون حقة، وخمس وعشرون جذعة، وخمس وعشرون بنت لبون، وخمس وعشرون بنات مخاض" (¬2). وهذا الحديث لم أره في شيء من الأصول الستة، وهو مروي عن علي (¬3) وعن عمر بن عبد العزيز. إلا أن ¬

_ (أ) ساقطة من: جـ.

الرواية عن علي في الخطأ فقط أخرجها البيهقي (¬1)، ولم يثبت في ذلك حديث مرفوع. وحديث عمرو بن شعيب أخرجه البيهقي (¬2) في قتل العمد بلفظ: "من قتل عمدًا دفع إلى ولي المقتول، فإن شاء قتله، وإن شاء أخذ الدية". فذكر الحديث. وأخرجه بهذا اللفظ أبو داود والترمذي والنسائي (¬3). واعلم أنه وقع الخلاف في الدية في أسنانها (أ)، وفي أنها تكون أرباعًا أو أخماسًا أو أثلاثًا، فذهب الهادي والمؤيد وأبو ثور إلى أنها أرباع مطلقًا. كما تقدم، وذهب الشافعي ومالك إلى أن الدية تختلف باعتبار العمد وشبه العمد والخطأ، فقالوا: إنها أثلاث. كما تقدم في العمد وشبه العمد، وكذا عند الشافعي إذا وقع الخطأ في الحرم، أو قتل محرمًا من النسب، أو في الأشهر الحرم، قال: لأن الصحابة رضي الله عنهم غلَّظوا في هذه الأحوال، وإن اختلفوا في كيفية التغليظ، ولم ينكر ذلك أحد من الصحابة فكان إجماعًا، والمراد بالحرم حرم مكة، لا حرم المدينة، ولا تغليظ في حال الإحرام؛ لأن حرمته عارضة على الأصح، وعند مالك أن شبه العمد ما كان في قصة المدلجي كما مر (¬4)، وقد ذهب إلى التغليظ (جـ) جماعة من السلف ¬

_ (أ) في جـ: أسبابها. (جـ) زاد في الأصل، جـ: بالتغليظ.

منهم عمر وعثمان وابن عباس (¬1) والزهري وداود وابن المسيب وعطاء وجابر بن زيد وسليمان بن يسار والنخعي وأحمد وإسحاق وغيرهم. فائدة: وردت الأحاديث الصحيحة في عند الأشهر الحرم بالبداية برجب، وذهب الكوفيون أنه يبدأ بمحرم، وتكون الأربعة من سنة واحدة. 979 - وعن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "وإن أعتى الناس على الله ثلاثة، من قتل في حرم الله، أو قتل غير قاتله، أو قتَل لذحْل الجاهلية". أخرجه ابن حبان في حديث صححه (¬2). وأخرج الحديث عمر بن شبة (¬3) من طريق عمرو بن دينار عن الزهري عن عطاء بن يزيد قال: قتل رجل بالمزدلفة -يعني في غزوة الفتح- فذكر القصة، وذكر الحديث بلفظ: "وما أعلم أحدا أعتى على الله من ثلاثة؛ رجل قتل في الحرم" الحديث. ومن طريق [مسعر] (أ)، عن عمرو بن مرة، عن الزهري بلفظ: "إن أجرأ الناس على الله". فذكر نحوه، وقال: "وطلب بذحل (ب) الجاهلية". وأخرج البيهقي (¬4) عن أبي شريح الخزاعي، أن ¬

_ (أ) في الأصل، جـ: شعيب. والمثبت من مصدر التخريج، وينظر تهذيب الكمال 27/ 461. (ب) في الفتح: ذحول.

رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "أعتى الناس على الله من قتَل غير قاتله، أو طلب بدم في الجاهلية من أهل الإسلام، أو بصَّرَ عينيه ما لم يُبصر". وأخرج (¬1) من حديث جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جده قال: وجد في قائم سيف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كتاب: "إن أعدى الناس على الله -وفي حديث سليمان (¬2): "إن أعتى الناس على الله- القاتل غير قاتله، والضارب غير ضاربه، ومن تولى غير مواليه فقد كفر بما أنزل الله على محمد - صلى الله عليه وسلم -". قوله: "أعتى الناس". أفعل تفضيل. أي: زاد في العتوِّ على غيره من الناس وإن شاركوه في الأصل، والعتوُّ: التجبر والتكبر. وقوله: "ومن قتَل في حرم الله". فيه دلالة على أن المعصية في الحرم تزيد على المعصية في غيره. وقد أخرج الثوري في "تفسيره" (¬3) عن السدي عن مرة عن ابن مسعود، قال: ما من رجل يهم بسيئة فتكتب عليه، إلا أن رجلًا لو همَّ بعدن أن يقتل رجلًا بالبيت الحرام إلا أذاقه الله تعالى من عذاب أليم. وهو سند صحيح، وقد ذكر شعبة أن السدي رفعه لهم، وكان شعبة يرويه موقوفًا (¬4). وظاهر الحديث أن فعل الصغيرة في الحرم أشد من فعل الكبيرة في غيره، وهو ظاهر قوله تعالى: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ} الآية (¬5). فإن تنكير "الإلحاد" يحتمل جنس الإلحاد ولو حقر؛ إذ لا دلالة على جعل التنوين للتعطم. وقوله: "أو قتَل غير قاتله". يعني يكون له الدم عند شخص فيقتل ¬

_ (¬1) البيهقي 8/ 26. (¬2) هو سليمان بن بلال الراوي عن جعفر بن محمد كما في أحد طريقي البيهقي. (¬3) تفسير الثوري ص 209. (¬4) أحمد 1/ 428، والحاكم 2/ 388. وقال ابن كثير: صحيح على شرط مسلم، ووقفه أشبه من رفعه، ولهذا صمم شعبة على وقفه من كلام ابن مسعود. تفسير ابن كثير 5/ 407. (¬5) الآية 25 من سورة الحج.

غيره ممن لا يكون له مشاركة في القتل. وقوله: "أو قتَل [لذحْل] (أ) الجاهلية". الذحل بفتح الذال المعجمة وسكون الحاء المهملة، وهو الثأر، أو طلب المكافأة بجناية جنيت عليه من قتل أو غيره، والذحل: العداوة أيضًا، والمراد هنا: هو أن يكون له دم استحقه في الجاهلية فطلبه في الإسلام. وقد فسره حديث أبي شريح. قال المهلب وغيره (¬1): والمراد أن هؤلاء الثلاثة أعتى أهل المعاصي، وأبغضهم إلى الله، وإلا فالشرك أبغض إلى الله من جميع المعاصي. 980 - وعن عبد الله بن عمرو بن العاص، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "ألا إن دية الخطأ وشبه العمد ما كان بالسوط والعصا مائة من الإبل، منها أربعون في بطونها أولادها". أخرجه أبو داود والنسائي وابن ماجه، وصححه ابن حبان (¬2). الحديث قال ابن القطان (¬3): هو صحيح، ولا يضره الاختلاف. وقد تقدم الكلام على ذلك. 981 - وعن ابن عباس رضي الله عنه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "هذه وهذه سواء" يعني الخنصر والإبهام. رواه البخاري (¬4). ¬

_ (أ) في الأصل، جـ: بذحل.

ولأبي داود والترمذي (¬1): "الأصابع سواء، والأسنان سواء؛ الثنية والضرس سواء". ولابن حبان (¬2): "دية أصابع اليدين والرجلين سواء؛ عشرة من الإبل لكل إصبع". تقدم الكلام في ذلك. 982 - وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رفعه قال: "من تطبب ولم يكن بالطب معروفا، فأصاب نفسا فما دونها فهو ضامن". أخرجه الدارقطني، وصححه الحاكم، وهو عند أبي داود والنسائي وغيرهما (¬3) إلا أن من أرسله أقوى ممن وصله. قوله: "من تطبب". صيغة "تفعَّل" تستعمل لمعنى تكلف الشيء كتحكم وتشجع وتصبر؛ أي تكلف ذلك، فـ "تطبب"؛ أي تكلف الطبَّ ولم يكن عارفًا له، وهو من الطب بكسر الطاء فعل الطبيب، وبفتح الطاء الماهر العالم بالأمور بمعنى الطيب، وبضم الطاء اسم موضع، والمراد به علاج الجسم. والحديث فيه دلالة على أن مَن لم يكن له خبرة بعلاج الجسم فهو متطبب، فالطبيب من كان له شيخ معروف، ويثق من نفسه بجودة الصنعة وإحكام المصلحة، قال في "الهدي النبوي" (¬4): الطبيب الحاذق هو الذي يراعي في علاجه عشرين أمرا؛ أولها: النظر في نوع المرض من أي الأمراض هو. ¬

_ (¬1) أبو داود، كتاب الديات، باب ديات الأعضاء 4/ 187 ح 4559، والترمذي، كتاب الديات، باب ما جاء في دية الأصابع 4/ 8 ح 1391. (¬2) ابن حبان، كتاب الديات، ذكر الإخبار عما يجب على المرء من الدية. . . 13/ 366 ح 6012. (¬3) الدارقطني، كتاب الحدود والديات وغيره 3/ 195 ح 335، والحاكم، كتاب الطب 4/ 212، وأبو داود، كتاب الديات، باب فيمن تطبب بغير علم فأعنت 4/ 194 ح 4586، والنسائي، كتاب القسامة، باب صفة شبه العمد 8/ 52. (¬4) زاد المعاد 4/ 142 - 144.

الثاني: النظر في سببه. الثالث: قوة المريض أو ضعفه. الرابع: مزاج البدن الطبيعي ما هو. الخامس: المزاج الحادث على غير المجرى الطبيعي. السادس: سن المريض. السابع: عادته. الثامن: الوقت الخاص من فصول السنة وما يليق به. التاسع: بلد المريض وتربيته. العاشر: حال الهواء في وقت المرض. الحادي عشر: النظر في الدواء المضاد لتلك العلة. الثاني عشر: النظر في قوة الدواء ودرجته، والموازنة بينهما وبين قوة المريض. الثالث عشر: أن يكون قصده إزالة العلة على وجه يأمن معه حدوث ما هو أصعب منه. الرابع عشر: أن يعالج بالأسهل فالأسهل. الخامس عشر: أن ينظر في العلة؛ هل يمكن علاجها بإزالتها أو بتقليلها أو توقيفها ومنع زيادتها؟ وإلا وجب عليه ترك العلاج ومنع نفسه من الطمع. السادس عشر: ألا يتعرض للخلط (¬1) قبل نضجه باستفراغ، بل ¬

_ (¬1) الخلط، والجمع أخلاط، وهي في الطب القديم؛ أمزجته الأربعة، وهي الصفراء والبلغم والدم والسوداء. الوسيط (ح ل ط).

الواجب تقديم إنضاجه. السابع عشر: أن يكون له خبرة باعتلال القلوب والأرواح وأدويتها، فإن انفعال البدن وطبيعته عن النفس والقلب أمر [مشهود] (أ)، فعلى الطبيب الحاذق أن يتفقد قلبه ويقوي روحه بالإقبال على الله تعالى بما يقربه إليه؛ لأن هذه لها تأثير في دفع العلل أعظم من الأدوية، ولكن بحسب استعداد النفس وقبولها وعقيدتها. الثامن عشر: التلطف بالمريض والرفق به كالتلطف بالصبي. التاسع عشر: أن يستعمل أنواع العلاجات الطبيعية والإلهية والعلاج [بالتخييل] (ب)، فإن لحذاق الأطباء في [التخييل] (جـ) أمورًا عجيبة ولا يصل إليها الدواء، فالطيب الحاذق يستعين على المرض بكل مُعين. العشرون: وهو ملاك أمر الطبيب أن يجعل علاجه وتدبيره دائرًا على أركان ستة؛ حفظ الصحة الموجودة، ورد الصحة المفقودة بحسب الإمكان، وإزالة العلة أو تقليلها بحسب الإمكان، واحتمال أدنى المفسدتين لإزالة أعظمهما، وتفويت أدنى المصلحتين لتحصيل أعظمهما، فعلى هذه الأصول الستة مدار العلاج، وكل طبيب لا تكون هذه [أَخِيَّتَه] (د) التي يرجع إليها فليس بطيب. انتهى. ¬

_ (أ) في الأصل: مشهور. (ب) في الأصل، جـ: بالتخيل. (جـ) في الأصل، جـ: التخيل. والمثبت من مصدر التخريج. (د) ساقطة من: الأصل، جـ. والمثبت من مصدر التخريج، والأخية: العروة تشد بها الدابة مثنية في الأرض. اللسان (أخ ي).

والطبيب (¬1) شامل لمن طب بوصفه وقوله، وهو الذي يُخص باسم الطبائعي، وبمِرْوَده (¬2) وهو الكحال، وبمِبضَعه (¬3) ومراهمه، وهو الجرائحى، وبموساه وهو الخاتن، وبريشته وهو الفاصد، وبمحاجمه ومشرطه وهو الحجّام، وبخلعه ووصله ورباطه وهو المجَبِّر، وبمكواته وناره وهو الكوَّاء، وبقربته وهو [الحاقن] (أ). وسواء كان طبه لإنسان أو لغيره من الحيوان، قاسم الطبيب لغة يشمل هؤلاء. والحديث فيه دلالة على أن المتعاطي للطب يضمن على أي حال كان إعناته، بالمباشرة أو بالسراية، وسواء كان عمدًا أو خطأ، وقد ادعى في "شرح الإبانة" الإجماع على ذلك، ونسب في "البحر" الخلاف إلى الإمام يحيى في سراية جناية المتعاطي، وأنه لا يضمن، وعلل ذلك بعض المفرعين على مذهب الهادي بأنه عمل عمل الأطباء، وهو مأذون من جهة المعالج، وذكر في "نهاية المجتهد" (¬4) ولم ينسبه إلى أحد، والظاهر أنه عند المالكية، أنه إذا أعنت كان عليه الضرب والسجن والدية قيل: في ماله. وقيل: على العاقلة. انتهى. وأما إعنات الطبيب الحاذق فإن كان بالسراية لم يضمن اتفاقًا؛ لأنها سراية فعل مأذون فيه من جهة الشرع، ومن جهة المعالج، وهكذا سراية كل ¬

_ (أ) في الأصل، جـ: الحافر. والمثبت من مصدر التخريج.

مأذون فيه، لم يتعد الفاعل في سببها؛ كسراية الحد، وسراية القصاص عند الجمهور خلافًا لأبي حنيفة في إيجابه الضمان بها. والشافعي فرق بين الفعل المقدر شرعًا كالحد وغير المقدر كالتعزير؛ فلا يضمن في المقدر ويضمن في غير المقدر؛ لأنه راجع إلى الاجتهاد فهو في مظنة العدوان، وإن كان الإعنات بالمباشرة فهو مضمون عليه؛ إن كان عمدًا فعليه، وإن كان خطأ فعلى عاقلته. والله أعلم. 983 - وعنه أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: "في المواضح خمس خمس من الإبل". رواه أحمد والأربعة، وزاد أحمد: "والأصابع سواء؛ كلهن عشر عشر من الإبل". وصححه ابن خزيمة وابن الجارود (¬1). 984 - وعنه رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "عقل أهل الذمة نصف عقل المسلمين". رواه أحمد والأربعة. ولفظ أبي داود: "دية المعاهد نصف دية الحر". وللنسائي: "عقل المرأة مثل عقل الرجل، حتى يبلغ الثلث من ديتها". وصححه ابن خزيمة (¬2). 985 - وعنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "عقل شبه العمد مغلظ مثل عقل العمد، ولا يقتل صاحبه، وذلك أن ينزُوَ الشيطان ¬

_ (¬1) أحمد 2/ 179، والترمذي، كتاب الديات، باب ما جاء في الموضحة 4/ 7 ح 1390، وأبو داود، كتاب الديات، باب ديات الأعضاء 4/ 189 ح 4566، وابن ماجه، كتاب الديات، باب الموضحة 2/ 886 ح 8655، والنسائي، كتاب القسامة، باب المواضح 8/ 57، وابن الجارود، في باب الديات ص 297 ح 786. (¬2) أحمد 2/ 183، وأبو داود، كتاب الديات، باب في دية الذمي 4/ 193 ح 4583، والترمذي كتاب الديات، باب ما جاء في دية الكفار 4/ 18 ح 1413، وابن ماجه، كتاب الديات، باب دية الكافر 2/ 883 ح 2644.

فتكون دماء بين الناس في غير ضغينة ولا حمل سلاح". أخرجه الدارقطني وضعفه (¬1). حديث المواضح أخرجه البيهقي (¬2) عن حسين المعلم عن عمرو بن شعيب، أن أباه أخبره عن عبد الله بن عمرو. الحديث. وأخرجه من طريق أخرى عن سعيد بن أبي عروبة عن مطر عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، وأخرجه (¬3) من حديث عباد بن العوام عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، أن أبا بكر وعمر رضي الله عنهما قالا: في الموضحة في الوجه والرأس سواء. وقد تقدم الخلاف في الموضحة. وأخرج البيهقي (3) عن سليمان بن يسار أنه كان يقول: الموضحة في الوجه مثل الموضحة في الرأس، إلا أن يكون في الوجه عيب فيزاد في موضحة الوجه بقدر عيب الوجه، ما بينه وبين نصف عقل الموضحة - خمسة وعشرون دينارًا. قال: وروينا في ذلك عن عمر بن عبد العزيز وفقهاء أهل المدينة من التابعين. حديث عقل أهل الذمة، الحديث أخرجه البيهقي (¬4) من طرق عن عمرو بن شعيب. وهو يدل على أن أهل الذمة من اليهود والنصارى ديتهم نصف دية المسلم، وقد جاء في بعض ألفاظه: أن عقل أهل الكتابين نصف عقل ¬

_ (¬1) الدارقطني، كتاب الحدود والديات وغيره 3/ 95 ح 54 مختصرًا. (¬2) البيهقي 8/ 81. (¬3) البيهقي 8/ 82. (¬4) البيهقي 8/ 101.

المسلمين. وقد ذهب إلى هذا مالك، وأجاب عنه البيهقي (¬1) بأن ذلك لما كان قيمة المائة من الإبل ثمانمائة دينار بثمانية آلاف درهم، ودية أهل الكتاب يومئذ النصف من دية المسلمين، وروى ذلك عن عمرو بن شعيب، وأن ذلك كان في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى استخلف عمر. فذكر خطبته في رفع الدية حين غلت الدية (أ)، قال: وترك دية أهل الذمة لم يرفعها فيما رفع من الدية، فيحتمل أن يكون والله أعلم قوله: على النصف من دية المسلم. راجعًا إلى ثمانية آلاف درهم، فتكون ديته في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - أربعة آلاف درهم، فلم يرفعها عمر فيما رفع من الدية علمًا منه بأنها في أهل الكتاب توقيت، وفي أهل الإسلام تقويم. قال: ويؤكد هذا ما أخرجه من حديث عمرو بن شعيب، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرض على كل مسلم قتل رجلًا من أهل الكتاب أربعة آلاف. فظاهره أن ذلك [مقدر] (ب) بذلك، واحتج في "البحر" لمالك بمناسبة، وهي نقصان الكافر فلم يساو (جـ) المسلم، ورد عليه بأن القياس لا يعارض النص، وكأنه غفل عن هذا النص الذي رجع إليه مالك. وذهب الثوري والزهري وجماعة من التابعين والهدوية وأبو حنيفة وأصحابه إلى مساواة الذمي للمسلم في الدية؛ لقوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ} (¬2). فذكر الدية ¬

_ (أ) عند البيهقي: الإبل. (ب) في الأصل: يتقدر. (جـ) في جـ: تساو.

والظاهر فيها الإكمال، وبما أخرجه البيهقي (¬1)، عن ابن جريج عن الزهري، أنها كانت دية اليهودي والنصراني في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - مثل دية السلم، وأبي بكر، وعمر، وعثمان. فلما كان معاوية أعطى أهل المقتول النصف، وألقى النصف في بيت المال. قال: ثم قضى عمر بن عبد العزيز في النصف، وألقى ما كان جعل معاوية. وبما أخرجه (1) أيضًا عن عكرمة عن ابن عباس قال: جعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دية العامريين دية الحر المسلم، وكان لهما عهد. وأخرجه (1) من طريق أخرى بلفظ: جعل دية العاهدين دية المسلم. وأخرج (1) أيضًا عن ابن عباس قال: ودى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجلين من المشركين، وكانا منه في عهدٍ دية الحرين المسلمين. وأخرج (1) عن ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "دية ذمي دية مسلم". وفي لفظ: ودى ذميًّا دية مسلم. والجواب عن هذا أن الآية الكريمة فيها إجمال، وحديث الزهري رده الشافعي بأنه مرسل، ومراسيل الزهري قبيحة، وأن الرواية الأولى عن عمر أصح، وحديث عكرمة في إسناده سعيد بن المرزبان البقال (¬2)، ولا يحتج بحديثه، وهو في الطريق الأخرى، وحديث ودى. في إسناده الحسن بن عمارة (¬3)، وهو متروك، وحديث ابن عمر في إسناده أبو كرز (¬4)، وهو ¬

_ (¬1) البيهقي 8/ 102. (¬2) سعيد بن المرزبان العبسي، مولاهم، أبو سعد البقّال، الكوفي، الأعور، ضعيف مدلس. التقريب ص 241، وينظر تهذيب الكمال 11/ 52. (¬3) تقدمت ترجمته في 2/ 167. (¬4) عبد الله بن عبد الملك بن كرز بن جابر القرشي الفهري، وقيل في اسمه: عبد الله بن كرز. ضعفه ابن حبان والعقيلي والدارقطني وغيرهم. ينظر الضعفاء الكبير 2/ 275، والمجروحين 2/ 17، ولسان الميزان 3/ 311.

متروك، وذهب الشافعي والناصر إلى أن دية الذمي أربعة آلاف، فتكون ثلث الدية؛ لأن الدية عنده اثنا عشر ألفًا، واحتج بقوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث ابن حزم (¬1): "في النفس المؤمنة مائة من الإبل". فمفهوم قوله: "المؤمنة". أن غير المؤمنة بخلافها، وبما أخرجه (¬2) عن سعيد بن المسيب، أن عمر بن الخطاب قضى في دية اليهودي والنصراني بأربعة آلاف، وفي دية المجوسي بثمانمائة. وأخرج (2) عن سعيد بن المسيب، أن عثمان قضى فيه بأربعة آلاف. فقضاء عمر مبين لما أجمل في مفهوم الصفة، ولم يصح ما تقدم من الروايات فيما يخالف ذلك، وذهب الإمام أحمد بن حنبل إلى أنه إن قتل عمدًا فمثل المسلم، وإن قتل خطأ فالنصف، ورد عليه في "البحر" بأن الدليل لم يفصل، ولعله يجاب عنه بأنه قد ورد ما يدل عليهما فالجمع بينهما بما ذكر إعمال للدليلين، وهو أولى من العمل بأحدهما دون الآخر. وقوله: "عقل المرأة". الحديث أخرجه النسائي (¬3) من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، وهو من رواية إسماعيل بن عياش عن ابن جريج، قال الشافعي (¬4): وكان مالك يذكر أنه السنة، وكنت أتابعه عليه وفي نفسي منه شيء، ثم علمت أنه يريد أنه سنة أهل المدينة فرجعت عنه. وأخرج البيهقي (¬5) عن الشافعي، أنه لما قال ابن المسيب: هي السنة. ¬

_ (¬1) تقدم ح 977. (¬2) البيهقي 8/ 100. (¬3) النسائي 8/ 44. (¬4) الإبهاج 2/ 329، التلخيص الحبير 4/ 25. (¬5) البيهقي 8/ 96.

أشبه أن تكون عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أو عن عامة من أصحابه، ولا تكون فيما قال سعيد: السنة. إذا كان كان يخالف القياس والعقل إلا علم اتباع فيما نرى والله أعلم. وقد كنا نقول به على هذا المعنى، ثم وقفت عنه، وأسأل الله الخيرة؛ لأنا قد نجد منهم من يقول: السنة. ثم لا نجد لقوله: السنة. نفاذًا بها عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، والقياس أولى بنا فيها. والحديث فيه دلالة على أن جراحات المرأة يكون أرشها كأرش جراحات الرجل إلى الثلث، وما زاد على الثلث كانت جراحة المرأة مخالفة، والمخالفة بأن اللازم فيها نصف ما لزم في الرجل؛ وذلك لأن دية النفس هي على النصف من دية الرجل؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث معاذ (¬1): "دية المرأة على النصف من دية الرجل". وهو إجماع، فيقاس ما دل عليه مفهوم المخالفة من أرش جراحة المرأة على الدية الكاملة، وقد ذهب إلى هذا عمر وجمهور فقهاء المدينة وهو قول مالك وأصحابه وأحمد وإسحاق، ورواه مالك (¬2) عن سعيد بن المسيب، وعن عروة بن الزبير وهو قول زيد بن ثابت وعمر بن عبد العزيز، وذهب علي وابن شبرمة والليث والثوري والعترة والحنفية والشافعية إلى أن دية المرأة وجراحاتها على النصف من الرجل، وأخرج البيهقي (¬3) عن الشعبي أن عليًّا رضي الله عنه كان يقول: جراحات النساء على النصف من دية الرجل فيما قل وكثر. وأخرج (3) بإسناد منقطع عن إبراهيم النخعي عن عمر وعن علي مثله، وأخرج (3) عن إبراهيم عن ابن ¬

_ (¬1) البيهقي 8/ 95. (¬2) الموطأ 2/ 854. (¬3) البيهقي 8/ 96.

مسعود بإسناد منقطع، وأخرج (¬1) عن الشعبي عن زيد بن ثابت مثل ذلك، وحجتهم ما تقدم من حديث معاذ. وقوله: "دية المرأة" الحديث. يشمل القليل والكثير، وهو مجمع عليه في الدية الكاملة، ولا فرق بين القليل والكثير، والفرق بينهما مخالف للقياس؛ ولذلك قال ربيعة لسعيد بن المسيب لما سأله: كم في إصبع المرأة؟ قال سعيد: عشر. قال: كم في اثنتين؟ قال: عشرون، قال: كم في ثلاث؟ قال: ثلاثون، قال: كم في أربع؟ قال: عشرون. قال ربيعة: حين عظم جرحها واشتدت مصيبتها نقص عقلها. قال (أ): أعراقي أنت؟ قال ربيعة: قلت: بل عالم متثبت أو جاهل متعلم. قال: يابن أخي، إنها السنة (¬2). وأجاب في "البحر" و"الانتصار" عن الحديث المذكور بأنه مرسل مخالف للأصول في الأروش وقيم المتلفات، وغيره أرجح منه. هذا لفظ "البحر"، ولفظ "الانتصار": أن الحديث من مراسيل سعيد بن المسيب، والمرسل مختلف فيه متردد في قبوله. انتهى. ولا يخفى عليك أن الحديث رواه عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، والصحيح في حديثه الاتصال، وقد تكرر مثل هذا، وأما قوله: مخالف للأصول في الأروش. فالمراد به أن أروش الجنايات مثل قيم المتلفات، وقيم المتلفات لا تختلف في شيء من المواضع من الثلث وما زاد عليه، فيجاب عنه ¬

_ (أ) بعده في الأصل، جـ: ربيعة. وهو خطأ.

بأن النص إذا ورد عمل به وإن خالف القياس، والقياس لا يرجع إليه إلا إذا عدم النص. وأما قوله: وغيره أرجح منه. فلا يسلم الرجحان، فإن المعارض آثار وهذا نص، وذهب ابن مسعود وشريح إلى أنهما يتساويان حتى يبلغ أرشها خمسًا من الإبل ثم ينصف، فيكون في موضحتها بعيران ونصف ثم ينصف. هكذا في "البحر" و"الانتصار"، وفي رواية البيهقي (¬1) عن ابن مسعود، قال: إلا السن والموضحة. وروى سعيد بن منصور (¬2) عن هشيم أخبرني مغيرة عن إبراهيم قال: كان فيما جاء به عروة البارقي إلى شريح من عند عمر، أن الأصابع سواء؛ الخنصر والإبهام، وأن جراح الرجال والنساء سواء في السنن والموضحة، وما خلا ذلك فعلى النصف. وفي "نهاية المجتهد" (¬3): وقالت طائفة: حد دية جراحة المرأة مثل دية جراحة الرجل إلى الموضحة، فإنها تكون على النصف من دية الرجل، وهو الأشهر من قول ابن مسعود، وهو مروي عن عثمان، وبه قال شريح وجماعة، وذهب سليمان بن يسار إلى أنهما يستويان حتى يبلغ أرشها خمس عشرة من الإبل، ثم ينصف فيكون في منقلتها سبع ونصف، وذهب الحسن البصري إلى أنهما يتساويان إلى النصف ثم ينصف. وقوله: "عقل شبه العمد". الحديث أخرجه البيهقي (¬4) بإسناده عن ¬

_ (¬1) البيهقي 8/ 96. (¬2) البيهقي 8/ 97 من طريق سعيد بن منصور. (¬3) الهداية في تخريج أحاديث البداية 8/ 507. (¬4) البيهقي 8/ 70.

عمرو بن شعيب، ولم يضعفه البيهقي. والحديث فيه دلالة على أنه حيث وقع الجرح ولم يكن ثَمَّ قصد إلى الجرح، ولم يكن ذلك بالسلاح بل كان بحجر أو عصا أو نحوهما -أنه شبه العمد لا يوجب القصاص، وإنما فيه الدية فقط، وأن فيه الدية مغلظة كالعمد، كما تقدم التغليظ في العمد على الخلاف فيه (أ)، وقد تقدم الخلاف في شبه العمد، والقائل به الحنفية والشافعية، والله أعلم. 986 - وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قتل رجل رجلا على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فجعل النبي - صلى الله عليه وسلم - ديته اثني عشر ألفا. رواه الأربعة ورجح النسائي وأبو حاتم إرساله (¬1). الحديث رواه أصحاب "السنن" من حديث عكرمة، واختلف فيه على عمرو بن دينار، فقال محمد بن مسلم الطائفي عنه عن عكرمة. هكذا، وقال ابن عيينة: عن عمرو بن دينار مرسلًا. قال ابن أبي حاتم (¬2) عن أبيه: المرسل أصح. وتبعه عبد الحق، وقد رواه الدارقطني (¬3) من حديث محمد بن ميمون عن ابن عيينة موصولًا، قال محمد بن ميمون: وإنما قال لنا فيه: ابن عباس. مرة واحدة، وأكثر ذلك كان يقول: عن عكرمة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. ¬

_ (أ) ساقطة من: جـ.

ورواه عبد الرزاق في "مصنفه" (¬1) عن ابن عيينة عن عمرو عن عكرمة مرسلًا. قال ابن حزم (¬2): وبهذا رواه مشاهير أصحاب ابن عيينة. وأخرج البيهقي (¬3) من حديث أنس، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لأن أجلس مع قوم" الحديث. وفي آخره: "أحب إلى من أن أعتق ثمانية من ولد إسماعيل، دية كل رجل منهم اثنا عشر ألفًا". وأخرج البيهقي (¬4) عن علي وعائشة وأبي هريرة وعمر بن الخطاب مثل ذلك. والحديث فيه دلالة على أن الدية من الفضة اثنا عشر ألفًا، وقد ذهب إلى هذا مالك، وقول الشافعي بالعراق، ورواه أهل المدينة عن عمر بن الخطاب (4)، قال الشافعي (¬5): روى عطاء ومكحول وعمرو بن شعيب وعدد من الحجازيين عن عمر، ولم أعلم بالحجاز أحدًا خالف فيه [عنهم] (أ)، ولا عن عثمان بن عفان، وذهب أهل العراق والهادي والمؤيد إلى أنها عشرة آلاف درهم، قال في "البحر": لقول علي به، وهو توقيف. ورواه محمد بن الحسن الشيباني (¬6) عن عمر قال: بلغنا عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه فرض على أهل الذهب ألف دينار في الدية، وعلى أهل الورق عشرة ¬

_ (أ) في الأصل، جـ: عنه. وفي الأم: عن الحجازيين.

آلاف درهم، قال: حدثنا بذلك أبو حنيفة عن الهيثم عن الشعبي عن عمر بن الخطاب. والله أعلم. 987 - وعن أبي رِمثة قال: أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - ومعي ابني، فقال: "من هذا؟ ". فقلت: ابني وأشْهَدُ به. قال: "أما إنه لا يجني عليك ولا تجني عليه". رواه النسائي وأبو داود وصححه ابن خزيمة وابن الجارود (¬1). أبو رمثة بكسر الراء وسكون الميم، وبالثاء المثلثة وهو رفاعة بن يثربي بفتح الياء المنقوطة باثنتين من أسفل وسكون الثاء المثلثة وبالراء وبالباء الموحدة بعدها ياء النسبة، التيمي، ويقال: التميمي. وفي اسمه خلاف كبير. وقيل: عمارة. وقيل: يثربي بن عوف. وقيل غير ذلك، قدم على النبي - صلى الله عليه وسلم - مع أبيه، وعداده في الكوفيين، روى عنه إياد بن لقيط. الحديث أخرجه أيضًا أحمد والحاكم (¬2)، وأخرج أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه (¬3) من حديث عمرو بن الأحوص، أنه شهد حجة الوداع مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: "لا يجني جان إلا على نفسه، لا يجني جان ¬

_ (¬1) أبو داود، كتاب الديات، باب لا يؤخذ أحد بجريرة أخيه 4/ 167 ح 4495، والنسائي، كتاب القسامة، باب هل يؤخذ أحد بجريرة غيره؟ 8/ 53، وابن الجارود، باب في الديات ص 292 ح 770، وعند أبي داود: عن أبي رمثة قال: انطلقت مع أبي نحو النبي - صلى الله عليه وسلم -. وعند النسائي: عن أبي رمثة قال: أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - مع أبي. (¬2) أحمد 2/ 226، والحاكم 2/ 425. (¬3) أحمد 3/ 498، والترمذي 4/ 401 ح 2159، وابن ماجه 2/ 890 ح 2669. والحديث ليس عند أبي داود.

على ولده". وأحمد وابن ماجه (¬1) من رواية الخشخاش العنبري نحو حديث أبي رمثة، ولأحمد والنسائي (¬2) معناه من رواية ثعلبة بن زَهْدم، وللنسائي وابن ماجه وابن حبان (¬3) من رواية طارق المحاربي، ولابن ماجه (¬4) من رواية أسامة بن شريك. والحديث فيه دلالة على أنه لا يطالب أحد بجناية غيره، سواء كان قريبًا كالأب والولد أو غيرهما أو أجنبيًّا، فالجاني يطالب وحده بجنايته ولا يطالب بجنايته غيره، وهو كقوله تعالى: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وزْرَ أُخْرَى} (¬5). والجناية الذنب والجرم، وما يفعله الإنسان مما يوجب عليه العقاب أو القصاص في الدنيا والآخرة، ولا يرد على ذلك ما قد ثبت من تحمل العاقلة في جناية الخطأ والقسامة، فإن ذلك ليس من تحمل عقوبة الجناية، وإنما هو من باب النصرة والتعاضد فيما بين المسلمين. ¬

_ (¬1) أحمد 4/ 344، وابن ماجه 2/ 890 ح 2671. (¬2) أحمد 4/ 64، والنسائي 8/ 53. (¬3) النسائي 8/ 55، وابن ماجه 2/ 890 ح 2670، وابن حبان 14/ 517 ح 6562. (¬4) ابن ماجه 2/ 890 ح 2672. (¬5) الآية 164 من سورة الأنعام.

باب دعوى الدم والقسامة

باب دعوى الدم والقسامة القَسَامة بفتح القاف وتخفيف المهملة، وهي مصدر أقسم قسمًا وقسامة، والقسامة هي الأيمان تقسَّم على أولياء المقتول، إذا ادَّعَوا الدم، أو على المدعى عليهم الدم، وخص القسم على الدم بلفظ القسامة، وقال إمام الحرمين (¬1): القسامة عند أهل اللغة اسم للقوم الذين يقسمون، وعند الفقهاء اسم للأيمان. وقال في "المحكم" (¬2): القسامة. الجماعة يقسمون على الشيء أو يشهدون به، ويمين القسامة منسوبة إليهم، ثم أطلقت على الأيمان نفسها، وفي "القاموس" (¬3): القسامة: الجماعة يقسمون على الشيء ويأخذونه أو يشهدون. وفي "الضياء": القسامة الأيمان تقسم على خمسين رجلًا من أهل البلد أو القرية التي يوجد فيها القتيل (أ)؛ لا يعلم قاتله ولا يدعي أولياؤه قتله على أحد بعينه. 988 - عن سهل بن أبي حثمة عن [رجالٍ من كبراء] (ب) قومه، أن عبد الله بن سهل ومحيصة بن مسعود خرجا إلى خيبر من جهد أصابهم، فأتى محيصة فأخبر أن عبد الله بن سهل قد قتل وطرح في عين، فأتى يهود فقال: أنتم والله قتلتموه. قالوا: والله ما قتلناه. فأقبل هو وأخوه ¬

_ (أ) في جـ: العليل. (ب) في الأصل: رجل من كبار.

حويصة وعبد الرحمن بن سهل، فذهب محيصة ليتكلم، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "كبِّر كبِّر". يريد السن، فتكلم حويصة، ثم تكلم محيصة وقال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إما أن يدوا صاحبكم، وإما أن يأذنوا (أ) بحرب". فكتب إليهم في ذلك، فكتبوا: إنا والله ما قتلناه. فقال لحويصة ومحيصة وعبد الرحمن بن سهل: "أتحلفون وتستحقون دم صاحبكم؟ ". قالوا: لا. قال: "فيحلف لكم يهود؟ ". قالوا: ليسوا مسلمين. فوداه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من عنده، فبعث إليهم مائة ناقة، قال سهل: فلقد ركضتني منها ناقة حمراء. متفق عليه (¬1). سهل هو أبو محمد، ويقال: أبو يحيى. ويقال: أبو عمارة. ويقال: أبو عبد الرحمن. وهو بالسين المهملة، ابن أبي حثمة، وأبو حثمة عبد الله بن ساعدة بن عامر بن الأوس الأنصاري، وقال المصنف رحمه الله تعالى في "الفتح" (¬2): اسمه عامر بن ساعدة بن عامر. ويقال: اسم أبيه عبد الله، واشتهر هو بالنسبة إلى جده، وهو من بني حارثة؛ [بطن من] (ب) الأوس. وحثمة بالحاء المهملة المفتوحة وسكون الثاء المثلثة، ولد سنة ثلاث من الهجرة، سكن الكوفة، وعداده في أهل المدينة، كانت وفاته في زمن مصعب بن الزبير، روى عنه أبو هريرة ونافع بن جبير وعبد الرحمن بن مسعود. ¬

_ (أ) في مصدر التخريج: يؤذنوا. (ب) في الأصل: حارثة بن مطر بن الأوس. وينظر الإِصابة 3/ 195.

قوله: عن رجال من كبراء قومه. كذا في رواية لمسلم، وفي رواية لمسلم (¬1) عن مالك: أنه أخبره عن رجل من كبراء قومه. وفي رواية الشافعي (¬2): أنه أخبره هو ورجال من كبراء قومه. وفي رواية أبي داود (¬3): عن سهل ورافع بن خديج. وفي رواية البيهقي (¬4): عن بُشير بن يسار مولى بني حارثة، أن رافع بن خديج وسهل بن أبي حثمة وسويد بن النعمان حدثوه. وفي كثير من الروايات للبخاري ومسلم والبيهقي (¬5) وغيرهم من دون توسيط لأحد. وقوله: أن عبد الله بن سهل ومحيصة. وهو بضم الميم وفتح الحاء المهملة وكسر الياء المشددة التحتانية وفتح الصاد المهملة، وهو ابن مسعود، ومحيصة ابن عم عبد الله بن سهل بن زيد، ومحيصة بن مسعود بن زيد. وقوله: خرجا. وجاء في رواية البخاري: انطلقوا إلى خيبر. وهي محمولة على أنه كان معهما [تَابِعٌ] (أ)، وقد وقع في رواية محمد بن إسحاق (¬6): فخرج عبد الله بن سهل في أصحاب له يمتارون تمرًا. وزاد في ¬

_ (أ) في الأصل، جـ: نافع. والمثبت من الفتح 12/ 233.

رواية لمسلم (¬1): في زمن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهي يومئذ صلح وأهلها يهود. وقوله: في جهد. بفتح الجيم وضمها بمعنى الطاقة والمشقة. وقوله: فأتى محيصة. يعني إلى عبد الله بن سهل، يعني بعد أن تفرقا كما هو في رواية البخاري. وقوله: فأخبر، وفي رواية (¬2): ثم إذا محيصة يجد عبد الله بن سهل قتيلًا، ويمكن الجمع بأنه أخبرنا أولًا ثم طلبه فوجده قتيلًا، وفي رواية (¬3): يتشحط في دمه قتيلًا. أي يضطرب فيتمرغ في دمه، فدفنه. وقوله: فطرح في عين. في البخاري (¬4) بالشك: فقير. بفاء مفتوحة ثم قاف مكسورة؛ أي حفير أو عين. وفي رواية ابن إسحاق: فوجد في عين قد كسرت عنقه وطرح فيها. وقوله: "كبِّر كبِّر". بصيغة الأمر، والثاني تأكيد للأول، وفي رواية البخاري: "الكُبْرَ الكُبْرَ". بضم الكاف وسكون الباء الموحدة وهو منصوب على الإغراء. وقوله: يريد السن. المراد به: يتكلم من كان أكبر سنًّا، وكان محيصة أصغر من حويصة، وفي رواية يحيى بن سعيد (¬5): أن الذي تكلم عبد ¬

_ (¬1) مسلم 3/ 1293 ح 1669/ 3. (¬2) مسلم 3/ 1291 ح 1669/ 1. (¬3) البخاري 6/ 275 ح 3173 بلفظ: "يتشمط". (¬4) البخاري 13/ 184 ح 7192. (¬5) مسلم 3/ 1291 ح 1669/ 1، 2.

الرحمن. وكان عبد الرحمن بن سهل أصغر القوم مع أنه وليّ الدم، إلا أنهم لما كانوا متعاضدين في طلب الدم، كانوا في حكم المستحقين له. وقوله: فتكلم حويصة. [هو بضم] (أ) الحاء المهملة وتشديد الياء مصغرًا، وقد روي التخفيف في الاسمين معًا ورجحه طائفة. وقوله: وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إما أن يدوا صاحبكم" إلخ. قد يستدل (ب) به للحنفية في أن الدعوى في القتل تصح على غير معين؛ لأن الأنصار ادَّعَوا على اليهود أنهم قتلوا صاحبهم، وسمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دعواهم، وأجيب بأن هذا الذي ذكره الأنصار ليس على صورة الدعوى بين الخصمين، وإنما هو إخبار بما وقع، فذكر لهم قصة الحكم على التقديرين، ومن ثَمَّ كتب إلى يهود بعد أن دار بينهم الكلام المذكور، ويؤخذ منه أن مجرد الدعوى لا توجب إحضار المدعى عليه ما لم يظهر ما يقوي الدعوى. وقوله: "إما أن يدوا صاحبكم". يؤخذ منه أن المتعين في القسامة هو الدية، ولا يثبت بها القصاص. وقوله: "وإما أن يأذنوا بحرب من الله". فيه دلالة على أن من أبى من تسليم ما يجب عليه يجوز محاربته، وأن ذلك يكون نقضًا للذمة في حق من عقدت له؛ لأنها كانت صلحًا وأهلها يهود. وقوله: فكتبوا: إنا والله ما قتلناه. فيه دلالة على الاكتفاء بالكتابة وبخبر الواحد مع إمكان المشافهة. ¬

_ (أ) ساقطة من: جـ. (ب) في جـ: استدل.

وقوله: "أتحلفون وتستحقون دم صاحبكم؟ " إلى آخره. الحديث فيه دلالة على مشروعية القسامة، وأصل من أصول الشرع وقاعدة من قواعد الإسلام، وركن من مصالح العباد، وبه أخذ جماهير الأئمة والسلف من الصحابة والتابعين وعلماء الأمة وفقهاء الأمصار من الحجازيين والكوفيين والشاميين، وإن اختلفوا في صورة الأخذ به على ما يأتي تفصيله، ولم تر الأخذ به طائفة من السلف، ولم يروا القسامة، ولم يثبتوا [بها] (أ) حكمًا؛ منهم الحكم بن عتيبة وأبو قلابة وسالم بن عبد الله وسليمان بن يسار وقتادة ومسلم بن خالد وإبراهيم بن علية، واليه ينحو البخاري -إلا أن المصنف رحمه الله تعالى قال (¬1): الذي يظهر أن البخاري لا يضعف القسامة من حيث هي، إلا أنه يوافق الشافعي في أنه [لا قود بها] (ب)، ويخالفه في أن اليمين تكون على المدعى عليه؛ لأن الروايات اختلفت في ذلك، فترجع على المتفق عليه أن اليمين على المدعى عليه- وعمر بن عبد العزيز باختلاف عنه. قالوا: لأن القسامة مخالفة لأصول الشرع المجمع على صحتها: فأولًا: أن الشرع ورد أنه لا يجوز الحلف إلا على ما علِمه قطعًا، أو شاهده حسًّا، وقد ورد في هذا الحكم تحليف أولياء الدم، وهم لم يشهدوا القتل، وهذا على قول غير الحنفية. ومنها: أن من الأصول أن الأيمان ليس لها تأثير في إثبات الدم. ¬

_ (أ) في الأصل: لها. (ب) في الأصل: لا يوديها.

ومنها: أن من الأصول أن البينة على المدعي، واليمين على المنكر. ومنها: أن هذا الحديث لم يكن فيه حكم من النبي - صلى الله عليه وسلم - بالقسامة، وإنما كانت حكمًا جاهليًّا فتلطف لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليريهم كيف لا يلزم الحكم بها على أصول الإسلام. والجواب عن مخالفة الأصول، بأن سنة القسامة سنة بنفسها منفردة مخصصة للأصول كسائر السنن المخصصة للحاجة إلى شرعيتها، حياطة لحفظ الدماء وردع المعتدين، وذلك لأن القتل لما كان يكثر، وقد يقل حضور الشهود عليه؛ لأن القاتل إنما يتحرى بالقتل مواضع الخلوات، ويترصد أوقات الغفلات -جعلت هذه السنة حفظًا للدماء، فصارت أصلًا مستقلا يتبع و (أ) يستعمل، ولا تطرح سنة بسنة، وعدَّى اعتبار هذه المصلحة الإمام مالك في حق الأموال أيضًا، فإنه أجاز شهادة المسلوبين على السالبين، وإن كانوا مدَّعين؛ لأن قاطع الطريق إنما يفعل ذلك مع الغفلة والانفراد عن الناس، ولعله يقول بمثل ذلك في حق المسروق، فإن الشهادة على السرقة متعذرة بحسب الأغلب. ثم الجمهور القائلون بثبوت القسامة اختلفوا، هل يجب فيها القود أو الدية؟ فذهب معظم الحجازيين إلى إيجاب القود بها إذا كمل شروطها، وهو قول الزهري، وربيعة، وأبي الزناد، ومالك، والليث، والأوزاعي، والشافعي في أحد قوليه، وأحمد، وإسحاق، وأبي ثور، وداود، وروي ذلك عن بعض الصحابة كابن الزبير، واختلف عن عمر بن عبد العزيز، ¬

_ (أ) زاد في الأصل: لا.

وقال أبو الزناد: قتلنا بالقسامة والصحابة متوافرون، إني لأرى أنهم ألف رجل، فما اختلف منهم اثنان. قال المصنف رحمه الله تعالى (¬1): إنما نقل ذلك أبو الزناد عن خارجة بن زيد بن ثابت، كما أخرجه سعيد بن منصور والبيهقي (¬2) من رواية عبد الرحمن أبي الزناد عن أبيه، وإلا فأبو الزناد لا يثبت أنه رأى [عشرين] (أ) من الصحابة فضلًا عن ألف، وحجتهم حديث الباب، وهو قوله: "أتحلفون وتستحقون دم صاحبكم؟ ". وفي رواية عند مسلم (¬3): "يقسم خمسون منكم على رجل منهم فيدفع برمته". وأن هذا يدل على القصاص، فإن استحقاق الدم منهم منه، أنه إذا كان القتل عمدًا استحق القصاص، فإنه موجب القصاص، ولا سيما رواية: "يدفع برمته". فإن هذا العطف مستعمل في دفع القاتل إلى أولياء القتول للقتل، مع أن قوله: "دم صاحبكم". يحتمل أن يراد بالصاحب القاتل، والإضافة للملابسة التي بينهم باعتبار ما لزمه من الحق، ويفسره رواية قوله: "فيدفع برمته". وقول هؤلاء: إنه يبدأ في التحليف بالمدعين. كما في هذه الرواية، وكما في حديث أبي هريرة (¬4): "البينة على المدعي، واليمين على المدعى عليه، إلا القسامة". وفي إسناده لين، ويتأيد ذلك بأن جنبة المدعي إذا قويت بشهادة ¬

_ (أ) في الأصل، جـ: عشرة. والمثبت من مصدري التخريج.

أو شبهة صارت اليمين له، وههنا الشبهة قوية، فصار المدعي في القسامة مشبهًا بالمدعى عليه المؤيد بالبراءة الأصلية مما ادعي عليه، وهذه الشبهة التي مع المدعي مؤيدة لصحة دعواه حتى كأن الظاهر معه. وذهب الهدوية، والثوري، وأبو حنيفة وأصحابه، والكوفيون، وكثير من أهل البصرة، وبعض أهل المدينة، والأوزاعي، إلى أنه يحلف المدعى عليهم ولا يمين على المدعين، فيحلف خمسون رجلًا من أهل القرية خمسين يمينًا: ما قتلناه ولا علمنا قاتله. فإن حلفوا، فقال الكوفيون والهدوية: يلزمهم الدية. واحتجوا بما روي عن زياد بن أبي مريم، أن رجلًا قال للرسول - صلى الله عليه وسلم -: إن أخي قتل بين قريتين، فقال له الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "يحلف منهم خمسون رجلا". فقال: ما لي من أخ غير هذا! فقال: "نعم، ومن الإبل مائة" (¬1). وما أخرجه البيهقي (¬2) عن أبي سعيد، أن قتيلًا وجد بين حيين، فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يقاس إلى أيهما أقرب، فوجد أقرب إلى أحد الجانبين (أ) بشبر. قال أبو سعيد: كأني أنظر إلى شبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فألقى ديته عليهم. وأخرج (2) عن أبي إسرائيل الملائي نحوه. قال البيهقي: تفرد أبو إسرائيل عن عطية العوفي بذلك، وكلاهما لا يحتج به. وأخرج أيضًا (ب) البيهقي (¬3) عن الشعبي، أن ¬

_ (أ) في البيهقي: الحيين. (ب) في جـ: الصيا و، وبعده في الأصل: و.

قتيلًا وجد في خربة وادعة همدان، فرفع إلى عمر بن الخطاب، فأحلفهم خمسين يمينًا: ما قتلنا، ولا علمنا قاتلًا. ثم غرَّمهم الدية، قال: يا معشر همدان، حقنتم دماءكم بأيمانكم، فما يُبطل دم هذا الرجل المسلم؟ وأخرج عبد الرزاق وابن أبي شيبة والبيهقي (¬1) عن الشعبي، أن قتيلًا وجد بين وادعة وشاكر، فأمرهم عمر بن الخطاب أن يقيسوا ما بينهما، فوجدوه إلى وادعة أقرب، فأحلفهم عمر خمسين يمينًا؛ كل رجل: ما قتلته، ولا علمت قاتلًا. ثم أغرمهم الدية، فقالوا: يا أمير المؤمنين، لا أيماننا دفعت عن أموالنا، ولا أموالنا دفعت عن أيماننا. فقال عمر: كذلك الحق. وأخرج البيهقي (¬2) عن الشعبي، أنه قُتل رجل، فأدخل عمر بن الخطاب الحِجر المدعَى عليهم خمسين رجلًا، فأقسموا: ما قتلنا، ولا علمنا قاتلًا. وأخرج الدارقطني والبيهقي (¬3) عن سعيد بن المسيب قال: لما حج عمر حجته الأخيرة وجد رجلا من المسلمين قتيلا بفناء وادعة، فقال لهم: [هل] (أ) علمتم لهذا القتيل قاتلا منكم؟ قالوا: لا. فاستخرج منهم خمسين شيخًا فأدخلهم الحطيم فاستحلفهم بالله رب هذا البيت الحرام، ورب هذا ¬

_ (أ) في الأصل: قد.

البلد الحرام، ورب هذا الشهر الحرام، لم تقتلوه، ولا علمتم له قاتلا. فحلفوا بذلك، فلما حلفوا قال: أدوا ديته مغلظة. قال رجل منهم، يا أمير المؤمنين، أما تجزيني يميني من مالي؟ قال: إنما قضيت عليكم بقضاء نبيكم - صلى الله عليه وسلم -. قال البيهقي (¬1): رفعُه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - منكَر، وفيه عمر بن [صُبْح] (أ) (¬2). أجمعوا على تركه. وأخرج مالك والشافعي وعبد الرزاق والبيهقي (¬3) عن سليمان بن يسار وعراك بن مالك، أن رجلًا من بني سعد بن ليث أجرى فرسًا، فوطئ على أصبع رجل من جهينة، فنُزي منها فمات، فقال عمر بن الخطاب للذين ادعي عليهم: أتحلفون بالله خمسين يمينًا ما مات منها؟ فأبوا وتحرجوا من الأيمان؛ فقال للآخرين: احلفوا أنتم. فأبوا، فقضى عمر بشطر الدية على السعديين. وأخرج ابن أبي شيبة (¬4) عن الحسن، أن أبا بكر وعمر والجماعة الأولى لم يكونوا يقتلون بالقسامة. وأخرج عبد الرزاق وابن أبي شيبة والبيهقي (¬5) عن عمر، أن القسامة إنما توجب العقل ولا تشيط الدم. تشيط بالشين المعجمة: أي لا تهلك الدم رأسًا بحيث تهدره. فهذه الأحاديث مصرحة بتحليف المدعى عليهم وتغريمهم الدية بعد اليمين، والجواب من جانب الأولين بأن الحديثين فيهما المقال، والآثار المروية ¬

_ (أ) في الأصل، جـ: صبيح. والمثبت من البيهقي ومصادر الترجمة.

عن عمر لا تعارض الحديث الصحيح وحديث أبي هريرة المصرح بمخالفة القسامة لغيرها من الأحكام، وقد يجاب عنه بأن في رواية البخاري (¬1) ذكر يمين اليهود من غير ذكر يمين الأنصار، ذكره في باب القسامة. وفي رواية يحيى بن سعيد تقديم أيمان المدعين، فتعارضت الروايتان، ومع التعارض يرجع إلى الترجيح، والراجح موافق القياس، وهو أحاديث تقديم يمين المدعى عليهم. وذهب بعض أهل الكوفة، وكثير من أهل البصرة، وبعض أهل المدينة، والأوزاعي إلى أنهم إن حلفوا اليمين برئوا، وإن نقصوا عن الخمسين أو نكلوا حلف المدعون على رجل واحد واستحقوا، وإن نقصت أيمانهم عادت الدية. وقال الزهري: إذا نكل منهم واحد بطلت الدية في حق الجميع. وقال عثمان البتى من فقهاء البصرة: يبدأ المدعى عليهم بالأيمان، فإن حلفوا فلا شيء عليهم. واعلم أن القسامة لا تثبت بمجرد دعوى القتل على المدعى عليهم من دون شبهة إجماعًا، إلا ما روي عن الأوزاعي، فإنه قال: وجود الإنسان في محلة، وإن لم يكن عليه أثر قتل ونحوه، يوجب القسامة. وروي عن داود أيضًا. وأما مع الشبهة فاختلف العلماء بما تثبت به القسامة منها؛ فذهب أبو حنيفة وأصحابه والهدوية إلى أن الذي تثبت به القسامة هو وجود الميت وبه أثر القتل في محل يختص بمحصورين، فالقسامة تثبت عليهم إذا لم يدع المدعي على غيرهم ولا تثبت في غيرها. قالوا: لأن الأحاديث وردت في ¬

_ (¬1) البخاري 12/ 229، 230.

مثل هذه الحالة. وذهب مالك والليث والشافعي إلى أنه لا يثبت بهذا قسامة، إلا إذا كان بين المقتول وبين أهل تلك المحلة عداوة، كما كان في قضية خيبر؛ لأنه قد يقتل الرجل الرجل ويلقيه في محلة طائفة لينسب إليهم، قال الإمام المهدي: قلنا: لم يثبت اللوث في أخبار القسامة، والبيان لا يجوز تأخيره عن وقت الحاجة. وقد يجاب عنه بأن في قصة خيبر قد ثبت ذلك، وهي أصح ما ورد في الباب، وذهب المشترطون للَّوث إلى أنه لا بد من الاقتران بشبهة تغلب الظن بالحكم بها، وذكروا من ذلك ست صور: الأولى: أن يقول المقتول في حياته: دمي عند فلان، إذ هو قتلني أو ضربني. وإن لم يكن به أثر، أو يقول: جرحني. ويذكر العمد، فهذا موجب للقسامة عند مالك والليث (أ)، وادعى مالك أنه مما أجمع عليه الأئمة قديمًا وحديثًا. قال القاضي [عياض] (ب) (¬1): ولم يقل بهذا من فقهاء الأمصار (جـ) غيرهما، ولا روي عن غيرهما، وخالفا في ذلك العلماء كافة، واشترط بعض المالكية وجود الأثر والجرح في كونه قسامة، واحتج مالك بقصة بقرة بني إسرائيل: {فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا} (¬2). قال: فحيي الرجل وأخبر بقاتله. والجواب بأن ذلك معجزة لنبي، وتصديقها قطعي يقيني ¬

_ (أ) زاد في جـ: والأوزاعي. (ب) في الأصل، جـ: أبو بكر بن العربي. (جـ) زاد بعده في الأصل، جـ: و. والمثبت موافق لما في الفتح.

فِعْلي، واحتج أصحاب مالك أيضًا بأن القاتل يطلب غفلة الناس، فلو لم يُقبل خبر المجروح أدى ذلك إلى إبطال الدماء غالبًا. قالوا: ولأنها حالة يتحرى فيها المجروح الصدق، ويتجنب الكذب والمعاصي، ويتزود التقوى والبر، فوجب قبول قوله. واختلف المالكية في أنه هل يُكتفى في الشهادة على قوله بشاهد أم لا بد من اثنين؟ الثانية: شهادة من ليسوا عدولًا أو شاهد واحد، وقد قال هذا مالك والليث. الثالثة: إذا شهد عدلان [بالجرح، فعاش] (أ) بعده أيامًا ثم مات قبل أن يصح من ذلك؛ فقال مالك والليث: هو لوث تثبت به القسامة. وقال الشافعي وأبو حنيفة، وهو قول الهدوية: إنه يثبت بذلك القصاص. الرابعة: أن يوجد المتهم عند المقتول، أو قريبًا منه، أو آتيًا من جهته ومعه آلة القتل، وعليه أثره من لطخ دم أو غيره، وليس هناك سَبُعٌ ولا غيره مما يمكن إحالة القتل عليه، أو تفرق جماعة عن قتيل، فهذا لوث يوجب القسامة عند مالك والشافعي. الخامسة: أن يقتتل طائفتان، فيوجد بينهما قتيل، ففيه القسامة عند مالك والشافعي، وفي رواية عن مالك أن القسامة تكون على الطائفة التي ليس هو منها، وإن كان من غير الطائفتين كان عليهما، وكذا عند الهدوية، وإذا كانت جراحته مما تختص بإحدى الطائفتين كالرمي ونحوه كانت ¬

_ (أ) في الأصل: فالجرح يقاس.

القسامة على أهل جراحته. السادسة: أن يوجد الميت في زحمة الناس، قال الشافعي: تثبت به القسامة وتجب به الدية. وقال مالك: هو هدر. وقال الثوري وإسحاق: تجب ديته في بيت المال. وروي مثله عن عمر وعلي (¬1)، وذهب داود إلى أن القسامة لا تثبت إلا إذا وجد القتيل في مدينة أو قرية كبيرة وهم أعداء للمقتول، وهو رواية عن أحمد ليكون مثل قضية أهل خيبر. ثم اعلم أنه على قول من يقول: إنه يستحق القود بالقسامة؛ إن كانت الدعوى على واحد معين ثبت القود عليه، وإن كانت الدعوى على جماعة حلفوا عليهم. وتثبت [عليهم] (أ) الدية على الصحيح عند الشافعي، وعلى قول للشافعي يجب القصاص عليهم، وقال أشهب وغيره: يحلف الأولياء على من شاءوا ولا يقتلون إلا واحدا يختاره الورثة، ويسجن الباقون عامًا، ويضربون مائة مائة. وهو قول لم يُسبق إليه، والأيمان إنما هي أيمان الورثة، ويلزمهم الأيمان ذكورًا كانوا أو إناثًا، عمدًا كان أو خطأ. هذا مذهب الشافعي، وبه قال أبو ثور وابن المنذر، ووافق مالك إذا كان القتل خطأ، وأما في العَمْد فقال: يحلف الأقارب خمسين يمينًا، ولا يحلف النساء ولا الصبيان. ووافقه ربيعة والليث والأوزاعي وأحمد وداود وأهل الظاهر، وإن كان الوارث واحدًا حلف خمسين يمينًا. وقال مالك: إذا كان ولي الدم ¬

_ (أ) في الأصل: لهم.

واحدًا ضم إليه آخر من العصبة، ولا يستعان بغيرهم. وقال الليث: لم أسمع أحدًا يقول: إنها تنزل عن ثلاثة أنفس. وقال الزهري، عن سعيد بن المسيب: أول من نقص القسامة عن الخمسين معاوية (¬1). قال الزهري: وقضى به عبد الملك، ثم رده عمر بن عبد العزيز إلى الأمر الأول. وقوله: فوداه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من عنده. هكذا وقع [في] (أ) رواية أي [ليلى] (ب). وفي رواية يحيى بن سعيد: فعقله النبي - صلى الله عليه وسلم - من عنده (¬2). أي أعطى ديته. وفي راية حماد بن زيد: من قبله (¬3). بكسر القاف وفتح الموحدة، أي من جهته. وفي رواية الليث: فلما رأى ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - أعطى عقله (¬4). وجاء في البخاري (¬5)، من رواية سعيد بن عبيد، زيادة: من إبل الصدقة. وظاهرها المعارضة لرواية: من عنده. وجمع بعضهم بين الروايتين باحتمال أن يكون اشتراها من إبل الصدقة بمال دفعه مات عنده، أو المراد بقوله: من عنده. من بيت المال المرصد للمصالح، وأطلق عليه اسم الصدقة؛ لما كان معدًّا لمصالح المسلمين. وقد حكى القاضي عياض (¬6) عن ¬

_ (أ) ساقطة من: الأصل. (ب) في الأصل، جـ: يعلى. والمثبت من مصدر التخريج، وينظر الفتح 12/ 235.

بعض العلماء جواز صرف الزكاة في المصالح العامة، واستدل بهذا الحديث وغيره، وقد جاء في حديث أبي [لاس] (أ) قال: حملنا النبي - صلى الله عليه وسلم - على إبل الصدقة في الحج (¬1). وقد قيل: إن زيادة: من إبل الصدقة. يعني في (ب) حديث الباب، غلط، والأولى ألا يُغَلَّطَ الراوي ما أمكن؛ لاحتمال ما ذكر من التأويل، ويحتمل أيضًا أن يكون تسلف ذلك من إبل الصدقة ليدفعه من مال الفيء، أو أن أولياء القتيل كانوا مستحقين للصدقة فأعطاهم، أو أن ذلك من سهم التأليف تألفًا لهم واستجلابا لليهود. 989 - وعن رجل من الأنصار، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أقر القسامة على ما كانت عليه في الجاهلية، وقضى بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين ناس من الأنصار في قتيل ادعوه على اليهود. رواه مسلم (¬2). الحديث فيه دلالة على أن اعتبار القسامة كان ثابتا في الجاهلية، وأقره النبي - صلى الله عليه وسلم -، واستدل بهذا الحديث مَن أثبت القود بالقسامة، قال المصنف رحمه الله تعالى (¬3): وهذا يتوقف (جـ) على أن الجاهلية كانوا يقودون ¬

_ (أ) في الأصل: لابس، وفي جـ: لانس. والمثبت من مصدر التخريج، وينظر أسد الغابة 6/ 265، والفتح 12/ 235. (ب) في جـ: من. (جـ) في جـ: توقيف.

بالقسامة. وأقول: قد جاء في رواية البيهقي (¬1) لهذا الحديث عن أبي سلمة وسليمان بن يسار، عن أناس من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، أن القسامة كانت في الجاهلية قسامة الدم، فأقرها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على ما كانت عليه في الجاهلية، وقضى بها رسهول الله - صلى الله عليه وسلم - بين أناس من الأنصار من بني حارثة ادعوا على اليهود. وقوله: قسامة الدم. يدل على أن الجاهلية كانوا يقيدون بالقسامة، فاستقام استدلال المستدل بالحديث بالزيادة المذكورة في هذه الرواية، وقد أخرج البخاري (¬2) في قصة الهاشمي المقتول، فقال أبو طالب للقاتل: اختر منا إحدى ثلاث؛ إن شئت أن تؤدي مائة من الإبل، فإنك قتلت صاحبنا خطأ، وإن شئت حلف خمسون من قومك أنك لم تقتله، فإن أبيت قتلناك به. فهذا يدل على ثبوت القتل بالقسامة في الجاهلية أيضًا، والله أعلم. ¬

_ (¬1) البيهقي 8/ 122. (¬2) البخاري 7/ 155 ح 3845.

باب قتال أهل البغي

باب قتال أهل البغي البغي مصدر بغى عليه، بفتح الغين المعجمة، بغيًا بفتح الباء وسكون المعجمة: علا وظلم وعدل عن الحق، وله معان كثيرة، وفي الاصطلاح: هو الخروج عن طاعة الإمام وترك الانقياد، أو منع حق إليه، أو منعه من قبض ما استحق قبضه أو من إقامة ما أمره إليه، مع محاربته أو العزم عليها، وله تأويل في ذلك. 990 - عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من حمل علينا السلاح فليس منا". متفق عليه (¬1). قوله: "حمل علينا". جاء عند مسلم (¬2) من حديث سلمة بن الأكوع: "من سل علينا السيف". والمراد حمله لقتال المسلمين بغير حق، يكنى به عن المقاتلة أو القتل اللازم لحمل السيف في الأغلب، ويحتمل بقاؤه على معناه الحقيقي، أي: حمله لإرادة القتال به؛ لقرينةِ قوله: "علينا". وقوله: "فليس ما". أي على طريقتنا، أو: ليس متبعًا لطريقتنا؛ لأن من حق المسلم على المسلم أن ينصره ويقاتل دونه لا أن يرعبه بحمل السلاح عليه لإرادة قتاله، ونظيره: "من غشنا فليس منا" (¬3). و: "ليس منا ¬

_ (¬1) البخاري، كتاب الديات، باب قول الله تعالى: {وَمَنْ أَحْيَاهَا ...} 12/ 192 ح 6874، ومسلم، كتاب الإيمان، باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "من حمل علينا السلاح فليس منا" 1/ 98 ح 98. (¬2) مسلم 1/ 98 ح 99. (¬3) تقدم ح 652.

من ضرب الخدود وشق الجيوب" (¬1). وهذا في حق من لا يستحل ذلك، وأما من يستحله، فإنه يكفُر باستحلال المحرم بشرطه، لا بمجرد حمل السلاح، وقد ذهب كثير من السلف إلى إطلاق لفظ الخبر من غير تعرُّضٍ لتأويله، ليكونَ أبلغَ في (أ) الزجرِ، وكان سفيان بن عيينة ينكر على من يصرفه عن ظاهره، ويرى أن الإمساك على تأويله أولى بما ذكرناه. والحديث فيه دلالة على تحريم قتال المسلمين والتشديد فيه، وخروج من قاتل البغاة من أهل الحق بدليل خاص، فيحمل الحديث على البغاة، وعلى من بدأ بالقتال ظالمًا. والله أعلم. 991 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من خرج عن الطاعة وفارق الجماعة ومات، فمِيتته جاهلية". أخرجه مسلم (¬2). قولي: "خرج عن الطاعة". أي: طاعة الخليفة الذي وقع الاجتماع عليه. وقولى: "وفارق الجماعة". المراد بمفارقة الجماعة هو الخروج عن طاعة الإمام الذي قد اتفقت الكلمة عليه وانتظم شمل المسلمين بحياطته. وقولى: "فمِيتَته جماهلية". بكسر الميم، مصدر نوعي مراد بها نوع من الميتات، وهو كونها تشبه موت من مات وهو في الجاهلية، والشبه به ¬

_ (أ) في جـ: من.

محذوف؛ أي [ميتة] (أ) جاهلية منسوبة إلى الجاهل، والمراد بها من مات على الكفر قبل الإسلام، ووجه التشبيه أنه لا لم يكن تحت حكمة الإمام وخرج عن طاعته أشبه الجاهلية من حيث هم فوضى لا إمام لهم. 992 - وعن أم سلمة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "تقتل عمارًا الفئة الباغية". رواه مسلم (¬1). تمام الحديث: "يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار" (¬2). وهو حديث مشهور من حديث أبي قتادة (¬3) وأبي سعيد الخدري وأم سلمة، وأخرجه البخاري (¬4) من حديث أبي سعيد بلفظ: "ويح عمار يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار". وقد أخرجه الترمذي (¬5) من حديث خزيمة بن ثابت، والطبراني من حديث عمر (5) وعثمان (¬6) وحذيفة (¬7) وأبي أيوب (¬8) وزياد (ب) (¬9) وعمرو بن ¬

_ (أ) في الأصل: ميتته. (ب) في جـ: زيادة. وينظر الإصابة 2/ 586.

حزم (¬1) ومعاوية (¬2) وعبد الله بن عمرو (أ) (1) وأبي رافع (¬3) ومولاة لعمار بن ياسر وغيرهم. وقال ابن عبد البر (¬4): تواترت الأخبار بهذا، وهو من أصح الحديث. وقال ابن دحية (1): لا يطعن في صحته، ولو كان غير صحيح لرده معاوية، وإنما قال معاوية: قتله من جاء به. ولو كان فيه شك لرده معاوية وأنكره، حتى أجاب عمرو بن العاص على معاوية، فقال: فرسول الله - صلى الله عليه وسلم - قتل حمزة؟!. ونقل ابن الجوزي (¬5) عن [الخلال] (ب) في "العلل" (¬6) أنه حكى عن أحمد أنه قال: قد روي هذا الحديث من ثمانية وعشرين طريقًا ليس فيها طريق صحيح (جـ). وحكى أيضًا عن [أحمد ويحيى بن معين] (جـ) وابن أبي خيثمة أنهم قالوا: لم يصح (¬7). والحديث فيه دلالة على حقية عمار ومن كان تابعًا له [عمار] (د)، وهو علي رضي الله عنه، وأن معاوية وأهل صفين بغاة على علي رضي الله عنه. ¬

_ (أ) في جـ: عمر. (ب) في الأصل، جـ: خلاد. والمثبت من مصدر التخريج. (جـ) في الأصل: يحيى وأحمد بن معين، وفي جـ: أحمد بن يحيى بن معين. وينظر مصدر التخريج. (د) ساقطة من: الأصل.

993 - وعن ابن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "هل تدري يا بن أم عبد، كيف حكم الله فيمن بغى من هذه الأمة؟ ". قال: الله ورسوله أعلم. قال: "لا يجهز على جريحها، ولا يقتل أسيرها، ولا يطلب هاربها، ولا يقسم فيئها". رواه البزار، والحاكم (¬1) وصححه فوهم؛ لأن في إسناده كوثر بن حكيم وهو متروك، وصح عن علي من طرق (أ) نحوه موقوفًا. أخرجه ابن أبي شيبة والحاكم (¬2). كوثر بن حكيم، قال البخاري (¬3): إنه متروك. وقال ابن عدي (¬4): هذا الحديث غير محفوظ. وقال البيهقي (¬5): كوثر ضعيف. وحديث علي أخرجه البيهقي (1) عن أبي أمامة، قال: شهدت صفين، فكانوا لا يجيزون (¬6) على جريح، ولا يقتلون مولِّيًا، ولا يسلبون قتيلًا. وأخرج البيهقي (5) عن أبي فاختة، أن عليًّا رضي الله عنه أتي بأسير يوم صفين، فقال: لا تقتلني صبرًا. فقال علي رضي الله عنه: لا أقتلك صبرًا ¬

_ (أ) في جـ: طريق.

إني أخاف الله رب العالمين. فخلى سبيله، ثم قال: أفيك خير، [تبايع]؟ (أ) قال الشافعي: والحرب يوم صفين قائمة. قوله: "لا يجهز على جريحها". أي لا يتم قتل من كان جريحا، من: أجهز على الجريح، وجهز؛ أي ثبت قتله وأسرعه وتمم عليه، وفي رواية: "لا يذفف". بالذال المعجمة، وهو في معنى يجهز. والحديث فيه دلالة على جواز قتل الباغي في القتال، وهو مجمع على جوازه؛ لقوله تعالى: {فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي} (¬1). وروي عن الناصر والمرتضى والحسن البصري ومحمد بن عبد الله النفس الزكية وأبي حنيفة، أن قتالهم أفضل من قتال الكفار، قالوا: لما يلحق من (ب) الضرر بالمسلمين من أجلهم، حتى قال الحسن البصري: أما المؤمن فقد ألجمه الخوف وذِكر العَرض على الله تعالى، [وأما الكافر] (جـ) فقد طرده السيف، وأما الغساق فهم في الحجرات يمرحون، وغيرهم اعتبروهم (أ) بأفعالهم الخبيثة. وروي أن أبا حنيفة قال لرجل رجع عن غزو الكفار، وقد قتل أخوه مع محمد بن عبد الله، فقال أبو حنيفة له: خروج أخيك مع محمد بن عبد الله أفضل عندي من خروجك إلى الغزو. فقال له الرجل: هلا خرجت أنت معه. قال أبو حنيفة: كانت عندي ودائع للناس قد تعين عليّ ردها. وأراد بذلك الفقه الذي يحتاج الناس إليه، وتلا قوله تعالى: ¬

_ (أ) غير منقوطة في الأصل، وفي جـ: تتابع. والمثبت من مصدر التخريج. (ب) ساقطة من: جـ. (جـ) ساقط من: الأصل. (د) في جـ: اعتبروهم.

{أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا} (¬1). يعني بموت العلماء (¬2). إلا أن قتالهم إنما يكون بعد تقديم دعائهم إلى الحق وتبيين شبههم؛ لقوله تعالى: {فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} (¬3). وندب تكرير الدعاء ثلاث مرات كما فعل علي رضي الله عنه في يوم الجمل. أخرجه البيهقي (¬4)، أن عليًّا لم يقاتل أهل الجمل حتى دعا الناس ثلاثًا، حتى إذا كان يوم الثالث دخل عليه الحسن والحسين وعبد الله بن جعفر فقالوا: قد أكثروا فينا الجراح. فقال: يا بن أخي، والله ما جهلت شيئًا من أمرهم إلا ما كانوا فيه. وقال: صب لي ماء. فصب له ماء، فتوضأ به ثم صلى ركعتين، حتى إذا فرغ رفع يديه ودعا ربه، وقال لهم: إن ظهرتم على القوم، فلا تطلبوا مدبرًا، ولا تجيزوا على جريح، وانظروا ما حضرت به الحرب من آلته (ب) فاقبضوه، وما كان سوى ذلك فهو لورثته. قال رحمه الله: هذا منقطع، [والصحيح] (جـ) أنه لم يأخذ شيئًا ولم يسلب قتيلًا. ويجب إمهالهم إذا طلبوا المهلة للنظر والتثبت مدة معلومة. وقوله: "لا يجهز على جريحها ولا يقتل أسيرها". حكم خاص بالبغاة مخالف لقتال الكفار؛ وذلك لأن قتلهم إنما هو لدفعهم عن المحاربة. ¬

_ (أ) في مصدر التخريج: آيته، وفي نسخة منه: آنية. وينظر سبل السلام 3/ 503، وما سيأتي الصفحة التالية. (ب) ساقط من: الأصل.

وظاهر قوله: "ولا يطلب هاربها". أنه لا يجوز ذلك ولو كان متحيزًا إلى فئة، وقد ذهب إلى هذا الشافعي، قال: لأن القصد دفعهم في تلك الحال وقد وقع. وذهبت الهدوية وأبو حنيفة والمروزي أن الهارب إلى فئة يقتل؛ إذ لا يؤمن عوده، والحديث يرد عليه، وكذا ما تقدم من كلام علي رضي الله عنه. وقوله: "ولايقسم فيئها". فيه دلالة على أن البغاة لا تغنم أموالهم، وإن أجلبوا بها إلى دار الحرب، وقد ذهب إلى هذا محمد بن عبد الله النفس الزكية والحنفية والشافعية، ويتأيد هذا الحديث ما بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيبة من نفسه" (¬1). وأخرج البيهقي (¬2) عن الدراوردي عن جعفر بن محمد عن أبيه، أن عليًّا رضي الله عنه كان لا يأخذ سلبًا. وأخرج أيضًا (2) عن أبي بكر بن أبي شيبة عن جعفر بن محمد عن أبيه، أن عليًّا يوم البصرة لم يأخذ من متاعهم شيئًا. وأخرج عن أبي أمامة (¬3)، قال: شهدت يوم صفين، وكانوا لا يجيزون على جريح، ولا يقتلون مولِّيًا، ولا يسلبون قتيلًا. وأخرج أيضًا (¬4) عن عرفجة عن أبيه، قال: لا قتل علي رضي الله عنه أهل النهر جال في عسكرهم، فمن كان يعرف شيئًا أخذه، حتى بقيت قدر ثم رأيتها أخذت بعد. وذهب أكثر (أ) العترة وأبو يوسف إلى أنه يغنم ما أجلبوا به من مال وآلة حرب ويخمس؛ لقول علي رضي الله عنه: لكم العسكر وما ¬

_ (أ) بعده في جـ: أهل.

حوى. ويجاب عنه بأن الحديث مصرح بأن أموالهم لا تغنم، وقول علي رضي الله عنه مؤيد للحديث، وهذا المروي عنه لا يقوى على المعارضة. واختلف العلماء في تضمين البغاة ما أتلفوه من الدماء والأموال؛ فذهب الإمام يحيى والحنفية إلى أنهم لا يضمنون ما أتلفوا في القتال؛ لقوله تعالى: {حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} (¬1). ولم يذكر ضمانًا. وأخرج البيهقي (¬2) عن ابن شهاب أنه قال: قد هاجت الفتنة الأولى فأدركت -يعني الفتنة- رجالًا ذوي عدد من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ممن شهد معه بدرًا، وبلغنا أنهم كانوا يرون أن يهدر أمر (أ) الفتنة، ولا يقام فيها على رجل قاتل في تأويل القرآن قصاص فيمن قتل، ولاحد في سباء امرأة سبيت، ولا يرى عليها حد، ولا بينها وبين زوجها ملاعنة، ولا يرى أن [يقذفها] (ب) أحد إلا جلد الحد، ويرى أن ترد إلى زوجها الأول بعد أن تعتد فققضي عدتها من زوجها الآخر، [ويرى] (جـ) أن يرثها زوجها الأول. وأخرج (¬3) عن علي رضي الله عنه، أنه قال يوم الجمل بعد أن أكثر الناس عليه الكلام في ذلك: أرأيتم ما عددتم فهو تحت قدميَّ هاتين. وأخرج (¬4) عن أبي حبيبة مولى طلحة، قال: ¬

_ (أ) في جـ: أمن. (ب) في جـ: يقفوها، وغير منقوطة في الأصل. والمثبت من مصدر التخريج. (جـ) ساقط من: الأصل.

دخلت مع عمران بن طلحة على علي بعدما فرغ من أصحاب الجمل، ثم قال له عليٌّ بعد كلام: إنا لم نقبض أرضكم هذه السنين (أ) إلا مخافة أن ينتهبها الناس، يا فلان، انطلق معه إلى ابن قرظة، مره فليعطه [غلة] (ب) هذه السنين، ويدفع إليه أرضه. وذهب الشافعي -قال في "البحر": وحكاه أبو جعفر عن أصحابنا- إلى أنه يُقتص ممن قتَل البغاة. قال الشافعي (¬1) رحمه الله تعالى: قال الله تعالى: {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا} (¬2). وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما يُحِلُّ دمَ المسلمِ: "وقتلُ نفس بغير نفس" (¬3). وروي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "من اعتبط مسلمًا بقتل فهو قود يده" (¬4). واحتج (¬5) بما رواه محمد بن جعفر، أن عليًّا رضي الله عنه قال في ابن ملجم بعدما ضربه: أطعموه واسقوه، وأحسنوا إساره، فإن عشت فأنا وليُّ دمي؛ أعفو إن شئت، وان شئت استقدت، وان مت فقتلتموه فلا تمثلوا. وقد يجاب عنه بأن ذلك عموم، وقد عارضه إطلاق قوله: "ولا يجهز على جريحها " الحديث. فإن ظاهر الإطلاق أنه سواء كان قد قتل أو لا - والآية الكريمة التقييد بالغاية، يدل المفهوم أنه لا يتبعه بعد الفيء، وهو متأيد أيضًا بما ¬

_ (أ) في جـ: السنة. (ب) في الأصل: غلته، وفي جـ: غالة. والمثبت من مصدر التخريج.

شاع بين الصحابة، كما رواه ابن شهاب. والله أعلم. 994 - وعن عرفجة بن شريح: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "من أتاكم وأمركم جميع يريد أن يفرق جماعتكم فاقتلوه". أخرجه مسلم (¬1). هو عرفجة بن شريح، بضم الشين المعجمة وفتح الراء وسكون الياء وبالحاء المهملة. وقيل: ابن ضريح بضم الضاد المعجمة وفتح الراء وسكون الياء والحاء المهملة. وقيل: ذريح بفتح الذال المعجمة وكسر الراء وبالحاء المهملة. وقيل: صريح بضم الصاد المهملة وفتح الراء وبالحاء المهملة. وقيل: شراحيل. وقيل: سريج. بالسين المهملة والجيم. الكندي، ويقال: الأشجعي. ويقال: الأسلمي. عداده في أهل الكوفة. الحديث فيه [دلالة] (أ) على أن من فرق بين جماعة المسلمين؛ وذلك بأن يخرج عن طاعة الإمام الذي قد اجتمعت عليه كلمة المسلمين، يقتل بعد أن [نُهي] (ب) عن ذلك فلم ينته، فإذا قتل فقد صار دمه هدرًا. ¬

_ (أ) ساقطة من: الأصل. (ب) في جـ: ينهى.

باب قتال الجاني وقتل المرتد

باب قتال الجاني وقتل المرتد 995 - عن عبد الله بن [عمرو] (أ) رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِه فهو شَهِيدٌ". رواه أبو داود والنسائي والترمذي وصححه (¬1). وأخرجه البخاري (¬2) من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص، وأخرجه أصحاب "السنن" وابن حبان والحاكم (¬3) من حديث سعيد بن زيد، وأخرجه مسلم (¬4) من طريق ثابت بن عياض عن عبد الله بن عمرو، وذكر قصة منع عبد الله لعنبسة بن أبي سفيان من إجراء الماء من حائط لآل عمرو بن العاص، وكان المنع لما يدخل عليه من الضرر. والحديث فيه دلالة على أنه يجوز المقاتلة لن قصد أخذ مال غيره بغير حق، سواء كان المال قليلًا أو كثيرًا. وهو قول الجمهور. وقال بعض المالكية: لا تجوز المقاتلة عن المال القليل. قال القرطبي (¬5): سبب الخلاف في ذلك أنه هل ذلك لدفع المنكر، فلا يفترق الحال بين القليل والكثير، أو من ¬

_ (أ) في الأصل، جـ، وبلوغ المرام: عمر. والمثبت من مصادر التخريج.

باب دفع الضرر، فيختلف الحال في ذلك؟ وحكى ابن المنذر (¬1) عن الشافعي أنه من أريد ماله أو نفسه أو حريمه ولم يمكن الدفع إلا بالقتل فله ذلك، وليس عليه عقل ولا دية ولا كفارة، لكن ليس له أن يقصد القتل. قال ابن المنذر (¬2): والذي عليه أهل العلم أن للرجل أن يدفع عما ذكر إذا أريد ظلمًا بغير تفصيل، إلا أن كل من يحفظ عنه من علماء الحديث كالمجمعين على استثناء السلطان؛ للآثار الواردة بالأمر بالصبر على جوره وترك القيام عليه. وفرق الأوزاعي بين الحال التي للناس فيها جماعة وإمام فحمل الحديث عليها، وأما في حال الاختلاف والفرقة فليستسلم ولا يقاتل أحدًا. ويؤيد قول الجمهور ما أخرجه مسلم (¬3) من حديث أبي هريرة بلفظ: أرأيت إن جاء رجل يريد أخذ مالي؟ قال: "فلا تعطه". قال: أرأيت إن قاتلني؟ قال: "قاتله". قال: أرأيت إن قتلني؟ قال: "فأنت شهيد". قال: أرأيت إن قتلته؟ قال: "فهو في النار". وظاهر الحديث إطلاق الأحوال. والله أعلم. 996 - وعن عمران بن حصين قال: قَاتَلَ يَعلَى بن أُمَيَّة رجلًا، فعَضّ أحَدُهما صاحبَه، فَانتزع يده من فمه فنزع ثنيته، فاختصما إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: "يعض أحدكم أخاه كما يعض الفحل، لا دية له". متفق عليه واللفظ لمسلم (3). قوله: فعض أحدهما صاحبه. لم يصرح في الرواية من العاض، ولا من ¬

_ (¬1) الإشراف على مذاهب أهل العلم 2/ 325. (¬2) مسلم 1/ 124 ح 140. (¬3) البخاري، كتاب الديات، باب إذا عض رجلا فوقعت ثناياه 12/ 219 ح 6892، ومسلم، كتاب القسامة، باب الصائل على نفس الإنسان أو عضوه 3/ 1300 ح 1673.

المعضوض، وقد جاء في بعض رواياته (¬1): أن أجيرًا ليعلى عض رجل ذراعه. وجاء في بعضها (¬2): أن رجلًا من بني تميم قاتل رجلًا فعض يده. ويعلى هو من بني تميم، وقد استبعد القرطبي (¬3) أن يكون يعلى مع جلالة قدره عاضًّا، وأجيب بأنه لا استبعاد فقد يكون ذلك في أول إسلامه. وقال النووي (¬4): إن في الرواية الأولى -يعني في مسلم- أن المعضوض يعلى، وفي الرواية الثانية والثالثة أن المعضوض هو أجير يعلى، وقال الحفاظ: الصحيح المعروف أن المعضوض أجير يعلى لا يعلى. قال: ويحتمل أنهما قضيتان جرتا ليعلى ولأجيره في وقت أو وقتين. وتعقبه في "شرح الترمذي" (¬5) بأنه ليس في رواية مسلم ولا رواية غيره في "الكتب الستة" ولا غيرها أن يعلى هو المعضوض لا صريحًا ولا إشارة. قال في "شرح الترمذي": فيتعين أن يكون يعلى هو العاض. وقوله: فانتزع يده. وجاء في رواية لمسلم (¬6): عض ذراع رجل. وجاء في رواية للبخاري (¬7): فعض إصبع صاحبه. وفي الجمع بين الإصبع والذراع بُعْد، ويبعد أن يحمل على تعدد القصة لاتحاد المخرج، إلا أنه يترجح ذكر الذراع؛ فإنها وقعت في رواية بديل بن ميسرة عن عطاء عند مسلم (¬8)، ¬

_ (¬1) مسلم 3/ 1301 ح 1674. (¬2) النسائي 8/ 30. (¬3) الفتح 12/ 220. (¬4) شرح مسلم 11/ 160. (¬5) شرح الترمذي للعراقي -كما في الفتح 12/ 220. (¬6) مسلم 3/ 1300 ح 1673/ 19. (¬7) البخاري 4/ 443 ح 2265. (¬8) مسلم 3/ 1301 ح 1674/ 20.

وكذا في رواية الزهري عن صفوان عند النسائي (¬1)، ووافقه سفيان بن عيينة عن ابن جريج في رواية إسحاق بن راهويه عنه (1)، وفي حديث سلمة بن أمية عند النسائي (¬2)، وانفرد إسماعيل ابن علية عن ابن جريج بلفظ الأصبع (1)، فلا تقاوم الروايات المتعاضدة على ذكر الذراع. وقوله: فنزع ثنيته. وقع بصيغة الإفراد في رواية هشام (¬3)، ووقع في رواية الأكثر للبخاري (¬4): فوقعت ثنيتاه. بصيغة التثنية، وللكشميهني (¬5): ثناياه. بصيغة الجمع، وقد تترجح رواية التثنية؛ لأن رواية الجمع مطابقة لها عند من يجيز في [الاثنين] (أ) صيغة الجمع، ورواية الإفراد تُرَدُّ إليها بحمله على إرادة الجنس، إلا أنه وقع في رواية محمد بن بكر (¬6): فانتزع إحدى ثنيتيه. فهذه مصرحة بالوحدة، والحمل على تعدد الواقعة بعيد لاتحاد الخرج. وقوله: فاختصما. بصيغة التثنية. وفي رواية البخاري (4): فاختصموا. والمراد يعلى وأجيره ومن انضم إليهما ممن يلوذ بهما أو بأحدهما. وفي رواية (¬7): فرفع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -. وفي رواية (¬8): فاستعدى عليه. وفي ¬

_ (أ) في الأصل، جـ: الاثنتين. والمثبت من الفتح 12/ 221.

رواية (¬1): فانطلق. وفي رواية (¬2): فأتينا (أ). وفي رواية: فأتياه (ب). وقوله: "أيعَض". هو بفتح أوله وفتح العين المهملة والضاد المعجمة ثقيلة، وفي رواية (¬3): "يعمد أحدكم إلى أخيه فيعضه". وأصل ماضيه عضِض بكسر الضاد الأولى يعضَض بفتحها في المضارع، فأدغمت ونقلت حركتها إلى ما قبلها. وقوله: "الفحل". المراد به الذكر من الإبل، ويطلق على غيره من ذكور الدواب. وجاء في رواية: "يقضَمها" (¬4). بسكون القاف وفتح الضاد المعجمة على الأفصح، وهو الأكل بأطراف الأسنان. وقوله: "لا دية له". وفي رواية (¬5): فأبطله. وقال: "أردت أن تأكل لحمه؟ ". وفي رواية (3): "ثم تأتي تلتمس العقل؟ لا عقل لها". فأبطلها. وفي رواية (¬6): "تأمرني أن آمره أن يدع يده في فيك تقضمها قضم الفحل، ¬

_ (أ) كذا في الأصل، جـ. وفي الفتح 12/ 221: فأتى. (ب) في جـ: فأتيناه، وفي الفتح 12/ 221: فأتيا.

ارفع يدك حتى يقضمها ثم انتزعها". وفي رواية (¬1): "إن شئت أمرناه فعض يدك، ثم انتزعْها أنت". وفي رواية (¬2): فأهدرها. والحديث فيه دلالة على أن هذه الجناية التي وقعت لأجل الدفع عن الضرر تهدر، ولا ضمان على الجاني، وقد ذهب إلى هذا الجمهور، وقالوا: لا يلزمه شيء؛ لأنه في حكم الصائل. واحتجوا أيضًا بالإجماع على أن من شهر على آخر سلاحًا ليقتله، فدفع عن نفسه فقتل الشاهر، أنه لا شيء عليه، قالوا: ولو جرحه المعضوض في موضع آخر لم يلزمه شيء. وشرط الإهدار أن يتألم المعضوض، وألا يمكنه تخليص يده بغير ذلك، من ضرب شدقه أو فك [لحييه] (أ) ليرسلها، ومهما أمكن التخلص بدون ذلك فعدل عنه إلى الأثقل لم يهدر. وعند الشافعية وجه أنه يهدر على الإطلاق، ووجه أنه لو دفعه بغير ذلك ضمن. وعن مالك روايتان؛ أشهرهما يجب الضمان. وأجابوا عن هذا الحديث باحتمال أن يكون سبب الإهدار شدة العض لا النزع، فيكون سقوط ثنية العاض بفعله لا بفعل المعضوض؛ إذ لو كان من فعل صاحب اليد لأمكنه التخلص من غير قلع، ولا يجوز الدفع بالأثقل مع إمكان الأخف. وقال بعض المالكية: العاض قصد العضو نفسه، والذي استحق [في] (ب) إتلاف ذلك العضو غير ما فعل به، فوجب أن يكون كل ¬

_ (أ) في الأصل، جـ: لحيته. والمثبت موافق لما في الأم 6/ 29، والمغني 12/ 538. (ب) ساقط من: الأصل.

منهما ضامنًا ما جناه على صاحبه، كمن قلع عين رجل، فقطع الآخر يده، ورد عليه بأنه قياس في مقابلة النص، فهو فاسد. وقال بعضهم: لعل أسنانه كانت متحركة فسقطت عقيب النزع. وسياق الحديث يدفع [هذا] (أ) الاحتمال، وتمسك بعضهم بأنها واقعة عين ولا عموم فيها، ورد عليه بأن البخاري (¬1) أخرج من حديث أبي بكر رضي الله عنه، أنه وقع عنده مثل ما وقع عند النبي - صلى الله عليه وسلم - وقضى فيه بمثله. فدل على تعدي الحكم في غير ما ورد فيه. وما شرطه الجمهور في الإهدار إنما هو من باب التقييد بما قد عرف حكمه من القواعد الكلية، وكذا إجراء الحكم في غير جناية الفم، بأن يكون في عضو آخر من باب القياس، وقد قال يحيى بن عمر: لو بلغ مالكًا هذا الحديث لم يخالفه. وكذا قال ابن بطال (¬2). وقال الداودي (¬3): لم يروه مالك؛ لأنه من رواية أهل العراق. وقال عبد الملك: كأنه لم يصح الحديث عنده؛ لأنه أتى من قبل المشرق. قال المصنف (3) رحمه الله تعالى: وهو مسلَّم في حديث عمران، وقد أخرجه مسلم، وأما طريق يعلى بن أمية فرواه أهل الحجاز وحملها عنهم أهل العراق، واعتذر بعض المالكية بفساد الزمان، ونقل القرطبي عن بعض أصحابهم إسقاط الضمان. قال: وضمنه الشافعي، وهو مشهور مذهب ¬

_ (أ) ساقط من: الأصل.

مالك. وتُعقِّب بأن المعروف عن الشافعي أنه لا ضمان، وكأنه انعكس على القرطبي. والله أعلم. 997 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال أبو القاسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لو أن امرأ اطلع عليك بغير إذن فحذفته بحصاة، ففقأت عينه، لم يكن [عليك] (أ) جناح". متفق عليه (¬1)، وفي لفظ لأحمد والنسائي وصححه ابن حبان (¬2): "فلا دية (ب) ولا قصاص". قوله: "اطلع عليك بغير إذن". الحديث فيه دلالة على أن من قصد النظر إلى محل غيره مما لا يجوز الدخول إليه إلا بإذن مالكه -أنه يجوز للمنظور إليه دفعه بما ذكر، وإن فقأ عينه فلا ضمان عليه فيها، وأما إذا كان مأذونًا له في النظر فالجناح غير مرفوع على من جنى على الناظر، وكذا إذا كان المنظور إليه في محل لا يحتاج إلى الإذن منه، ولو نظر منه ما لا يحل له النظر إليه؛ لأن التقصير من المنظور إليه، وقد ذهب إلى هذا الشافعي وغيره. وذهبت المالكية إلى أنه لا يقصد المنظور إليه إضرار العين ولا غيرها، وأنه إن فعل ذلك وجب القصاص والدية، قالوا: لأن المعصية لا تدفع بمعصية. وأجيب بأن هذا الدفع المأذون فيه ليس بمعصية. وقد وافق المالكية في جواز ¬

_ (أ) ساقط من: الأصل. (ب) بعده في جـ: له.

دفع الصائل ولو أدى إلى هلاكه ولا ضمان فيه، والحديث منابذ لقولهم وراد عليهم، وقد أجابوا عنه بأنه وردَّ على سبيل التغليظ والإرهاب، ويجاب عنه بأن النبي - صلى الله عليه وسلم -[جعل] (أ) يَخْتِل -بفتح الياء التحتية وسكون الخاء المعجمة بعدها مثناة مكسورة، من الختل، وهو الإصابة- ليطعنه -بضم العين المهملة بناء على المشهور أن الفعل في المضارع بضم العين وبالفتح للقول، وقيل: هما سواء- فإن ظاهر فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - يدل على أن ذلك على جهة الحقيقة. وقال يحى بن [عمر] (ب) من المالكية: لعل مالكًا لم يبلغه الخبر. واعتل بعض المالكية في تأويل الحديث بالإجماع على أن من قصد النظر إلى عورة غيره أن ذلك لا يبيح فقء عينه ولا سقوط ضمانها، فكذلك إذا كان النظر إلى المذكور وهو في بيته وتجسس الناظر إلى ذلك. ونازع القرطبي في ثبوت هذا الإجماع، وقال: إن الحديث يتناول كل مطَّلع. قال: لأن الحديث المذكور فيه إنما هو مظنة الاطلاع على العورة، فبالأولى نظر العورة المحقق. وقد يجاب بأن النظر إلى البيت غير منحصر في نظر العورة فقط، بل هو عام لنظر الحريم، وما يقصد صاحب البيت ستره من الأمور التي لا يجب اطلاع أحد عليها، فلم يكن ذلك أولى. وقال ابن دقيق العيد (¬1): تصرف الفقهاء في هذا الحكم بأنواع من التصرفات: ¬

_ (أ) في الأصل، جـ: يجعل. والمثبت من الفتح 12/ 244. (ب) في الأصل، جـ: يعمر. والمثبت من الفتح 12/ 245، وينظر شجرة النور الزكية ص 73.

منها: أن يفرق بين أن يكون هذا الناظر واقفًا في الشارع، أو في خالص ملك المنظور إليه، أو في سكة منسدة الأسفل، اختلفوا فيه، والأشهر أن لا فرق، ولا يجوز مد العين إلى حرم الناس بحال، وفي وجه للشافعية أنه لا تفقأ إلا عين من وقف في ملك المنظور إليه. ومنها: أنه هل يجوز رمي الناظر قبل النهي والإنذار؟ فيه وجهان للشافعية؛ أحدهما: لا. على قياس الدفع في البداية بالأهون. والثاني نعم. وإطلاق الحديث يشعر بهذين الأمرين معًا؛ أعني لا فرق بين مواقف الناظر، وأنه لا يحتاج إلى الإنذار، ويدل عليه فعل النبي - صلى الله عليه وسلم -. ومنها: أنه لو سمع إنسان، فهل يلحق السمع بالنظر؟ وفي الحديث إشعار بأنه إنما يقصد العين بشيء خفيف كالمدرى والبندقة والحصاة؛ لقوله: "فحذفته". قال الفقهاء: أما إذا زرقه (¬1) بالنُّشَّاب، أو رماه بحجر يقتله، فقتله، فهذا قتيل يتعلق به القصاص أو الدية. ومما تصرف فيه الفقهاء أن هذا الناظر إذا كان له محرم في الدار أو زوجة أو متاع لم يجز قصد عينه؛ لأن له في النظر شبهة. وقيل: لا يكفي أن يكون له في الدار محرم، إنما يمتنع قصد عينه إذا لم يكن فيها إلا محارمه. ومنها: أنه إذا لم يكن في الدار إلا صاحبها، فله الرمي إن كان مكشوف العورة، ولا ضمان، وإلا فوجهان؛ أظهرهما لا يجوز رميه. ومنها: أن الحرم إذا كانت في الدار مستترات، أو في بيت، ففي وجه ¬

_ (¬1) زرقه: رماه. التاج (ز ر ق).

لا يجوز قصد عينه؛ لأنه لا يطلع على شيء. قال بعض الفقهاء: والأظهر الجواز؛ لإطلاق الأخبار، وأنه لا تنضبط أوقات الستر والتكشف، فالاحتياط حسم الباب. ومها: أن ذلك إنما يكون إذا لم يقصر صاحب الدار، فإن كان بابه مفتوحًا أو ثَم كوة واسعة، أو ثلمة مفتوحة؛ فيُنظَر فإن كان مجتازًا لم يجز قصده، وإن كان وقف وتعمد؛ فقيل: لا يجوز قصده لتفريط صاحب الدار بفتح الباب وتوسيع الكوة. وقيل: يجوز لتعديه بالنظر. وأجري هذا الخلاف فيما إذا نظر من سطح بيته، أو نظر المؤذن من المئذنة، لكن الأظهر ها هنا عندهم جواز الرمي؛ لأنه لا تقصير من صاحب الدار. ثم قال: واعلم أن ما كان من هذه التصرفات الفقهية داخلًا تحت إطلاق الحديث، فهو مأخوذ منها (أ)، وما لا، فبعضه مأخوذ من الأخبار من فهم المعنى المقصود بالحديث، وبعضه مأخوذ من القياس وهو قليل فيما ذكر. انتهى كلامه. واعلم أنه يؤخذ من هذا الحديث صحة قول الفقهاء: إنها تهدم الصوامع المحدثة المعورة، وكذا تعلية الملك إذا كانت معورة، وهو مروي عن القاسم الرسي، ويحتج له بما أخرجه ابن عبد الحكم في " فتوح مصر" (¬1) عن يزيد بن أبي حبيب، قال: أول من بنى غرفة بمصر خارجة بن حذافة، فبلغ ذلك عمر بن الخطاب، فكتب إلى عمرو بن العاص: سلام عليك، أما بعد، فإنه ¬

_ (أ) في هامش الأصل، جـ: أي من الأحاديث.

بلغني أن خارجة بن حذافة بنى غرفة، ولقد أراد أن يطلع على عورات جيرانه، فإذا أتاك كتابي هذا فاهدمها إن شاء الله تعالى، والسلام. والله أعلم. 998 - وعن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن حفظ الحوائط بالنهار على أهلها، وأن حفظ الماشية بالليل على أهلها، وأن على أهل الماشية ما أصابت ماشيتهم بالليل. رواه أحمد والأربعة إلا الترمذي، وصححه ابن حبان (¬1)، وفي إسناده اختلاف. الحديث مداره على الزهري، وقد اختلف عليه؛ فرواه الليث عن الزهري عن ابن محيصة، ولم يذكر أن القضية في ناقة البراء. ورواه مالك في "الموطأ" (¬2) عن الزهري عن حرام بن [سعد] (أ) بن محيصة بلفظ: أن ناقة للبراء دخلت حائط قوم فأفسدت فيه، فقضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن على أهل الأموال حفظها بالنهار، وما أفسدته المواشي بالليل فهو ضامن على أهلها. ¬

_ (أ) في الأصل، جـ: سعيد. والمثبت من مصدر التخريج، وينظر التاريخ الكبير 3/ 101.

ورواه معن بن عيسى (¬1) عن مالك فزاد فيه: عن جده محيصة. ورواه معمر (¬2) عن الزهري عن حرام عن أبيه، ولم يتابع عليه. أخرجه أبو داود وابن حبان (2). ورواه الأوزاعي، وإسماعيل بن أمية، وعبد الله بن عيسى، كلهم (¬3) عن الزهري عن حرام عن البراء، وحرام لم يسمع من البراء. قاله عبد الحق تبعًا لابن حزم (¬4). ورواه النسائي (¬5) من طريق محمد بن أبي حفصة عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن البراء. ورواه ابن عيينة (¬6) عن الزهري عن حرام وسعيد بن المسيب، أن البراء. ورواه ابن جريج (¬7) عن الزهري أخبرني أبو [أمامة] (أ) بن سهل، أن ناقة البراء. ¬

_ (أ) في الأصل، جـ: أسامة. والمثبت من مصدر التخريج.

ورواه ابن أبي ذئب (¬1) عن الزهري قال: بلغني أن ناقة البراء. وأخرجه البيهقي (¬2) من هذه الطرق المذكورة مع الاختلاف. وقال الشافعي (¬3) رحمه الله تعالى: أخذنا به لثبوته واتصاله ومعرفة رجاله. قال البيهقي (¬4): وروينا عن الشعبي عن شريح، أنه كان يُضَمِّن ما أفسدت الغنم بالليل، ولا يُضَمِّن ما أفسدت بالنهار. ويتأول هذه الآية: {وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ} (¬5). وكان يقول: النفش بالليل. وأخرج عن الشعبي قال: أتي شريح بشاة أكلت عجينًا، فقال: نهارًا أو ليلًا؟ قالوا: نهارًا. فأبطله، وقرأ: {إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ}. وقال: إنما النفش بالليل. وفي رواية قتادة عن الشعبي: أن شريحًا رفعت إليه شاة أصابت غزلًا، فقال الشعبي: أبصروه؛ فإنه سيسألهم: أبليل كان أم بنهار؟ فسألهم، فقال: إن كان بليل فقد ضمنتم، وإن كان بنهار فلا ضمان عليكم. قال: وقال: النفش بالليل، والهمل بالنهار. وروى مرة عن مسروق: {إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ}. قال: كان كرمًا، فدخلت فيه ليلًا، فما تركت فيه خضرًا. والحديث فيه دلالة على أنه لا يضمن مالك البهيمة ما جنته في النهار؛ لأنه يعتاد إرسالها بالنهار، ويضمن ما جنته [بالليل] (أ)؛ لأنه يعتاد حفظها ¬

_ (أ) ساقط من: الأصل.

بالليل، وقد ذهب إلى هذا مالك والشافعي، وأطلقه الإمام المهدي في "البحر" لمذهب الهدوية، وحجتهم الحديث والآية الكريمة في قصة داود كذلك، وإن كان الاحتجاج بها مبنيًّا على أن شرع من قبلنا يلزمنا. وذهب أبو حنيفة وأصحابه إلى أنه لا ضمان على أهل الماشية مطلقًا، وحجتهم قوله - صلى الله عليه وسلم -: "العجماء جرحها جبار" (¬1). قال الطحاوي: إلا أن تحقيق مذهب أبي حنيفة، أنه لا ضمان إذا أرسلها مع حافظ، وأما إذا أرسلها من دون حافظ ضمن، وهذا التقييد خارج عن الدليل، وكذلك أصحاب مالك يقيدون قولهم بأنها إذا سرحت الدواب في مسارحها المعتادة للرعي، وأما إذا كانت في أرض مزروعة لا مسرح فيها، فهم يُضَمِّنون ليلًا ونهارًا. وذهب بعضهم إلى أنه يضمن مالكها ما أفسدت ليلًا ونهارًا، قال: لأنه متعدٍّ بإرسالها، والأصول قاضية بأن المتعدي ضامن، وقد ذهب إلى هذا الليث، إلا أنه قال: لا يضمن أكثر من قيمة الماشية. وقول رابع: أنه لا يضمن ما أتلفت مما لا يقدر على حفظه، ويضمن ما أمكنه حفظه. وهو مروي عن عمر رضي الله عنه، وجعل الإمام يحيى الحكم منوطًا باعتياد الحفظ، فإن كان يعتاد الحفظ في النهار والإرسال في الليل انعكس الحكم، وضمن جنايتها نهارًا لا ليلًا، وهو مصادم لحديث ناقة البراء، ولحديث: "العجماء جرحها جبار". وللآية الكريمة، ولعله يقول: إن الحديثين مقيد إطلاقهما بالمعنى المناسب. ثم قال الإمام المهدي بعد ذلك: مسألة: ويضمن الراعي ما أكلت الغنم في مرعاها إذ عليه حفظها، فإن أبعدها ¬

_ (¬1) تقدم ح 472.

عن الزرائع وغفل يسيرًا فتعدت لم يضمن، إذ يعذرون في اليسير مع إبعادها، ولو سرحها ليلًا فدخلت بساتين ذات حيطان وأبواب فلا ضمان؛ إذ التفريط بفتح الأبواب بخلاف الزروع التي بلا حيطان. انتهى. فهذه المسألة لا تستقيم إلا على ما ذكره الإمام يحيى، إذا كان يعتاد حفظها، وهو خارج عن الأقوال الأربعة. 999 - وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه في رجل أسلم ثم تهود: لا أجلس حتى يقتل، قضاء الله ورسوله. فأمر به فقتل. متفق عليه (¬1). وفي رواية لأبي داود (¬2): وكان قد استتيب قبل ذلك. الحديث فيه دلالة على أنه يقتل المرتد عن الإسلام، وأنه يقتل من غير استتابة؛ لقوله: لا أجلس حتى يقتل. وقد جاء في رواية أبي داود التصريح بذلك، بقول معاذ: لا أنزل عن دابتي حتى يقتل. فقتل. إلا أنه في قول أحد الرواة: وكان قد استتيب قبل ذلك. ولأبي داود (¬3) في رواية: فدعاه أبو موسى عشرين ليلة أو قريبًا منها، وجاء معاذ فدعاه، فأبى فضرب عنقه. قال أبو داود: رواه عبد الملك بن عمير عن أبي بردة. فلم يذكر الاستتابة، وكذا ابن فضيل عن الشيباني. وقال المسعودي عن القاسم، يعني ابن عبد الرحمن ¬

_ (¬1) البخاري، كتاب استتابة المرتدين والمعاندين وقتلهم، باب حكم المرتد والمرتدة واستتابتها 12/ 268 ح 6923، ومسلم، كتاب الإمارة، باب النهي عن طلب الإمارة والحرص عليها 3/ 1456 , 1457 ح 1733/ 15. (¬2) أبو داود، كتاب الحدود، باب الحكم فيمن ارتد 4/ 125 ح 4355. (¬3) أبو داود 4/ 125، 126 ح 4356.

في هذه القصة: فلم ينزل حتى ضربت عنقه وما استتابه (¬1). إلا أن الرواية التي لم يذكر فيها الاستتابة لا تعارض ما ذكرت فيها الاستتابة، ولعل معاذًا قد كان بلغه استتابة أبي موسى له. وقد ذهب الجمهور إلى وجوب الاستتابة، واستدل ابن القصار لذلك بالإجماع السكوتي؛ لأن عمر كتب في أمر المرتد: هلا حبستموه ثلاثة أيام، وأطعمتموه كل يوم رغيفًا، لعله يتوب فيتوب الله عليه (¬2). قال: ولم ينكر ذلك أحد من الصحابة، وقد قال الله تعالى: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} (¬3). وذهب الحسن وطاوس وأهل الظاهر، ونقله ابن المنذر (¬4) عن معاذ وعبيد بن عمير -وأشار إليه البخاري، فإنه ذكر البخاري في الباب الآيات التي لا ذكر للاستتابة فيها- إلى أنه لا يستتاب المرتد وأنه يقتل في الحال، قالوا: لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "من بدل دينه فاقتلوه". وبهذه، قصة معاذ. قال الطحاوي: ذهب هؤلاء إلى أن حكم المرتد حكم الحربي الذي بلغته الدعوة، فإنه يقاتل من قبل أن يدعى، قالوا: وإنما تشرع الدعوة لمن خرج عن الإسلام لا عن بصيرة، وأما من خرج عن بصيرة فلا. ثم نقل عن أبي يوسف موافقتهم، لكن قال: إن جاء مبادرًا بالتوبة خلي سبيله ووكل أمره إلى الله. وعن ابن عباس وعطاء: إن كان أصله مسلمًا لم يستتب، وإلا استتيب (¬5). ¬

_ (¬1) أبو داود 4/ 126 ح 4357. (¬2) ينظر سنن سعيد بن منصور 2/ 225 ح 2585، والبيهقي 8/ 206. (¬3) الآية 5 من سورة التوبة. (¬4) الإشراف على مذاهب أهل العلم 3/ 156، ونقل فيه هذا القول عن عبيد بن عمير وطاوس. (¬5) مصنف عبد الرزاق 10/ 164 ح 18690.

ثم اختلف القائلون بالاستتابة، هل يكتفى بالمرة أو لا بد من ثلاث في مجلس، أو في يوم أو في ثلاثة أيام؟ وعن علي (¬1): يستتاب شهرًا. وعن النخعي (¬2): يستتاب أبدًا. كذا نقل عنه، والتحقيق أنه في حق من تكررت منه الردة. وقوله: قضاء الله. يجوز فيه الرفع على خبرية مبتدأ محذوف، ويجوز نصبه على أنه مصدر حذف فعله؛ أي أقضي قضاء الله، والمراد بقضاء الله ورسوله هو قوله - صلى الله عليه وسلم -: "من بدل دينه فاقتلوه". وقد جاء هذا التفسير مصرحًا به في رواية أيوب بعد: قضاء الله ورسوله. أن من رجع عن دينه فاقتلوه. أو قال: "من بدل دينه فاقتلوه". 1000 - وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من بدل دينه فاقتلوه". رواه البخاري (¬3). الحديث فيه دلالة على قتل المرتد إذا لم يرجع إلى الإسلام، ولفظ "من" عام يشمل المذكر والمؤنث (أ)، فتقتل المرأة إذا ارتدت عن الإسلام، والخلاف في ذلك لمن يقول: إن "من" لا تعم المؤنث، وأنها لعموم المذكر، إذ يقول بأنه عموم مخصوص، والقائلون بأنها لا تقتل هم الحنفية، قالوا: ¬

_ (أ) بعده في جـ: عند الأكثر.

لأنه قد ورد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - النهي عن قتل النساء لما رأى امرأة مقتولة، وقال: "ما كانت هذه لتقاتل" (¬1). وأجاب الجمهور بأن "من" عامة للرجال والنساء، وأما النهي المذكور فإنما هو في الكافرة الأصلية كما وقع في سياق قضية (أ) النهي، فيكون النهي مخصوصًا بما فهم من العلة؛ وهو لمَّا كانت لا تقاتل، فالعلة في النهي عن قتلها إنما هو لتركها المقاتلة، وكان ذلك في حق الكفار الأصليين المتحزبين للقتال، وهي عموم قوله: "من بدل". سالمًا عن [المعارض] (ب)، ويؤيد هذا أن ابن عباس راوي الحديث قال: إنها تقتل المرتدة. أخرجه ابن المنذر (¬2). وأخرج أيضًا والدارقطني (¬3) أن أبا بكر الصديق قتل امرأة مرتدة في خلافته والصحابة متوافرون، ولم ينكر ذلك عليه أحد. وهو حديث حسن. وأخرج (¬4) أيضًا مرفوعًا في قتل المرتدة لكن بسند ضعيف. ووقع في حديث معاذ (¬5) بإسناد حسن، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما بعثه إلى اليمن، قال له: "أيما رجل ارتد عن الإسلام فادعه، فإن عاد وإلا فاضرب عنقه، وأيما امرأة ارتدت عن الإسلام فادعها، فإن عادت وإلا فاضرب عنقها". وهو نص في محل ¬

_ (أ) في جـ: قصة. (ب) في الأصل: العارض.

النزاع، فيجب المصير إليه، ويؤيده من جهة النظر أن الكافرة الأصلية تسترق، فتكون غنيمة للمجاهدين، والمرتدة لا تسترق عندهم، فلا تغنم، فلا يترك قتلها، وأيضًا اشتراك الرجال والنساء في الحدود كلها؛ الزنى وغيره، ومن جملة الحدود رجم المحصنة، فهو مخصص [الحديث] (أ) النهي عن قتل النساء. وظاهر الحديث إطلاق التبديل، [فيتناول] (ب) من تنصر بعد أن كان يهوديًّا، وغير ذلك من الأديان الكفرية، وقد ذهب إلى هذا الشافعية، وسواء كان من الأديان التي يقرر عليها بالجزية أم لا؛ لإطلاق هذا اللفظ. وأجاب بعض الحنفية بأن المراد بالتبديل إنما هو بكفر بعد إسلام، وإطلاق الحديث متروك الظاهر اتفاقًا في حق الكافر إذا أسلم، فإنه كان متناولًا له الإطلاق، وبأن الكفر ملة واحدة، فلو تنصر اليهودي لم يخرج عن دين الكفر، فكأن المراد: من بدل دين الإسلام بدين آخر؛ لأن الدين في الحقيقة هو الإسلام، قال الله تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} (¬1). وإن كان ظاهر قوله تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا} (¬2). وظاهره أن غير الإسلام يسمى دينًا، وأنه لن يقبل منه. وأجيب بأن الآية ظاهرة فيمن ارتد عن الإسلام أنه لا يقر على ذلك، ولم يكن في الآية أيضًا أنه لا يقر على جزية، وإنما عدم القبول والخسران في الآخرة، ومع كونه يُقرر بالجزية صادقًا ¬

_ (أ) في الأصل، جـ: بحديث. والمثبت يقتضيه السياق. (ب) في الأصل: فتناول.

عليه أنه لن يقبل منه، وقد أخرج الطبراني (¬1) عن عكرمة عن ابن عباس رفعه: "من خالف في دينه دين الإسلام فاضربوا عنقه". فصرح بدين الإسلام. والحديث شامل للزنديق؛ فيقتل الزنديق ويستتاب كغيره من المرتدين، وكما روي عن علي (¬2) رضي الله عنه، أنه استتاب السبئية الذين قالوا: إنه إله. ثلاثة أيام، وعرض عليهم التوبة وأحرقهم بالنار في اليوم الثالث، وقال: إني إذا رأيت أمرًا منكرا ... أوقدت ناري ودعوت قَنْبَرا وقد ذهب إلى قبول توبة الزنديق العترة والشافعىِ، قال الشافعي في "المختصر": وأي كفر ارتد إليه مما يظهر أو يُسَرُّ من الزندقة وغيرها ثم تاب سقط عنه القتل. وقال: يستتاب الزنديق كما يستتاب المرتد. وعن أبي حنيفة وأحمد روايتان وهو المشهور عن المالكية. وحكي عن مالك: تقبل منه التوبة إذا جاء تائبًا وإلا فلا. وبه قال أبو يوسف، واختاره الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني وأبو منصور البغدادي. وعن بقية الشافعية أوجه كالمذاهب المذكورة، ووجه يفرق بين من كان داعية فلا تقبل توبته، وتقبل ممن كان غير داعية، وذهب ابن الصلاح إلى أنها تقبل توبته ويعزر، فإن عاد قتل بغير استتابة، واحتج القائلون [باستتابتهم] (أ) بقوله تعالى: {إلا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا} (¬3). وبقوله: {اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً} (¬4). فإنهم لم يعاجَلوا بالقتل، بل أُمهلوا حتى حلفوا، ¬

_ (أ) ساقطة من: الأصل، جـ، والمثبت يقتضيه السياق.

فدل على الإمهال للاستتابة، وأن إظهار الأيمان يحصن من القتل، وقد قام الإجماع على أن أحكام الدين على الظاهر، والله يتولى السرائر، وقد قال - صلى الله عليه وسلم - لأسامة: "هلا شققت عن قلبه" (¬1). وقال للذي ساره في قتل رجل: "أليس يصلي؟ ". قال: نعم. قال: "أولئك الذين نهيت عن قتلهم" (¬2). والأحاديث في هذا كثيرة، واستدل لمن لم يقبل التوبة، بأن توبة الزنديق لا تعرف، قالوا: وإنما لم يقتل النبي - صلى الله عليه وسلم - المنافقين للتأليف، والجواب عنه بأن الظاهر من أحوال النبي - صلى الله عليه وسلم - التغاضي عن المنافقين مع ظهور الإسلام وقوة شوكته، وطلب جماعة من الصحابة لقتل من ظهر نفاقه، وإجابته - صلى الله عليه وسلم - في حق البعض بقوله: "أليس يصلي؟ "."أليس يشهد أن لا إله إلا الله؟ " وذلك للاكتفاء بظاهر الإسلام، وإن ظهر منه ما يدل على أن باطنه يخالف ما ظهر منه، وأن الأحكام الشرعية [بنيت] (أ) على المعاملة بالظاهر والله يتولى السرائر، فمهما كانت اليد مع المسلمين، فحكم الإسلام جار عليه. والزنديق بكسر أوله وسكون ثانيه، قال أبو حاتم (¬3): هو فارسي معرب أصله زَنْدَهْ كَرْدْ، أي يقول بدوام الدهر؛ لأن زَنْدَهْ الحياة، وكَرْدْ العمل، ويطلق على من يكون دقيق النظر في الأمور. وقال ثعلب (¬4): ليس في كلام العرب زنديق، وإنما قالوا: زندقي. لمن يكون شديد التحيل، وإذا أرادوا ما ¬

_ (أ) في الأصل: تثبت.

تريد العامة، قالوا: ملحد ودهري. بفتح الدال، أي يقول بدوام الدهر، وإذا قالوا بالضم: أرادوا كبر السن. وقال الجوهري (¬1): الزنديق من الثنوية. كذا قال. وفسره بعض شراح البخاري بأنه الذي يدعي أن مع الله إلها آخر، وتعقب بأنه يلزم منه أن يطلق على كل مشرك، والتحقيق ما ذكره مَن صَنَّف في الملل، أن أصل الزنادقة (أ) اتباع ديصان ثم ماني ثم مزدك، ودَيصان: بفتح الدال المهملة وسكون الياء المثناة من تحت بعدها صاد مهملة، ومانِّي: بتشديد النون وقد تخفف، ومزدَك: بزاي ساكنة ودال مهملة مفتوحة ثم كاف، وحاصل مقالاتهم أن النور والظلمة قديمان، و [أنهما] (أ) امتزجا، فحدث العالم كله منهما، فمن كان من أهل الشر فهو من الظلمة، ومن كان من أهل الخير فهو من النور، وأنه يجب السعي في تخليص النور من الظلمة، وإلى ذلك أشار المتنبي (¬2) حيث قال في قصيدته المشهورة: وكم لظلام الليل عندك من يد ... تُخَبِّر أن المانوية تكذب وكان بهرام جدُّ كسرى تحيل على ماني حتى حضر عنده، وأظهر له أنه قبل مقالته، ثم قتله وقتل أصحابه، وبقيت منهم بقايا اتّبعت مزدَك المذكور، وقام الإسلام والزنديق يطلق على من يعتقد ذلك، وأظهر جماعة منهم الإسلام خشية القتل، ومن ثمَّ أطلق [الاسم] (ب) على كل من أسرَّ الكفر وأظهر الإسلام، حتى قال مالك: الزنديق ما كان عليه المنافقون، وكذا ¬

_ (أ) في الأصل، جـ: إنما. والمثبت من الفتح 12/ 271. (ب) في الأصل، جـ: الإسلام. والمثبت من الفتح 12/ 271.

أطلق جماعة من الفقهاء الشافعية وغيرهم، أن الزنديق هو الذي يظهر الإسلام ويخفي الكفر، فإن أرادوا اشتراكهم في الحكم فهو كذلك وإلا فأصلهم ما ذكر، وقد قال النووي في لغات "الروضة ": الزنديق: الذي لا ينتحل دينًا. وقد قال محمد بن معن في "التنقيب على المهذب": الزنادقة من الثنوية، يقولون ببقاء الدهر وبالتناسخ. قال: ومن الزنادقة الباطنية، وهم قوم زعموا أن الله تعالى خلق شيئًا، ثم خلق منه شيئًا آخر، فدبَّر العالم بأسره، ويسمونهما العقل والنفس، وتارة العقل الأول والعقل الثاني، وهو من قول الثنوية في النور والظلمة، إلا أنهم غيروا الاسمين. قال: ولهم مقالات سخيفة في النبوَّات، وتحريف الآيات، وفرائض العبادات. وقيل: إن سبب تفسير الفقهاء الزنديق بما يفسر به المنافق، قول الشافعي في "المختصر": وأي كفر ارتد إليه. المتقدم، وهذا لا يلزم منه اتحاد الزنديق والمنافق، بل كل زنديق منافق من غير عكس، وقد كان من أطلق عليه في الكتاب والسنة المنافق من يظهر الإسلام ويبطن عبادة الوثن أو اليهودية، وأما الثنوية فلا يحفظ أن أحدًا منهم أظهر الإسلام في العهد النبوي، والله أعلم. ومن تكرر منه الردة والإسلام فتوبته مقبولة عند الأكثر، وقال أبو حنيفة والشافعي: ويعزَّر في الثالثة، وذهب أحمد وإسحاق والمروزي من أصحاب الشافعي إلى أنها لا تقبل منه التوبة؛ لقوله تعالى: {لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا} (¬1). والجواب: أن الآية محمولة على الذين بقُوا على الكفر، لا مَن قد تاب؛ لإطلاق قوله تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ ¬

_ (¬1) الآية 137 من سورة النساء.

{لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} (¬1). وقوله: {لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ} (¬2). 1001 - وعن ابن عباس، أن أعمى كانت له أم ولد تشتم النبي - صلى الله عليه وسلم - وتقع فيه، فينهاها فلا تنتهي، فلما كان ذات ليلة أخذ المعول فجعله في بطنها، واتكأ عليها فقتلها، فبلغ ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: "ألا اشهدوا أن دمها هدْر". رواه أبو داود (¬3) ورواته ثقات. الحديث فيه دلالة على أنه يقتل من سب النبي - صلى الله عليه وسلم - ويهدر دمه، فإن كان مسلمًا كان سب النبي - صلى الله عليه وسلم - ردة عن الإسلام؛ فيقتل، قال ابن بطال (¬4): من غير استتابة. ونقل ابن المنذر (¬5) عن الليث والأوزاعي أنه يستتاب، وإن كان من أهل العهد فإنه يقتل إلا أن يسلم، ونقل ابن المنذر (5) عن الليث [و] (أ) الشافعي وأحمد وإسحاق أنه يقتل أيضًا من غير استتابة، وعن الكوفيين أنه يعزَّر المعاهد ولا يقتل، واحتج الطحاوي على ذلك بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يقتل اليهود الذين قالوا: "السام عليك" (¬6). ولو كان هذا من مسلم لكان ردة؛ لأن ما هم عليه من الكفر أشد من السب، وقد يقال: إن دماءهم إنما حقنت بالعهد، وليس في العهد أنهم يسبون النبي - صلى الله عليه وسلم - فمن سبَّه منهم انتقض عهده، فيصير كافرًا بلا عهد، فيهدر دمه إلا أن يسلم. والله أعلم. ¬

_ (أ) في الأصل: عن.

البدرُ التمام شرح بلوغ المرام للإمام القاضي الحسين بن محمد المغربي (1048 هـ- 1119 هـ) تحقيق علي بن عبد الله الزبن عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية قدم له فضيلة الشيخ صالح بن محمد اللحيدان رئيس مجلس القضاء الأعلى الجزء التاسع

البدرُ التمام شرح بلوغ المرام

حقوق الطبع محفوظة الطبعة الأولى 1428 - هـ-2007 م

كتاب الحدود

بسم الله الرحمن الرحيم كتاب الحدود هو جمع حد، وأصل الحد ما يحجز به بين شيئين، فيمنع اختلاطهما، وحد الدار ما يميزها، وحد الشيء وصفه المحيط [به] (أ) المميز له عن غيره. وسميت هذه العقوبات حدودًا لكونها تمنع عن المعاودة، وكذلك يسمى البواب حدادًا، والحد أيضًا يطلق على التقدير، وهذه العقوبات مقدرة من الشارع، فسميت حدودًا، قال الراغب (¬1): ويطلق الحد على نفس المعاصي؛ كقوله تعالى: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا} (¬2). وعلى فعل فيه شيء مقدر، كقوله تعالى: {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} (¬3). وكأنها لما فصلت بين الحرام والحلال سميت حدودًا، فمنها ما زجر عن فعله، ومنها ما زجر عن الزيادة فيه والنقصان. وقذ حصر بعض العلماء ما قيل بوجوب الحد فيه في سبعة عشر شيئًا، بعضها متفق عليه، وبعضها مختلف فيه. ¬

_ (أ) ساقط من: الأصل.

فالمتفق عليه: الردة، والمحاربة قبل القدرة، والزنى، والقذف به، وشرب الخمر سواء أسكر أم لا، والسرقة. والمختلف فيه: جحد العارية، وشرب ما يسكر كثيره من غير الخمر، والقذف بغير الزنى، والتعريض بالقذف، واللواط ولو بمن يحل له نكاحها، وإتيان البهيمة، والسحاق، وتمكين المرأة غير إنسان كالقرد وغيره من الدواب من وطئها، والسحر، وترك الصلاة تكاسلًا، والفطر في رمضان.

باب حد الزاني

باب حد الزاني 1002 - عن أبي هريرة رضي الله عنه وزيد بن خالد الجهني أنَّ رجلًا من الأعراب أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله، أنشدك الله إلا قضيت لي بكتاب الله. فقال الآخر، وهو أفقه منه: نعم، فاقض بيننا بكتاب الله وأْذن لي. فقال: "قل". قال: إن ابني كان عسيفًا على هذا، فزنى بامرأته، وإني أخبرت أن على ابني الرجم، فافتديت منه بمائة شاة ووليدة، فسألت أهل العلم فأخبروني أنما على ابني جلد مائة وتغريب عام، وأن على امرأة هذا الرجم. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "والذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب الله؛ الوليدة والغنم رد عليك، وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام، واغد يا أنيس إلى امرأة هذا، فإن اعترفت فارجمها". متفق عليه (¬1)، وهذا اللفظ لمسلم. قوله: أنشدك الله. بفتح أوله ونون ساكنة وضم الشين المعجمة؛ أي: أسألك بالله. وضمَّن أنشدك معنى أذكِّرك (1) رافعًا نشيدتي، أي صوتي، هذا أصله، ثم استعمل في كل مطلوب مؤكد، ولو لم يكن هناك رفع صوت، فلا يرد أنه كيف يرفع (ب) صوته عند النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد نهى الله عنه. وذكر ¬

_ (أ) زاد بعده في الأصل: اللَّه. (ب) بعده في جـ: الرجل.

أبو علي الفارسي (¬1) أن بعضهم رواه بضم الهمزة وكسر المعجمة، وهو غلط. وقوله: إلا قضيت لي. إلا للاستثناء، وهو استثناء مفرغ من مفعول أسأل المأخوذ من مفعول معنى أنشدك، والمعنى: لا أسألك إلا القضاء بكتاب الله، ودخل لفظ "إلا" على الفعل المؤول بالمصدر، وإن لم يكن معه حرف مصدري لضرورة افتقار المعنى إليه؛ كما في: تسمع بالمعيدي. و: {وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ} (¬2). ويصح أن يقال: إن الحرف المصدري مقدر. وإن لم يكن هذا من المواضع التي يقدر فيها الحرف، إلا أنه قد جاء في غيرها قليلًا، وجوز المصنف رحمه الله أن تكون "إلا" جواب القسم، قال (¬3): لما فيها من معنى الحصر، وتقديره: أسألك بالله لا تفعل شيئًا إلا القضاء. انتهى. وهذا فيه تجوّز؛ لأن الجواب هو المنفي المقدر، والاستثناء من متعلقات المقدر، وليس هو الجواب في الحقيقة، وسؤال الأعرابي القضاء بكتاب الله؛ لأن مقصده بالمناشدة المسارعة [إلى ما طلب] (أ) من إراحته من الخصومة، والمبادرة إلى الالتذاذ بحكم الشريعة السمحة، فقوله: بكتاب الله. لم يكن له مفهوم، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن حكمه إلا بما أوحي إليه، فذكره إنما هو لما ¬

_ (أ) ساقط من: الأصل.

كان حكمه بكتاب الله -وقد كان بعض من جهل حكم الله حكم بخلافه للالتذاذ بذكر المحكوم به- الحق الذي يثلج له الصدر، والمراد بكتاب الله ما حكم به وكتب على عباده، وقيل: القرآن. وحكم الزنى قد عرف من القرآن، وإن كان الرجم غير مصرح به في القرآن، ولكنه قد ثبت في السنة، وحكم السنة واجب بنص القرآن: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} (¬1). أو قد دل عليه إجمالًا بقوله تعالى: {أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا} (¬2). وبيان الإجمال بالسنة وهو الرجم في حق المحصن والجلد في غيره، أو لكونه قد نزلت الآية المنسوخة، وهي: الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما. ولعل القضية قبل النسخ، أو لم يعلم الأعرابي بالنسخ. وقيل: المراد بكتاب الله ما فيه من النهي عن أكل المال بالباطل؛ لأن خصمه كان أخذ منه الغنم والوليدة بغير حق، ورجح المصنف (¬3) رحمه الله تعالى أن المراد بكتاب الله ما يتعلق بجميع أفراد القصة مما وقع به الجواب. قوله: وهو أفقه منه. قال ابن العربي في شرح الترمذي (¬4): يحتمل أن يكون الراوي كان عارفًا بهما قبل أن يتحاكما، فوصف الثاني بأنه أفقه من الأول؛ إما مطلقًا، وإما في هذه القضية الخاصة، واستدل بحسن أدبه في استئذانه وترك رفع صوته، إن كان الأول رفعه، وتأكيده السؤال على فقهه، ¬

_ (¬1) الآية 7 من سورة الحشر. (¬2) الآية 15 من سورة النساء. (¬3) الفتح 12/ 138. (¬4) هذا النقل من شرح الترمذي للعراقي ابن حجر، لا شرح الترمذي لابن العربي، وينظر الفتح 12/ 138، وعارضة الأحوذي 6/ 205 - 210.

وقد ورد أن " ... حسن السؤال نصف العلم" (¬1). قوله: فقال: إن ابني. ظاهر السياق أن القائل هو الثاني، وجزم الكرماني (¬2) بأن القائل هو الأول، واستدل بما وقع في كتاب الصلح عن آدم عن ابن أبي ذئب (¬3): فقال الأعرابي: إن ابني. بعد قوله في أول الحديث: جاء أعرابي. وفيه: فقال خصمه. وهذه الزيادة شاذة، والمحفوظ ما في سائر الطرق كما في رواية سفيان في هذا الباب. قوله: عسيفًا على هذا. زاد شعيب في روايته: والعسيف الأجير (¬4). وهذا التفسير مدرج في الحديث، وكأنه من قول الزهري، وهي عادته في إدخال التفسير، والعسيف بمهملتين الأجير وزنًا ومعنى، والجمع عسفاء كأجراء؛ ويطلق أيضًا على الخادم وعلى العبد وعلى السائل، وقيل: يطلق على من يستهان به. وفسره عبد الملك بن حبيب بالغلام الذي لم يحتلم، وإن ثبت ذلك فإطلاقه على صاحب هذه [القصة] (أ) باعتبار حاله في ابتداء الاستئجار، ووقع في رواية النسائي (¬5) بلفظ: كان ابني أجيرًا لامرأته. ويسمى الأجير عسيفًا؛ لأن المستأجر يعسفه في العمل، والعسف الجور، أو هو بمعنى الفاعل؛ لكونه يعسف الأرض بالتردد إليها، يقال: عسف الليل ¬

_ (أ) في الأصل: القضية. والمثبت من جـ موافق لما في الفتح 12/ 139، وينظر شرح مسلم 11/ 206.

عسفًا. إذا أكثر السير فيه، ويطلق العسف أيضًا على الكفاية، والأجير يكفى المستأجر الأمر الذي أقامه فيه ولفظ "على" في: على هذا. بمعنى عند، وقد جاء في رواية: عسيفًا في أهل هذا (¬1). وكأن الرجل استخدمه فيما تحتاجه امرأته من الأمور فلذلك وقع ما وقع. وقوله: فإني أخبرت. على البناء للمجهول، كذا في رواية الحميدي (¬2)، وفي رواية أبي بكر الحنفي (¬3): فقال لي. وكذا عند أبي عوانة (¬4)، ووقع في رواية عمرو بن شعيب (¬5): فسألت من لا يعلم فأخبرني. وقوله: وخادم (¬6). المراد بالخادم الجارية المعدة للخدمة، وفي رواية: ووليدة (¬7). وقوله: أهل العلم. قال المصنف رحمه الله تعالى (¬8): لم أقف على أسمائهم، ولا على أعدادهم، ولا على اسم الخصمين، ولا الابن ولا المرأة، وفي رواية ابن أبي ذئب (¬9): فزعموا. وفي قوله: جلد مائة. بالإضافة للأكثر، وقرأه بعضهم بتنوين جلد ونصب مائة، ولم يثبت رواية. ¬

_ (¬1) البخاري 12/ 185، 186 ح 6859، 6860. (¬2) مسند الحميدي 2/ 354، 355 ح 811. (¬3) أبو نعيم في مستخرجه -كما في الفتح 12/ 139. (¬4) مسند أبي عوانة 4/ 138 ح 6299، 6300. (¬5) النسائي في الكبرى الموضع السابق. (¬6) هذا لفظ البخاري. (¬7) لفظ مسلم وهو أيضًا لفظ حديث الباب. (¬8) الفتح 12/ 139. (¬9) البخاري 12/ 160 ح 6835، 6836.

وقوله: "والذي نفسي بيده". في رواية مالك (¬1): "أما والذي". وقوله: "لأقضين". بتشديد النون للتأكيد. وقوله: "بكتاب الله". في رواية عمرو بن شعيب: "بالحق". وهي ترجح التفسير الأول بكتاب الله. وقوله: [ردٌّ] (أ) بمعنى مردود من إطلاق المصدر بمعنى اسم المفعول، وفيه دلالة على أن المال في الصلح الباطل لا يحل، وأنه يجب رده. وقوله: "وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام". محمول على أنه - صلى الله عليه وسلم - علم أن الابن لم يكن قد أحصن حتى يجب عليه الرجم، وأنه اعترف بالزنى بناء على أنه كان حاضرًا، وقد جاء في رواية للبخاري (¬2). إن ابني هذا. بالإشارة، أو أنه على تقدير الاعتراف إذا وقع منه، وكذا وقع في رواية عمرو بن شعيب بلفظ: وابني لم يحصن (¬3). وقوله: "واغد يا أنيس". بنون ومهملة مصغرًا، قال ابن السكن في كتاب "الصحابة" (¬4): لم أدر من هو، ولا حدث له رواية ولا ذكر إلا في هذا الحديث. وقال ابن عبد البر (¬5): هو ابن الضحاك الأسلمي. وقيل: ابن مرثد. وقيل: ابن أبي مرثد. وضعف الأخير هذا، بأن أنيس بن أبي مرثد ¬

_ (أ) ساقط من: الأصل.

صحابي مشهور، وهو غنوي، بالغين المعجمة والنون، لا أسلمي، وهو بفتحتين غير مصغر، وغلط أيضًا من زعم أنه أنس بن مالك؛ لأنه أنصاري، لا أسلمي، ووقع في رواية [شعيب] (أ) وابن أبي ذئب (¬1): "وأما أنت يا أنيس -لرجل من أسلم- فاغد". وفي رواية معمر (¬2): لرجل من أسلم، يقال له: أنيس. وفي رواية مالك (¬3): "وأمر أنيسًا الأسلمي أن يأتي امرأة الآخر. والمراد بقوله: "اغد". الغدو والذهاب والتوجه، كما يطلق الرواح على ذلك، لا الذهاب في ذلك الوقت. وقوله: "فإن اعترفت فارجمها". ظاهر الحديث أنه يكفي الاعتراف مرة واحدة كغيره من سائر الأحكام، وقد ذهب إلى هذا أبو بكر والحسن البصري ومالك والشافعي وحماد والثوري والبتي وداود الظاهري، وذهبت العترة وأبو حنيفة وأصحابه وابن أبي ليلى وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه، وهو الراجح عند الحنابلة إلى أنه يشترط في الإقرار بالزنى أن يتعدد أربع مرات كما سيأتي في حديث ماعز، أنه رده أربع مرات، وقد جاء في الرواية من كلام الراوي: فلما شهد على نفسه أربع شهادات. فإن فيه إشعارًا بأن العدد هو العلة في تأخير إقامة الحد عليه، وإلا لأمر برجمه في أول مرة، وفي حديث ابن عباس أخرجه أبو داود (¬4) أنه قال لماعز: "قد شهدت ¬

_ (أ) في الأصل، جـ: عمرو بن شعيب. والمثبت من الفتح 12/ 139.

على نفسك أربع شهادات؛ اذهبوا به فارجموه". ويؤيده القياس على شهود الزنى دون غيره من الحدود. وقد أجيب عن ذلك بأنه قد اضطربت الرواية، فجاء: "أربع مرات". في رواية أبي هريرة (¬1)، وكذا في حديث جابر بن سمرة من طريق أبي عوانة عن سماك: فشهد على نفسه أربع شهادات. أخرجه مسلم (¬2). وأخرجه مسلم (¬3) من طريق شعبة عن سماك، قال: فرده مرتين. وفي أخرى: مرتين أو ثلاثًا. قال شعبة: فذكرته لسعيد بن جبير، فقال: إنه رده أربع مرات. ووقع في حديث أبي سعيد عند مسلم (¬4) أيضًا: فاعترف بالزنى ثلاث مرات. وبأن لم يكن في اللفظ ما يدل على أنه لا يعتبر ما دونها؛ لأنها حكاية فعل. وقوله: "قد شهدت على نفسك أربع مرات". حكاية لما قد وقع منه، فالمفهوم غير معتبر، والقياس على أنه قد اعتبر في الشهادة أربعة فاسد؛ لأن المال اعتبر فيه عدلان والإقرار يكفى فيه مرة واحدة، وحديث أنيس أطلق فيه الاعتراف، وهو يصدق بالمرة الواحدة، فلو كان الأربع معتبرة لذكرها؛ لأنه بيان في وقت الحاجة، وقد يدفع هذا بأنه قد عرف أن الإقرار في الزنى لا بد فيه من أربع مرات (أمن قصة ماعز، وهو محتمل أ)، ¬

_ (أ- أ) ما بينهما ساقط من: جـ.

(أومع تقدير ثبوت أنه وقع في قصة ماعز أربع مرات أ)، فهو يحتمل أن ذلك لزيادة الاستثبات، فإنه جاء عند مسلم (¬1) في قصة الغامدية حيث قالت لما جاءت: طهرني. فقال: "ويحك، ارجعي فاستغفري". فقالت: أراك تريد أن ترددني كما رددت ماعزًا، إنها حبلى من الزنا. فلم يؤخر إقامة الحد عليها إلا لكونها حبلى، فلما وضعت أمر برجمها، ولم يستفسرها مرة أخرى، ولا اعتبر تكرير إقرارها، ولا تعدد المجالس. وقد أجيب عن الاضطراب بالجمع بين الروايات؛ أما رواية: مرتين. [فتحمل] (ب) على أنه اعترف مرتين في يوم واحد ومرتين في يوم آخر؛ لما يشعر به قول بريدة: فلما كان من الغد. فاقتصر الراوي على إحداهما، ومراده اعترف مرتين في يومين، فيكون من ضرب اثنين في اثنين، وقد وقع عند أبي داود (¬2) من طريق إسرائيل عن سماك عن سعيد بن جبير عن ابن عباس: جاء ماعز فاعترف بالزنى مرتين. وأما رواية الثلاث، فكأن المراد الاقتصار على المرات التي رده فيها، فإنه في الرابعة لم يرده، بل استثبت وسأله عن عقله، وقد جاء عند أبي داود (¬3) من حديث أبي هريرة: فشهد على نفسه أنه أصاب امرأة حرائا أربع مرات، لم كل ذلك يعرض عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأقبل في الخامسة، فقال: "أتدري ما الزنى؟ ". والمراد ¬

_ (أ- أ) ما بينهما ساقط من: جـ. (ب) في الأصل: فيحتمل.

بالخامسة الصفة التي وقعت منه عند السؤال والاستثبات؛ لأن صفة الإعراض وقعت أربع مرات، وصفة الإقبال عليه للسؤال وقع بعدها. وتمام الحديث: فغدا عليها فاعترفت فرجمها (¬1). كذا في رواية الأكثر (¬2)، ووقع في رواية الليث (¬3): فاعترفت فأمر بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرجمت. واختصره ابن أبي ذئب (¬4)، فقال: فغدا عليها فرجمها. ونحوه في رواية صالح بن كيسان (¬5)، وفي رواية عمرو بن شعيب (¬6): وأما امرأة هذا فترجم. ورواية الليث أتمها؛ لأنها تشعر بأن أنيسًا أعاد جوابها على النبي - صلى الله عليه وسلم - فأمر برجمها، ويحتمل أن يكون المراد أمره الأول المعلق على اعترافها، فيتحد مع رواية الأكثر. قال المصنف (¬7) رحمه الله تعالى: والذي يظهر أن أنيسًا لما اعترفت أعلم النبي - صلى الله عليه وسلم - مبالغة في الاستثبات، مع كونه كان علَّق له رجمها على اعترافها. ولكنه لا بد من أن يقال: إن أنيسًا أعلم النبي - صلى الله عليه وسلم - ومعه غيره ممن يصح أن يثبت بشهادته حد الزنى. لكنه اختصر ذلك في الرواية، وإن كان قد استدل به بعض بأنه يجوز للحاكم أن يحكم بإقرار الزاني من غير أن يشهد عليه غيره، وأنيسًا قد فوض إليه النبي - صلى الله عليه وسلم - الحكم، وقد يجاب عنه بأنها واقعة عين، ويحتمل أن يكون ¬

_ (¬1) البخاري 12/ 137 ح 6827، 6828. (¬2) يعني روايات صحيح البخاري فالقائل هو المصنف في شرحه الفتح 12/ 140. (¬3) مسلم 4/ 1324، 1325 ح 1697، 1698. (¬4) البخاري 5/ 301 ح 2696، 13/ 185 ح 7193، 7194. (¬5) البخاري 13/ 233 ح 7258، 7259. (¬6) تقدم ص 10. (¬7) الفتح 12/ 142.

أنيس قد أشهد قبل رجمها، قال القاضي عياض (¬1): احتج به قوم بجواز حكم الحاكم في الحدود ونحوها بما أقر به الخصم عنده. وهو أحد قولي الشافعي، وبه قال أبو ثور، وأبي ذلك الجمهور، والخلاف في غير الحدود أقوى. قال: وقصة أنيس يطرقها احتمال معنى الإعذار، أو أن قوله: "فارجمها". بعد إعلامي أو أنه فوض الأمر إليه، والمعنى: فإذا اعترفت بحضرة من يثبت ذلك بقولهم حكمت، وقد دل قوله: فأمر بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرجمت. أن النبي - صلى الله عليه وسلم -هو الذي حكم فيها بعد أن أعلمه أنيس باعترافها. انتهى. واعلم أن بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى المرأة ليس لأجل إثبات الحد عليها، فإنه - صلى الله عليه وسلم - قد أمر باستتار (أ) من أتى الفاحشة (¬2)، وبالستر عليه كما قال لهزال (¬3)، ونهى عن التجسس (¬4)، وإنما ذلك لأنه لما قذفت المرأة بالزنى بعث إليها النبي - صلى الله عليه وسلم - لتنكر، فتطالب بحد القذف، أو تقر بالزنى فيسقط عنه، فكان منها الإقرار، فأوجبت على نفسها الحد، ويؤيد هذا ما أخرجه أبو داود والنسائي (¬5) عن ابن عباس: أن رجلًا أقر أنه زنى بامرأة، فجلده النبي - صلى الله عليه وسلم - مائة، ثم سأل المرأة فقالت: كذب. فجلده جلد الفرية ثمانين. وقد سكت ¬

_ (أ) في جـ: باستثبات.

عليه أبو داود وصححه الحاكم واستنكره النسائي، وقد تضمن الحديث فوائد وآداب يطول الكلام بذكرها. 1003 - وعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "خذوا عني، خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلًا، البكر بالبكر جلد مائة ونفي سنة، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم". رواه مسلم (¬1). قوله: "قد جعل الله لهن سبيلًا". هو إشارة إلى ما وقع في قوله تعالى: {أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا} (¬2). فبين النبي - صلى الله عليه وسلم - أن هذا هو السبيل الذي جعله الله تعالى. وقوله: "البكر". المراد بالبكر هو من لم يجامع في نكاح صحيح، وهو حر بالغ [عاقل] (أ). وقوله: "بالبكر" ليس هذا التقييد معتبرًا، بل هو مثل التقييد الذي يخرج مخرج الغالب، فإن البكر يجب عليه الجلد وحده، سواء كان مع بكر أو مع ثيب كما في [قصة] (ب) العسيف. وقوله: "ونفي سنة". الحديث فيه دلالة على وجوب التغريبا عامًا، ¬

_ (أ) ساقط من: الأصل. وينظر شرح مسلم 11/ 190. (ب) في جـ: قصة.

وأن ذلك من تمام الحد، وقد ذهب إلى هذا الخلفاء الأربعة (¬1) وذهب إليه مالك والشافعي وأحمد وإسحاق والثوري والزهري وابن أبي ليلى وأبو يوسف، وادعى محمد بن نصر في كتاب "الإجماع" (¬2) الاتفاق على نفي الزاني البكر، إلا عن الكوفيين، وقال ابن المنذر (2): أقسم النبي - صلى الله عليه وسلم - في قصة العسيف أنه يقضي بكتاب الله، ثم قال: "إن عليه جلد مائة، وتغريب عام". وهو المبين لكتاب الله، وخطب بذلك عمر رضي الله عنه على رءوس الناس (¬3)، وعمل به الخلفاء الراشدون، فلم ينكره أحد فكان إجماعًا. وذهبت الهدوية وأبو حنيفة وحماد إلى أن التغريب غير واجب؛ إذ لم يذكر في آية النور، والتغريب زيادة على النص، وهو ثابت بخبر الواحد، فلا يعمل به، لأنه يكون ناسخًا، وهذا قول الحنفية. والجواب أن الحديث مشهور لكثرة طرقه، ومن عمل به من الصحابة، وقد عملت الحنفية بمثله، بل بدونه كنقض الوضوء بالقهقهة، وجواز الوضوء بالنبيذ، وغير ذلك مما هو زيادة على ما في القرآن، ولا نسلم أن ذلك نسخ، فإن الزيادة على النص إذا لم يخرج بها المزيد عليه عن أن يكون [مجزيا] (أ) لا يكون نسخًا، لأن النسخ رفع حكم شرعي، وإنما يكون نسخًا ¬

_ (أ) في الأصل: مجربا.

زيادة ركعة خامسة، ونحو ذلك؛ كما هو مقرر في الأصول، وأجاب الإمام المهدي في "البحر" من جانب الهدوية على الحديث بقوله: قلت: التغريب عقوبة لا حدٌّ؛ لقول علي رضي الله عنه: جلد مائة وحبس سنة. ولنفي عمر رضي الله عنه في الخمر ولم ينكر، ثم قال: لا أنفي بعدها أحدًا (¬1)، والحدود لا تسقط. انتهى، ولا يخفى ضعف الاحتجاج بقول علي فإنه مؤيد لقول الجمهور، وأما نفي عمر في الخمر فذلك اجتهاد منه في زيادة العقوبة على شارب الخمر، ثم عارض المصلحة التي رآها مفسدة فتركها، ولا تلازم بين ذلك وبين حديث النفي إلا باحتمال أن يكون ذلك وقع زيادة عقوبة، لا زيادة حدّ، والاحتمال لا يعارض الصريح، وأجاب الطحاوي (¬2) بأن التغريب منسوخ بحديث: "إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها". ثم قال في الثالثة: "فليبعها" (¬3). والبيع يفوِّت التغريب، قال: وإذا سقط عن الأمة سقط عن الحرة؛ لأنها في معناها، ويتأكد بحديث: "لا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم" (¬4). قال: وإذا انتفى عن النساء انتفى عن الرجال. كذا قال، وهو مبني على أن العموم إذا خص سقط الاستدلال [به] (أ)، وهو مذهب ضعيف، ولا يخفى ضعف هذا الجواب؛ أما أولًا: فإنه في الأمة، فغاية ما ¬

_ (أ) ساقط من: الأصل.

يفيده أنه مخصص للأمة من حكم التغريب. وأما ثانيًا: فإن عدم الذكر لا يدل على مخالفة ما ذكر حكمه، وظاهر الحديث أن التغريب عام للذكر والأنثى، والحر والعبد، وقال مالك والأوزاعي، وروي عن علي رضي الله عنه: إن المرأة لا تغرب. قالوا: لأنها عورة، وفي نفيها تضييع لها، وتعريض للفتنة؛ ولهذا نهيت عن السفر مع غير محرم، إلا أن القائلين بتغريبها، يقولون بالتغريب لها مع محرمها، وأجرته منها إذ وجبت بجنايتها. وقيل: في بيت المال كأجرة الجلاد. وأما الرق فذهب مالك وأحمد والحسن وإسحاق وحماد وقول للشافعي إلى أنه لا ينفى، قالوا: لأن نفي الرق عقوبة لمالكه؛ لمنعه منفعته مدة نفيه، وتصرف الشرع يقضي أنه لا يعاقب غير الجاني، ومن ثَم سقط فرض الجهاد والحج عن المملوك، وذهب الثوري وداود والطبري وقول للشافعي إلى أنه ينفى لعموم أدلة التغريب، وقوله تعالى: {فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} (¬1). وينصف في حق المملوك لعموم الآية، وفي قول للشافعي: لا ينصف التغريب، هو طرد سنة، وأقله مسافة القصر لتحصل الغربة، ولأنه غرب عمر من المدينة إلى الشام (¬2)، وغرب عثمان إلى مصر (¬3)، ومن كان غريبًا لا وطن له غرب إلى غير البلد الذي كان فيه، وذلك موكول إلى نظر الإمام، وروي في "البحر" عن علي والباقر والصادق وأحد قولي الناصر أنه حبس سنة، ثم قال في الجواب عليهم: ¬

_ (¬1) الآية 25 من سورة النساء. (¬2) سعيد بن منصور كما في التلخيص 4/ 60، والبغوي في الجعديات 1/ 195 ح 598. (¬3) قال الحافظ: لم أجده. التلخيص 4/ 61.

قلنا: مخالف لوضع لفظ التغريب. وقوله: "والثيب". المراد بالثيب من قد وطئ في نكاح صحيح وهو بالغ عاقل حر، والرجل والمرأة في ذلك سواء، ويستوي في هذا الكافر والسلم، والرشيد والمحجور عليه لسفه. وقوله: "جلد مائة والرجم". والحديث فيه دلالة على أنه يجمع في حد الثيب بين الجلد والرجم، والرجم ثابت إجماعًا، إلا ما حكاه القاضي أبو بكر بن العربي عن الخوارج وبعض المعتزلة كالنظّام وأصحابه، والجمع بينهما أخرجه البخاري (¬1) وغيره عن علي رضي الله عنه في حق شراحة -بضم الشين المعجمة وتخفيف الراء المهملة ثم حاء مهملة- الهمدانية -بسكون الميم وبالدال المهملة- فجلدها يوم الخميس، ورجمها يوم الجمعة، وقال: جلدتها بكتاب الله، ورجمتها بسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. قال الشعبي: قيل لعلي: جمعت بين حدين! فأجاب بما ذكر (¬2). قال الشعبي: وقال أبي ابن كعب بمثل ذلك (¬3). قال الحازمي (¬4): ذهب إلى هذا أحمد وإسحاق وداود وابن المنذر، وهو مذهب العترة وداود، وذهب الجمهور إلى أنه لا يجمع بينهما في حق الثيب، وهي رواية عن أحمد أيضًا، قالوا: وحديث عبادة بن الصامت المذكور منسوخ، والناسخ له ما ثبت في قصة ماعز أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رجمه، ولم يذكر الجلد. قال الشافعي رحمه الله تعالى: فدلت ¬

_ (¬1) البخاري 12/ 117 ح 6812، والنسائي في الكبرى 4/ 269، 270 ح 7140، 7141. (¬2) البخاري 12/ 119 ح 6812 بنحوه، وأخرجه أحمد 1/ 116. (¬3) أخرجه عبد الرزاق 7/ 328 ح 13356. (¬4) الاعتبار ص 201.

السنة على أن الجلد ثابت على البكر، ساقط عن الثيب، والدليل على أن قصة ماعز متراخية عن حديث عبادة أن حديث عبادة ناسخ لما شرع أولًا؛ من حبس الزاني في البيوت فنسخه الجلد، وزيد الثيب الرجم، وذلك صريح في حديث عبادة، ثم نسخ الجلد في حق الثيب، وذلك مأخوذ من الاقتصار في قصة ماعز والغامدية والجهنية واليهوديين، ولم يذكر الجلد مع الرجم، قال ابن المنذر (¬1): عارض بعضهم الشافعي، فقال: الجلد ثابت بكتاب الله، والرجم ثابت بسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما قال علي، وقد ثبت الجمع بينهما في حديث عبادة، وعمل به علي، ووافقه أبي، وليس في قصة ماعز ومن ذكر معه تصريح بسقوط الجلد عن المرجوم، لاحتمال أن يكون ترك ذكره لوضوحه ولكونه الأصل، وقد احتج الشافعي بنطر هذا حين عورض في إيجاب العمرة، بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر من سأله أن يحج عن أبيه، ولم يذكر العمرة، فأجاب الشافعي بأن السكوت عن ذلك لا يدل على سقوطه، قال: فكذا ينبغي أن يجاب هنا، لكن الشافعي يقول (¬2): إن قصة ماعز جاءت من طرق متنوعة بأسانيد مختلفة، لم يذكر في شيء منها أنه جلد، وكذلك الغامدية والجهنية وغيرهما، فدل عدم ذكره على عدم وقوعه، ودل عدم وقوعه على عدم وجوبه. وقال الإمام المهدي في الرد على دليل الجمهور: قلنا: معارض بفعل علي، وهو توقيف. انتهى. ويقال عليه: إن عليًّا رضي الله عنه ظاهر قوله [أنه] (أ) فعل ذلك اجتهادًا ¬

_ (أ) في الأصل، جـ: أن.

منه جمعًا بين الدليلين، لما قال: جلدتها بكتاب الله، ورجمتها بسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فعمل بالدليلين اجتهادًا منه ببقاء حكمهما وكأنه لم يظهر له ما نسخ ذلك فوجب إعمال الدليلين، والله أعلم. واعلم أن ثبوت الجلد كان بسورة النور، ونزولها كان في قصة الإفك، وقد اختلف: هل كان سنة أربع أو خمس أو ست؟ والرجم كان بعد ذلك، فقد حضره أبو هريرة، وإسلامه سنة سبع، وابن عباس كذلك حضره، وهو إنما جاء مع أمه إلى المدينة سنة تسع. 1004 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: أتى رجل من المسلمين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو في المسجد فناداه، فقال: يا رسول الله، إني زنيت. فأعرض عنه، فتنحى تلقاءَ وجهه، فقال: يا رسول الله، إني زنيتُ. فأعرض عنه، حتى ثنَى ذلك عليه أربع مرات، فلما شهد على نفسه أربع شهادات، دعاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "أبك جنون؟ ". قال: لا. قال: "فهل أحصنت؟ ". قال: نعم. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "اذهبوا به فارجموه". متفق عليه (¬1). قوله: فتنحى تلقاء وجهه. أي: انتقل من الناحية التي كان فيها إلى الناحية التي يستقبل بها وجهَ النبي - صلى الله عليه وسلم -. وتلقاءَ مصدرٌ أقيم مقام الظرف، أي مكان تلقاء، فحذف مكان. وليس من المصادر "تفعال" بكسر أوله غير هذا ولفظ تبيان، وما عداهما فتفتح التاء، وأما الأسماء غير المصادر فبهذا ¬

_ (¬1) البخاري، كتاب الحدود، باب لا يرجم المجنون والمجنونة 12/ 120، 121 ح 6815، ومسلم، كتاب الحدود، باب من اعترف على نفسه بالزنى 3/ 1318 ح 1691/ 16.

الوزن كثير. وهذا المذكور لفظ شعيب. وفي رواية ابن مسافر (¬1): فتنحى لشق وجه النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي أعرض قبله. بكسر القاف وفتح الموحدة. وقوله: ثنَى ذلك عليه. وهو بمثلثة بعدها نون خفيفة، أي: كرر. وجاء في لفظ [حتى] (أ) ردد (¬2) بدالين، وفي لفظ [حتى رد] (أ) بدال مدغمة (¬3). وقوله: أربع مرات. وقع في رواية أبي ذر (¬4) في لفظ: أربع شهادات. وأخرج مسلم (¬5) من حديث جابر بن سمرة من طريق أبي عوانة عن سماك: فشهد على نفسه أربع شهادات. وأخرجه (¬6) من طريق شعبة عن سماك قال: فرده مرتين. وفي أخرى: مرتين أو ثلاثًا. قال شعبةُ: فذكرته لسعيد بن جبير، فقال: إنّه ردَّه أربع مراتٍ. ووقع في حديث أبي سعيد عند مسلم (¬7) أيضًا: فاعترف بالزنى ثلاث مرات. والجمع بينهما؛ أما رواية: مرتين. فتحمل على أنه اعترف مرتين في يوم ¬

_ (أ) ساقط من: الأصل.

واحد، ومرتين في يوم آخر، لما يشعر به قول بريدة (¬1): فلما كان من الغد. فاقتصر الراوي على أحدهما، أو مراده اعترف مرتين في يومين، فيكونُ من ضرب اثنين في اثنين، وقد وقع عند أبي داود (¬2) من حديث ابن عباس: جاء ماعز فاعترف بالزنى مرتين. وقد تقدم ذلك قريبًا. وقوله: [فقال] (أ) "أبك جنون؟ ". وقع في رواية بريدة (¬3). فسأل، "أبه جنون؟ ". فأخبر أنه ليس بمجنون. وفي لفظ (¬4): فأرسل إلى قومه، فقالوا: ما [نعلمه] (ب) إلا وفيَّ العقل من صالحينا. وفي حديث أبي سعيد (¬5): ثم سأل قومه، فقالوا: ما نعلم به بأسًا، إلا أنه أصاب شيئًا، يرى أنه لا يخرجه منه إلا أن يقام فيه الحد. وفي مرسل سعيد (¬6): بعث إلى أهله، فقال: "أيشتكي؟ أبه جنون؟ ". فقالوا: يا رسول الله، إنه لصحيحٌ. ويجمع بينهما بأنه سأله، ثم سأل عنه احتياطًا، فإن فائدة سؤاله أنه لو ادَّعى الجنون لكان في ذلك دفع (جـ) لإقامة الحدِّ عليه، حتى يظهر خلاف دعواه، ¬

_ (أ) ساقط من: الأصل. (ب) في الأصل، جـ: نعلم. والمثبت من مصدر التخريج. (جـ) في جـ: رفع.

فلما أجاب بأنه لا جنون به سأل عنه؛ لاحتمال أن يكون كذلك، ولا يعتد بقوله، وفيه دلالة على أنه يجب على الإمام أن يستفصل عن الأمور التي لا يجب معها الحد، فإن قصر في ذلك، ضمن إن تعمد وإلا كان خطأ، وضمان الخطأ في بيت المال، وقد يدفع بأنه لم يقع استفصال في قصة العسيف، ويجاب بأنَّ عدم ذكر ذلك لا يدل على عدم وجوده، فإنه قد يروي الراوي بعض الواقع. والله أعلم. وقوله: "أحصنت؟ ". بفتح الهمزة، المراد تزوجت، وهذا معناه هنا جزمًا؛ لأن الحكمَ في الزنى إنما افترق في حق من تزوج ومن لم يتزوج. قوله: قال: نعم. وهذا الحديث قد روي بزيادات، ففي حديث بريدة (¬1) قبل هذا قال: "أشربت خمرًا؟ ". قال: لا. وفيه: فقام رجل فاستنكهه، فلم يجد منه ريحًا. وفي حديث ابن عباس (¬2): "لعلك قبلت، أو غمزت -بغين معجمة وزاي- أو نظرت". والمعنى: أنك تجوزت بإطلاق لفظ الزنى على مقدماته. وفي رواية نعيم (¬3) فقال: "هل ضاجعتها؟ ". قال: نعم. قال: "فهل باشرتها؟ ". قال: نعم. قال: "هل جامعتها؟ ". قال: نعم. وفي حديث ابن عباس المذكور، فقال (¬4): "أنكتها؟ ". لا يكني؛ بفتح الياء التحتانية وسكون الكاف، من الكناية، أو أنه ذكر هذا اللفظ صريحًا، ولم ¬

_ (¬1) بلفظ: "أشرب خمرا، فقام ... ". (¬2) سيأتي ح 1005. (¬3) أحمد 5/ 216، 217، وأبو داود 4/ 143، 144 ح 4419. بلفظ "هل باشرتها؟ ". (¬4) البخاري 12/ 135 ح 6824.

يكن عنه بلفظ آخر كالجماع، ويحتمل أن يجمع بأنه ذكره بعد ذكر الجماع؛ لأن الجماع قد يحمل على مجرد الاجتماع. وفي حديث أبي هريرة (¬1): "أنكتها؟ ". قال: نعم. قال: "حتى دخل ذلك منك في ذلك منها؟ ". قال: نعم. قال: "كما يغيب المرود في المكحلة، والرشاء في البئر؟ ". قال: نعم. قال: "تدري ما الزنى؟ ". قال: نعم، أتيت منها حرامًا، ما يأتي الرجل من امرأته حلالًا. قال: "فما تريد بهذا القول؟ ". قال: تطهرني. فأمر به فرجم. وفي رواية النسائي (¬2): "هل أدخلته وأخرجته؟ ". قال: نعم. والحديث فيه دلالة أنه يندب تلقين ما يسقط الحد، وأن الإقرار لا بد فيه من اللفظ الصريح الذي لا يحتمل غير المواقعة، وقد روي عن جماعة من الصحابة تلقين المُقِر، كما أخرج مالك (¬3) عن أبي الدرداء وعن علي في قصة شراحة، وقال أبو ثور: التلقين إنما هولمن يُظَن منه أنه يجهلٍ حكم الزنى، وعند المالكية: لا يلقن من اشتهر بانتهاك [الحرمات] (أ). وقد يستدل بما في حديث (ب) بريدة من قوله: "أشربت خمرًا؟ ". أن السكران لا يصح إقراره بالزنى. قال المازري (¬4): استدل به بعضهم على أن طلاق ¬

_ (أ) في الأصل: المحرمات. (ب) زاد بعده في الأصل، جـ: أبي.

السكران لا (أ) يقع، وتعقبه عياض بأنه لا يلزم من درء الحد به ألا (ب) يقع طلاقه لوجود تهمته على ما يظهر من عدم العقل. قال: ومذهبنا إلزامه بجميع أحكام الصحيح؛ لأنه أدخل ذلك على نفسه، وهو حقيقة مذهب الشافعي، واستثنى من أكره ومن شرب ما ظن أنه غير مسكر، ووافقه بعض متأخري المالكية. وقال النووي (¬1): الصحيح عندنا صحة إقرار السكران، ونفوذ أقواله فيما له وعليه. قال: والسؤال عن شربه الخمر محمول عندنا على أنه لو كان سكرانًا لم يقم عليه الحد. انتهى. ولعله يقال: المراد به: يؤخر إقامة الحد إلى بعد الصحو؛ لجواز أن يكون له شبهة يدعيها. وذهب الليث إلى أنه يعمل بأفعاله ولا يعمل بأقواله؛ لأنه يلتذ بفعله ويشفي غيظه ولا يفقه أكثر ما يقول، وقد قال الله تعالى: {لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} (¬2). وقوله: "اذهبوا به فارجموه". فيه دلالة على أنه لا يجب أن يكون أول من يرجم الإمام فيمن يثبت عليه بالإقرار، وقد ذهب إلى هذا الشافعي والهادي، وإنما يستحب ذلك. قال ابن دقيق العيد: وإن كان الفقهاء قد استحبوا أن يبدأ الإمام بالرجم إذا ثبت الزنى بالإقرار ويبدأ (جـ) ¬

_ (أ) ساقطة من: جـ. (ب) في جـ: أولًا. (جـ) في جـ: يبتدأ.

الشهود به إذا ثبت بالبينة، كأن الإمام لمَّا كان عليه التثبُّت والاحتياط، قيل له: ابدأ. لكون (أ) ذلك زاجرًا عن التساهل في الحكم وداعيًا إلى غاية التثبت، وأما في الشهود فظاهر، لأن قتله بقولهم. وذهب أبو حنيفة واختاره الهدوية إلى أن ذلك واجب، ويرد عليهم بهذا الحديث. وظاهر قوله: "فارجموه". أنه لم يحفر له حفيرة، بل وقع التصريح في حديث أبي سعيد عند مسلم (¬1)، فقال: ما حفرنا له ولا أوثقناه. ولكن وقع في حديث بريدة عند مسلم (¬2): فحفر له حفيرة. ويمكن الجمع بأن النفي (ب) حفيرة لا يمكنه الوقوف فيها، والمثبت عكسه، أو أنهم لم يحفروا له في أول الأمر ثم لما فَرَّ فأدركوه حفروا له حفيرة، فانتصب لهم فيها حتى فرغوا منه، أو أنهم حفروا له في أول الأمر، ثم لما وجد مس الحجارة خرج من الحفيرة فتبعوه، وهذا أوجه، ويؤيده ما في لفظ البخاري (¬3): فلما أذلفته الحجارة -بالذال المعجمة والقاف؛ أي بلغت منه الجهد- هرب، فأدركناه بالحَرَّةِ فرجمناه. زاد معمر في روايته (¬4) حتى مات. وذهبت الشافعية إلى أنه لا يحفر للرجل، وفي وجهٍ: يتخير الإمام. وفي المرأة أوجه ثلاثة، ثالثها: يحفر إن ثبت زناها ¬

_ (أ) في جـ: ليكون. (ب) في جـ: النفي.

بالبينة لا بالإقرار. وعن الأئمة الثلاثة في المشهور عنهم: لا يحفر. وعند الهدوية الحفر مندوب للرجل والمرأة. وقال أبو يوسف وأبو ثور: يحفر للرجل والمرأة. وقد أخرج أبو داود (¬1) من حديث يزيد بن نعيم بن هزال (أ) أنه قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "هلا رددتموه إليَّ". وفي رواية (¬2): "تركتموه لعله يتوب فيتوب الله عليه". وفيه دلالة على أنه يقبل من المقر الرجوع عن الإقرار، وقد ذهب إلى هذا الهدوية، وهو مذهب الشافعي وأحمد، فإذا هرب ترك لعله يرجع، وعند المالكية (ب [في المشهور] ب): لا يترك إذا هرب. وقيل: إن المقر يقام عليه الحد إذا أخذ على الفور، فإن لم يؤخذ ترك. وعند الحنفية: إذا أخذ في الحال أقيم عليه الحد، وإن أخذ بعد أيام ترك. وعن أشهب: إن ذكر عذزا يقبل تُرِك، وإلا فلا. ونقله القعنبي عن مالك، وحكى اللخمي عنه قولين فيمن رجع إلى شبهة، ومنهم من قيده بما بعد إقراره عند الحاكم، واحتجت المالكية بأن الذين رجموه حين مات بعد أن هرب لم يُلْزَموا بديته، فلو شرع تركه لوجبت عليهم الدية. والجواب: أنه لم يصرح بالرجوع، ولم يقل أحد: إن الحد يسقط بمجرد الهرب. ¬

_ (أ) في جـ: هلال. وينظر تهذيب الكمال 30/ 171. (ب- ب) ما بينهما ساقط من الأصل.

1005 - وعن ابن عباس رضي الله عنه قال: لما أتى ماعز بن مالك إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له: "لعلك قبلت، أو غمزت، أو نظرت؟ ". قال: لا يا رسول الله. رواه البخاري (¬1). قوله: "قبلت". أي المرأة، فحذف (أ) المفعولَ للعلم به، والمراد المرأة المذكورة، ولم يعين محل التقبيل. وقوله: "أو غمزت". بالغين المعجمة والزاي؛ أي بعينك، أو يدك، أي أشرت، أو المراد: تعمدت بيدك الجس، أو وضعها على عضو الغير، وإلى ذلك الإشارة بقوله في رواية زيادة: "أو لمست". وقوله: "أو نظرت". والمراد أنه أطلق على كل واحدة من هذه المذكورات لفظ الزنى مجازًا، وذلك كما جاء في حديث: "العين تزني وزناها النظر" (¬2). الحديث فيه دلالة على أنه يلقن المقر الشبهة التي إذا قالها سقط عنه الحد، وأن الإقرار بالزنى لا بد فيه من اللفظ الصريح الذي لا يحتمل ¬

_ (أ) في جـ: محذوف.

غير المواقعة. 1006 - وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أنه خطب فقال: إن الله بعث محمدًا بالحق، وأنزل عليه الكتاب، فكان فيما أُنزل عليه آية الرجم، قرأناها ووعيناها وعقلناها، فرجم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورجمنا بعده، فأخشى إن طال بالناس زمان أن يقول قائل: ما نجد الرجم في كتاب الله. فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله، وإن الرجم حق في كتاب الله على من زنى إذا أحصن من الرجال والنساء إذا قامت البينة، أو كان الحبل، أو الاعتراف. متفق عليه (¬1). قوله: أنه خطب. كانت الخطبة بعد رجوعه من الحج وقدم المدينة. وقوله: آية الرجم. لم يذكرها البخاري، وقد أخرج الإسماعيلي (¬2) من رواية جعفر الفريابي عن علي بن عبد الله شيخ البخاري فيه، فقال بعد قوله: أو الاعتراف: وقد قرأناها: الشيخ والشيخة فارجموهما البتة. وقد رجم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورجمنا بعده. فسقط من رواية البخاري من قوله: وقد. إلى قوله: البتة. ولعل البخاري هو الذي حذف ذلك عمدًا، فقد أخرجه النسائي (¬3) عن محمد بن منصور عن سفيان كرواية جعفر، ثم قال: لا أعلم ¬

_ (¬1) البخاري، كتاب الحدود، باب رجم الحبلى من الزنى إذا أحصنت 12/ 144 ح 6830، ومسلم، كتاب الحدود، باب رجم الثيب في الزنى 3/ 1317 ح 1691. (¬2) الفتح 12/ 143. (¬3) النسائي في الكبرى 4/ 273 ح 7156.

أحدًا ذكر في هذا الحديث: الشيخ والشيخة. غير سفيان، وينبغي أن يكون وهم في ذلك، وقد وقعت هذه الزيادة في هذا الحديث من رواية "الموطأ" (¬1) عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب قال: لما صدر عمر من الحج وقدم المدينة، خطب الناس فقال (أ): أيها الناس، قد سنت لكم السنن، وفرضت لكم الفرائض، وتركتم على الواضحة. ثم قال: إياكم أن تهلكوا عن آية الرجم؛ أن يقول [قائل] (ب): لا نجد حدين في كتاب الله. فقد رجم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورجمنا، والذي نفسي بيده لولا أن يقول الناس: زاد عمر في كتاب الله. لكتبتها بيدي: الشيخ والشيخة فارجموهما البتة (جـ). قال مالك: الشيخ والشيخة: الثيب والثيبة. ووقع في "الحلية" (¬2) في ترجمة داود بن أبي هند: لكتبتها في آخر القرآن. وفي رواية أبي معشر (¬3) بلفظ: قد قرأنا: الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالًا من الله والله عزيز حكيم. وأخرجه (د) النسائي وصححه الحاكم (¬4) من حديث أبي بن كعب ¬

_ (أ) زاد بعده في جـ: يا. (ب) ساقطة من: الأصل. (جـ) زاد بعده في مصدر التخريج: فإنا قد قرأناها. (د) في جـ: أخرج.

قال: ولقد كان فيها -أي في سورة "الأحزاب"- آية الرجم: الشيخ. فذكر مثله. ومن حديث زيد بن ثابت (¬1): سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -[يقول] (أ): الشيخ والشيخة. مثله، إلى قوله: البتة. ومن رواية أبي أمامة بن سهل (¬2) أن خالته أخبرته قالت: [لقد] (أ) أقرأناها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فذكره، إلى قوله: البتة. وزاد (ب): بما قضيا من اللذة. وهذا من نسخ التلاوة وبقاء الحكم، وهو قسم من أقسام النسخ كما هو مبين في الأصول. وقوله: فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله. أي في الآية المذكورة التي نسخت تلاوتها وبقي حكمها، وقد وقع ما خشي عمر، فإنه قد أنكر الرجم طائفة من الخوارج أو معظمهم وبعض العتزلة، وهذا إما من التحديث الذي وصف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - به عمر، أو أنه قد سمع ذلك، وقد أخرج عبد الرزاق والطبراني (¬3) عن ابن عباس أن عمر قال: سيجيء قوم يكذبون بالرجم. الحديث. وفي رواية عند النسائي (¬4): وأن ناسًا يقولون: ما بال الرجم؟! ¬

_ (أ) ساقطة من: الأصل. (ب) في جـ: وأراد.

[وإنما] (أ) في كتاب الله الجلد؛ ألا قد رجم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وقوله: أو كان الحَبَل. بفتح المهملة والموحدة، وفي رواية معمر (¬1): الحمل. أي وجدت المرأة الخلية (ب) من زوج أو سيد حُبْلَى، و [لم] (جـ) تذكر شبهة ولا إكراهًا، فيه دلالة على أنه يثبت الحد بالحبَل المذكور، وهذا مذهب عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وذهب إليه مالك وأصحابه، وقالوا: إذا حملت ولم يعلم لها زوج ولا سيد، ولا عرفنا إكراهها، لزمها الحد، إلا أن تكون غريبة طارئة، وتَدَّعي أنه من زوج أو سيد. قالوا: ولا تقبل دعواها الإكراه إذا لم تقم بذلك بيِّنَةٌ عند الإكراه قبل ظهور الحبَل. وقال الشافعي وأبو حنيفة وجماهير العلماء وذكره القاضي زيد في شرحه من الهادوية: إنه لا حد عليها إلا ببينة أو اعتراف؛ لأن [الحدود تسقط] (د) بالشبهات, وقد يستأنس لهذا بما روي عن علي في قصة شراحة (¬2) , أنه قال لها: أستكرهت؟ قالت: لا. قال: فلعل رجلا أتاك في نومك؟ فسؤالها عن الاستكراه بعد الإقرار يدل على أن الاستكراه مسقط للحد ما لم يصرح بعدمه, ولكن قول عمر لما ذكر في خطبته ولم ينكر عليه، دليل ¬

_ (أ) في. . . . [قال مُعِدُّ الكتاب للشاملة: غير واضح بالمطبوع] (ب) في جـ. . . . [قال مُعِدُّ الكتاب للشاملة: غير واضح بالمطبوع] (جـ) في الأصل: لا. (د) في الأصل: الحد يسقط.

قوي، فإنه ينزل منزلة الإجماع، وأجاب الطحاوي (1) بتأويل ذلك على أن المراد أن الحبل إذا كان من زنى وجب فيه الرجم، ولا بد من ثبوت كونه من زنى، ولا يخفى تكلفه، فإن عمر جعل الحبل مقابلًا للاعتراف. وقوله: أو الاعتراف. أي الإقرار بالزنى والاستمرار عليه. وقد تقدم الكلام فيه. 1007 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إذا زنت أمة أحدكم فتبين زناها فليجلدها الحد ولا يثرب عليها، ثم إن زنت فليجلدها الحد ولا يثرب عليها، ثم إن زنت الثالثة فتبين زناها فليبعها ولو بحبل من شعر".متفق عليه (2) , وهذا لفظ مسلم. قوله (فتبين زناها) ظاهر الحديث أنه إذا علم السيد بزنا أمته جلدها وإن لم تقم الشهادة، وقد ذهب إليه بعض العلماء ويحتمل أنه إذا تبين زناها بما يتبين به في حق الحرة، وهو الشهادة أو الإقرار والشهادة تقام عند الحاكم عند الأكثر، وذهب بعض أصحاب الشافعي إلى أنها تقام عند السيد وقوله (فليجلدها) فيه دلالة على أن ولاية الحد إلى السيد وقد

ذهب إلى هذا الشافعي، وذهب الهادي إلى أن ولاية إقامة الحد إلى الإمام، إن كان في الزمان إمام، وإلا فإلى السيد، قال: جمعًا بين الأدلة. أو (أ) أن قوله: "فليجلدها". بأمر الإمام، وهو (ب) بعيد، والمراد فليجلدها الحد الواجب عليها المعروف من صريح قوله تعالى: {فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} (¬1). وقد وقع في رواية النسائي (¬2): "فليجلدها بكتاب الله". وقوله: "ولا يثرب عليها". التثريب (جـ) بمثناة ثم مثلثة ثم موحدة هو التعنيف وزْنًا ومعنى، وقد جاء أيضًا بلفظ: "ولا يعنفها". عند النسائي (¬3)، والمراد أنه لا يجمع عليها العقوبة بالجلد وبالكلام. وقيل: المراد: ولا يقنع بالتعنيف دون الجلد، وهو بعيد. قال ابن بطال (¬4): يؤخذ منه أن كل من أقيم عليه الحد لا يعزر بالتعنيف واللوم، وإنما يليق ذلك بمن صدر منه قبل أن يرفع إلى الإمام للتحذير والتخويف، فإذا رفع وأقيم عليه الحد كفاه. ويؤيد ¬

_ (أ) في جـ: و. (ب) في جـ: هذا. (جـ) ساقطة من: جـ.

هذا نهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن سب الذي أقيم عليه حد الخمر، وقال: "لا تكونوا عونًا للشيطان على أخيكم" (¬1). وقوله: "ثم إن زنت" إلى آخر الحديث. فيه دلالة على أن الزاني إذا تكرر منه الزنى بعد إقامة الحد عليه تكرر عليه الحد، وأما إذا زنى مرات من دون تخلل إقامة الحد، لم يجب عليه إلا حد واحد. وظاهر قوله: "فليبعها". أنه لا يعيد عليها الحد. وقال المصنف رحمه الله تعالى في "فتح الباري" (¬2): الأرجح أنه يجلدها قبل البيع، ثم يبيعها، والسكوت عنه للعلم بأن الحد لا يترك، ولا يقوم البيع مقامه. وقال في "شرح مسلم" للنووي (¬3): وفيه إشارة إلى أن العقوبة في التعزيرات إذا لم يحصل بها المقصود من الزجر لا تفعل، فيعدل عن الحد إلى ترك شرط إقامته على السيد، وهو بالإخراج عن الملك، ولذلك قال: "فليبعها". ولم يقل: فليجلدها كلما تكرر منها الزنى. كذا ذكره ابن دقيق العيد (¬4)، وقال: قد تعرض إمام الحرمين لشيء من ذلك، فقال: إذا علم المعزر أن التأديب لا يحصل إلا بالضرب المبرح فليتركه؛ لأن المبرح يهلك، وليس له الإهلاك، [وغير المبرح لا يفيد] (أ)، ¬

_ (أ) ساقط من: الأصل، جـ. والمثبت من مصدر التخريج.

وهذا البيع المأمور به مستحب ليسٍ بواجب عند الجمهور، وادعى بعض الشافعية أن سبب صرف الأمر عن (أ) الوجوب أنه منسوخ، وممن حكاه ابن الرفعة في "المطلب" (¬1)، ويحتاج إلى ثبوت. وقال ابن بطال (¬2): حمل الفقهاء الأمر بالبيع على الحض (ب) على مباعدة من تكرر منه الزنى؛ لئلا يظن بالسيد الرضا بذلك، ولما في (جـ) ذلك من الوسيلة إلى تكثير أولاد الزنى. قال: وحمله بعضهم على الوجوب، ولا سلف له (د) من الأمة، فلا يشتغل به، وقد ثبت النهي عن إضاعة المال، فكيف يجب بيع ما له قيمة خطيرة بالحقير؟ انتهى. وظاهر هذا أن الإجماع صرف الأمر عن الوجوب، وقال داود وأهل الظاهر: هو واجب، وفيه دلالة على ترك مخالطة الفساق وأهل المعاصي وفراقهم، وأنه يجوز بيع الشيء الثمين بالثمن الحقير، وهذا مجمع عليه إذا كان البائع عالمًا به، فإن كان جاهلًا فكذلك عند الجمهور، ولأصحاب مالك فيه خلاف، إلا أنه يلزم البائعَ أن يعرِّف الشتري العيب الذي فيها؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "من غشنا فليس منا" (¬3). إلا أنه يقال: كيف أحب لأخيه ¬

_ (أ) في جـ: على. (ب) في جـ: الحصر. (جـ) ساقطة من: جـ. (د) في جـ: لهم.

المسلم شراءها وهو لا يرتضيه لنفسه؟ والجواب عنه: أن ذلك لكونها قد تستعف عند المشتري بأن يعفها لنفسه (أ) أو يزوجها أو يصونها لهيبته أو الإحسان إليها. وفي الحديث دلالة أنه يقام الحد على الأمة وإن لم تكن قد أحصنت، وإن كانت الآية الكريمة مشروطًا فيها بالإحصان، فالآية بيان حد المحصنة، وأن عليها نصف الجلد لا الرجم؛ لأنه لا يتنصف، ولعل هذا هو فائدة التقييد بالشرط، وهذا الحديث فيه بيان حد الأمة مطلقًا، وفي خطبة علي (¬1): يأيها الناس، أقيموا على أرقائكم الحد، من أحصن منهم (ب) ومن لم يحصن. وإن كان الطحاوي (¬2) أشار إلى إعلال لفظ: ومن لم يحصن. وقال: لم يذكرها من الرواة غير مالك. فقد أنكر الحفاظ ذلك على الطحاوي، وقالوا: قد رواها ابن عيينة ويحيى بن سعيد عن ابن شهاب كما قال مالك (¬3). وهذا قول الجمهور، وذهب جماعة من السلف إلى (ب) أنه لا حد على من لم يكن قد أحصن من العبيد والإماء، وممن قاله ابن عباس وطاوس وعطاء وابن جريج وأبو عبيد (¬4). والله سبحانه أعلم. 1008 - وعن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ¬

_ (أ) في جـ: بنفسه. (ب) ساقطة من: جـ.

"أقيموا الحدود على ما ملكت أيمانكم". رواه أبو داود (¬1)، وهو في مسلم (¬2) موقوف. وأخرجه البيهقي مرفوعًا (¬3)، وقد غفل الحاكم فاستدركه (¬4). الحديث فيه دلالة على أن ولاية إقامة الحد إلى السيد على الذكور والإناث، سواء مع الإحصان ومع عدمه، في الزنا وغيره، وقد ذهب إليه الشافعي وغيره من السلف، وقال مالك: إن كانخما الأمة مزوجة كان أمر الحد إلى الإمام، إلا أن يكون زوجها عبدًا لسيد الأمة، فأمرها إلى السيد. واستثنى مالك القطع في السبرقة، وهو وجه للشافعية. وفي آخر يستثنى حد الشرب، واحتج [المالكية] (أ) بأن في القطع مثلة، فلا يأمن السيد أن يدعى عليه إرادة المثلة، فيمنع من مباشرته القطع؛ سدًّا للذريعة، وبعض المالكية فرع على هذا التعليل بأن ذلك حيث كان ثبوته بالإقرار لا إذا كان بالبينة، فالعلة منتفية، وظاهر الحديث أن السيد له الإقامة سواء كان فيه صلاحية أو لا، وقد ذهب إليه بعض الشافعية، قالوا: لأن سبيله سبيل الاستصلاح فلا يفتقر إلى أهلية. وقال ابن حزم: يقيمه السيد إلا إن كان كافرًا. قال: لأنهم ¬

_ (أ) في الأصل: للمالكية.

لا يقرون إلا بالصغار، وفي تسليطه على إقامة الحد منافاة لذلك، وقد روي عن جماعة من الصحابة إقامة الحد على المملوك من دون أمر الإمام، فأخرج البيهقي (¬1) عن ثمامة (¬2) بن أنس قال: شهدت أنس بن مالك يضرب إماءه الحد إذا زنين، تزوجن أو نم يتزوجن. وأخرج عن عبد الله بن عمر أنه حد جارية له زنت. وأخرج (¬3) عن [عمرو] (أ) بن مرة، قال: سمعت سعيد بن جبير يقول: إذا زنت الأمة لم تجلد الحد ما لم تزوج. فسألت عبد الرحمن بن أبي ليلى، فقال: أدركت بقايا الأنصار وهم يضربون الوليدة من ولائدهم في مجالسهم إذا زنت. قال الشافعي: وابن مسعود رضي الله عنه يأمر به، وأبو برزة رضي الله عنه يحد وليدته. وأخرج (3) عن أشعث إجازة، عن أبيه قال: شهدت أبا برزة ضرب أمة له فجرت. وأخرج (3) عن خارجة بن زيد عن زيد رضي الله عنه، أنه حد جارية له. وأخرج (3) عن ابن أبي الزناد [عن أبيه] (ب) عن الفقهاء الذين ينتهى إلى قولهم من أهل المدينة، كانوا يقولون: لا ينبغي لأحد أن يقيم شيئًا من الحدود دون السلطان، إلا أن للرجل أن يقيم حد الزنى على عبده وأمته. وأخرج الشافعي (¬4) عن مالك ¬

_ (أ) في الأصل، جـ: عمر. والمثبت من مصدر التخريج، وينظر تهذيب الكمال 22/ 232. (ب) ساقط من: الأصل.

عن نافع، أن عبدًا لابن عمر سرق وهو آبق، فأرسل به عبد الله إلى سعيد بن العاص -وهو أمير المدينة- ليقطع يده، فأبى سعيد بن العاص أن يقطع يده، وقال: لا تقطع يد [الآبق] (أ) إذا سرق. فقال له ابن عمر: في أي كتاب الله وجدت هذا؟ فأمر به ابن عمر فقطعت يده. ورواه عبد الرزاق (¬1) في "مصنفه" عن معمر عن أيوب عن نافع، أن ابن عمر قطع يد غلام له سرق، وجلد عبدًا له زنى، من غير أن يرفعهما إلى الوالي. ورواه من وجه آخر (¬2)، وأخرج مالك في "الموطأ" والشافعي (¬3) عنه عن عبد الله بن أبي بكر عن عمرة، قالت: خرجت عائشة إلى مكة ومعها غلام لبني عبد الله بن أبي بكر الصديق. فذكرت قصة فيها أنه سرق واعترف، فأمرت به عائشة فقطعت يده. وأخرج مالك في "الموطأ" (¬4) أنه بلغه أن حفصة قتلت جارية لها سحرتها، وكانت قد دبرتها. ورواه عبد الرزاق (¬5) من وجه آخر، وفيه: فأمرت بها عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب فقتلها، فأنكر ذلك عثمان بن عفان، فقال له ابن عمر: ما تنكر على أم المؤمنين؟ امرأة سحرت واعترفت. ¬

_ (أ) في الأصل، جـ: العبد. والمثبت من مصدر التخريج.

وأخرج الشافعي وعبد الرزاق (¬1) عن عمرو بن دينار عن الحسن بن محمد بن علي، أن فاطمة بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حدت جارية لها زنت. ورواه ابن وهب (¬2) عن ابن جريج عن عمرو بن دينار، أن فاطمة بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كانت تجلد وليدتها خمسين إذا زنت. وذهب الأوزاعي والثوري إلى أنه لا يقيم السيد إلا حد الزنى (¬3)، وقالت الحنفية: لا يقيمها إلا الإمام أو من أذن له. واحتج الطحاوي (¬4) لذلك بما أخرجه من طريق مسلم بن يسار قال: كان أبو عبد الله، رجل من الصحابة، يقول: الزكاة والحدود والفيء والجمعة إلى السلطان. قال الطحاوي (4): لا نعلم له مخالفًا من الصحابة. وتعقبه ابن حزم فقال (2): بل خالفه اثنا عشر نفسًا من الصحابة. وقد سمعت ما روي عن جماعة من الصحابة، وفيه كفاية للرد على الطحاوي، وأنت خبير أن قول الهدوية: ويُحِد العبدَ -حيث لا إمام- سيدُه. أخذ من قول المانعين (أ) والمجيزين بطرف فلا يكون خارقًا للإجماع، ولكنه تفصيل، وهو يحتاج إلى دليل. 1009 - وعن عمران بن حصين، أن امرأة من جهينة أتت نبي الله - صلى الله عليه وسلم -، وهي حبلى من الزنى، فقالت: يا نبي الله، أصبت ¬

_ (أ) في جـ: التابعين.

حدًّا فأقمه علي. فدعا نبي الله - صلى الله عليه وسلم - وليها، فقال: "أحسن إليها، فإذا وضعت فأتني بها". ففعل، فأمر بها فشكت عليها ثيابها، ثم أمر بها فرجمت، ثم صلى عليها، فقال عمر: أتصلي عليها يا نبي الله وقد زنت؟! فقال: "لقد تابت توبة لو قسمت بين سبعين من أهل المدينة لوسعتهم، وهل وجدت أفضل من أن جادت بنفسها لله". رواه مسلم (¬1). قوله: امرأة من جهينة. المرأة هذه هي الغامدية, وغامد بغين معجمة ودال مهملة أبو قبيلة؛ بطن من جهينة، واسمه عمرو (أ) بن عبد الله، ولُقِّب غامدًا لإصلاحه أمرًا كان في قومه، وقد روى هذه القضية أبو هريرة وأبو سعيد وجابر بن عبد الله وجابر بن سمرة وابن عباس، روى عنهم مسلم (¬2)، وروى أيضًا هو وأبو داود (¬3) عن بريدة وعن عمران بن حصين، وروى عن عمران أيضًا الترمذي والنسائي (¬4). وقوله: "أحسن إليها". هذا الإحسان له سببان: أحدهما: الخوف عليها من أقاربها أن تحملهم الغيرة ولحوق العار بهم ¬

_ (أ) في جـ: عمر.

أن يؤذوها، فأوصى بالإحسان إليها تحذيرًا لهم من ذلك. والثاني: لرحمتها إذ قد تابت، وحرص على الإحسان إليها؛ لما في نفوس الناس من النفرة من مثلها وإسماع الكلام المؤذي. وقوله: "فإذا وضعت فأتنى بها". ففعل، إلى آخره. ظاهر هذه الرواية أنه كان رجْمُها عقيب الوضع، وفي رواية أخرى لمسلم (¬1): أنها إنما رجمت بعد أن فطمت ولدها وأتت به وفي يده كسرة خبز. والروايتان صحيحتان، وهي [قصة] (أ) واحدة، وهذه رواية صريحة لا يمكن تأويلها، فيتعين تأويل الأولى بأن فيها طيًّا وحذفًا لما ذكر في الرواية الثانية. وقوله: فشكت. أي شدت، وقد جاء في بعض النسخ: شدت. وهو في معنى شكت، وهو مستحب شد الثياب وجمعها عليها وشدها بحيث لا تنكشف في تقلبها وتكرار اضطرابها. واتفق العلماء على أن المرأة ترجم قاعدة، وأما الرجل فالجمهور على أنه يرجم قائمًا، وقال مالك: قاعدًا. وقال غيره: يخير الإمام بينهما. وقوله: ثم أمر بها فرجمت. وفي بعض الروايات (1): وأمر الناس فرجموها. فيه دلالة على أنه لم يحضر، وأنه لا يجب على الإمام الحضور، وقد تقدم. ¬

_ (أ) في الأصل: قضية.

وقوله: ثم صلى عليها. هذه الرواية فيها التصريح بأنه - صلى الله عليه وسلم - صلى على المرأة، ويؤيده قول عمر رضي الله عنه: أتصلي عليها؟ وإن كان يحتمل أنه بصيغة المبني للمفعول كما قال القاضي (¬1) في رواية مسلم: فصلي عليها، ثم دفنت، أنه قال الطبري: إنها بضم الصاد وكسر اللام. قال: وكذا هو في رواية ابن أبي شيبة وأبي داود (¬2). قال: وفي رواية لأبي داود (¬3): ثم أمرهم أن يصلوا. وإن كان أكثر الرواة لمسلم بفتح الصاد واللام كالرواية المذكورة في هذا الكتاب، إلا أنه يمكن الجمع بين الروايات بأن معنى: صلى عليها. بفتح الصاد: أمر بالصلاة عليها، والإسناد إلى السبب مجاز عقلي، وقول عمر: أتصلي؟ أي تأمر بالصلاة عليها، فلا تتخالف الروايات، ويمكن أيضًا التأويل لرواية أبي داود: أمرهم أن يصلوا. أي أمرهم أن يأتموا به ويصلوا معه، فالتأويل ممكن في الروايتين، ولم يذكر مسلم أنه - صلى الله عليه وسلم - صلى على ماعز، وقد ذكر ذلك البخاري (¬4)، وقد اختلف العلماء رحمهم الله تعالى في الصلاة على المرجوم، فكرهها مالك وأحمد للإمام وأهل الفضل دون باقي الناس، قالا: ويصلي عليه غير الإمام وأهل الفضل. وقال الشافعي (1) وآخرون: يصلي عليه الإمام وأهل الفضل وغيرهم. فالخلاف بين الشافعي ومالك إنما هو في الإمام وأهل الفضل، وأما غيرهم فاتفقا على أنهم يصلون. وقال جماهير العلماء: يصلى على الفساق والمقتولين في الحدود والمحاربة ¬

_ (¬1) شرح مسلم 11/ 204. (¬2) ابن أبي شيبة 10/ 85 - 87،. وأبو داود 4/ 150 ح 4442. (¬3) أبو داود 4/ 149 ح 4440. (¬4) البخاري 12/ 129 ح 6820.

وغيرهم. وقال الزهري (¬1): لا يصلي أحد على المرجوم وقاتل نفسه. وقال قتادة: لا يصلى على ولد الزنى. واحتج الجمهور بهذا الحديث، وأجاب أصحاب مالك عنه بجوابين؛ أحدهما: تضعيف رواية الصلاة لكون الأكثر لم يذكروها. والثاني: تأويلها بأنه - صلى الله عليه وسلم - أمر بالصلاة، أو دعا، فسمي صلاة على مقتضاها في اللغة. وَرُدّ ذلك بأن الزيادة ثابتة في الصحيح، وزيادة الثقة مقبولة، وبأن التأويل إنما يصار إليه إذا اضطر إلى ارتكابه، وليس هنا شيء من ذلك، فوجب العمل على ظاهره، والرجوع إلى الحق أحق. وقوده: "لقد تابت توبة". يدل على أن التوبة لا تسقط بها الحدود، وهذا أصح القولين في مذهب الشافعي، وهو قول غيرهم. والقول الثاني: أن الحد يسقط بالتوبة، وأما حد المحارب قبل القدرة فيسقط بالتوبة عند الجمهور، كما في قوله تعالى: {إلا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} (¬2) الآية. وعند ابن عباس وغيره: لا يسقط الحد. وقوله: "جادت بنفسها". أي كرمت. 1010 - وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: رجم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجلًا من أسلم، ورجلًا من اليهود، وامرأة. رواه مسلم (¬3). وقصة اليهوديين في "الصحيحين" (¬4) من حديث ابن عمر. ¬

_ (¬1) شرح مسلم 11/ 204. (¬2) الآية 34 من سورة المائدة. (¬3) مسلم، كتاب الحدود، باب رجم اليهود أهل الذمة في الزنى 3/ 1328 ح 1701. (¬4) البخاري، كتاب الحدود، باب الرجم في البلاط، 12/ 128 ح 6819، ومسلم، كتاب الحدود، باب رجم اليهود أهل الذمة في الزنى 3/ 1326 ح 1699.

قوله: رجلًا من أسلم. هو ماعز بن مالك الأسلمي، والمرأة الجهنية وهي الغامدية. وقوله: وقصة اليهوديين في الصحيحين. وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بهما فرجما. وفيها من الفوائد. وجوب الحد على الكافر الذمي إذا زنى، وهو قول الجمهور، وفيه خلاف عند الشافعية لعدم شرط الإحصان الموجب للرجم، وهو الإسلام، حتى نقل ابن عبد البر (¬1) الاتفاق على أن شرط الإحصان الموجب للرجم هو الإسلام، ورد عليه بأن الشافعي وأحمد لا يشترطان ذلك، ويؤيد مذهبهما وقوع التصريح بأن اليهوديين اللذين زنيا كانا قد أحصنا، وذهب المالكية ومعظم الحنفية وربيعة شيخ مالك إلى مثل قول بعض الشافعية من اشتراط الإسلام، وأجابوا عن الحديث بأنه - صلى الله عليه وسلم - إنما رجمهما بحكم التوراة، وليس هو في حكم الإسلام في شيء، وإنما هو من باب تنفيذ الحكم عليهم بما في كتابهم، فإن في التوراة الرجم على المحصن وعلى غيره، قالوا: وكان ذلك أول دخول النبي - صلى الله عليه وسلم - المدينة، وكان مأمورًا باتباع حكم التوراة والعمل بها حتى نسخ ذلك في شرعه، فرجم اليهوديين على ذلك الحكم، ثم نسخ ذلك بقوله تعالى: {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ}. إلى قوله: {أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا} (¬2). ثم نسخ ذلك بالتفرقة بين من أحصن وبين من لم يحصن. انتهى. وقد يجاب عن هذا بأنه جاء في رواية الطبري (¬3) من طريق أن أحبار ¬

_ (¬1) التمهيد 14/ 394، وينظر الفتح 12/ 170. (¬2) الآية 15 من سورة النساء. (¬3) الطبري في تفسيره 8/ 416 - 418.

اليهود اجتمعوا في بيت [الدراس] (أ)، وقد زنى رجل منهم بعد إحصانه بامرأة منهم قد أحصنت. فذكر القصة فصرح فيها بالإحصان. وقال مالك (¬1): إنما رجم اليهوديين؛ لأن اليهود يومئذ لم يكن لهم ذمة فتحاكموا إليه. وتعقبه الطحاوي (1) بأنه لو لم يكن واجبًا ما فعله، قال: وإذا أقام الحد على من لا ذمة له، فلأن يقيمه على من له ذمة أولى. مع أن قتل المرأة الحربية عند مالك لا يجوز، إلا أن يقول: إن ذلك كان قبل النهي عن قتل النساء. قال القرطبي (¬2): ويعكر عليه أن مجيئهم سائلين يوجب لهم عهدًا كما لو دخلوا لغرض التجارة، فإنهم في أمان إلى أن يردوا إلى مأمنهم، إلا أن يقول: السائل عن ذلك ليس هو صاحب الواقعة. وقال ابن العربي (¬3): إنما رجمهما لإقامة الحجة عليهم بما لا يراه في شرعه مع قوله: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} (¬4). ومن ثم استدعى شهودهم لتقوم عليهم الحجة منهم. ومثل هذا أجابت به الحنفية عن رجم اليهوديين بأنه وقع بحكم التوراة، ورده الخطابي (¬5) بأن الله تعالى قال: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ}. وإنما جاءه القوم سائلين عن الحكم عنده كما دلت عليه الرواية، فنبههم على ما كتموه من حكم التوراة، ولا جائز أن يكون حكم الإسلام عنده مخالفًا لذلك؛ لأنه لا يجوز الحكم بالمنسوخ، فدل على أنه إنما حكم بالناسخ، وقد جاء في ¬

_ (أ) في الأصل، جـ: المدارس. والمثبت من مصدر التخريج، والدراس: البيت الذي يدرسون فيه. النهاية 2/ 113.

حديث أبي هريرة (¬1): "فإني أحكم بما في التوراة". لكن في سنده رجل مبهم، مع أنه يحتمل أن يكون معناه: إني أحكم بما في التوراة موافقًا لشريعتي. ولا يسلم أيضًا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حكم بذلك أول ما قدم المدينة، فإنه قد جاء في بعض طرقه الصحيحة، أنهم تحاكموا إليه وهو في المسجد بين أصحابه، والمسجد لم يكمل بناؤه إلا بعد مدة من دخوله المدينة، وفي القصة أنهم شهدوا من اليهود، فيدل على قبول شهادة أهل الذمة بعضهم على بعض، قال القرطبي (¬2): والجمهور على أن الكافر لا تقبل شهادته على مسلم ولا كافر؛ لا في حد ولا في غيره، في السفر والحضر، وقد قبل شهادتهم جماعة من التابعين ؤبعض الفقهاء (أ). وقد ذهب إلى ذلك الهدوية، فقالوا: تقبل شهادة ملِّي على مثله. واستثنى أحمد بن حنبل حالة السفر، فتجوز شهادة الكافر على غيره إذا لم يوجد مسلم، وقال النووي (¬3): الظاهر أنه رجمهما بالاعتراف، فإن ثبت حديث جابر (¬4) بالشهادة، فلعل الشهود كانوا مسلمين، ولعله يجوز أن يكون حكمه بما أطلعه الله تعالى عليه، وإنما كانت الشهادة في الظاهر لإلزامهم الحجة، وفي الحديث دلالة على أن أنكحة الكفار صحيحة؛ لأن ثبوت الإحصان فرع عن ثبوت صحة النكاح، وأن الكفار مخاطبون بفروع الشرائع، وأن اليهود كانوا ينسبون إلى ¬

_ (أ) بعده في مصدر التخريج: إذا لم يوجد مسلم.

التوراة ما لم يكن فيها كما وقع في القصة. 1011 - وعن سعيد بن سعد بن عبادة رضي الله عنهما قال: كان بين أبياتنا رويجل ضعيف، فخبث بأمة (أ) من إمائهم، فذكر ذلك سعد لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "اضربوه حده". فقالوا: يا رسول الله، إنه أضعف من ذلك. فقال: "خذوا عثكالا فيه مائة شمراخ، ثم اضربوه به ضربة واحدة". ففعلوا. رواه أحمد والنسائي وابن ماجه (¬1) وإسناده حسن، لكن اختلف في وصله وإرساله. هو سعيد بن سعد الأنصاري، قيل: له صحبة. روى عن أبيه، وعنه ابنه شرحبيل وأبو أمامة بن سهل، قال الواقدي وغيره: صحبته صحيحة وكان واليًا لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه على اليمن (¬2). وقوله: اختلف في وصله وإرساله. فأخرجه الشافعي (¬3) عن سفيان عن يحيى بن سعيد وأبي الزناد، كلاهما عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف، ورواه أيضًا البيهقي، وقال: هذا هو المحفوظ عن أبي أمامة مرسلًا (¬4). ¬

_ (أ) في جـ: بامرأة.

ورواد أحمد وابن ماجه من حديث أبي الزناد (¬1) عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف عن سعيد بن سعد بن عبادة موصولًا. ورواه الدارقطني (¬2) من حديث فليح عن أبي حازم عن سهل بن [سعد] (أ)، وقال: وهم فيه فليح، والصواب عن أبي حازم عن أبي أمامة بن سهل. ورواه أبو داود (¬3) من حديث الزهري عن أبي أمامة عن رجل من الأنصار. ورواه النسائي (¬4) من حديث أبي أمامة بن سهل بن حنيف عن أبيه (¬5). ورواه الطبراني (¬6) من حديث أبي أمامة بن سهل عن أبي سعيد الخدري، فإن كانت الطرق كلها محفوظة، فيكون أبو أمامة قد حمله عن جماعة من الصحابة (ب). قوله: رويجل. تصغير رجل للتحقير كما هو الأصل في التصغير، وقد جاء في رواية: أنه كان مقعدًا (¬7). وفي رواية: رجل مُخْدَج ضعيف (¬8). وبوب عليه البيهقي (¬9): باب الضرير في خلقته لا من مرض. ¬

_ (أ) في الأصل، جـ: سعيد. والمثبت من مصدر التخريج. (ب) بعده في التلخيص 2/ 59: وأرسله مرة.

وقوله: خبث [بأمة] (أ). وفي رواية: أصاب امرأة حَبَلٌ فرمته به فاعترف (¬1). وقوله: "عثكالا". قد جاء في رواية: "بإثكال" (¬2). وفي رواية: "بأثكول" (¬3). والإثكال والأثكول هو العثكال، والعثكال بكسر العين المهملة وثاء مثلثة كقرطاس: العذق والشمراخ، ويقال: عثكول وعثكولة بضم العين. كذا في "القاموس" (¬4). قوله: "فيه مائة شمراخ". الشمراخ غصن دقيق في أعلى الغصن، وكعصفور لغة فيه. كذا في "الضياء"، وفي "القاموس" (¬5): الشمراخ بالكسر: العثكال عليه بسر أو عنب كالشمروخ. انتهى. والمراد هنا بالعثكال الغصن الكبير الذي يكون عليه أغصان صغار، وهو للنخل كالعنقود للعنب، وكل واحد من تللث الأغصان يسمى شمراخًا. والحديث يدل على أنه إذا كان المحدود لا يحتمل تكرار الضرب لضعف أو مرض، فإنه يضرب بما يحتمله مجموعًا كالعثكول ونحوه، وقد ورد هذا التخفيف في حق من هو مأيوس البرء كما جاء في الروايات: أنه مُخْدَج. أي ناقص الخلقة، أو: أنه كان مقعدًا. وهذا قول الجمهور، وذهب الناصر ¬

_ (أ) في الأصل: بامرأة.

والمؤيد بالله إلى أنه لا يحد المريض وإن فات الحد، وأما إذا كان المرض يرجى زواله فإنه يؤخر اتفاقًا، وكذلك لشدة الحر والبرد إذا خيف على المحدود معهما إجماعًا، قالوا: ولا بد أن تباشر المحدودَ جميعُ الشماريخ؛ ليقع المقصود من الحد. وروي عن الإمام يحيى وصاحب "الكافي" أنه يجزئ وإن لم تباشره جميع الشماريخ، قالوا: لأن الاعتماد كاف، ولأنه ظاهر الحديث، وكذا قوله تعالى: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا} الآية (¬1). قال الإمام المهدي في الرد عليه: قلنا: يقل الألم بذلك كالساتر الغليظ. انتهى. ويجاب عنه بأن الغرض من هذه الرخصة هو تقليل الألم فلا يتم الرد، والله أعلم. 1012 - وعن ابن عباس رضي الله عنهما، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به، ومن وجدتموه (أ) على بهيمة فاقتلوه واقتلوا البهيمة". رواه أحمد والأربعة (¬2)، ورجاله موثقون إلا أن فيه اختلافًا. الحديث أخرجه أحمد وأبو داود، واللفظ له، والترمذي وابن ماجه ¬

_ (أ) بعده في جـ: يعمل وقع.

والحاكم والبيهقي من حديث عكرمة عن ابن عباس (¬1) إلى قوله: "والمفعول به". واستنكره النسائي (¬2)، ورواه ابن ماجه والحاكم من حديث أبي هريرة (¬3)، وإسناده أضعف من الأول بكثير، وقال ابن الطلاع في "أحكامه" (2): لم يثبت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه رجم في اللواط، ولا أنه حكم فيه، وثبت عنه أنه قال: "اقتلوا الفاعل والمفعول به". رواه عنه ابن عباس وأبو هريرة، وفي حديث أبي هريرة: "أحصنا أم لم يحصنا". كذا قال. وحديث أبي هريرة لا يصح، وقد أخرجه البزار من حديث عاصم بن عمر العمري عن سهيل عن أبيه عنه (أ)، وعاصم (3) متروك. وقد رواه ابن ماجه من طريقه بلفظ: "فارجموا الأعلى والأسفل" (¬4). وحديث ابن عباس مختلف في ثبوته. وأخرج البيهقي (¬5) من حديث سعيد بن جبير ومجاهد عن ابن عباس في البكر يوجد على اللوطية، قال: يرجم. وأخرج (5) من طريق يحيى بن معين، أنه سئل ابن عباس عن حد اللوطي، قال: ينظر أعلي بناء في القرية فيرمى به منكسًا ثم يتبع بالحجارة. وأخرج (2) أن عليّا رضي الله عنه رجم ¬

_ (أ) ساقط من: جـ.

لوطيًّا. قال الشافعي (¬1): وبهذا نأخذ برجم اللوطي محصنًا كان أو غير محصن. وأخرج البيهقي (¬2) أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه جمع الناس في حق رجل ينكح كما تنكح النساء، فسأل أصحاب رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك؛ فكان من أشدهم يومئذ قولًا علي بن أبي طالب رضي الله عنه، قال: إن هذا ذنب لم تعص به أمة من الأم إلا أمة واحدة، صنع اللَّه بها ما قد علمتم، نرى أن نحرقه بالنار. فاجتمع رأي أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أن يحرقه بالنار، فكتب أبو بكر رضي الله عنه إلى خالد بن الوليد يأمره أن يحرقه بالنار. وفي إسناده إرسال، وروي من وجه آخر عن جعفر بن محمد عن أبيه عن علي رضي الله عنه في غير هذه القصة قال: يرجم ويحرق بالنار (2). قال البيهقي (2): ويذكر عن ابن أبي ليلى عن رجل من همدان أن عليًّا رجم رجلًا محصنًا في عمل قوم لوط. هكذا ذكره الثوري (1) مقيدًا بالإحصان، وهشيم رواه عن ابن أبي ليلى مطلقًا. وأخرج (2) عن عطاء أنه قال في اللوطي: حده حد الزاني. وأخرج (2) عن ابن الزبير في سبعة أخذوا في اللواطة، أربعة منهم قد أحصنوا وثلاثة لم يحصنوا، فأمر بالأربعة فأخرجوا من المسجد فرضخوا بالحجارة، وأمر بالثلاثة فضربوا الحدود وابن عمر وابن عباس في المسجد. وأخرج (2) عن الحسن في الرجل يأتي البهيمة ويعمل عمل قوم لوط، قال: هو بمنزلة الزاني. وأخرج (2) عن إبراهيم النخعي قال: إن ¬

_ (أ) في جـ: النووي.

اللوطي بمنزلة الزاني؛ إن كان محصنًا رجم، وإن كان غير محصن جلد الحد. قال البيهقي (¬1): وإلى هذا رجع الشافعي فيما زعم الربيع بن سليمان. وأخرج (1) عن أبي موسى، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا أتى الرجل الرجل فهما زانيان، وإذا أتت المرأة المرأة فهما زانيتان". وفي إسناده محمد بن عبد الرحمن (¬2)، قال البيهقي: لا أعرفه. والحديث منكر بهذا الإسناد. وقوله: "من وجدتموه". هذا حديث مستقل من رواية ابن عباس، أخرجه بهذا اللفظ البيهقي (1) من حديث عمرو بن أبي عمرو عن عكرمة عن ابن عباس قال: فقيل لابن عباس: ما شأن البهيمة؟ فقال: ما سمعت عن (أ) رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ذلك شيئًا، ولكن أرى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كره أن يؤكل من لحمها، أو ينتفع بها بعد ذلك العمل. وأخرج البيهقيِ (¬3) عن عاصم ابن بهدلة عن أبي رزين عن ابن عباس، أنه سئل عن الذي يأتي البهيمة، قال: لا حد عليه. ثم قال: قال أبو داود: حديث عاصم يضعف حديث عمرو بن أبي عمرو، قال البيهقي: قد رويناه ¬

_ (أ) ساقط من: جـ.

من أوجه عن عكرمة، ولا أرى عمرو بن أبي عمرو يقصر عن عاصم بن بهدلة في الحفظ، كيف وقد تابعه على روايته جماعة، وعكرمة عند أكثر الأئمة من الثقات الأثبات. انتهى. وقال الترمذي: حديث عاصم أصح، ولما رواه الشافعي في كتاب اختلاف علي وعبد اللَّه من جهة عمرو بن أبي عمرو، قال: إن صح قلت به. فأشار إلى تضعيفه. وكذا أخرجه عبد الرزاق عن إبراهيم بن محمد عن داود بن الحصين عن عكرمة. ويقال: إن أحاديث عباد بن منصور عن عكرمة إنما سمعها من إبراهيم بن أبي يحيى عن داود عن عكرمة، وكان يدلسها بإسقاط رجلين، وإبراهيم ضعيف، وإن كان الشافعي يقوي أمره. وقد أخرج البيهقي عن جابر بن زيد قال: [من أتى البهيمة] (أ) أقيم

_ (أ) في جـ: ابن أبي الهيثم. [قال مُعِدُّ الكتاب للشاملة: الحواشي غير واضحة بالمطبوع]

عليه الحد. وأخرج (¬1) عن عكرمة قال: سئل الحسن بن علي رضي الله عنه عن رجل أتى بهيمة، قال: إن كان محصنًا رجم. قال (1): وروينا عن الحسن البصري أنه قال: هو بمنزلة الزاني. فقول المصنف رحمه اللَّه تعالى: إلا أن فيه اختلافا. هو في حديث البهيمة، وقد سمعت الاختلاف الذي وقع على ابن عباس، ولكنه لا يضعف الحديث على الصحيح، فإن حديث عاصم موقوف على ابن عباس، ولعل ذلك اجتهاد من ابن عباس، فإن للاجتهاد مساغًا، فيكون من اجتهاد الصحابي بخلاف ما روى، وذلك لا يقدح فيما روى على المختار. وقد أخرجه أبو يعلى الموصلي (¬2) من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من وقع على بهيمة فاقتلوه واقتلوها معه". وقد رواه ابن عدي (¬3) عن أبي يعلى, ثم قال: قال لنا أبو يعلى: بلغنا أن عبد الغفار بن عبد الله بن الزبير (¬4) شيخ أبي يعلى رجع عنه، وذكر ابن عدي أنهم كانوا لقنوه. والحديث فيه دلالة على تحريم إتيان الذكر، وهو كبيرة, قد ورد الوعيد عليها وعقاب فاعلها في كتاب الله عز في حق قوم، وشرع ¬

_ (أ) ساقط من: الأصل.

من قبلنا لازم اتباعه في شرعنا على المختار، والأحاديث المتواترة من حيث المعنى في تحريم ذلك، واختلف العلماء في عقوبة الفاعل؛ فذهب الحسن البصري وأبو طالب والإمام يحيى، وهو نص الهادي في "الأحكام"، ورواه أبو طالب عن القاسم، واختيار المؤيد بالله، وقول للشافعي، أنه يحد حد الزاني؛ قياسًا على الزاني بجامع الإيلاج المحرم في فرج محرم، ولا تقدم من حديث أبي موسى (¬1) وغيره من الآثار، وهي وإن لم تكف في الاستدلال مع ضعف الحديث فهي متقوية بالقياس. وذهب الناصر، ورواه المؤيد بالله عن القاسم، وقول قديم للشافعي، إلى أن حده القتل؛ محصنًا كان أو بكرًا، الفاعل والمفعول به، وحجتهم الحديث المذكور وغيره، وهو عام للمحصن وغيره، ولكنه محتمل للتخصيص؛ إما بالقياس المذكور، أو بالحديث على فرض صحته بأن ذلك في حق المحصن، وذهب المرتضى وأبو حنيفة وقول للشافعي، ورواه في "البحر" عن المؤيد بالله أنه يعزر ولا يقتل. ولعلهم يقولون: إن القياس على الزاني لا يتم؛ فإنه قد يكون من تمام العلة كراهة اختلاط الأنساب، فلا يتم الجامع، والأحاديث فيها ما عرفت لا تقوم بمثل هذا الموجب لاستباحة دم المسلم، ولم يثبت حكم النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا فعله، فوجب الدرء، ولا سيما مع قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لأن تخطئ في العفو خير من أن تخطئ في العقوبة" (¬2). وحكى في "الشفا" إجماع الصحابة على قتل الفاعل والمفعول به، فإن تم الإجماع فهو حجة قائمة، وقال أحمد بن أبي بكر البوصيري في كتاب "إتحاف السادة الهرة بزوائد المسانيد العشرة" (¬3): ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه ص 59. (¬2) أخرجه الترمذي 4/ 25 ح 1424 من حديث عائشة رضي الله عنها بنحوه. (¬3) إتحاف الخيرة 5/ 250، 251.

قال البغوي: اختلف أهل العلم في حد اللوطي، فذهب قوم إلى أن حد الفاعل حد الزنى؛ إن كان محصنا يرجم، وإن لم يكن محصنًا يجلد مائة. وهو قول سعيد بن المسيب وعطاء بن أبي رباح والحسن وقتادة والنخعي، وبه قال الثوري والأوزاعي، وهو أظهر قولي الشافعي، ويحكى أيضًا عن أبي يوسف ومحمد بن الحسن، وعلى المفعول به عند الشافعي على هذا القول جلد مائة وتغريب عام، رجلًا كان أو امرأة، محصنًا كان أو غير محصن. وذهب قوم إلى أن اللوطي يرجم، محصنًا كان أو غير لم محصن. رواه سعيد بن جبير ومجاهد عن ابن عباس، وروى ذلك عن الشعبي، وبه قال الزهري، وهو قول مالك وأحمد وإسحاق. وروي حماد بن إبراهيم عن إبراهيم النخعي، قال: لو كان الحد يستقيم أن رجم مرتين لرجم اللوطي. والقول الآخر للشافعي أنه يقتل الفاعل والمفعول به، كما جاء في الحديث. وقال الحافظ المنذري: حرق اللوطية بالنار أربعة من الخلفاء؛ أبو بكر الصديق وعلي بن أبي طالب وعبد الله بن الزبير وهشام بن عبد الملك. والله أعلم. وقوله: "ومن وجدتموه وقع على بهيمة" إلخ. الحديث فيه دلالة على تحريم إتيان البهيمة، ويؤيده قوله تعالى: {فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} (¬1). وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لعن الله من وقع على بهيمة" (¬2). ويدل على أن عقوبة الفاعل هي القتل. وقد ذهب إليه الشافعي في قول له، وذهب القاسم وقول للشافعي إلى أنه يوجب حد [الزنى] (أ) كقتل المرأة قياسًا على الزاني، ¬

_ (أ) في جـ: الزاني.

وعموم الحديث مخصص في حق المحصن قياسًا على الزاني، وذهب المؤيد وأحمد بن حنبل والناصر والإمام يحيى وأبو حنيفة وقول للشافعي ومالك إلى أنه يعزر فقط إذ ليس بزنى، والحديث فيه ما عرفت من الاختلاف. وقوله: "واقتلوا البهيمة". فيه دلالة على أن البهيمة تقتل ولا يحل أكلها لأمره بقتلها على كل حال، فلو كانت تحل لما حل قتلها إلا عند إرادة الانتفاع بها، وكذا لو كانت غير مأكولة، لئلا تأتي بولد مشوه، وقد ذهب إلى هذا علي رضي الله عنه وقول للشافعي. وذهب الهدوية وقول للشافعي وأبو حنيفة وأبو يوسف إلى أنه يكره أكلها، وظاهره أنه لا (أ) يجب القتل، قال الخطابي (¬1): الحديث هذا معارض بنهيه - صلى الله عليه وسلم - عن قتل الحيوان إلا لمأكلة. قال الإمام المهدي في "البحر": فيحمل على أنه أراد عقوبته بذبحها إذا (ب) كانت له وهي مأكولة؛ جمعًا بين الأدلة. قال: وإذا التبست البهيمة، فلا ضمان على الواطئ، ولا يلزمه الفحص إجماعًا. انتهى. وظاهره أن الواقع على البهيمة يلزمه قيمتها؛ لأنه في حكم المتلف لها. والله أعلم. 1013 - وعن ابن عمر رضي الله عنهما، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ضرب وغرب، وأن أبا بكر ضرب وغرب". رواه الترمذي ورجاله ثقات، إلا ¬

_ (أ) ساقط من: جـ. (ب) في جـ: إن.

أنه اختلف في رفعه ووقفه (¬1). وأخرجه البيهقي مرفوعًا (¬2)، وأخرجه كذلك موقوفًا (2)، وأخرجه أيضًا [موقوفًا] (أ) (¬3)، أن عليًّا رضي الله عنه جلد ونفى من البصرة إلى الكوفة، أو قال: من الكوفة إلى البصرة. وأخرجه عن أبي بن كعب موقوفًا. وقد تقدم الكلام على التغريب. والله أعلم. 1014 - وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المخنثين من الرجال، والمترجلات من النساء، وقال: "أخرجوهم من بيوتكم". رواه البخاري (3). قوله: لعن. اللعن من النبي - صلى الله عليه وسلم -[يقع] (ب) على ضربين: أحدهما: يراد به الزجر عن الشيء الذي وقع اللعن بسببه، وهو يدل على قبح ذلك الشيء، فإنه من علامات الكبائر. وقد يقع للزجر عن الشيء في حال الحرج والغضب، وذلك يكون رحمة لمن لعنه إذا كان غير مستحق للعن كما جاء ذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح (¬4). وقوله: المخنثين. وهو بكسر النون وبفتحها، من تشبه بخلقة النساء في ¬

_ (أ) في الأصل: مرفوعًا. (ب) ساقط من: الأصل.

حركاته وكلامه وغير ذلك من الأمور المختصة بالنساء، وأما هيئة اللباس فهو يختلف باختلاف عادات الناس؛ فإن كان من عادة أهل بلدة الاستواء في اللباس فلا محذور في ذلك، وهذا الذم في حق من تعمد ذلك باختياره، وأما من كان ذلك من أصل خلقته فيؤمر بتكلف تركه والإدمان على ذلك بالتدريج، وهذا يؤخذ من الحديث الآخر وهو: "لعن الله المتشبهين" (¬1). فهو يدل على قصد التشبه، [وأطلق النووي] (أ) (¬2) أنه لا يجب على المخنث الخلقي تكلف خلاف ما هو عليه، ويحمل كلامه على أنه إذا لم يقدر على التغيير، وظاهر اللفظ تحريم تشبه الرجال بالنساء، وكذا العكس من حديث آخر، إلا أنه مبني على أن اللعن لقبح الفعل، وهو محتمل، مع أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يأذن للمخنثين بالدخول على النساء، وإنما نفى من سمع منه وصف المرأة بما لا يفطن [له] (ب) إلا من كان له إربة، فهو لأجل تتبع أوصاف الأجنبية، وكذلك من خضب كفيه بالحناء لخشية الفتنة، وكذلك من نفاهم عمر إنما هو لخشية الفتنة كما يدل عليه القصص، وقد استوفى تعداد المغرَّبين أبو الحسن المدائني في "كتاب المغرَّبين" (¬3)، فلا يدل اللعن علي التحريم. وقوله: والمترجلات من النساء. المراد المتشبهات بالرجال، وقد جاء في ¬

_ (أ) في جـ: وأطل الثوري. (ب) في الأصل، جـ: منه. والمثبت من سبل السلام 4/ 30.

حديث أبي داود (¬1) عن عكرمة: فقلت له: ما المترجلات من النساء؟ قال: المتشبهات بالرجال. قال ابن التين (¬2): المرأد باللعن في هذا الحديث: من تشبه من الرجال بالنساء في الزي، ومن تشبه من النساء بالرجال كذلك، فأما من انتهى في التشبه بالنساء من الرجال إلى أن يؤتى في دبره، وبالرجال من النساء إلى أن تتعاطى السحق، فإن لهذين المصنفين من اللوم والعقوبة أشد ممن لم يصل إلى ذلك. قال: وإنما أمر بإخراج من تعاطى ذلك من البيوت (أ)؛ لئلا يفضي الأمر بالتشبه إلى تعاطي ذلك الأمر المنكر. 1015 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ادفعوا الحدود ما وجدتم لها مدفعًا". أخرجه ابن ماجه، وإسناده ضعيف (¬3). وأخرجه الترمذي والحاكم من حديث عائشة رضي الله عنها بلفظ: "ادرءوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم". وهو ضعيف أيضًا (¬4). ورواه البيهقي عن علي من قوله بلفظ: ادرءوا الحدود بالشبهات (¬5). تمام حديث عائشة: "فإن كان له مخرج فخلوا سبيله، فإن الإمام أن ¬

_ (أ) بعده في الأصل، جـ: كما في الباب الذي يليه.

يخطئ في العفو خير من أن يخطئ في العقوبة". وفي إسناده يزيد بن زياد الدمشقي وهو ضعيف (¬1)، قد قال فيه البخاري: منكر الحديث (¬2). وقال النسائي: متروك الحديث (¬3). ورواه وكيع عنه موقوفًا (¬4)، وهو أصح، قال الترمذي: وقد روي عن غير واحد من الصحابة أنهم قالوا ذلك (¬5). وقال البيهقي في "السنن": رواية الوقف أقرب إلى الصواب. قال: ورواه رشدين عن عقيل عن الزهري، ورشدين ضعيف أيضًا، ورويناه عن علي مرفوعًا: "ادرءوا الحدود، ولا ينبغي للإمام أن يعطل الحدود". وفيه المختار بن نافع (¬6)، وهو منكر الحديث، قاله البخاري؛ قال: وأصح ما فيه حديث سفيان الثوري عن عاصم عن [أبي] (أ) وائل عن عبد الله بن مسعود قال: ادرءوا الحدود بالشبهات، ادفعوا القتل عن المسلمين ما استطعتم. وروي عن عقبة بن عامر ومعاذ أيضًا موقوفًا، وروي منقطعًا وموقوفًا على عمر (¬7). قال المصنف رحمه الله تعالى: ورواه [أبو] (ب) محمد بن حزم في كتاب ¬

_ (أ) في الأصل، جـ: ابن أبي. والمثبت من سنن البيهقي، وينظر تهذيب الكمال 12/ 548. (ب) ساقط من: الأصل، جـ. والمثبت هو الصواب. وينظر سير أعلام النبلاء 18/ 184.

"الإيصال" من حديث عمر موقوفًا عليه بإسناد صحيح، وفي ابن أبي شيبة (¬1) من طريق إبراهيم النخعي عن عمر: لأن أخطئ في الحدود بالشبهات أحب إلى من أن أقيمها بالشبهات. وفي "مسند أبي حنيفة" للحارثي (¬2) من طريق مقسم عن ابن عباس بلفظ: "ادرءوا الحدود بالشبهات". مرفوعًا. الحديث فيه دلالة على أنه يدرأ الحد إذا ادعى من لزمه شبهة يجوز وقوعها؛ وذلك إذا ادعى الإكراه، أو أن المرأة أتيت وهي نائمة، أو نحو ذلك، ولا يحتاج إلى إقامة شهادة على (أ) تلك الشبهة التي ادعاها. والله أعلم. 1016 - وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "اجتتبوا هذه القاذورات التي نهى الله عنها، فمن ألم فليستتر بستر الله وليتب إلى الله، فإنه من يبد لنا صفحته نقم عليه كتاب الله عز وجل". رواه الحاكم، وهو في "الموطأ" من مراسيل زيد بن أسلم (¬3). الحديث أخرجه الحاكم في "المستدرك" عن ابن عمر، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قام بعد رجم الأسلمي، فقال: "اجتنبوا" الحديث. قال المصنف رحمه الله تعالى (¬4): ورويناه في "جزء هلال الحفار" عن حسين بن يحيى القطان عن ¬

_ (أ) في جـ: في.

[حفص بن عمرو الربالي] (أ) عن عبد الوهاب الثقفي عن يحيى بن سعيد الأنصاري به إلى قوله: "فليستتر بستر الله". وصححه ابن السكن، وذكره الدارقطني في "العلل" وقال: روي عن عبد الله بن دينار مسندًا ومرسلًا، والمرسل أشبه. وفي "الموطأ" عن زيد بن أسلم، أن رجلًا اعترف على نفسه بالزنى على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فدعا له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بسوط. الحديث، ثم قال: "أيها الناس، قد آن لكم أن تنتهوا عن حدود الله، فمن أصاب من هذه القاذورات". فذكره، وفي اخره: "نقم عليه كتاب الله". ورواه الشافعي (¬1) عن مالك، قال: وهو منقطع. وقال ابن عبد البر (¬2): لا أعلم هذا الحديث أسند بوجه من الوجوه. ومراده بذلك من حديث مالك، وأما حديث الحاكم فهو مسند، مع أن إمام الحرمين في "النهاية" قال: إنه صحيح متفق على صحته. قال ابن الصلاح: وهذا مما يتعجب منه العارف بالحديث، وله أشباه بذلك كثيرة أوقعه فيها اطراحه صناعة الحديث التي يفتقر إليها كل فقيه وعالم. انتهى. ولكنه ورد على ابن الصلاح بأن الحاكم ذكر أنه على شرطهما، فلعل إمام الحرمين أراد بالاتفاق على صحته أنه على شرط الصحة. والله أعلم. قوله: "اجتنبوا هذه القاذورات". الأمر للوجوب؛ فإن القاذورة المراد بها الفعل القبيح والقول السيئ مما نهى الله سبحانه وتعالى عنه مما يجب عليه ¬

_ (أ) في الأصل، جـ: جعفر بن عمرو الرياني. والمثبت من التلخيص، وينظر تهذيب الكمال 7/ 52.

حد كالزنى وشرب الخمر. والحديث يدل على أنه يجب على من فعل معصية أن يستتر بستر الله تعالى، ولا يفضح نفسه بالإقرار بذلك الفعل، ويبادر إلى التوبة، وان أخبر أحدًا بذلك ندب له أن يأمره بالتوبة، ويستره عن الناس، كما جرى لماعز مع أبي بكر ثم عمر، فإنهما أمراه بالستر والتوبة (¬1). وقولة - صلى الله عليه وسلم - لهزال: "لو سترته بثوبك لكان خيرًا لك" (¬2). وذكر الثوب مبالغة؛ أي. لو لم تجد السبيل إلى ستره [إلا] (أ) بردائك ممن علم أمره كان أفضل مما أشرت عليه به من الإظهار. وقوله: "بيد لنا صفحته". أي يظهر لنا حقيقة أمره، استعار الصفحة التي هي جانب الوجه للأمر المظهر؛ لإظهارها عند الإقرار بالشيء والمواجهة بالخطاب. وقوله: "نقم عليه كتاب الله". أي الحد الذي وجب بكتاب الله تعالى، وفيه دلالة على أنه إذا ظهر عند الإمام أو الحاكم ما يوجب الحد باستكمال شروطه وجب إقامته وحرم العفو، وهو في معنى قوله: "تعافوا الحدود فيما بينكم، فما بلغني من حد فقد وجب". ترجم له أبو داود (¬3): العفو عن الحد ما لم بيلغ السلطان. وصححه الحاكم (¬4)، وسنده إلى عمرو بن شعيب صحيح. ¬

_ (أ) ساقط من: الأصل، جـ. والمثبت من الفتح 12/ 125.

باب حد القذف

باب حد القذف القذف في اللغة بمعنى الرمي بالشيء، يقال: قذفه بالحجر. أي رماه به، ومنه قوله تعالى: {بَل نَقذِفُ بِالحقِ عَلَى الباطِل} (¬1). وفي الشرع: الرمي بوطء يوجب الحد على المقذوف. 1017 - وعن عائشة رضي الله عنها قالت: لما نزل عذري قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على المنبر، فذكر ذلك، وتلا القرآن، فلما نزل أمر برجلين وامرأة فضربوا الحد. أخرجه أحمد والأربعة وأشار إليه البخاري (¬2). قولها: عذري. أي البراءة لها مما نسب إليها أهل الإفك، والمراد بالقرآن الذي تلاه هو ما أنزل في (أ) التبرئة، وهو قوله تعالى: {إِنَ الَذِينَ جَاءُو بالإفكِ}. إلى قوله: {وَرِزقٌ كَرِيمٌ} (¬3) ثماني عشرة آية. كذا رواه ابن أبي حاتم والحاكم في "الإكليل" من مرسل سعيد بن جبير (¬4)، وفي البخاري (¬5): ¬

_ (أ) في جـ: من.

العشر الآيات إلى قوله تعالى: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ}. وفي رواية عطاء الخراساني عن الزهريّ: إلى قوله: {وَاللَّهَ غفور رَحِيمٌ} (¬1). وعدد الآيات إلى هذا الموضع ثلاث عشرة آية، فلعل قول عائشة: عشر آيات. مجاز بطريق إلغاء الكسر. وفي رواية الحكم بن عتيبة (أ) مرسلًا عند الطبراني: فأنزل الله خمس عشرة آية من سورة النور حتى بلغ: {الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ} (¬2). وهذا فيه تجوز، وعدة الآي إلى هذا الموضع ست عشرة. وعند أبي داود (¬3) من طريق حميد الأعرج عن الزهريّ [عن عروة] (ب) عن عائشة: جلس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكشف الثوب عن وجهه ثم قال: "أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ}. وفي رواية ابن إسحاق (¬4): ثم خرج إلى الناس فخطبهم وتلا عليهم. ويجمع بين الروايتين بأنه قرأ ذلك عند (جـ) عائشة، ثم خرج فقرأها على الناس. وقوله: أمر برجلين وامرأة. الرجلان هما حسان ومسطح، والمرأة حمنة بنت جحش، وظاهر هذا أن عبد الله بن أبي لم يقم عليه الحد، وكذا في ¬

_ (أ) في جـ: عيينة. (ب) ساقط من: الأصل. وينظر مصدر التخريج. (جـ) في جـ: عن.

حديث أبي هريرة عند [البزار] (أ) (¬1)، وبنى على ذلك ابن القيم (¬2)، وهو وجه قول من قال: إن للإمام إسقاط الحد وتأخيره لمصلحة. وأخرج الحاكم (¬3) في "الإكليل" عن الحسن بن زيد عن عبد الله بن أبي بكر، أنه من جملة من حده. ويفهم من البخاري في آخر رواية هشام بن عروة حيث قال (¬4): وكان الذي تكلم به مسطح وحسان بن ثابت والمنافق عبد الله بن أبي. وصحح الماوردي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يحدهم، واستند إلى أن الحد إنما يثبت ببينة أو إقرار، وورد عليه بأنه قد ثبت ما يوجبه بنص القرآن الكريم، وحد القذف يثبت بعدم ثبوت ما قذفوا به، ولا يحتاج في إثباته إلى بينة، والذي ذكر إنما هو في حد الزنى والسرقة والشرب. والله أعلم. 1018 - وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: أول لعان كان في الإسلام، أن شريك بن سحماء قذفه هلال بن أمية بامرأته، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.: "البينة وإلا فحد في ظهرك"الحديث. أخرجه أبو يعلى، ورجاله ثقات (¬5)، و (ب) في البخاري نحوه من حديث ابن عباس رضي الله عنه (¬6). ¬

_ (أ) في النسخ: البرا. والمثبت من الفتح 8/ 479. (ب) زاد بعده في الأصل: هو.

حديث أنس أخرجه أبو يعلى، وأخرجه مسلم (¬1) أيضًا من طريق هشام بن حسان عن محمد بن سيرين عن أنس، وأخرجه البخاري من طريق هشام بن حسان عن عكرمة عن ابن عباس، وقد أعل هذا الحديث باختلاف الطريقين عن هشام، والجمع ممكن بأن لهشام شيخين؛ أحدهما محمد بن سيرين، والآخر عكرمة، فروي الحديث من الطريقين، وأخرج البخاري إحداهما، ومسلم الأخرى. وقوله: أول لعان. قد اختلفت الروايات في سبب نزول آية اللعان؛ ففي رواية ابن عباس وأنس أنها في قصة هلال، وفي حديث سهل -أخرجه البخاري أيضًا- أنها نزلت في قصة عويمر العجلاني؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "قد أنزل الله فيك وفي صاحبتك" (¬2). ومن العلماء من رجح أنها نزلت في شأن عويمر، ومنهم من رجح أنها نزلت في شأن هلال، وصادف مجيء عويمر أيضًا، فكانت في شأنهما معًا، وقد جنح النووي (أ) إلى هذا (¬3)، وسبقه الخطيب (¬4) وقال: لعله اتفق كونهما معًا في وقت واحد، مع أنه روى البزار (¬5) ¬

_ (أ) في جـ: الثوري.

من طريق زيد بن [يُثيع] (أ) عن حذيفة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأبي بكر: "لو رأيت مع أم رومان رجلًا ما كنت فاعلًا به؟ ". قال: كنت فاعلًا به (ب) شرًّا. قال: "فأنت يا عمر؟ ". قال: كنت أقول: لعن الله الأبعد. قال: فنزلت. وأجاب ابن الصباغ في "الشامل" (¬1) بأن الآية نزلت في هلال، وأما قوله لعويمر: "قد نزل فيك وفي صاحبتك". فمعناه [ما] (جـ) نزل في قصة هلال. وجوز القرطبي (¬2) أن تكون الآية نزلت مرتين، والجمع بين الروايات وحملها على الوجه الممكن أولى، وقد أنكر أبو عبد الله بن أبي صفرة أخو المهلب بن أبي صفرة ذكر هلال بن أمية، قال: وهو خطأ، والصحيح أنه عويمر. وقال ابن العربي (¬3): قال الناس: هو وهم من هشام بن حسان ولم يقله غيره، وإنما القصة لعويمر العجلاني. وقال النووي في "البهمات": اختلفوا في الملاعن علي ثلاثة أقوال؛ عويمر العجلاني، وهلال بن أمية، وعاصم بن عدي. ثم نقل عن الواحدي أن أظهر هذه الأقوال أنه عويمر، وقد تعقب على هذا بأن التخطئة خطأ، فإن حديث هلال ثابت في "الصحيحين"، ولم يتفرد به هشام بن حسان، بل وافقه عباد بن ¬

_ (أ) في جـ: نفيع، وكذا في الأصل ولكن غير منقوطة، وفي الفتح 8/ 450: تبيع. والمثبت من مصدر التخريج، وينظر تهذيب الكمال 10/ 115. (ب) ساقطة من: جـ. (جـ) ساقط من: الأصل، جـ. والمثبت من مصدر التخريج.

منصور (¬1)، وكذا جرير بن حازم عن أيوب أخرجه الطبري (أ) وابن مردويه موصولًا (¬2)، قال: لما قذف هلال بن أمية امرأته. وترجيح الواحدي مرجوح؛ لأن الجمع الممكن أولى من (ب) الترجيح. وقوله: وعاصم بن عدي. فيه نظر؛ لأن عاصمًا إنما أتى إليه عويمر، وذكر له أن يسأل له النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلم يكن ملاعنًا. والحديث فيه دلالة على أن الزوج إذا عجز عن البينة وجب عليه الحد، ولكنه نسخ وجوب الحد بالملاعنة، ويكون هذا من نسخ السنة بالقرآن. والله أعلم. وإن كانت الآية الأولى، وهي قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} (¬3). سابقة على آية اللعان، كانت هذه الآية إما ناسخة على فرض تراخي النزول عند من (جـ يشترطه لقذف جـ) الزوج، أو مخصصة إذا لم يتراخ النزول؛ لعموم: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ}. أو تكون هذه الآية قرينة على أن قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ}. عموم أريد به الخصوص، ¬

_ (أ) في جـ: الطبراني. (ب) في جـ: في. (جـ-جـ) في جـ: يشترط ذلك القذف.

وهو من عدا القاذف لزوجته مجازًا، من استعمال العام في الخاص بخصوصه. 1019 - وعن عبد الله بن عامر بن ربيعة: لقد أدركت أبا بكر وعمر وعثمان ومن بعدهم، فلم أرهم يضربون المملوك في القذف إلا أربعين. رواه مالك والثوري في "جامعه" (¬1). هو أبو عمران عبد الله بن عامر اليحصبي (¬2)؛ بفتح الياء تحتها نقطتان وسكون الحاء المهملة وكسر الصاد المهملة وقد تفتح وبالباء الموحدة، القارئ الشامي، كان عالمًا ثقة حافظًا فيما رواه، من التابعين في الطقة الثانية، أحد القراء السبعة، روى عن واثلة بن الأسقع ومعاوية ولقيهما، وقرأ القرآن على المغيرة بن أبي شهاب المخزومي عن عثمان بن عفان، ولد سنة إحدى وعشرين من الهجرة في أولها، ومات يوم عاشوراء سنة ثماني عشرة ومائة بدمشق، وله سبع وتسعون سنة، وتولى القضاء [زمن] (أ) الوليد بن عبد الملك. والحديث فيه دلالة على أن الحد هنا ينصف على المملوك، كما في ¬

_ (أ) في الأصل، جـ: من. وينظر تهذيب الكمال 15/ 144، 145.

حد (أ) الزنى، وقد ذهب إلى هذا الخلفاء الأربعة، وعليه جمهور فقهاء الأمصار، وذلك للقياس على حد الزنى، فيكون مخصصًا لعموم قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ} الآية (¬1). وذهب ابن مسعود (¬2) وعمر بن عبد العزيز والأوزاعي وأبو ثور والظاهرية إلى أنه لا ينصف، قالوا: لعموم الآية الكريمة. والجواب ما عرفت. 1020 - وعن أبي هرورة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من قذف مملوكه يقام عليه الحد يوم القيامة إلا أن يكون كما قال". مفق عليه (¬3). الحديث فيه دلالة على أن السيد إذا قذف عبده لا يقام عليه الحد؛ لأنه لو وجب عليه الحد [في الدنيا] (ب) لذكره كما ذكر الحد يوم القيامة، بل ولأنه لو حُدَّ في الدنيا لم يجب عليه الحد يوم القيامة، كما قد جاء في هذا أن الحد كفارة لمن أقيم عليه. وأما إذا قذف المملوك غير مالكه، فأجمع العلماء على أنه لا يجب الحد، ومستند الإجماع القياس على تنصيف الحد لو وجب عليه، فلم يساو الحر، فكذلك لا يساوي الحر في أنه يحد قاذفه لنقصان مرتبته، فلم يجب حد على قاذفه، إلا أم الولد، فإن في قذفها ¬

_ (أ) في جـ: حديث. (ب) ساقطة من: الأصل.

خلافًا؛ فذهبت الهدوية والشافعي وأبو حنيفة وأبو يوسف إلى أنه لا حد على قاذفها؛ لأنها مملوكة قبل موت السيد، وقال مالك وجماعة ومنهم الحسن البصري وأهل الظاهر: إنه يجب الحد. وأخرج عبد الرزاق (¬1) عن معمر عن أيوب عن نافع، أنه سأل ابن عمر عن قذف أم الولد، فقال: يضرب الحد صاغرًا. وهذا سند صحيح، وذهب محمد بن الحسن الشيباني إلى أنه إن كان معها ولد حد قاذفها، وإلا لم يحد. ¬

_ (¬1) عبد الرزاق 7/ 439 ح 13799.

باب حد السرقة

باب حد السرقة 1021 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تقطع يد السارق إلا في ربع دينار فصاعدًا". متفق عليه (¬1) واللفظ لمسلم. ولفظ البخاري: "تقطع يد السارق في ربع دينار فصاعدًا". وفي رواية لأحمد (¬2): "اقطعوا في ربع دينار، ولا تقطعوا فيما هو أدنى من ذلك". الحديث فيه دلالة على أنه يعتبر في الشيء المسروق أن يبلغ هذا القدر وهو ربع دينار فأكثر من ذلك؛ لأن معنى قوله: "فصاعدًا". أي فزائدًا على ذلك، وهو منصوب على الحالية، ويستعمل بالفاء وبثم، ولا يستعمل بالواو، قال ابن جني (¬3): هو حال مؤكدة؛ لأن معناه: ولو زاد. وإذا زاد لم يكن إلا صاعدًا. وقد جاء في بعض ألفاظ الحديث: "فما فوقه". بدل قوله: "صاعدًا". واشتراط النصاب هو قول الجمهور، والخلاف في ذلك للحسن ¬

_ (¬1) البخاري، كتاب الحدود، باب قول الله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} 12/ 96 ح 6789، 6790، ومسلم، كتاب الحدود، باب حد السرقة ونصابها 3/ 1312 ح 1684/ 2 - 4، وأبو داود، كتاب الحدود، باب ما يقطع فيه السارق 3/ 133 ح 4384، والترمذي، كتاب الحدود، باب ما جاء في كم تقطع يد السارق 4/ 40 ح 1445، والنسائي، كتاب قطع السارق، باب ذكر اختلاف أبي بكر بن محمد وعبد الله بن أبي بكر عن عمرة في هذا الحديث 8/ 79، 80، وابن ماجه، كتاب الحدود، باب حد السارق 2/ 862 ح 2585. (¬2) أحمد 6/ 80. (¬3) الفتح 12/ 100.

البصري والخوارج والظاهرية، فقالوا: يقطع في القليل والكثير. وقال به أبو عبد الرحمن ابن بنت الشافعي (¬1)؛ لعموم قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} الآية (¬2). وربما احتجوا بما أخرجه البخاري (¬3) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أنه قال - صلى الله عليه وسلم -: "لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده، ويسرق الحبل فتقطع يده". والجواب عليهم (أ): أن الآية الكريمة مطلقة في جنس المسروق وقدره، والحديث بيان لها، وأما البيضة فليس المقصود أنه يقطع بسرق البيضة والحبل، وإنما المراد تحقير شأن السارق وخسارة ما ربحه من السرقة؛ وهو أنه إذا تعاطى هذه الأشياء الحقيرة وصار ذلك خلقًا له، جرأه على سرقة ما هو أكثر؛ الذي يبلغ قدر ما يقطع به، فليحذر هذا القليل قبل أن تملكه العادة، فيتعاطى سرقة ما هو أكثر من ذلك. ذكر معنى هذا التأويل [الخطابي] (ب) (¬4) وسبقه إليه ابن قتيبة (¬5)، ونظير هذا قوله - صلى الله عليه وسلم -: "من بنى لله مسجدًا ولو كمفحص قطاة" (¬6). وقوله: ¬

_ (أ) في جـ: عنه. (ب) ساقطة من: الأصل.

"تصدَّقي ولو بظلف محرق" (¬1). ومن المعلوم أن مفحص القطاة لا يصح تسبيله (¬2)، ولا الصدقة بالظلف [المحرق] (أ)؛ لعدم الانتفاع بهما فيما قصدوا، إنما المراد المبالغة في الترغيب، وأن القاصد لتسبيل المسجد يصل إلى الخير الذي ينتفع به، وأما تأويل الأعمش للحديث بأن المراد بالبيضة بيضة الحديد، والحبل حبل السفن، فغير مناسب؛ لأنهما ليسا علما لكثرة المسروق ولا لقلته، فلا يناسب المقام من تقبيح حال (ب) السارق ودناءة همته وخسران صفقته، وبعضهم صحيح تأويل الأعمش بما أخرجه ابن أبي شيبة (¬3) عن حاتم بن إسماعيل عن جعفر بن محمد عن أبيه عن علي رضي الله عنه، أنه قطع يد سارق في بيضة حديد، ثمنها ربع دينار. ورجاله ثقات مع انقطاعه، فيبطل حينئذ احتجاج المحتج به، إذا كان هذا الحديث واردًا في سياق هذه القصة. والقائلون بأن الموجب للقطع هو نصاب معروف اختلفوا في ذلك اختلافًا كثيرًا، انتهت الأقوال إلى عشرين قولًا، والمشهور المستند إلى أدلة ثابتة هو قولان؛ أحدهما: قول فقهاء الحجاز والشافعي وغيرهم. والثاني: قول فقهاء العراق وأكثر أهل البيت. ¬

_ (أ) ساقطة من: الأصل. (ب) ساقطة من: جـ.

أما فقهاء الحجاز فإنهم أوجبوا القطع في ثلاثة دراهم من الفضة، وربع دينار من الذهب، واختلفوا فيما يقوَّم به غير الذهب والفضة؛ فقال مالك في المشهور: يقوَّم بالدراهم لا بربع دينار؛ يعني إذا اختلف صرفهما، مثل أن يكون ربع الدينار صرف درهمين مثلًا. وقال الشافعي: الأصل في تقويم الأشياء هو الذهب؛ لأنه الأصل في جواهر الأرض كلها. قال الخطابي (¬1): ولذلك إن الصكاك القديمة كان يكتب فيها: عشرة دراهم وزن سبعة مثاقيل. فعرفت الدراهم بالدنانير وحصرت بها، حتى قال الشافعي: إن الثلاثة الدراهم إذا لم تكن قيمتها ربع الدينار لم توجب القطع. ويحتج له بما أخرجه ابن المنذر من طريق عمرة (¬2): أتي عثمان بسارق سرق أترجة، قوِّمت بثلاثة دراهم من حساب الدينار باثني عشر، فقطع. ومن طريق جعفر بن محمد عن أبيه، أن عليّا رضي الله عنه قطع في ربع دينار (أ) كانت قيمته درهمين ونصفًا (¬3). وقال مالك: يقوَّم بالدراهم لا بربع الدينار. وكل واحد منهما إذا سرق معتبر في نفسه لا يقوَّم بالآخر. وذكر بعض البغداديين عنه أنه ينظر في تقويم العروض بما كان غالبًا في نقود أهل البلد (¬4). قال ابن رشد من المالكية: وأظن أن في المذهب من يقول: إن ربع الدينار يقوَّم بالثلاثة دراهم. وقال يقول الشافعي في التقويم أبو ثور والأوزاعي وداود، وقال يقول مالك ¬

_ (أ) زاد بعده في الأصل: و.

في التقويم بالدراهم أحمد. وأما فقهاء العراق فالنصاب الموجب للقطع عندهم هو عشرة دراهم، ولا يجب في أقل من ذلك. فعمدة القول الأول حديث عائشة رضي الله عنها، وهو مبين لإطلاق الآية الكريمة، وهو حديث ثابت في "الصحيحين"، وإن رواه مالك موقوفًا فقد أسنده غيره. وعمدة القول الثاني ما أخرجه مالك (¬1) عن نافع عن ابن عمر، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قطع في مجن (¬2) قيمته ثلاثة دراهم. وأخرجاه في "الصحيحين" (¬3)، وأخرجه البيهقي (¬4) من طرق متعددة بهذا اللفظ، قالوا: فقد ثبت أنه قطع في المجن، ولكن [قيمته] (أ) ليس كما في هذه الرواية: ثلاثة دراهم. بل قيمته عشرة دراهم، فأخرج البيهقي والطحاوي (¬5) من حديث محمد بن إسحاق عن أيوب بن موسى عن عطاء عن ابن عباس قال: كان ثمن المجن على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقوَّم عشرة دراهم. وروي محمد بن إسحاق عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: كان ثمن (ب) المجن على ¬

_ (أ) ساقطة من: الأصل. (ب) في جـ: على.

عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عشرة دراهم (¬1). فهذه الرواية معارضة للرواية الأولى أن قيمته ثلاثة دراهم، وإذا كان هذا الاختلاف فيما بين الصحابة في قيمة المجن، فالواجب الاحتياط فيما يستباح به العضو المحرم قطعه إلا بحقه، فيجب الأخذ بالمتيقن وهو الأكثر، وبمثل هذا قال ابن العربي المالكي (¬2) حيث قال: ذهب سفيان الثوري مع جلالته في الحديث على أن القطع لا يكون إلا في عشرة دراهم؛ وذلك أن اليد محترمة بالإجماع، فلا تستباح إلا بما أجمع عليه، والعشرة متفق على القطع بها عند الجميع، فيتمسك به ما لم يقع الاتفاق على ما دون ذلك. وهذا كلام حسن، وقد أجيب عن حديث ابن عباس بأن محمد بن إسحاق قد خالفه الحكم بن [عتيبة] (أ)؛ فرواه عن عطاء ومجاهد عن أيمن الحبشي قال: كان يقال: لا يقطع السارق إلا في ثمن المجن وأكثر. قال: وكان ثمن المجن يومئذ دينارًا (¬3). قال البخاري (¬4): تابعه شيبان عن منصور، وأيمن الحبشي من أهل مكة مولى ابن أبي (ب) عمرة (جـ) المكي، سمع عائشة، [روى] (د) عنه ابنه عبد الواحد بن أيمن. قال ¬

_ (أ) في جـ: عيينة. (ب) ساقطة من: جـ. (جـ) كذا في الأصل، جـ، وسنن البيهقي 8/ 257. وفي التاريخ الكبير: عمرو. وهو مولى عبد الله بن أبي عمرو ... وقيل: مولى ابن أبي عمرة. تهذيب الكمال 3/ 451. (د) في الأصل: رواه. وينظر مصدر التخريج.

البيهقي (¬1): وروايته عن النبي - صلى الله عليه وسلم - منقطعة. وكذا حديث ابن عمر [أخرجاه] (أ) في "الصحيحين": أن قيمته ثلاثة دراهم. وأخرج البيهقي (¬2) من حديث عائشة رضي الله عنها، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يقطع السارق فيما دون ثمن المجن". فقيل لعائشة رضي لله عنها: ما ثمن المجن؟ قالت: ربع دينار. قال الشافعي رحمه الله تعالى (¬3): وربع الدينار موافق لرواية ثلاثة دراهم؛ وذلك أن الصرف على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اثنا عشر درهمًا، وكان كذلك بعده، وفرض عمر الدية على أهل الورق اثنى عشر ألف درهم، وعلى أهل الذهب ألف دينار. وأخرج (¬4) أن سارقًا سرق في زمن عثمان أترجة، فأمر بها عثمان فقوِّمت ثلاثة دراهم من صرف اثني عشر درهمًا دينار، فقطع يده. قال مالك: وهي الأترجة التي يأكلها [الناس] (ب). وأخرج (¬5) عن علي من حديث جعفر عن أبيه عن علي: القطع في ربع دينار فصاعدًا. ومن حديث جعفر بن محمد عن أبيه عن علي، أنه قطع يد سارق في بيضة من حديد؛ ثمن ربع دينار (¬6). إذا عرفت هذا، فقد ظهر صحة الاحتجاج بحديث الباب، وما اعتل به ¬

_ (أ) في الأصل، جـ: أخرجه. وتقدم ص 85. (ب) ساقطة من: الأصل.

الطحاوي في إعلاله، بأن الزهريّ اضطرب فيه لاختلاف الرواة عنه، فإن ابن عيينة رواه بلفظ: كان يقطع. وهذا كان كان هذا اللفظ ظاهرا في الإخبار عن زمن النبي - صلى الله عليه وسلم -، إلا أن التقويم لما وقع لأجله القطع من عندها، فقولها: في ربع دينار. أي بما غلب في ظنها تقويمه به، ويحتمل أن تكون قيمته أكثر في نفس الأمر، وهذا غير وارد، فإن من البعيد أن تجزم بالأمر بالنظر إلى ظنها، ثم التقويم لا يتفاوت في العادة مثل هذا التفاوت، بأن يكون مقومه له بربع دينار، وهو يسوى عند غيرها دينارًا [أو] (أ) يقل منه قليلًا، وجل الرواة عن الزهريّ رووه بلفظ النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومثل هذا لا يكون اضطرابًا مع إمكان الترجيح، مع أن ابن عيينة قد رواه مثل رواية الأكثر من لفظ النبي - صلى الله عليه وسلم -، وخالف في بعض رواياته، فيكون الاضطراب في روايته، فلا تكون قادحة في رواية غيره، ولا يسلم ترجيح روايته في الزهريّ كما ادعاه الطحاوي؛ فإن يحيى بن معين وأحمد بن صالح المصري رجحا يونس عليه، مع أنه يجوز أن تكون عائشة أخبرت يقول النبي - صلى الله عليه وسلم - وبفعله، فنقل عنها الروايتان، ولا مخالفة بينهما، مع أن حديث ابن إسحاق في تقويم المجن بعشرة دراهم رواه الطحاوي بلفظ: كان قيمة المجن الذي قطع فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عشرة دراهم. وفيه الاحتمال الذي أورده في حديث عائشة، وفي إسناده اضطراب كثير، وفي لفظ الطحاوي من رواية أيمن ابن أم أيمن: لا يقطع السارق إلا في حجفة (¬1). وقومت يومئذ على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ¬

_ (أ) في الأصل، جـ: و. والمثبت يقتضيه السياق.

دينارًا أو عشرة دراهم. وفي لفظ له: أدنى ما يقطع فيه السارق ثمن المجن، وكان يقوم يومئذ بدينار. وجمع المذاهب في المسألة العشرين: الأول: القطع في كل قليل وكثير، تافه أو غير تافه. وهو قول أهل الظاهر والخوارج والحسن البصري [وأبي] (أ) عبد الرحمن ابن بنت الشافعي، وإن كان الإمام المهدي ذكر في "البحر" (¬1) أنه قام الإجماع على أنه لا يقطع في اليسير كالبصلة، ولعله يحمل قولهم في التافه، هو ما كان له قيمة في نفسه. ومقابل هذا القول القول الثاني: أنه لا يجب القطع إلا في أربعين درهمًا أو أربعة دنانير. نقله القاضي عياض (¬2) عن إبراهيم النخعي. الثالث: مثل الأول (ب إلا الشيء التافه ب)؛ لحديث عروة: لم يكن القطع في الشيء التافه (¬3). وروي عن ابن الزبير، أنه قطع في نعلين (¬4). وعثمان في فخارة (2). وعمر بن عبد العزيز في مد أو مدين (2). الرابع: تقطع في درهم فصاعدًا. وهو قول عثمان البتي (2) -بفتح ¬

_ (أ) في الأصل، جـ: وأبو. والمثبت من الفتح 12/ 106. (ب- ب) ساقط من: جـ.

الموحدة وتشديد التاء المثناة- من فقهاء البصرة، وربيعة من فقهاء المدينة، ونسبه القرطبي إلى عثمان ظنًّا أنه الخليفة، فأطلق. الخامس: في درهمين. وهو قول الحسن البصري، جزم به ابن المنذر عنه (¬1). السادس: فيما زاد على درهمين ولم يبلغ الثلاثة. أخرجه أبن أبي شيبة (¬2) بسند قوي عن أنس: أن أبا بكر قطع في شيء ما يساوي درهمين. وفي لفظ: لا يساوي ثلاثة دراهم. السابع: في ثلاثة دراهم، ويقوَّم ما عداها بها ولو كان ذهبًا. وهو رواية عن أحمد، وحكاه الخطابي عن مالك (¬3). الثامن: مثله، لكن إذا كان المسروق ذهبًا فنصابه ربع دينار، وإن كان فضة فنصابه ثلاثة دراهم، وإن كان غيرهما؛ فإن بلغت قيمته ثلاثة دراهم قطع به، وإن لم تبلغ لم يقطع ولو كان نصف دينار. وهو قول لمالك المعروف عند أتباعه، وهو رواية عن أحمد، ويحتج له بما أخرجه أحمد (1) من تأويل عمرة لحديث عائشة: اقطعوا في ربع دينار، ولا تقطعوا في أدنى من ذلك. قالت: وكان ربع الدينار قيمته ثلاثة دراهم. ويجاب عنه بأن المرفوع نص فلا يرجع إلى الموقوف. التاسع: مثله، إلا أنه إذا كان المسروق من غيرهما فما بلغ قيمة ¬

_ (¬1) الفتح 12/ 106. (¬2) ابن أبي شيبة 9/ 471. (¬3) معالم السنن 3/ 302، وينظر الفتح 12/ 106.

أحدهما [قُطع به] (أ). وهذا هو المشهور عن أحمد، ورواية عن إسحاق (¬1). العاشر: مثله، لكن لا يكتفي بأحدهما إلا إذا كانا غالبين، فإن كان أحدهما غالبًا فهو المعول عليه. وهو قول جماعة من المالكية، وهذا هو الحادي عشر. الثاني عشر: ربع دينار أو ما بلغ قيمته من فضة أو عرض. وهو مذهب الشافعي كما تقدم تقريره، وهو قول عائشة وعمرة وأبي بكر بن حزم وعمر بن عبد العزيز والأوزاعي والليث، ورواية عن إسحاق وعن داود، ونقله الخطابي (¬2) وغيره عن عمر وعثمان وعلي، وقد أخرجه ابن المنذر عن عمر بسند منقطع (¬3). الثالث عشر: أربعة دراهم. نقله عياض عن بعض الصحابة، ونقله ابن المنذر عن أبي هرورة وأبي سعيد (3). الرابع عشر: ثلث دينار. حكاه ابن المنذر عن أبي جعفر الباقر (3). الخامس عشر: خمسة دراهم. وهو قول ابن شبرمة وابن أبي ليلى من فقهاء الكوفة، ونقل عن الحسن البصري (¬4)، وعن [سليمان بن] (ب) يسار ¬

_ (أ) ساقطة من: الأصل، جـ. والمثبت من مصدر التخريج. (ب) في الأصل: سليمان، وفي جـ: سلمان ابن. والمثبت من مصدر التخريج.

أخرجه النسائي (¬1)، وجاء عن عمر: لا تقطع الخمس إلا في خمس. أخرجه ابن المنذر (¬2) من طريق منصور عن مجاهد عن سعيد بن المسيب عنه، وأخرج ابن أبي شيبة (¬3) عن أبي هريرة وأبي سعيد مثله، ونقله أبو زيد الدبوسي عن مالك وشذ بذلك. السادس عشر: عشرة دراهم أو ما بلغ قيمتها من ذهب أو عرض. (أوهو قول أكثر أهل البيت وأبي حنيفة والثوري، وقد تقدم تقرره. السابع عشر: دينار أو ما بلغ قيمته من فضة أو عرض أ). حكاه ابن حزم عن طائفة، وجزم ابن المنذر بأنه قول النخعي (¬4). الثامن عشر: دينار أو عشرة دراهم أو ما يساوي أحدهما. حكاه ابن حزم أيضًا (4)، وأخرجه ابن المنذر (¬5) عن علي بسند ضعيف، وعن ابن مسعود بسند منقطع، قال: وبه قال عطاء (¬6). التاسع عشر: ربع دينار فصاعدًا من الذهب، ومن غير الذهب كالفضة والعروض في القليل والكثير. وهو قول ابن حزم، ونقل ابن عبد البر نحوه عن ¬

_ (أ- أ) ساقطة من: جـ.

داود، إلا إذا كان الشيء تافهًا، واحتج بأن التحديد في الذهب ثبت منصوصًا، ولم يثبت التحديد صريحًا في غيره، فتبقى الآية الكريمة على عمومها. العشرون: المعتبر في التقويم بغالب نقد البلد؛ إن ذهبًا قوِّم ما عداه به، وإن فضة قوم بالفضة. وهذا مخرج من قول جماعة من المالكية. 1022 - وعن ابن عمر رضي الله عنهما، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قطع في معين قيمتة ثلاثة دراهم. متفق عليه (¬1). تقدم الكلام فيه. 1023 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده، ويسرق الحبل فتقطع يده". متفق عليه (¬2). تقدم الكلام فيه. 1024 - وعن عائشة رضي الله عنها، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "أتشفع في حد من حدود الله؟ ". ثم قام فخطب. فقال: "أيها الناس، إنما أهلك الذين من قبلكم، أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد". متفق ¬

_ (¬1) البخاري، كتاب الحدود، باب قول الله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا}. وفي كم يقطع. 12/ 97 ح 6795، ومسلم، كتاب الحدود، باب حد السرقة ونصابها 3/ 1313 ح 1686. (¬2) البخاري، كتاب الحدود، باب العبد السارق إذا لم يسم 12/ 81 ح 6783، ومسلم، كتاب الحدود، باب حد السرقة ونصابها 4/ 1313 ح 1687.

عليه (¬1) واللفظ لمسلم. وله (¬2) من وجه آخر عن عائشة رضي الله عنها قالت: كانت امرأة تستعير المتاع وتجحده، فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بقطع يدها. الحديث ورد في قصة المخزومية، واسمها فاطمة بنت الأسود بن عبد [الأسد] (أ) بن عبد الله بن عمر، وهي بنت أخي أبي سلمة بن عبد الأسد الصحابي الجليل الذي كان زوج أم سلمة قبل النبي - صلى الله عليه وسلم -، قتل أبوها كافرًا يوم بدر، قتله الحمزة بن عبد المطلب، ووهم من زعم أن له صحبة، وهي منسوبة إلى مخزوم بن يقظة -بفتح التحتانية والقاف بعدها ظاء معجمة مشالة- بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن مخزوم، ومخزوم أخو كتاب بن مرة الذي ينسب إليه بنو عبد مناف. وقيل: هي أم عمرو بنت سفيان بن عبد الأسد. وهي بنت عم المذكورة، أخرجه عبد الرزاق (¬3). والأول أصح، وقد ذكره ابن عبد البر في "الاستيعاب"، وابن سعد في ترجمتها (ب) في "الطبقات" (¬4). وأما عبد الغني في "المبهمات" (¬5) فقال: ¬

_ (أ) في الأصل: الأشد. وكتب فوقها: كذا. وينظر الإصابة 8/ 60. (ب) في جـ: ترجمتهما.

فاطمة بنت أبي الأسود بنت أخي أبي (أ) سلمة. ولا منافاة؛ لاحتمال أن يكون الأسود كنيته أبو الأسود. وأما أم عمرو فلها قصة أخرى، ذكر ابن سعد (¬1) أنها خرجت ليلًا فوقعت بركب نزلوا، فأخذت عيبة (¬2) لهم، فأخذها القوم فأوثقوها، فلما أصبحوا أتوا بها النبي - صلى الله عليه وسلم -، فعاذت بحقوي أم سلمة، فأمر بها النبي - صلى الله عليه وسلم - فقطعت. وكان ذلك في حجة الوداع، وقصة المخزومية في عام الفتح، وأخطأ ابن الجوزي لما جعلها واحدة وأنها أم عمرو (¬3)، وابن طاهر وابن بشكوال (¬4) ترددا في القصة بين فاطمة وأُم عمرو، بناء على أنها قصة واحدة. وقوله: "أتشفع في حد من حدود الله؟ ". الاستفهام فيه للإنكار، وكأنه قد كان سبق من النبي - صلى الله عليه وسلم - المنع من الشفاعة في الحد، فحسن الإنكار والجواب (ب) بالإنكار على أسامة. وأصل الحديث واللفظ اللبخاري: أن قريشا أهمتهم المرأة المخزومية التي سرقت، فقالوا: من يكلم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ومن يجترئ عليه إلا أسامة حب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فكلم رسوله الله - صلى الله عليه وسلم -، فقاله: "أتشفع ... " الحديث. وبعد قوله: "أقاموا عليه الحد": "وايم الله، لو أن فاطمة بنت ¬

_ (أ) زاد بعده في جـ: ابن. (ب) بعد في جـ: علي.

محمد سرقت لقطع محمد يدها". وقد جاء أنها عاذت بأم سلمة، وأخرج الحاكم موصولًا وأبو داود (¬1) تعليقًا أنها عاذت بزينب بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وقد استشكل بأن زينب قد سبق موتها في جمادى في سنة سبع، وهذه غزوة الفتح في رمضان سنة ثمان، وقيل: المراد زينب بنت أبي سلمة ربيبة النبي - صلى الله عليه وسلم -. ونسبتها إلى النبي مجاز، وقد جاء مصرحًا في رواية أحمد (¬2): بربيب (أ) النبي - صلى الله عليه وسلم -. وقد جاء أيضًا من رواية عبد الرزاق (¬3) أنها عاذت بعمر بن أبي سلمة، فأتى إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: أي أبه، إنها عمتي. وأراد بالعمة وإن كانت بنت عمه، لكبر سنها. والجمع بين الروايات أنها عاذت بأم سلمة وبنتها، وأنهم شفعوا فلم يشفعهم النبي - صلى الله عليه وسلم -، فطلب الجماعة من قريش من أسامة الشفاعة عسى أن يخصه النبي - صلى الله عليه وسلم - بالقبول، ولذلك قالوا: حب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. (ب فلذلك رد ب) عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - بالإنكار، وقد جاء في رواية أنه قال: استغفر لي يا رسول الله. وقد جاء في مرسل حبيب بن أبي ثابت (¬4): فلما أقبل أسامة ورآه النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تكلمني". فظاهره أنه لم يتكلم، وهي تخالف رواية البخاري: فكلمه. ويمكن الجمع بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما أقبل عرف ما يريد ¬

_ (أ) في الأصل، جـ: زينب ربيبة. والمثبت من مصدر التخريج، والفتح 12/ 94. (ب- ب) في جـ: فرد.

من الكلام، فقال: "لا تكلمني". ثم حصل منه الاجتراء وكلم النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولذلك جاء في رواية النسائي (¬1): فزبره. بفتح الزاي والموحدة؛ أي: أغلظ له في النهي حتى نسبه إلى الجهل. وفي رواية (¬2): فكلمه فتلون وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ففي هذا دلالة على أنه وقع الكلام من أسامة بعد النهي؛ لما عرف من خلق النبي - صلى الله عليه وسلم - الكريم من حسن التعليم، وأنه ما زبر إلا لما وقع الاجتراء بعد النهي. وظاهر الإطلاق أن الشفاعة في الحد لا تصلح، وإن لم يكن قد رفع (أ) إلى السلطان، إلا أن البخاري أورد الحديث بعد أن ترجم الباب: باب كراهة الشفاعة في الحد إذا رفع إلى السلطان. وكأنه أشار إلى ما ورد في بعض طرقه من مرسل حبيب بن أبي ثابت، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لأسامة لما شفع فيها: "لا تشفع في حد، فإن الحدود إذا انتهت إلي فليس بمترك". وله شاهد من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده رفعه: "تعافوا الحدود فيما بينكم، فما بلغني من حد فقد وجب". فترجم له أبو داود (¬3): العفو عن الحد ما لم يبلغ السلطان. وصححه الحاكم (¬4). وسنده إلى عمرو ابن شعيب صحيح، وأخرج أبو داود أيضًا، وأحمد، وصححه الحاكم (¬5)، من طريق يحيى بن راشد، قال: خرج علينا ابن عمر فقال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "من حالت شفاعته دون حد من حدود الله ¬

_ (أ) بعده في جـ: الأمر.

فقد ضاد الله في أمره". وأخرجه ابن أبي شيبة (¬1) من وجه [آخر] (أ) أصح منه عن ابن عمر موقوفًا. وللمرفوع شاهد من حديث أبي هريرة في "الأوسط" للطبراني (¬2)، وقال: "فقد ضاد الله في ملكه". وأخرجه أبو يعلى (¬3) عن علي، فذكر قصة ثم قال: قالوا: يا رسول الله -وقد أتي بسارق- أفلا عفوت؟ قال: "ذلك سلطان سوء الذي يعفو عن الحدود بينكم". وأخرج الطبراني (¬4) عن عروة بن الزبير قال: لقي الزبير سارقًا فشفع فيه، فقيل له: حتى يبلغ الإمام. قال: إذا بلغ الإمام فلعن الله الشافعي والمشفع. وأخرج ابن أبي شيبة (¬5) بسند حسن أن الزبير وعمارًا وابن عباس أخذوا سارقًا فخلوا سبيله، قال عكرمة: فقلت: بئس ما صنعتم حين خليتم سبيله. فقالوا: لا أم لك، أما لو كنت أنت لسرك أن يخلى سبيلك. وأخرجه الدارقطني (¬6) مرفوعًا من حديث الزبير موصولَا بلفظ: "اشفعوا ما لم يصل إلى الوالي، فإذا وصل إلى الوالي فعفا فلا عفا الله عنه". والموقوف هو المعتمد، وفي حديث صفوان عند أحمد، وأبي داود، والنسائي، وابن ماجه، والحاكم (¬7) في قصة الذي ¬

_ (أ) ساقطة من: الأصل، جـ. والمثبت من الفتح 12/ 87.

سرق رداءه، وأراد ألا يقطعه النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: "هلا قبل أن تأتيني به؟ ". وحديث ابن مسعود في قصة الذي سرق، فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بقطعه، وقال: "إنه ينبغي للإمام إذا انتهى إليه حد أن يقيمه، والله عفو يحب العفو" (¬1). وادعى ابن عبد البر الإجماع (¬2)، وكذا في "البحر" أنه يجب على السلطان الإقامة إذا بلغه الحد. وذكر الخطابي وغيره (¬3) عن مالك أنه فرق بين من عرف بأذية الناس وغيره، فقال: لا يشفع في الأول مطلقا قبل الرفع وبعده، وفي الثاني تحسن الشفاعة قبل الرفع لا بعده. وفي حديث عائشة مرفوعًا: "أقيلوا ذوي الهيئات زلاتهم إلا في الحدود" (¬4). ويستفاد منه جواز الشفاعة فيمن يقتضي منه التعزير، ونقل ابن عبد البر الاتفاق على ذلك (¬5)، وتحمل الأحاديث الواردة في الستر على المسلم أن ذلك قبل الرفع إلى الإمام. وقوله: "إنما أهلك". كذا في رواية قتيبة، وجاء في رواية أبي الوليد: "إنما ضل". وفي رواية سفيان عن النسائي (¬6): "إنما هلك بنو إسرائيل". وظاهر الحصر أنه كان سبب هلاك من تقدم على جهة العموم، و (أ) بني إسرائيل كما في رواية سفيان؛ بسبب تضييع حد السرقة. ولعل المراد من ¬

_ (أ) في جـ: أو.

"أهلك" بسبب تضييع الحدود، فيكون عاما مخصوصا، وذكر حد السرقة في هذا الحديث؛ لأنه من جملة تضييع الحدود لأجل المحاباة، وقد أخرج أبو الشيخ في كتاب "السرقة" (¬1) عن عائشهّ مرفوعًا، أنهم عطلوا الحدود عن الأغنياء، وأقاموها على الضعفاء. وقد ذكر عن بني إسرائيل في قصة اليهوديين اللذين زنيا، وفي حديث ابن عباس أنهم كانوا يأخذون الدية من الشريف إذا قتل عمدًا، والقصاص من الضعيف (¬2)، وغير ذلك. وقوله: "إذا سرق فيهم الشريف تركوه". جاء في رواية سفيان عند النسائي: "إذا أصاب فيهم الشريف الحد تركوه ولم يقيموه عليه". وفي رواية إسماعيل بن أمية: "وإذا سرق فيهم الوضيع قطعوه". وقوله: كانت امرأة تستعير المتاع وتجحده. تقدم الكلام في المرأة، وهذه الرواية أخرجها مسلم، وأبو داود (¬3)، وأخرجه النسائي (¬4) من حديث الزهريّ بلفظ: استعارت [امرأة] (أ) على ألسنة ناس -يُعرفون وهي لا تعرف-[حليًّا] (ب) فباعته وأخذت ثمنه. الحديث. وأخرجه عبد الرزاق (¬5) بسند صحيح إلى أبي بكر بن عبد الرحمن أن امرأة جاءت، فقالت: إن ¬

_ (أ) في الأصل، جـ: المرأة. والمثبت من مصدر التخريج، والفتح 12/ 89. (ب) ساقطة من: الأصل، جـ. والمثبت من مصدر التخريج، والفتح 12/ 89.

فلانة، [تستعيرك] (أ) حليًّا. فأعارتها إياه، فمكثت لا تراه، فجاءت إلى التي استعارت لها تسألها، فقالت: ما استعرتك شيئًا. فرجعت إلى الأخرى فأنكرت، فجاءت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فدعاها فسألها، فقالت: والذي بعثك بالحق ما استعرت منها شيئًا. فقال: "اذهبوا إلى بيتها تجدوه تحت فراشها". فأتوه فأخذوه، وأمر بها فقطعت. الحديث. وأخرج النسائي (¬1) أيضًا عن إسحاق بن راهويه [عن سفيان] (ب) عن الزهريّ عن عروة بلفظ: كانت مخزومية تستعير المتاع وتجحده. الحديث. وأخرج أبو داود والنسائي وأبو عوانة في "صحيحه" (¬2) من طريق أيوب عن نافع عن ابن عمر، أن امرأة مخزومية كانت تستعير المتاع وتجحده، فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بقطع يدها. وأخرجه النسائي وأبو عوانة (¬3) أيضًا من وجه آخر عن عبيد الله بن عمر عن نافع بلفظ: استعارت حليا. فهذه الروايات تصحح رواية الاستعارة، وبهذا يرد على من قدح في الرواية بأن معمرا تفرد (جـ) عن الزهريّ بقوله: استعارت وجحدت. فإنه قد تابعه عن الزهريّ شعيب ويونس، وتأيدت بما عرفت من الطرق الدالة على ثبوت الرواية. والحديث فيه دلالة على أن جاحد العارية يجحب عليه القطع، وقد ذهب ¬

_ (أ) في الأصل، جـ: تستعير. والمثبت من مصدر التخريج، والفتح 12/ 90. (ب) ساقطة من: الأصل، جـ. والمثبت من مصدر التخريج، والفتح 12/ 90. (جـ) في جـ: انفرد.

إلى هذا أحمد بن حنبل وإسحاق وأهل الظاهر، وانتصر له ابن حزم من الظاهرية، وفيه دلالة واضحة، فإنه رتب القطع على جحد العارية في القصة المذكورة، وذهب الجمهور إلى أنه لا يوجب القطع، قالوا: لأن الآية الكريمة ذكر فيها السارق، والجاحد لا يسمى سارقًا. ورد هذا ابن القيم (¬1)، وقال: إن الجحد داخل في اسم السرقة. قال: ولا يلزم القطع في جحد الغاصب والمختلس؛ للفرق في ذلك، وهو أن السارق وجاحد العارية لا يمكن الاحتراز منهما، بخلاف المختلس والمنتهب. قال: ولا شك أن الحاجة ماسة بين الناس إلى العارية، فلو علم المعير أن المستعير إذا جحد لا شيء عليه [لجر] (أ) ذلك إلى سد باب العارية، وهو خلاف ما تدل عليه حكمة الشرع، بخلاف ما إذا علم أنه يقطع، فإن ذلك يكون أدعى لاستمرار العارية. انتهى. وقد [فرَّ من] (ب) هذا بعض من قال بذلك، فخص القطع بمن استعار على لسان غيره مخادعًا للمستعار منه، ثم تصرف في العارية، وأنكرها لما طولب بها، فإن هذا لا يقطع بمجرد الخيانة، بل لمشاركة السارق في أخذ المال خفية. [غير] (جـ) أن ابن المنذر نقل عن إياس بن معاوية أنه قال: المختلس يقطع. وكأنه ألحقه بالسارق؛ لاشتراكهما في الأخذ خفية، ولعله يسميه ¬

_ (أ) في الأصل، جـ: بحر. والمثبت من الفتح 12/ 92. (ب) في الأصل، جـ: قرر. والمثبت من الفتح 12/ 93. (جـ) في الأصل، جـ: مع. والمثبت أنسب للسياق، وينظر الفتح 12/ 92.

سارقًا كما قال ابن الجوزي. وأخرج (أ) البيهقي (¬1) عن الفقهاء من أهل المدينة أنهم كانوا يقولون: على الطَّرَّار (¬2) القطع. وكانوا يقولون: لا [قطع] (ب) إلا فيما بلغت قيمته ربع دينار فصاعدًا. وقال الجمهور: إنه ورد حديث المخزومية من طريق عائشة وجابر وعروة بن الزبير ومسعود بن الأسود، أخرجها البخاري ومسلم والبيهقي وغيرهم مصرحًا فيه بذكر السرقة، بل في رواية مسعود أنها سرقت قطفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وحديث مسعود صححه الحاكم، وأخرجه ابن ماجه، وعلقه أبو داود والترمذي (¬3). وأخرجه أبو الشيخ في "كتاب السرقة"، ووقع في مرسل حبيب بن أبي ثابت أنها سرقت حليًّا (¬4). والجمع ممكن بأن يكون الحلي في القطيفة، فسرقت الظرف والمظروف، وأفرد الرواة ذكر أحدهما عن الآخر. وأخرج عبد الرزاق (¬5) من حديث عمرو بن دينار، أن الحسن أخبره قال: سرقت امرأة -قال عمرو: وحسبت أنه قال: من ثياب الكعبة. الحديث. وسنده إلى الحسن صحيح. ¬

_ (أ) زاد بعده في الأصل: أيضًا. (ب) في الأصل: يقطع.

وقد يمكن الجمع مع بُعده أن ذلك الثوب هو قطيفة، وأنه من ثياب الكعبة، ولعله كان في بيت النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل أن يوضع على الكعبة، وهو مهدى لها، والأرجح الأول، فتقرر أن المذكورة قد وقع منها السرقة، فرواية أنها جحدت العارية لا تدل على أن القطع كان لها؛ أما أولًا: فلأنها مخالفة لمفهوم الآية الكريمة، فإن مفهوم الصفة يدل على أنه لا قطع بغير السرقة. وثانيًا: إمكان أن يقال: إن ذكر العارية إنما هو لمجرد التعريف بما اشتهر من وصف المرأة المذكورة، فالعارية وجحدها قد صار لها خلقًا معروفًا، فعرفت المرأة به، والقطع كان للسرقة. وهذا معنى ما أجاب به الخطابي (¬1)، وتلقاه عنه غيره من الأئمة كالبيهقي والنووي (أ) (¬2). ويؤيد هذا ما قيل في ذكر فاطمة رضي الله عنها، وقد نزهها الله تعالى وطهرها عن نسبة مثل هذا النقص إليها. ويؤيد هذا حديث (¬3): "ليس على خائن، ولا مختلس، ولا منتهب، قطع". وهو حديث قوي، أخرجه الأربعة، وصححه أبو عوانة والترمذي من طريق ابن جريج عن أبي الزبير عن جابر رفعه. وصرح ابن جريج في رواية النسائي بقوله: أخبرني أبو الزبير. وقال النسائي: رراه الحفاظ من أصحاب ابن جريج عنه عن أبي الزبير، ولم يصرح أحد منهم بالتحديث عن أبي الزبير، في لا أحسبه سمعه منه. وصرح ابن القطان بأنه من معنعن أبي الزبير، إلا أنه يخدش فيه أن أبا الزبير مدلس، وقد عنعنه عن جابر. لكن أخرجه ابن حبان من وجه آخر عن جابر بمتابعة أبي الزبير، ¬

_ (أ) في جـ: الثوري.

وأخرجه عبد الرزاق (¬1) بتصريح سماع أبي الزبير من جابر، فقوي الحديث، وأجمعوا على العمل [به] (أ) إلا من شذ، كما نقل عن إياس بن معاوية. 1025 - وعن جابر رضي الله عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ليس على خائن، ولا منتهبٍ، ولا مختلس، قطع". رواه أحمد والأربعة، وصححه الترمذي وابن حبان (¬2). الحديث أخرجوه، والحاكم والبيهقي (¬3) من حديث أبي الزبير عن جابر. وفي رواية عند ابن حبان (¬4) عن ابن جريج عن عمرو بن دينار وأبي الزبير عن جابر. وليس فيه ذكر "الخائن". ورواه ابن الجوزي في "العلل" (¬5) من طريق مكي بن إبراهيم عن ابن جريج، وقال: لم يذكر فيه "الخائن". غير مكي. قال المصنف (¬6) رحمه الله تعالى: قد رواه ابن حبان (¬7) أيضًا من حديث سفيان عن أبي الزبير عن جابر بلفظ: "ليس على المختلس ولا على الخائن ¬

_ (أ) ساقطة من: الأصل، جـ. والمثبت من الفتح 12/ 92.

قطع". وقال ابن أبي حاتم في "العلل" (¬1) عن أبيه: لم يسمعه ابن جريج من أبي الزبير، إنما سمعه من ياسين بن معاذ الزيات، وهو ضعيف (¬2). وكذا قال أبو داود، [وزاد] (أ): وقد رواه المغيرة بن أسلم عن أبي الزبير عن جابر. وأسنده النسائي (¬3) من حديث المغيرة. ورواه سويد بن نصر عن ابن المبارك عن ابن [جريج] (5): أخبرني أبو الزبير (¬4). وله شاهد من حديث عبد الرحمن بن عوف، رواه ابن ماجه (¬5) بإسناد صحيح، وآخر من رواية الزهريّ عن أنس، أخرجه الطبراني في "الأوسط" (¬6) في ترجمة أحمد بن القاسم، ورواه ابن الجوزي في "العلل" (¬7) من حديث ابن عباس وضعفه. قوله: "ليس على خائن". والمراد بالخائن الذي يظهر ما لا يضمره في نفسه، والخائن هنا هو الذي يأخذ المال خفية من مالكه مع إرائه له النصيحة والحفظ، والخائن أعم، فإنه قد تكون الخيانة في غير المال، ومنه {خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ} (¬8). أي: ما يخون النظر من مسارقة النظر إلى ما لا يحل. ¬

_ (أ) ساقطة من: الأصل، جـ. والمثبت من التلخيص. (ب) في الأصل، جـ: جرير. والمثبت من مصدر التخريج والتلخيص.

و "المنتهب": المغير، من النهبة، وهي الغارة والسلب. ولعل المراد به هنا ما كان على جهة الغلبة والقهر. و "المختلس": السالب، من: اختلسه إذا سلبه، قال في "النهاية" (¬1) في قوله - صلى الله عليه وسلم -: "ليس في النهبة ولا الخليسة قطع". أي ما يؤخذ سلبًا ومكابرة. وقد تقدم الكلام في أحكام الحديث قريبا. 1026 - وعن رافع بن خديج رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "لا قطع في ثمر ولا أكثر". رواه المذكورون، وصححه أيضًا الترمذي وابن حبان (¬2). وأخرج الحديث أيضًا مالك والحاكم والبيهقي (¬3)، واختلفوا في وصله وإرساله، وقال الطحاوي (¬4): هذا الحديث تلقته الأمة بالقبول. ورواه أحمد وابن ماجه (¬5) من حديث أبي هريرة، وفيه سعد بن سعيد المقبري، وهو ضعيف (¬6). ¬

_ (¬1) النهاية 2/ 61. (¬2) أحمد 3/ 463، 4/ 140، وأبو داود 4/ 134، 135 ح 4388، 4389، والنسائي 8/ 86، 87، والترمذي 4/ 42 ح 1449، وابن ماجه 2/ 865 ح 2593، وابن حبان 10/ 316، 317 ح 4466. (¬3) مالك 2/ 839، والبيهقي 8/ 263، والحديث عزاه الحافظ في التلخيص 4/ 65 إلى الحاكم، ولم نجده فيه. (¬4) التلخيص 4/ 65. (¬5) ابن ماجه 2/ 865 ح 2594. وعزاه الحافظ في التلخيص 4/ 65 إلى أحمد ولم نجده فيه. (¬6) سعد بن سعيد بن أبي سعيد المقبري المدني أبو سهل. قال ابن عدي: عامة ما يرويه غير محفوظ. وقال ابن حبان: لا يحل الاحتجاج بخبره وقال الحافظ: لين الحديث. الكامل 3/ 1190، والمجروحين 1/ 357، والتقريب ص 231.

والثمر، قال المنذري (أ): المراد به ما كان معلقًا في النخل قبل أن يجذ. وعلى هذا تأوله الإمام الشافعي، وقال: حوائط المدينة ليست بحرز وأكثرها تدخل من جوانبها. والثمر (ب): اسم جامع للرطب واليابس من التمر والعنب وغيرهما. كذا قاله في "البدر المنير"، والكثر؛ بفتح الكاف والثاء المثلثة: الجُمّار، كما وقع في رواية النسائي. ويقال: طلعها. وقد أكثر النخل. أي: طلع. ذكره في "الصحاح" (¬1). وأخرج أبو داود والنسائي وابن ماجه والحاكم (¬2) من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، أن رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - سئل عن الثمر العلق، فقال: "من سرق منه شيئًا بعد أن [يؤويه] (جـ) الجرين، فبلغ ثمن المجن، فعليه القطع". وأخرج ابن أبي شيبة، وفي "الموطأ" (¬3)، عن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي حسين، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا قطع في ثمر معلق، ولا في حريسة جبل". وهو معضل. الحديث فيه دلالة على أنه لا يجب القطع في سرقة الثمر والكثَر، ¬

_ (أ) في جـ: ابن المنذر. (ب) في جـ: التمر. (جـ) في الأصل: يأويه.

وظاهره سواء كان على أصل المنبت له أو قد جدّ. وقد ذهب إلى هذا أبو حنيفة، ولذلك قال في الكثر: ولا يقطع بفاكهة رطبة ولو على شجر. وكذا قال في "نهاية المجتهد" (¬1). وقال أبو حنيفة، لا قطع في الطعام، ولا فيما أصله مباح؛ كالصيد، والحطب، والحشيش. وعمدته في منعه القطع في الطعام الرطب قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا قطع في ثمر ولا كثر" انتهى. وقال في "الكنز": ولا يقطع بخشب أو حشيش وقصب وسمك وطير وصيد وزِزنِيخ (¬2) ونُورة (¬3). قال في "الهداية" (¬4): لأن ذلك تافه؛ لأن ما صورته في الأصل غير مرغوب فيه، حقير تقل الرغبات [فيه] (أ)، والطباع لا تضن به -أي تبخل- فقلما يوجد أخذه على كره (ب) من المالك، فلا حاجة إلى شرع الزاجر، ولهذا لم يجب القطع بسرقة ما دون النصاب، ولأن الحرز فيها ناقص، ألا ترى أن الخشب تُلقى على الأبواب، وإنما تدخل الدار للعمارة لا للإحراز، والطر يطير، والصيد يفر. واستثنى الإمام المهدي لأبي حنيفة الساج (¬5) ¬

_ (أ) ساقطة من: الأصل، جـ، والمثبت من الهداية. (ب) في جـ: كثرة.

والآبنوس (¬1) [والصندل] (أ) والمصوغ (ب) والذهب والفضة. وكذا في "الكنز". وأما الإمام المهدي فقال في "البحر": مسألة؛ الهدوية والحنفية: ولا قطع فيما أخذ من منبته ولو أحرز عليه إلا بعد قطعه. فجعل كلام الحنفية فيما كان معلقًا في أصله، وهذا هو المذكور في حديث عمرو بن شعيب المتقدم. وذهب الجمهور إلى أنه يجب القطع في كل محرز، سواء كان على أصله باقيًا أو قد جذ، كان أصله مباحا؛ كالحشيش أو غيره. قالوا: لعموم الآية الكريمة والأحاديث الواردة في اشتراط النصاب، وأما حديث: "لا قطع في ثمر". فقال الشافعي: إنه خرج على ما كان عليه عادة أهل المدينة من عدم إحراز حوائطها، فذلك لعدم الحرز، فإذا أحرزت الحوائط كانت كغيرها. 1027 - وعن أبي أمية المخزومي رضي الله عنه قال: أتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بلص قد اعترف اعترافا، ولم يوجد معه متاع، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما إخالك سرقت". قال: بلى. فأعاد عليه مرتين أو ثلاثا، فأمر به فقطع، وجيء به، فقال: "استغفر الله وتب إليه". فقال: أستغفر الله وأتوب إليه. فقال: "اللهم تب عليه". ثلاثا. أخرجه أبو داود واللفظ له، وأحمد والنسائي (¬2)، ورجاله ثقات. ¬

_ (أ) في الأصل، جـ: الصندلة. والمثبت من الهداية 2/ 121. والصندل: شجر خبه طيب الرائحة، يظهر طيبه بالدلك أو بالإحراق، ولخشبه ألوان مختلفة، حمر وبيض وصفر. الوسيط (صندل). (ب) في جـ: المصبوغ.

وأخرجه الحاكم (¬1) من حديث أبي هريرة، فساقه بمعناه وقال فيه: "اذهبوا به فاقطعوه ثم احسموه". وأخرجه البزار (¬2) أيضًا وقال: لا بأس بإسناده. أبو أمية المخزومي لا يعرف له اسم، عداده في أهل الحجاز، روى عنه أبو المنذر مولى أبي ذر له هذا الحديث (¬3). قال الخطابي (¬4): في إسناده مقال. قال: والحديث إذا رواه مجهول لم يكن حجة، ولم يجب الحكم به. قال عبد الحق (¬5): أبو المنذر (¬6) [المذكور] (أ) في إسناده لم يرو عنه إلا إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة. وحديث أبي هريرة أخرجه أبو داود في "المراسيل" (¬7) من حديث محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان. ووصله الدارقطني والحاكم والبيهقي (¬8) بذكر أبي هريرة، ورجح ابن خزيمة وابن المديني وغير واحد إرساله، وصحح ابن ¬

_ (أ) ساقطة من: الأصل.

القطان الموصول (¬1). والحديث فيه دلالة على أنه يشرع للإمام تلقين السارق أن ينكر السرقة، وقد روي أنه - صلى الله عليه وسلم - قال لسارق: "أسرقت؟ قل: لا". قال الرافعي (1): ولم يصححوا هذا الحديث. وكذا قال الغزالي في "الوسيط" (¬2): وقوله: "قل: لا". لم تصححه الأئمة. وقال الجويني في "النهاية" (1): سمعت بعض أئمة الحديث لا يصحح هذا اللفظ. وذكر في تعليق الشيخ أبي حامد وغيره أن أبا بكر [قال] (أ) لسارق أقر عنده. وقد رواه البيهقي (¬3) موقوفًا على أبي الدرداء، أنه أتىِ بجارية سرقت، فقال لها: أسرقت؟ قولي: لا. فقالت: لا. فخلى سبيلها. وفي "مصنف عبد الرزاق" (¬4) عن ابن جريج قال: سمعت عطاء يقول: كان من مضى يؤتى إليهم بالسارق فيقول: أسرقت؟ قل: لا. وسمَّى [أبا] (ب) بكر وعمر. وعن معمر عن ابن طاوس عن عكرمة بن خالد قال: أتي عمر بن الخطاب برجل فسأله: أسرقت؟ قل: لا. فقال: لا. فتركه (¬5). ¬

_ (أ) كتب فوقه في الأصل: قاله نسخة. (ب) في الأصل، جـ: أبو. والمثبت من مصدر التخريج، والتلخيص 4/ 65.

وروى ابن أبي شيبة (¬1) من طريق أبي المتوكل، أن أبا هريرة أتي بسارق -وهو يومئذ أمير- فقال: أسرقت؟ قل: لا. مرتين أو ثلاثًا. وفي "جامع سفيان" عن حماد عن إبراهيم قال: أتي [أبو] (أ) مسعود الأنصاري بامرأة سرقت جملًا، فقال: أسرقت؟ قولي: لا (¬2). فهذه الروايات تدل على ثبوت التلقين. واحتج به الإمام المهدي على أنه لا يثبت إلا بالإقرار (ب) مرتين، كما [هو] (جـ) مذهب العترة وابن أبي ليلى وابن شبرمة وأحمد وإسحاق. قال: وذهب الفريقان ومالك أن الإقرار يكفي مرة واحدة؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "من أبدى لنا صفحته أقمنا عليه حق الله" (¬3). ولم يفصل. قلنا: لا ينافي ما ذكرناه. انتهى كلامه في "البحر". وأنت خبير بأن التلقين الظاهر من الحديث إنما هو لإسقاط الحد لا لإعادة الجواب ليثبت عليه الحد، وأن ذلك لو كان شرطًا لبين، وقد جاء في رواية أنه قال له: "لا إخالك سرقت". ثلاث مرات. ولا قائل بأنه يشترط في الإقرار ثلاث مرات، فما كان ذلك إلا لقصد التلقين، وقد ذكر عدة أحاديث كما في حديث المجن ورداء صفوان، ولم يذكر إعادة لفظ آخر، ¬

_ (أ) في الأصل: ابن. (ب) في جـ: بإقرار. (جـ) ساقطة من: الأصل.

والآية الكريمة تؤيد ذلك. والله سبحانه أعلم. وإذا رجع عن الإقرار إلى غير شبهة يدعيها، فعن مالك روايتان. وظاهر الحديث خلافه، فإن قوله: لا. رجوع عن الإقرار من دون ادعاء شبهة. والله أعلم. وقوله: "ثم احسموه". ظاهر الحديث وجوب الحسم، والمراد به الكي بالنار، أي يكوى محل القطع لينقطع الدم؛ لأن منافذ الدم تنسد به، لأنه ربما استرسل الدم فيؤدي إلى التلف. وفي "البحر" (¬1): وندب حسم موضع القطع، ويكون بإذن السارق، فإن كره لم يحسم. انتهى. وهو مشكل، لأنه يؤدي إلى تلفه، وهو لا يجاب إلى إتلاف نفسه، والأمر بالقطع والحسم فيه دلالة على أنه يتولى ذلك الإمام، وتكون أجرة القطع من بيت المال، وكذلك قيمة الدهن الذي يحسم به؛ لأن ذلك واجب على غيره. وإن اختار أن يقطع نفسه فوجهان، قال الإمام: أصحهما أنه لا يمكَّن من ذلك، كالمقتص منه، فإنه لا يمكَّن من قتل نفسه، وسائر الحدود كذلك، لأن الله سبحانه وتعالى نهى الإنسان عن قتل نفسه، فقال: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} (¬2). ووجهه أنه يمكَّن من قطع نفسه لحصول المقصود من الزجر، بخلاف القصاص، فالمقصود التشفي، وهو لا يحصل بفعل نفسه. ¬

_ (¬1) البحر 6/ 190. (¬2) الآية 29 من سورة النساء.

ومن السنة أن تعلق يد السارق في عنقه، وقد أخرج البيهقي (¬1) من حديث ابن محيريز قال: قلت لفَضالة بن عبيد: أرأيت تعليق يد السارق في العنق، أمن السنة؟ قال: نعم، رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قطع سارقًا، ثم أمر بيده فعلقت في عنقه. وفي إسناده حجاج بن أرطاة، وقد ضعفه النسائي (¬2)، وكذلك مَن رواه عن حجاج، وهو المُقَدَّمي (أ) عمر بن علي (¬3). قال المصنف (¬4) رحمه الله: هما مدلسان. وأخرج (¬5) أن عليًّا رضي الله عنه قطع سارقًا، فمروا به ويده معلقة في عنقه. 1028 - وعن عبد الرحمن بن عوف، أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يغرم السارق إذا أقيم عليه الحد". رواه النسائي (¬6)، وبين أنه منقطع، وقال أبو حاتم (¬7): هو منكر. الحديث رواه النسائي من حديث المِسور بن إبراهيم، عن عبد الرحمن ¬

_ (أ) زاد بعده في الأصل، جـ: وعنه.

ابن عوف. والمسور لم يدرك جده عبد الرحمن بن عوف، قال النسائي: هو مرسل وليس بثابت. وكذا أخرجه البيهقي (¬1)، وزاد في إعلاله بأنه اختلف على المفضل بن فَضالة قاضي مصر؛ فرُوي عنه عن يونس بن يزيد الأيلي عن سعد بن إبراهيم عن المسور عن عبد الرحمن، كما في رواية النسائي. وروي عنه عن يونس عن الزهري. عن سعد. ورُوي عنه عن يونس عن سعد بن إبراهيم عن أخيه المسور. قال: فإن كان سعد [هذا] (أ) ابن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف، فلا يعرف في التواريخ له أخ معروف بالرواية يقال له: المسور. ولا يثبت للمسور الذي ينسب إليه سجد بن محمد بن المسور بن إبراهيم سماع من جده عبد الرحمن، ولا رؤية ولا رواية، فهو منقطع، وإن كان غيره، فلا نعرفه ولا نعرف أخاه، ولا يحل لأحد من مال أخيه إلا ما طابت به نفسه. انتهى. ولعل النسائي أشار بقوله: وليس بثابت. إلى هذا الذي ذكره البيهقي. والله أعلم. الحديث فيه دلالة على أن العين المسروقة إذا تلفت في يد السارق لم يغرمها بعد أن وجب عليه القطع، سواء أتلفها قبل القطع أم بعده. وقد ذهب إلى هذا الهدوية. ورواه أبو يوسف عن أبي حنيفة، وهو المشهور. قال في "شرح الكنز": لأن وجوب الضمان ينافي القطع؛ لأنه يتملكه بأداء ¬

_ (أ) ساقطة من: الأصل.

الضمان مستندًا إلى وقت الأخذ فيبرأ به، ورد على ملكه، [فينتفي] (أ) القطع، وما يؤدي إلى انتفائه فهو المنتفي، ولأن اجتماع حقين في حق واحد مخالف للأصول، فصار القطع بدلًا من الغرم، ولذلك إذا ثنى سرقة (ب) ما قد قطع به لم يقطع. وذهب الشافعي وأحمد وأبو ثور والليث، ورواه الحسن عن أبي حنيفة وجماعة، إلى أنه يغرم؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "على اليد ما أخذت حتى ترد" (¬1). والحديث لا تقوم [به] (جـ) حجة مع ما سمعت فيه، وقد قال الله تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} (¬2). و: "لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيبة من نفسه" (¬3). ولأنه اجتمع في السرقة حقان؛ حق لله تعالى وحق للآدمي، فاقتضى كل حق موجبه، ولأنه قام الإجماع بأنه إذا كان موجودًا بعينه أُخذ منه، فيكون إذا لم يوجد في ضمانه؛ قياسًا على سائر الأموال الواجبة، واجتماع الحقين بسبب السرقة غير مخالف للأصول، فإن الحكمة فيهما مختلفة؛ فالقطع لحكمة الزجر، والتغريم لتفويت حق الآدمي، كما في الغصب. وذهب مالك وأصحابه إلى أنه يغرم إن كان موسرًا، وإن كان معسرًا لم يتبع. وحكى عنه ابن القاسم أنه ¬

_ (أ) في الأصل: فينبغي. (ب) في جـ: سارق. (جـ) ساقطة من: الأصل.

يشترط دوام اليسر (أ) إلى يوم القطع. وهذا استحسان من مالك مبني على غير قياس. كذا قال ابن رشد (¬1). وقال الإمام المهدي في "البحر": كنفقة (ب) القريب، والجامع كونه مالًا يثبت في الذمة لا بمعاوضة. قال: وما خرج عن يده وتعذر رده فكالتالف، وإن أمكن استرجع كالباقي. قيل: إلا حيث يوجب الاسترجاع ضمانًا. قلت: وهو قوي. انتهى. ووجهه أنه حيث كان يوجب ضمانًا يكون حكمه حكم التضمين للفائت، فهو قياس على ما ورد فيه الحديث. والله أعلم. 1029 - وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أنه سئل عن الثمر (جـ) المعلق، فقال: "من أصاب بفيه من ذي حاجة غير متخذ خبنة فلا شيء عليه، ومن خرج بشيء منه فعليه الغرامة والعقوبة، ومن خرج بشيء منه بعد أن يؤويه الجرين، فبلغ ثمن المجن، فعليه القطع". أخرجه أبو داود والنسائي وصححه الحاكم (¬2). ¬

_ (أ) في جـ: اليسير. (ب) في جـ: كيفية. (جـ) في جـ: التمر.

المراد بالثمر (أ) المعلق ما كان معلقا في النخل قبل أن يجذ ويُجرَّن. كذا قال المنذري. والثمر (ب) اسم جامع للرطب واليابس من التمر والعنب وغيرهما. وقوله: "خُبنة". بضم الخاء، وهي معطف الإزار وطرف الثوب، أي لا يخبئ في ثوبه، يقال: أخبن الرجل، إذا خبأ شيئًا في خُبنة ثوبه أو سراويله. وقوله: "الجرين". هو موضع التمر الذي يجفف فيه، مثل البيدر للحنطة. والحديث فيه دلالة على أنه إذا أخذ المحتاج بفيه لسد فاقته، فإن ذلك مباح له، ثم إذا خرج بشيء منه؛ فإن كان قبل أن يجذ فعليه الغرامة والعقوبة، وإن كان بعد أن قطع وأواه الجرين وبلغ نصاب القطع فعليه القطع. وهذا بناء على الأغلب؛ [لأن] (جـ) الجرين يكون محرزًا، وأما إذا كان بغير إحراز فلا قطع فيه. وقد تقدم الكلام في الثمر المعلق. وأما قوله: "فعليه الغرامة والعقوبة". وقد جاءت الغرامة مفسرة في رواية البيهقي (¬1): "غرامة مثليه"، والعقوبة: "جلدات نكال". والحديث يدل على جواز العقوبة بالمال، فإن "غرامة مثليه" من باب العقوبة، وقد قال به الشافعي في القديم ثم رجع عنه، وقال: لا تضعف (د) ¬

_ (أ) في جـ: بالتمر. (ب) في جـ: التمر. (جـ) في الأصل: بأن. (د) في جـ: تضاعف.

الغرامة على أحد في شيء، إنما العقوبة في الأبدان لا في الأموال. وقال: ذلك منسوخ، والناسخ له قضاء النبي - صلى الله عليه وسلم - على أهل الماشية أن ما أفسدته بالليل فهو ضامن على أهلها (¬1). قال: وإنما يضمنونه بالقيمة. وقد تقدم الكلام فيه في كتاب الزكاة في حديث بهز (¬2). والله أعلم. 1030 - وعن صفوان بن أمية رضي الله عنه، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له لما أمر بقطع الذي سرق رداءه فشفع فيه: "هلا كان قبل أن تأتيني به". أخرجه أحمد والأربعة، وصححه ابن الجارود والحاكم (¬3). الحديث أخرجوه من طرق؛ منها، عن طاوس عن صفوان، ورجحها ابن عبد البر (¬4)، وقال: إن سماع طاوس من صفوان ممكن؛ لأنه أدرك زمن عثمان، وقال: أدركت سبعين شيخًا من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.وقال البيهقي (¬5): روي [عن] (أ) طاوس عن ابن عباس، وليس بصحيح. ورواه مالك عن الزهري عن عبد الله بن صفوان عن أبيه، أنه طاف بالبيت وصلى، ثم لف رداء له من برد، فوضعه تحت رأسه فنام، فأتاه لص فاستله من تحت ¬

_ (أ) ساقطة من: الأصل.

رأسه فأخذه. فذكر الحديث. أخرجه ابن ماجه (¬1). وله شاهد في "الدارقطني" (¬2) من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده. وسنده ضعيف. وأخرج البيهقي (¬3) من رواية الشافعي عن مالك، أن صفوان بن أمية قيل له: من لم يهاجر هلك. فقدم صفوان المدينة فنام في المسجد متوسدًا رداءه، فجاء سارق فأخذ رداءه من تحت رأسه، فأخذ السارق فجاء به النبي - صلى الله عليه وسلم -، فأمر به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقطع يده، فقال صفوان: إني لم أرد هذا، هو عليه صدقة. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "فهلّا قبل أن تأتيني به". وأخرجه (3) من طريق أخرى عن غير مالك عن طاوس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بمثله. وقد روي من وجه آخر عن طاوس عن ابن عباس موصولًا، وليس بصحيح. وأخرج (3) عن عطاء بن أبي رباح قال: بينما صفوان بن أمية مضطجع بالبطحاء، إذ (أ) جاء إنسان فأخذ برده من تحت رأسه، فأتى به النبي - صلى الله عليه وسلم -، فأمر بقطعه، فقال: إني أعفو عنه وأتجاوز. قال: "فهلَّا قبل أن تأتينا (ب) به". وأخرج (3) من حديث حميد ابن أخت صفوان عن صفوان قال: كنت نائمًا في المسجد على خميصة لي ثمن ثلاثين درهما، فجاء رجل فاختلسها مني. فأخذ الرجل فأتى به النبي ¬

_ (أ) في جـ: إذا. (ب) في جـ: تأتيني.

- صلى الله عليه وسلم -، فأمر به ليقطع. قال: فأتيته فقلت: أتقطعه من أجل ثلاثين درهما؟ أنا أبيعه وأُنسئه ثمنها. قال: "ألا كان هذا قبل أن تأتيني به؟ ". هكذا رواه جماعة عن عمرو بن حماد. قال الشافعي: ورداء صفوان كان محرزا باضطجاعه عليه، فقطع النبي - صلى الله عليه وسلم - سارق ردائه. الحديث فيه دلالة على أنه يقطع سارق ما كان مالكه حافظا له، وإن لم يكن مغلقا عليه في مكان، فإن الأحاديث الواردة في القصة بعضها بأنه كان نائمًا وهو تحت رأسه في المسجد، وبعضها في البطحاء كما عرفت، وقد ذهب إلى هذا الشافعي والمالكية والحنفية، قال ابن رشد من المالكية (¬1): وإذا توسد النائم شيئًا، فتوسُّده له حرز، على ما جاء في حديث صفوان. وقال في "الكنز" للحنفية: ومن سرق من المسجد متاعًا وربه عنده قُطع؛ لأنه وإن كان غير محرز بالحائط (أ)، لأن المسجد ما بني لإحراز الأموال -فلم يكن المال محرزا بالمكان. واسترجح هذا الإمام المهدي في "البحر"، ورد على الإمام يحيى القائل، بأنه لا يقطع، بخبر صفوان. وفيه دلالة على أنه لا تجوز الشفاعة بعد الرفع إلى الإمام، وقد تقدم الكلام. وجاء في الرواية التي تقدمت أنه تصدق به على السارق ولم يسقط عنه، ففيه دلالة على أن التملك بعد الرفع لا يسقط القطع. وقد ذهب إلى ¬

_ (أ) في جـ: فالحافظ.

هذا مالك والشافعي؛ لأنه قد رفع، ولا عفو بعد الرفع. وذهب أبو حنيفة إلى أنه يسقط الحد مطلقًا، سواء كان قبل الرفع أو بعده؛ إذ هو شبهة، وحد السرقة يدرأ بها. ويجاب بالحديث. وأما إذا اتهبه قبل الرفع [أو] (أ) تملكه؛ فذهب العترة وأبو يوسف وابن أبي ليلى وبعض أصحاب الحديث وقول عن الشافعي، أنه يسقط، وذهب الشافعي ومالك وأحمد وإسحاق إلى أنه لا يسقط؛ لعموم الآية الكريمة، ولحديث صفوان. وقوله: "فهلا كان قبل أن تأتيني به". وهذا اللفظ محتمل لأن يكون المراد: هلا كان التصدق قبل أن تأتيني. يعني: ولا تأتي به؛ لأنه إذا تصدق عليه تركه. ويحتمل أن يكون المراد: هلا كان التصدق قبل أن تأتي به. وأن الإتيان به بعد التصدق لا يضر، فيكون حجة للقول الأول. وأما العفو عن السارق قبل الرفع، فيسقط به إجماعًا. واختلف العلماء في اعتبار الحرز، وأنه شرط في القطع؛ فذهب الظاهرية وطائفة من أهل الحديث، ونسبه الإمام المهدري في "البحر" إلى أحمد وإسحاق والخوارج وزفر، إلى أنه لا يشترط الحرز، وأنه يقطع من سرق النصاب مطلقًا. وحجتهم ظاهر الآية الكريمة، واشتراط النصاب دل عليه الحديث الصحيح، فكان مقيدًا لإطلاق الآية الكريمة، والإطلاق في الحرز باق على إطلاقه. وذهب الجمهور إلى اشتراط الحرز، وأنه لا قطع فيما لم يحرز. قالوا: لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "فإذا آواه الجرين". وقوله: "لا قطع في ثمر، ولا في حريسة جبل، فإذا آواه الجرين والمُراح، فالقطع فيما بلغ ثمن المجن" (¬1). ¬

_ (أ) ساقطة من: الأصل.

ولأن الإحراز مأخوذ في مفهوم السرقة، فإن السرقة والاستراق هو المجيء مستترًا لأخذ مال غيره من حرز. كذا فسره في "القاموس" (¬1)، وكذا قال ابن الخطب في "تيسير البيان" أن السرقة أخذ المال على حين خفية من الأعين مع قيام (أ) ملاحِظِها (ب) أو ما يقوم مقامها من الأحراز الموجبة للاستخفاء في العادة، ومنه قولهم: فلان يسارق النظر إلى فلان. إذا راقب غفلته لينظر إليه. فالحرز ركن في السرقة لا تتصور إلا به، لا شرط في وجوب القطع، ولهذا لا يقال لمن خان أمانته: سارق. انتهى كلامه، وهو كلام حسن، فإنه لا يفترق الحال بين الخائن والمنتهب والمختلص والسارق إلا بالحرز، لا بالأخذ خفية، فإن الأخذ خفية واقع في (جـ) غير المنتهب. وحريسة الجبل؛ قيل: هي السرقة نفسها، تقول: حرس يحرس حرسًا. إذا سرق. وقيل: هي المحروسة. يعني: ليس فيما يحرس بالجبل إذا سرق قطع؛ لأنه ليس بموضع حرز. وحريسة الجبل: الشاة التي يدركها الليل قبل أن تصل إلى مأواها. والمرُاح الموضع الذي تأوي إليه الماشية ليلًا. كذا في "جامع الأصول" (¬2). واعلم أنه اختلف المشترطون للحرز؛ فقال الشافعي ومالك والإمام ¬

_ (أ) في جـ: مقام. (ب) شي جـ: ملاحظتها. (جـ) في جـ: من.

يحيى: إن لكل مال حرزًا يخصه، فحرز الماشية ليس حرزًا للذهب والفضة. وقال أبو حنيفة والهدوية: ما أحرز فيه مال فهو حرز لغيره؛ إذ الحرز ما وضع لمنع الداخل والخارج ألا يخرج، (أوما أ) ليس كذلك فليس بحرز، لا لغة ولا شرعا، والدار المفتوح بابها لا تكون حرزًا إلا إذا كان فيها حافظ، والباب الخارجي إذا كان فيه إكليل حرز لنفسه ولما داخله، والخيم المطنَّبة مشدودة الأذيال حرز. وتردد المؤيد (ب) في المضروبة في البراري. قال الإمام يحيى [والطحاوي] (جـ): والمساجد والشوارع والخانكات (د) ليست حرزًا ولو ثَمَّ حارس؛ إذ قد يشغل فيذهل عن المتاع وينام عنه. ويرد عليه حديث صفوان. وذهب جماعة من السلف والشافعي ومالك والهادي وأبو يوسف إلى أن النباش سارق يقطع؛ لأنه أخذ المال خفية من حرز له. وقد روي عن علي رضي الله عنه: حد النباش حد السارق. وعن عائشة: سارق أمواتنا كسارق أحيائنا (¬1). وقال الثوري وأبو حنيفة ومحمد: لا يقطع؛ لأنه ليس بحرز، ولا يكون القبر حرزًا لغير الكفن المشروع. وكذا الكعبة والمسجد حرزان لآلاتهما وكسوتهما. ذهب إلى هذا الشافعي والهدوية. وقد تقدم ¬

_ (أ- أ) في جـ: و. (ب) زاد بعده في جـ: بالله. (جـ) في الأصل: الصحاوي. وكتب فوقها: كذا. (د) في جـ: والحار كان.

في حديث المخزومية أنها سرقت من ثياب الكعبة. وعثمان رضي الله عنه قطع مَن سرق قُبْطيَّة من منبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬1). ولم ينكر عليه. وهي ثوب من كتان ينسج في مصر. وذهب أبو حنيفة وأصحابه والإمام يحيى إلى أنه لا قطع. وذهب أبو حنيفة والشافعي والهدوية إلى أنه لا يقطع مَن سرق مِن بيت المال. وقد روي عن عمر أنه لا قطع عليه (¬2). ولم يذكر. وذهب مالك وقول للشافعي إلى أنه يقطع. ولا قطع في الخمس والغنيمة إجماعًا وإن لم يكن غانمًا، إذ قد يشارك فيها بالرضخ أو من الخمس. 1031 - وعن جابر قال: جيء بسارق إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: "اقتلوه". فقالوا: يا رسول الله، إنما سرق. قال: "اقطعوه". فقطع، ثم جيء به الثانية فقال: "اقتلوه". فذكر مثله. ثم جيء به الثالثة. فذكر مثله .. ثم جيء به الرابعة كذلك. ثم جيء به الخامسة فقال: "اقتلوه". أخرجه أبو داود والنسائي واستنكره (¬3). وأخرج (¬4) من حديث الحارث بن حاطب نحوه. وذكر الشافعي (¬5) أن ¬

_ (¬1) قال الحافظ: لم أجده عنه. التلخيص 4/ 69. (¬2) ابن أبي شيبة 10/ 20. (¬3) أبو داود، كتاب الحدود، باب في السارق يسرق مرارًا 4/ 140 ح 4410، والنسائي، كتاب قطع السارق، باب قطع اليدين والرجلين من السارق 8/ 90. (¬4) النسائي، كتاب قطع السارق، باب قطع الرجل من السارق بعد اليد 8/ 89. (¬5) اختلاف الحديث للشافعي ص 215.

القتل في الخامسة منسوخ. قال النسائي: حديث منكر، ومصعب بن ثابت ليس بالقوي في الحديث (¬1). وحديث الحارث أخرجه النسائي والحاكم (¬2). وأخرج أبو نعيم في "الحلية" (¬3) عن عبد الله بن [زيد] (أ) الجهني. وقال ابن عبد البر (¬4): حديث القتل منكر لا أصل له. وقد قال الشافعي: هذا الحديث منسوخ لا خلاف فيه عند أهل العلم. قال ابن عبد البر: وهذا يدل على أن ما حكاه أبو مصعب عن عثمان وعمر بن عبد العزيز أنه يقتل لا أصل له. وجاء في رواية النسائي بعد ذكر قطع قوائمه الأربع: ثم سرق الخامسة في عهد أبي بكر، فقال أبو بكر: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أعلم بهذا حين قال: "اقتلوه". ثم دفعه إلى فتية من قريش فقتلوه. ثم قال النسائي: لا أعلم في هذا الباب حديثًا صحيحًا. والحديث فيه دلالة على قتل السارق في الخامسة، وأن قوائمه الأربع تقطع في الأربع المرات. وقد نسب الباجي (¬5) هذا القول في "اختلاف ¬

_ (أ) في الأصل: يزيد.

العلماء" إلى مالك. قال: وله قول آخر أنه لا يقتل. وقال عياض: لا أعلم أحدًا من أهل العلم قال به إلا ما ذكره أبو مصعب صاحب مالك في "مختصره" عن مالك وغيره من أهل المدينة، ونسب ذلك إلى قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعمر بن عبد العزيز. انتهى. ونقل المنذري (¬1) تبعًا لغيره الإجماع أنه لا يقتل. ولعلهم أرادوا أنه استقر على ذلك الإجماع بعد خلاف مالك. وقال بعضهم: كان القتل خاصًّا بذلك الرجل، وكأن النبي - صلى الله عليه وسلم - اطلع على أنه واجب القتل، فلذلك أمر بقتله من أول مرة، ولعله كان من المفسدين في الأرض. والواجب في القطع قطع اليمنى إجماعًا، وقراءة ابن مسعود مبينة: (فاقطعوا أيمانهما) (¬2). فإن عاد قطعت الرجل اليسرى عند الأكثر؛ قياسًا على المحارب، ولفعل الصحابة. وعن طاوس: يده اليسرى؛ لقربها من اليمين. ورواية عنه أنه يسقط القطع. فإن عاد في الثالثة؛ فذهب أبو حنيفة والعترة إلى أنه يحبس، وقد روى البيهقي (¬3) من حديث علي رضي الله عنه، أنه قال بعد أن قطع رجله وأتي به في الثالثة: بأي شيء يتمسح؟ وبأي شيء يأكل؟ لا قيل له: تقطع يده اليسرى. ثم قال: أقطع رجله؟! على أي شيء يمشي؟ إني لأستحي من الله. ثم ضربه وخلده في السجن. وأخرج (¬4) أن أبا بكر رضي الله عنه أراد أن يقطع رجلًا بعد اليد والرجل، فقال عمر رضي الله عنه: السنة اليد. وذهب الشافعي ومالك إلى أنه يقطع في كل مرة ¬

_ (¬1) الفتح 12/ 100. (¬2) قراءة شاذة، البحر المحيط 3/ 483. (¬3) البيهقي 8/ 275. (¬4) البيهقي 8/ 273، 274.

طرفًا؛ لما رواه أبو هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في السارق: "إن سرق فاقطعوا يده، ثم إن سرق فاقطعوا رجله، ثم إن سرق فاقطعوا يده، ثم إن سرق فاقطعوا رجله". أخرجه الدارقطني (¬1)، وفي إسناده الواقدي (¬2). ورواه الشافعي (¬3) عن بعض أصحابه عن ابن أبي ذئب عن الحارث بن عبد الرحمن عن أبي سلمة عن أبي هريرة مرفوعًا: "السارق إذا سرق فاقطعوا يده، ثم إن سرق فاقطعوا رجله، ثم إن سرق فاقطعوا يده، ثم إن سرق فاقطعوا رجله". ونحوه عن عصمة بن مالك، رواه الطبراني والدارقطني (¬4). وإسناده ضعيف. وأجاب الإمام المهدي في "البحر" (¬5) عن ذلك بأن عمل الصحابة بخلافه دليل نسخه، أو أنه عارضه دليلٌ عرفوه. انتهى. ويرد عليه ما أخرجه البيهقي من حديث القاسم بن محمد عن أبيه، أن أبا بكر رضي الله عنه أراد أن يقطع رِجلًا بعد اليد والرجل، فقال عمر رضي الله عنه: السنة اليد. وأخرج (¬6) عن ابن عباس قال: شهدت عمر قطع يدًا بعد يد ورجل. وقال بعد رواية إنكار عليٍّ علَى عمر لما أراد أن يقطع رجل مقطوع اليد والرجل: فلا ينبغي أن تقطع رجله فتدعه ليس له قائمة يمشي عليها؛ إما أن [تعزره] (أ)، أو تستودعه السجن. قال: فاستودعه السجن. الرواية الأولى عن عمر أولى أن تكون صحيحة، وكيف تصح هذه عن عمر وقد أنكر في الرواية الأولى ¬

_ (أ) في الأصل: تعزروه، وفي جـ: يعزر. والمثبت من البيهقي.

قطع الرجل بعد اليد والرجل وأشار باليد؟ فهذان شيخا الإسلام قطعا في كل سرقة، فكيف [يتم] (أ) قوله: عمل الصحابة بخلافه؟ وقوله: أو أنه عارضه دليل عرفوه. مجرد تحسين ظن لا يكفي في الاحتجاج، لا سيما مع وجود الرواية المخالفة. والقطع يكون من مفصل الكف، إذ هو أقل ما يسمى يدًا، ولأن اليد كانت محترمة قبل السرقة، فلما (5) جاء الأمر بقطع اليد -واليد تطلق على جميعها إلى الإبط، وعلى بعضها إلى المرفق، وعلى بعضها إلى مفصل الكف- فمع الاحتمال يجب الاقتصار على المتيقن (جـ)، ولفعله - صلى الله عليه وسلم - فيما أخرجه الدارقطني (¬1) من رواية عمرو بن شعيب: أتي [النبي] (أ) - صلى الله عليه وسلم - بسارق، فقطع من مفصل الكف. وفي إسناده مجهول. وأخرج ابن أبي شيبة (¬2) من مرسل رجاء بن حيوة، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قطع من المفصل. وأخرجه أبو الشيخ (¬3) من وجه آخر عن رجاء عن عدي رفعه. وعن جابر رفعه. وأخرج (د) سعيد بن منصور (¬4) عن عمر أيضًا. وذهب ابن سريج (هـ) والإمامية ورواية عن علي رضي الله عنه، أنه يقطع من أصول الأصابع، إذ هو أقل ما يسمى يدًا. ¬

_ (أ) ساقطة من: الأصل. (ب) في جـ: فلا. (جـ) في جـ: التيقن. (د) زاد بعده في جـ: عن. (هـ) في جـ: شريح.

ويجاب عنه بأنه لا يسمى يدًا، ولا يقال: مقطوع [اليد] (أ). لا لغة ولا عرفًا، وإنما يقال: مقطوع الأصابع. وذهب الزهري والخوارج إلى أنه يقطع من الإبط، إذ هو اليد الحقيقية. والجواب، أن الكف هو المراد، وبين الآية الحديثُ، وفعل علي وأبي بكر وعمر ولم ينكر، والرواية عن علي روتها الإمامية، فهي غير مقبولة. كذا قال الإمام المهدي. وهو غير مسلم، فإنه أخرج عبد الرزاق (¬1) عن معمر عن قتادة عن علي، أنه قطع اليد من الأصابع، والرجل من مشط القدم. وهو منقطع، ورجاله رجال الصحيح. ولكنه معارَض بما أخرجه عبد الرزاق (¬2) من وجه آخر أن عليًّا كان يقطع الرجل من [الكعب] (ب). وذكر الشافعي في (جـ كتاب الاختلاف عن علي وابن مسعود جـ) (¬3)، أن عليًّا كان يقطع من يد السارق الخنصر والبنصر والوسطى خاصة، ويقول: أستحي من الله أن أتركه بلا عمل. وكذا القدم يقطع من مفصل القدم. وذهبت الإمامية، ورواية عن علي رضي الله عنه، أنه من معقِدِ الشِّراكِ (¬4)، وهو نصف القدم. وأجيب بأن ذلك لا يسمى رجلًا في اللغة، والمتعارف إنما هو من مفصل القدم، وقياسًا على اليد. والله أعلم. ¬

_ (أ) ساقطة من: الأصل. (ب) في الأصل: الكفر، وفي جـ: الكف. والمثبت من مصدر التخريج، والفتح 12/ 99. (جـ - جـ) كذا في الأصل، جـ، وفي الفتح: كتاب اختلاف علي وابن مسعود. والكتاب ضمن كتاب الأم 7/ 163.

باب حد الشارب وبيان المسكر

باب حد الشارب وبيان المسكر 1032 - وعن أنس بن مالك رضي الله عنه، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أتي برجل قد شرب الخمر فجلده بجريدتين نحو أربعين. قال: وفعله أبو بكر رضي اللهُ عنه، فلما كان عمر استشار الناس، فقال عبد الرحمن بن عوف: أخف الحدود ثمانون. فأمر به عمر. متفق عليه (¬1). ولمسلم (¬2) عن علي في قصة الوليد بن عقبة: جلد النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أربعين، و (أ) أبو بكر أربعين، وجلد عمر ثمانين، وكل سُنة، وهذا أحب إلي. وفي هذا الحديث: أن رجلا شهد عليه أنه رآه يتقيأ الخمر، فقال عثمان: إنه لم يتقيأْها حتى شربها. قوله: أُتي برجل قد شرِب الخمرَ. الخمر مصدر (ب) خمر كضرب ونصر، وهي (جـ) مؤنثة وقد تذكر، ويقال أيضًا: خمرة. (د لواحد الخمر، سمى د) به الشَّراب المعتصر من العنب إذا غلا وقذف بالزبد. ويطلق على ما هو أعم من ذلك، وهو ما أسكر من العصير أو من النبيذ أو غير ذلك، قال ¬

_ (أ) زاد بعده في مسلم: جلد. (ب) زاد بعده في جـ: سمي. (جـ) في جـ: هو. وينظر الفتح 10/ 32. (د- د) في بر: لواحدة الخمرة.

صاحب القاموس (¬1): والعموم أصح لأنها حرمت وما بالمدينة خمر عنب، وما كان شرابهم إلا من نبيذ البُسْر والتمر، وسميت بذلك لأنها تخمر العقل، أي تستره. ومنه خمار المرأة لستره وجهها. والخامر (أ) هو من يكتم شهادته، فيكون بمعنى اسم الفاعل أي الساترة للعقل، وقيل: لأنها تغطى حتى تشتد. ومنه: "خمروا آنيتكم" (¬2). أي غطوها. فيكون بمعنى اسم المفعول. وقيل: لأنها تخالط العقل ومنه خامره. إذا خالطه. وقيل: لأنها تترك حتى تدرك. ومنه: اختمر العجين. أي بلغ إدراكه، ومنه: خمرت الرأي. أي تركته حتى ظهر وتحرر، ولا مانع من صحة هذه الأقوال كلها لثبوتها عن أهل اللغة؛ وأهل المعرفة باللسان. قال ابن عبد البر (¬3): الأوجه كلها موجودة في الخمر؛ لأنها تركت حتى أدركت وسكنت، فإذا شربت خالطت العقل حتى تغلب عليه وتغطيه، فبيِّن أن الخمرَ تطلق على عصير العنب المشتد حقيقة إجماعا، وتطلق على غيره، لكن هل حقيقة أم مجازًا؟ ومع كونه مجازًا هل مجاز لغة أو من باب القياس على الخمر الحقيقية عند من يثبت التسمية بالقياس؟ قال الراغب في تفسيره لمفردات القرآن (¬4): سمي الخمر لكونه خامرًا للعقل أي ساترًا له، وهو عند بعض الناس اسمٌ لكلِّ مسكر، وعند بعضهم للمُتَّخَذ من العنب والتمر، وعند بعضهم لغير ¬

_ (أ) زاد بعده في الأصل: و.

المطبوخ، فرجح أن كل شيء يستر العقل يسمى خمرًا. وكذا قال أبو نصر بن (أ) القشيري في تفسيره (¬1): سميت الخمر خمرا لسترها العقل، [أو] (ب) لاختمارها (جـ). وكذا قال غير واحد من أهل اللغة؛ منهم أبو حنيفة الدينوري وأبو نصر الجوهري، ونقل عن ابن الأعرابي قال: سميت الخمر خمرًا لأنها تركت حتى خمرت، واختمارها تغير رائحتها. ويقال: سميت بذلك لمخامرتها العقل. وجزم ابن سيدة في "المحكم" (¬2) بأن الخمر حقيقة إنما هي للعنب وغيرها من المسكرات يسمى خمرًا مجازا. وقال صاحب "الهداية" (¬3)، من الحنفية: الخمر عندنا ما اعْتُصر من ماء العنب إذا اشتد، وهو المعروف عند أهل اللغة وأهل العلم. قال: وقيل: هو اسم لكل مسكر، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "كل مُسكرٍ خمر (د) " (¬4). وقوله: "الخمر من هاتين الشجرتين" (¬5). ولأنه مخامر للعقل، وذلك موجود في كل مسكر. قال: ولنا إطباق أهل اللغة على تخصيص الخمر بالعنب، ولهذا اشتهر استعماله فيه. وقال الخطابي (¬6): زعم قوم أنَّ العربَ لا تعرف الخمر إلا من العنب؛ فيقال لهم: ¬

_ (أ) ساقطة من: جـ. وينظر السير 19/ 424. (ب) في الأصل: و. والمثبت من الفتح 10/ 47. (جـ) في جـ: ولاحتمالها. (د) ساقط من: جـ.

إن الصحابةَ الذين سموا غير المتخذ من العنب خمرًا عربٌ فصحاء، فلو لم يكن هذا الاسم صحيحًا لما أطلقوه. وقال ابن عبد البر (¬1): قال الكوفيون: الخمر من العنب؛ لقوله تعالى: {أَعْصِرُ خَمْرًا} (¬2). قال: فدَلَّ على أن الخمرَ هو ما يعتصر لا ما ينتبذ. قال: ولا دليل فيه على الحصر. وقال أهل المدينة وسائر الحجازيين وأهل الحديث كلهم: كل مُسكرٍ خمر، وحُكْمُه حكم ما اتخذ من العنب. وقال القرطبي (¬3): الأحاديث الواردة عن أنس وغيره على صحتها وكثرتها تبطل مذهب الكوفيين القائلين بأن الخمر لا يكون إلا من العنب، وما كان من غيره لا يسمى خمرًا، ولا يتناوله اسم الخمر، وهو قول مخالفٌ لِلُغةِ العرب وللسُّنةِ الصحيحة وللصحابة؛ لأنهم لمَّا نزَل تحريمُ الخمرِ، فهموا من الأمر باجتناب الخمر تحريمَ كل ما يُسْكر، ولم يفرقوا بين ما يتخذ من العنب وبين ما يتخذ من غيره بل سووا بينهما، وحرموا ما كان من غير عصير العنب، وهم أهل اللسان، وبلغتهم نزل القرآن، فلو كان عندهم تردد لتوقفوا عن الإراقة حتى يستفصِلوا ويتحققوا التحريمَ، ثم خطبة عمر على منبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ألَا إن الخمرَ قد حرمت، وهي من خمسة؛ من العنب والتمر والعسل والحنطة والشعير، والخمر ما خامر العقل (¬4). وعمر من أهل اللغةِ، وإن كان يحتمل أنه أرد أن هذا هو الذي تعلق به التحريم لا أنه المسمى في اللغة؛ لأنه بصددِ بيان الأحكام الشرعية، ولعل ذلك صار اسمًا شرعيًّا لهذا النوع فتكون حقيقة شرعية، ¬

_ (¬1) التمهيد 1/ 245، وينظر الفتح 10/ 48. (¬2) الآية 36 من سورة يوسف. (¬3) الفتح 10/ 49. (¬4) البخاري 8/ 277 ح 4619، ومسلم 4/ 2322 ح 3032.

وإن كان مجازًا لغويًّا، وقال ابن المنذر: القائل بأن الخمر من العنب ومن غيره عمرُ وعلي وسعد (¬1) وابن عمر وأبو موسى وأبو هريرة وابن عباس وعائشة، ومن التابعين ابن المسيب (أ [وعروة والحسن وسعيد بن جبير وآخرون، وهو قول مالك والأوزاعي والثوري وابن المبارك] أ) والشافعي وأحمد وإسحاق وعامة أهل الحديث، ويمكن التأويل بما ذكرنا أن المراد الحقيقة الشرعية، [وقد روى] (ب) الشيخان وأبو داود والترمذي والنسائي (¬2) "كل مسكر خمر، وكل مُسْكر حرام". وروى أبو داود: "كل مسكر خمر، وكل خمر حرام". وأخرج أحمد وأبو يعلى (¬3): "ألا فكل مسكر خمر، وكل (جـ) حرام". وفي الصحيحين (¬4) أنه - صلى الله عليه وسلم - سئل عن البتع -أي نبيذ العسل- فقال: "كل شراب أسكر فهو حرام". قال الخطابي: إن الآيةَ لما نزلت في تحريم الخمر، وكان مسماها مجهولًا للمخاطبين، بيّن أن مسماها هو ما أسكر، فيكون مثل لفظ الصلاة والزكاة وغيرهما من الحقائق ¬

_ (أ) ساقط من: الأصل، جـ. والمثبت من الفتح 10/ 49. (ب) في جـ: وقد قرى. (جـ) زاد بعده في جـ: خمر. وينظر مصادر التخريج.

الشرعية. هذا معنى كلامه، وهو بناء على أن مسمى الخمر في اللغة هو ماء العنب وحده، ثم قال: لا يأتينا أن الشارع ليس مقصوده تعليم اللغات بل تعليم الأحكام. ثمَّ قال: ووجه آخر وهو أن المراد بكون هذه المذكورات خمرًا أي أنها كالخمر في التحريم، فلا نقل للفظ الخمر عن معناه اللغوي، وقد حصل المقصود من تحريم ما أسكر من ماء العنب أو غيره؛ إما بنقل اللفظ إلى الحقيقة الشرعية أو (أبالتشبيه والإلحاق أ) الشرعي. قوله: فجلده بجريدتين نحو أربعين. فيه دلالة على أن الحد يكون بالجريد، والجريد هو سعف النخلة، وقد اختلف العلماء في أنه هل يتعين الجلد بالجريد أم (ب) لا؟ على ثلاثة أقوال، وهي أوجه للشافعية (¬1)؛ أصحها: يجوز الجلد بالسوط، ويجوز الاقتصار على الضرب بالأيْدِي والنِّعال [والثياب] (جـ). ثانيها: يتعين الجلد. ثالثها: يتعين الضرب. وحجة الراجح أنه فعل في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يَثْبُتْ نسخه، والجلد في عهد الصحابة، فدل على جوازه، وحجة الآخر ما قاله الشافعي في "الأم": لو أقام عليه الحد بالسوط فمات، وجبت الدية. فسوى بينه وبين ما إذا زاد، فدل على أن الأصل الضرب بغير السوط، وصرح أبو الطيب ومن تبعه بأنه لا يجوز بالسوط، وصرح القاضي حسين بتعيين السوط، واحتج بأنه إجماع الصحابة، ونقل عن النص في القضاء -يعني عن نص الشافعي في باب ¬

_ (أ- أ) في جـ: بالشبه والإيجاب. (ب) في جـ: أو. (جـ) ساقطة من: الأصل، جـ. والمثبت من الفتح 12/ 66.

القضاء- ما يوافقه، وينظر على دعوى إجماع الصحابة بما قال النووي في شرح مسلم (¬1): أجمعوا على الاكتفاء بالجريد والنعال وأطراف الثياب. ثم قال: والأصح جوازه بالسوط، وشذ من قال: هو شرط، وهو غلط منابذ للأحاديث الصحيحة. قال المصنف رحمه الله تعالى (¬2): وتوسط بعض المتأخرين؛ فعين السوط للمتمردين وأطراف الثياب والنعال للضعفاء، ومن عداهم بحسب ما يليق بهم وهو متجه. وهذا اللفظ هو رواية شعبة عن قتادة، وأخرج النسائي (¬3) من طريق يزيد بن هارون عن شعبة: فضربه بالنعال نحوًا من أربعين، ثم أتى به أبو بكر فصنع به مثل ذلك، ورواه همام عن قتادة بلفظ: فأمر قريبًا من عشرين رجلا فجلده (أ) كل واحدٍ (¬4) جلدتين بالجريد والنعال. أخرجه أحمد والبيهقي (¬5)، وهذا يجمع بين ما اختلف فيه على شعبة، وأن جملة الضربات كانت نحو أربعين لا (ب) أنه جلده بجريدتين أربعين، رواه سعيد بن أبي عروبة عن قتادة بلفظ: جلد بالجريد والنعال أربعين. علقه أبو داود بسند صحيح، ووصله البيهقي (¬6). وقوله: فلما كان عمر استشار ... إلخ. في رواية مسلم: فلما كان ¬

_ (أ) في جـ: فجلد. (ب) في جـ: إلا.

عمر ودنا الناس من الريف والقرى، قال. ما ترون؟ وأخرج مالك في "الموطأ" (¬1) عن ثور بن زيد أن عمر استشار في الخمر، فقال له علي بن أبي طالب: نرى (أ) أن تجلده ثمانين، فإنه إذا شرب سكر، وإذا سكر هذى، وإذا هذى افترى. فجلد عمر في الخمر ثمانين. وهذا معضل، وقد وصله النسائي والطحاوي (¬2) عن ثور عن عكرمة عن ابن عباس بلفظ إن الشرَّاب كانوا يضربون على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالأيدي والنعال والعصا حتى توفى، فكانوا في خلافة أبي بكر أكثر منهم، فقال أبو بكر: لو فرضنا لهم حدًّا. فتوخى نحو ما كانوا يضربون في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -، فجلدهم أربعين حتى توفى، ثم كان عمر فجلدهم كذلك، حتى أتى برجل فذكر قصته وأنه تأوَّل قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا}. وأن ابن عباس ناظره في ذلك، واحتج ببقية الآية، وهو قوله تعالى: {إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} (¬3). والذي يرتكب ما حرمه الله، ليس بمتقي. فقال عمر: ما ترون؟ فقال علي: فذكره. وزاد بعد قوله: وإذا هذى افترى، وعلى المفتري ثمانون جلدة. فأمر به عمر فجلده ثمانين. ولهذا الأثر عن عليٍّ طُرقٌ؛ منها: ما أخرجه [الطبراني] (ب) والطحاوي والبيهقي (¬4) وفيه ¬

_ (أ) في جـ: نراه من. (ب) في الأصل: الطبري.

أن رجلا من بني كلب، يقال له: ابن وبرة. أخبره أن خالد بن الوليد بعثه إلى عمر، وقال: إن الناس قد انهمكوا في الخمر واستخفوا العقوبة. فقال عمر رضي الله عنه لمن حوله: ما ترون؟ قال: ووجدت عنده عليا وطلحة والزبير وعبد الرحمن بن عوف في المسجد، فقال علي ... فذكر مثل رواية ثور الموصولة. وأخرج عبد الرزاق (¬1) عن عكرمة، أن عمر شاور الناس في الخمر فقال له علي: إن السكران إذا سكر هذى. الحديث. ومنها: ما أخرج ابن أبي شيبة (¬2) في رواية أبي عبد الرحمن السلمي عن علي قال: شرب نفر من أهل الشام الخمر، وتأولوا الآية المذكورة، فاستشار عمر فيهم، فقلت: أرى أن تستتيبهم، فإن تابوا ضربتهم ثمانين وإلا ضربت أعناقهم، لأنهم استحلوا (أ) ما حرم الله، فاستتابهم فتابوا، فضربهم ثمانين ثمانين. وأخرج أبو داود والنسائي (¬3)، أن خالد بن الوليد كتب إلى عمر: إن الناس قد انهمكوا في الشراب، وتحاقروا العقوبة. قال: وعنده المهاجرون والأنصار فسألهم، واجتمعوا على أن يضربه ثمانين، وقال علي. فذكر مثله. وأخرج عبد الرزاق (¬4) عن ابن جريج، ومعمر عن ابن شهاب قال: ¬

_ (أ) في جـ: يحلوا.

فرض أبو بكر في الخمر أربعين سوطًا، وفرض فيها (أ) عمر ثمانين. قال [الطحاوي (¬1)] (ب) جاءت الأخبار متواترة عن علي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يسن في الخمر شيئًا، وجاء في حديث عقبة بن الحارث وعبد الرحمن بن أزهر، أنه أُتِيَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - برجل شرب الخمر، فقال للناس: اضربوه. فمنهم من ضربه بالنعال ومنهم من ضربه بالعصا، ومنهم من ضربه بالجريد، ثم أخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ترابًا فرمى به في وجهه. إلا إنه متعقب بما أخرجه مسلم (¬2)، أن عثمان أمر عليًّا بجلد الوليد بن عقبة في الخمر، فقال لعبد الله بن جعفر: اجلده، فجلده فلما بلغ أربعين، قال: أمسك، جلد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أربعين، وجلد أبو بكر أربعين، وجلد عمر ثمانين، وكلٌّ سُنَّة، وهذا أحب إليَّ. فإن فيه الجزم بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - جلد أربعين، وسائر الأخبار ليس فيها عدد إلا رواية: نحو الأربعين. ولكنه يجاب بأن ذلك لا يخالف. قوله: لم يسن. لأن المراد بالسنة هو الطريقة التي استمرت، وضرْب أربعين مرة واحدة، لا يلزم أن تكون سُنة حيث لم يحافظ عليها كما في الروايات الأخر التي لم يذكر فيها عدد، ورواية: نحو الأربعين. إنما هي للتقريب لا للتحقيق، وتضعيف الطحاوي لحديث مسلم بأن في رواته (جـ) ¬

_ (أ) في جـ: منها. (ب) ساقط من: الأصل، جـ. والمثبت من الفتح 12/ 70. (جـ) في جـ: رواية.

عبد الله بن فيروز الداناج (¬1) بنون وجيم، وهو ضعيف؛ فقد وثقه أبو زرعة والنسائي، وقال الترمذي (¬2) أنه سأل البخاري عن الحديث فقوَّاه، وكفى بتصحيح مسلمٍ له، وتلقاه الناس بالقبول. وقال ابن عبد البر (¬3): إنه أثبت شيء في هذا الباب. وقول علي: وكل سنة. يراد (أ) أن ذلك جائز (ب) قد وقع، لا محذور فيه، وبعض الرواة روى أيضًا: أن عليًّا جلد الوليدَ ثمانين. وأخرج الطحاوي والطبري (¬4) من طريق أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين أن عليا رضي الله عنه جلد الوليد بسوط له طرفان. ومن طريق عروة مثله (¬5)، لكن قال: له ذنبان. وفي الطريقين ضعف. قال البيهقي (¬6): يحتمل أن يكون ضربه بالطرفين عشرين، فأراد بالأربعين ما اجتمع من عشرين وعشرين. واستدل الطحاوي أيضًا على ضعف [الحديث] (جـ) بأن عليا لا يرجح فعل عمر على فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - بناء منه على أن قوله: وهذا أحب إليَّ. إشارة إلى الثمانين، وهو خلاف الظاهر، وبأن القياس من عليٍّ لا يكون مع معرفة النص ¬

_ (أ) زاد بعده في جـ: به. (ب) زاد بعده في جـ: و. (جـ) ساقطة من: الأصل.

بالأربعين، ويجاب عنه بأنه إنما وقع الاستشارة في أمر زائد على المعتاد لدفع الجرأة من الشاربين، فلا محذور في القياس، ولا مخالفة للنص، ويتأيد هذا بما عند الدارقطني (¬1) في بعض طرق حديث الزهري عن حميد بن عبد الرحمن، كان عمر إذا أُتِي بالرجل الضعيف تكون منه الزَّلة جلده أربعين. قال: وكذلك عثمان جلد أربعين وثمانين. وفي رواية عبد الرزاق (¬2) عن عبيد (أ) بن عمير، من كبار التابعين، أنهم كانوا يضربون شارب الخمر بالأيدي والنِّعال، فلما كان عمر فعل ذلك حتى عتوا (ب)، فجعله أربعين سوطا، فلما رآهم لا يتناهون، جعله ثمانين سوطا وقال: هذا أخف الحدود. يريد (جـ) ما ذكر أولًا، والحديث فيه دلالة على ثبوت الحد (د) على شارب الخمر، قال القاضي عياض، وكذا الإمام الهدي في "البحر": إنه يجب الحد إجماعًا، وتعقب دعوى الإجماع بأن الطبري وابن المنذر وغيرهما حكَوْا عن طائفة من أهل العلم أن الخمرَ لا حدَّ فيها، وإنما فيها التعزير، واستدلوا بالأحاديث الواردة في ذلك، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم ينص فيها على حد معينٍ، وإنما فيها الضرب المطلق، وأصرحها حديث أنس، وفيه: نحو الأربعين. ولم يجزم بالأربعين، وقد قال عبد الرزاق (¬3): أخبرنا ابن ¬

_ (أ) في جـ: عبيدة. وينظر تهذيب الكمال 19/ 223. (ب) في جـ: عتبوا. وفي مصدر التخريج: ثم خشي يغتال الرجل. وفي الفتح. خشي. والمثبت موافق لما في رواية النسائي في الكبرى 3/ 250 ح (5278). (جـ) في جـ: يؤيد. (د) في جـ: الجلد.

جريج ومعمر: سئل ابن شهاب كم جلد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الخمر؟ فقال: لم يكن فرض فيها حدًّا، كان يأمر من حضره أن يضربوه بأيديهم ونعالهم، حتى يقول لهم: "ارفعوا". وورد أنه لم يضربه أصلا فيما أخرجه أبو داود والنسائي (¬1) بسند قوي عن ابن عباس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يوقت (أ) في الخمر حدًّا. قال ابن عباس: وشرب رجل فسكر، فانطلق به إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فلما حاذى دار العباس انفلت (ب)، فدخل على العباس فالتزمه، فذكر ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - فضحك، ولم يأمر فيه بشيء. وأخرج الطبري (جـ) (¬2) من وجه آخر عن ابن عباس رضي الله عنه: ما ضرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الخمر إلا أخيرا، ولقد غزا تبوك فغشى حجرته من الليل سكران، فقال: "ليقم إليه رجل فيأخذ بيده، حتى يرده إلى رحله". والجواب عن ذلك أن الإجماع من الصحابة انعقد على وجوب الحد؛ لأن أبا بكر تحرى ما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - ضرب به السكران فصيَّره حدًّا، واستمر عليه، وكذا استمر عليه من بعده وإن اختلفوا في العدد، ويجاب عن حديث ابن عباس في الذي استجار بالعباس بأن ذلك كان قبل أن يشرع، ثم شرع الجلد، ولم يطلع أكثرهم على تعيينه صريحا مع اعتقادهم أن فيه الحد المعين، ومن [ثَمَّ] (هـ) توخى أبو ¬

_ (أ) في جـ: يوقف. (ب) في جـ: انقلب. (جـ) في جـ: الطبراني. (هـ) ساقطة من: الأصل.

بكر ما فعل بحضرة النبي - صلى الله عليه وسلم - فاستقر عليه الأمر، ثم رأى عمر ومن وافقه الزيادةَ على الأربعين، إما حدًّا ثبت بالقياس وإما تعزيرًا، وذهب الجمهور إلى أنه يجب الحد على السكران، وأنه ثمانون، ومنهم العترة وأبو حنيفة ومالك وأحمد وأحد القولين للشافعي، قالوا: لقيام الإجماع عليه في عهد عمر، فإنه لم ينكر عليه أحد، وتعقب بأن عليًّا رجع عن ذلك، واقتصر على الأربعين، وقد تقدم ذلك، ويرد عليه أيضًا، بأن عليًّا جلد النجاشي الشاعر في خلافته ثمانين (¬1). وإسناده غير صحيح، وذهب الشافعي في القول المشهور عنه وأحمد في رواية وأبو ثور وداود إلى أن حده أربعون؛ وذلك لأن الأربعين التي استقر عليها الأمر في أيام أبي بكر ورجوع عليٍّ إليها، والمشورة من علي في عهد عمر لانْهِماكِ الناس في الخمر، فكانت الأربعون تعزيرًا واقفة على نظَرِ المصلحة من الإمام، وبهذا تمسكتِ الشافعية، قالوا: أقل ما في حد الخمر للحر أربعون، وتجوز الزيادة فيه إلى الثمانين على سبيل التعزير، ولا يتجاوز الثمانين، وأما قول علي: وكل سنة. فمعناه: أن (أ) الاقتصار على الأربعين سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - وصار إليه أبو بكر رضي الله عنه، والوصول إلى الثمانين سنة عمر ردعًا للشاربين الذين احتقروا العقوبة الأولى، ووافقه من ذكر في زمانه؛ إما أن تكون الزيادة حدًّا، إذا جوز إثبات الحد بالقياس كما ذهب إليه البعض، وإما أنه عقوبة تعزير بناء على أنه يجوز أن يبلغ بالتعزير قدر الحد، ولعلهم لم يبلغهم الحديث (ب) الناهي عن ذلك، [ويؤيد] (جـ) أن الزيادة ¬

_ (أ) ساقطة من: جـ. (ب) في جـ: الحد. (جـ) في الأصل، جـ: ويؤيده. والمثبت يقتضيه السياق.

كانت تعزيرًا، ما أخرجه أبو عبيد (¬1) في غريب الحديث بسند صحيح عن أبي رافع عن عمر أنه أُتِي بشارب، فقال لمطيع بن الأسود: إذا أصبحت غدًا فاضربه، فجاء عمر فوجده يضربه ضربًا شديدًا، فقال: كم ضربته؟ قال: ستين، قال: اقتص عنه بعشرين. قال أبو [عبيد] (أ): يعني اجعل شدة ضربك له قصاصًا بالعشرين التي بقيت من الثمانين. فيؤخذ منه أن الزيادة على الأربعين ليست بحدٍّ، إذ لو كانت حدًّا لما جاز النقص منه بشدةِ الضرب، إذ لا قائلَ به إلا أن فيما أخرجه البخاري (¬2) عن علي أنه قال: ما كنت لأقيم حدًّا على أحد فيموتَ؛ فأجِد (ب) في نفسي إلا صاحب الخمر، فإنه لو مات ودَيْتُه، وذلك أدن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يَسُنه. دلالة على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يذكر الأربعين في لفظه، ولا اسْتَمرَّ عليها في فعله، وأن الضرب كان يختلف حاله؛ فلذلك أنه إذا حصل من الضرب إعنات بإفضاء القتل، دل على أنه غير سائغ شرعًا فيضمنه؛ لأن التأديب من حقه ألا يفضي إلى النفس، وهو غير مأمور به، فقد تعدى المقيم له بخلاف الحد المعين من الشارع، فإنه إذا حصل الإعنات كان مِن سببٍ مأمور به فلا تعدِّي من المقيم، ووقع في رواية الشعبي (¬3): فإنما هو شيء صنعناه. ولعله يجمع بين هذه الرواية وما تقدم من قوله: كل سنة. أنه قدر (جـ) الضرب الواقع من النعال ¬

_ (أ) في الأصل، جـ: عبيدة. (ب) في جـ: فاخذ. (جـ) في جـ: قد حد.

والجريد في رواية، وأطراف الثياب والأيدي في رواية بمقدار الأربعين الضربة وكان هذا القدر سُنةً، ولكنه على جهة التقريب لا التحقيق. وقوله: إنه لم يسنه. أي تحقيقًا، ولعل البخاري يميل إلى عدم التقرير، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقتصر في ضرب (أ) الشارب إلى ما يليق بحاله، ولذلك لم يترجم بالعدد أصلا ولا أخرج في العدد حديثًا صريحًا. وقال الشافعي (¬1): إن ضرَب بغير السوط فلا ضمان، وإن جلد بالسوط ضمن، قيل: الدية. وقيل: قدر تقاوت ما بين الجلد بالسوط وبغيره، والدية في ذلك على عاقلة الإمام، وكذا لو زاد على الأربعين ومات. وقوله: إنه رآه يتقيأها. هذا في قصة الوليد بن عقبة، شهد عليه رجلان؛ أحدهما، حمران (ب) أنه شرب الخمر، وشهد آخر أنه رآه يتقيأ، فقال عثمان: إنه لم يتقيأ حتى شربها. فيه دلالة على أنه تكفي الشهادة على القيء وكذا الشم، وقد ذهب إلى هذا الهدوية ومالك والناصر؛ لأن الصحابة أقاموا على الوليد الحد ولم ينكر، وذهب الشافعية والحنقية إلى أنه لا تكفي الشهادة على القيء والشم، وأجابوا عن هذه الواقعة بأن عثمان قد علم شرب الوليد، فقضى بعلمه، ولعل مذهبه جواز قضاء القاضي بعلمه في الحدود، (جـ وفيه ضعف جـ). ¬

_ (أ) في جـ: شرب. (ب) زاد بعده في جـ: وشهد. (جـ - جـ) في جـ: فيضعف.

1033 - وعن معاوية [عن النبي - صلى الله عليه وسلم -] (أ) أنه قال في شارب الخمر: "إذا شرب فاجلدوه، ثم إذا شرب فاجلدوه، ثم إذا شرب الثالثة فاجلدوه، ثم إذا شرب الرابعة فاضربوا عنقه". أخرجه أحمد وهذا لفظه، والأربعة (¬1) وذكر الترمذي (¬2) [ما يدل] (ب) على أنه منسوخ، وأخرج ذلك أبو داود (¬3) صريحًا عن الزهري. الحديث أخرجوه عن معاوية مرفوعًا، وأخرجه الشافعي (¬4) في رواية حَرْملةَ عنه، وأبو داود وأحمد والنسائي والدارمي وابن المنذر، وصححه ابن حبان (¬5) كلهم عن أبي هريرة مرفوعًا، وقد أخرجه (*) ابن أبي شيبة (¬6) من رواية أبي صالح عن أبي سعيد، والمحفوظ أنه عن معاوية بدل أبي سعيد، ¬

_ (أ) سقط من: الأصل، جـ. والمثبت من البلوغ ومصادر التخريج. (ب) ساقطة من: الأصل. (*) إلى هنا انتهى ما لدينا من نسخة مكتبة صنعاء، والمشار إليها بـ (الأصل) في الحواشي.

وأخرجه أبو داود (¬1) من رواية أبان العطار، وذكر الجلد ثلاث مرات بعد الأولى، ثم قال: فإن شربوا فاقتلوهم. ثم ساقه أبو داود (¬2) من طريق حميد بن يزيد عن نافع عن ابن عمر قال: وأحسبه قال في الخامسة: "ثم إن شربها فاقتلوه". كذا قال. وكذا في حديث غُطَيف (أ): في الخامسة. قال أبو داود (¬3): وفي رواية عمر بن أبي سلمة عن أبيه، وسهيل بن أبي صالح عن أبيه كلاهما عن أبي هريرة: في الرابعة. وكذا في رواية (ب بن أبي نُعْم ب) عن ابن عمر. وقد أخرج حديث الأربع أحمد والدارمي والطبراني وصححه الحاكم (¬4) من حديث الشريد بن [سويد] (جـ) الثقفي. وأخرج أحمد والحاكم والطبراني وابن منده في "المعرفة" (¬5) ورواته ثقات من حديث شرحبيل الكندي، وأخرجه الطبراني وابن منده (¬6) وفي سنده ابن لهيعة من حديث أبي ¬

_ (أ) في جـ، والفتح 12/ 79: عطف. وفي مصدر التخريج: أبو غطيف، وهو ما قيل في اسمه، والمثبت كما في تهذيب التهذيب 8/ 248. (ب- ب) في جـ: أبي نعيم، وفي الفتح: ابن أبي نعيم. والمثبت من مصدر التخريج. وينظر تهذيب الكمال 17/ 456. (جـ) في جـ: أوس. وهو خطأ؛ فالشريد هو ابن سويد الثقفي. والمثبت من مصادر التخريج، وينظر الإصابة 3/ 327، 328، 340.

الرمداء -براء مهملة وميم ساكنة ودال مهملة وبالمد، وقيل: بموحدة ثم ذال معجمة- وهو بلوي، وفي سياق حديثه- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بضرب عنقه، وأنه ضرب عنقه، فإن ثبت هذا كان فيه رَدٌّ على مَن يقول: إدن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يعمَلْ به. وأخرجه الطبراني الحاكم (¬1) من حديث جرير، وقد روي عن عبد الله بن (أعمرو بن العاص أ) من طريقين وفيهما مقال، وعن ابن (ب) عمر ونفر من الصحابة وعن جابر وعن رجل من الصحابة، وقال الترمذي (¬2): سمعت محمدا، يعني البخاري، يقول: حديث معاوية في هذا أصح. والحديث فيه دلالة على (جـ) قتلِ الشارب إذا تكرر منه أربع مرات، وقد ذهب إلى هذا بعض أهل الظاهر واستمر عليه ابن حزم، واحتج له وادعى أن لا إجماع على ترك القتل، وأورد من مسند الحارث بن أبي أسامة ما أخرجه هو والإمام أحمد (¬3) من طريق الحسن عن عبد الله بن عمرو أنه قال: ائتوني برجل أقيم عليه الحد، يعني ثلاثا، ثم سكر فإن لم أقتله فأنا كاذب. وهذا منقطع؛ لأن الحسن لم يسمع من عبد الله بن عمرو كما جزم به ابن المديني وغيره، فلا حجة فيه، وذهب الجمهور إلى أن القتل منسوخ، فأخرج الطحاوي (¬4) عن ابن المنكدر أنه بلغه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جلد ¬

_ (أ- أ) في جـ: عمر. والمثبت من الفتح 12/ 79. وينظر النسائي في الكبرى 3/ 256 ح 5300. (ب) ساقطة من: جـ. والمثبت من الفتح 12/ 79. (جـ) زاد بعده في جـ: أن. والحذف يقتضيه السياق.

ابن (أالنعيمان فضربه أ) بعد الرابعة. وأخرج الشافعي وعبد الرزاق وأبو داود (¬1) من رواية الزهري عن قبيصة بن ذؤيب، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من شرب الخمر فاجلدوه، إلى أن قال: ثم إذا شرب في الرابعة فاقتلوه". قال: فأتى برجل قد شرب فجلده، ثم أتى به قد شرب فجلده ب) ثم أتى به وقد شرب فجلده ب)، ثم أتى به الرابعة قد شرب فجلده فرفع القتل عن الناس، وكانت رخصة. وعلقه الترمذي (¬2)، فقال: روى الزهري، وأخرجه الخطيب في "المبهمات" (¬3) عن ابن إسحاق، عن الزهري، عن قبيصة، وقال: قال: أتى برجل من الأنصار يقال له: نعيمان. فضربه أربع مرات. فرأى المسلمون أن القتل قد أُخِّر، وأن الضربَ قد وجَب، وقبيصة بن ذؤيب من أولاد الصحابة ولد في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يسمع منه (¬4)، ورجاله ثقات مع إرساله وأعله الطحاوي (¬5) بما أخرجه من طريق الأوزاعي أن الزهري راويه قال: بلغني عن قبيصة. ولكنه معارض بأن في رواية ابن وهب عن يونس أخبرني الزهري أن قبيصة حدثه أنه بلغه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬6)، ¬

_ (أ- أ) في جـ: النعمان. والمثبت من الفتح 12/ 80. (ب- ب) ساقطة من: جـ. والمثبت من مصادر التخريج، وينظر الفتح 12/ 80.

وهذا أصح؛ لأن يونس أحفظ لحديث الزهري من الأوزاعي، والظاهر أن واسطة قبيصة صحابي، وإبهام الصحابي لا يضر، فيكون له حكم الصحيح، ويتأيد بما أخرجه عبد الرزالتي عن ابن المنكدر مثله (¬1)، وكذا أخرجه النسائي (¬2) عن جابر. قال الشافعي (¬3) بعد تخريجه: هذا ممَّا لا اختلاف فيه بين أهل العلم. وقال الترمذي (¬4): لا نعلم بين أهل العلم اختلافا في القديم والحديث، وقال في "العلل" آخر الكتاب (¬5): جميع ما في هذا الكتاب قد عمل به بعض أهل العلم إلا هذا الحديث، وحديث الجمع بين الصلاتين في الحضر. وقال الخطابي (¬6): إن حديث الأمر بالقتل ليس على ظاهره، وإنما المراد به الردع والتحذير. ثم قال: ويحتمل أنه نسخ بالإجماع من الأمة فتقَرَّر النسخ. وأما الاعتراض بأن حديث معاوية متأخر لأنه إنما أسلم بعد الفتح، ولم يكن في [الأحاديث الدالة] (أ) على النسخ ما يدل على [تأخر هذا] (ب). ويجاب عنه بأن تأخر إسلام الصحابي لا يكون قرينة على التأخر؛ لأنه قد يروى عن غيره كما ذلك مقرر في الأصول، ثم لا يسلم أن معاوية أسلم بعد الفتح، فإنه قد قيل: إنه أسلم ¬

_ (أ) في جـ: الحديث الدال. والمثبت من الفتح 12/ 80. (ب) في جـ: تأخرها. والمثبت يقتضيه السياق، وينظر الفتح 12/ 80.

قبل الفتح، وقيل: في الفتح، وقصة ابن النعيمان كانت بعد ذلك؛ لأن عقبة بن الحارث حضرها إما بحنين وإما بالمدينة، وهو إنما أسلم في الفتح وحنين وحضور عقبة [إلى] (أ) المدينة كان بعد الفتح جزما، وقد عمل بالناسخ الصحابة، فأخرج عبد الرزاق في مصنفه (¬1) بسند فيه لين عن عمر، أنه جلد أبا محجن الثقفي في الخمر ثماني مرات. وأورد نحو ذلك عن سعد بن أبي وقاص، وأخرج حماد بن سلمة في مصنفه (¬2) من طريق أخرى رجالها ثقات أن عمر جلد أبا محجن في الخمر أربع مرات ثم قال له: أنت خليع. فقال: أما إذ خلعتني فلا أشربها أبدًا. 1034 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا ضرب أحدكم فليتق الوجه". متفق عليه (¬3). الحديث فيه دلالة على أن المحدود لا يضرب في وجهه، وكذلك لا يضرب في المراق (¬4) والمذاكير، وقد روي عن علي أنه قال للجلاد: اضربه في أعضائه، وأعط كل عضو حقه، واتق وجهه ومذاكيره. أخرجه ابن أبي شيبة وعبد الرزاق وسعيد بن منصور والبيهقي (¬5) من طرق عن علي، ¬

_ (أ) في جـ: في. والمثبت من الفتح 12/ 80.

واجتناب المذاكير والمراق؛ لأنه لا يؤمن عليه من ضربها، واختلف العلماء في الرأس فذهب ابن الصباغ والماسرخسي من أصحاب الشافعي إلى أنه لا يضرب فيه، إذ هو غير مأمون. وذهب الهدوية وأبو يوسف إلى أنه يضرب فيه لقول علي: واضرب الرأس. وقول أبي بكر للجلاد: اضرب الرأس فإن الشيطان فيه. أخرجه ابن أبي شيبة (¬1)، وذكره أبو بكر الرازي في [كتاب] (أ) "أحكام القرآن" (¬2) في حق رجل انتفى من أبيه، فقال أبو بكر: اضرب الرأس فإن الشيطان في الرأس. وفيه ضعف وانقطاع، وذهب مالك إلى أنه لا يضرب إلا في رأسه. 1035 - وعن ابن عباس رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تقام الحدود في المساجد". رواه الترمذي والحاكم (¬3). الحديث أخرجه الترمذي وابن ماجه (¬4)، وفي إسناده إسماعيل بن مسلم المكي وهو ضعيف من قبل حفظه (¬5). وأخرجه أبو داود والحاكم وابن السكن وأحمد والدارقطني والبيهقي (¬6) من حديث حكيم بن حزام، ولا ¬

_ (أ) في جـ: باب. والمثبت من التلخيص 4/ 78.

بأس بإسناده، ورواه البزار (¬1) من حديث جبير بن مطعم، وفيه الواقدي، ورواه ابن ماجه (¬2) من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده نهى أن يجلد الحد في المسجد وفيه ابن لهيعة (¬3)، وأخرج ابن أبي شيبة (¬4) عن طارق بن شهاب قال: أتي عمر بن الخطاب رضي الله عنه برجل في حد، فقال: أخرجاه من المسجد، ثم اضرباه. وسنده على شرط الشيخين، وأخرج (4) عن علي، أن رجلا جاء إلى علي فساره فقال: يا قنبر أخرجه من المسجد، فأقم عليه الحد. وفي سنده مقال. والحديث فيه دلالة على أنه لا يجوز إقامة الحدود في المساجد، وقد ذهب إليه الكوفيون والشافعي وأحمد وإسحاق، وذهب الشعبي وابن أبي ليلى إلى جوازه. وقال مالك: لا بأس بالضرب بالسياط اليسيرة، فإذا كثرت الحدود فليَكُنْ ذلك خارج المسجد. قال ابن بطال (¬5): وقول من نَزَّه المسجد أوْلَى. 1036 - وعن أنس رضي الله عنه قال: لقد أنزل الله تحريم الخمر وما بالمدينة شراب يشرب إلا من تمر. أخرجه مسلم (¬6). ¬

_ = وأحمد 3/ 434، والدارقطني 3/ 85، 86، والبيهقي 8/ 328. (¬1) البزار -كما في التلخيص 4/ 78. (¬2) ابن ماجه 2/ 867 ح 2600. (¬3) تقدمت ترجمته في 1/ 175. (¬4) ابن أبي شيبة 10/ 42. (¬5) شرح البخاري لابن بطال 8/ 242. (¬6) مسلم، كتاب الأشربة، باب تحريم الخمر 3/ 1572، ح 1982.

الحديث فيه دلالة على أن نبيذ التمر يسمى خمرا، وقد تقدم الكلام في ذلك. 1037 - وعن عمر رضي الله عنه قال: نزل تحريم الخمر، وهي من خمسة: من العنب، والتمر، والعسل، والحنطة، والشعير، والخمر ما خامر العقل. متفق عليه. وأخرجه الثلاثة (¬1). تقدم الكلام عليه. 1038 - وعن ابن عمر رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "كل مسكر خمر، وكل مسكر حرام". أخرجه مسلم. والثلاثة (¬2). ¬

_ (¬1) البخاري، كتاب التفسير، باب {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ}، 8/ 277 ح 4619، ومسلم، كتاب التفسير، باب في نزول تحريم الخمر، 4/ 2322 ح 3032، وأبو داود، كتاب الأشربة، باب في تحريم الخمر، 3/ 323 ح 3669، والنسائي، كتاب الأشربة، باب ذكر أنواع الأشياء التي كانت منها الخمر حين نزل تحريمها، 8/ 295، والترمذي، كتاب الأشربة، باب ما جاء في الحبوب التي يتخذ منها الخمر، 4/ 263، ح 1874. (¬2) مسلم، كتاب الأشربة، باب بيان أن كل مسكر خمر، وأن كل خمر حرام، 3/ 1587 ح 2003، والنسائي، كتاب الأشربة، باب إثبات اسم الخمر لكل مسكر من الأشربة، وباب تحريم كل شراب أسكر، 8/ 296، 297، وباب ذكر الأخبار التي اعتل بها من أباح شراب السكر، 8/ 324، 325، والترمذي، كتاب الأشربة، باب ما جاء في شارب الخمر، 4/ 256 ح 1861، ابن ماجه، كتاب الأشربة، باب كل مسكر حرام، 2/ 1123 ح 3387.

الحديث فيه دلالة على أن كل مسكر يسمى خمرا، وفيه الاحتمال الذي قد مر. وقوله: "وكل مسكر حرام". عام لكل ما أسكر، سواء كان من النبيذ أو من العصير، ولكنه يحتمل أن يراد أنه يحرم القدر المسكر، ويحرم تناوله مطلقا وإن قل، وإن لم يسكر، إذا كان في ذلك الجنس [صلاحية الإسكار] (أ)، قال الطحاوي: اختلفوا في تأويل الحديث؛ فقال بعضهم: أراد به جنس ما يسكر، وقال بعضهم: أراد [به] (ب) ما يقع السكر عنده، ويؤيده أن القاتل لا يسمى قاتلا حتى يقتل، قال: ويدل [له] (جـ) حديث ابن عباس رفعه: "حرمت الخمر قليلها وكثيرها، والسكر من كل شراب". وهو حديث أخرجه النسائي (¬1)، ورجاله ثقات، إلا أنه اختلف في وصله وانقطاعه، وفي رفعه ووقفه، وعلى تقدير صحته فقد رجح الإمام أحمد وغيره أن الرواية فيه بلفظ: "والمسكر". بضم الميم وسكون السين، لا (السكر) بضم ثم سكون، أو بفتحتين، وعلى تقدير ثبوته فهو حديث فرد، معارض بعموم أحاديث صحيحة كثيرة، وقد ذهب إلى أنه يحرم المسكر (د) قليله وكثيره -الجمهور من الصحابة والتابعين والفقهاء؛ كعلي، وعمر، وابن عباس، وابن عمر، وابن مسعود، وأبي هريرة، وسعد بن أبي وقاص، ¬

_ (أ) في جـ: صلاحه السكر. والمثبت من الفتح 10/ 42. (ب) ساقطة من: جـ. والمثبت من الفتح 10/ 43. (جـ) في جـ: عليه. والمثبت من الفتح 10/ 43. (د) في جـ: بالمسكر. والمثبت يقتضيه السياق.

وعائشة، والنخعي، وأحمد، وإسحاق، والشافعي، ومالك، والعترة جميعا، وحجتهم هذا الحديث، وحديث جابر الآتي (¬1)، وما أخرجه أبو داود (¬2) من حديث عائشة: "كل مسكر حرام، وما أسكر منه الفرق؛ فملء الكف منه حرام". وأخرجه ابن حبان والطحاوي (¬3) من حديث سعد بن أبي وقاص، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "أنهاكم عن قليل ما أسكر كثيره". وجاء أيضًا عن علي عند الدارقطني (¬4)، وعن ابن عمر عند ابن إسحاق والطبراني، وعن خوات بن جبير عند الدارقطني والحاكم والطبراني (¬5)، وعن زيد بن ثابت عند الطبراني (¬6)، وفي أسانيدها مقال، ولكنها تزيد الأحاديث الصحيحة قوة وشهرة، قال أبو مظفر بن السمعاني: الأخبار [في ذلك] (أ) كثيرة، ولا مساغ لأحد في العدول عنها. وذهب الكوفيون ومنهم إبراهيم النخعي، وسفيان الثوري، وابن أبي ليلى، وشريك، وابن شبرمة، وأبو حنيفة وأصحابه، وأكثر علماء البصرة على أنه يحل دون المسكر من غير عصير العنب والرطب، [قالوا] (ب): لأنه لا يسمى خمرا إلا مجازا، ولما أخرجه ¬

_ (أ) ساقطة من: جـ. والمثبت من الفتح 10/ 43. (ب) في جـ: قال. والمثبت يقتضيه السياق.

البيهقي (¬1) في حديث عبد القيس، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "فإن اشتد متنه فاكسروه بالماء، فإن أعياكم فأهريقوه". ثم قال البيهقي: الروايات الثابتة عن وفد عبد القيس خالية عن هذه اللفظة، وقد روي عن أبي هريرة في هذه القصة أنه قال: "فإن خشي شدته فليصب عليه الماء". فلا يتم الاحتجاج لهم، وأخرج من حديث ابن عباس (¬2)، أنه قال لهم: "إذا اشتد صبوا عليه الماء". وقال في الثالثة أو الرابعة: "فإذا اشتد فأهريقوه". وهو من رواية قيس بن [حبتر] (أ)، وقد خالفه أبو جمرة عن ابن عباس، فذكر الكسر بالماء من قول ابن عباس، وأنه قال: إذا خشيت شدته فاكسره بالماء. وأخرج (¬3) عن عائشة رضي الله عنها مرفوعًا: "لا تنبذوا في الدباء والمزفت، ولا النقير ولا [الحنتم] (ب)، ولا تنبذوا البسر والرطب جميعًا، ولا التمر والزبيب جميعًا، وما كان سوى ذلك فاشتد [عليكم] (جـ) فاكسروه بالماء". وفي إسناده ثمامة بن [كلاب] (د) (¬4) وهو مجهول، وفي حديث عكرمة بن ¬

_ (أ) في جـ: جبل. والمثبت من مصدر التخريج. وينظر تهذيب الكمال 24/ 17. (ب) في جـ: الخنمة. والمثبت من مصدر التخريج. (جـ) في جـ: عليه. والمثبت من مصدر التخريج. (د) في جـ: أثال. والمثبت من مصدر التخريج.

عمار (¬1)، عن أبي كثير السحيمي، عن أبي هريرة مرفوعًا، أنه قال: "إذا رابك من شرابك ريب فشن عليه الماء، أمط عنك حرامه واشرب حلاله". وفيه ضعف؛ لأن عكرمة (¬2) اختلط في آخر عمره وساء حفظه، فروى ما لم يُتابَع عليه، وقال عبد الله بن يزيد المقرئ، [عن عكرمة بن عمار] (أ) لفظ: "إذا رابك". قاله أبو هريرة. وذكره إسحاق الحنظلي في مسنده، وأخرج (¬3) من حديث الكلبي: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - طاف بالبيت، واستسقى رهطا من قريش، فأتي بنبيذ زبيب، فوجد له رائحة شديدة، ثم دعا بدلو من ماء زمزم فصبه على الأناء، وقال: "إذا اشتد عليكم شرابه فاصنعوا به هكذا". أخرجه من طريقين، ولكن الكلبي متروك (¬4)، وقد رواه عن أبي صالح باذان (¬5)، وهو ضعيف، وأخرجه (¬6) عن يحيى بن يمان من طريقين بزيادة: ثم شرب فقال رجل: أهو حرام يا رسول الله؟ قال: "لا". وفي رواية قال: "حلال". لكن قال علي بن عمر: هذا حديث معروف ¬

_ (أ) ساقطة من: جـ. والمثبت من مصدر التخريج.

بيحيى بن يمان (¬1)، ويقال: إنه انقلب عليه الإسناد، واختلط بحديث الكلبي. وقال ابن نمير: يحيى بن يمان سريع النسيان، وحديثه عن أبي مسعود خطأ، إنما هو عن الكلبي عن أبي صالح. وقد قال عبد الرحمن بن مهدي: لا تحدث بهذا (¬2). وقد أخرج (¬3) مثل هذا من حديث عكرمة عن بن عباس في قصة طواف النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأنه قال: "إذا اشتد عليكم فاقتلوه بالماء". وفي إسناده يزيد بن أبي زياد (¬4)، وهو ضعيف لا يحتج به لسوء حفظه، وأما ما روي في حديث عكرمة، أنه شرب منه النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل أن يخلط بالماء. فهو مخالف لسائر الروايات، وأخرج (¬5) عن ابن عمر قال: جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فوجد منه ريحا فقال: "ما هذه الريح؟ ". فقال: نبيذ، قال: "فأرسل إلي منه". فأرسل إليه فوجده شديدًا، فدعا بماء فصبه عليه ثم شوب، ثم قال: "إذا اغتلمت أشربتكم فاكسروها بالماء". وجاء في رواية عن عبد الملك: "فاقطعوا متونها بالماء". وفي إسناده عبد الملك بن نافع، ابن أخي القعقاع بن [شور] (أ)، وهو رجل مجهول، اختلفوا في اسمه واسم ¬

_ (أ) في جـ: سور. والمثبت من مصدر التخريج. وينظر تهذيب الكمال 18/ 424.

أبيه، فقيل: هكذا. وقيل: عبد الملك بن القعقاع. وقيل: ابن أبي القعقاع. وقيل: مالك بن القعقاع. وقال يحيى بن معين: هم يضعفونه. وقال البخاري: عبد الملك بن نافع ابن أخي القعقاع بن شور، عن ابن عمر في النبيذ، لم يتابع عليه. وقال النسائي: عبد الملك بن نافع ليس بمشهور، ولا يحتج بحديثه، والمشهور عن ابن عمر خلاف حكايته (¬1). ولحديث أبي عون الثقفي (¬2)، عن عبد الله بن شداد، عن ابن عباس، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "حرمت الخمر لعينها [قليلها وكثيرها، والسكر من كل شراب] (أ) ". وهذا نص لا يحتمل التأويل، ولكنه قد روي: "والمسكر من غيرها". ولحديث شريك بإسناده إلى أبي بردة بن [نيار] (ب)، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إني كنت نهيتكم عن الشراب في الأوعية فاشربوها فيما بدا لكم، ولا تسكروا". أخرجه الطحاوي (¬3)، وروي عن ابن مسعود أنه قال: شهدت تحريم النبيذ كما شهدتم، ثم شهدت تحليله فحفظت ونسيتم. وهذا اللفظ يحتمل تحريم الانتباذ في الظروف، ثم نسخ ذلك، ولا روي عن أبي موسى قال: بعثني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنا ومعاذ إلى اليمن فقلنا: يا رسول الله، إن بها شرابين يصنعان من البر والشعير؛ أحدهما يقال له: المزر. والآخر يقال له: ¬

_ (أ) في جـ: والسكر من غيرها. والمثبت من مصدر التخريج. (ب) في جـ: دينار. والمثبت من مصدر التخريج، وينظر تهذيب الكمال 33/ 71.

البتع. فما نشرب؟ فقال - صلى الله عليه وسلم -: "اشربا ولا تسكرا". أخرجه الطحاوي (¬1)، ولقوله تعالى: {تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا} (¬2). والمراد بالسكر؛ إما الخمر فإن كانت الآية قبل التحريم فلا حجة، وإن كانت بعده فكذلك، ويكون المراد الجمع بين العتب والمنة، وإن كان المراد به النبيذ فهي حجة على حله؛ لأنه لا يسمى لغة خمرا، سواء كانت بعد تحريم الخمر أو قبله؛ لأن الظاهر من سياق الآية الكريمة أنها للامتنان، وإن كان فيها احتمال العتب والامتنان لتقييد الرزق بالحسن دون السكر، واحتجوا من جهه النظر بأن الله سبحانه علل تحريم الخمر بالصد عن ذكر الله تعالى ووقوع العداوة والبغضاء، وهذه العلة إنما توجه في القدر المسكر لا فيما دون ذلك، فوجب أن يكون هذا القدر هو الحرام، إلا ما انعقد عليه الإجماع من تحريم قليل الخمر وكثيرها، و [للعلة] (أ) التي نص عليها الشارع لما ابتنى عليها من القياس حكم المنصوص عليه. والجواب عن هذه الأحاديث ما عرفت في أكثرها من الضعف، حتى قال إسحاق بن راهويه: سمعت عبد الله بن إدريس الكوفي يقول: قلت لأهل الكوفة: يا أهل الكوفة، إنما حديثكم الذي تحدثونه في الرخصة في النبيذ عن العميان والعوران والعمشان، أين أنتم عن أبناء المهاجرين والأنصار؟ (¬3). فلا يعارض الأحاديث المعمول بها المتكاثرة التي ¬

_ (أ) في جـ: العلة. والمثبت ما يقتضيه السياق.

بعضها يقول بعضا كما قد عرفت، وأيضًا فإن هذه الأحاديث محتملة الدلالة على ما طلبوه، فإن كسر الشدة قد يكون لاشتداد حلاوتها أو لحموضتها، ومع الاحتمال لا يحتج به؛ وكذا حديث: "اشرلا ولا تسكرا"، وحديث: "فاشربوها فيما بدا لكم ولا تسكروا"، فإنهما معارضان بما هو أقوى، ولو سلم التساوي تساقط الاحتجاج بها، ورجع إلى إثبات حكم النبيذ بالقياس على الخمر، وأيضًا فإن لفظ الخمر قد تناولها شرعًا، وإن لم يتناولها لغة، والحقيقة الشرعية مقدمة على اللغوية، والقياس مؤيد لأحاديث التحريم، فإن الشارع حرم قليل الخمر سدا لذريعة التوصل إلى القدر المسكر، وهذا موجود في النبيذ، فإن شرب النبيذ قليله يدعو إلى شرب كثيره، فيناسبه سد الذريعة، والآية الكريمة لا حجة فيها للاحتمال، والقياس الذي ذكروه معارض بهذا القياس المذكور، فترجح ما ذهب إليه الجمهور من تحريم القليل من النبيذ كالكثير، وكذا يحرم ما أسكر وإن لم يكن مشروبا كالحشيشة وغيرها، وقد جزم [النووي] (أ) وغيره والإمام المهدي -صرح بذلك في "الأزهار"- بأنها مسكرة، وجزم آخرون بأنها مخدرة وليست بمسكرة. قال المصنف رحمه الله تعالى (¬1): وهو مكابرة؛ لأنها تحدث ما يحدث الخمر من الطرب والنشاة والمداومة عليها والانهماك فيها، وإذا سلم عدم الإسكار فهي مفترة، وقد أخرج أبو داود (¬2)، أنه نهى ¬

_ (أ) في جـ: الثوري. والمثبت من الفتح 10/ 45.

رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن كل مسكر ومفتر. قال الخطابي (¬1): المفتر: كل شراب يورث الفتور والخدر في [الأطراف] (أ). وحكى [العراقي] (ب) وابن تيمية الإجماع على تحريم الحشيشة، قال: ومن استحلها فقد كفر. قال: وإنما لم يتكلم فيها الأئمة الأربعة؛ لأنها لم تكن في زمنهم، وإنما ظهرت في آخر المائة السادسة وأول المائة السابعة، حين ظهرت دولة التتار. وذكر المازري (جـ) قولًا: إن النبات الذي فيه شدة مطربة يجب فيه الحد. وكذا ذكر ابن تيمية في كتاب "السياسة" (¬2): إن الحد واجب في الحشيشة كالخمر. قال: لكن لما كانت جمادا وليست شرابًا تنازع الفقهاء في نجاستها على ثلاثة أقوال في مذهب أحمد وغيره. وقال ابن البيطار -وإليه انتهت الرئاسة في معرفة خواص النبات والأعشاب-: إن الحشيشة وتسمى القُنَّب توجد في مصر، مسكرة جدًّا إذا تناول منها الإنسان قدر درهم أو درهمين، ومن أكثر منها أخرجته إلى حد الرعونة، وقد استعملها قوم فاختلت عقولهم، وأدى بهم الحال إلى الجنون، وربما قتلت، قال بعض العلماء: وفي أكلها مائة وعشرون مضرة دينية ودنيوية، وقبائح خصالها موجودة في الأفيون، بل وفيه زيادة مضار. وكذا قال ابن دقيق العيد في الجوزة: إنها مسكرة. ونقله عنه المتأخرون من الحنفية والشافعية والمالكية واعتمدوه، وحكى [القرافي] (د) عن ¬

_ (أ) في جـ: الأعضاء. والمثبت من مصدر التخريج. (ب) في جـ: الفرياني. والمثبت من عون المعبود 3/ 370، وسبل السلام 4/ 74. (جـ) في عون المعبود: الماوردي 3/ 373. (د) في جـ: الفريابي. والمثبت من عون المعبود 3/ 373.

بعض فقهاء عصره أنه فرق في إسكار الحشيشة بين كونها ورقا أخضر فلا إسكار فيها، بخلافها بعد التحميص فإنها تسكر، قال: والصواب أنه لا فرق؛ لأنها ملحقة بجوزة الطب والزعفران والعنبر والأفيون والبنج، وهي من المسكرات المخدرات، ذكر ذلك ابن القسطلاني في "تكريم المعيشة". وقال الزركشي: إن هذه المذكورات تؤثر في متعاطيها للمعنى الذي يدخله في حد السكران، فإنهم قالوا: السكران هو الذي اختل كلامه المنظوم، وانكشف ستره المكتوم. وقال بعضهم: هو الذي لا يعرف السماء من الأرض، ولا الطول من العرض. ثم نقل عن [القرافي] (أ) أنه خالف في ذلك. والأولى أن يقال: إن أريد بالإسكار تغطية العقل، فهذه كلها صادق عليها معنى الإسكار، وإن أريد بالإسكار تغطية العقل مع نشاة وطرب فهي خارجة عنه، فإن إسكار الخمر يتولد عنه النشاة والنشاط والطرب والعربدة والحمية، والسكران بالحشيشة وغيرها تكون فيه ضد ذلك، فيتقرر من هذا أنها تحرم لمضرتها للعقل، ودخولها في الفتن المنهي عنها, ولا يجب الحد على متعاطيها؛ لأن قياسها على الخمر قياس مع الفارق مع انتفاء بعض أوصافه. والحديث يدل على حرمة الخمر العنبي، سواء كان نيئا أو مطبوخا، وقد وردت آثار في شرب المطبوخ قبل أن يصير خمرا، وهو الباذق -بالباء الموحدة والذال المعجمة المفتوحة- كذا ضبطه ابن التين، وقال القابسي: بكسر الذال، وأنكر الفتح، وهو فارسي معرب أصله باذه، وهو الطلاء -بكسر الطاء المهملة والمد- وهو أن يطبخ العصير حتى يصير مثل طلاء ¬

_ (أ) في جـ: الفرياني. والمثبت من عون المعبود 3/ 374.

الإبل. وقال ابن قرقول: الباذق: المطبوخ من عصير العنب إذا أسكر، أو إذا طبخ بعد أن اشتد. وذكر ابن سيده في "المحكم"، أنه من أسماء الخمر. وقال الداودي: إنه يشبه الفقاع، إلا أنه ربما اشتد وأسكر، وكلام من هو أعرف منه بذلك يخالفه، ويقال للباذق أيضًا: المثلث، إشارة إلى أنه ذهب منه بالطبخ ثلثاه، وكذلك المنصف، وهو ما ذهب نصفه، ويسمى مينختج، بفتح الميم وسكون التحتانية وضم الموحدة وسكون الخاء المعجمة وفتح المثناة وآخره جيم، ومنهم من يضم المثناة أيضًا، وفي "مصنف ابن أبي شيبة" [بالباء] (أ) بدل المثناة التحتية وبحذف الميم والياء من أوله. فذكر البخاري (¬1) تعليقا عن عمر و [أبي] (5) عبيدة ومعاذ: شرب الطلاء على الثلث. أي رأوا جواز شرب الطلاء، إذا طبخ فصار على الثلث، ونقص منه الثلثان، وقد أخرج مالك في "الموطأ" (¬2)، أن عمر حين قدم الشام، شكا إليه أهل الشام وجاء الأرض وثقلها وقالوا: لا يصلحنا إلا هذا الشراب. فقال عمر: اشربوا العسل. قالوا: ما يصلحنا العسل. فقال رجل من أهل الأرض: هل لك أن نجعل لك من هذا الشراب شيئًا لا يسكر؟ فقال: نعم. فطبخوه حتى ذهب منه ثلثان، وبقي الثلث فأتوا به عمر، فأدخل فيه إصبعه، ثم رفع يده فتبعها يتمطط، فقال: هذا الطلاء مثل طلاء الإبل، فأمرهم عمر أن يشربوه، وقال عمر: اللهم إني لا أحل لهم شيئًا حرمته عليهم. ومثله أخرجه سعيد بن ¬

_ (أ) في جـ: بالدال. والمثبت كما في مصنف ابن أبي شيبة 8/ 187. (ب) في جـ: ابن. والمثبت من مصدر التخريج.

منصور من طريق أبي مجلز [عن عامر بن عبد الله] (أ)، ومن طريق ابن المسيب. وأخرج النسائي (¬1) أيضًا، أنه كتب عمر: اطبخوا شرابكم، حتى يذهب نصيب الشيطان منه، فإن للشيطان اثنين، ولكم واحد. وهذه أسانيدها صحيحة. وقد دل قوله: فإني لا أحل لهم ... إلى آخره. أنه لا يحل المسكر منه، وأخرج النسائي (¬2) من طريق ابن سيرين في قصة نوح عليه السلام، أنه لما ركب فقد الحبلة (¬3)، فقال له الملك: إن الشيطان أخذها. ثم أحضرت له ومعها الشيطان، فقال له الملك: إنه شريكك فيها، فأحسن الشركة. قال: له النصف. قال: أحسن. قال: له الثلثان ولي الثلث. قال: أحسنت، وأنت محسان، أن تأكله عنبا وتشربه عصيرا، وما طبخ على الثلث، فهو لك ولذريتك، وما جاز عن الثلث، فهو من نصيب الشيطان. وأخرج أيضًا (2) من وجه آخر عن ابن سيرين عن أنس بن مالك. ومثله لا يقال بالرأي، فيكون له حكم المرفوع، وأخرج أبو مسلم الكجي، وسعيد بن منصور، وابن أبي شيبة (¬4)، من طريق قتادة، عن أنس، أن أبا عبيدة ومعاذ بن جبل وأبا طلحة كانوا يشربون من الطلاء ما طبخ على الثلث، وذهب ثلثاه، وأخرج النسائي (¬5) حِلَّ ذلك عن أبي موسى وأبي ¬

_ (أ) ساقط من: جـ. والمثبت من الفتح 10/ 63.

الدرداء، وأخرج ابن أبي شيبة (¬1) ذلك عن علي، وأبي أمامة، وخالد بن الوليد وغيرهم، وقال البخاري (¬2) تعليقا: وشرب أبو جحيفة والبراء على النصف. وقد أخرج ابن أبي شيبة (¬3) عن البراء، أنه كان يضرب على النصف. أي إذا طبخ فصار على النصف، وأخرج (¬4) أيضًا عن أبي جحيفة. قال (¬5): ووافقهما جرير وأنس، ومن التابعين ابن الحنفية وشريح، وأطبق الجميع على أنه إن كان يسكر حرم. وقال أبو عبيد في "الأشربة": بلغني أن النصف يسكر، فإن كان ذلك فهو حرام. والذي يظهر أن ذلك يختلف باختلاف أعناب البلاد، فقد قال ابن حزم إنه شاهد من العصير ما إذا طبخ إلى الثلث ينعقد، ولا يصير مسكرا أصلًا، ومنه ما إذا طبخ إلى النصف كذلك، ومنه ما إذا طبخ إلى الربع كذلك، بل قال إنه شاهد منه ما يصير [ربا خاثرا] (أ) لا يسكر، وما لو طبخ حتى لا يبقى غير ربعه لا يخثر ولا ينفك السكر عنه، قال: فوجب أن يحمل ما ورد عن الصحابة من أمر الطلاء على ما لا يسكر بعد الطبخ. وللحنفية تفصيل وتحقيق، وهو أن أبا حنيفة قال: الخمر هو النيء من ماء العنب إذا غلا واشتد وقذف بالزبد، فحرم قليلها وكثيرها. قال أبو حنيفة: إن الغليان بداية الشدة، وكماله بقذف الزبد ¬

_ (أ) في جـ: ريا حائزا. والمثبت من الفتح 10/ 64.

وبسكونه، إذ به يتميز الصافي من الكدر. وأحكام الشرع قطعية، فتناط بالنهاية، كالحدود، وإكفار المستحل، وحرمة البيع، والنجاسة، وعند صاحبيه إذا اشتد صار خمرا, ولا يشترط القذف بالزبد؛ لأن الاسم يثبت به والمعنى المقتضي للتحريم، وهو المؤثر في الفساد وإيقاع العداوة، والطلاء؛ وهو العصير إن طبخ حتى يذهب أقل من ماء ثلثيه، والسكر، وهو النيء من ماء الرطب، ونقيع الزبيب، وهو النيء من ماء الزبيب، والكل حرام إن غلا واشتد، وحرمتها دون الخمر، والحلال منها أربعة؛ نبيذ التمر والزبيب، إن طبخ أدنى طبخ وإن اشتد، إذا شرب ما لا يسكر بلا لهو وطرب، والخليطان، وهو أن يخلط ماء التمر وماء الزبيب، ونبيذ العسل والتين، والبر والشعير والذرة طبخ أو لا، والمثلث العنبي. انتهى كلامهم على ما حققه في "الكنز". وحجة أبي حنيفة الآثار المتقدمة، وذلك لأن اسم الخمر لا يتناولها، فلا تدل الآية الكريمة على تحريمها، وقد جاء حديث (¬1): "والسكر -بضم السين- من كل شراب". بهذه الرواية كما عرفت، ففيه دلالة على أن ما عدا الخمر لا يحرم منه إلا السكر، وهذا فيما يقصد به التقوِّي، وأما ما قصد به التلهي والطرب فلا يحل اتفاقا، وذهب الجمهور ومنهم الشافعي ومالك وقول لمحمد بن الحسن الشيباني صاحب أبي حنيفة إلى أن الطلاء لا يحل وإن ذهب نصفه أو ثلثاه بالطبخ، وحجتهم الأحاديث التي مرت، فإن عمومها أن المسكر يحرم قليله وكثيره على أي صفة كان، وهذه الآثار المروية لا تعارض العمومات السابقة إلا إذا كان لها حكم الوقف، ولم يكن ¬

_ (¬1) البخاري 8/ 62 ح 5598.

للاجتهاد فيها مساغ، فالموقوف يعمل به عند الأكثر من المحققين بهذا الشرط، وقد أخرج البخاري (أ) عن ابن عباس، لما سألة أبو الجويرية عن الباذق، فقال: سبق محمَّد - صلى الله عليه وسلم - الباذق، ما أسكر فهو حرام، قال: الشراب الحلال الطب لا الحرام الخبيث. ولفظ البخاري (¬1) قال: الشراب الحلال الطيب، قال: ليس بعد الحلال الطيب إلا الحرام الخبيث. وأخرج البيهقي (¬2) عن ابن عباس، أنه أتاه قوم فسألوه عن الطلاء، فقال ابن عباس: وما طلاؤكم هذا؟ إذا سألتموني فبينوا لي الذي تسألوني عنه. فقالوا: هو العنب، يعصر ثم يطخ ثم يجعل في الدنان. قال: وما الدنان؟ قالوا: دنان مقيرة، قال: مزفتة؟ قالوا: نعم. قال: أيسكر؟ قالوا: إذا أكثر منه أسكر. قال: فكل مسكر حرام. وأخرج أيضًا (2)، أنه قال في الطلاء: إن النار لا تحل شيئًا ولا تحرمه. وأخرج أيضًا (¬3) عن عائشة في سؤال أبي مسلم الخولاني قال: يا أم المؤمنين، إنهم يشربون شرابا لهم -يعني أهل الشام- يقال له: الطلاء. فقالت: صدق الله وبلغ حبي، سمعت [حبي] (ب) رسول الله - صلى الله عليه وسلم -[يقول] (جـ): "إن أناسا من أمتي يشربون الخمر، يسمونها بغير اسمها". وأخرج (¬4) مثله عن أبي مالك الأشعري عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "ليشربن ¬

_ (أ) كذا في جـ. ولعل الصواب: البيهقي. والأثر في سنن البيهقي 8/ 294. (ب) في جـ: حبيبي. والمثبت من مصدر التخريج. (جـ) ساقطة من: جـ.

أناس من أمتي الخمر، يسمونها بغير اسمها، وتضرب على رءوسهم المعازف، يخسف الله بهم الأرض، ويجعل منهم قردة وخنازير". وأخرج (¬1) عن عمر رضي الله عنه أنه قال: إني وجدت من فلان ريح شراب، فزعم أنه يشرب الطلاء و [أنا] (أ) سائل عما يشرب، فإن كان [يسكر] (ب) جلدته، فجلده عمر الحد تاما. وأخرج (1) عن أبي عبيد (¬2) أنه قال: جاءت في الأشربة [آثار] (جـ) كثيرة مختلفة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه وكل له تفسير، [فأولها] (د) الخمر، وهي ما غلا من عصير العنب، فهذا مما لا اختلاف في تحريمه بين المسلمين، إنما الاختلاف في غيره، ومنها: السكر، وهو نقيع التمر الذي لم تمسه النار، وفيه يروى عن ابن مسعود أنه قال: السكر خمر. ومنها: البتع -بكسر الباء الموحدة، والتاء الثناة أي الساكنة، والمهملة- وهو نبيذ العسل، ومنها: الجعة -بكسر الجيم- وهي نبيذ الشعير، ومنها: المزر، وهو من الذرة. جاء تفسير هذه الأربعة عن ابن عمر، وزاد ابن المنذر في الرواية عنه قال: والخمر من العنب، والسكر من التمر، ومنها: السكركة، جاء عن أبي موسى أنها من الذرة، ومنها: الفضيخ، وهو ما افتضخ من البسر من غير أن تمسه نار، وسماه ابن عمر ¬

_ (أ) في جـ: إني. والمثبت من مصدر التخريج. (ب) في جـ: مسكرا. والمثبت من مصدر التخريج. (جـ) في جـ: آيات. والمثبت من مصدري التخريج. (د) في جـ: فإن لها. والمثبت من مصدري التخريج.

الفَضوخ، قال أبو عبيد: فإن كان مع البسر تمر، فهو الذي يسمى الخليطين. قال أبو عبيد: وبعض العرب تسمي الخمر بعينها الطلاء، قال عبيد بن الأبرص (¬1): هي الخمر [بالهزل] (أ) تكنى ... الطلاء كما الذئب يكنى أبا جعده قال: وكذلك الخمر يسمى الباذق. وهذه آثار تؤيد العمل بالعموم، ومع التعارض فالترجيح للمحرم على المبيح كما ذهب إليه المحققون. 1039 - وعن جابر رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما أسكر كثيره فقليله حرام". أخرجه أحمد والأربعة وصححه ابن حبان (¬2). الحديث حسنه الترمذي ورجاله ثقات، ورواه النسائي والبزار والدارقطني وابن حبان (¬3) من طريق عامر بن سعد بن أبي وقاص، عن أبيه بلفظ: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن قليل ما أسكر كثيره. وفي الباب عن علي أخرجه الدارقطني (¬4)، وعن عائشة أخرجه أحمد، وأبو داود، والترمذي، ¬

_ (أ) ساقطة من: جـ، وسنن البيهقي. والمثبت من الديوان. وينظر غريب الحديث 2/ 177.

وابن حبان، وأعله الدارقطني (¬1) بالوقف. وعن خوات أخرجه في "المستدرك" (¬2). وعن [سعد] (1) أخرجه النسائي (¬3). وعن ابن عمرو أخرجه ابن ماجه والنسائي أيضًا (¬4). وعن ابن عمر وزيد بن ثابت أخرجه الطبراني (¬5). وقد تقدم الكلام فيه وفي ما يؤيده (¬6). والله أعلم. 1040 - وعن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينبذ له الزبيب في السقاء، فيشربه يومه، والغد، وبعد الغد، فإذا كان مساء الثالثة شربه وسقاه، فإن فضل شيء أهراقه. أخرجه مسلم (¬7). هذه الرواية إحدى روايات مسلم، وقد جاء في لفظ مسلم في اليوم الثالث بلفظ: والغد إلى العصر. فإن بقي شيء سقاه الخادم أو أمر به فصب (¬8). وقد جاء في لفظ: ينبذ له في سقاء من ليلة الاثنين، فيشربه يوم الاثنين والثلاثاء إلى العصر. فإن فضل منه شيء سقاه الخادم، أو صبه (¬9). ¬

_ (أ) في جـ: سعيد. والمثبت من مصدر التخريج.

وفي لفظ له: إلى مساء الثالثة ثم يأمر به فيسقى أو يهراق (¬1). وفي لفظ: فلما أصبح -يعني في اليوم الثالث- أمر بما بقي منه فأهريق (¬2). وجاء في حديث عائشة: نبذ غدوة وشربه عشية، وينبذه عشيا ويشربه غدوة (¬3)، وهذا لا يخالف حديث ابن عباس، فإن الشرب في يوم لا يمنع الشرب فيما زاد وحديث ابن عباس مصرح بالزيادة، أو محمول حديث عائشة بما إذا كان في زمن الحر يخشى عليه الشدة إذا زاد على اليوم، وحديث ابن عباس في أيام البرد، أو كان ذلك في القليل، وحديث ابن عباس في الكثير. وقد احتج من جوز شرب النبيذ برواية: سقاه الخادم أو أمر به فصب. فإن سقى الخادم دليل على جواز شربه، وإنما تركه النبي - صلى الله عليه وسلم - تنزها منه على عن مقاربة ما لا يحل. وأجيب عنه بأنه لم يبلغ حد الإسكار، وإنما بدا فيه بعض تغير في طعمه من حموضة أو نحوها، فسقاه الخادم مبادرة لخشية الفساد، ويحتمل أن تكون "أو" للتنويع؛ لأنه قال: سقاه الخادم، أو أمر به فأهريق. أي إن كان بدا في طعمه بعض التغير فلم يشتد، سقاه الخادم، وإن اشتد أمر بإهراقه. وبهذا جزم النووي (¬4). وقوله: فإن فضل منه شيء. بفتح الضاد وكسرها. والله أعلم. ¬

_ (¬1) مسلم 3/ 1589 ح 81 - 2004. (¬2) مسلم 3/ 1589، 1590 ح 83 - 2004. (¬3) البيهقي 8/ 299. (¬4) شرح مسلم 13/ 174.

1041 - وعن أم سلمة رضي الله عنها عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن الله لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم". أخرجه البيهقي وصححه ابن حبان (¬1). الحديث أخرجاه من حديث أم سلمة قالت: نبذت نبيذا في كوز، فدخل النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يغلي، فقال: "مما هذا؟ ". قلت: اشتكت ابنة لي فنعت لها هذا. فقال: "إن الله لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم". وفي لفظ أحمد (¬2) وابن حبان: "إن الله لم يجعل شفاءكم في حرام". وذكره البخاري (¬3) تعليقا، عن ابن مسعود. والحديث فيه دلالة على أنه يحرم التداوي بالخمر؛ لأنها إذا لم يكن فيها شفاء فتحريم شربها بأن، لا يرفعه تجويز أن يدفع به الضرر عن النفس. وقد ذهب إلى هذا الشافعي والعترة، قالوا: إلا إذا غص بلقمة، ولم يجد ما يسوغها به إلا الخمر، فإنه يجوز ذلك. وادعى في "البحر" الإجماع على ذلك؛ قال الإِمام المهدي في "البحر" (¬4): وكذا لو خشي التلف بالعطش، أو من قادر توعده. قال: وكذا إذا خشي من علته التلف وقطع بزوالها بها، حل التداوي بها كمن غص بلقمة، ويقاس عليه غير الخمر من النجاسات. وقال أبو حنيفة: يجوز التداوي بالخمر مطلقا كالترياق المتخذ من لحوم الأفاعي، وهو نجس. هكذا ذكره في "البحر" (4)، وفي "ملتقى الأبحر" في ¬

_ (¬1) البيهقي، كتاب الضحايا، باب النهي عن التداوي بالمسكر 10/ 5، وابن حبان، كتاب الطهارة, باب النجاسة وتطهيرها 4/ 233 ح 1391. (¬2) أحمد في كتاب الأشربة ص 63 ح 159. (¬3) الفتح 10/ 78. (¬4) البحر 5/ 351.

فقه الحنفية ما لفظه: ولا يجوز الانتفاع بالخمر ولا أن يداوى بها جرح (أ)، ولا يسقي آدميا ولو صبيا للتداوي، ولا تسقى الدواب. هذا كلامه، ولم يحك خلافًا بينهم، ثم قال الإِمام المهدي ردا على أبي حنيفة: قلنا: لا نسلم للخبر، إلا حيث استحال النجس سلمنا, ففي الخمر من التغليظ ما ليس في غيرها. انتهى كلامه. وأراد بالخبر هو حديث أم سلمة، وأقول: لا نسلم حل الترياق فالقياس عليه غير صحيح، وأنه قد جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا أبالي ماذا أتيت إن أنا أكلت ترياقا، أو علقت تميمة، أو قلت شعرا" (¬1). أو كما قال، فهذا يقتضي تحريم الترياق. وكذلك التداوي بالنجس المجمع عليه؛ كالبول والغائط والدم فإنه محرم إجماعا، والمختلف في نجاسته كبول الإبل، فيه خلاف. ذهب الهادي والناصر وأبو طالب والشافعي وأبو حنيفة أنه يحرم التداوي به، وذهب الباقر والقاسم وأبو يوسف إلى أنه يجوز. قال الإِمام المهدي: والأولى أن المختلف فيه في حق من مذهبه التحريم، حكمه حكم المجمع عليه، فإذا قيس على الخمر في حق من غص بلقمة، فإذا خشي التلف، وقطع بالبرء جاز ذلك وإلا لم يجز. ثم قال: وإن لم يخش التلف، وقطع بارتفاع الضرر به ففيه تردد، الأقرب الجواز، كما يجوز ترك الواجب خشية الضرر، وإن لم يقطع لم يجز لما مر. انتهى. ومثله للإمام شرف الدين. والقياس على ترك الواجب غير صحيح؛ لأن هذا فعل محصور، وهو أغلظ ¬

_ (أ) زاد بعده في جـ: لم. والمثبت يقتضيه السياق.

من ترك الواجب. 1042 - وعن وائل الحضرمي، أن طارق بن سويد سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الخمر يصنعها للدواء، فقال: "إنها ليست بدواء، ولكنها داء". أخرجه مسلم وأبو داود وغيرهما (¬1). الحديث فيه دلالة على تحريم التداوي بالخمر كالحديث الأول؛ لأنها إذا لم تكن دواء قد سلب عنها صلاحيتها للدواء، لم يكن شيء مقتضيا لتناولها فهي باقية على أصل التحريم. والله سبحانه وتعالى أعلم. ¬

_ (¬1) مسلم، كتاب الأشربة، باب تحريم التداوي بالخمر 3/ 1573 ح 1984، وأبو داود، كتاب الطب، باب في الأدوية المكروهة 4/ 6 ح 3873.

باب التعزير وحكم الصائل

باب التعزير وحكم الصائل التعزير مصدر عزر، وهو مأخوذ من العزر، وهو الرد والمنع، ويستعمل في معنى الدفع عن الشخص كدفع أعدائه عنه، ومنعهم من إضراره، ومنه قوله تعالى: {وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ} (¬1). وهو هنا عبارة عن فعل ما (أ) يؤلم بمن وقع منه معصية لا توجب الحد، سمى بذلك لدفعه عن إتيان القبيح، ويكون بالقول وبالفعل بحسب ما يليق به، والصائل اسم فاعل من صال على قرنه إذا سطا عليه واستطال. 1043 - عن أبي بردة الأنصاري رضي الله عنه أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "لا يجلد فوق عشرة أسواط، إلا في حد من حدود الله". متفق عليه (¬2). الحديث روي: "لا يجلد". بوجهين؛ أحدهما: فتح الياء وكسر اللام. والثاني: بضم الياء وفتح اللام بصيغة النهي مجزوما، وبصيغة النفي مرفوعًا، ويؤيد الجزم رواية: "لا تجلدوا" (¬3). وقوله: "فوق عشرة أسواط". وفي رواية: "عشر جلدات" (¬4). وفي ¬

_ (أ) ساقطة من: جـ. والمثبت يقتضيه السياق. وينظر الفتح 12/ 178.

رواية: "لا عقوبة فوق عشر ضربات" (¬1). وقوله: "إلا في حد من حدود الله تعالى". المراد به ما ورد عن الشارع فيه عدد من الضرب أو عقوبة مخصوصة؛ كالقطع والرجم، ونحوه، والمتفق عليه من ذلك الزنى، والسرقة، وشرب الخمر، وحد المحارب، والقذف بالزنى، والقتل في الردة، والقصاص في النفس والأطراف على الخلاف في كونه حدا، واختلف في أشياء كثيرة يستحق مرتكبها العقوبة هل تسمى حدا أو لا؟ وهي جحد العارية، واللواط، وإتيان البهيمة، وتحميل المرأة الفحل من البهائم عليها، والسحاق، وأكل الدم والميتة ولحم الخنزير في حال الاختيار، والسحر، والقذف بشرب الخمر، وترك الصلاة تكاسلا، والفطر في رمضان، والتعريض بالزنى. وذهب بعض العلماء إلى أن الحد هنا مراد به عقوبة المعصية مطلقا، قال: وتخصيصهم الحد بالعقوبة في الأشياء المخصوصة، إنما هو أمر اصطلاحي من الفقهاء بعد أن كان عرف الشرع إطلاق الحد في عقوبة كل معصية كبرت أو صغرت. ونسب هذا ابن دقيق العيد إلى بعض المعاصرين له. والتزم هذه المقالة ابن قيم الجوزية وقال: المراد بالحدود هنا هي أوامر الله ونواهيه لقوله تعالى: {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} (¬2). وغير ذلك، وأن المراد بالنهي في الحديث إنما هو في التأديب للمصالح كتأديب الأب ابنه الصغير, ولعل المعاصر لابن دقيق العيد هو ابن تيمية، ولذلك ¬

_ (¬1) البخاري 12/ 176 ح 6850. (¬2) الآية 1 من سورة الطلاق.

انتصر تلميذه ابن القيم [لقوله] (أ)، واعترض عليه بأنه قد ظهر أن اصطلاح الشارع للحدود المذكورة قد وقع، ويدل عليه ما تقدم في قياس الخمر على القذف، فإن في لفظة عبد الرحمن: "أخف الحدود ثمانون" (¬1). فهو مصرح بأن الحد متعارف للشارع في المعينات، فاعترضه ابن دقيق العيد (¬2) بأنا إذا حملناه على ما ذكره، لم يبق لنا شيء تمتنع فيه الزيادة، إذ ما عدا المحرم لا يجوز فيه التعزير، والتأديب ليس بتعزير. قلت: ويؤيد أن الأدب ليس بتعزير، أن البخاري (¬3): بوب باب التعزير والأدب. فعطفه عليه، والأصل في العطف المغايرة. وقال المصنف رحمه الله تعالى (¬4): ويحتمل أن يفرق بين مراتب المعاصي، فما ورد فيه تقدير لا [يزاد] (ب) عليه، وهو المستثنى في الأصل، وما لم يرد فيه تقدير، فإن كان كبيرة جازت الزيادة فيه، وأطلق عليه اسم الحد كما في الآيات المشار إليها والتحق بالمستثنى، وإن كان صغيرة فهو المقصود بمنع الزيادة، وقد ذهب إلى العمل بظاهر هذا الحديث الليث وأحمد في المشهور عنه وإسحاق وبعض الشافعية، وقال مالك والشافعي و [صاحبا] (جـ) ¬

_ (أ) ساقطة من: جـ. والمثبت موافق لما في الفتح 12/ 178. (ب) في جـ: يرد. والمثبت من الفتح 12/ 178. (جـ) في جـ: صاحب. والمثبت من الفتح 12/ 178.

أبي حنيفة وزيد بن علي والمؤيد والإمام يحيى (أ): إنه تجوز الزيادة على العشرة، ولكن لا يبلغ أدنى الحدود. وفي كونه هل يعتبر حد الحر أو حد العبد؟ قولان. وذهب الهادي والقاسم والناصر وأبو طالب أنه يكون في كل دون حد جنسه؛ لأن عليا جلد من وجده مع امرأة من غير زنى مائة سوط إلا سوطين، وأفتى بذلك. وذهب الشافعي إلى أن تعزير الحر دون أدنى حده، وتعزير العبد دون أدنى حد العبد. وهو مقتضى قول الأوزاعي. وقال الباقون: هو إلى رأي الإِمام بالغًا ما بلغ. وهو اختيار أبي ثور وأبي يوسف ومحمد. وهو مذهب مالك وأصحابه، كما رواه النووي (¬1). وروي عن عمر أنه كتب إلى أبي موسى، ألا تجلد في التعزير أكثر من عشرين. وعن عثمان: ثلاثين. وعن عمر أنه بلغ بالسوط مائة في ضربه مَن نقش على خاتمه، وضرب صبيا أكثر من الحد. وكذا عن ابن مسعود، وعن مالك وعطاء وأبي ثور: [لا يعزر] (ب) إلا من تكرر بغيه، ومن وقع منه مرة واحدة معصية لا حد فيها فلا يعزر، وعن أبي حنيفة: لا يبلغ أربعين. وعن ابن أبي ليلى وأبي يوسف: لا يزاد على خمس وتسعين جلدة، وفي رواية عن مالك وأبي يوسف: لا يبلغ ثمانين. وأجاب هؤلاء عن الحديث بما تقدم في كلام ابن دقيق العيد، وأن ذلك مختص بالجلد بالسوط، وأما الضرب بالعصا مثلًا وباليد فتجوز الزيادة، لكن لا يجاوز أدنى الحدود. وهذا رأي الإصطخري من الشافعية، وكأنه لم يقف على الرواية الواردة بلفظ الضرب، أو أنه ¬

_ (أ) زاد بعده في جـ: إلى. والمثبت بقتضيه السياق. (ب) ساقطة من: جـ: والمثبت من الفتح 12/ 178.

منسوخ، دل على نسخه إجماع الصحابة، ورد بأنه قال به بعض التابعين، وهو قول الليث بن سعد أحد فقهاء الأمصار، أو أنه قد قام الإجماع بأن التعزير يخالف الحد، فإذا أخذنا بالعشر وافق الحد في أن له قدرا معلوما، والإجماع خلاف ما دل عليه الحديث، ولا يخفى ما في هذا الكلام من الركة، ونقل القرطبي أن الجمهور قالوا بما دل عليه الحديث، وعكسه النووي، وهذا المعتمد، فإنه لا يعرف القول به في أحد من الصحابة، واعتذر الداودي عن مالك فقال: لم يبلغ [مالكا] (أ) هذا الحديث، فكان يرى العقوبة بقدر الذنب، وهذا يقتضي أنه لو بلغه ما عدل عنه. فيجب على من بلغه أن يأخذ به. والله أعلم. 1044 - وعن عائشة رضي الله عنها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم إلا الحدود". رواه أحمد وأبو داود والنسائي (¬1). الحديث أخرجه أيضًا ابن عدي والعسكري والعقيلي (¬2) من حديث عمرة عن عائشة مرفوعًا، وقال العقيلي: له طرق لا يثبت منها شيء. وهو عند الشافعي وابن حبان (¬3) في "صحيحه"، إلا أن في إسناد ابن حبان والعسكري أبا بكر بن نافع (¬4)، ضعفه أبو زرعة، وفي الباب عن ابن عمر، ¬

_ (أ) ساقط من: جـ. والمثبت من الفتح 12/ 178.

رواه أبو الشيخ في كتاب الحدود بسند ضعيف، وعن ابن مسعود رفعه بلفظ: "تجاوزوا عن ذنب السخي، فإن الله يأخذ بيده عند عثراته". رواه الطبراني في "الأوسط" (¬1). وقوله: "أقيلوا". مأخوذ من إقالة البائع وهو موافقته على نقض البيع، والمراد هنا موافقته على ترك المؤاخذة له على الذنب، وذوو الهيئات هم الذين لا يعرفون بالشر، فيزل أحدهم الزلة. كذا فسره الشافعي، والهيئة سورة الشيء وشكله وحالته. يريد به ذوي الهيئات الحسنة الذين يلزمون هيئة واحدة وسمتا واحدا, ولا تختلف حالتهم بالتنقل من هيئة إلى هيئة. وعثراتهم جمع عشرة، وهي واحدة، عثرا مصدر من عشر كضرب، والمراد هنا الزلة. قال الماوردي: المراد هنا الصغائر أول معصية تقع من الإنسان. وقوله: "إلا الحدود". قد تقدم الكلام في أن الحد إذا [رفع] (أ) لم يجز تأخيره، وأما قبل المرافعة فقد تقدم التفصيل فيمن يترك ولا يرافع (¬2). 1045 - وعن علي رضي الله عنه قال: ما كنت لأقيم على أحد حدًّا فيموت فأجد في نفسي، إلا شارب الخمر، فإنه لو مات وديته. أخرجه البخاري (¬3). قوله: لأقيم. اللام هي لام الجحود، لتأكيد النفي. ¬

_ (أ) في جـ: وقع. والمثبت يقتضيه السياق.

وقوله: فيموت فأجد. بالنصب فيهما بالعطف على أقيم. ومعنى أجد من الوجد، وهو الحزن. وقوله: يموت. مسبب عن أقيم، وأجد مسبب عنهما جميعًا. وقوله: إلا شارب الخمر. يحتمل الاستثناء أن يكون متصلًا منصوبا على تقدير: ما أجد من موت أحد يقام عليه الحد شيئًا إلا موت شارب الخمر، ويحتمل أن يكون منقطعا منصوبا أو مرفوعًا على أنه جملة تامة، أي لكن شارب الخمر إذا مات. الحديث فيه دلالة على أن من مات بالتعزير -وهو ما لم ينص الشارع على مقداره- أنه يضمنه الإِمام. وقد ذهب إلى هذا الجمهور لهذا, ولقول علي لعمر -لما قال له عبد الرحمن بن عوف في حق المرأة التي أسقطت ولدها: إنك مؤدب فلا شيء عليك- إن اجتهد فقد أخطأ، وإن لم يجتهد فقد غشك (¬1). وذهبت الهدوية إلى أنه لا شيء فيمن مات بحد أو تعزير، فاستوى التعزير على الحد بجامع أن الشارع قد أذن فيهما، والجواب ما تقدم من أن التعزير إذا أعنت فيه ينكشف أن ذلك غير مأذون فيه، وأما الحد فهو مأذون فيه، ولا يقال: إن الحد مع الإعنات غير مأذون فيه لأنه مأذون في أصله، والخطأ إنما هو في صفته، وأما التعزير فيكشف أنه غير مأذون من أصله، قالوا: وقول علي في حق الشارب إنما هو للاحتياط، ولا يخفى عليك أنه مصرح بأن ذلك واجب، وقد تقدم تمامه، بأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يسنه. وقال الطبري: إن كان على مُغلَّظ كوطء أجنبية في غير الفرج فلا ¬

_ (¬1) الأم 6/ 173، والسنن الكبرى للبيهقي 6/ 123. وفيهما إبهام عبد الرحمن بن عوف.

ضمان، وإن كان على مخفف كإساءة أدب في مجلس الحكم ضمن. قال الإِمام المهدي: قلت: وهو قريب، إذ المخفف أشبه بضرب الزوجة. انتهى. وظاهر كلامه أن ضرب الزوجة إذا أعنت مضمون بلا خلاف، وقال الإِمام في "البحر": والتعزير إلى الإِمام والسيد والزوج للولاية، وليس للأب تعزير ولده الكبير إذ لا ولاية عليه، وضرب ولده الصغير ليس بتعزير إذ لا معصية له، وكذا المعلم، فإن أتلف ضمن لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا توى (¬1) على مال المسلم" (¬2). فكذا الزوج. انتهى. ثم قال: مسألة الإِمام يحيى: وليس للزوج التعزير في غير النشوز وترتيبه ترتيب الآية؛ الوعظ ثم الهجر ثم الضرب، وهذا يقتضي سقوطه بالتوبة، ويكون ضربا غير مبرح إذ المجحف مهلك، واليسير لا يجدي، وللسيد تعزير عبده فيما يتعلق بحق الله والخلق أو بنفسه؛ كالتمرد عن الخدمة وسوء الأدب إجماعا، وسقط التعزير بالتوبة، واحتج على ذلك البخاري بقضية المجامع في نهار رمضان (¬3). وقوله: وديته. بتخفيف الدال المهملة وسكون الياء، أي: غرمت ديته. وقال النووي في شرح مسلم (¬4): قال بعض العلماء: الوجه أن يقال: فديته بالفاء. وقد أجمع العلماء على أن من وجب عليه حد فجلده الإِمام أو جلاده الحد الشرعي فمات، فلا دية فيه ولا كفارة، لا على الإِمام ولا على جلاده ولا في بيت المال، وأما من مات من التعزير فمذهبنا وجوب ¬

_ (¬1) لا توى: أي لا ضياع ولا خسارة. النهاية 1/ 201. (¬2) أخرجه البيهقي 6/ 71 موقوفًا على عثمان بن عفان. (¬3) الفتح 12/ 131. (¬4) شرح مسلم 11/ 221.

الضمان للدية والكفارة، وفي محل ضمانه قولان للشافعي، أصحهما: تجب ديته على عاقلة الإِمام، والكفارة في مال الإِمام. والثاني: تجب الدية في بيت المال. وفي الكفارة على هذا وجهان لأصحابنا؛ أحدهما: في بيت المال أيضًا. والثاني: في مال الإِمام. هذا مذهبنا. وقال جماهير العلماء: لا ضمان فيه على الإِمام. ولا على عاقلته، ولا في بيت المال. والله أعلم. انتهى. وظاهر قول الهدوية أن الدية تكون في بيت المال؛ لأن خطأ الإِمام في بيت المال، والكفارة تكون في ماله، وهذا في خطأ الإِمام، وأما في التعزير فكلامهم مثل قول الجمهور، وقد تقدم النقل عن الجمهور خلاف ما نقله النووي. 1046 - وعن عبد الله بن خباب رضي الله عنه قال: سمعت أبي يقول: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "تكون فتن، فكن فيها عبد الله المقتول، ولا تكن القاتل". أخرجه ابن أبي خيثمة والدراقطني (¬1). وأخرج أحمد (¬2) نحوه عن خالد بن عرفطة. حديث خباب رواه أبو بكر بن أبي شيبة وأحمد بن منيع وأبو يعلى وأحمد بن حنبل (¬3)، ومدار أسانيدهم على راولم يسم، فإن في طريقه أيوب، عن حميد بن هلال، عن رجل من عبد القيس كان مع الخوارج ثم فارقهم، قال: دخلوا قرية فخرج عبد الله بن خباب صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ¬

_ (¬1) أخرجه أبو عمرو الداني في السنن الواردة في الفتن 1/ 231 ح 30 من طريق ابن أبي خيثمة، والدارقطني، كتاب الحدود والديات وغيره 3/ 132. (¬2) أحمد 5/ 292. (¬3) ابن أبي شيبة 15/ 310، 311، وأحمد بن منيع -كما في الإتحاف للبوصيري 10/ 182 ح 9792 - وأبو يعلى 13/ 176، 177 ح 7215، وأحمد 5/ 110.

ذعرا يجر رداءه، فقال: والله لقد رعبتموني. قالوا: ألم تر؟! قال: والله لقد رعبتموني. قالوا: أنت عبد الله بن خباب؟ قال: نعم. قال: هل سمعت من أبيك شيئًا تحدثنا به؟ قال: سمعته يحدث عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، أنه ذكر فتنة "القاعد فيها خير من القائم، والقائم فيها خير من الماشي، والماشي فيها خير من الساعي، فإن أدركك ذلك، فكن عبد الله المقتول". قال أيوب: ولا أعلمه إلا قال: "ولا تكن عبد الله القاتل". قال: أنت سمعت هذا من أبيك يحدث به عن النبي - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: نعم. فقدموه على ضفة النهر فضربوا عنقه فسأل دمه امذقر. قال في "النهاية" (¬1) ما لفظه: في حديث ابن خباب: فقتله الخوارج على شاطئ نهر، فسال دمه في الماء فما امذقر، قال الراوي: فأتبعه بصري، كأنه شراك أحمر. قال أبو عبيد: أي ما امتزج بالماء. وقال شمر: الامذقرار: أن يجتمع الدم ثم يتقطع قطعا ولا يختلط بالماء، يقول: لم يكن كذلك، ولكنه سال وامتزج. وهذا يخالف الأول، وسياق الحديث يشهد للأول، أي أنه مر فيه كالطريقة الواحدة لم يختلط به، ولذلك شبهه بالشراك الأحمر، وهو سير من سيور النعل، وذكر المبرد هذا الحديث في "الكامل"، قال: فأخذوه وقربوه إلى شاطئ النهر فذبحوه فامذقر دمه، أي جرى مستطيلا متفرقا. هكذا رواه بغير حرف النفي، ورواه بعضهم بالباء، وهو معناه. انتهى. وبقروا أم ولده عما في بطنها. وحديث خالد بن عرفطة، أخرجه أحمد والحاكم والطبراني أيضًا وابن قانع (¬2) من حديث حماد بن سلمة عن علي بن زيد بن جدعان عن خالد بن عرفطة بلفظ: ¬

_ (¬1) النهاية 4/ 311، 312. (¬2) أحمد 5/ 292، والحاكم 3/ 281، والطبراني 4/ 224، 225 ح 4096، وابن قانع -كما في التلخيص 4/ 84.

"ستكون فتنة بعدي وأحداث واختلاف، فإن استطعت أن تكون عبد الله المقتول لا القاتل فافعل". وعلي بن زيد (¬1) ضعيف، وأخرج أحمد والترمذي (¬2) من حديث سعد بن أبي وقاص قال: فإن دخل عليّ بيتي وبسط يده إليّ ليقتلني؟ قال: "كن كابن آدم". وأخرج أحمد (¬3) من حديث ابن عمر بلفظ: "ما يمنع أحدكم إذا جاء أحد يريد قتله أن يكون مثل ابني آدم، القاتل في النار، والمقتول في الجنة". وروى أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه وابن حبان (¬4) من حديث أبي موسى الأشعري، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال في الفتنة: "كسّروا فيها قسيكم وأوتاركم، واضربوا سيوفكم بالحجارة، فإن دُخل على أحدكم بيته، فليكن كخير ابني آدم". وصححه القشيري في "الاقتراح" على شرط الشيخين. قوله: "تكون فتن". مضارع كان التامة، لا تحتاج إلى خبر. الحديث فيه دلالة على ترك القتال عند ظهور الفتن، والتحذير من الدخول فيها. قال القرطبي: اختلف السلف في ذلك، فذهب سعد بن أبي وقاص وعبد الله بن عمر ومحمد بن مسلمة وغيرهم (¬5) إلى أنه يجب الكف عن المقاتلة، فمنهم من قال: يجب عليه أن يلزم بيته. وقالت طائفة: يجب عليه التحول عن بلد الفتنة أصلًا. ومنهم من قال: يترك المقاتلة حتى لو أراد أحدهم قتله ¬

_ (¬1) تقدمت ترجمته في 2/ 55. (¬2) أحمد 1/ 185، والترمذي 4/ 422 ح 2194. (¬3) أحمد 2/ 100. (¬4) أحمد 4/ 416، وأبو داود 4/ 97 ح 4259، والترمذي 4/ 425 ح 2204، وابن ماجه 2/ 1310 ح 3961، وابن حبان 13/ 297 ح 5962. (¬5) الفتح 13/ 31.

لم يدفعه عن نفسه. ومنهم من قال: يدافع عن نفسه وعن ماله وعن أهله، وهو معذور إن قتل أو قتل. وذهب جمهور العلماء والتابعين إلى وجوب نصر الحق وقتال الباغين، وحملت هذه الأحاديث الواردة على من ضعف عن القتال، أو قصر نظره عن معرفة صاحب الحق. وبعضهم قال بالتفصيل: وهو أنه إذا كان القتال بين طائفتين لا إمام لهم فالقتال حينئذ ممنوع، وتنزل الأحاديث على هذا، وهو قول الأوزاعي. وقال الطبري: إنكار المنكر واجب على من يقدر عليه، فمن أعان المحق أصاب ومن أعان المخطئ أخطأ، وإن أشكل عليه الأمر فهي الحالة التي ورد النهي عن القتال فيها. وذهب البعض إلى أن الأحاديث وردت في حق ناس مخصوصين، وأن النهي مخصوص بمن خوطب بذلك: وقيل: إن النهي إنما هو في آخر الزمان حيث يحصل التحقيق، والمقاتلة إنما هي طلب الملك، وقد أتى هذا في حديث ابن مسعود، قال: قلت: يا رسول الله، ومتى ذلك؟ قال: "أيام الهرج". قلت: ومتى؟ قال: "حين لا يأمن الرجل جليسه" (¬1). وفي قوله: "فكن عبد الله المقتول، ولا تكن القاتل". فيه دلالة على أنه لا يجب المدافعة عن النفس بل ظاهر النهي التحريم، إلا أن قوله في حديث خالد: "فإن استطعت". يدل على أنها لا تحرم المدافعة، وكذلك قوله: "كخير ابني آدم". فيحمل النهي على الكراهة دون التحريم. والله أعلم. 1047 - وعن سعيد بن زيد رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من قتل دون ماله فهو شهيد". رواه الأربعة وصححه الترمذي (¬2). ¬

_ (¬1) أحمد 1/ 448، وأبو داود 4/ 97 ح 4258. (¬2) أبو داود، كتاب الأدب، باب في قتال اللصوص 4/ 246، 247 ح 4772، والترمذي، =

وأخرجه ابن حبان والحاكم (¬1) وفيه: "من قتل دون أهله فهو شهيد، ومن قتل دون ماله فهو شهيد". وأخرج البخاري (¬2): "من قتل دون ماله فهو شهيد". من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص. الحديث فيه دلالة على جواز الدفع عن المال. وهو قول الجمهور، وشذ من أوجبه، وأنه إذا قتل كان شهيدا، وكذا إذا قتل لا ضمان عليه لعدم التعدي منه، والظاهر أن ذلك مجمع عليه إلا أن بعض المالكية قالوا: لا يجوز إذا كان المال قليلًا، قال القرطبي: سبب الخلاف عندنا هل الإذن في ذلك من باب تغيير المنكر، فلا يفترق الحال بين القليل والكثير، أو من باب دفع الضرر فيختلف الحال؟ إلا أنه لا يحسن إن كفى الدفع باللين، فإن فعل ما فيه زيادة على قدر الدفع كان متعديا ولزمه الضمان. وكذلك عن الأهل، وإذا كان يخشى انتهاك محرم في حق الأهل وجب عليه دفعا لوقوع المنكر، وكذلك في حق غير الأهل، إذا كان لا يندفع الفاعل عن فعل المنكر إلا [بالقتل] (أ) فهو من باب دفع المنكر، وقد ورد من حديث سعد بن عبادة ¬

_ (أ) في جـ: بالقليل. والمثبت يقتضيه السياق.

قوله: لو رأتيت رجلًا مع امرأتي لضربته غير مصفح (¬1). بكسر الفاء وفتحها، وقرر قوله النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله: "أتعجبون من غيرة سعد؟ ". وهو يدل على أن له أن يعاجله بالقتل وإن كان يندفع بغير القتل، وقد اختلف العلماء في ذلك؛ فقال الجمهور: عليه القود. وقال أحمد، وإسحاق (¬2)، وهو قول الهدوية: إن أقام بينة أنه وجده مع امرأته هدر دمه. وقال الشافعي: يسعه فيما بينه وبين الله تعالى قتل الرجل، إن كان ثيبا وعلم أنه نال منها ما يوجب الغسل، ولكن لا يسقط عنه القود في ظاهر الحكم. وحكى ابن المنذر عن الشافعي (¬3) قال: من أريد ماله أو نفسه أو حريمه فله الاختيار، أن يكلمه أو يستغيث، فإن امتنع لم يكن له قتاله وإلا فله أن يدافعه ولو أتى على نفسه، وليس عليه قتل ولا دية ولا كفارة، لكن ليس له عمد قتله. وقد أخرج عبد الرزاق (¬4) بسند صحيح إلى هانئ بن حزام، أن رجلًا وجد مع امرأته رجلًا فقتلهما، فكتب عمر كتاب العلانية أن يقيدوه به، وكتابا في السر أن يعطوه الدية. وقال ابن المنذر: جاءت الأخبار عن عمر في ذلك مختلفة وعامة أسانيدها منقطعة. وقد ثبت عن علي رضي الله عنه، أنه سئل عن رجل قتل رجلًا وجده مع امرأته فقال: إن لم يأت بأربعة شهداء وإلا فليعط برمته (¬5). قال الشافعي: وبهذا نأخذ عن علي، ولم نعلم لعلي مخالفا في ذلك. قال ابن المنذر: والذي عليه أهل العلم أن للرجل أن يدفع عما ذكر، إذا أريد ظلما ¬

_ (¬1) البخاري 12/ 174 ح 6846، 7416، ومسلم 2/ 1136 ح 1499. (¬2) الفتح 12/ 174. (¬3) الفتح 5/ 124. (¬4) عبد الرزاق 9/ 435 ح 17921. (¬5) الموطأ 2/ 737, والأم 6/ 30, والبيهقي 8/ 30. [قال مُعِدُّ الكتاب للشاملة: الحواشي - هنا - غير واضحة بالمطبوع]

بغير تفصيل، إلا أن كل من يحفظ عنه من علماء الحديث كالمجمعين على استثناء السلطان للآثار الواردة بالأمر بالصبر على جوره وترك القيام عليه. وفرق الأوزاعي بين الحال التي للناس فيها جماعة وإمام فحمل الحديث عليها، وأما في حال الاختلاف والفرقة فليستسلم ولا يقاتل أحدا، ويرد عليه ما وقع في حديث أبي هريرة عند مسلم (¬1) بلفظ: أرأيت إن جاء رجل يريد أخذ مالي؟ قال: "فلا تعطه". قال: أرأيت إن قاتلني؟ قال: "قاتله". قال: أرأيت إن قتلني؟ قال: "فأنت شهيد". قال: أرأيت إن قتلته؟ قال: "فهو في النار". كذا أورده المصنف (¬2). ولكنه يرد عليه بأن هذا حديث أبي هريرة مطلق غير مقيد بحال الفتنة وغيرها، وأحاديث ترك المقاتلة في الفتنة مقيدة بحال الفتنة، ومع التعارض فالعمل بالمقيد كما هو المختار عند جماعة من المحققين ومنهم الشافعي، فيندفع إيراده على هذا الوجه، وعلى قول من يقول بالتعارض مع جهل التاريح يتعارضان. والله سبحانه أعلم. ¬

_ (¬1) مسلم 1/ 124 ح 140. (¬2) الفتح 5/ 124.

كتاب الجهاد

كتاب الجهاد الجهاد بكسر الجيم مصدر جهدت جهادًا أي: بلغت المشقة، وهذا معناه لغة، وهو في الشرع: بذل (أ) الجهد في قتال الكفار، ويطلق أيضًا على مجاهدة النفس والشيطان والفساق؛ فأما مجاهدة النفس فعلى تعلم أمور الدين [ثم] (ب) على العمل بها، ثم على تعليمها. وأما مجاهدة الشيطان فعلى دفع ما يأتي به من الشبهات وما يزينه من الشهوات. وأما مجاهدة الكفار فتقع باليد والمال واللسان والقلب. وأما الفساق فباليد ثم اللسان ثم القلب. قيل: كان فرض عين على المهاجرين. وقال السهيلي (¬1): كان فرضا على الأنصار دون غيرهم. والمراد في حق الأنصار إذا طرق المدينة عدو، وفي حق المهاجرين إذا أريد قتال عدو ابتداء، وبعد النبي - صلى الله عليه وسلم - فرض كفاية على الأشهر، ويكفي عند الجمهور فعله في السنة مرة؛ إذ الجزية بدل عنه، وهي في السنة مرة، وأول شرعيته بعد الهجرة على الصحيح. 1048 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من مات ولم يغز ولم يحدث نفسه بالغزو مات على شعبة من نفاق". رواه مسلم (¬2). الحديث فيه دلالة على أنه يجب العزم على فعل الواجب، فإن كان الواجب من الواجبات المطلقة كالجهاد وجب العزم على فعله عند إمكان ¬

_ (أ) زاد بعده في جـ: على. والمثبت من الفتح 6/ 3. (ب) ساقط من: جـ: والمثبت من الفتح.

الفعل، فإن كان من الواجبات المؤقتة وجب العزم على الفعل عند دخول الوقت، وقد ذهب إلى هذا جماعة من أهل الأصول. وقد اختلف العلماء في [المتمكن] (أ) من الصلاة في أول وقتها فأخرها بنية أن يفعلها في أثنائه فمات قبل فعلها، أو أخر الحج بعد التمكن إلى سنة أخرى فمات قبل فعله، هل يأثم أو لا؟ والأصح عند الشافعية أنه يأثم في الحج دون الصلاة؛ لأن مدة الصلاة قريبة فلا ينسب إلى تفريط بالتأخير بخلاف الحج. وقيل: يأثم فيهما. وقيل: لا يأثم فيهما. وقيل: يأثم في الحج الشيخ دون الشاب. وقال عبد الله بن المبارك رحمه الله تعالى: فنُرَى أن ذلك كان على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وقوله: نُرَى. بضم النون، أي: نظن. وهذا الذي قاله محتمل. وقال غيره: إنه عام. والمراد أن من فعل ذلك فقد أشبه المنافقين المتخلفين عن الجهاد في هذا الوصف، فإن ترك الجهاد أحد شُعَب النفاق. وفي الحديث دلالة على أن من نوى فعل عبادة، فمات قبل فعلها لا يتوجه عليه من الذم ما يتوجه على من مات ولم ينوها، والله أعلم. 1049 - وعن أنس رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم". رواه أحمد والنسائي وصححه الحاكم (¬1). ¬

_ (أ) في جـ: التمكن. والمثبت يقتضيه السياق. وينظر شرح مسلم 13/ 56.

الحديث فيه دلالة على الأمر بالجهاد بما ذكر، وقد أمر بالجهاد بالنفس والمال في كتاب الله تعالى في مواضع، وهذا فرض كفاية كما عرفت، إلا أن فيما أخرج البخاري (¬1) عن أبي هريرة أنه قال، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "من آمن بالله ورسوله، وأقام الصلاة، وصام رمضان، كان حقا على الله أن يدخله الجنة؛ جاهد في سبيل الله، أو جلس في أرضه التي ولد فيها". ما يدل على أن الأمر أمر ندب، والله تعالى أعلم. 1050 - وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قلت: يا رسول الله، على النساء جهاد؟ قال: "نعم، جهاد لا قتال فيه، الحج والعمرة". رواه ابن ماجه وأصله في البخاري (¬2). لفظ البخاري: قالت عائشة رضي الله عنها: استأذنت النبي - صلى الله عليه وسلم - في الجهاد، فقال: "جهادكن الحج". وفي لفظ آخر للبخاري (¬3): فسأله نساؤه عن الجهاد، فقال: "نِعمَ الجهاد الحج". وروى النسائي (¬4) عن أبي هريرة بلفظ: "جهاد الكبير -أي العاجز- والضعيف والمرأة الحج والعمرة". والحديث فيه دلالة على أن المرأة لا يجب عليها الجهاد، وأنه يحصل لهن الثواب الذي يقوم مقام ثواب الرجال في الجهاد؛ الحج والعمرة، وذلك لأن المطلوب منهن التستر والبعد عن الرجال الأجانب، وذلك ينافي ما ¬

_ (¬1) البخاري 6/ 11 ح 2790. (¬2) ابن ماجه، كتاب المناسك، باب الحج جهاد النساء 2/ 968 ح 2901، والبخاري، كتاب الجهاد، باب جهاد النساء 6/ 75 ح 287. (¬3) البخاري 6/ 75، 76 ح 2876. (¬4) النسائي 5/ 113 ح 2625.

يحتاج إليه في الجهاد من البروز والقرب من [القرن] (أ) ورفع الصوت والاشتهار، ولذلك كان الحج أفضل لهن من الجهاد، وليس فيه منع لهن عن التطوع بالجهاد؛ ولذلك أردف البخاري (¬1) هذا بأبواب خروج النساء للغزو وقتالهن وغير ذلك. وقد أخرج مسلم (¬2) من حديث أنس أن أم سليم اتخذت خنجرا يوم حنين، فقالت للنبي - صلى الله عليه وسلم -: اتخذته، إن دنا مني أحد من المشركين بقرت بطنه. فهو يدل على جواز القتال، وإن كان فيه مأخذ بأنها لا تقاتل إلا مدافعة، وليس ذلك من باب الجهاد المشروع للرجال من قصد العدو إلى مصفه، وفي البخاري إيماء إلى أن جهادهن بسقي المقاتلين ومداواة الجرحى ومناولة السهام، ولم يصرح بمقاتلتهن في الأبواب، والله سبحانه أعلم. 1051 - وعن [عبد الله بن عمرو] (جـ) رضي الله عنه، قال: جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - يستأذنه في الجهاد، فقال: "أحي والداك؟ " قال: نعم. قال: "ففيهما فجاهد". متفق عليه (¬3). ولأحمد وأبي داود (¬4) من حديث أبي سعيد نحوه، وزاد: "ارجع ¬

_ (أ) في جـ: لما. والمثبت يقتضيه السياق. (ب) في جـ: القرب. وينظر سبل السلام 4/ 88. (جـ) في جـ: عبيد الله بن عمر. والمثبت من مصدري التخريج.

فاستأذنهما، فإن أذنا لك، وإلا فبرهما". قوله: جاء رجل. قال المصنف (¬1) رحمه الله تعالى: يحتمل أن يكون هذا الرجل هو جاهمة بن العباس بن مرداس فقد روى النسائي وأحمد (¬2) من طريق معاوية بن جاهمة أن أباه جاهمة جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله، أردت الغزو، وجئت لأستشيرك. فقال: "هل لك من أم؟ ". قال: نعم. قال: "الزمها". الحديث. وقوله: "ففيهما فجاهد". استعمل لفظ الجهاد هنا مشاكلة لما استأذن فيه، والمراد بالمعنى المستعمل فيه هو إتعاب النفس في القيام بمصالحهما وإرغامها في طلب ما يرضيهما، وبذل المال في قضاء حوائجهما بجامع وهو يحمل الكلفة والمشقة فيكون لفظ: "فجاهد" استعارة تبعية، وحسَّن موقعَه المشاكلةُ، ويحتمل أن تكون العلاقة الضدية؛ لأن الجهاد فيه إنزال الضرر بالمجاهد، فاستعمل في إنزال النفع بالوالدين؛ للمشاكلة المذكورة. والحديث فيه دلالة على أن فرض الجهاد ساقط مع عدم رضا الوالدين، وقد ذكر هذا في "مهذب الشافعي" (أ) (¬3)، وكذا ذكره النووي في "المنهاج" (¬4) وذهب إليه الإِمام يحيى والأمير الحسين صاحب "الشفا"، ¬

_ (أ) كذا في جـ.

وظاهر الحديث: وإن لم يتضررا بفقده. وظاهره سواء كان الجهاد فرض عين في حقه أو فرض كفاية، ونسبه المصنف (¬1) رحمه الله تعالى إلى جمهور العلماء، وقال: إنه يحرم الجهاد إذا منع الأبوان أو أحدهما بشرط أن يكونا مسلمين؛ لأن برهما فرض عين، والجهاد فرض كفاية، فإذا تعين الجهاد فلا إذن. وذهب بعض الهدوية أنه لا يسقط عنه إلا إذا تضرر الوالدان، وكان كفاية، لا إذا تعين عليه فهو فرض عين، وبر الوالدين كذلك فيتعارضان، ولعلهم يتفقون على تقديم الجهاد؛ لأن مصلحته لحفظ الدين، وهو مقدم على حفظ مصلحة البدن، ولعله يكون هذا من باب التخصيص بالمعنى المعتبر المناسب. وقد أخرج ابن حبان (¬2) من طريق أخرى عن عبد الله بن [عمرو] (أ): جاء رجل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسأله عن أفضل الأعمال، قال: "الصلاة"، ثم قال: مه؟ قال: "الجهاد". فقال: إن لي والدين. فقال: "آمرك بوالديك خيرًا". فقال: والذي بعثك نبيًّا لأجاهدن ولأتركنهما. قال: "فأنت أعلم". وهذا متمسك لما ذهب إليه بعض الهدوية، ويحتمل أن يكون هذا في الجهاد المتعين على المذكور جمعًا بين الدليلين، ولا فرق لين أن يكون الولد حرًّا أو رقيقا؛ لوجوب البر في حق الجميع، ولو أذن السيد للعبد لم يكف، ويقاس على الجهاد خروج الولد لتعلم العلم أو نحوه من الواجبات، ويفترق الحال بين كونه فرض عين أو فرض كفاية على الخلاف الذي مر. ¬

_ (أ) في جـ: عمر. والمثبت من مصدر التخريج.

والحديث فيه دلالة أيضًا على فضل بر الوالدين، وتعظيم حقهما، وكثرة الثواب على برهما، وأن برهما قد يكون أفضل من الجهاد، والمستشار يشير بالنصيحة المحضة، وأنه ينبغي للمكلف أن يستفصل عن الأفضل في أعمال الطاعة ليعمل به؛ لأنه لما سمع فضل الجهاد فبادر إليه، ثم لم يقنع حتى يستأذن فيه، فدُل على ما هو أفضل منه في حقه، [ولولا] (أ) السؤال ما حصل له العلم بذلك. وحديث أبي سعيد صححه ابن حبان (¬1). 1052 - وعن جرير البجلي رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أنا بريء من كل مسلم يقيم بين المشركين". رواه الثلاثة، وإسناده صحيح (¬2)، ورجح البخاري إرساله (¬3). الحديث رجح أيضًا أبو حاتم وأبو داود والترمذي والدارقطني إرساله إلى قيس بن أبي حازم (¬4)، ورواه الطبراني موصولًا (¬5). ¬

_ (أ) في جـ: لولا. والمثبت من الفتح 6/ 140.

الحديث فيه دلالة على وجوب الهجرة من دار المشركين. 1053 - وعن ابن عباس رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونية". متفق عليه (¬1). قوله: "لا هجرة". أي من مكة، "بعد الفتح". أي فتح مكة. والحديث يدل بمفهومه على أن الهجرة قبل الفتح كانت ثابتة مشروعة، وأنه لم يبق لها ذلك الحكم لمن هاجر بعد الفتح، والهجرة من مكة إلى المدينة في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - أجمعت الأمة على وجوبها، حتى قال البغوي والواحدي: إنها شرط في الإِسلام. وذلك لقلة المسلمين بالمدينة واحتياجهم إلى الاجتماع، فلما فتح الله سبحانه مكة دخل الناس في دين الله أفواجا، فسقط فرض الهجرة إلى المدينة، وبقى فرض الجهاد والنية. واختلف العلماء في الهجرة من غير مكة؛ فقال أبو عبيد (¬2): لا تجب الهجرة؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يأمر من أسلم من العرب بالمهاجرة إليه ولم ينكر عليهم مقامهم ببلدهم، ولأنه - صلى الله عليه وسلم - كان إذا بعث سرية قال لأميرهم: "إذا لقيت عدوك من المشركين، فادعهم إلى ثلاث خصال -أو: ثلاث خلال- فأيتهن أجابوك فأقبل منهم وكف عنهم، ثم ادعهم إلى التحول عن دارهم إلى دار المهاجرين، وأعلمهم أنهم إن فعلوا ذلك، أن لهم ما للمهاجرين، وأن عليهم ما على المهاجرين، فإن أبوا واختاروا دارهم، فأعلمهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين، يجرى عليهم حكم الله الذي ¬

_ (¬1) البخاري، كتاب الجهاد، باب وجوب النفير وما يجب من الجهاد والنية 6/ 37 ح 2825، ومسلم، كتاب الإجارة، باب المبايعة بعد فتح مكة 3/ 1487 ح 1353. (¬2) الأموال ص 279.

يجري على المؤمنين، ولا يكون لهم من الفيء والغنيمة نصيب إلا أن يجاهدوا مع المسلمين". وسيأتي الحديث (¬1). وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا} (¬2). الآية، فلم يسلب عنهم الإيمان بعدم المهاجرة. وذهب الجمهور إلى وجوبها لحديث جرير المذكور آنفا، وأخرج النسائي (¬3) من طريق بهز بن حكيم عن أبيه عن جده مرفوعًا: "لا يقبل الله من مشرك عملًا بعد ما أسلم، أو يفارق المشركين". وعموم قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} (¬4). وقد أرسل بها النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى مكة. وأجاب من لم يوجب الهجرة بأن حديث: "لا هجرة بعد الفتح". عام ناسخ لما سبقه وإن كان فيه احتمال أنه لا هجرة من مكة، وبأن هذه الأحاديث في حق من لم يأمن على دينه، وأما من أمن على دينه وأمكنه استكمال الواجبات، فهو خارج من ذلك، ويكون هذا جمعا بين الأحاديث التي ظاهرها التعارض، ويكون الحكم بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - هكذا؛ وهو أن من لم يمكنه استكمال ما يجب عليه من دينه تجب عليه المهاجرة إلى دار يمكنه الاستكمال فيها، ومن أمكنه الاستكمال لا تجب عليه الهجرة، وقد ذهب إلى هذا أيضًا الهادي والقاسم والإمام يحيى. وقال الجمهور: إن الهجرة من دار الفسق التي تظهر فيها المعاصي ¬

_ (¬1) سيأتي ح 1057. (¬2) الآية 72 من سورة الأنفال. (¬3) النسائي 5/ 83. (¬4) الآية 97 من سورة النساء.

تستحب ولا تجب، إلا أن يغلب على رزقها الحرام، وجب الخروج لطلب الحلال؛ فإن طلب الحلال فريضة. واختار الإِمام المهدي واستقر به لمذهب الهدوية (¬1) أنها تجب الهجرة عن دار الكفر وعن دار الفسق إلى خلي عما هاجر لأجله، أو ما فيه دونه، بنفسه وأهله إلا لمصلحة أو عذر. واحتج بما تقدم من الحديث، وقد حكي وجوب الهجرة عن دار الفسق للقاسم وأسباطه، وذكره المؤيد بالله، قال: وهو الظاهر من مذهب أهل البيت. وقال أكثر المعتزلة وأكثر الفقهاء وحكاه في "الكافي" عن السادة أنها لا تجب الهجرة عن دار الفسق. ودليل من أوجب من دار الفسق القياس على دار الكفر بجامع ظهور المعاصي فيهما, ولقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يحل لعين ترى الله يعصى فتطرف حتى تغير أو تنتقل". أخرجه (أ). ويجاب بمعارضة الأحاديث التي مرت، والله أعلم. وقوله: "ولكن جهاد ونية". قال الطيبي وغيره (¬2): هذا الاستدراك يقتضي مخالفة حكم ما بعده لما قبله، والمعنى: أن الهجرة التي هي مفارقة الوطن التي كانت مطلوبة [على] (ب) الأعيان إلى المدينة أنقطعت، إلا أن المفارقة بسبب الجهاد باقية، وكذلك المفارقة بسبب نية صالحة كالفرار من دار الكفر، والخروج في طلب العلم، والفرار بالدين من الفتن، والنية في ¬

_ (أ) بعده بياض في جـ بمقدار كلمتين. والحديث لم نجده فيما بين أيدينا من مراجع. (ب) في جـ: من. والمثبت من الفتح 6/ 39.

جميع ذلك. وقال النووي (¬1): المعنى: أن الخير الذي انقطع بانقطاع الهجرة يمكن تحصيله بالجهاد والنية الصالحة. و"جهاد" معطوف بالرفع على محل اسم لا. وقال ابن العربي (¬2): الهجرة هي الخروج من دار الحرب إلى دار الإِسلام، وكانت فرضًا في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واستمرت بعده لمن خاف على نفسه، والتي انقطعت بالأصالة هي القصد إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - حيث كان. فائدة: قال ابن أبي جمرة (2): إن الحديث يمكن تنزيله على مراتب أحوال المسالك، فإنه أولًا يؤمر بأن يهجر مألوفاته حتى يحصل له الفتح، فإذا حصل أمر بالجهاد، وهو مجاهدة النفس والشيطان مع النية الصالحة في ذلك. 1054 - وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله". متفق عليه (¬3). الحديث أخرجه البخاري (¬4) في باب من قاتل للمغنم هل ينقص من أجره ¬

_ (¬1) شرح مسلم 13/ 8. (¬2) فتح الباري 6/ 39. (¬3) البخاري، كتاب الجهاد، باب من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا 6/ 27، 28 ح 2810، ومسلم، كتاب الإمارة، باب من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا 3/ 1512 ح 1904. (¬4) البخاري 6/ 226 ح 3126.

من حديث أبي موسى: قال أعرابي للنبي - صلى الله عليه وسلم -: الرجل يقاتل للمغنم، والرجل يقاتل ليذكر، ويقاتل ليرى مكانه، من في سبيل الله؟ فقال: "من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله". وأخرجه أيضًا في باب: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا. وهذا الأعرابي السائل، يمكن أن يفسر بلاحق بن [ضميرة] (أ) الباهلي، فإنه ذكر حديثه أبو موسى [المديني] في "الصحابة" من طريق عفير بن معدان: سمعت لاحق بن [ضميرة] (أ) الباهلي، قال: وفدت على النبي كيم فسألته عن الرجل يلتمس الأجر والذكر؟ فقال: "لا شيء له". الحديث، وفي إسناده ضعف، وقد أخرجه الطبراني (¬1) من وجه آخر عن أبي موسى، أنه قال: يا رسول الله. فذكره. ويبعد أن أبا موسى أبهم نفسه وعبر عنها بلفظ: أعرابي. فلعل ما وقع في "الطبراني" وهم. والحديث فيه دلالة على أن حصول الأجر لا يكون إلا لمن قاتل لهذه الفضيلة، يدل عليه الجواب بالشرط والجزاء، ومفهوم الشرط أن من خلا عن هذه الخصلة فليس في سبيل الله كما هو المعتبر من مفهوم المخالفة، ولكن يبقى الكلام إذا ضم إليها قصد غيرها، وهو المغنم مثلًا، هل هو في سبيل الله أو لا؟ والحديث يحتمل أنه لا يخرج عن كونه في سببل الله مع التشريك، لأنه قد قاتل لتكون كلمة الله هي العليا، ويتأيد بقوله تعالى: {لَيْسَ ¬

_ (أ) في جـ: ضمرة. والمثبت من الفتح 6/ 28، وينظر الإصابة 5/ 671. (جـ) في جـ: المدائني. والمثبت من الفتح 6/ 28. وينظر سير أعلام النبلاء 21/ 152.

عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ} (¬1). فإن ذلك لا ينافي فضيلة الحج فكذلك غيره، وكذلك ما أخرجه أبو داود (¬2) بإسناد حسن عن عبد الله بن حوالة قال: بعثنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أقدامنا لنغنم، فرجعنا ولم نغنم شيئًا، فقال: "اللهم لا تكلهم إلى ... " الحديث. وقال [الطبري] (أ): إنه إذا كان أصل المقصد إعلاء كلمة الله تعالى لم يضر ما حصل من غيره ضمنا. وبذلك قال الجمهور، فالحاصل أنه ينظر إلى أصل الباعث، فإن كان الباعث هو إعلاء لكلمة الله كان في سبيل الله وإن انضم إليه غيره، وإن كان الباعث غيره لم يكن في سبيل الله وإن حصل، وبقي الكلام إذا استوى قصدهما، وظاهر الحديث والآية أن ذلك لا يضر، ولكن يعارضه ما رواه أبو داود والنسائي (¬3) من حديث أبي أمامة بإسناد جيد قال: جاء رجل فقال: يا رسول الله، أرأيت رجلًا غزا يلتمس الأجر والذكر، ما له؟ قال: "لا شيء له". فأعادها ثلاثا، كل ذلك يقول: "لا شيء له". ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله تعالى لا يقبل من العمل إلا ما كان له خالصًا، وابتغى به وجهه". وقال ابن أبي جمرة (¬4): ذهب المحققون إلى أنه إذا كان الباعث الأول قصد إعلاء كلمة الله لم يضره ما انضاف إليه. انتهى. ¬

_ (أ) في جـ: الطبراني. والمثبت من الفتح 6/ 28.

وجوابه - صلى الله عليه وسلم - على السائل بقوله: "من قاتل ... " إلخ، باللفظ الجامع دون تعيين حد المسئول عنه؛ إحالة للسامع على الاجتهاد وإعمال الروية في تعيين ما هو في سبيل الله، فيكون ادعي في تحري إخلاص المقصد وتحرير النية الصالحة مع ما قد تقرر في الأذهان أن الأعمال بالنيات. وفي ترديد النظر في الأقسام المحتملة زيادة عمل؛ [لرجاء] (؟) إدراك الفضيلة، وقال المصنف (¬1) رحمه الله تعالى: إنما أجاب بذلك لأنه لو أجابه بأن جميع ما سأله عنه ليس في سبيل الله، احتمل أن يكون ما عدا ذلك في سبيل الله، وليس كذلك، فعدل إلى لفظ جامع، عدل به عن الجواب عن ماهية القتال إلى حال المقاتل، فتضمن الجواب وزيادة. ويحتمل أن يكون الضمير في قوله: "فهو". راجعًا إلى القتال الذي في ضمن "قاتل"، أي: قتاله قتال في سبيل الله. وقال ابن بطال (¬2): إنما عدل النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى لفظ جامع فأفاد دفع الالتباس، وزيادة الإفهام. انتهى. وقد اشتمل طلب إعلاء كلمة الله على طلب رضاه، وطلب ثوابه، وطلب دحض أعدائه، فكلها متلازمة، ويتلخص مما ذكر في الحديث أن القتال منشؤه القوة العقلية، والقوة الغضبية، والقوة الشهوانية، ولا يكون في سبيل الله إلا الأول، فإنه قد ذكر في الرواية الأولى القتال للذكر، وهو السمعة، والقتال للرياء، ومرجعهما إلى القوة الشهوانية، وقد جاء في رواية منصور (¬3) ¬

_ (أ) في جـ: الرَّجاء. والمثبت يقتضيه السياق.

والأعمش (¬1) زيادة: ويقاتل حمية. أي لمن يقاتل لأجله من أهل أو عشيرة أو صاحب، وفي رواية منصور أيضًا زيادة: ويقاتل غضبًا. أي لأجل حظ نفسه، ومرجعهما إلى القوة الغضبية. والله أعلم. 1055 - وعن عبد الله بن السعدي رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تنقطع الهجرة ما قوتل العدو". رواه النسائي وصححه ابن حبان (¬2). هو أبو محمَّد عبد الله بن السعدي، والسعدي مختلف في اسمه، فقيل: هو قدامة -بضم القاف وتخفيف الدال المهملة- وقيل: عمرو. وقيل: [عبد الله] (أ) بن وقدان -بفتح الواو وسكون القاف وبالدال المهملة والنون- المالكي. وإنما قيل له: السعدي. لأنه كان مسترضعا في بني سعد بن بكر، وإنما قيل له: المالكي؛ لأنه نسب إلى جده مالك بن حسل -بكسر الحاء المهملة وسكون السين وباللام- له صحبة ورواية, وروى عن عمر بن الخطاب، وروى عنه حويطب بن عبد العزي، وأبو إدريس الخولاني، وعبد الله بن محيريز، وقد اختلف عليه في ذكر حديثه، فأخرجه الحميدي في "الجمع بين الصحيحين": عبد الله بن السعدي، وفي رواية أخرى: عن ابن السعدي المالكي. وأخرجه أبو داود (¬3): عن ابن الساعدي. ¬

_ (أ) في جـ: عبيد. والمثبت من الفتح 13/ 151. وينظر الإصابة 4/ 113، وتهذيب الكمال 15/ 25.

وأخرجه النسائي (¬1) في موضع: عن ابن الساعدي المالكي، وفي موضع آخر (¬2) مثل الحميدي، سكن عبد الله الأردن ومات بالشام سنة سبع وخمسين. والحديث أخرجه أيضًا البغوي وابن السكن، وأخرج أبو داود (¬3) عن معاوية مرفوعًا: "لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة، ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها". وفي الحديث دلالة على أن حكم الهجرة بأن إلى يوم القيامة، فإن قتال العدو مستمر، ولكنه لا يدل على وجوبها، والظاهر أن فضيلة الهجرة وثوابها مجمع عليه، وأما الوجوب ففيه ما تقدم من الخلاف. 1056 - وعن نافع قال: أغار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - علي بني المصطلق وهم غارُّون، فقتل مقاتلتهم، وسبى ذراريهم، حدثني بذلك عبد الله بن عمر رضي الله عنه. متفق عليه (¬4). هو أبو عبد الله نافع بن سرجس -بفتح السين المهملة الأولى وسكون الراء وكسر [الجيم] (أ) - مولى عبد الله بن عمر، كان ديلميا، من كبار التابعين المدنيين، سمع ابن عمر وأبا سعيد الخدري، وروى عنه الزهريّ، ¬

_ (أ) ساقط من: جـ. والمثبت من سبل السلام 4/ 94.

وأيوب السختياني، وعبيد الله بن عمر بن حفص، وعاصم بن عمر بن الخطاب، ومالك بن أنس، وهو من المشهورين بالحديث ومن الثقات الذين يؤخذ عنهم ويجمع حديثهم ويعمل به، ومعظم حديث ابن عمر عليه، قال مالك: كنت إذا سمعت حديث نافع عن ابن عمر لا أبالي ألا أسمعه من أحد. مات سنة سبع عشرة [ومائة] (أ)، وقيل: سنة عشرين. قوله: علي بن المصطلق. المصطلق -بضم الميم وسكون المهملة وفتح الطاء وكسر اللام بعدها قاف- وهم بطن شهير من خزاعة، وهو المصطلق بن سعد بن عمرو بن ربيعة، يقال: إن المصطلق [لقب] (5)، واسمه جَذِيمة بفتح الجيم بعدها ذال معجمة مكسورة. وقوله: وهم غارون -بالغين المعجمة وتشديد الراء- جمع غار بالتشديد، أي: غافلون، أي: أخذهم على غرة. والحديث فيه دلالة على جواز المقاتلة قبل الدعاء إلى الإِسلام في حق الكفار الذين بلغتهم الدعوة من غير إنذار. وفي المسألة ثلاثة مذاهب حكاها المازري والقاضي أبو بكر بن العربي (¬1)؛ أحدها: أنه يجب الإنذار مطلقًا. قاله مالك وغيره، والحديث هذا يرد عليه. والثاني: لا يجب مطلقا. وورد عليه حديث بريدة الآتي بعد هذا، أخرجه مسلم، وفيه: "وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث ¬

_ (أ) ساقط من: جـ. والمثبت من سبل السلام 4/ 94. (ب) في جـ: لقبه. والمثبت من الفتح 5/ 171.

خصال أو خلال، فأيتهن أجابوك فأقبل منهم وكف عنهم، ثم ادعهم إلى الإِسلام فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم". فإن قوله: "ثم ادعهم إلى الإِسلام". يدل على وجوب الدعاء. والثالث: يجب إن لم تبلغهم الدعوة، ولا يجب إن بلغتهم، لكن يستحب، وهذا هو الصحيح، وبه يحصل التوفيق بين الأدلة، وبه قال نافع مولى ابن عمر، والحسن البصري، والثوري، والليث، والشافعي، وأبو ثور، وابن المنذر، والجمهور، قال ابن المنذر: وهو قول أكثر أهل العلم. وقد تظاهرت الأحاديث الصحيحة على معناه، فمنها هذا الحديث، وحديث قتل كعب بن الأشرف (¬1)، وقتل ابن أبي الحقيق (¬2) وغير ذلك. وادعى الإِمام المهدي في "البحر" الإجماع على وجوب دعوة من لم تبلغه دعوة الإِسلام. وقوله: سبى ذراريهم. دلالة على جواز استرقاق العرب؛ لأن بني المصطلق عرب من خزاعة، وقد ذهب إليه جمهور العلماء وقول الشافعي في الجديد، وقال به مالك وجمهور أصحابه وأبو حنيفة والأوزاعي، وذهب جماعة من العلماء، منهم سعيد بن المسيب والزهري والشعبي، ورواية عن عمر لحديث معاذ مرفوعًا يوم حنين: "لو كان الاسترقاق جائزا على العرب لكان اليوم، إنما هو أسر أو فداء". وضعفه البيهقي بالواقدي (¬3)، ورواه ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري 5/ 142 ح 2510، ومسلم 3/ 1425، 1426 ح 1801. (¬2) أخرجه البخاري 7/ 340، 341 ح 4038 - 4040. (¬3) البيهقي 9/ 73، 74.

الطبراني (¬1) من طريق أخرى، وفيها يزيد بن عياض وهو أشد ضعفا من الواقدي - إلى أنهم لا يسترقون، وهو قول الشافعي في القديم. وذهب الهدوية إلى جواز استرقاق العربي الكتابي، ولا يسترق غير الكتابي، وأما ذراري العرب فيسترقون مطلقا. واختلفوا هل يثبت بعد البلوغ استرقاقهم ولو كانوا غير كتابيين، أو ذلك لا يثبت إلا في الكتابيين؟ والله سبحانه أعلم. 1057 - وعن سليمان بن بريدة عن أبيه، قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أمر أميرا على جيش أو سرية أوصاه بتقوى الله وبمن معه من المسلمين خيرا، ثم قال: "اغزوا باسم الله في سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله، اغزوا ولا تغلوا, ولا تغدروا, ولا تمثلوا, ولا تقتلوا وليدا، وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال، فأيتهن أجابوك إليها فأقبل منهم وكف عنهم؛ ادعهم إلى الإِسلام، فإن أجابوك فأقبل منهم، ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين، فإن أبوا فأخبرهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين، ولا يكون لهم في الغنيمة والفيء شيء إلا أن يجاهدوا مع المسلمين، فإن هم أبوا فسلهم الجزية، فإن هم أجابوك فاقبل منهم، فإن هم أبوا فاستعن بالله وقاتلهم، وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تجعل لهم ذمة الله وذمة نبيه فلا تفعل، ولكن اجعل لهم ذمتك؛ فإنكم أن تخفروا ذمتكم أهون من [أن] (أ) تخفروا ذمة الله، وإن ¬

_ (أ) ساقط من: جـ: والمثبت من مصدر التخريج.

أرادوك أن تنزلهم على حكم الله فلا تفعل، بل على حكمك، فإنك لا تدري أتصيب فيهم حكم الله أم لا". أخرجه مسلم (¬1). قوله: على جيش. الجيش الجند، أو السائرون إلى الحرب، أو غيره، والسرية قطعة من الجيش تخرج منه تغير وترجع إليه. قال إبراهيم الحربي (¬2): هي الخيل تبلغ أربعمائة ونحوها، قالوا: سميت سرية لأنها تسري في الليل ويخفى ذهابها، وهي فعيلة بمعنى فاعلة، يقال: سري وأسرى، إذا ذهب ليلًا. والغلول بضم الغين المعجمة: الخيانة مطلقًا، أو خاص بالمغنم، يقال: أغل وغل غلولًا، والغدر مصدر غدر، وهو ضد الوفاء، ومضارعه يغدر بالضم والكسر، والوليد الصبي. وفي هذه الكلمات من الحديث فوائد مجمع عليها وهي تحريم الغدر، وتحريم الغلول، وتحريم قتل الصبيان، وتحريم المثلة، وفيه استحباب وصية الإِمام أمراءه وجيوشه بتقوى الله، والرفق بمن معه من المسلمين، وتعريفهم ما يحتاجون في غزوهم، وما يجب عليهم، وما يحل لهم، وما يكره، وما يستحب. وقوله: "ادعهم إلى الإِسلام". هو بيان لقوله "ثلاث خصال". وقد وقع في نسخ "مسلم" جميعها "ثم ادعهم" بزيادة "ثم" قال القاضي عياض (¬3): الصواب إسقاط "ثم". وقد جاء إسقاطها في كتاب أبي عبيد وفي ¬

_ (¬1) مسلم، كتاب الجهاد والسير، باب تأمير الأمراء على البعوث ووصيته إيَّاهم بآداب الغزو وغيرها 3/ 1357 ح 1731. (¬2) شرح مسلم 12/ 37. (¬3) شرح مسلم 12/ 38.

"سنن أبي داود" وغيرهما (¬1)، لأنه تفسير للخصال الثلاث، وقال المازري (¬2): ليست ["ثم" هنا زائدة، بل] (أ) دخلت لاستفتاح الكلام. وفيه دلالة على وجوب الدعاء إلى الإسلام. وقد تقدم الكلام عليه في الحديث الذي قبله. وقوله: "ثم ادعهم إلى التحول ... " إلى آخره. فيه دلالة على أنه يندب الهجرة من البادية التي لا يكون فيها من يعلم شرائع الدين، ولا يجب ذلك، وفيه دلالة على أن الفيء والغنيمة لا يستحقها إلا المهاجرون، وأن الأعراب لا حق لهم فيها، وأن حقهم في سهم الفقراء والمساكين من الزكاة، وقد ذهب إلى هذا الشافعي وقال: لا يعطى أهل الفيء من الزكاة، ولا أهل الزكاة من الفيء. وقال مالك وأبو حنيفة وهو مذهب الهدوية: إن المالين على سواء، ويجوز صرف كل واحد منهما في مصرف الآخر. وقال أبو عبيد (¬3): هذا الحديث منسوخ، قال: وإنما كان هذا الحكم في أول الإسلام لمن لم يهاجر، ثم نسخ ذلك بقوله تعالى: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} (¬4). وهذا الذي ادعاه من النسخ لا يسلم له. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "فسلهم الجزية ... " إلى آخره. والحديث فيه دلالة على أن الجزية تقبل من كل كافر سواء كان عربيًّا أو عجميًّا، كتابيًّا أو غير كتابي؛ لعموم قوله: "عدوك". وقد ذهب إلى هذا مالك والأوزاعي وغيرهما، ¬

_ (أ) في جـ: إن لم. والمثبت من مصدر التخريج.

وذهب الشافعي إلى أنها لا تقبل إلا من أهل الكتاب والمجوس عربا كانوا أو عجمًا، وذلك لقوله تعالى: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} (¬1). بعد ذكر أهل الكتاب، ولقوله - صلى الله عليه وسلم -: "سنوا بهم سنة أهل الكتاب" (¬2). وما عداهم فداخلون في عموم قوله تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ} (¬3). وقوله: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} (¬4). والحديث وارد قبل الفتح بدليل الأمر بالتحول والهجرة، والعموم في الآيات بعد الهجرة، فيكون الحديث عمومه منسوخًا، أو يتأول أن: "عدوك". يراد به من كان من أهل الكتاب، وهم يسمون مشركين، وذهب العترة وأبو حنيفة إلى أن الجزية لا تقبل من العربي غير الكتابي؛ لعموم قوله: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ}. وتقبل من الكتابي ومن العجمي وإن كان غير كتابي، قال في "البحر": لأنه أمر تعالى بالقتل ولم يذكر الجزية. ولا يخفى ضعف الاحتجاج. وقوله: "ذمة الله و (أ) ذمة نبيه". الذمة هي عقد الصلح والمهادنة، وهذا نهي تنزيه لا تحريم، والظاهر أن ذلك إجماع، وإنما وقع النهي لأنه ينقض الذمة من لا يعرف حقها، وينتهك حرمتها بعض من لا يعرف التحريم وسواد الجيش، وإلا فنقض الذمة محرمة على كل حال، سواء كانت ¬

_ (أ) زاد بعده في جـ: لا.

معقودة على ذمة الله أو على ذمة المسلمين. وقوله: "أن تخفروا". بضم التاء، من أخفر، تقول: أخفرت الرجل. إذا نقضت عهده، وخفرته بمعنى أمنته وحميته، فالهمزة للسلب، كقولك: أعجمت الكتاب. أي: أزلت عجمته، وخفرته أي: أمنته. وقوله: "فلا تنزلهم على حكم الله ... " إلى آخره. هذا النهي أيضًا محمول على التنزيه والاحتياط، وفيه حجة لمن يقول: الحق مع واحد، وليس كل مجتهد مصيبا؛ لأنه لو كان الحق ما أدى إليه الاجتهاد لكان ذلك حكم الله تعالى؛ لأنه لا مراد لله سبحانه وتعالى معين، بل مراد الله تعالى تابع لما أدى إليه نظر المجتهد. وقد يجاب عنه بأن الحديث [مبني] (أ) على الاحتياط، وذلك لأن المجتهد عند من يقول: إن الحق غير معين. قد لا يوفي الاجتهاد حقه، فلا يكون صوابًا على كل تقدير موافقًا لحكم الله، ولذلك حمل على التنزيه، أو يقال بأن ذلك إنما كان في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنه لا يأمن أن ينزل على النبي - صلى الله عليه وسلم - وحي ناسخ لما قد كان عَلِمه قبل، فيكون منه الحكم بناء على بقاء حكم المنسوخ، وأما بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - فهذا المعنى قد انتفى. والأول أولى، والله أعلم. 1058 - وعن كعب بن مالك رضي الله أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا أراد غزوة ورَّى بغيرها. متفق عليه (¬1). ¬

_ (أ) في جـ: مبين. والمثبت يقتضيه السياق.

وفي لفظٍ للبخاري (¬1): قلما يريد غزوة يغزوها إلا ورَّى بغيرها، حتى كانت غزوة تبوك، فغزاها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حر شديد، واستقبل سفرًا بعيدًا ومفازًا، واستقبل غزو عدو كثير، فجلَّى للمسلمين أمرهم ليتأهبوا أهبة عدوهم. الحديث. وقوله: ورَّى. أي سترها وأظهر غيرها، قال في "الضياء": ورَّى الأمر، أخفاه وأظهر غيره، ومنه الحديث. وكذا في "القاموس" (¬2)، وقيل: هو في الحرب أخذ العدو على غرة. وقيَّده السيرافي (¬3) في "شرح سيبويه" بالهمز، قال: وأصحاب الحديث لم يضبطوا فيه الهمز، فكأنهم سهلوها. وذكره في "القاموس" في باب الياء، وفي الحديث دلالة على أنه ينبغي للإنسان ألا يُظهر ما يريد أن يفعله في المستقبل. وهو مطابق لمعنى قوله - صلى الله عليه وسلم -: "استعينوا على أموركم بالكتمان" (¬4). 1059 - وعن معقل أن النعمان بن مقرن قال: شهدت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا لم يقاتل أول النهار أخر القتال حتى تزول الشمس، ¬

_ (¬1) البخاري 6/ 113 ح 2948. (¬2) القاموس المحيط (ور ى). (¬3) هو أبو سعيد الحسن بن عبد الله بن المرزبان السيرافي، إمام في النحو، ولي القضاء ببغداد، وله من التصانيف "الإقناع" في النحو و"القطع والوصل"، مات سنة 368 هـ. ينظر تاريخ العلماء النحويين ص 18، وسير أعلام النبلاء 16/ 247. (¬4) أخرجه الروياني 2/ 427 ح 1449، والطبراني 20/ 94 ح 183 بلفظ: "استعينوا على إنجاح الحوائج بالكتمان، فإن كل ذي نعمة محسود". وعند الروياني بلفظ: "قضاء الحوائج". وينظر مجمع الزوائد 8/ 195.

وتهب الرياح، وينزل النصر. رواه أحمد والثلاثة، وصححه الحاكم، وأصله في البخاري (¬1). هو معقل بن مقرن (¬2) المزني، أخو النعمان بن مقرن، يكنى أبا عمارة، وكانوا سبعة إخوة كلهم [هاجر وصحب] (أ) النبي - صلى الله عليه وسلم - وليس [ذلك] (ب) لأحد من العرب سواهم، كذا قاله محمد بن عبد الله بن نمير، وذكر الواقدي أن الصحابة منهم خمسة والله أعلم (جـ) (¬3). الحديث أخرجه البخاري من حديث النعمان بن مقرن في باب الجزية بلفظ: إذا لم يقاتل أول النهار انتظر حتى تهب الأرواح، وتحضر الصلوات. والحكمة في التأخير أن أوقات الصلاة مظنة إجابة الدعاء، وهبوب الريح قد ¬

_ (أ) في جـ: هاجروا وصحبت. والمثبت من أسد الغابة 5/ 231. (ب) ساقط من: جـ. والمثبت من أسد الغابة 5/ 231. (جـ) بعده في جـ بياض بقدر خمس كلمات وكتب عليه: كذا.

وقع به النصر في الأحزاب فصار مظنة لذلك، وقد جاء هذا المعنى مصرحًا في رواية للترمذي (¬1) لحديث النعمان، وفيها انقطاع، قال: غزوت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فكان إذا طلع الفجر أمسك حتى تطلع الشمس، فإذا طلعت قاتل، فإذا انتضف النهار أمسك حتى تزول الشمس، فإذا زالت قاتل، فإذا دخل وقت العصر أمسك حتى يصليها، ثم يقاتل، وكان يقال: عند ذلك تهيج رياح النصر، ويدعو المؤمنون لجيوشهم في صلاتهم. وقد علل بأن الرياح تهب عاليًا بعد الزوال فيحصل [بها] (أ) تبريد حدة السلاح [والحرب] (ب)، والزيادة في النشاط، والريح جاء جمعها على أرواح؛ لأن الياء في ريح أصلها الواو، وإنما قلبت ياء لكسر ما قبلها، فجاء الجمع على الأصل لعدم المقتضي لقلبها ياء فيه، وقد حكى ابن جني جمعها على أرياح حملًا للجمع على المفرد، وجمعت على رياح، ومقتضى القلب باق، ولا يعارض هذا ما ثبت أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يغير صباحًا؛ لأن هذا في الإغارة، وذلك عند المصافة للقتال. 1060 - وعن الصعب بن جثامة رضي الله عنه قال: سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الذراري من المشركين، يبيتون فيصيبون من نسائهم وذراريهم، فقال: "هم منهم". متفق عليه (¬2). ¬

_ (أ) في جـ: لها. والمثبت من الفتح 6/ 120. (ب) في جـ: والخوف. والمثبت من الفتح 6/ 120.

قوله: سئل عن الدار. هكذا في مسلم، وفي بعض نسخ مسلم: عن الذراري. وفي لفظ البخاري: عن أهل الدار. وهو تصريح بالمضاف المحذوف في رواية مسلم، وأما رواية الذراري جمع ذرية، فقد حكم القاضي عياض بأنها تصحيف وباطلة (¬1)، ويجاب عليه بأن لها وجهًا، والمعنى: سئل عن حكم صبيان المشركين الذين يبيتون، فيصاب من نسائهم وصبيانهم بالقتل، فقال: "هم من آبائهم". أي: لا بأس على من أصابهم؛ لأن أحكام آبائهم جارية عليهم. وقوله: يبيتون. بصيغة الفعل المضارع المستند إلى المفعول الذي لم يسم فاعله، والمراد به الإغارة عليهم في الليل على غفلة مع اختلاطهم بصبيانهم ونسائهم، فيصاب النساء والصبيان من غير قصد لقتلهم ابتداء، والسائل هو الصعب، وقد وقع مصرحًا في "صحيح ابن حبان" (¬2) عن الصعب قال: سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن أولاد المشركين أنقتلهم معهم؟ قال: "نعم". وقد ذهب إلى جواز قتل النساء والصبيان في البيات الشافعي ومالك وأبو حنيفة والجمهور. وقوله: "هم منهم". أي: في حكم الدنيا. وليس المراد إباحة قتلهم قصدًا، بل إذا لم يمكن الوصول إلى الآباء إلا به، فإذا أصيبوا لاختلاطهم بهم جاز قتلهم، وقد أخرج ابن حبان في حديث الصعب زيادة: ثم نهى عنهم يوم حنين. وهي مدرجة في حديث الصعب، وفي "سنن أبي داود" ¬

_ = ح 1745/ 26، وفي البخاري: "الدار". بدلًا من: "الذراري". (¬1) ينظر شرح مسلم 12/ 49. (¬2) ابن حبان 11/ 108 ح 4787.

في آخره (¬1): قال سفيان: قال الزهري: ثم نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد ذلك عن قتل النساء والصبيان. ويؤيد أن النهي في حنين ما في البخاري (¬2): فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لأحدهم: "الحق خالدًا فقل له: لا تقتل ذرية ولا عسيفًا". والعسيف بمهملتين وياء: الأجير، وأول مشاهد خالد مع النبي - صلى الله عليه وسلم - كانت غزوة حنين، وأخرج الطبراني في "الأوسط" (¬3) من حديث ابن عمر، قال: لما دخل النبي - صلى الله عليه وسلم - مكة أتي بامرأة مقتولة، فقال: " [ما] (أ) كانت هذه تقاتل". فنهى. وأخرج أبو داود في "المراسيل" (¬4) عن عكرمة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى امرأة مقتولة بالطائف، فقال: "ألم أنه عن قتل النساء؟! مَن صاحبها؟ ". فقال رجل: أنا يا رسول الله؛ أردفتها، فأرادت أن تَصْرعَني فتقتلني فقتلتها. فأمر بها أن توارى. وقد ذهب إلى العمل بظاهر النهي وعمومه مالك والأوزاعي وقالا: لا يجوز قتل النساء والصبيان بحال، حتى لو تترس أهل الحرب بالنساء والصبيان أو تحصنوا بحصن أو سفينة وجعلوا معهم النساء والصبيان لم [يجز] (ب) رميهم ولا تحريقهم. وقد ذهب إلى هذا الهدوية؛ إلا أنهم قالوا في قتل الترس: إنه يجوز قتل النساء والصبيان إذا كان يخشى قتل من صالوا عليه إذا لم يقتلوا، فإنه يجوز قتل النساء والصبيان، ¬

_ (أ) في جـ: من. والمثبت من الطبراني. (ب) في جـ: يحرز. والمثبت من سبل السلام 4/ 102.

وأما إذا ترَّسوا بمسلم فلا يجوز قتله إلا إذا خشي استئصال المسلمين، وذهب الشافعي والكوفيون إلى جواز قتل المرأة إذا قاتلت، وقال ابن حبيب من المالكية: لا يجوز القصد إلى قتلها إذا قاتلت إلا إن باشرت القتل أو قصدت إليه. قالوا: وكذلك الصبي المراهق. ويحتج لما ذهب إليه الشافعي وغيره بما أخرجه أبو داود والنسائي وابن حبان (¬1) من حديث رياح -بكسر الراء المهملة وياء تحتانية باثنتين- بن الربيع التميمي، قال: كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزوة، فرأى الناس مجتمعين فرأى امرأة مقتولة، فقال: "ما كانت هذه لتقاتل! ". فمفهومه أنها لو قاتلت لقتلت، وءان كان يحتمل أن المرأة ليست مظنة للقتال، وليس ذلك صفة هذا النوع فيدافع بغير القتل ما أمكن مثل الصائل من الحيوانات، وقد اتفق الجميع كما نقل ابن بطال (¬2) وغيره على منع القصد إلى قتل النساء والولدان؛ أما النساء فلضعفهن، وأما الولدان فلقصورهم عن فعل الكفر، ولما في استبقائهم من الانتفاع [بهم] (أ)، إما بالرق أو الفداء. وحكى الحازمي قولًا (¬3) بجواز قتل النساء والصبيان على ظاهر حديث الصعب، وزعم أنه ناسخ لأحاديث النهي، وهو غريب. وفي الحديث دلالة على جواز العمل بالعام حتى يرد الخاص؛ لأن الصحابة تمسكوا بالعمومات الدالة على قتل أهل الشرك، ثم نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن قتل النساء والصبيان، فخصص ذلك العموم. وقد يستدل به على جواز ¬

_ (أ) في جـ: لهم. والمثبت من الفتح 6/ 148.

تأخير البيان عن وقت الخطاب إلى وقت الحاجة. وقوله: "هم منهم". يعني أن أولاد الكفار حكمهم في الدنيا حكم آبائهم، وأما في الآخرة ففيهم إذا ماتوا قبل البلوغ ثلاثة مذاهب؛ الصحيح: أنهم في الجنة. والثاني: أنهم في النار. والثالث: الوقف. 1061 - وعن عائشة رضي الله عنها، أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لرجل تبعه يوم بدر: "ارجع، فلن أستعين بمشرك". رواه مسلم (¬1). الحديث فيه دلالة على أنه لا يجوز الاستعانة بالمشرك في القتال، وقد ذهب إلى هذا طائفة من العلماء، وذهب العترة وأبو حنيفة وأصحابة إلى جواز ذلك؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - استعان بصفوان بن أمية يوم [حنين] (أ)، واستعان يوم حنين بجماعة من المشركين وتألفهم بالغنائم، واستعان بيهود بني قينقاع ورضخ لهم. أخرجه أبو داود في "المراسيل" (¬2)، وأخرجه الترمذي عن الزهري مرسلًا (¬3)، ومراسيل الزهري ضعيفة، قال الذهبي في "التذكرة" (¬4): لأنه كان حافظًا، ففي إرساله شبهة تدليس. وصحح البيهقي من حديث أبي حميد الساعدي أنه ردهم (¬5). قال المصنف رحمه الله تعالى (¬6): ويجمع ¬

_ (أ) في جـ: خيبر. والمثبت من الأم 4/ 261، وينظر تهذيب الكمال 24/ 207.

بين الروايات بأن الذي رده يوم بدر تفرس فيه الرغبة في الإسلام، فرده رجاء أن يسلم فصدق ظنه، أو أن الاستعانة كانت ممنوعة ثم رخص فيها، وهذا أقرب، ولكنهم شرطوا أن يستقيموا على أوامره ونواهيه، واشترطت الهدوية أن يكون معه مسلمون يستقل بهم في إمضاء الأحكام، وقال الشافعي وآخرون: إن كان للكافر حسن الرأي في المسلمين، ودعت الحاجة إلى الاستعانة به استعين به، وإلا فيكره، وحمل الحديث على هذين الحالين، كذا ذكره النووي في "شرح مسلم" (¬1)، ونسب الإمام المهدي في "البحر" (¬2) إلى أحد قولي الشافعي أنه لا يستعان بمشرك على باغ، ورد عليه بأنه قد استعان النبي - صلى الله عليه وسلم - بخزاعة، ولا فرق بين الفسق والشرك مع جواز القتل، قال: ويجوز الاستعانة بالمنافق إجماعًا؛ لاستعانته - صلى الله عليه وسلم - بعبد الله بن أبي وأصحابه، ويجوز الاستعانة بالفساق على الكفار إجماعَا، وعلى البغاة عندنا؛ لاستعانة علي بالأشعث (¬3). انتهى كلامه. فإذا حضر الكافر القتال رضخ (¬4) له ولا سهم. 1062 - وعن ابن عمر رضي الله عنه، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى امرأة مقتولة في بعض مغازيه، فأنكر كعل النساء والصبيان. متفق عليه (¬5). ¬

_ (¬1) شرح مسلم 12/ 199. (¬2) البحر 6/ 383. (¬3) هو الأشعث بن قيس الكندي، وكان من أصحاب علي بن أبي طالب يوم صفين. انظر ترجمته في طبقات ابن سعد 3/ 469، وسير أعلام النبلاء 2/ 36. (¬4) الرضخ: العطية القليلة. النهاية 2/ 228. (¬5) البخاري، كتاب الجهاد، باب قتل الصبيان في الحرب 6/ 148 ح 3014، ومسلم، كتاب الجهاد والسير، باب تحريم قتل النساء والصبيان في الحرب 3/ 1364 ح 1744.

تقدم الكلام على الحديث (¬1). 1063 - وعن سمرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "اقتلوا شيوخ المشركين واستبقوا شَرْخهم". رواه أبو داود وصححه الترمذي (¬2). وأخرجه أحمد أيضًا (¬3). وهو من رواية الحسن عن سمرة. قوله: "شيوخ". جمع شيخ، والشيخ من استبانت فيه السن، أو من بلغ خمسين سنة أو إحدى وخمسين سنة كما في "القاموس" (¬4)، والمراد هنا الرجال المسانّ أهل الجلد والقوة على القتال، ولم يرد الهَرْمَى، والشرخ: الصغار الذين لم يدركوا. كذا في "النهاية" (¬5). والشرخ -بالشين والخاء المعجمتين بينهما راء مهملة- أيضًا: أول الشباب، قال حسان (¬6): [إن] (أ) شَرْخَ الشبابِ والشعَرَ الأسـ ... ـود ما لم [يُعَاصَ] (ب) كان جنونا والحديث يحتمل أن يراد به أنه يقتل من كان بالغًا، فعبر عنه بالشيخ من ¬

_ (أ) في جـ: أين. والمثبت من الديوان. (ب) في جـ: يعارض. والمثبت من الديوان.

باب التغليب، ويستبقى من كان صغيرًا، فيكون موافقًا لما تقدم من النهي عن قتل الصبي، ويحتمل أن يراد به استبقاء من كان في أول الشباب وإن كان بالغًا؛ رجاء أن يسلم، كما قال أحمد بن حنبل: الشيخ لا يكاد يسلم، والشاب أقرب إلى الإسلام. فيكون الحديث مخصوصًا بمن يجوز تقريره على الكفر بالجزية، والله أعلم. 1064 - وعن علي رضي الله عنه، أنهم تبارزوا يوم بدر. رواه البخاري وأخرجه أبو داود مطولًا (¬1). لفظ البخاري في المغازي: عن علي رضي الله عنه أنه قال: أنا أول من يجثو بين يدي الرحمن للخصومة يوم القيامة. وقال قيس (أ): وفيهم أنزلت: {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ} (¬2). قال: هم الذين تبارزوا يوم بدر؛ حمزة، وعلي، وعبيدة -أو أبو عبيدة- بن الحارث، رضي الله عنهم، وشيبة بن ربيعة، وعتبة، والوليد بن عتبة. وأخرج (¬3) عن قيس بن عباد قال: قال علي رضي الله عنه: فينا نزلت هذه الآية {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ}. انتهى. لم يذكر في هذه ¬

_ (أ) في حاشية جـ: هو قيس بن عُبادة البصري تابعي من قدماء التابعين، روى عن علي - عليه السلام -. تمت من خط المصنف. وقوله: بن عبادة. خطأ, والصواب عُباد كما سيأتي، وينظر ترجمته في تهذيب الكمال 24/ 64.

الرواية تفصيل المبارزين، وذكر ابن إسحاق (¬1): أن عبيدة بن الحارث وعتبة بن ربيعة كانا أسن القوم، فبرز [عبيد] (أ) لعتبة، وحمزة لشيبة، وعلي للوليد. وعند موسى بن عقبة (¬2): أنه برز حمزة لعتبة، وعبيدة لشيبة، فقتل علي وحمزة من بارزهما، واختلف عبيدة ومن بارزه بضربتين، فوقعت الضربة في ركبة عبيدة فمات منها لما رجعوا بالصَّفْراء (¬3)، ومال حمزة وعلي إلى الذي بارز عبيدة فأعاناه على قتله. الحديث فيه جواز المبارزة، وقد ذهب إلى هذا الجمهور، والخلاف في ذلك للحسن البصري، وشرط الأوزاعي والثوري وأحمد وإسحاق إذن الأمير كما في هذه الرواية، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - أذن للمذكورين بالمبارزة. وفي الحديث دلالة على جواز إعانة المبارز رفيقه، والله أعلم. 1065 - وعن أبي أيوب رضي الله عنه قال: إنما أنزلت هذه الآية فينا معشر الأنصار. يعني قوله تعالى: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} (¬4). قاله ردًّا على من أنكر على من حمل على صف الروم حتى دخل فيهم. رواه الثلاثة وصححه الترمذي وابن حبان والحاكم (¬5). ¬

_ (أ) في جـ: عتيبة. والمثبت من مصدر التخريج.

الحديث أخرجوه من طريق أسلم بن يزيد أبي عمران، قال: كنا بالقسطنطينية، فخرج صف عظيم من الروم، فحمل رجل من المسلمين على صَفِّ الروم حتى دخل فيهم، ثم رجع مقبلًا، [فصاح] (أ) الناس: سبحان الله، ألقى بيده إلى التهلكة! فقال أبو أيوب: أيها الناس، إنكم تؤولون هذه الآية على هذا التأويل، وإنما نزلت هذه الآية فينا معشر الأنصار، إنا لما أعز الله دينه وكثر ناصره، قلنا بيننا سرًّا: إن أموالنا قد ضاعت، فلو أنا أقمنا فيها وأصلحنا ما ضاع منها. فأنزل الله تعالى هذه الآية، فكانت التهلكة الإقامة التي أردنا. وصحَّ عن ابن عباس وجماعة من التابعين نحو ذلك في تأويل الآية (¬1). والحديث فيه دلالة على جواز دخول الواحد في صَفِّ القتال ولو ظن الهلاك، كما أنكر أبو أيوب على من تأول الآية. وذكر الإمام يحى وجهين إذا ظن الهلاك، أحدهما: يجب الهرب، لقوله تعالى: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} و: لا (¬2)؛ إذ قال له رجل: يا رسول الله، أرأيت لو انغمست في المشركين فقاتلتهم حتى قتلت، أإلى الجنة؟ قال: "نعم" (¬3). ومن انغمس ¬

_ (أ) في جـ: صاح. والمثبت من مصادر التخريج.

فيهم غلب في ظنه أنه يقتل، هكذا في "البحر"، وقال المصنف رحمه الله تعالى (¬1) في مسألة حمل الواحد على العدد الكثير من العدو: وصرح الجمهور بأنه إذا كان لفرط شجاعته وظنه أنه يُرْهِبُ العدو بذلك، أو يُجرئ المسلمين عليهم، أو نحو ذلك من المقاصد الصحيحة فهو حسن، ومتى كان مجرد تهور فممنوع، لا سيما إن ترتب على ذلك وَهَنٌ في المسلمين. والله أعلم. 1066 - وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: حَرّق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نخل بني النضير وقطع. متفق عليه (¬2). في الحديث دلالة على أنه يجوز إفساد مال أهل الحرب بالتحريق والقطع لمصلحة يراها الإمام في ذلك، بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - حَرَّق البويرة -بالباء الموحدة مُصَغَّر بؤرة وهي الحفرة، وهي هنا مكان معروف بين المدينة وتيماء، وهي من جهة قبلة مسجد قباء إلى جهة الغرب، ويقال لها أيضًا [البويلة] (أ) باللام بدل الراء- ونزلت الآية: {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَة} الآية (¬3). لما قال المشركون: إنك تنهى عن الفساد في الأرض، فما بال قطع ¬

_ (أ) في جـ: الحديبية. وهو خطأ، والمثبت من الفتح 7/ 333، وينظر تهذيب الأسماء واللغات 2/ 1 / 40.

الأشجار وتحريقها؟ وفيها قال حسان شعرًا: وهان على سراة بني لؤي ... حريق بالبويرة مستطير وقوله: سراة. بفتح المهملة وتخفيف الراء جمع سري، وهو الرئيس، والنضير بفتح النون وكسر الضاد المعجمة: قبيلة [كبيرة] (أ) من اليهود. وكان الكفار بعد الهجرة مع النبي - صلى الله عليه وسلم - على ثلاثة أقسام (¬1): قسم وادعهم على ألا يحاربوه ولا يمالئوا عليه عدوه، وهم طوائف اليهود الثلاثة؛ قريظة والنضير وقينقاع -ونون قينقاع مثلثة، والأشهر فيها الضم- وقسم حاربوه ونصبوا له العداوة كقريش. وقسم تاركوه وانتظروا ما يئول إليه أمره كطوائف العرب؛ فمنهم من كان يحب ظهوره في الباطن كخزاعة، والعكس كبني بكر، ومنهم من كان معه ظاهرًا ومع عدوه باطنًا كالمنافقين، فكان أول من نقض العهد بني قينقاع، فحاربهم في شوال بعد وقعة بدر، فنزلوا على حكمه، فأراد قتلهم فاستوهبهم [منه] (ب) عبد الله بن أبي، وكانوا حلفاءه فوهبهم له، وأخرجهم من المدينة إلى أذرِعات، ثم نقض العهد بنو النضير، وكان رئيسهم حيي بن أخطب. واختلف أهل السير في سبب نقض العهد، فأخرج ابن مردويه (¬2) بإسناد صحيح إلى معمر ¬

_ (أ) في جـ: كثيرة، والمثبت من الفتح 7/ 330. (ب) في جـ: منهم. والمثبت من الفتح 7/ 330.

عن الزهري، قال: أخبرني عبد الله بن عبد الرحمن بن كعب بن مالك، عن رجل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: كتب كفار قريش إلى عبد الله بن أبي وغيره ممن يعبد الأوثان قبل بدر، يهددونهم بإيوائهم النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه ويتوعدونهم أن يغزوهم [بجميع] (أ) العرب، فهمّ ابن أبي ومن معه بقتال المسلمين، فأتاهم النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: "ما كادكم أحد بمثل ما كادتكم قريش! يريدون أن تلقوا بأسكم بينكم". فلما سمعوا ذلك عرفوا الحق فتفرقوا، فلما كانت وقعة بدر، كتب كفار قريش بعدها إلى اليهود: إنكم أهل الحلقة والحصون. [يتهددونهم] (ب)، فأجمع بنو النضير على الغدر، فأرسلوا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -: اخرج إلينا في ثلاثة من أصحابك، ويلقاك ثلاثة من علمائنا، فإن آمنوا بك اتبعناك. [ففعل] (ب)، فاشتمل اليهود الثلاثة على الخناجر، فأرسلت امرأة من بني النضير إلى أخ لها من الأنصار مسلم، تخبره بأمر بني النضير، فأخبر أخوها النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل أن يصل إليهم، فرجع وصَبَّحهم بالكتائب فحصرهم يومه، ثم غدا علي بني قريظة فحاصرهم فعاهدوه، فانصرف عنهم إلى بني النضير، فقاتلهم حتى نزلوا على الجلاء، وعلى أن لهم ما أقلت الإبل إلا السلاح، فاحتملوا حتى أبواب بيوتهم، فكانوا يُخْرِبون [بيوتهم بأيديهم] (جـ) فيهدمونها، ويحملون ما يوافقهم من خشبها، وكان جلاؤهم ذلك أول حشر إلى الشام. ¬

_ (أ) في جـ: لجميع. والمثبت من الفتح 7/ 331. (ب) في جـ: يتهدونهم. والمثبت من الفتح 7/ 331. (جـ) ساقط من جـ. والمثبت من الفتح 7/ 331.

وكذا أخرجه عبد بن حميد في "تفسيره" (¬1) عن عبد الرزاق، وذكر ابن إسحاق (¬2) وغيره غير هذا السبب، وسيأتي قريبًا من آخر الباب في حديث ابن عمرو هذا أصح إسنادًا، قال الزهري عن عروة: كانت على رأس ستة أشهر من وقعة بدر (¬3)، وكانت منازلهم ونخلهم بناحية المدينة، فحاصرهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى نزلوا على الجلاء، وكانوا من سبط لم يصبهم جلاء فيما خلا. وجزم ابن إسحاق بأن قصتهم كانت بعد أحد وبعد قضية بئر معونة (3)، ورجحه الداودي على ما حكاه عنه ابن التين، ولم [يسلم] (أ) منهم إلا يامين بن عمير، وأبو سعيد بن وهب، فأحرزا أموالهما. ثم نقضت قريظة العهد بعد وقعة الخندق. وفي الآية الكريمة تصريح بأن المقطوع من النخل هو اللين، قال السهيلي (¬4): في تخصيصها بالذكر إيماء إلى أن الذي يجوز قطعه من شجر العدو هو ما لا يكون معدًا للاقتيات؛ لأنهم كانوا يقتاتون العجوة والبَرْني (¬5) دون اللينة، وكذلك ترجم البخاري في التفسير (¬6): باب {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَة}. نخلة ما لم تكن برنية أو عجوة. وقيل: اللينة الدقل، فعلى هذا لا ¬

_ (أ) في جـ: يسم. والمثبت من الفتح 7/ 331.

يتم الاحتجاج بالآية ولا بالحديث على جواز إفساد النافع من المال، وفي "القاموس" و"الضياء" على كلام السهيلي، وفي "معالم التنزيل" (¬1): اللينة فعلة من اللون ويجمع على ألوان، وقيل: من اللين، ومعناه النخلة الكريمة، وجمعها ليان، فعلى هذا يتم الاحتجاج بالاية والحديث على ما ذكر، لأن الآية والحديث وردا في قصة واحدة، ويؤيده ما رواه ابن إسحاق والبيهقي وموسى بن عقبة (¬2)، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر مالك بن عوف بهدم أبنية الطائف وقطع الأعناب. وقد ذهب الجمهور إلى جواز التحريق والتخريب في بلاد العدو، وكرهه الأوزاعي والليث وأبو ثور، واحتجوا بوصية أبي بكر لجيوشه أن لا تفعلوا شيئًا من ذلك. وأجاب الطبري بأن النهي محمول على القصد لذلك، بخلاف ما إذا أصابوا ذلك في حال القتال، وكما وقع في نصب المنجنيق على الطائف، وهو نحو مما أجيب به في قتل النساء والصبيان، ولهذا قال أكثر أهل العلم: ونهي أبي بكر لأنه علم أن تلك البلاد تُفتح فأراد بقاءها على المسلمين. والله سبحانه وتعالى أعلم. 1067 - وعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تغلوا؛ فإن الغلول نار وعار على أصحابه في الدنيا والآخرة". رواه أحمد والنسائي، وصححه ابن حبان (¬3). ¬

_ (¬1) معالم التنزيل 8/ 71، 72. (¬2) ابن إسحاق -كما في المراسيل لأبي داود ص 240 ح 317، والبيهقي، كتاب السير، باب قطع الشجر وحرق المنازل 9/ 84. (¬3) أحمد 5/ 316، والنسائي، كتاب الهبة، باب هبة المشاع 6/ 574 ح 3690 لكن من حديث عبد الله بن عمر، وابن حبان، كتاب السير، باب الغلول 11/ 193 ح 4856.

الغلول: بضم المعجمة واللام أي: الخيانة في المغنم، قال ابن قتيبة (¬1): سُمي بذلك لأن آخذه يغله في متاعه، أي يخفيه، ونقل النووي (¬2) الإجماع على أنه من الكبائر. وفي الحديث دلالة على تعظيم شأن الغل، وأن صاحبه يشتهر بذلك يوم القيامة، وقد نبه على ذلك قوله تعالى: {يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} (¬3). وفسره النبي - صلى الله عليه وسلم - في رواية أبي هريرة أخرجها البخاري (¬4)، قال: قام فينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذكر الغلول، فعظَّمه وعظَّم أمره، فقال: "لا ألفين أحدكم يوم القيامة على رقبته شاة لها ثغاء، وعلى رقبته فرس له حمحمة، يقول: يا رسول الله أغثني. فأقول: لا أملك لك شيئًا، قد أبلغتك، وعلى رقبته بعير له رغاء يقول: يا رسول الله أغثني. فأقول: لا أملك لك شيئًا، قد أبلغتك، وعلى رقبته صامت، فيقول: يا رسول الله أغثني. فأقول: لا أملك لك شيئًا، قد أبلغتك". انتهى. فدلَّ الحديث أنه يأتي الغالُّ بهذه الحالة الشنيعة يوم القيامة، وهو معنى قوله في حديث عبادة: "عار". ويدل على أن هذا الذنب لا يُغفر بالشفاعة، وإن كان - صلى الله عليه وسلم - له الشفاعة العظمى يوم القيامة، إلا أنه يحتمل أنه - صلى الله عليه وسلم - أبرز هذا الوعيد في مقام الزجر والتغليظ، كما في قوله تعالى: {وَمَن كَفَرَ} (¬5) بعد آية الحج، ويحتمل أن يكون ذلك الأمر لا بد منه عقوبة ¬

_ (¬1) غريب الحدث له 1/ 226، 227. (¬2) شرح مسلم 12/ 217. (¬3) الآية 161 من سورة آل عمران. (¬4) البخاري 6/ 185 ح 2073. (¬5) الآية 97 من سورة آل عمران.

ليفتضح على رءوس الأشهاد، وبعد ذلك أمره إلى الله سبحانه وتعالى. قال ابن المنذر (¬1): أجمعوا على أن الغال يعيد ما غل قبل القسمة. وأما بعدها؛ فقال الثوري والأوزاعي والليث ومالك: يدفع إلى الإمام خمسه ويتصدق بالباقي. وكان الشافعي لايرى ذلك، ويقول: إن كان ملكه فليس عليه أن يتصدق به، وإن كان لم يملكه فليس له الصدقة بمال غيره. قال: والواجب أن يدفعه إلى الإمام كالأموال الضائعة. 1068 - وعن عوف بن مالك رضي الله عنه، أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قضى بالسلب للقاتل. رواه أبو داود وأصله عند مسلم (¬2) (¬3). الحديث رواه أبو داود وابن حبان والطبراني (¬4) بزيادة: ولم يخمس السلب. وحديث مسلم فيه قصة لعوف بن مالك مع خالد بن الوليد. الحديث فيه دلالة على أن السلب يستحقه القاتل؛ سواء كان بشرط ¬

_ (¬1) الإجماع ص 26. (¬2) أبو داود، كتاب الجهاد، باب في الإمام يمنع القاتل السلب إن رأى، والفرس والسلاح من السلب 3/ 71 ح 2719، ومسلم، كتاب الجهاد، باب استحقاق القاتل سلب القتيل 3/ 1374 ح 24 - 1753. (¬3) بعده في بلوغ المرام ص 288: وعن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه في قصة قتل أبي جهل قال: فابتدراه بسيفيهما حتى قتلاه، ثم انصرفا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبراه فقال: أيكما قتله؟ هل مسحتما سيفيكما؟ قالا: لا. قال: فنظر فيهما فقال: كلاكما قتله. فقضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بسلبه لمعاذ بن عمرو بن الجموح. متفق عليه. وسوف يذكره المصنف في ثنايا شرحه لحديث عوف بن مالك هذا. وينظر سبل السلام 4/ 110. (¬4) أبو داود 3/ 72 ح 2721، وابن حبان 11/ 178 ح 4844، والطبراني 18/ 47 ح 84.

الإمام أو لم يكن، وسواء كان القاتل مقبلًا أو منهزمًا، ممن يستحق السهم في المغنم أم لا، فإن قوله: قضى بالسلب للقاتل. يدل على أن هذا حكم مطلق غير مقيد. قال الشافعي: وقد حفظ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا الحكم في مواطن؛ منها يوم بدر، كما في حديث قاتلي أبي جهل (¬1)، فإنه حكم [بسلبه] (أ) لمعاذ ابن الجموح لما كان هو المؤثر في قتل أبي جهل، وكذا في قتل حاطب بن أبي بلتعة لرجل يوم أحد فأعطاه النبي - صلى الله عليه وسلم - سلبه. أخرجه البيهقي (¬2). ومنها حديث جابر أن عقيل بن أبي طالب قتل يوم مؤتة رجلًا فنفله النبي - صلى الله عليه وسلم - سلبه (¬3). وكان ذلك الحكم مقررًا في الصحابة، حتى قال عبد الله بن جحش يوم أحد: اللهم ارزقني رجلًا شديدًا فأقاتله ويقاتلني، ثم ارزقني عليه الظفر حتى أقتله وآخذ سلبه. رواه الحاكم والبيهقي (¬4) بإسناد صحيح، وكما في قتل صفية يوم الخندق لليهودي، وقولها لحسان: انزل واسلبه. فقال: ما لي بسلبه حاجة. أخرجه أحمد (¬5) بإسناد قوي، وقول عمر لعلي (2) في قتله [عمرو بن عبد ود] (ب) يوم الخندق: هلا استلبت درعه، فإنه ليس للعرب خير منها. فإن هذه القصص تدل على أن هذا الحكم كان ¬

_ (أ) في جـ: سلبه. والمثبت من صحيح مسلم. (ب) في جـ: عمر بن ود. والمثبت من مصدر التخريج.

متقررًا عند الصحابة، وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم حنين (¬1): "من قتل قتيلًا فله سلبه". بعد القتال لا ينافي ذلك بل هو مؤيد للحكم السابق، وقد ذهب إلى أنه يستحق القاتل سلب القتيل سواء قال بذلك أمير الجيش أم لا، [الأوزاعي] (أ) والليث، والثوري، وأبو ثور، وأحمد، وإسحاق، وابن جرير، والشافعي، والإمام يحيى، وأن هذا قضاء من النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يتوقف على قول أحد، وقال أبو حنيفة ومالك والهدوية ومن [تابعهم] (ب): لا يستحق القاتل ذلك بمجرد القتل، بل هو لجميع الغانمين كسائر الغنائم، إلا إذا قال الأمير قبل القتال: من قتل قتيلًا فله سلبه. وحملوا الحديث على هذا، وهو يتوجَّه في قوله يوم حنين: "من قتل قتيلًا فله سلبه". وأما في حديث: قضى بالسلب للقاتل. فبعيد، فإن ظاهر قوله: قضى. أن ذلك حكم مطلق، إلا أن مالكا قال: يكره للإمام أن يقول ذلك، لأنه يضعف نيات المجاهدين، ولم يقل النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك إلا بعد انقضاء الحرب، حتى قال مالك: لم يبلغني ذلك في غير حنين. ويُجاب عنه بما تقدم من القصص، وعن الحنفية لا كراهة في ذلك، وسواء قاله قبل الحرب أو في أثنائها، وذهب بعض إلى أن السلب مُفَوَّضٌ إلى رأى الإمام، وقرره الطحاوي وغيره؛ قالوا: لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أعطى سلب أبي جهل معاذ بن الجموح مع أنه قال له ولمشاركه في قتله: "كلاكما قتله". لما أرياه سيفيهما (¬2). وأجيب عنه بأن ¬

_ (أ) في جـ: والأوزاعي. والمثبت كما في شرح مسلم 12/ 58. (ب) في جـ: تابعهما. والمثبت يقتضيه السياق.

النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما حكم لمعاذ لكونه الذي أثَّر في قتله لما رأى عمق الجناية في سيفه، وقال: "كلاكما قتله". تطييبًا لنفس صاحبه. وقال الشافعي: يستحق القاتل السلب بشرط أن يقتل كافرًا متمنعًا في حال القتال، والأصح أنه يستحقه من لا يسهم له بم كالمرأة والصبي والعبد كغيرهم. وعن مالك: لا يستحقه إلا من يسهم له. واشترط الأوزاعي والشاميون أن يكون قتله قبل التحام القتال، واشترط الجمهور أن يكون المقتول من المقاتلة، لا إذا كان امرأة أو صبيًّا يجوز قتلهما، وقال [أبو ثور] (أ) وابن المنذر: لا يشترط. واختلفوا في تخميس السلب؛ وللشافعي قولان، الصحيح منهما عند أصحابه أنه لا يخمس، وهو ظاهر الأحاديث، وبه قال أحمد، وابن جرير، وابن المنذر، وآخرون، وقال مالك، ومكحول، والأوزاعي: يخمس. وهو قول ضعيف للشافعي، وقال عمر بن الخطاب وإسحاق بن راهويه: يخمس إذا كثر. وعن مالك رواية أن الإمام بالخيار، واختارها إسماعيل القاضي. وجاء في حديث "من قتل قتيلًا له عليه بينة فله سلبه" (¬1). فيه تصريح بأنه لا يقبل قوله من دون بينة، وقد ذهب إلى هذا الليث والشافعي ومن وافقهما من المالكية وغيرهم. وقال مالك والأوزاعي: يعطاه بقوله بلا بينة. قالا: لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذه الرواية قبل قول واحد ولم يحلفه، فلو كان يحتاج إلى بينة لما كفى قول واحد. وقد يُجاب عنه بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - علم القاتل بطريق من الطرق مع تصريحه بذكر البينة، ولعله يقال: إن في هذه القصة ¬

_ (أ) في جـ: أبو أيوب. والمثبت من الفتح 6/ 249.

قد أقرَّ من هو في يده، وإقراره شهادة مع الشاهد الذي شهد له، ولا يقال: إنه عمل بالإقرار. لأنه غير مستحق له، فإن المال يكون من الغنيمة لجميع الجيش، والله أعلم. 1069 - وعن مكحول رضي الله عنه أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - نصب المنجنيق على أهل الطائف. أخرجه أبو داود في "المراسيل" (¬1)، ورجاله ثقات، ووصله العقيلي (¬2) بإسناد ضعيف عن علي رضي الله عنه. هو أبو عبد الله مكحول بن عبد الله الشامي من سبي كابل، كان مولى لامرأة من قيس، وكان سنديًّا لا يفصح، وقال الواقدي: كان مولى لامرأة من هذيل. وقيل: مولى لسعيد بن العاص. وقيل: مولى لبني ليث. وهو معلم الأوزاعي وسعيد بن عبد العزيز، وهو عالم الشام، ولم يكن أبصر منه بالفتيا في زمانه، سمع من أنس بن مالك، وواثلة -بكسر الثاء المثلثة- بن الأسقع -بالسين المهملة والقاف- وأبي هند الداري، وغيرهم، وروى عنه الزهري، وحميد الطويل، والأوزاعي، ويحيى بن يحيى الغساني، وابن جريج، وربيعة الرأي، وعطاء الخراساني، مات سنة ثماني عشرة ومائة. وقيل: ثلاث عشرة. وقيل: ست عشرة. الحديث أخرجه أيضًا الترمذي (¬3) عن ثور [راويه] (أ) عن مكحول، ولم ¬

_ (أ) في جـ: روايه. والمثبت من مصدر التخريج.

يذكر مكحولا، فهو معضل. وروى أبو داود (¬1) من مرسل يحيى بن أبي كثير، قال: حاصرهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شهرًا. قال الأوزاعي: فقلت ليحيى: أبلغك أنه رماهم [بالمجانيق؟] (أ) فأنكر ذلك، وقال: ما نعرف ما هذا. وروى أبو داود في "السنن" (¬2) أنه حاصرهم بضع عشرة ليلة. وقال السهيلي: ذكره الواقدي كما ذكره مكحول، وزعم أن الذي أشار به سلمان الفارسي، وروى ابن أبي شيبة (¬3)، عن عبد الله بن سنان، أنه - صلى الله عليه وسلم - حاصر أهل الطائف خمسة وعشرين يومًا. ومن حديث عبد الرحمن بن عوف شيئًا من ذلك، وفي "الصحيحين" (¬4) من حديث ابن عمر: حاصر أهل الطائف شهرًا. ولمسلم (¬5) عن أنس، أن المدة كانت أربعين ليلة. والحديث فيه دلالة على أنه يجوز قتل الكفار -إذا تحصنوا- بالمنجنيق، ويقاس عليه غيره، وإن هلك بالمنجنيق من لا يجوز قتله من الصبيان والنساء، وقد تقدم الكلام في ذلك (¬6). 1070 - وعن أنس رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دخل مكة وعلى رأسه المغفر، فلما نزعه جاءه رجل فقال: ابن خطل متعلق بأستار ¬

_ (أ) في جـ: بالمناجيق. والمثبت من التلخيص 4/ 104، وينظر تاج العروس (جـ ن ق).

الكعبة. فقال: "اقتلوه". متفق عليه (¬1). قوله: دخل مكة. يعني عام الفتح، دخل النبي - صلى الله عليه وسلم - من أعلى مكة، وأمر خالدًا بالدخول من أسفلها، من غير إحرام، وكان ذلك خاصا به؛ أنه - صلى الله عليه وسلم - ممنوع أن يقاس عليه غيره من الأمة، وكان - صلى الله عليه وسلم - قد علم أن من عتاة الأمة من يترخص ويستند إلى فعله - صلى الله عليه وسلم - كما فعله [عمرو] (أ) بن سعيد وأجاب على ابن شريح بالجواب الصادم للنص الصريح، فمنع الإلحاق، وقال لأصحابه: فإن أحد ترخص لقتال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقولوا: إن الله أذن لرسوله ولم يأذن لكم. وقوله: وعلى رأسه المغفر. يعني بغير إحرام، وقد جاء في رواية أبي عبيد القاسم بن سلام (¬2) بزيادة: من حديد. وكذا رواه عشرة من أصحاب مالك خارج "الموطأ"، وهو عند ابن عدي أيضًا (¬3). وقوله: فقال: ابن خطل. ابن خطل اسمه عبد الله بن خطل، بفتح الخاء المعجمة وفتح الطاء المهملة، من بني [تيم] (1)، أحد التسعة الذين لم يؤمنهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد أن أمن الناس، وأمر بقتلهم وإن تعلقوا بأستار الكعبة، ¬

_ (أ) في جـ: عمر. والمثبت من نيل الأوطار 7/ 53. وينظر البداية والنهاية 12/ 122، وسيأتي على الصواب ص 244. (ب) في جـ: تميم. والمثبت من سيرة ابن هشام 2/ 409، والبداية والنهاية 6/ 559.

ثم أسلم ستة منهم وقتل ابن خطل، والحارث بن نفيل بن وهب، ومقيس بن صبابة، وإحدى القينتين لابن خطل، وكان قد أسلم فبعثه النبي - صلى الله عليه وسلم - الأنصار، وكان معه مولى له يخدمه مسلم، فنزل منزلًا وأمر مولاه أن يذبح له تيسًا ويصنع له طعامًا ونام، فاستيقظ ولم يصنع له شيئًا، فعدا عليه فقتله، ثم ارتد مشركًا، وكانت له قينتان تغنيان بهجاء النبي - صلى الله عليه وسلم -، فأمر بقتلهما معًا، فقتلت إحداهما واستؤمن للأخرى فأمنها. وقوله: فقال: "اقتلوه". وجاء في الرواية عن الوليد بن مسلم عن مالك زيادة: فقتل. أخرجه ابن عائذ وصححه ابن حبان (¬1)، وقد اختلف في قاتله، فجزم ابن إسحاق بأن سعيد بن حريث وأبا برزة الأسلمي اشتركا في قتله، وحكى الواقدي فيه أقوالًا؛ منها: أن قاتله شريك بن عبدة العجلاني، ورجح أنه أبو برزة، قال الخطابي: قتله النبي - صلى الله عليه وسلم - بحق ما جناه في الإسلام، فدل على أن الحرم لا يعصم من إقامة واجب، [ولا] (أ) يؤخره عن وقته. انتهى. وقد ذهب إلى هذا مالك والشافعي، وأنه يستوفى الحدود في الحرم كما يستوفى في الحل، وهو اختيار ابن المنذر، وقالوا: لعموم الأدلة الدالة على استيفاء الحدود والقصاص بكل مكان وزمان؛ ولهذه القصة وبما يروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، أن الحرم لا يُعيذُ عاصيًا، ولا فارًّا بدم ولا خَرَبة (¬2)، وبأنه لو ¬

_ (أ) في جـ: وأن. والمثبت من سبل السلام 4/ 113.

ارتكبه في الحرم لا يعيذه، وكذلك إذا لجأ إلى الحرم. وذهب الجمهور من الصحابة والتابعين ومن بعدهم إلى العمل بقوله - صلى الله عليه وسلم - في خطبة ثاني [يوم الفتح] (أ) في تحريم الحرم فلا يحل لأحد أن يسفك بها دمًا، وعموم قوله تعالى: {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} (¬1). وكان ذلك متأصلًا في عهد إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - أن الحرم يعيذ العصاة، واستمر في الجاهلية، وقام الإسلام على ذلك، وكانت العرب في جاهليتها يرى أحدهم قاتل أبيه وابنه في الحرم فلا يهيجه، وأخرج الإمام أحمد (¬2) عن عمر بن الخطاب أنه قال: لو وجدت فيه قاتل الخطاب ما مسسته حتى يخرج منه. وعن عبد الله بن عمر (¬3) أنه قال: لو وجدت فيه قاتل عمر ما ندهته (¬4). وعن ابن عباس (¬5) قال: لو وجدت قاتل أبي في الحرم ما هجته حتى يخرج منه. وهذا قول جمهور التابعين، وإليه ذهب أبو حنيفة ومن وافقه من أهل العراق، والإمام أحمد ومن وافقه من أهل الحديث، وهو مذهب العترة، وأجيب عما احتج به الأولون: أما عموم ¬

_ (أ) في جـ: يوم النحر. وضرب على "يوم". والمثبت كما في البخاري 4/ 41 ح 1832، ومسلم 2/ 987 ح 1354.

الأدلة لاستيفاء الحدود للمكان والزمان بالعموم غير مسلم لعدم التصريح بالزمان والمكان وإنما ذلك مطلق، والمطلق وإن كان حكمه حكم العام لكنه مقيد بحديت الحرم، وهو متأخر، فإف في حجة الوداع والحدود قد شرعت، وأما قوله: إن الحرم لا يعيذ. فليس بحديث، وإنما هو قول العاتي عمرو بن سعيد بن العاصي، تأبيًا من الإذعان للحق، فلا يُلْتفت إليه، وأما قتل ابن خطل ومن ذكر معه فإنما كان ذلك في الساعة التي أحل النبي - صلى الله عليه وسلم - فيها القتال بمكة، واستمرت من صبيحة يوم الفتح إلى العصر، ثم عادت حرمتها كما كانت، وكان قتل عبد الله بن خطل وقت الضحى، ما بين زمزم ومقام إبراهيم، ثم قال - صلى الله عليه وسلم - (¬1): "لا يقتل قرشي بعد هذا صبرًا". ورجاله ثقات، إلا أن في إسناده أبا معشر (¬2)، وفيه مقال. وأما إذا ارتكب في الحرم ما يوجب الحد، فالأصل هذا غير مسلَّم، فإن القائلين بالإعاذة اختلفوا؛ فذهب بعض العترة أنه يخرج من الحرم ولا يقام عليه فيه حتى يخرج، وروى أحمد (¬3) عن طاوس عن ابن عباس قال: من سرق أو قتل في الحرم أقيم عليه في الحرم. وذكر الأثرم عن ابن عباس أيضًا: من أحدث حدثًا في الحرم أقيم عليه ما أحدث فيه من شيء (¬4). والله سبحانه وتعالى يقول: {وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ ¬

_ (¬1) الطبراني في الكبير 7/ 188 ح 6687، والأوسط 8/ 93 ح 8070، وقال الهيثمي في المجمع 6/ 175: فيه أبو معشر نجيح، وهو ضعيف. وأصل الحديث عند أحمد 3/ 412، 4/ 213، ومسلم 9/ 1403، ح 1782. (¬2) تقدمت ترجمته في 4/ 349. (¬3) لم أقف عليه عند أحمد، وهو عند عبد الرزاق 4/ 309 ح 17306، والبيهقي 9/ 214. (¬4) الطبري 4/ 13.

فَاقْتُلُوهُمْ} (¬1). والفرق بينه وبين الملتجئ إليه، أن الجاني فيه هاتك لحرمة الحرم، والملتجئ معظم لها؛ ولأنه لو لم يقم الحد على من جنى فيه من أهله لعظم الفساد في الحرم، وأدى إلى أنه من أراد الفساد قصد إلى الحرم ليسكنه ويفعل فيه ما يقضي شهوته. ووقع خلاف أيضًا في القصاص فيما دون النفس وفي الحد بغير القتل، وفي ذلك روايتان منصوصتان عن الإمام أحمد؛ فمن منع الاستيفاء نظر إلى عموم الأدلة العاصمة بالنسبة إلى النفس وما دونها، ومن فرق قال: سفك الدم إنما ينصرف إلى القتل، ولا يلزم من تحريمه في الحرم تحريم ما دونه؛ لأن حرمة النفس أعظم، والانتهاك بالقتل أشد، ولأن الحد فيما دون النفس جار مجرى تأديب السيد لعبده فلم يمنع منه. 1072 - وعن سعيد بن جبير رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قتل يوم بدر ثلاثة صبرًا. أخرجه أبو داود في "المراسيل" (¬2)، ورجاله ثقات. هو أبو عبد الله سعيد بن جبير الأسدي مولى بني والبة بطن من بني أسد بن خزيمة، كوفي، أحد أعلام التابعين، سمع ابن مسعود وابن عباس وابن عمر وابن الزبير وأنسًا، وسمع منه عمرو بن دينار وأيوب وجعفر بن إياس، قتله الحجاج بن يوسف في شعبان سنة خمس وتسعين وله تسع وأربعون سنة -ومات الحجاج في رمضان من السنة، ويقال مات بعده بستة أشهر، ولم يسلط بعده على قتل أحد- ودفن بظاهر واسط العراق، وقبره بها ¬

_ (¬1) الآية 191 من سورة البقرة. (¬2) المراسيل ص 248، 249 ح 337.

يزار (¬1)، وجبير بضم الجيم وفتح الباء الموحدة. قوله: كمل يوم بدر ثلاثة صبرًا. هم: المطعم بن عدي، والنضر بن الحارث، وعقبة بن أبي معيط، قال المصنف (¬2) رحمه الله تعالى: إن قوله: المطعم بن عدي. تحريف، والصواب طعيمة بن عدي، وكذا أخرجه ابن أبي شيبة (¬3)، ووصله الطبراني في "الأوسط" (¬4) بذكر ابن عباس. 1073 - وعن عمران بن حصين رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فدى رجلين من المسلمين برجل مشرك. أخرجه الترمذي وصححه، وأصله عند مسلم (¬5). الحديث فيه دلالة على جواز مفاداة الأسير من المسلمين بأسير كافر، وقد ذهب إلى هذا الجمهور، وقال أبو حنيفة (¬6): لا يجوز المفاداة، ويتعين إما قتل الأسير، أو استرقاقه. وقال مالك: إنه لا يجوز في الأسير إلا القتل، أو الاسترقاق، أو مفاداته بأسير. وقال أبو يوسف ومحمد (¬7): يجوز المفاداة بغيره، أو قتل الأسير، أو استرقاقه، أو مفاداته بالمال. وذهب الجمهور إلى جواز المن، والفداء بأسير، أو القتل، أو الاسترقاق، وقال ¬

_ (¬1) ينظر تهذيب الكمال 10/ 358، وسير أعلام النبلاء 4/ 321 - 343. (¬2) التلخيص 4/ 108. (¬3) ابن أبي شيبة 14/ 372. (¬4) الأوسط 4/ 135 ح 3801. (¬5) الترمذي، كتاب السير، باب ما جاء في قتل الأسارى والفداء 4/ 115 ح 1568، ومسلم، كتاب النذر، باب لا وفاء لنذر في معصية الله 3/ 1262، 1263 ح 1641. (¬6) المبسوط 10/ 139، وأحكام القرآن للجصاص 5/ 269. (¬7) ينظر مختصر اختلاف العلماء 3/ 480، وأحكام القرآن للجصاص 5/ 269.

الإمام يحيى (أ) بجوازها وبجواز الفداء بالمال، وفي قوله تعالى: {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} (¬1) جواز الأمرين، وأخذ الفداء كما وقع في قصة بدر، ونزل العتاب على ذلك، وهي منسوخة بقوله تعالى: {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً}. ووقع من النبي - صلى الله عليه وسلم - قتل الأسير كما في النضر وعقبة بن أبي معيط، والمن كما في قضية أبي عزة، فإنه من عليه في يوم بدر على ألا يقاتل، فعاد إلى القتال يوم أحد، فأسره وقتله، وقال في حقه: "لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين" (¬2). 1074 - وعن صخر بن [العيلة] (ب) رضي الله عنه أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن القوم إذا أسلموا أحرزوا دماءهم وأموالهم". أخرجه أبو داود (¬3)، ورجاله موثقون. هو أبو حازم صخر -بفتح المهملة وسكون المعجمة فراء- ابن [العيلة] (5) -بفتح العين المهملة وسكون الياء تحتها نقطتان وباللام، ويقال: العيِّلة، بتشديد الياء المكسورة، ويقال: ابن أبي العيلة- الأحمسي البجلي، عداده في أهل الكوفة وحديثه عندهم، ويقال: إن العيلة أمه. روى عنه عثمان بن أبي حازم وهو ابن أبيه (¬4). ¬

_ (أ) زاد في جـ: يجوز. (أ) في جـ: العليه.

وفي الباب عن أبي هريرة مرفوعًا: "من أسلم على شيء فهو له". أخرجه أبو يعلى (¬1)، وضعفه ابن عدي بياسين الزيات (¬2) راويه عن الزهري، قال البيهقي (¬3): إنما يروي عن ابن أبي مليكة، وعن عروة مرسلًا. ومرسل عروة أخرجه سعيد بن منصور (¬4) برجال ثقات. الحديث فيه دلالة على أن الكفار إذا أسلموا حرم قتلهم وملكوا أموالهم، إلا أن في ذلك تفصيلًا وهو أنه إذا كان الإسلام طوعًا من دون قتال فأرضهم باقية على ملكهم، وذلك كأرض اليمن، والواجب عليهم في أموالهم الزكاة التي فرض الله سبحانه وتعالى، وإن أسلموا بعد القتال فالإسلام قد حقن دماءهم، وأما أموالهم؛ فالمنقول غنيمة، وغير المنقول فيء، وقد اختلف العلماء في ذلك؛ فقال مالك (¬5): لا تقسم الأرض وتكون وقفًا يقسم خراجها في مصالح المسلمين؛ من أرزاق المقاتلة، وبناء القناطر والمساجد، وغير ذلك من سبل الخير، إلا أن يرى الإمام في وقت من الأوقات أن المصلحة تقتضي القسمة، فإن له أن يقسم الأرض. وأيد هذا القول ابن القيم (¬6) في "الهدي النبوي"، وقال: إن الأرض ¬

_ (¬1) أبو يعلى 10/ 226، 227 ح 5847. (¬2) ابن عدي في الكامل 7/ 2642، وتقدمت ترجمة ياسين الزيات ص 106. (¬3) البيهقي 9/ 113. (¬4) سنن سعيد بن منصور 1/ 76 ح 189. (¬5) الهداية تخريج أحاديث بداية المجتهد 6/ 87. (¬6) زاد المعاد 3/ 432، 433.

ليست داخلة في الغنيمة التي تقسم. قال: فإن الله سبحانه وتعالى لم يحل لأحد من الأنبياء قسمة المغنم، وكان ذلك مما اختص به النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد قال الله سبحانه وتعالى في حل الأرض التي بأيدي الكفار لقوم موسى: {يَاقَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} (¬1). وكان غير الأرض تنزل له نار من السماء تأكله. قال: وقال به جمهور الصحابة، وكان عليه سيرة الخلفاء الراشدين، ونازع في ذلك بلالٌ وأصحابُه عمرَ وطلبوا أن يقسم بينهم الأرض وهي في الشام التي فتحوها، وقالوا له: خذ خمسها واقسمها. فقال عمر رضي الله عنه: هذا غير المال، ولكن أحبسه فيئًا يجري عليكم وعلى المسلمين. فقال بلال. وأصحابه: اقسمها بيننا. فقال عمر رضي الله عنه: اللهم اكفني بلالًا وذويه. فما حال الحول ومنهم عين تطرف (¬2)، ثم وافق سائر الصحابة عمر رضي الله عنه، وكذلك جرى في فتوح مصر والعراق وأرض فارس وسائر البلاد التي فتحت عنوة، لم يقسم منها الخلفاء الراشدون قرية واحدة، ولا يصح أن يقال أنه استطاب نفوسهم ووقفها برضاهم، فإنهم قد نازعوه فيها، وهو [يأبى] (أ) عليهم. ثم قال: ووافقه جمهور الأئمة، وإن اختلفوا في كيفية إبقائها بلا قسمة، فظاهر مذهب الإمام أحمد وأكثر نصوصه على أن الإمام مخير فيها تخيير مصلحة لا تخيير شهوة، فإن كان الأصلح للمسلمين قسمتها قسمها، وإن كان الأصلح أن يقفها على جماعتهم وقفها، وإن كان الأصلح قسمة البعض ووقف البعض فعله، فإن ¬

_ (أ) في جـ: باقي. والمثبت من زاد المعاد.

رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فعل الأقسام الثلاثة، فإنه قسم أرض قريظة والنضير، وترك قسمة مكة، وقسم بعض خيبر وترك بعضها لما ينوبه من مصالح المسلمين. وعن أحمد رواية ثانية، أنها تصير وقفًا بنفس الظهور والاستيلاء عليها من غير أن [ينشئ] (أ) الإمام وقفها، وهو مذهب مالك، وعن أحمد رواية ثالثة أنه يقسمها بين الغانمين كما يقسم بينهم المنقول إلا أن يتركوا حقهم منها، وهو مذهب الشافعي بناء من الشافعي أن آية "الأنفال" وآية "الحشر" متواردتان، وأن الجميع يسمى فيئًا وغنيمة، ولكنه يرد عليه أن ظاهر سوق آيات "الحشر" أن الفيء غير الغنيمة، وأن له مصرفًا [عاما] (ب)، ولذلك قال عمر رضي الله عنه (¬1): إنها عمت الناس بقوله: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ} (¬2) ولا [يبقى حق] (جـ) لمن جاء من بعدهم إلا إذا بقيت محتبسة للمسلمين، إذ لو استحقها المباشرون للقتال وقسمت بينهم توارثها ورثة أولئك، وكانت القرية والبلد تصير إلى امرأة واحدة أو صبي صغير. وأجاب البيهقي (¬3) بأن عمر رضي الله عنه قسم أرض خيبر لما أجلاهم، وقال: من كان له سهم من خيبر فليحضر حتى [نقسمها] (د) بينهم. ثم ¬

_ (أ) في جـ: بين. والمثبت من زاد المعاد 3/ 433. (ب) في جـ: خاصا. والمثبت من نيل الأوطار 8/ 19. (جـ) في جـ: ينقى حض. والمثبت ما يقتضيه السياق، ويوافق ما في نيل الأوطار 8/ 19. (د) في جـ: يقسمها. والمثبت من مصدر التخريج.

قسمها عمر رضي الله عنه بين من شهد خيبر من أهل الحديبية. وما فعله عمر رضي الله عنه في قصة بلال، فإنما فعل ذلك لما رآه من المصلحة، ودعا عليهم حيث خالفوه. ثم قال: وقد روينا في كتاب القسم في فتح مصر أنه رأى ذلك ورأى الزبير بن العوام قسمتها كما قسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خيبر. وأخرج البيهقي (¬1) عن أسلم، قال: سمعت عمر رضي الله عنه يقول: لولا أني أترك الناس ببَّانا -بموحدتين الثانية ثقيلة وبعد الألف نون- أي فقراء معدمين لا شيء لهم- ما فتحت قرية إلا قسمناها كما قسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خيبر. ويجاب عنه بأن العمل بالآية الكريمة أولى لاحتمال ما عداها، وهو لا يمكن العمل بها إلا مع وقف الأرض للانتفاع بغلتها. وقال أبو حنيفة (¬2): الإمام مخير بين القسمة بين الغانمين، أو يقرها لأربابها على خراج، أو ينتزعها منهم ويقرها مع آخرين بالخراج. وذهبت الهدوية إلى أنه يفعل فيها الأصلح من وجوه أربعة؛ إما القسمة بين الغانمين، أو أن يتركها لأهلها على خراج، أو يتركها على مقاتلة من عليها، أو يمن بها عليهم. وقالوا: وقد فعل مثل ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم -. والله سبحانه أعلم. 1075 - وعن جبير بن مطعم رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في أسارى بدر: "لو كان المطعم بن عدي حيًّا ثم كلمني في هؤلاء النتنى لتركتهم له". رواه البخاري (¬3). ¬

_ (¬1) البيهقي 9/ 138. (¬2) زاد المعاد 3/ 433. (¬3) البخاري، كتاب فرض الخمس، باب ما من النبي - صلى الله عليه وسلم - على الأسارى من غير أن يخمس 6/ 243 ح 3139.

المطعم بن عدي والد جبير، و"النتنى" جمع نتن بالنون والتاء المثناة من فوق، والمراد به أسارى بدر، وصفهم بالنتن لما هم عليه من الشرك، كما وصفوا بالنجس. وقوله: "لتركتهم له". يعني بغير فداء، وبين السبب في ذلك ابن شاهين (¬1)، وأنه كان له يد، وذلك ما وقع منه حين رجع النبي - صلى الله عليه وسلم - من الطائف ودخل في جوار المطعم بن عدي، وقد ذكر ابن إسحاق (¬2) القصة في ذلك مبسوطة وكذلك الفاكهي (1) بإسناد حسن مرسل، وأن المطعم أمر أولاده الأربعة فلبسوا السلاح وقام كل واحد منهم عند ركن من الكعبة، فبلغ ذلك قريشًا، فقالوا له: أنت الرجل الذي لا تخفر ذمتك. وقيل: إن اليد التي له هي أنه كان من أشد من سعى في نقض الصحيفة التي كتبتها قريش في قطيعة بني هاشم ومن معهم من المسلمين حتى حصروهم في الشعب. وروى الطبراني (1) عن جبير قال: مات المطعم بن عدي قبل وقعة بدر، وله بضع وتسعون سنة. وذكر الفاكهي (1) بإسناد مرسل أن حسان بن ثابت رثاه لما مات؛ مجازاة له على ما صنع للنبي - صلى الله عليه وسلم -. 1076 - وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: أصبنا سبايا يوم أوطاس لهن أزواج، فتحرجوا، فأنزل الله تعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ ¬

_ (¬1) الفتح 7/ 324. (¬2) سيرة ابن هشام 1/ 381.

إلا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} (¬1) الآية. أخرجه مسلم (¬2). قوله: يوم أوطاس. أوطاس، قال القاضي عياض (¬3): هو وادٍ في ديار هوازن، وهو موضع قرب حنين. قال المصنف (¬4) رحمه الله تعالى: والراجح أن وادي أوطاس هو وادي حنين، ويوضح ذلك ما ذكر ابن إسحاق أن الوقعة كانت في وادي حنين، وأن هوازن لما انهزموا صارت طائفة منهم إلى الطائف، وطائفة إلى بَجيلة، وطائفة إلى أوطاس. وقال أبو عبيد البكري (¬5): أوطاس واد في ديار هوازن. والحديث فيه دلالة على أنه ينفسخ نكاح المسبية بالسبي، فيكون الاستثناء في الآية متصلًا، وقد ذهب إلى هذا الشافعي، وهو مذهب الهدوية، وظاهره سواء سبي معها زوجها أو لا، وذهب أبو حنيفة إلى أنه إن سبي معها زوجها لم ينفسخ النكاح، وإن سبيت وحدها انفسخ النكاح، نظرًا من أبي حنيفة أن الموجب للفسخ اختلاف الدار لا طروء الملك، وعن مالك قولان؛ أحدهما: أن السبي يوجب الفسخ مطلقًا كمذهب الشافعي. والثاني: لا يوجب الفسخ مطلقًا. والحديث وظاهر الآية المفسرة بالحديث المبين لسبب نزولها حجة للشافعي، وفيه دلالة على جواز الوطء ولو قبل الإسلام، سواء كانت كتابية أو وثنية، فالآية الكريمة عامة، وقصة [سبايا] (أ) أوطاس لم يذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - ¬

_ (أ) في جـ: سبيا. والمثبت يقتضيه السياق.

عرض الإسلام عليهن، مع أن تأخير البيان عن وقت الحاجة ممتنع، وهم حديثو عهد بالإسلام، يبعد عن جميع الغانمين معرفة اشتراط إسلامهن؛ والسبايا عدة ألوف أصابهن السبي على كره بعد قتال الرجال وتشريدهم والإخراج من ديارهم، بيعد منهن المسارعة إلى الإسلام غاية البعد، وكذلك ما رواه الترمذي (¬1) عن عرباض بن سارية أن [النبي] (أ) - صلى الله عليه وسلم - حرم وطء السبايا حتى يضعن ما في بطونهن. فجعل للتحريم غاية واحدة، وهي وضع الحمل، ولو كان متوقفًا على الإسلام لبينه. وما أخرجه أبو داود في "السنن" وأحمد في "المسند" (¬2) مرفوعًا: "لا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يقع على امرأة من السبي حتى يستبرئها". ولم يذكر الإسلام، وما أخرجه أحمد (¬3): "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا ينكحن شيئًا من السبايا حتى تحيض حيضة". ولم يذكر الإسلام، ولم يعرف ذكر اشتراط الإسلام في المسبية في موضع واحد البتة. وقد ذهب إلى هذا طاوس وغيره، واسترجحه صاحب "المغني" (¬4) من الحنابلة ورجح أدلته، وذهب الشافعي وغيره من الأئمة إلى أنه لا يجوز وطء المسبية بالملك حتى تسلم إذا لم تكن كتابية، وسبايا أوطاس هن وثنيات، فلا بد من التأويل بأن حلهن بعد الإسلام. ويرد عليه ما عرفت، والله سبحانه وتعالى أعلم. ¬

_ (أ) ساقط من: جـ.

1077 - وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سرية وأنا فيهم قبل نجد، فغنموا إبلا كثيرة، فكانت سهمانهم اثني عشر بعيرًا، ونفلوا بعيرًا بعيرًا. متفق عليه (¬1). قوله. سرية. هي بفتح السين المهملة وكسر الراء وتشديد الياء التحتانية، وهي التي تخرج بالليل، والسارية التي تخرج بالنهار، وقيل: سميت بذلك لأنها تخفي ذهابها، وهذا يقتضي أنها مأخوذة من الستر، وليس كذلك لاختلاف المادة، والسرية قطعة من الجيش تخرج منه وتعود إليه، وهي من مائة إلى خمسمائة، وما زاد على خمسمائة يقال له: منسر. بالنون ثم المهملة، فإن زاد على ثمانمائة سمي جيشًا، وما بينهما يسمى هبطة، فإن زاد على أربعة آلاف يسمى جحفلًا، فإن زاد فجيش جرار، والخميس الجيش العظيم، وما افترق من السرية يسمى بعثًا، والعشرة فما دونها تسمى حفيرة، والأربعون عصبة، وإلى ثلاثمائة تسمى مقنبًا بقاف ونون ثم باء موحدة، فإن زاد سمى جمرة بالجيم، والكتيبة ما اجتمع ولم ينتشر. وهذه السرية ذكرها البخاري بعد غزوة الطائف، والذي ذكره أهل المغازي أنها كانت قبل التوجه لفتح مكة، فقال ابن سعد (¬2): أنها كانت في شعبان سنة ثمان. وذكر غيره أنها كانت قبل مؤتة، ومؤتة كانت في جمادى سنة ثمان، وقيل كانت في رمضان، قالوا: وكان أبو قتادة أميرها، وكانوا ¬

_ (¬1) البخاري، كتاب فرض الخمس، باب ومن الدليل على أن الخمس لنوائب المسلمين ... 6/ 237 ح 3134، ومسلم، كتاب الجهاد والسير، باب الأنفال 3/ 1368 ح 1749. (¬2) ابن سعد 2/ 132.

خمسة وعشرين، وغنموا من غطفان بأرض محارب مائتي بعير وألفي شاة، ولكنه لا يستقيم قسمة السهمان المذكورة على هذا القدر فتنبه. وقوله: قبل نجد. بكسر القاف وفتح الموحدة أي جهتها. وقوله: إبلًا كثيرة. في رواية مسلم (¬1): فأصبنا إبلًا وغنمًا. وقوله: وكانت سهمانهم. أي أنصباؤهم، والمراد به: بلغ نصيب كل واحد منهم هذا القدر. وقوله: اثني عشر بعيرًا. جاء في رواية "الموطأ" عند أكثر رواته (¬2): اثني عشر أو أحد عشر. بالشك، ولم يروه بغير شك إلا الوليد بن مسلم، فإنه رواه عن شعيب ومالك (¬3) بغير شك، وكأنه حمل [رواية] (أ) مالك على رواية شعيب، وأبو داود (¬4) رواه عن مالك والليث بغير شك، وأما عن نافع فرواه أصحابه من غير شك إلا مالكًا (¬5). قوله: ونفلوا. بصيغة الماضي المجهول، والنفل زيادة يزادها الغازي على نصيبه من المغنم، وفي رواية ابن إسحاق (¬6) أن التنفيل كان من الأمير، قبل أن ¬

_ (أ) سقط من: جـ. والمثبت يقتضيه السياق.

يصلوا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، والقسم كان بعد الوصول إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، قسم ذلك بينهم وبين الجيش؛ لأن الجيش إذا انفرد منه قطعة فغنمت كانت الغنيمة للجميع، وذلك حيث كانت الغنيمة بقوة رد الجيش مع قرب الجيش إذا كانوا بحيث يلحقهم غوثه لو احتاجوا، وظاهر رواية الليث عن نافع عند مسلم (¬1): أن ذلك كان من أمير الجيش؛ التنفيل والقسم، والنبي - صلى الله عليه وسلم - مقرر لذلك؛ لأنه قال: ولم يغيره النبي - صلى الله عليه وسلم -. وعند مسلم (¬2) في رواية عبيد (أ) الله بن عمر: ونفلنا رسول الله بعيرًا بعيرًا. قال النووي (¬3): نسب إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - لما كان مقررًا لذلك، وفي رواية أبي داود (¬4) عن ابن إسحاق بلفظ: فأصبنا نعمًا كثيرًا، وأعطانا أميرنا بعيرًا بعيرًا لكل إنسان، ثم قدمنا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقسم بيننا غنيمتنا، فأصاب كل رجل اثني عشر بعيرًا بعد الخمس. وأخرجه أبو داود (¬5) من طريق أخرى ولفظه: بعثنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في جيش قبل نجد، وانبعثت سرية من الجيش، فكان سُهمان الجيش اثني عشر بعيرًا اثني عشر بعيرًا، ونفل أهل السرية بعيرًا بعيرًا، فكانت سهمانهم ثلاثة عشر بعيرًا ثلاثة عشر بعيرًا. وأخرجه ابن عبد البر (¬6) من هذا الوجه، وقال في روايته: إن ذلك الجيش أربعة آلاف. ويمكن ¬

_ (أ) في جـ: عبد. والمثبت هو الصواب، وينظر مصدر التخريج.

الجمع بين هذه الروايات بأن التنفيل كان من الأمير قبل الوصول إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، ثم بعد الوصول إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - قسم النبي - صلى الله عليه وسلم - على الجيش، وأن قسم السرية تولى قبضه وحمله الأمير، وقسم ذلك على أصحابه، فمن نسب ذلك إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فلكونه الذي قسم أولًا، ومن نسب ذلك إلى الأمير فباعتبار أنه تولى ذلك لأصحابه آخرًا، وفي هذا دلالة على شرعية التنفيل، إلا أن عمرو بن شعيب (¬1) قال: إن هذا يختص بالنبي - صلى الله عليه وسلم - دون من بعده. وكره مالك أن يكون التنفيل بشرط من الأمير بأن يقول: من فعل كذا فله نفل كذا. قال: لأنه يكون القتال للدنيا. قال: فلا يجوز. واختلف العلماء في النفل، هل يكون من أصل الغنيمة أم من غيرها من الخمس أو من خمس الخمس، أو مما عدا الخمس؟ والأصح عند الشافعية أن ذلك من خمس الخمس، ونقله منذر بن سعيد عن مالك، وهو شاذ عندهم، وقال الأوزاعي وأحمد وأبو ثور وغيرهم: النفل من أصل الغنيمة. وقال مالك وطائفة: لا نفل إلا من الخمس. وقال الخطابي (¬2): أكثر ما روي من الأخبار يدل على أن النفل من أصل الغنيمة. والذي يقرب من حديث الباب أنه من الخمس، وروى مالك (¬3) أيضًا عن أبي الزناد، أنه سمع سعيد بن المسيب قال: كان الناس يعطون النفل من الخمس. قال المصنف (¬4) رحمه الله تعالى: وظاهره اتفاق الصحابة على ذلك. وقال ابن عبد البر (¬5): إن أراد الإمام ¬

_ (¬1) الفتح 6/ 240. (¬2) معالم السننن 2/ 311 بنحوه. (¬3) الموطأ 2/ 456. (¬4) الفتح 6/ 241. (¬5) التمهيد 14/ 50.

تفضيل بعض الجيش لمصلحة فيه، فذلك من الخمس، وإن انفردت قطعة وأراد أن ينفلها، فذلك من غير الخصر بشرط ألا يزيد على الثلث. انتهى. وهذا الشرط قاله الجمهور، وقال الشافعي: هو راجع إلى ما يراه الإمام من الصلاح، ويدل على ذلك قوله تعالى: {قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} (¬1)، ففوض إليه أمرها، وظاهر الحديث إذا كان النفل من أصل الغنيمة أنه لا خمس فيه. 1078 - وعنه رضي الله عنه قال: قسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم خيبر للفرس سهمين وللراجل سهما. متفق عليه (¬2) واللفظ للبخاري. ولأبي داود (¬3): أسهم لرجل ولفرسه ثلاثة أسهم؛ سهمين لفرسه وسهما له. تمام حديث البخاري، قال: فسره نافع فقال: إذا كان مع الرجل فرس فله ثلاثة أسهم، وإن لم يكن له فرس فله سهم. وقد رواه البخاري (¬4) بطريق أخرى: أنه جعل للفرس سهمين ولصاحبه سهمًا. وهذه الرواية موافقة لتفسير نافع. والحديث فيه دلالة على أن سهم الفرس اثنان من غير سهم صاحبها، ¬

_ (¬1) الآية 1 من سورة الأنفال. (¬2) البخاري، كتاب المغازي، باب غزوة خيبر 7/ 484 ح 4228، ومسلم، كتاب الجهاد والسير، باب كيفية قسم الغنيمة بين الحاضرين 3/ 1383 ح 1762. (¬3) أبو داود، كتاب الجهاد، باب في سهمان الخيل 3/ 75، 76 ح 2733. (¬4) البخاري 7/ 67 ح 2863.

و [رواية أبي] (أ) داود موافقة لذلك، وكلها عن عبيد الله العمري، وقد ذهب إلى هذا الناصر والقاسم ومالك والشافعي، وذهب أبو حنيفة والهادي إلى أن الفرس لها سهم ولصاحبها سهم، محتجين بما أخرجه أبو داود (¬1) من حديث مجمع بن جارية -بالجيم والياء التحتانية- في قصة خيبر في حديث طويل، قال: فأعطى للفارس سهمين وللراجل سهما. وأجيب بأن ما رواه البخاري مقدم، لا سيما مع ضعف حديث أبي داود، وقد يؤيد بما أخرجه الدارقطني (¬2) من حديث أبي بكر بن أبي شيبة بلفظ: أسهم للفارس سهمين. قال الدارقطني عن شيخه أبي بكر النيسابوري: إنه وهم فيه الرمادي أو شيخه مع أن ابن أبي شيبة رواه في "مصنفه" (¬3) بهذا الإسناد بلفظ: للفرس. وكذلك أخرجه ابن أبي عاصم (¬4) في كتاب "الجهاد" له بلفظ: أسهم للفرس. فيحمل قوله: أسهم للفارس سهمين. أي: أسهم للفارس سهمين بسبب فرسه غير سهمه المختص به، والجمع بين [الروايات] (ب) ما أمكن هو الواجب، لا سيما مع كون الرواية الأولى أثبت، وهي متضمنة لزيادة علم، وقد أخرج أبو داود (¬5) من حديث أبي ¬

_ (أ) ساقط من: جـ. والمثبت يقتضيه السياق. (ب) في جـ: الرواية. والمثبت يقتضيه السياق.

عمرة، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أعطى للفرس سهمين ولكل إنسان سهمًا، فكان للفارس ثلاثة أسهم. وأخرج النسائي (¬1) من حديث الزبير، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ضرب له أربعة أسهم؛ سهمين لفرسه، وسهما له، وسهما لقرابته. وقد نقل عن أبي حنيفة أنه كره أن تفضل بهيمة على مسلم، وهذه شبهة ضعيفة لا تعارض النصوص، مع [أن] (أ) السهام في الحقيقة كلها للرجل، مع أن المعنى المقتضي لتضعيف سهم الفرس واضح، وهو أن الفرس يحتاج إلى مؤنة [لخدمتها] (ب) وعلفها، وبأنه يحصل [بها] (جـ) من الإرهاب في الحرب ما لا يخفى، وقد روي عن علي وعمر وأبي موسى مثل قول أبي حنيفة (¬2)، لكن الثابت عن علي وعمر مثل القول الأول (¬3). وإن حضر بفرسين، فقال الليث وأبو يوسف وأحمد وإسحاق (¬4): يسهم لهما أربعة أسهم. وقد أخرج الدارقطني (¬5) بإسناد ضعيف عن أبي [عمرة] (د) قال: أسهم لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لفرسيّ أربعة أسهم، ولي سهمًا، فأخذت خمسة أسهم. وذهب الجمهور إلى أنه لا يسهم إلا لفرس واحدة، وهو قول مالك، وأما لأكثر من ¬

_ (أ) ساقط من: جـ. والمثبت يقتضيه السياق. (ب) في جـ: بخدمتها. والمثبت من الفتح 6/ 68. (جـ) في جـ: لها. والمثبت من الفتح. (د) في جـ: هريرة. والمثبت من الفتح 6/ 68 ومصدر التخريج.

فرسين فإجماع، وإذا مات الفرس قبل حضور القتال، فقال مالك: يسهم لها. وقال الجمهور: لا يسهم لها إلا إذا حضر بها القتال. وإذا مات الفرس في الحرب استحق صاحبه، وإن مات صاحبه استحق الورثة. وعن الأوزاعي فيمن وصل إلى موضع القتال فباع فرسه: يسهم له، لكن يستحق البائع مما غنموا قبل البيع، والمشتري مما بعده، وما اشتبه قسم. وقال غيره: يوقف حتى يصطلحا. ولو اشترى فرسًا في دار العدو قد دخل إليها راجلًا؛ فقال أبو حنيفة: لا يسهم له إلا سهم. ومن غزا في البحر ومعه فرس، فقال الأوزاعي والشافعي: يسهم للفرس. والفرس يشمل العربي والهجين، والمراد بالهجين ما يكون أحد أبويه عربيًّا والآخر غير عربي. وقيل: الهجين الذي أبوه فقط عربي، وأما الذي أمه عربية فقط فيسمى المقرِف. وعن أحمد: الهجين البرذون. وفي "المراسيل" (¬1) لأبي [داود] (ب) عن مكحول، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - هجن الهجين يوم [خيبر] (جـ)، وعرب العراب، فجعل للعربي سهمين والهجين سهمًا. وهو منقطع، وقد أخرجه الشافعي (¬2) عن عمر في قصة مشورة المنذر الوادعي، ولكنه منقطع، وقد أخذ بهذا أحمد، وعنه رواية كغيره من العلماء، وعنه: إن فعلت البراذين ما تفعله الخيل سوّى بينهما وإلا فضلت العربية. وعن الليث: يسهم للبراذين والهجين دون سهم الفرس. 1079 - وعن معن بن يزيد قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ¬

_ (أ) في جـ: ذر، والمثبت من الفتح 6/ 67. (ب) في جـ: حنين. والمثبت من الفتح ومصدر التخريج.

"لا نفل إلا بعد الخمس". رواه أحمد وأبو داود وصححه الطحاوي (¬1). هو أبو يزيد معن بن يزيد بن الأخنس (¬2) -بفتح الهمزة وسكون الخاء المعجمة وفتح النون وبالسين المهملة- من بني بهثة -بضم الباء الموحدة وبالثاء المثلثة- بن سليم -بضم السين وفتح اللام- السلمي، له ولأبيه ولجده صحبة، شهدوا بدرًا فيما قيل، ولا يعلم أنه اتفق من شهد هو وأبوه وجده بدرًا غيرهم، وقيل: لا يصح شهوده بدرا. يعد في الكوفيين، روى عنه أبو جوصرية الجَرْمى ووائل بن كليب. وقوله: "لا نفل". النفل: بفتح النون والفاء: الغنيمة، والمراد به هنا ما يزيده الإمام لمن شاء من الغانمين على نصيبه، وقد اتفق العلماء على جواز ذلك، واختلفوا من أي شيء يكون النفل وفي مقداره، وهل يجوز الوعد به قبل الحرب؟ وظاهر الحديث أن النفل إنما يكون بعد تخميس الغنيمة، ولك (¬3) فيه احتمال أن يكون النفل من الخمس أو يكون من أصل الغنيمة قبل أن تقسم، فقال مالك وغيره: إن النفل إنما يكون من الخمس. وقد روى هذا الشافعي (¬4) عن مالك عن أبي الزناد عن سعيد بن المسيب، قال: ما كانوا ينفلون إلا من الخمس. وذهب الشافعي وغيره إلى أنه يكون من خمس الخمس الذي هو حظ الإمام، وذهب أحمد وأبو عبيد وغيرهم إلى أن ¬

_ (¬1) أحمد 3/ 470، وأبو داود، كتاب الجهاد، باب النفل من الذهب ... 3/ 82 ح 2753، والطحاوي في شرح المعاني 3/ 242. (¬2) ينظر الإصابة 6/ 192. (¬3) كذا في جـ، ولعل الصواب: لكن. (¬4) الأم 4/ 143.

التنفيل يكون من جملة الغنيمة، والسبب في الاختلاف أن قوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ} (¬1) يدل على أن الغنيمة قد صارت ملكًا للغانمين، فلا يجوز التنفيل منها، وإنَّما يكون من الخمس، وقوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ} (¬2) الآية. أن للنبي - صلى الله عليه وسلم - التصرف في الغنيمة، فمن قال: إن قوله: {وَاعْلَمُوا}. ناسخ لقوله: {قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} (2). قال: لا يكون النفل إلَّا من الخمس. ومن قال: إن الآية الأولى غير منسوخة. قال: إن التنفيل إلى رأي الرسول، له أن ينفل وله ألا ينفل، وكذلك ما تقدم من حديث ابن عمر (¬3)، أنَّه كان كل سهم اثني عشر بعيرًا، و [نفلوا] (أ) بعيرًا بعيرًا، فيه دلالة على أن النفل كان من الخمس، إذ لا فائدة في التنفيل إذا كان التنفيل لجميع العسكر، إلَّا أن يقال: إن التنفيل اختص ببعضهم وهم السرية، وحديث حبيب بن مسلمة الآتي، أن رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم - كان ينقُل الربع للسرايا بعد الخمس في البدأة، وينفلهم الثُّلث بعد الخمس في الرجعة. يعني في بدأة غزوه وفي انصرافه، فظاهره أن التنفيل من غير الخمس، وأنه لبعض العسكر؛ [لأنه] (ب) جعل ذلك للسرايا، وأمَّا المقدار فالذين أجازوا التنفيل من رأس الغنيمة قال بعضهم: لا يجوز أن ينفل أكثر من الثُّلث أو الربع، كما دل عليه حديث حبيب بن مسلمة. وقال بعضهم: ¬

_ (أ) في جـ: نفلون. (ب) في جـ: لأنَّ. والمثبت يقتضيه السياق.

للإمام أن ينفل السرية جميع ما غنمت نظرًا إلى ظاهر قوله تعالى: {قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ}. وقد روى [الحكم] (أ) (¬1) من طريق عمرو بن شعيب، عن أبيه، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان ينفل قبل أن تنزل فريضة الخمس من المغنم. الحديث. وهو مرسل. والله أعلم. 1080 - وعن حبيب بن مسلمة رضي الله عنه قال: شهدت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نفل الربع في البدأة والثلث في الرجعة. رواه أبو داود وصححه ابن الجارود وابن حبان والحاكم (¬2). هو أبو عبد الرحمن حبيب بن مسلمة بن مالك القرشي الفهري (¬3)، و (ب) يقال له: حبيب الروم. لكثرة مجاهدته إياهم، ولاه عمر بن الخطاب أعمال الجزيرة إذ عزل عنها عياض بن غنم، وضم [إلى] (جـ) حبيب أرمينية وأذربيجان، وكان فاضلًا مجاب الدعوة، مات بالشام، ويقال: بأرمينية، سنة اثنتين وأربعين، وروى عنه عبد الرحمن بن أميَّة الضمري وابن أبي مليكة. وحبيب بالحاء المهملة المفتوحة وباءين موحدتين بينهما ياء تحتية، ¬

_ (أ) في جـ: الحاكم. والمثبت من مصدر التخريج، وينظر تهذيب الكمال 7/ 114. (ب) زاد في جـ: قال. والمثبت يقتضيه السياق. (جـ) في جـ: ابن. والمثبت يقتضيه السياق.

ومسلمة بفتح الميم واللام. الحديث أخرج نحوه التِّرمذيُّ وابن ماجه وابن حبان (¬1) في "صحيحه" عن عبادة بن الصَّامت. وقد فسر الخطابي (¬2) الحديث بما حاصله أن السرية إذا ابتدأت السَّفر نفلها الربع، فإذا أقفلوا ثم رجعوا إلى العدو ثانية كان لهم الثُّلث؛ لأنَّ نهوضهم بعد القفول أشق عليهم وأخطر، وفيه دلالة على أن التنفيل من الغنيمة، وأن التنفيل يكون إلى نظر الإمام يفعله لمصلحة. 1081 - وعن ابن عمر - رضي الله عنهما - رضي الله عنهما قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينفل بعض من يبعث من السرايا لأنفسهم خاصة، سوى قسمة عامة الجيش. متفَّق عليه (¬3). 1082 - وعنه قال: كُنَّا نصيب في مغازينا العسل والعنب فنأكله ولا نرفعه. رواه البُخاريّ (¬4). ولأبي داود (¬5): فلم يؤخذ منهم الخمس. وصححه ابن حبان (¬6). قوله: ينفل بعض من يبعث ... إلخ. فيه دلالة على أن التنفيل ليس واجبًا بل ذلك جائز واقف أيضًا على حسب ما يراه من الصلاح. ¬

_ (¬1) التِّرمذيُّ 4/ 110 ح 1561، وابن ماجه 2/ 951 ح 2852، وابن حبان 11/ 193 ح 4855. (¬2) معالم السنن 2/ 312. (¬3) البُخاريّ، كتاب فرض الخمس، باب ومن الدليل على أن الخمس لنوائب المسلمين ... 6/ 237 ح 3135، ومسلم، كتاب الجهاد والسير، باب الأنفال 3/ 1369 ح 1750/ 40. (¬4) البُخاريّ، كتاب فرض الخمس، باب ما يصيب من الطعام 6/ 255 ح 3154. (¬5) أبو داود، كتاب الجهاد، باب في إباحة الطعام في أرض العدو 3/ 65 ح 2701. (¬6) ابن حبان، كتاب السير، باب الغنائم وقسمته 11/ 156، 157 ح 4825.

وقوله: كنا نصيب في مغازينا. الحديث، قد جاء في رواية الإسماعيلي (¬1) بلفظ: كُنَّا نصيب السمن والعسل. وجاء من طريق جرير بن حازم (¬2) في أيوب بلفظ: أصبنا طعامًا وأغنامًا يوم اليرموك فلم يقسم. وللأول حكم المرفوع للتصريح بكونه في زمن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - بخلاف الأخير؛ فإن يوم اليرموك بعد النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -. وقوله: لا نرفعه. أي: ولا نحمله على سبيل الإدخال له، ويحتمل: ولا نرفعه إلى متولي أمر الغنيمة ونستأذنه في أكله اكتفاء منه بما سبق من الإذن. وقد ذهب الجمهور إلى أنَّه (أ) يجوز للغانمين أخذ القوت وما يصلح به، وكل طعام يعتاد أكله عمومًا، وكذلك علف الدواب قبل القسمة سواء كان بإذن الإمام أو بغير إذنه، وذهب قوم إلى أن ذلك غلول لا يجوز. ودليل الجمهور هذا الحديث، وحديث ابن مُغفّل أخرجه البُخاريّ ومسلم (¬3)، قال: أصبت جراب شحم يوم خيبر، فقلت: لا أعطي منه أحدًا. فالتفت فإذا رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم - يبتسم. وهذه الأحاديث مخصصة لأحاديث الغلول، ودليل المانع عموم أحاديث الغلول، ويجاب عنه بالتخصيص. واتفقوا على جواز ركوب دوابهم ولبس ثيابهم واستعمال ¬

_ (أ) بعده في جـ: لا. والكلام لا يستقيم بها.

سلاحهم في حال الحرب ورد ذلك بعد انقضاء الحرب، وشرط الأوزاعي فيه إذن الإمام، وعليه أن يرده كما فرغت حاجته ولا يستعمله في غير الحرب ولا ينتظر برده انقضاء الحرب لئلا يعرضه للهلاك، لحديث رويفع بن ثابت الآتي (¬1) مرفوعًا: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يأخذ دابة من المغنم فيركبها، حتَّى إذا عجفها ردها إلى المغانم". وذكر في الثوب كذلك، وهو حديث حسن أخرجه أبو داود والطحاوي (¬2). ونقل عن أبي يوسف أنَّه حمله على ما إذا كان الآخذ غير محتاج، وقال الزُّهريّ (¬3): لا يأخذ شيئًا من الطَّعام ولا غيره إلا بإذن الإمام. وقال سليمان بن موسى (¬4): له أن يأخذ إلَّا إذا نهى الإمام. وقال مالك: يباح ذبح الأنعام للأكل، كما يجوز أخذ الطَّعام. وقيده الشَّافعي بالضرورة إلى الأكل حيث لا طعام. وقوله: فلم يؤخذ منهم الخمس. فيه دلالة على أنَّه لا يجب تخميس المأكول، والله أعلم. 1083 - وعن عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنه، قال: أصبنا طعامًا يوم خيبر، فكان الرجل يجيء فيأخذ منه مقدار ما يكفيه، ثم ينصرف. أخرجه أبو داود وصححه ابن الجارود والحاكم (¬5). ¬

_ (¬1) سيأتي ح 1084. (¬2) أبو داود 2/ 255 ح 2159، والطحاوي في شرح المعاني 3/ 251. (¬3) عبد الرَّزاق 5/ 179 ح 9297. (¬4) الفتح 6/ 256. (¬5) أبو داود، كتاب الجهاد، باب في النَّهي عن النهبى إذا كان في الطَّعام قلة في أرض العدو 3/ 66 ح 2704، وابن الجارود 3/ 329 ح 1072، والحاكم، كتاب قسم الفيء 2/ 133، 134.

الحديث فيه دلالة على جواز أخذ الطَّعام من المغنم قبل القسمة كما تقدم، وفيه دلالة أيضًا على أن ذلك قبل التخميس. وقد تقدم الكلام عليه قريبًا. 1084 - وعن رويفع بن ثابت رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يركب دابة من فيء المسلمين، حتَّى إذا أعجفها ردها فيه، ولا يلبس ثوبًا من فيء المسلمين، حتَّى إذا أخلقه رده فيه". أخرجه أبو داود، والدارمي (¬1)، ورجاله ثقات لا بأس بهم. الحديث فيه دلالة على أنَّه لا يجوز ركوب الدابة ولا لبس الثوب من المغنم قبل أن يقسم، وظاهره ولو كان محتاجًا إلى ذلك، وإن كان النَّهي محتملًا تقييده بحالة الإعجاف والإخلاق، وأمَّا الركوب الذي لا يضعف الدابة، واللبس الذي لا يخلق الثوب فجائز، وقد تقدم ذكر الخلاف فيه. 1085 - وعن أبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم - يقول: "يجير على المسلمين بعضهم". أخرجه ابن أبي شيبة، وأحمد (¬2)، وفي إسناده ضعف. وللطيالسي (¬3) من حديث عمرو بن العاص: "يجير على المسلمين أدناهم". وفي ¬

_ (¬1) أبو داود، كتاب النكاح، باب في وطء السبايا 2/ 255 ح 2159، والدارمي، كتاب السير، باب النَّهي عن ركوب الدابة من المغنم ولبس الثوب منه 2/ 230. (¬2) ابن أبي شيبة، كتاب السير، باب في أمان المرأة والمملوك 12/ 450، 451، وأحمد 1/ 195. (¬3) الطيالسي 2/ 317 ح 1063.

"الصحيحين" (¬1) عن علي رضي الله عنه: "ذمة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم". زاد ابن ماجه (¬2) من وجه آخر: "ويجير عليهم أقصاهم". وفي "الصحيحين" (¬3) من حديث أم هانئ: "قد أجرنا من أجرت". حديث أبي عبيدة (أ) في إسناده حجاج بن أرطاة، وهو ضعيف، وهو مدلس، وقد رواه معنعنا (ب) عن الوليد بن أبي مالك. وحديث عمرو رواه الطَّيالسيُّ في "مسنده" مرفوعًا، ورواه أحمد (¬4) من حديث أبي هريرة: "يجير على المسلمين أدناهم". ورواه أيضًا من حديث أبي عبيدةَ بلفظ: "يجير على المسلمين بعضهم". وحديث علي متَّفقٌ عليه أنَّه قال: ما عندي إلَّا كتاب الله، وهذه ¬

_ (أ) زاد بعده في جـ: و. والمثبت هو الصواب. (ب) في جـ: معنن. والمثبت هو الصواب.

الصحيفة عن رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم -؛ أن ذمة المسلمين واحدة، فمن أخفر مسلمًا فعليه لعنة الله والملائكة والنّاس أجمعين. وقد تقدم في كتاب الجنايات بأتم من هذا (¬1). وزيادة ابن ماجه من حديث عمرو بن شعيب بلفظ: "يد المسلمين على من سواهم، تتكافأ دماؤهم، ويجير عليهم أدناهم، ويرد عليهم أقصاهم، وهم يد على من سواهم". وحديث أم هانئ رواه التِّرمذيُّ (¬2) بلفظ: "أمنا من أمنت". وقد أجارت الحارث بن هشام وعبد الله بن أبي ربيعة. كذا رواه الحاكم، والأزرقي (¬3)، عن الواقدي. الحديث فيه دلالة على صحة أمان الكافر من كل مسلم، سواء كان ذكرًا أم أنثى، حرًّا أم عبدًا، سواء كان ذلك بإذن من الإمام أو بغيره، فإن قوله في رواية: "بعضهم". شامل لذلك، وكذلك في رواية: "أدناهم". فإن الأدنى نص صريح في الوضيع، والشريف مدلول بمفهوم الفحوى، وقد وقع خلاف في بعض الأطراف، قال ابن المنذر (¬4): أجمع أهل العلم على جواز أمانها إلَّا عبد الملك بن الماجشون وسحنون، فإنهما يقولان: إن ذلك موقوف على إذن الإمام. قالا: وقال على: "أجرنا من أجرت يا أم هانئ". ¬

_ (¬1) تقدم ح 966. (¬2) التِّرمذيُّ 4/ 120، 121 عقب ح 1579. (¬3) الحاكم 4/ 53، 54، والأزرقي في أخبار مكّة 1/ 389، 390. (¬4) الإجماع ص 27.

إنَّما هو إجازة منه لأمانها، فلو لم يؤمن لم يصح أمانها. والجمهور حملوه على النَّبيِّ - صَلَّى الله عليه وسلم - إنَّما أمضى ما قد وقع منها وأنه قد انعقد أمانها، ويؤيّد هذا عموم: "المسلمين". للنساء، كما هو المختار عند بعض أئمة الأصول، أو من باب التغليب لقرينة. والعبد اشترط أبو حنيفة أن يكون قد قاتل، وإلا لم يصح أمانه. وقال سحنون: إن أذن له سيده في القتال صح أمانه، وإلا فلا. قالا: لأنَّ الأمان من شرطه الكمال، والعبد ناقص بالعبودية، فوجب أن يكون للعبودية تأثير في إسقاطه، قياسًا على تأثيرها في إسقاط كثير من الأحكام الشرعيّة، فيخصص العموم بهذا القياس. وأمَّا الصبي، فقال ابن المنذر (¬1): أجمع أهل العلم أن أمان الصبي غير جائز. قال المصنف رحمه الله تعالى (¬2): وكلام غيره يشعر بالتفرقة بين المراهق وغيره، وكذلك المميز الذي يعقل، والخلاف عن المالكية والحنابلة. وأمَّا المجنون فلا يصح أمانه بلا خلاف. وأمَّا الكافر الذهبي، فقال الأوزاعي: إذا غزا مع المسلمين وأمَّن، فإن شاء الإمام أمضاه، وإلا فليرده إلى مأمنه. وأمَّا الأسير في أرض الحرب، فكلام الهدوية أنَّه لا يصح تأمينه، لأنهم قالوا: لا بد أن يكون المؤمن متمنعًا من الكفار. وكذا حكى ابن المنذر (¬3) هذا عن الثوري، فقال: لا يصح تأمين الأسير. فائدة: أم هانئ اختلف في اسمها، فقيل: فاختة. كذا رواه الطّبرانيّ (3) ¬

_ (¬1) الإجماع ص 28. (¬2) الفتح 6/ 274. (¬3) الطبراني 24/ 416 ح 1013.

أنَّه - صلى الله عليه وسلم - قال لها: "مرحبًا بفاختة أم هانئ". وادعى الحاكم (¬1) تواتره. وقال الشَّافعي: اسمها هند. وقيل: فاطمة. حكاه ابن الأثير. وقيل: عاتكة. حكاه ابن حبان وأبو موسى. وقيل: جُمَانة. حكث الزُّبير بن بكار. وقيل: رَمْلة. حكاه ابن البرقي. وقيل: جمانة أختها. وقيل: ابنتها (¬2). 1086 - وعن عمر رضي الله عنه أنَّه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "لأخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب حتَّى لا أدع إلَّا مسلمًا" رواه مسلم (¬3). الحديث فيه دلالة على عزمه - صلى الله عليه وسلم - على إخراج اليهود والنصارى من جزيرة العرب، وأخرجه أحمد والبيهقيّ (¬4) بزيادة: "لئن عشت إلى قابل". ومن المتفق عليه (¬5) عن ابن عباس، أن النَّبيَّ - صَلَّى الله عليه وسلم - أوصى عند موته: "أخرجوا المشركين من جزيرة العرب" الحديث. وأخرج البيهقي (¬6) من حديث مالك، عن إسماعيل بن أبي حكيم، أنَّه سمع عمر بن عبد العزيز يقول: بلغني أنَّه كان من آخر ما تكلم به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنْ قال: "قاتل الله اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، لا يبقين دينان بأرض العرب". وأخرج (6) من حديث مالك، عن ابن شهاب، أن رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم - قال: "لا ¬

_ (¬1) الحاكم 4/ 52. (¬2) أسد الغابة 7/ 404، والإصابة 8/ 317، والتلخيص 4/ 119. (¬3) مسلم، كتاب الجهاد والسير، باب إخراج اليهود والنصارى من جزيرة العرب 3/ 1388 ح 1767. (¬4) أحمد 1/ 32، والبيهقيّ 9/ 207. (¬5) البُخاريّ 6/ 170 ح 3053، ومسلم 3/ 1257 ح 1637/ 20. (¬6) البيهقي 9/ 208.

يجتمع دينان في جزيرة العرب". قال مالك: قال ابن شهاب: ففحص عمر عن ذلك حتَّى أتاه الثَّلج (¬1) واليقين عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال: "لا يجتمع دينان في جزيرة العرب". فأجلى يهود خيبر. قال مالك: وقد أجلى يهود نجران وفدك. وأخرج (¬2) من حديث ابن عباس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تكن قبلتان في بلد واحد". وجزيرة العرب؛ أخرج البيهقي (2) عن سعيد بن عبد العزيز: هي ما بين الوادي -يعني وادي القرى- إلى أقصى اليمن إلى تُخوم العراق إلى البحر. وأخرج (¬3) عن [أبي عبيد، عن] (أ) أبي عبيدة، قال: جزيرة العرب ما بين حَفَر أبي موسى إلى أقصى اليمن في الطول -وحَفَر أبي موسى بفتح الحاء المهملة وفتح الفاء أيضًا، وهو قريب من البصرة- وأمَّا العرض فيما بين رمل يَبرين إلى منقطع السماوة. قال: وقال الأصمعي: جزيرة العرب من أقصى عَدنِ أبْيَنَ إلى ريف العراق في الطول، وأمَّا في العرض فمن جُدة وما والاها من ساحل البحر إلى أطراف الشام. وأخرج (¬4) عن [أبي] (ب) عبد الرحمن المقري، أن جزيرة العرب من لدن القادسية إلى لدن قعر عدن إلى البحرين. ¬

_ (أ) في جـ: ابن. والمثبت من مصدر التخريج. (ب) في جـ: ابن. والمثبت من مصدر التخريج، وهو عبد الله بن في يد القرشي أبو عبد الرحمن المقرئ. ينظر تهذيب الكمال 16/ 318، وتذكرة الحفَّاظ 1/ 367.

وحكي عن مالك أن جزيرة العرب هي المدينة. والصحيح المعروف عن مالك أنها مكّة والمدينة واليمامة واليمن. وقال عبد العزيز بن يَحْيَى المدني (¬1): سمعت مالكًا يقول: جزيرة العرب (أ) المدينة ومكة واليمن، فأمَّا مصر فمن بلاد المغرب، والشام من بلاد الروم، والعراق من بلاد فارس. وفي "القاموس" (¬2): جزيرة العرب ما أحاط به بحر الهند والشام ثم دجلة [والفرات، أو] (ب) ما بين عدن أبين إلى أطراف الشام طولًا، ومن جُدة إلى ريف العراق عرضًا. انتهى. وسميت جزيرة لإحاطة البحار بها -يعني بحر الهند، وبحر القلزم، وبحر فارس، والحبشة- وانقطاعها عن المياه العظيمة. وأصل الجزر في اللغة القطع. وأضيفت إلى العرب، لأنها التي كانت بأيديهم قبل الإسلام، وديارهم التي هي أوطانهم وأوطان أسلافهم. وظاهر هذه الأحاديث يدل على وجوب إخراج اليهود والنصارى من جزيرة العرب. وقد قال بهذا مالك، والشّافعيّ وغيره، إلَّا أن الشَّافعي وغيره كالهدوية خصوا ذلك بالحجاز، وقال الشَّافعي (¬3): وإن سأل من يؤخذ منه الجزية أن يعطيها، ويجرى عليه الحكم، على أن يسكن الحجاز، لم يكن له ذلك، والحجاز مكّة والمدينة واليمامة ومخاليفها كلها. وفي "القاموس" (¬4): ¬

_ (أ) زاد بعده في جـ: من. والمثبت من البيهقي 9/ 209. (ب) في جـ: والعراق و. والمثبت من القاموس المحيط.

الحجاز حجاز مكّة والمدينة والطائف ومخاليفها؛ [لأنها] (أ) حجزت بين نجد وتهامة، أو بين نَجْد والسَّرَاة، أو لأنها احتجزت بالحرار الخمس، حرة بني سُلَيم وواقم وليلى وشَوران والنار. وقال الشَّافعي (¬1): لم أعلم أحدًا أجلى أحدًا من أهل الذمة من اليمن، وقد كانت [بها] (ب) ذمة، وليست اليمن بحجاز، فلا يجليهم أحد من اليمن، ولا بأس أن يصالحهم على مقامهم باليمن. قال البيهقي (¬2): قد جعلوا اليمن من أرض العرب، والجلاء وقع على أهل نجران، وذمة أهل الحجاز دون ذمة أهل اليمن؛ لأنها ليست بحجاز، لا لأنهم لم يروها من أرض العرب، [والجلاء] (جـ) في الحديث تخصيص، وفي حديث أبي عبيدة بن الجراح دليل أو شبه دليل على موضع الخصوص. والله أعلم. انتهى. وقول البيهقي: دليل أو شبه دليل. يعني أن حديث أبي عبيدة أخرجه أحمد والبيهقيّ (¬3) أنَّه قال: آخر ما تكلم به النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "أخرجوا يهود الحجاز وأهل نجران من جزيرة العرب". فيه ذكر بعض أفراد العام، وهو يهود الحجاز محكومًا عليه بما حكم به على العام، وهو [إخراج] (د) اليهود ¬

_ (أ) في جـ: كأنها. والمثبت من القاموس المحيط. (ب) في جـ: لها. والمثبت من الأم. (جـ) ساقطة من: جـ، والمثبت من البيهقي. (د) في جـ: أخرج. والمثبت هو الصواب.

والنصارى من جزيرة العرب، لا يقتضي التخصيص عند الأكثر، وإن كان يقتضيه عند أبي ثور من أصحاب الشَّافعي، فهو دليل عند أبي ثور وشبه دليل عند غيره، إلَّا أن التخصيص متأيد بحديث معاذ لما بعثه النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - إلى اليمن وأمره بتقرير الجزية على كل حاتم دينارًا أو عدله معافريًّا (¬1). وهذا خاص باليمن، وورد بعده حديث الوصيَّة. فعلى مقتضى ما ذهب إليه الشَّافعي، ورجحه كثير من المتأخرين، أن الخاص المتقدم مخصص للعام المتأخر، فهو مخصص لليمن، وهو دليل واضح. ويترجح أيضًا بعمل الخلفاء الراشدين على تقريرهم في اليمن. وأما أهل نجران فإنهم سألوا الجلاء، أو لما قد ورد فيهم بخصوصهم، كما في حديث أبي عبيدة، ولذلك لما أجلاهم عمر رضي الله عنه وأتوا إلى علي رضي الله عنه في خلافته يسألونه العود إلى أرضهم، قال: إن عمر كان رشيد الأمر. أخرجه ابن أبي شيبة (¬2). ولا يبعد أن يكون ترك التعرض لهم في أيَّام الخلفاء الراشدين ومن بعدهم إجماعًا سكوتيًّا متكررًا، ومثله قد يفيد القطع، كما حققه جماعة من أهل الأصول، مع أن حديث الأمر بالإخراج يحتمل أن يكون في حال سكونهم بغير جزية، كما كان عليه أهل خيبر الذين أجلاهم عمر، ولذلك قال عمر لليهود: من كان منكم عنده عهد من رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم - فليأت به، وإلا فإني مجليكم. أخرجه عبد الرَّزاق (¬3). وأمَّا حال إعطاء الجزية فمخالف ذلك كما كان عليه من في اليمن. ¬

_ (¬1) أبو داود 2/ 103، 104 ح 1577، 1578، والترمذي 3/ 20 ح 623، والنَّسائيُّ 5/ 25، 26. (¬2) ابن أبي شيبة 12/ 32. (¬3) عبد الرّزاق 4/ 125، 126 ح 7208.

قال النووي (¬1): قال العلماء رحمهم الله تعالى: ولا يمنع الكفار من التردد مسافرين إلى الحجاز، ولا يمكثون فيه أكثر من ثلاثة أيَّام، قال الشَّافعي وموافقوه: إلَّا مكّة وحرمها فلا يجوز تمكين كافر من دخوله بحال، فإن دخل في خفية وجب إخراجه منها، فإن مات ودفن فيه نبش وأخرج ما لم يتغير. هذا مذهب الشَّافعي وجماهير الفقهاء. وجوز أبو حنيفة دخولهم الحرم. وحجة الجماهير قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} (¬2). انتهى. 1087 - وعنه رضي الله عنه قال: كانت أموال بني النضير ممَّا أفاء الله على رسوله ممَّا لم يوجف عليه المسلمون بخيل ولا ركاب، فكانت للنبي - صلى الله عليه وسلم - خاصة، وكان ينفق على أهله نفقة سنة، وما بقي يجعله في الكراع (¬3) والسلاح عدة في سبيل الله عزَّ وجلَّ. متَّفقٌ عليه (¬4). قوله: أموال بني النضير. بفتح النون وكسر الضَّاد المعجمة، هم قبيلة كثيرة من اليهود، وادعهم النَّبيُّ - صَلَّى الله عليه وسلم - بعد قدومه إلى المدينة على ألا يحاربوه ولا يمالئوا عليه عدوه، ووادع قريظة وقينقاع. وكان بنو النضير منازلهم ونخلهم بناحية المدينة، فنكثوا العهد، وسار منهم كعب بن الأشرف في ¬

_ (¬1) شرح مسلم 1/ 94. (¬2) الآية 28 من سورة التوبة. (¬3) الكراع: اسم لجميع الخيل. النهاية 4/ 165. (¬4) البُخاريّ، كتاب الجهاد، باب المجن ومن يترس بترس صاحبه 6/ 93 ح 2904، ومسلم، كتاب الجهاد والسير، باب حكم الفيء 3/ 1376 ح 1757/ 48.

الأربعين راكبًا إلى قريش، فحالفهم على رأس ستة أشهر من وقعة بدر كما ذكره الزُّهريّ. وذكر ابن إسحاق في "المغازي" (¬1) أن ذلك بعد قصة أحد وبئر معونة، وخرج النبي - صلى الله عليه وسلم - إليهم يستعينهم في دية رجلين قتلهما عمرو بن أميَّة الضمري من بني عامر قد أمنهما النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - ولم يشعر بذلك، فجلس النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - إلى جنب جدار لهم، فتمالئوا على إلقاء صخرة عليه من فوق ذلك الجدار، وقام لذلك عمرو بن جِحَاش بن كعب، فأتاه الخبر من السماء، فقام مظهرًا أنَّه يقضي حاجة، وقال لأصحابه: "لا تبرحوا". ورجع مسرعًا إلى المدينة، فاستبطأه أصحابه، فأُخبروا أنَّه توجه إلى المدينة فلحقوا به، فأمر بحربهم والمسير إليهم، فتحصنوا، فأمر بقطع النخل والتحريق، وحاصرهم ست ليال -في رواية ابن إسحاق- وكان ناس من المنافقين بعثوا إليهم أن اثبتوا وتمنعوا، فإن قوتلتم قاتلنا معكم. فتربصوا، فقذف الله في قلوبهم الرعب فلم [ينصروهم] (أ)، فسألوا أن يجلوا عن أرضهم على أن لهم ما حملت الإبل، فصولحوا على ذلك إلَّا الحَلَقة -بفتح الحاء وفتح اللام، وهو السلاح- فخرجوا إلى أذْرِعاتٍ وأريحا من الشام، وآخرون إلى الحيرة، ولحق آلُ أبي الحُقَيق وآل حيي بن أخطب بخيبر، وكانوا أول من أُجلي من اليهود، كما قال الله تعالى: {لِأَوَّلِ الْحَشْرِ} (¬2). وكانوا من سبط لم يصبهم جلاء، والحشر (ب) الثَّاني من خيبر في أيَّام عمر ¬

_ (أ) في جـ: ينصرهم. والمثبت موافق لمصدري التخريج. (ب) زاد بعده في جـ: و. وبحذفها يستقيم السياق.

رضي الله عنه، وكانت أموال بني النضير خالصة لرسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم -، فقسمها بين المهاجرين لحاجتهم وفقرهم، ولم يعط الأنصار شيئًا إلَّا ثلاثة نفر كانت لهم حاجة، أبو دجانة، وسهل بن حنيف، والحارث بن الصمة. وقوله: مما أفاء الله على رسول. الفيء: ما أخذ بغير قتال، والظاهر أنَّه لا خمس فيه. قال في "نهاية المجتهد" (¬1): وعند الجمهور، لا خمس فيه، وعن الشَّافعي في أحد أقواله، أنَّه يجب فيه الخمس، ولم يقل به غيره. انتهى. وقوله: ممَّا لم يوجف عليه المسلمون. الإيجاف: هو الإسراع في المشي، وذلك لأنَّ أرض بني النضير كانت على ميلين من المدينة، فمشوا إليها رجالًا غير رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم -، فإنه ركب جملًا أو حمارًا، ولم تنل أصحابه مشقة في ذلك. والمعنى أن المسلمين لم يجروا الخيل والإبل في استفتاح بني النضير. وقوله: وكان ينفق على أهله. أي ممَّا استبقاه لنفسه، والمراد أنَّه يعزل لهم نفقة سنة، ولكنه كان ينفقه قبل انقضاء السنة في وجوه الخير، ولا يتم عليه السنة، ولهذا توفى - صلى الله عليه وسلم - ودرعه مرهونة على شعير استدانه لأهله، ولم يشبع ثلاثة أيَّام متوالية. وقد تظاهرت الأحاديث بكثرة جوعه وجوع أهل بيته. وفيه دلالة على جواز ادخار قوت سنة، [وجواز] (أ) الادخار للعيال، ولا يقدح في التوكل. ¬

_ (أ) في جـ: بجواز. والمثبت هو الصواب.

وأجمع العلماء على جواز الادخار ممَّا يستغله الإنسان من أرضه، وأمَّا إذا أراد أن يشتري من السوق ويدخره، فإن كان في وقت ضيق الطَّعام لم يجز، بل يشتري ما لا يحصل به تضييق على المسلمين، كقوت أيَّام أو شهر، وإن كان في وقت سعة اشترى قوت سنة وأكثر. وهذا التفصيل نقله القاضي عياض (¬1) عن أكثر العلماء، وعن قوم إباحته مطلقًا. 1088 - وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: غزونا مع رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم - خيبر فأصبنا فيها غنمًا، فقسم فينا رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم - طائفة، وجعل بقيتها من المغنم. رواه أبو داود (¬2)، ورجاله لا بأس بهم. الحديث فيه دلالة على التنفيل، وأنه من أصل الغنيمة، وقد مر الكلام فيه. 1089 - وعن أبي رافع رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنِّي لا أخيس بالعهد، ولا أحبس الرسل". رواه أبو داود والنَّسائيُّ، وصححه ابن حبان (¬3). قوله: "لا أخيس بالعهد". معناه: لا أنقض العهد ولا أُفسده، من خاس الشيء في الوعاء إذا فسد، ويدل على أن العهد يرعى مع الكفار رعايته ¬

_ (¬1) شرح مسلم 12/ 71. (¬2) أبو داود، كتاب الجهاد، باب في بيع الطَّعام إذا فضل عن النَّاس في أرض العدو 3/ 66، 67 ح 2707. (¬3) أبو داود، كتاب الجهاد، باب في الإمام يُستَجنُّ به في العهود 3/ 83 ح 2758، والنَّسائيُّ في الكبرى، كتاب السير، باب حمل الرءوس 5/ 205 ح 8674، وابن حبان، كتاب السير، باب الموادعة والمهادنة 11/ 233 ح 4877.

مع المسلم. ومعنى: "ولا أحبس الرسل". أن الرسالة تقتضي جوابًا، والجواب لا يصل إلى المرسل إلَّا على لسان الرسول بعد انصرافه، فكأنه به عقد له العهد مدة غيبته ورجوعه. وفي رواية: "البُرُد". جمع بريد، وهو المستعجل في مشيه. 1090 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -[قال] (أ): "أيما قرية أتيتموها فأقمتم فيها فسهمكم فيها، وأيما قرية عصت الله ورسوله، فإن خمسها لله ولرسوله، ثم هي لكم". رواه مسلم (¬1). قال القاضي عياض (¬2): يحتمل أن يكون المراد بالقرية الأولى هي التي لم يوجف عليها المسلمون بخيل ولا ركاب، بل أجلي عنها أهلها أو صالحوا، فيكون سهمهم فيها -أي حقهم- من العطاء كما يصرف الفيء، ويكون المراد بالثانية ما أخذت عَنوة، فتكون غنيمة، يخرج منها الخمس والباقي للغانمين، وهو معنى قوله: "ثم هي لكم". أي باقيها. وقد احتج به من لم يوجب الخمس في الفيء. قال ابن المنذر (2): لا يعلم أحد قبل الشَّافعي قال بالخمس في الفيء. والله أعلم. ¬

_ (أ) ساقطة من: جـ.

باب الجزية والهدنة

باب الجزية والهدنة مأخوذ من جزأت الشيء إذا قسمته، ثم سهلت الهمزة. وقيل: من الجزاء؛ أي لأنها جزاء تركهم ببلاد الإسلام. أو من الإجزاء؛ لأنها تكفي من توضع عليه في عصمة دمه، وهي تكون مع أهل الذمة، والهدنة هي متاركة أهل الحرب مدة معلومة لمصلحة، واختلف في سنة مشروعيتها، فقيل: في سنة ثمان. وقيل: في سنة تسع. وقد دل قوله تعالى: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ} (¬1) الآية. على أنها لا تؤخذ إلَّا من أهل الكتاب، والمراد بأهل الكتاب اليهود والنصارى بالاتفاق. 1091 - عن عبد الرحمن بن عوف أن النَّبيَّ - صَلَّى الله عليه وسلم - أخذها -يعني الجزية- من مجوس هجر. رواه البُخاريّ، وله طريق في "الموطأ" فيها انقطاع (¬2). الانقطاع: هو ما يذكر قريبًا عن ابن شهاب، أنَّه بلغه ... إلخ. وقد رواه الشَّافعي (¬3) عن مالك. الحديث فيه دلالة على أخذ الجزية من مجوس هجر نصًّا، ويلحق بهم غيرهم من المجوس، وقد ورد فيهم عمومًا، وهو ما أخرجه الشَّافعي (3) من ¬

_ (¬1) الآية 29 من سورة التوبة. (¬2) البُخاريّ، كتاب الجزية والموادعة، باب الجزية والموادعة مع أهل الذمة والحرب 6/ 257 ح 3156، 3157، ومالك، كتاب الزكاة، باب جزية أهل الكتاب والمجوس 1/ 278. (¬3) الأم 4/ 174.

حديث عبد الرحمن، أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ذكر المجوس، فقال: لا أدري كيف أصنع في أمرهم؟ فقال له عبد الرحمن: سمعت رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم - يقول: "سنوا بهم سنة أهل الكتاب". وأخرج الشَّافعي (¬1) أيضًا، عن ابن شهاب، أنَّه بلغه أن رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم - أخذ الجزية من مجوس البحرين، وأن عثمان بن عفَّان رضي الله عنه أخذها من البربر. زاد ابن وهب في روايته أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أخذها من مجوس فارس. قال البيهقي (¬2): وابن شهاب إنما أخذ حديثه هذا عن ابن المسيب، وابن المسيب حسن المرسل، كيف وقد انضم إليه ما تقدم. وأخرجه البيهقي (2) عن ابن المسيب، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخذ الجزية من مجوس [هجر] (أ). وقد أخرج أبو داود والبيهقيّ (¬3)، عن ابن عباس رضي الله عنه قال: جاء رجل من مجوس هجر إلى النَّبيّ - صَلَّى الله عليه وسلم -، فلما خرج قلت له: ما قضى الله ورسوله فيكم؟ قال: شرا. قلت: مه. قال: الإسلام أو القتل. قال عبد الرحمن بن عوف: قبل منهم الجزية. قال ابن عباس: وأخذ النَّاس بقول عبد الرحمن، وتركوا ما سمعت أنا. وأخرج الطّبرانيّ (¬4) عن مسلم ابن العلاء الحضرمي في آخر حديثه بلفظ: "سنوا بالمجوس سنة أهل الكتاب". وأخرج البيهقي (¬5)، عن المغيرة في حديثه الطَّويل مع فارس، وقال فيه: فأمرنا ¬

_ (أ) في جـ: بربر. والمثبت من مصدر التخريج.

نبينا رسول ربنا - صلى الله عليه وسلم - أن نقاتلكم حتَّى تعبدوا الله وحده، أو تؤدوا الجزية. وكان أهل فارس مجوسًا. فهذه الأحاديث تدل على أخذ الجزية من المجوس عربًا كانوا أو عجمًا، وقد ذهب إلى هذا جمهور السلف والخلف، وروي عن الحنفية أنَّه تؤخذ من مجوس المعجم، ولا تؤخذ من مجوس العرب، والحديث دليل عليهم. واختلف العلماء فيمن تؤخذ منه الجزية، فذهب أبو حنيفة والعترة إلى أنها تؤخذ من أهل الكتاب عجمًا كانوا أو عربًا، ومن غير الكتابي العجمي، ولا تقبل من العربي الذي ليس بكتابي، وروى في "البحر" قولًا للشافعي أنَّه تقبل من العربي الذي ليس بكتابي إلَّا القرشي، ولعل حجتهم ما تقدم في حديث بريدة: "فإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى الإسلام، فإن أجابوك وإلا فسلهم الجزية" (¬1). وتخصيص قريش لما ظهر من النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، لم يأخذها من أحد من قريش ولا دعاهم إليها، والمشهور عن الشَّافعي أنها تقبل من أهل الكتاب عجمًا كانوا أو عربًا ومن المجوس، ولا تقبل من غيرهم، وحديث بريدة وارد على من ذهب إلى التّقييد، وقد يجاب عنه بأن حديث بريدة متقدم، وآية "براءة" في قتال المشركين عامة متأخرة في عام الفتح فتكون ناسخة، إلَّا ما ذكر فيها من آية الجزية من أهل الكتاب وحديث المجوس. ولكنه لا يتم الجواب على قول من بنى العام على الخاص مطلقًا، أو يجعل الخاص المتقدم مخصصًا للعام المتأخر، فيلزم الشَّافعي العمل به دون أبي حنيفة، وفي حديث: "سنوا بهم سنة أهل الكتاب". ما يدل على أن المجوس ليسوا أهل كتاب، وقد روى الشَّافعي وعبد الرَّزاق (¬2) وغيرهما ¬

_ (¬1) تقدم ح 1057. (¬2) الشَّافعي في الأم 4/ 173، وعبد الرَّزاق 10/ 327، 328 ح 19262.

بإسناد حسن عن علي رضي الله عنه: كان المجوس أهل كتاب يقرءونه وعلم يدرسونه، فشرب أميرهم الخمر، فوقع على أخته أو علي بنته، فلما أصبح دعا أهل الطمع فأعطاهم، وقال: إن آدم كان ينكح أولاده بناته. فأطاعوه وقتل من خالفه، فأسري على كتابهم وعلى ما في قلوبهم منه، فلم يبق عندهم منه شيء. وروى عبد بن حميد (¬1) في تفسير سورة "البروج" عن علي نحوه، وقال في آخره: فوضع الأخدود لمن خالفه. إلَّا أنَّه يقال بعد أن أسري على كتابهم وعلى ما في قلوبهم من الكتاب: لم يبقوا حينئذ أهل كتاب؛ لأنَّ الظاهر من إطلاق إضافة الأهل إلى الكتاب أن يكون الكتاب معروفًا عندهم معلومة ألفاظه، فلا يدخلوا في عموم الآية؛ ولذلك احتيج إلى الاحتجاج بحديث عبد الرحمن. وقال الإمام يَحْيَى: وأمَّا المتمسكون بصحف إبراهيم وإدريس وزبور داود فلهم حكم الكتابيين في الجزية والمناكحة والذبائح. وقيل: يكونون كالوثني؛ لأنَّ كتبهم لم يكن فيها أحكام بل مواعظ وقصص، فلا حكم لها، وأمَّا الصابئة من النصارى والسامرية من اليهود فلهم حكمهم. وقيل: لا؛ لمخالفتهم كتابهم، وأمَّا عابدو الأفلاك، يعني الأفلاك السبعة فكالوثني. قال الإمام يَحْيَى: ولذراري أهل الكتاب حكمهم في أخذ الجزية وتقريرهم، سواء بدلوا كتبهم أم لا؛ لعموم: {وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} (¬2). انتهى ما رواه في "البحر" عن الإمام يَحْيَى وغيره. ¬

_ (¬1) عبد بن حميد -كما في تخريج أحاديث الكشاف 4/ 183. (¬2) الآية 29 من سورة التوبة.

أخذ الجزية من المشركين

أخذ الجزية من المشركين 1092 - وعن عاصم بن عمر عن أنس، وعن عثمان بن أبي سليمان رضي الله عنهم أن النَّبيَّ - صَلَّى الله عليه وسلم - بعث خالد بن الوليد إلى أكيدر دومة الجندل، فأخذوه، فحقن دمه، وصالحه على الجزية. رواه أبو داود (¬1). هو أبو عمرو عاصم بن عمر بن الخطاب العدوي القرشي، أمه جميلة بنت أخت عاصم بن ثابت. وقيل: ابن بنت عاصم. والأول أكثر، ولد قبل وفاة رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم - بسنتين، وكان وسيمًا جسيمًا، خيرًا فاضلًا، شاعرًا، مات سنة سبعين قبل موت أخيه عبد الله بأربع سنين، وهو جد عمر بن عبد العزيز لأمه، روى عنه أبو أمامة بن سهل بن خيف وعروة بن الزُّبير (¬2). وعثمان هو عثمان بن أبي سليمان بن جبير بن مطعم القرشي المكيِّ، سمع أبا سلمة بن عبد الرحمن، وعامر بن عبد الله بن الزُّبير، وابن أبي مليكة، وروى عنه ابن عيينة وإسماعيل بن أميَّة وابن جريج (¬3). وقوله: بعث خالدا .. إلخ. بعثه النَّبيُّ - صَلَّى الله عليه وسلم - وهو بتبوك إلى أكيدر -مصغرًا- ابن عبد الملك الكندي، قال الشَّافعي رحمه الله تعالى (¬4): الكندي ¬

_ (¬1) أبو داود، كتاب الخراج والإمارة والفيء، باب في أخذ الجزية 3/ 164 ح 3037. (¬2) ينظر تهذيب الكمال 13/ 520. (¬3) ينظر تهذيب الكمال 19/ 384. (¬4) الأم 4/ 173.

والغساني صاحب دومة الجندل، بضم الدال، ويقال: دوماء الجندل بالضم أيضًا. وقال (¬1): "إنك تجده يصيد البقر". فمضى خالد حتَّى إذا كان من حصنه بمبصر العين في ليلة مقمرة أقام، وجاءت بقر الوحش حتَّى حكت قرونها بباب القصر، فخرج إليها أكيدر في جماعة من خاصته، فتلقتهم خيل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخذوا أكيدر، وقتلوا أخاه حسَّان، فحقن رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم - دمه، وكان نصرانيًّا، واستلب خالد حسَّان قباء من ديباج مخوصًا بالذهب وبعث به إلى رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم - وأجار خالد أكيدر من القتل حتَّى يأتي به رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم - على أن يفتح له دومة الجندل ففعل، وصالحه على ألفي بعير وثمانمائة رأس، وأربعمائة درع وأربعمائة رمح، فعزل لرسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم - صفيه خالصًا، ثم قسم الغنيمة وأخرج الخمس، فكان للنبي - صلى الله عليه وسلم -، ثم قسم ما بقي في أصحابه، فصار لكل واحد منهم خمس فرائض، وكان مع خالد أربعمائة فارس ثم قدم به خالد إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فدعاه إلى الإسلام فأبى وأقر بالجزية (¬2). وفيه دلالة على أن الجزية تؤخذ من عربي كتابي، والخلاف فيه لأبي يوسف فقال (¬3): لا يقر العربي على الجزية ولو كان كتابيًّا. قال الشَّافعي (¬4): ولولا أنا نأثم بتمني باطل وددنا أن الذي قاله أبو يوسف كما قال، وألا يجرى صغار على عربي ولكن الله أجل في أعيننا من أن نحب غير ما قضى به. انتهى. ¬

_ (¬1) أي النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -. (¬2) سيرة ابن هشام 2/ 526، والطبقات الكبرى 2/ 166، ودلائل النبوة لأبي نعيم 2/ 526، 527. (¬3) الخراج لأبي يوسف ص 128، 129. (¬4) الأم 7/ 369.

مقدار الجزية

مقدار الجزية 1093 - وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: بعثني رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم - إلى اليمن، فأمرني أن آخذ من كل حالم دينارًا، أو عدله معافريا. أخرجه الثلاثة، وصححه ابن حبان والحاكم (¬1). الحديث أعله ابن حزم (¬2) بالانقطاع، وأن مسروقًا لم يلق معاذًا، وفيه نظر. وقال التِّرمذيُّ: حديث حسن، وذكر أن بعضهم رواه مرسلًا، وأنه أصح. وقال أبو داود (¬3): إنه منكر، قال: وبلغني عن أحمد أنَّه كان ينكر هذا الحديث إنكارًا شديدًا. قال البيهقي (¬4): إنَّما المنكر رواية أبي معاوية عن الأعمش عن إبراهيم عن مسروق عن معاذ، فأمَّا رواية الأعمش عن أبي وائل عن مسروق فإنَّها محفوظة، قورواها عن الأعمش جماعة؛ منهم سفيان الثوري (¬5)، وشعبة (¬6)، ومعمر (¬7)، وجرير (¬8)، وأبو عوانة (8)، ويحيى بن ¬

_ (¬1) أبو داود، كتاب الزكاة، باب في زكاة السائمة 2/ 103، 104 ح 1576، 1577، والترمذي، كتاب الزكاة، باب ما جاء في زكاة البقر 3/ 20 ح 623، والنَّسائيُّ، كتاب الزكاة، باب زكاة البقر 5/ 26، وابن حبان، كتاب السير، باب الذمي والجزية 11/ 244، 245 ح 4886، والحاكم 1/ 398. (¬2) المحلى 5/ 429. (¬3) الذي في السنن 3/ 165 أن قول أبي داود هذا تعليق على حديث عليّ (3040) قال: لئن بقيت نصارى بني تغلب لأقتلن المقاتلة ولأسبين الذرية، فإني كتبت الكتاب بينهم وبين النَّبيِّ - صَلَّى الله عليه وسلم - على أن لا ينصروا أبناءهم. وذكر البيهقي 9/ 193 عن أبي داود هذا التعليق على حديث الباب. (¬4) السنن الكبرى 9/ 193. (¬5) أبو داود 2/ 104 ح 1578. (¬6) الطيالسي 1/ 416 ح 568. (¬7) عبد الرَّزاق 6/ 89، 10/ 330 ح 10099، 19268. (¬8) الشاشي في مسنده 3/ 253 ح 1353.

سعيد"؛ وحفص بن غياث، وقال بعضهم: عن معاذ، وقال بعضهم: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما بعث معاذًا إلى اليمن. أو ما في معناه. والحديث فيه دلالة على تقدير الجزية بالدينار من الذَّهب على كل حالم؛ أي محتلم، والمراد البالغ، سمى البالغ حالًا باعتبار الأغلب، وقد جاء في بعض رواياته بلفظ محتلم، فظاهره: سواء كان غنيًّا أو فقيرًا. وقد ذهب إلى هذا الشَّافعي، قال (¬1): أقل ما يؤخذ من الجزية دينار، ويجوز الصلح بأكثر من ذلك. وذهب العترة وأبو حنيفة وأصحابه إلى أن الجزية تكون من الغني ثمانية وأربعين درهمًا، ومن المتوسط أربعة وعشرين درهمًا، ومن الفقير اثني عشر درهمًا، وذلك كما وضعه عمر على أهل السواد لما بعث عثمان بن خيف (¬2). قال الإمام المهدي: ولم ينكر فكان إجماعًا. وذهب مالك إلى أن القدر الواجب في ذلك إن كانوا من أهل الذَّهب فأربعة دنانير، وإن كانوا من أهل الفضة فأربعون درهمًا، كما فعل عمر (¬3)، وضيافة ثلاثة أيَّام، ومع ذلك أرزاق المسلمين لا يزاد على ذلك ولا ينقص. وقال أحمد بن حنبل: الجزية دينار أو عدله من المعافري لا يزاد عليه ولا ينقص؛ عملًا منه بحديث معاذ، وأن ذلك حد لا يزاد عليه ولا ينقص. والشّافعيّ جعل ذلك حدا في جانب القلة، وأمَّا الزيادة فتجوز كما فعله عمر، وكما أخرجه أبو داود (¬4) من ¬

_ (¬1) الأم 4/ 179. (¬2) ينظر مصنف أبن أبي شيبة 3/ 216، 217، 12/ 241، 242، والبيهقي 6/ 169. (¬3) ينظر الموطأ 1/ 279، والأم 4/ 180، من مصنف عبد الرزاق 6/ 87 ح 10095. (¬4) أبو داود 3/ 165 ح 3041.

حديث ابن عباس، أن النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - صالح أهل نجران على ألفي حلة، النصف في صفر، والنصف في رجب يؤدونها إلى المسلمين، وعارية ثلاثين درعًا، وثلاثين فرسًا، وثلاثين بعيرًا، وثلاثين من كل صنف من أصناف السلاح، يعيرونها المسلمين ضامنين لها حتَّى يردوها عليهم إن كان باليمن كيد. قال الشَّافعي، رحمه الله تعالى (¬1): وقد سمعت أهل العلم من المسلمين ومن أهل الذمة من أهل نجران، يذكر أن قيمة ما أخذ من كل واحد أكثر من دينار، وروى عن عمر أنَّه قال: دينار الجزية اثنا عشر درهمًا. وفي رواية: عشرة دراهم (¬2). فجعل ذلك من باب التقويم، ولعل الذَّهب كان الدينار منه يساوي ما ذكر من الفضة، وحديث معاذ متأيد بأحاديث أخرجها البيهقي (¬3). وقد ذهب البعض أنه لا توقيف في الجزية على حد في القلة ولا في الكثرة، وأن ذلك موكول إلى نظر الإمام، ويجعل هذه الأحاديث محمولة على التخيير والنظر في المصلحة. وقوله: على كل حالم. فيه دلالة على أن الجزية تجب على الذكر دون الأنثى، قال ابن رشد (¬4): اتفقوا على أنها تجب بثلاثة أوصاف؛ الذكورية والبلوغ والحرية. قال: لأنها عوض عن القتل، وهو لا يقتل النساء والصبيان والعبيد، واختلفوا في المجنون والمقعد والشيخ وأهل الصوامع والفقير. قال: وكل هذه مسائل اجتهادية، ليس فيها توقيف شرعي، وسبب اختلافهم هل ¬

_ (¬1) الأم 4/ 179. (¬2) ينظر التلخيص 4/ 127. (¬3) البيهقي 9/ 193، 194. (¬4) الهداية في تخريج أحاديث البداية 6/ 96.

يقتلون أم لا؟ ومثل هذا ما ذكره الإمام المهدي حيث قال: وإنَّما تؤخذ ممن جوز قتله، ولم يحك فيه في "البحر" خلافًا في هذا. وقد أخرج البيهقي (¬1)، عن الحكم بن عتيبة أن النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كتب إلى معاذ باليمن: "على كل حالم أو حالمة دينار أو قيمته". وهو منقطع، وقد وصله أبو شيبة، عن الحكم بن عتيبة، عن مقسم عن ابن عباس رضي الله عنه بلفظ: "فعلى كل حالم دينار أو عدله من المعافر، ذكرًا أو أنثى، حرًّا أو مملوكًا". قال البيهقي (¬2): وأبو شيبة ضعيف. وأخرج من كتاب عمرو بن حزم: "وعلى كل حالم ذكر أو أنثى حر أو عبد دينار واف أو عوضه من الثياب" (2). وفي إسناده انقطاع. وأخرج من حديث عروة نحوه، وفيه انقطاع أيضًا (2). قال الشَّافعي رحمه الله تعالى (¬3): سألت محمد بن خالد وعبد الله بن عمرو بن مسلم وعددًا من علماء أهل اليمن، وكلهم حكوا لي عن عدد مضوا قبلهم يحكون عن عدد مضوا، كلهم ثقة أن صلح النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - لهم كان لأهل ذمة اليمن على دينار كل سنة، ولا يثبتون أن النساء كن فيمن يؤخذ منه الجزية، وقال عامتهم: ولم يؤخذ من زروعهم، وقد كان لهم زروع، ولا من مواشيهم شيئًا علمنا. وقال لي بعضهم؛ قد جاءنا بعض الولاة فخمس زروعهم، فأنكر ذلك عليه، فكل من وصف أخبرني أن عامة ذمة أهل اليمن من حمير. قال: وسألت عددًا كثيرًا من ذمة أهل اليمن متفرقين في بلدان اليمن، كلهم أثبت ¬

_ (¬1) البيهقي 9/ 193، 194. (¬2) البيهقي 9/ 194. (¬3) الأم 4/ 179.

لي لا يختلف قولهم أن معاذًا أخذ منهم دينارًا عن كل بالغ منهم، وسموا البالغ حالمًا، قالوا: وكان في كتاب النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - مع معاذ أن على كل حالم دينارًا. وكذلك روى الشَّافعي (¬1)، عن مطرف بن مازن قال: ليس أن النَّبيَّ - صَلَّى الله عليه وسلم - أخذ من النساء ثابتًا عندنا. وأمَّا ما رواه عبد الرَّزاق (¬2)، عن معمر، عن الأعمش، عن أبي وائل، عن مسروق، عن معاذ أن على كل حالم أو حالمة دينارًا، فمعمر إذا روى عن غير الزُّهريّ يغلط كثيرًا. والله أعلم. وقد حمله ابن خزيمة إن كان محفوظًا على أخذها منها إذا طابت بها نفسًا. وقوله: معافريًّا. بفتح الميم؛ أي ثيابًا منسوبة إلى معافر، وهي بلد باليمن واسم أبي حي بن هَمدان تنسب إليها الثياب، وأعلم أن ظاهر سياق حديث معاذ وحديث بريدة مر أنَّه يجب قبول الجزية ممن بذلها ويحرم قتله، ويفهم من قوله سبحانه وتعالى: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ} (¬3). أن غاية وجوب قتال أهل الكتاب إلى إعطاء الجزية، وينقطع وجوب القتال بذلك، وأمَّا جوازه وعدم قبول الجزية فلا تدل عليهما الآية، إلَّا أنَّه إذا كان الأمر بالقتال مغيًّى بهذه الغاية، فينتفي الأمر عند حصول الغاية، وإذا انتفى الأمر كان محصورًا؛ لأنَّه يرجع إلى التحريم العقلي لإيلام الحيوان، فلا يكون ذلك مباحًا؛ لعدم دليل الإباحة. والله أعلم (¬4). ¬

_ (¬1) الأم 4/ 179. (¬2) عبد الرَّزاق 6/ 89 ح 10099. (¬3) الآية 29 من سورة التوبة. (¬4) بعده في بلوغ المرام ص 295: وعن عائذ بن عمرو المزني عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "الإسلام يعلو ولا يعلى". أخرجه الدارقطني. وليس في المخطوط. وينظر سبل السَّلام 4/ 140.

1094 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم - قال: "لا تبدءوا اليهود والنصارى بالسلام، وإذا لقيتم أحدهم في طريق فاضطروه إلى أضيقه". رواه مسلم (¬1). الحديث فيه دلالة على أنَّه لا يبتدئ المسلمُ اليهوديَّ والنصرانيَّ بالسلام إذا كان منفردًا عن مسلم، وأن النَّهي على ظاهره من اقتضائه التحريم، وقد ذهب إلى هذا أكثر العلماء وعامة السلف، وذهب طائفة إلى جواز الابتداء لهم بالسلام، وروي ذلك عن ابن عباس وأبي أمامة وابن محيريز (¬2). وهو وجه لبعض الشَّافعية، حكاه الماوردي، قال: لكنَّه يقول: السَّلام عليك، ولا يقال: السَّلام عليكم. بالجمع. ويحتج لذلك بعموم قوله تعالى: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} (¬3). وعموم الأحاديث الواردة في (أ) إفشاء السَّلام، ويجاب عن ذلك بأنه عموم مخصوص. وذهب بعض الشَّافعية إلى أنَّه يكره ولا يحرم. ويجاب عنه بأن النَّهي حقيقة في التحريم، وحكى القاضي عياض (¬4) أنَّه يجوز ابتداؤهم به للضرورة والحاجة والسبب. وهو قول علقمة والنخعي. وعن الأوزاعي أنَّه قال: إن سلمت فقد سلم الصالحون، وإن ¬

_ (أ) هنا ينتهي الخرم في مخطوط (ب) المشار إليه في 7/ 295.

تركت فقد ترك الصالحون. وأمَّا إذا كان مع المسلم كافر فيجوز الابتداء بالسلام ويقصد بذلك المسلم، وقد سلم النَّبيُّ - صَلَّى الله عليه وسلم - على مجلس فيه أخلاط من المسلمين والمشركين، وظاهر مفهوم "لا تبدءوا". أنَّه يجوز الجواب عليهم بل يجب، ولعموم قوله تعالى: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ} (¬1). الآية، وقد جاء الأمر بذلك في عدة أحاديث، قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا سلم عليكم أهل الكتاب فقولوا: وعليكم" (¬2). وفي رواية: إن أهل الكتاب يسلمون علينا فكيف نرد عليهم؟ قال: "قولوا: وعليكم" (¬3). وفي رواية: "إن اليهود إذا سلموا عليكم يقول أحدهم: السام عليكم. فقل (أ): عليك" (¬4). وفي رواية: "فقل: وعليك" (¬5). أخرجها مسلم وغير ذلك. وقد اتفق العلماء على الرد على أهل الكتاب إذا سلموا، لكن لا يقال لهم: وعليكم السَّلام، بل يقتصر على: وعليكم. أو بدون الواو فيقول: عليكم. وقد جاء ذلك في روايات (ب) مسلم، وأكثرها بإثبات الواو. وقال الخطابي (¬6): عامة المحدثين يروون هذا الحرف: "وعليكم"، بالواو، وكان ابن عيينة يرويه بغير الواو. قال الخطابي: وهذا هو الصواب؛ لأنَّه إذا حذف الواو صار كلامه بعينه مردودًا عليهم، خاصة وإذ أثبت الواو اقتضى المشاركة معهم فيما قالوه. قال ¬

_ (أ) في جـ: فقولوا. (ب) في جـ: رواية.

النووي (¬1): إثبات الواو وحذفها جائز إن صحت به الروايات، وإن الواو وإن اقتضت المشاركة، فالموت هو علينا وعليهم فلا امتناع. قال القاضي عياض: وقال بعضهم: يقول: عليكم السِّلام. بكسر السِّين؛ أي الحجارة. وهذا ضعيف. فإن النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - لم يقر (أ) عائشة لمَّا قالت في الجواب عليهم: بل عليكم السام واللعنة. قال: "يا عائشة، إن الله يحب الرفق في الأمر كله". فالوقوف على الأدب النبوي والخلق المرضي هو الواجب. وقوله "فاضطروه". فيه دلالة على أنَّه لا يترك للذمي صدر الطريق، بل يُدفع إلى أضيقه إذا كان في الوقت الذي يطرقه المسلمون، فإن خلت الطريق عن الزحمة فلا حرج، ويكون دفعه إلى أضيق الطريق بحيث لا يقع في [وهدة] (ب)، ولا يصدمه جدار ونحوه. والله أعلم. 1096 - وعن المسور بن مخرمة ومروان، أن النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - خرج عام الحديبية. فذكر الحديث بطوله، وفيه: "هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله سهيل بن عمرو على وضع الحرب عشر سنين يأمن فيها الناس ويكف بعضهم عن بعض". أخرجه أبو داود، وأصله في البُخاريّ (¬2). وأخرج مسلم (¬3) بعضه من حديث أنس وفيه: أن من جاء ¬

_ (أ) في ب: يقرر. (ب) في ب، جـ: هذه. والمثبت من شرح مسلم 14/ 147.

منكم لم نردَّه عليكم، ومن جاءكم منا رددتموه علينا. فقالوا: نكتب هذا يا رسول الله؟ قال: "نعم، إنه من ذهب منا إليهم فأبعده الله، ومن جاءنا منهم فسيجعل الله له فرجًا ومخرجًا". الحديث فيه دلالة على جواز مهادنة المسلمين مدة معلومة من غير جزية لمصلحة للمسلمين يراها الإمام، كما وقع في صلح الحديبية، فإنَّه كان على عشر سنين. وفي قوله: "هذا ما صالح" إلى آخره. دليل على أنَّه يجوز أن يكتب في أول الوثائق وكتب الأملاك والصداق والعتاق ونحوها: هذا ما اشترى فلان. أو نحوه. وهذا الذي عليه جمهور العلماء، وعليه عمل المسلمين في جميع الأزمان والبلدان من غير إنكار، وأنه يكتفى (أ) بذكر الاسم المشهور من غير زيادة عليه، خلافًا لمن قال: لا بد من أربعة أسماء، المذكور وأبيه (ب) وجده ونسبه، وأنه يجوز مثل هذا الشرط، وهو أن نرد من جاءنا من الرجال مسلمًا ويكون الرد تخلية (جـ) لا مباشرة كما وقع في القصة المذكورة (د)، وعدم رد النساء لنزول قوله تعالى: {فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ} (¬1). فكانت ناسخة لعموم (هـ رد الجميع هـ)، وقيل: مُخصص. وقيل: إن الصلح إنَّما وقع ¬

_ (أ) في جـ: يكفي. (ب) في جـ: ابنه. (جـ) في جـ: تجلية. (د) ساقط من: ب. (هـ- هـ) في ب: الرد للجميع.

في حق الرجال دون النساء. وطلب قريش رجوع أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط، إنَّما هو إرادة منهم أن يعمموا ذلك في حق الجميع، فأبى الله ذلك وأنزل فيه، وذكر النَّبيُّ - صَلَّى الله عليه وسلم - الحكمة في ذلك بقوله: "إنه من ذهب منا" إلى آخره. فائدة: جاء في هذا الحديث أنَّه كتب الكاتب (أ): "هذا ما قاضى عليه". وفي رواية: "كاتب" (¬1). وفي رواية: "صالح عليه محمد رسول الله" (¬2). فقال سهيل بن عمرو: لو نعلم أنك رسول الله ما كذبناك ولا صددناك عن البيت، اكتب: محمد بن عبد الله. ثم قال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "أرني مكانها". (ب فأراه مكانها ب) فمحاها وكتب: بن عبد الله. فظاهر هذا اللفظ أن النَّبيَّ - صَلَّى الله عليه وسلم - كتب ذلك بيده على ظاهر هذا اللفظ، وهذا لفظ مسلم (¬3). وقد ذكر البُخاريّ (¬4) نحوه، وقال فيه: أخذ رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم - الكتاب وكتب. وزاد في طريق أخرى (¬5): ولا يحسن أن يكتب فكتب. فقيل: إن الله تعالى أجرى ذلك على يده، إما بأن كتب ذلك (جـ) بيده وهو غير عالم بما يكتب، أو ¬

_ (أ) في ب: الكتاب. (ب- ب) ساقط من: جـ. (جـ) زاد بعده في ب: القلم.

أن الله تعالى علمه ذلك حينئذ حتَّى كتب، وجعل هذا زيادة في معجزته، فإنَّه كان أميًّا، فكما علمه ما لم يكن يعلم من العلم وجعله يقرأ ما لم يقرأ ويتلو ما لم يكن يتلو (أ)، كذلك علمه أن يكتب ما لم يكن يكتب وخط ما لم يخط بعد النبوة، أو أجرى ذلك على يده (ب). قالوا: وهذا لا يقدح في وصفه بالأمية وقد جاء (ب مؤيدًا لهذا ب) آثار عن الشعبي (¬1) وبعض السلف، وأنه - صلى الله عليه وسلم - لم يمت حتَّى كتب، وقد روي مثل هذا عن أبي ذر وغيره، وذهب الأكثرون إلى منع هذا، وأنه يبطله (جـ) وصف الله تعالى له بالأمية وقوله تعالى: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ} (¬2). وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إنا أمة أميَّة لا نكتب ولا نحسب" (¬3). وهذا اللفظ الواقع في الرّواية أنَّه كتب، أي أمر بالكتابة كما جاء في رجم ماعز وقطع السارق وجلد الشارب ونحو ذلك؛ أي أمر بذلك، والقرينة على هذا ما جاء (د) في الرّواية الأخرى أنَّه قال لعلي: "اكتب: محمد بن عبد الله". وأجاب الأولون عن قوله: [وَلَا تَخُطُّه بِيَمِينِكَ}. أي من قبل تعليمه، كما قال: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ ¬

_ (أ) بعده في جـ: و. (ب) في ب: يديه. (جـ- جـ) في جـ: بهذا. (د) في جـ: يبطل. (هـ) ساقط من: الأصل.

كِتَابٍ}. أي من قبل التعليم، فإن المعجزة أنَّه كان أولًا أميًّا، ثم جاء بالقرآن وبعلوم (أ) لا يعلمها الأمي. ورواية البُخاريّ: ولا يحسن أن يكتب فكتب. نص صريح في أنَّه الكاتب بنفسه، فالعدول إلى غيره مجاز لا ضرورة إليه، وأما أمره لعلي فيمكن الجمع بأنه أمر أولًا، ثم لما لم يكتب علي ويمح الاسم الشريف قال له - صلى الله عليه وسلم -: "أرني مكانها". فأراه مكانها، فمحاها وكتب، وكأن عليًّا رضي الله عنه لم يستحسن مَحْيَ (ب) ذكر رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم -، فلم يبادر إلى ذلك رجاء إعفائه عن ذلك. والله سبحانه أعلم. 1097 - وعن عبد الله بن عمرو (جـ) رضي الله عنه عن النَّبيِّ - صَلَّى الله عليه وسلم - قال: "من قتل معاهدًا لم يرح رائحة الجنة، وإن ريحها ليوجد من مسيرة أربعين عامًا". أخرجه البُخاريّ (¬1). الحديث أخرجه البُخاريّ في الجزية في باب: إثم من قتل معاهدًا بغير جرم. وذكره في الديات (¬2) في باب: من قتل ذميًّا بغير جرم. وذكر في ¬

_ (أ) في جـ: معلوم. (ب) في جـ: محو. وكلاهما بمعنى. (جـ) كذا في ب، جـ، وبلوغ المرام ص 296، وسبل السَّلام 4/ 144، وفي صحيح البُخاريّ: عمرو. قال ابن حجر في الفتح 6/ 270: اتفقت النسخ على أن الحديث من مسند عبد الله بن عمرو بن العاص، إلَّا ما رواه الأصيلي عن الجرجاني عن الفربري فقال: عبد الله بن عمر. بضم العين بغير واو وهو تصحيف نبه عليه الجباني. وينظر تحفة الأشراف 6/ 377.

الحديث: "معاهدًا"، والمراد بالمعاهد من له عهد مع (أ) المسلمين، سواء كان بعقد جزية، أو بأمان من مسلم، أو عقد هدنة من سلطان، وقد جاء في رواية للبخاري (¬1) بلفظ: "من قتل نفسًا معاهدًا له ذمة الله وذمة رسوله" الحديث. ولم يكن في هذه الرّواية تقييد: "بغير جرم". وقد جاء في بعض روايات البُخاريّ (¬2) تقييد بلفظ: "بغير حق". وأخرج النَّسائيّ وأبو داود (¬3) بلفظ: "بغير حلها". والتقييد مستفاد أيضًا من قواعد الشرع. وقوله: "لم يرح". بفتح الياء والراء المهملة وأصله يراح؛ أي لم يجد الريح. وحكى ابن التين ضم أوله وكسر الراء. قال: والأول أجود وعليه الأكئر. وحكى ابن الجوزي فتح أوله وكسر ثانيه؛ من راح يريح. وقوله: "من مسيرة أربعين". كذا وقع لجميع الطرق التي في البُخاريّ، وجاء عند الإسماعيلي "سبعين عامًا". وكذا عند التِّرمذيِّ (¬4) من حديث أبي هريرة: "سبعين خريفًا". وكذا عند البيهقي (¬5) من رواية صفوان بن سليم عن ثلاثين من أبناء أصحاب رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم -. وكذا عند أحمد (¬6) ¬

_ (أ) في جـ: من.

عن رجل عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -. وعند الطّبرانيّ (¬1) من حديث أبي هريرة بلفظ: "من مسيرة مائة عام". وفي الطّبرانيّ (¬2) عن أبي بكرة: "خمسمائة عام". وفي "الموطأ" (¬3) من حديث آخر كذلك. وفي "مسند الفردوس" (¬4) عن جابر: "إن ريح الجنة ليدرك من مسيرة ألف عام". وقد جمع العلماء بين هذه الروايات المختلفة؛ فقال ابن بطال (¬5): الأربعين والسبعين هي باعتبار المدة التي تكون عمرًا للإنسان، فمن بلغ عمره أربعين سنة، وهي زمان الأشد، زاد عمله ويقينه وندمه (أ)، فكأنه قد وجد ريح الجنة الذي يبعثه على الطاعة، والسبعون هي آخر المعترك، ويعرض [عندها] (ب) الندم وخشية هجوم الأجل فتزداد الطاعة، فكأنه قد وجد ريح الجنة، وقال في الخمسمائة: إنَّها مدة الفترة بين الأنبياء، فمن جاء في آخرها وآمن بالنبيين يكون أفضل من غيره. وقال الكرماني (¬6): إن العدد ليس مقصودًا في نفسه، والمقصود المبالغة في التكثير؛ لأنَّ الأربعين اشتملت على الآحاد؛ آحاده عشرة، والمائة عشرات، والألف مئات، والسبعين (¬7) عدد فوق العدد الكامل؛ وهو ستة، إذ أجزاؤه ¬

_ (أ) في جـ: قدمه. (ب) في ب، جـ: عنها. والمثبت من مصدر التخريج.

مقدرة وهي النصف والثلث والسدس بغير زيادة ولا نقصان، والخمسمائة هي بُعْدُ ما بين السماء والأرض. وقال المصنف (¬1) رحمه الله تعالى ما حاصله أن ذلك الإدراك في موقف القيامة، وأنه يتفاوت بتفاوت مراتب الأشخاص، فالذي يدركه من مسيرة خمسمائة أفضل من صاحب السبعين، إلى آخر ذلك. قال: وقد أشار إلى ذلك شيخنا في "شرح التِّرمذيِّ". ثم قال: ورأيت نحوه في كلام ابن العربي. قال ابن بطال (¬2): وقد احتج المهلب بهذا الحديث على أن المسلم إذا قتل المعاهد أو الذمي لا يقتص منه. قال: لأنَّه اقتصر فيه على الوعيد الأخروي دون الدنيوي. وقد تقدم الكلام في ذلك. ¬

_ (¬1) الفتح 12/ 260. (¬2) شرح ابن بطال 8/ 563.

باب السبق والرمي

باب السبق والرمي السبق بفتح السِّين وإسكان الباء الموحدة مصدر، وهو المراد هنا، وبالتحريك الرهن الذي يوضع لذلك. والرمي مصدر رمى يرمي رميًا، والمراد المناضلة بالسهام. 1098 - وعن ابن عمر رضي الله عنه قال: سابق النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بالخيل التي قد ضُمِّرت من الحَفْياء، وكان أمَدُها ثَنِية الوداع، وسابق بين الخيل التي لم تُضَمَّر من الثَّنية إلى مسجد بني زُرَيقٍ، وكان ابن عمر فيمن سابق. متَّفقٌ عليه (¬1). زاد البُخاريّ: قال سفيان: من الحَفْياء إلى ثَنية الوداع خمسة أميال أو ستة، ومن الثنية إلى مسجد بني زُرَيق مِيل (أ). 1099 - وعنه أن النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - سابق بين الخيل وفَضَّل القُرَّح في الغاية. رواه أحمد وأبو داود، وصححه ابن حبان (¬2). قوله: سابق. فاعل؛ واقع من فاعلين على معناه الحقيقي. وقوله: التي ضمرت. والتضمير هو أن تعلف الخيل حتَّى تسمن ¬

_ (أ) في جـ: مثل.

وتقوى، ثم يُقلَّل علفُها بقدر القوت وتدخل بيتًا وتُغْشَى بالجِلال حتَّى تَحْمَى فتعرق، فإذا جَفَّ عرقها خفَّ (أ) لحمها وقويت على [الجري] (ب). والحَفْياء بفتح المهملة وسكون الفاء بعدها تحتانية ومَدٌّ، مكان خارج المدينة، يمد ويقصر، وحكى الحازمي (¬1) تقديم الياء التحتانية على الفاء. وحكى عياض (1) ضم أوله وخطَّأه. وقوله: أمَدُها. أي غايتها، قال النابغة (¬2): * سَبق الجوادِ إذا اسْتَولَى على الأمَدِ * وثنية الوداع (جـ) قريبٌ من المدينة، سُميت بذلك؛ لأنَّ الخارج من المدينة يمشي معه المودِّعون إليها. وبني زُريق بتقديم الزَّاي. والحديث فيه دلالة على مشروعية المسابقة، وأنه ليس من العبث، بل من الرياضة المحمودة الموصِّلة إلى تحصيل المقاصد في الغزو والانتفاع بها عند الحاجة، وهي دائرةٌ بين الاستحباب والإباحة بحسَب الباعث على ذلك. قال القرطبي (¬3): لا خلاف في جواز المسابقة على الخيل وغيرها من الدواب ¬

_ (أ) في جـ: جف. (ب) في ب، جـ: القوت. والمثبت من الفتح 6/ 72، وشرح مسلم 13/ 14. (جـ) سقط من: جـ.

وعلى الأقدام، وكذا التَّرامي بالسهام واستعمال الأسلحة، لما في ذلك من التدريب على الحرب. ويدل الحديث على جواز إضمار الخيل، ولا خفاء في استحباب ذلك في الخيل المعدة للغزو. ويدل عى أنه يُشْرَع بيان الابتداء والانتهاء، وعلى أنَّه لا يساوى بين الخيل القوية وغيرها، ويدل عليه أيضًا قوله: وفضَّل القُرَّح. وهي جمع قارح، والقارح ما كملت سِنُّه؛ كالبازل (¬1) في حق الإبل. 1100 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا سَبَق إلَّا في خُفٍّ أو نَصْلٍ أو حافرٍ". رواه أحمد والثلاثة وصححه ابن حبان (¬2). 1101 - وعنه رضي الله عنه عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "من أدخل فرسًا بين فرسين وهو لا يأمن أن يُسبَقَ فلا بأس به، فإن أمِن فهو قِمارٌ". رواه أحمد وأبو داود (¬3) وإسناده ضعيف. وروى حديث أبي هريرة الشافعي والحاكم (¬4) من طرق، وصححه ابن القطان وابن دقيق ألعيد، وأعَلَّ الدارقطني (¬5) بعضها، ورواه ¬

_ (¬1) البازل: هو أقصى أسنان البعير. اللسان (ب ز ل). (¬2) أحمد 2/ 474، وأبو داود، كتاب الجهاد، باب في السبق 3/ 29 ح 2574، والترمذي، كتاب الجهاد، باب ما جاء في الرهان والسبق 4/ 178 ح 1700، وابن ماجه، كتاب الجهاد، باب السبق والرهان 2/ 960 ح 2878، وابن حبان، كتاب السير، باب السبق 10/ 544 ح 4690. (¬3) أحمد 2/ 505، وأبو داود، كتاب الجهاد، باب في المحلل 3/ 30 ح 2579. (¬4) الأم 4/ 229، ولم نجده في مطبوعة المستدرك. (¬5) علل الدارقطني 9/ 161 - 163 ح 1962.

[الطّبرانيّ] (أ) وأبو الشَّيخ من حديث ابن عباس (¬1). وحديث: "من أدْخَل" إلخ. قال الطّبرانيّ في "الصَّغير" (¬2): تفرد به سعيد بن بشير عن قتادة عن سعيد بن المسيب، وتفرد به عن سعيد الوليد، وتفرد به عنه هشام بن (ب) خالد. قال المصنف (¬3) رحمه الله تعالى: ورواه أبو داود عن محمود بن خالد عن الوليد، لكنَّه أبدل قتادة بالزهري، ورواه أبو داود وباقي من ذكر قبل من طريق سفيان بن حسين عن الزُّهريّ، وسفيان هذا ضعيفٌ في الزُّهريّ ومختلف فيه فيما يروي عن غيره (¬4)، وقد رواه معمر وشعيب وعقيل عن الزُّهريّ عن رجال من أهل العلم من غير رَفْعٍ. قاله أبو داود، قال: وهذا أصح عندنا. وقال أبو حاتم: أحسن أحواله أن يكون موقوفًا على سعيد بن المسيب؛ فقد رواه يَحْيَى بن سعيد عن سعيد من قوله. انتهى. وكذا هو في "الموطأ" عن الزُّهريّ عن سعيد. وقال ابن أبي خيثمة: سألت ابن معين عنه فقال: هذا باطلٌ. وضرب على أبي هريرة، وقد غَلَّط الشَّافعي سفيانَ بن حُسَين في روايته عن الزُّهريّ عن سعيد عن أبي هريرة. ¬

_ (أ) في ب، جـ: الدارقطني. والمثبت من التلخيص الحبير 4/ 161، ونيل الأوطار 8/ 87. (ب) بعده في الطّبرانيّ: أبي. وهو خطأ، وينظر تهذيب الكمال 30/ 198.

قوله: "لا سَبَق". وهو بفتح السِّين والباء الموحدة مفتوحة، ما يُجعل للسابق على سبقه من جُعْلٍ. قاله الخطابي (¬1) وابن الصلاح، وحكى ابن دريد فيه الوجهين. وقوله: "إلَّا في خُفٍّ" إلخ. الخف كناية عن الإبل، والحافر عن الخيل، والنصل عن السهم، وذلك بتقدير حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه؛ أي ذي خف أو ذي حافر أو ذي نصل، ونصل السهم حديدته، وسُمِّي السباق بالخيل رِهانًا، وبالسِّهام نضالًا؛ بالضاد المعجمة. والحديث فيه دلالة على أنَّه يجوز السباق على جُعْلٍ، فإن كان السَّبَق من غير المتسابقين كالإمام يجعله حل ذلك بلا خلاف، وإن كان من المتسابقين ولم يدخل معهما محلل وهو ثالث لا يكون منه شيء لم يحل؛ لأنَّ ذلك قمار، وضابط القمار أن يكون كل منهما غانمًا أو غارمًا، وإن كان من (أ) أحدهما حل؛ لأنَّه ليس بقمار، إذ ليس كل منهما غانمًا غارمًا، وهذا عند الجمهور. وفي قوله: "وهو لا يأمن أن يُسْبَق". دلالة على ما ذهب البعض أنَّه يشترط في المحلل ألا يكون متحقق السبق وإلا كان قِمارًا، ولكنه خارج عن حقيقة القمار، ولعل الوجه أن المقصود إنما هو الاختبار (ب) للخيل، فإذا كان معلوم السبق فات الغرض الذي شرع لأجله. وأمَّا المسابقة من غير جُعلٍ ¬

_ (أ) سقط من: جـ. (ب) في جـ: الاختيار.

فمباحة إجماعًا. وقد قصَر السِّباق على ما في الحديث مالكٌ والشافعيُّ، واقتصر بعض العلماء على الخيل، وأجازه عطاء في كل شيء. قال الإمام الهدي في "البحر": وفي الفيلة وجهان؛ أصحهما يصح، إذ هو ذو خُفٍّ. وذهب أحمد إلى أنَّه لا يصح، إذ لا يصح منه الكَرُّ والفرُّ، كالبقر. وهذان الوجهان في البغال والحمير. قال الإمام المهدي: هي ذات حافر يعمها الحديث، وتصح على الأقدام مجانًا؛ لمسابقته - صَلَّى الله عليه وسلم - عائشة، ومع العوض وجهان؛ قال الإمام يَحْيَى وأصحاب الشَّافعي: الأصح الجواز، إذ يحتاج إلى ذلك في الجهاد. وقال الشَّافعي (¬1): لا يصح للحديث، ويصح في الطير بلا عِوَضٍ لاختصاصها بمنافع. وبالعوض وجهان؛ أصحهما الجواز إذ تُعِين في الجهاد بحمل كتب الأسرار. وقيل: لا. وتصح في السفن مجانًا. وفي العوض وجهان، تصح، إذ قد يُقاتل عليها كالخيل. وقيل: لا، إذ ليست بآلةِ حرب. ويصح بين الهَجين (¬2) والعَتيق (¬3)، وبين البخاتي (أ) والعِراب (¬4). وفي الجنسين وجهان، المنع، إذ القصد الاختبار، واختلاف الجنسين ظاهر. وقيل: يصح إن تقارب جريهما، كالبغل والحمار، والبخاتي والفرس، لا مع معرفة ¬

_ (أ) كتب في حاشية ب: البخت بالضم الإبل الخراسانية كالبختية، والجمع بخاتي. قاموس.

الفضل لأيِّهما، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "وقد أمن أن يَسْبِقهما". وعلى قول من جوَّز السِّباق على عِوَضٍ فشروط عَقْده خمسة: الأول: كون العوض معلومًا عينًا أو في الذمة حالًّا أو مؤجلًا كالأجرة. الثَّاني: أن يكون المكان معلوم الابتداء والانتهاء. الثالث: أن يكون قدر ما يقع به السَّبق معلومًا بأقدامٍ، وإن كان مطلقًا فأقله ما يُعد به سابقًا، ولو بعض العنق إن كان العنقان مستويين، وإلا بالكَتَد (¬1) من الفرس وهو المِسَحُّ (أ) (¬2)، ومن الإبل الكاهِل، ومن الإنسان الكاهِل وهو مجتمع المنَكِبَين. وقال سفيان الثوري: يكفي السَّبق بالأُذن. الرابع: تعيين المركوبين بالإشارة. وفي الاستغناء بوصف الغائب وجهان؛ قال الإمام يَحْيَى: الأصح ألا يكفي. الخامس: إمكان سبق كل منهما، فلو علم عجز أحدهما لم يصح، إذِ القصد الخبرة، وعقد السِّباق غير لازم، إذ هو تمليك عين بغير عِوضٍ كالوصية، أو بذل عوض فيما لم يُتيقن حصوله كالقِراض عند العراقيين من الشَّافعية وقول للشافعي، وللشافعي قول أنَّه لازم كالإجارة، وإن شرط أن ¬

_ (أ) في ب: المنسج. وكتب في حاشيتها: المنسج من الفرس أسفل من حاركه، والحارك أصل العنق. قاموس.

يصير إلى غير السابق شيء من السبق فسد العقد؛ إذ موجبه ألا يفوت على السابق شيء. وخيلُ الحلَبةِ عشرة مرتبة، وقد جمعها على التَّرتيب الإمام المهدي رحمه الله تعالى: مُجَلٍّ مُصَلٍّ مُسَلٍّ لها ... ومرتاح عاطفها والحَظِي ومُسْحَنفرٌ ومؤمّلها ... وبعد اللَّطِيم السُّكَيت النظِي (أ) وقال الجوهري: ترتيبها المجلِّى ثم المصلِّى ثم المسَلِّى ثم [التالي] (ب) ثم العاطف ثم المرتاح ثم المؤمل ثم الحظي ثم اللَّطِيم ثم السكيت. وقد جمعها بعضهم في قوله: سبق المجلِّي والمصلِّي بعدَه ... ثم المسَلِّي بعدُ والمرتاح ولعاطف وحَظِيُّها ومؤمل ... ولَطِيمها وسكيتها إيضاح والعاشر المنعوت منها فُشكلٌ ... فافهم هُديت فما عليك جناح قال في "النهاية" (¬1): وسمى المصلِّي لأنَّ رأسه عند [صلا] (جـ) السابق، وهو ما عن يمين الذَّنَب وشماله. قال القتيبي: والسكيت مخفف ومشدد وهو بضم السِّين. قال في "الكفاية": والمحفوظ عن العرب المجلِّى والمصَلِّى ¬

_ (أ) في نيل الأوطار 8/ 39: البطي. ولعل صوابها كالمثبت وهو موافق للمخطوطات والقافية. (ب) في ب، جـ: الغالي. والمثبت من نيل الأوطار 8/ 94. (جـ) في ب: صله.

والسكيت، وباقي الأسماء مُحْدثة. وشروط السَّبق بالنِّضال (¬1): ذكر عدد الرميات، وتبيين جنس السِّهام، وقدر الإصابة مرةً أو مرتين، وتقدير المسافة بين الرامي والغرض، فإن كان لا يصاب في مثلها في أغلب الأحوال لم يصح. وقد قدر مسافة الإصابة بخمسين ومائتي ذراع، وما زاد إلى ثلائمائة وجهان؛ يصح العقد عليه إذ تعتاد الإصابة فيه. وقيل: لا يصح؛ لقلة (أ) الإصابة، وقد روي عن عقبة بن عامر أنَّه رمى على أربعمائة ذراع (¬2). ويكون الغرض قدر شبر أو أكثر، ولابد من ذكر من يبدأ بالرمي؛ لئلا يتشاجرا. وفي "البيان": وإذا تشاجروا في البداية قرع بينهم، وفيمن يقف عن يمين الغرض كان ذلك لمن له البداية، وإذا شرطوا استقبال الشَّمس أو استدبارها صح، وإن لم يذكر ذلك ثم اختلفوا أجيب من طلب استدبارها؛ لأنَّه أقوم للإصابة في العادة، ولا بُدَّ من بيان صِفة الإصابة، من قَرعٍ -وهو إصابة الغرض من غير تأئير فيه -أو خَسْقٍ -وهو إصابته مع الخدش فيه -أو مرقٍ -وهو إصابتُه مع النفوذ (أ) فيه- أو خرمٍ -وهو إصابته مع قطعه من جانبٍ. 1102 - وعن عقبةَ بن عامر رضي الله عنه قال: سمِعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو على المنبر يقرأ: " {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ ¬

_ (أ) في جـ: لعل. (أ) في جـ: السود.

قُوَّةٍ} (¬1)، ألَا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي، [ألَا إن القوة الرمي] " (أ). رواه مسلم (¬2). الحديث فيه تفسير المراد بالقوة في الآية الكريمة، ويدل على فضيلة الرمي والمناضلة والاعتناء بذلك بنيَّة الجهاد في سبيل الله، وكذلك المثاقفة (¬3) وسائر أنواع السلاح، والمراد بهذا التَّمرن (ب) على القتال والتدرب و [التحذق فيه] (جـ) ورياضة الأعضاء بذلك. ¬

_ (أ) سقط من: جـ. (ب) في جـ: التمرن. (جـ) في ب: النحدر، وفي جـ: الحنذر. والمثبت من شرح مسلم 13/ 64.

كتاب الأطعمة

كتاب الأطعمة 1103 - عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "كل ذي ناب من السباع فأكله حرام". رواه مسلم (¬1). وأخرجه من حديث ابن عباس رضي الله عنه بلفظ: نهى. وزاد: "وكل ذي مخلب من الطير" (¬2). الحديث فيه دلالة على تحريم ما له ناب يتقوى به ويصطاد من السباع، وقد ذهب إلى هذا العترة والشافعي وأبو حنيفة وأحمد وداود، والخلاف في ذلك لمالك في رواية ابن القاسم عنه، أنه يكره من السباع ما كان له ناب. وعلى هذه الرواية عول جمهور أصحابه، وهو المنصور عندهم. وذكر مالك في "الموطأ" (¬3) حديث أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "أكل كل ذي ناب من السباع حرام". ثم قال: وعلى ذلك الأمر هو المعول عندنا. وذهب إلى هذا أشهب. هكذا حكى ابن رشد (¬4) عن مالك، وفي "البحر": وعن مالك: بل يجوز أكل كل حيوان إلّا الأسد والنمر والفهد والذئب. وعنه تحريم لحوم السباع من الوحوش. والقائلون بتحريم السباع اختلفوا في جنس السباع المحرمة؛ فقال أبو حنيفة (¬5): كل ما أكل اللحم فهو ¬

_ (¬1) مسلم، كتاب الصيد والذبائح، باب تحريم أكل كل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير 3/ 1534 ح 1933/ 15. (¬2) مسلم 3/ 1534 ح 1934/ 16. (¬3) الموطأ 2/ 496. (¬4) بداية المجتهد 6/ 302. (¬5) كما في بداية المجتهد 6/ 302.

سبع حتى الفيل [والضبع] (أ) واليربوع والسنَّور. وقال الشافعي (¬1): يحرم من السباع ما يعدو على الناس؛ كالأسد والنمر والذئب. وأما الضبع والثعلب فيحلان عنده لأنهما لا يعدوان. وقد ورد الحديث بحل الضبع كما سيأتي (¬2)، وأما الثعلب فقد ورد في تحريمه حديث أخرجه ابن ماجه وهو ضعيف (¬3). وحجة من أباح لحوم السباع قوله تعالى: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ} الآية (¬4). فالآية تدل على أن المحرم إنما هو ما ذكر في الآية، فيحل ما عداها. وقد قال بهذا من السلف -فيما حكاه ابن عبد البر- ابن عباس على اختلاف عليه، وكذا عائشة، وجاء عن ابن عمر من وجه ضعيف، وقال به الشعبي وسعيد بن جبير. وأجاب الجمهور بأن الآية مكية، وحديث أبي هريرة بعد الهجرة، فيكون ناسخًا، على قول من يجوِّز نسخ القرآن بالسنة. وقد يجاب بأن الآية خاصة ببهيمة الأنعام ردًّا على من حرم بعضها كما ذكر الله سبحانه قبلها من قوله: {وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ} (¬5) إلى آخر الآيات. فقيل في الرد عليهم: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا ¬

_ (أ) في ب، جـ: والضب. والمثبت من سبل السلام 4/ 149، ونيل الأوطار 8/ 131.

أُوحِيَ إِلَيَّ} الآية. إن الذي أحللتموه هو المحرم والذي حرمتموه هو الحلال، وإن ذلك افتراء على الله سبحانه. وقرن بها لحم الخنزير؛ لكونه شاركها في علة التحريم وهو كونه رجسًا، وقد نقل إمام الحرمين (¬1) عن الشافعي أنه يقول بقصر العام على سببه إذا ورد في مثل هذه القصة؛ لأنها وردت في الكفار الذين يحلون الميتة والدم والخنزير وما أهل لغير الله به، ويحرمون كثيرًا مما أباحه الشرع، فكان الغرض من الآية بيان حالهم وأنهم يضادون الحق، فكأنه قيل: لا حرام إلّا ما أحللتموه. مبالغة في الرد عليهم. وأما ما حكاه القرطبي (¬2) عن قوم أن الآية الكريمة نزلت في حجة الوداع فتكون ناسخة للأحاديث المعارضة لها، فهو مردود بأن الكثير من العلماء صرحوا بأنها مكية، وهو متأيد بأن ما قبل الآية رد على المشركين فيما اختلقوه من التحريم والتحليل، وذلك قبل الهجرة قطعًا. وقوله: "وكل ذي مخلب من الطير". المخلب بكسر الميم وسكون المعجمة وفتح اللام بعدها موحدة، هو للطير كالظفر لغيره، لكنه أشد منه وأغلظ وأحدُّ، فهو له كالناب للسبع، وقد أخرج الترمذي (¬3) من حديث جابر تحريم كل ذي مخلب من الطير، ومن حديث العرباض بن سارية (¬4)، وزاد: يوم خيبر. فيه دلالة على تحريم أكل ما له مخلب من الطير. قال النووي (¬5) في ¬

_ (¬1) ينظر البرهان في أصول الفقه 1/ 372، 373. (¬2) تفسير القرطبي 7/ 116. (¬3) الترمذي 4/ 61 ح 1478. (¬4) الترمذي 4/ 59 ح 1474. (¬5) شرح مسلم 13/ 82، 83.

"شرح مسلم": وقد ذهب إلى هذا الشافعي وأبو حنيفة وأحمد وداود والجمهور، وقال مالك: يكره ولا يحرم. والإمام المهدي في "البحر" نسب التحريم إلى العترة والفريقين الحنفية والشافعية. وابن رشد في "نهاية المجتهد" (¬1) قال: وأما سباع الطير فالجمهور على أنها حلال، لمكان الآية المذكورة، وحرمها قوم لما جاء في حديث ابن عباس؛ يعني الحديث المذكور. وقال: إلا أن هذا الحديث لم يخرجه الشيخان وإنما ذكره أبو داود. انتهى. وقد ذهل عن تخريج مسلم له، ووقع الخلاف في غراب الزرع؛ فقال أبو طالب والإمام يحيى: إنه حرام كالأبقع. وعند الحنفية والشافعية أنه يحل، قالوا: لأنه يأكل الحب، وليس من سباع الطير ولا من الخبائث. 1104 - وعن جابر رضي الله عنه قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم خيبر عن لحوم الحمر الأهلية وأذن في لحوم الخيل. متفق عليه (¬2). وفي لفظ البخاري: ورخص. الحديث فيه دلالة على تحريم الحمر الأهلية، وقد ذهب إلى هذا جماهير الصحابة والتابعين ومن بعدهم، لما ورد في ذلك من الأحاديث الصحيحة. وقد وقع في أكثر الروايات أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وجد القدور تغلى بلحمها فأمر بإراقتها، وقال: "لا تأكلوا من لحومها شيئًا" (¬3). ¬

_ (¬1) بداية المجتهد 6/ 308. (¬2) البخاري، كتاب الذبائح والصيد، باب لحوم الحمر الإنسية 9/ 653 ح 5524، ومسلم، كتاب الصيد والذبائح، باب في أكل لحوم الخيل 3/ 1541 ح 1941/ 36. (¬3) مسلم 3/ 1539 ح 1937/ 27.

وفي رواية: نُهينا عن لحوم الحمر الأهلية (¬1). وفي رواية: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "هريقوها واكسروها". فقال رجلٌ: يا رسول الله، أوْ نُهَرِيقُها ونغسلُها، قال: "أوْ ذاك" (¬2). وفي رواية: نادى منادي النبي - صلى الله عليه وسلم -: ألا إن الله ورسوله [ينهَيانكم] (أ) عنها، فإنها رجس من عمل الشيطان (¬3). وفي رواية: ينهيانكم عن لحوم الحمر، فإنها رجس أو نجس. [وأكفئت] (ب) القدور بما فيها (¬4). وقال ابن عباس: ليست بحرام. وفي رواية ابن جريج عن ابن عباس: وأبي ذلك البحرُ (¬5)، وتلا قوله تعالى: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ} الآية. وروي ذلك عن عائشة (¬6). وعن مالك ثلاث روايات أشهرها أنها مكروهة كراهة تنزيه شديدة، والثانية حرام، والثالثة مباحة. وحجتهم الآية الكريمة. وجاء في رواية ابن مردويه وصححه الحاكم (¬7) عن ابن عباس في سبب نزول هذه الآية، قال: كان أهل الجاهلية يأكلون أشياء ويتركون أشياء تقذرًا، فبعث الله نبيه وأنزل كتابه، وأحل حلاله وحرم حرامه، فما ¬

_ (أ) في ب، جـ: ينهاكم. والمثبت من مصدر التخريج. (ب) في ب، جـ: وأكفينا. والمثبت من مصدر التخريج.

أحل فيه فهو حلال، وما حرم فيه فهو حرام، وما سكت عنه فهو عفو. وتلا هذه الآية. وأخرج أبو داود (¬1) عن غالب بن أبجر، قال: أصابتنا سنة، فلم يكن في مالي ما أطعم أهلي إلَّا سِمان حمر، فأتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلت: إنك حرمت لحوم الحمر الأهلية وقد أصابتنا سنة. فقال: "أطعم أهلك من سمين حمرك، فإنما حرمتها من جهة جوَّال القرية". يعني الجلالة. وأخرج الطبراني (¬2) عن أم نصر المحاربية، أن رجلًا سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الحمر الأهلية، فقال: "أليس ترعى الكلأ وتأكل الشجر؟ ". قال: نعم. قال: "فأصب من لحومها". وأخرجه ابن أبي شيبة (¬3) من طريق رجل من بني مرة قال: سألت. فذكر نحوه. وأجابوا عن أحاديث النهي بما أخرجه الطبراني وابن ماجه (¬4) عن ابن عباس قال: إنما حرم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الحمر الأهلية مخافة قلة الظهر. وفي حديث ابن أبي أوفى (¬5): فتحدثنا أنه إنما نهى عنها لأنها لم تُخَمَّس. والجواب عن حديث ابن عباس بأنه لا يتم الاستدلال به إلا فيما لم يأت فيه نص من النبي - صلى الله عليه وسلم - بالتحريم، وقد تواترت الأخبار بذلك، والتنصيص على التحريم مقدم على عموم التحليل، مع أنه قد أخرج البخاري (¬6) في المغازي عن ابن عباس أنه توقف في النهي عن الحمر هل من ¬

_ (¬1) أبو داود 3/ 356 ح 3809. (¬2) الطبراني 25/ 161 ح 390. (¬3) ابن أبي شيبة 8/ 193 ح 24704 بنحوه. (¬4) الطبراني 11/ 432، 433، وابن ماجه -كما في الفتح 9/ 655. (¬5) البخاري 6/ 255 ح 3155. (¬6) البخاري 7/ 482 ح 4227.

لمعنى خاص أو للتأبيد؟ ففيه عن الشعبي عنه أنه قال: لا أدري أنهى عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أجل أنه كان حمولة الناس فكره أن تذهب حمولتهم، أو حرمها البتة يوم خيبر. وهذا التردد أصح من الخبر الذي جاء عنه بالجزم بالعلة المذكورة، وقد أخرج الدارقطني (¬1) بسند قوي عن ابن عباس: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن لحوم الحمر الأهلية وأمر بلحوم الخيل. وحديث غالب إسناده ضعيف والمتن شاذ مخالف للأحاديث الصحيحة. وحديث أم نصر وما أخرجه ابن أبي شيبة في إسنادهما مقال، ولو ثبتا احتمل أن يكون قبل التحريم، وحديث الطبراني وابن ماجه إسناده ضعيف، فتقرر العمل بالمحرم. والتصريح بأنها رجس أو نجس دافع لاحتمال ما ذكر من أن ذلك لأجل الجلَّالة والخمُس، أو كون ذلك لحاجة الظهر. وقوله: وأذن في لحوم الخيل. ورواية البخاري: ورخص. فيه دلالة على حل لحم الخيل، وقد ذهب إلى ذلك زيد بن علي والشافعي وصاحبا أبي حنيفة وأحمد وإسحاق والجمهور من السلف، واحتجوا بهذا الحديث وغيره من الأحاديث المتواترة. وأخرج ابن أبي شيبة (¬2) بسند على شرط الشيخين عن عطاء أنه قال لابن جريج: لم يزل سلفك يأكلونه. قال ابن جريج: قلت له: أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: نعم. وأخرج في "الصحيح" (¬3) عن أسماء بنت أبي بكر قالت: نحرنا على عهد رسول الله ¬

_ (¬1) الدارقطني 4/ 290 ح 73. (¬2) ابن أبي شيبة -كما في الفتح 9/ 650. (¬3) البخاري 9/ 640 ح 5512.

- صلى الله عليه وسلم - فرسًا فأكلناه. وسيأتي في رواية أخرى قالت: أكلنا لحم فرس عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلم ينكره (¬1). وأخرج الدارقطني (¬2) عن ابن عباس بسند قوي: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن لحوم الحمر الأهلية وأمر بلحوم الخيل. وذهب أبو حنيفة إلى كراهة أكل الخيل؛ قال أبو حنيفة في "الجامع الصغير": أكره لحم الخيل. فحمله أبو بكر الرازي على التنزيه، وقال: لم يطلق أبو حنيفة فيه التحريم، وليس هو عنده كالحمار الأهلي. وصحح أصحاب "المحيط" و "الهداية" و "الذخيرة" التحريم، وهو قول أكثر الحنفية، وصح القول بالكراهة عن الحكم بن عتيبة (أ) ومالك. قال الفاكهي: المشهور عند المالكية الكراهة، والصحيح عند المحققين منهم التحريم. وروى ابن القاسم وابن وهب عن مالك التحريم. وقال القرطبي في "شرح مسلم" (¬3): مذهب مالك الكراهة. وفي "نهاية المجتهد" (¬4): الرواية عن مالك بالتحريم، وروي ذلك عن أبي حنيفة أيضًا. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد الرزاق (¬5) عن ابن عباس القول بالكراهة، إلّا أن في الإسناد ضعفًا، وذهب الأكثر من العترة إلى تحريم الخيل؛ لقوله تعالى: {لِتَرْكَبُوهَا} (¬6). فجعل المنة في جعلها هو ¬

_ (أ) في جـ: عيينة. وينظر الإكمال 6/ 121.

الركوب، فلو كانت للأكل لما اقتصر على بعض النعم، وكان ما ترك منها هو الأعظم، فإن الأكل لبقاء بنية الإنسان بغير واسطة، والحكيم لا يمتن بأدنى النعم ويترك أعلاها، ولا سيما وقد وقع الامتنان بالأكل فيما ذكر قبلها من الأنعام، ولأن اللام للتعليل فالعلة المنصوصة تقتضي أنها لم تخلق لغيره، ولأنها عُطف عليها البغال والحمير، فدل على اشتراكها معها في حكم التحريم، ولأنه لو أبيح أكلها لفاتت المنفعة بها فيما وقع به الامتنان من الركوب والزينة. هذه وجوه أربعة تلخص ما وقع به التمسك من الآية الكريمة، ولما أخرجه أبو داود والبيهقي (¬1) عن صالح بن يحيى بن المقدام عن أبيه عن جده عن خالد بن الوليد قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن لحوم الخيل والبغال والحمير وكل ذي ناب من السباع. وفي رواية بزيادة: يوم خيبر. قال البيهقي: هذا إسناد مضطرب مخالف لحديث الثقات. وقال البخاري (¬2): يروي عن صالح ثور بن يزيد وسليمان بن سليم، فيه نظر. وقال موسى بن هارون (¬3): لا يعرف صالح بن يحيى ولا أبوه إلا بجده، وهو ضعيف (¬4). وضعَّف الحديث أيضًا أحمد والدارقطني والخطابي وابن عبد البر ¬

_ (¬1) أبو داود 3/ 351 ح 37090، والبيهقي 9/ 328. (¬2) التاريخ الكبير 4/ 292، 293. (¬3) كما في الضعفاء والمتروكين لابن الجوزي 2/ 51. (¬4) أما صالح فذكره ابن حبان في الثقات وقال: يخطئ. وقال فيه الحافظ: لين. وأما يحيى فذكره ابن حبان في الثقات، وقال فيه الحافظ: مستور. الثقات 5/ 524، 6/ 459، والتقريب ص 274، 596. وينظر تهذيب الكمال 13/ 105، 31/ 570.

وعبد الحق (¬1). قال المصنف (¬2) رحمه الله تعالى: شهود خالد لخيبر خطأ، فإنه لم يسلم إلا بعدها على الصحيح، والذي جزم به الأكثر أن إسلامه كان سنة الفتح، وكذا قال مصعب الزبيري (¬3) وهو أعلم الناس بقريش، وذكر أن خالدًا فرَّ من مكة في عام القضية حتى لا يرى النبي - صلى الله عليه وسلم - بمكة. فهذا متمسك المحرِّمين من جهة النقل، ومن جهة القياس أنها تشبه في الخلقة البغال والحمير في الهيئة وزهومة اللحم والغلظ وصفة الروث وأنها لا تجتر، فبعدت عن الأنعام التي [تؤكل] (أ) وأشبهت ما لا يؤكل. والجواب عن الآية الكريمة؛ أما الامتنان بالركوب فخصه لأنه غالب ما ينتفع بالخيل عند العرب، فخوطبوا بما يتبادر إلى أفهامهم. وأما كون اللام للتعليل فهو لا يقتضي الحصر وأنها لم تخلق إلّا لذلك، وإنما خص الركوب والزينة من بين سائر المنافع [لكونهما] (ب) أغلب ما يطلب له الخيل، ونظيره حديث البقرة المذكور في "الصحيحين" (¬4) حين خاطبت راكبها فقالت: إنا لم نخلق لهذا، إنما خلقنا للحرث. مع أنها ينتفع بها في الأكل وغيره، فذكرت أغلب المنافع منها. وأما العطف عليها فهي من دلالة الاقتران، وهي ضعيفة. وأما أنه لو أبيح أكلها لفاتت منفعة الركوب لكونها تفنى، فهذا يلزم في سائر الأنعام؛ ¬

_ (أ) في ب، جـ: لا تؤكل. والمثبت من الفتح 9/ 650. (ب) في ب: ولكونها.

فإن الإبل حل أكلها ولم تَفُتْ بذلك منفعة الحمل عليها وغيرها. وأما الحديث فقد عرفت ما فيه، فلا يقاوم الأحاديث الصحيحة المحلة لها. وأجاب أبو داود (¬1) بأن حديث خالد منسوخ، ولم يبين ناسخه، وكذا قال النسائي (¬2): الأحاديث في الإباحة أصح، وهذا إن صح كان منسوخًا. وكأنه لما تعارض عنده الحديثان، ورأى في حديث خالد: نَهَى. وفي حديث جابر: أذِن. حمل الإذن على نسخ التحريم، وهذا احتمال لا يثبت به النسخ. وقرر الحازمي (¬3) النسخ، وقال: حديث خالد ذهب نفر إلى أن الحكم فيه منسوخ. وذكر حديث جابر، ثم قال: قالوا: والرخصة تستدعي سابقية منع، وكذلك لفظ الإذن، قالوا: ولو لم يرد لفظ الرخصة والإذن لكان يمكن أن يقال: القطع بنسخ أحد الحكمين متعذر؛ لاستبهام التاريخ في الجانبين، وإذ ورد لفظ الإذن تبين أن الحظر مقدم والرخصة متأخرة، فتعين المصير إليها. قال: وقال الآخرون ممن أجاز الأكل: الاعتماد على الأحاديث التي تدل على جواز الأكل لثبوتها وكثرة رواتها، وأما حديث النهي فهو ورد في [قضية] (أ) معينة وليس هو مطلقًا دالًّا على الحظر. ثم قال: وذلك إنما نهى عن أكل [الخيل] (ب) يوم خيبر؛ لأنهم تسارعوا في طبخها قبل أن تخمَّس، فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بإكفاء القدور تشديدًا عليهم وإنكارًا لصنيعهم، ¬

_ (أ) في ب، جـ: قصة. والمثبت من مصدر التخريج. (ب) في ب: الحمر. وينظر مصدر التخريج.

ولذلك أمر أولًا بكسر القدور ثم رجع إلى غسلها. قال: وروينا هذا عن عبد الله بن أبي أوفى، فاعتقدوا أن سبب التحريم في المنهيات واحد، حتى نادى منادي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن الله ورسوله ينهيانكم عن لحوم الحمر الأهلية، فإنها رجس. فتبين أن سبب التحريم مختلف، فيكون قوله: رخص. و: أذن. دفعًا لهذه الشبهة. انتهى. ولكنه يعكر عليه بأن الأمر بإكفاء القدور إنما كان لطخهم فيها الحمر -كما هو مصرح به في "الصحيح"- لا الخيل، فلا يتم ما أراد، فالأولى الجواب بما تقدم من معارضة الأحاديث الصحيحة. وأما القياس، فالجواب أنه ساقط عند وجود النص. والله سبحانه أعلم. 1105 - وعن ابن أبي أوفى قال: غزونا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سبع غزوات نأكل الجراد. متفق عليه (¬1). قوله: سبع عزوات. في رواية شعبة (¬2) عن أبي يعفور: سبع أو ست. بالشك. وفي رواية سفيان (¬3) وأبي عوانة (¬4) وإسرائيل (¬5) عن أبي يعفور: سبع. مجزوما به. وكذا أخرجه الترمذي (¬6) من وجه آخر عن الثوري، وأفاد ¬

_ (¬1) البخاري، كتاب الذبائح والصيد، باب أكل الجراد 9/ 620 ح 5495، ومسلم، كتاب الصيد والذبائح، باب إباحة الجراد 3/ 1546 ح 1952/ 52. (¬2) البخاري 9/ 620 ح 5495. (¬3) أخرجه أحمد 4/ 353، والدارمي 2/ 1277 ح 2053 من طريق سفيان الثوري به. (¬4) أخرجه مسلم 3/ 1546 ح 1952/ 52، والبزار 8/ 268 ح 3330، وأبو عوانة 5/ 45 ح 7728 من طريق أبي عوانة به. (¬5) أخرجه الطبراني في المعجم الكبير كما في تغليق التعليق 4/ 512 من طريق إسرائيل به. (¬6) الترمذي 4/ 236 ح 1822.

أن سفيان بن عيينة روى هذا الحديث عن أبي يعفور: ست غزوات. وكذا أخرجه أحمد بن حنبل (¬1) عن ابن عيينة جازمًا بالست. وكذا قال الترمذي (¬2): قال ابن عيينة: ست. وقال غيره: سبع. قال المصنف (¬3) رحمه الله تعالى: ودلت رواية شعبة على أن شيخهم كان يشك، فيُحمل على أنه جزم مرة بالسبع، ثم لما طرأ عليه الشك صار يجزم بالست لأنه المتيقن، ولكنه وقع عند ابن حبان (¬4) من رواية أبي الوليد شيخ البخاري فيه: سبعًا أو ستا. شك شعبة، ووقع في "توضيح ابن مالك" (¬5): سبع غزوات أو ثماني. وقال: الأجود أن يقال: أو ثمانيا. لأن ثماني منصرف، لأن الياء ياء النسب، والألف مبدل عن أحد يائي النسب، فليس مثل جواري. قال: وإنما ورد بغير تنوين لأنه مضاف، فحذف المضاف إليه وأبقي المضاف على ما هو عليه قبل الحذف، أوأنه كتب المنصوب بغير ألف على لغة ربيعة. وقوله: نأكل الجراد. هذا لفظ مسلم من دون زيادة، وفي رواية البخاري بزيادة لفظ: معه. وكذا في رواية غير البخاري إلا النسائي (¬6). فيه دلالة على حل أكل الجراد. وقال النواوي (¬7): وهو إجماع. وقد أخرج ابن ماجه (¬8) عن أنس أنه قال: كن أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - يتهادين الجراد في الأطباق. ¬

_ (¬1) أحمد 4/ 380. (¬2) الترمذي 4/ 236. (¬3) الفتح 9/ 622. (¬4) ابن حبان 12/ 61، 62 ح 5257. (¬5) شواهد التوضيح ص 47. (¬6) النسائي 7/ 210. (¬7) شرح مسلم 13/ 103. (¬8) ابن ماجه 2/ 1073 ح 3220.

وفي "الموطأ" (¬1) من حديث ابن عمر: سئل عن الجراد، فقال: وددت أن عندي قفعة (أ) آكل منها. إلا أن ابن العربي في "شرح الترمذي" (¬2) فصل بين جراد الحجاز وجراد الأندلس، فقال في جراد الأندلس: لا يؤكل؛ لأنه ضرر محض. ولكنه إذا ثبت ذلك، فتحريمه لأجل الضرر، فهو مستثنى كغيره من الضارات. وفي زيادة "معه". يحتمل أن يراد المعية في الغزو تأكيدًا لقوله: غزونا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. دون ما عطف عليه من الأكل، ويحتمل المعية في الأكل، ويتأيد هذا بما وقع في رواية أبي نعيم (¬3) في "الطب": ويأكله معنا. وهذا يرد على الصيمري من الشافعية حيث زعم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - عافه كما عاف الضب، ومستنده ما أخرجه أبو داود (¬4) من حديث سلمان: سئل فيم عن الجراد، فقال: "لا آكله ولا أحرمه". وأعله المنذري بالإرسال، ووصله ابن ماجه (¬5)، وما أخرجه ابن عدي (¬6) في ترجمة ثابت بن زهير عن نافع عن ابن عمر، أنه - صلى الله عليه وسلم - سئل عن الضب، فقال: "لا آكله ولا أحرمه". وسئل عن الجراد، فقال مثل ذلك، إلّا أن ثابتًا قال [فيه] (ب) ¬

_ (أ) في هامش ب: القفعة كالزنبيل من خوص بلا عروة. قاموس. (ب) ساقط من: ب، جـ. والمثبت من الفتح 9/ 622.

النسائي (¬1): ليس بثقة (¬2). وذهب الجمهور إلى أنه يؤكل على أي حال ولو مات بغير سبب، والمشهور عن المالكية اشتراط التذكية بأن يكون سبب آدمي؛ إما أن يقطع رأسه أو [بعضه] (أ) أو يسلق أو يلقى في النار حيًّا أو يشوى، فإن مات حتف أنفه أو في وعاء لم يحل، وحجة الجمهور حديث ابن عمر: "أحلت لنا ميتتان ودمان؛ السمك والجراد، والكبد والطحال". أخرجه أحمد والدارقطني (¬3) مرفوعًا وقال: إن الموقوف أصح. ورجح البيهقي (¬4) الموقوف، إلا أنه قال: له حكم الرفع. ولفظ الجراد جنس، والواحدة منه جرادة، تقع على الذكر والأنثى كحمامة، ويسمى جرادًا لأنه لا ينزل على شيء إلا جرده، أو لأنه أجرد، أي أملس، يقال: نوق جُرد. أي ملس، وخِلقة الجراد عجيبة فيها عشر من خِلقة جبابرة الحيوان، وجه فرس، وعينا فيل، وعنق ثور، وقرنا أيل، وصدر أسد، وبطن عقرب، وجناحا نسر، وفخذا جمل، ورجلا نعامة، وذنب حية. وقد أحسن القاضي محيي الدين [الشهرزوري] (ب) في وصف الجراد في ذلك بقوله (¬5): ¬

_ (أ) في ب، جـ: يعضه. والمثبت يقتضيه السياق. وينظر شرح مسلم 13/ 104. (ب) في ب: السهروردي. وفي جـ: السهوررودي. والمثبت من الفتح 9/ 620. وينظر سير أعلام النبلاء 21/ 60، 61.

لها فخذا بكر ورجل نعامة ... وقادمتا نسر وجؤجؤ ضيغم حبتها أفاعي الرمل بطنا وأنعمت ... عليها جياد الخيل بالرأس والفم والجراد من صيد البر وإن كان أصله بحريًّا عند الأكثر من العلماء، وقيل: إنه بحري. لما روى ابن ماجه (¬1) من حديث أنس مرفوعًا: "إن الجراد نثرة حوت من البحر". أي عطسته، فيحل للمُحرم اصطياده. وأخرج أبو داود والترمذي وابن ماجه (¬2) بسند ضعيف عن أبي هريرة أنه قال: خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حج أو عمرة، فاستقبلنا رِجل من جراد، فجعلنا نضربهن بنعالنا وأسواطنا، فقال - صلى الله عليه وسلم -: "كلوه فإنه من صيد البحر". وأخرج أبو داود والترمذي (¬3) من حديث أبي المهُزِّم -بضم الميم وكسر الزاي المعجمة وفتح الهاء بينهما، واسمه يزيد بن سفيان- عن أبي هريرة: قال أصبنا ضربا من جراد، وكان رجل يضرب بسوطه وهو محرم، فقيل له: إن هذا لا يصلح. فذكر ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: "إنما هو من صيد البحر". ولكنْ أبو المهزِّم ضعيف باتفاق (¬4)، وظاهر هذا أنه لا جزاء على المحرم في قتل الجراد؛ لأنه من صيد البحر، وجمهور العلماء على لزوم الجزاء فيه. قال ابن المنذر: لم يقل أنه لا جزاء فيه إلا أبو سعيد الخدري وعروة بن الزبير. واحتج ¬

_ (¬1) ابن ماجه 2/ 1073، 1074 ح 3221. (¬2) أبو داود 2/ 177، 178 ح 1854، والترمذي 3/ 207 ح 850، وابن ماجه 2/ 1074 ح 3222، واللفظ للترمذي، وابن ماجه. (¬3) حديث أبي المهزم عن أبي هريرة هو الحديث المتقدم في الحاشية السابقة، واللفظ هنا لأبي داود. (¬4) أبو المهزم التميمي، البصري، اسمه يزيد -وقيل: عبد الرحمن- بن سفيان، ضعفه ابن معين وأبو زرعة وأبو حاتم والنسائي وغيرهم. وقال الحافظ: متروك. ينظر تهذيب الكمال 34/ 327، والتقريب ص 676.

الجمهور بما رواه الشافعي (¬1) بإسناد صحيح أو حسن، عن عبد الله بن أبي عمار قال: أقبلت مع معاذ بن جبل وكعب الأحبار في أناس مُحرمين من بيت المقدس بعمرة، حتى إذا كنا ببعض الطريق وكعب على نار يصطلي فمرت به رِجلٌ من جراد، فأخذ جرادتين فقتلهما ونسي إحرامه، ثم ذكر إحرامه فألقاهما، فلما قدمنا المدينة دخل القوم على عمر رضي الله عنه ودخلت معه، فقص القصة على عليٍّ وعمر فقال: ما جعلت على نفسك يا كعب؟ قال: درهمين. قال: بخ، درهمان خير من مائة جرادة، اجعل ما جعلت في نفسك. وبإسناد الشافعي (¬2) الصحيح عن القاسم بن محمد قال: كنت جالسًا عند ابن عباس، فسأله رجل عن جرادة قتلها وهو محرم، فقال ابن عباس رضي الله عنه: قبضة من طعام، ولتأخذن بقبضة جرادات. قال الشافعي: أشار بذلك إلى أن فيها القيمة على المحرم. وفي الحرم ولو عم الجراد المسالك ولم يجد بدًّا من وطئه فالأظهر أنه لا ضمان. كذا ذكره الدميري (¬3). 1106 - وعن أنس رضي الله عنه في قصة الأرنب قال: فذبحها فبعث بوركها إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقبله. متفق عليه (¬4). الحديث، لفظ البخاري عن أنس قال: أنفجنا أرنبا ونحن بمر الظهران، فسعى القوم فلغبوا، فأخذتها فجئت بها إلى أبي طلحة فذبحها، فبعث ¬

_ (¬1) الأم 2/ 195، 196. (¬2) الأم 2/ 196. (¬3) حياة الحيوان 1/ 269. (¬4) البخاري، كتاب الذبائح والصيد، باب الأرنب 9/ 661 ح 5535، ومسلم، كتاب الصيد والذبائح، باب إباحة الأرنب 3/ 1547 ح 1953.

بوركيها -أو قال: بفخذيها- إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقبلها. وجاء في رواية (¬1). بعجزها. قوله: في قصة الأرنب. هي واحدة الأرانب، وهي حيوان يشبه العَناق، قصير اليدين، طويل الرجلين، عكس الزرافة، يطأ الأرض على مؤخَّر قوائمه، وهو اسم جنس يطلق على الذكر والأنثى، وذكرها يقال [له] (أ): الخُزَز. بضم الخاء المعجمة وزايين معجمتين مفتوحة أولاهما، بوزن عُمَر، ويقال للأنثى: عِكرِشَة. ولصغيرها: خِرنَق (ب). بكسر الخاء المعجمة، فهي أولًا خِرنَق، ثم سَخلة، ثم أرنب، ويكون عامًا ذكرًا وعامًا أنثى. والحديث فيه دلالة على حِل أكلها. وقوله: فقبلها. لا يدل على أنه أكل منها. وفي رواية البخاري (¬2) في كتاب الهبة، قال الراوي -وهو هشام بن زيد-: قلت لأنس: وأكل منه؟ قال: وأكل منه. ثم قال: فقبله. فكأنه تردد في الأكل فلم يجزم وجزم بالقبول، ولذلك رجع إليه، وقد أخرج الدارقطني (¬3) من حديث عائشة: أُهدِي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أرنب وأنا نائمة فخبأ لي منها العجز، فلما قمت أطعمني. وهذا يشعر بأنه أكل منها، ولكن إسناده فيه ضعف، ووقع في "الهداية" (¬4) للحنفية أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أكل ¬

_ (أ) ساقطة من: ب، جـ. والمثبت يقتضيه السياق، وينظر حياة الحيوان للدميري 1/ 31. (ب) في هامش ب: الخرنق كزبرج، الفتي من الأرانب أو ولده. قاموس.

من الأرنب حين أهدي إليه مشويًّا وأمر أصحابه بالأكل منه. قال المصنف (¬1) رحمه الله تعالى: وكأنه تَلقاه من حديثين؛ فأوله من حديث البخاري وقد ظهر ما فيه، والآخر من حديث أخرجه النسائي (¬2) من طريق موسى بن طلحة عن أبي هريرة: جاء أعرابي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بأرنب قد شواها، فوضعها بين يديه، فأمسك وأمر أصحابه أن يأكلوا. ورجاله ثقات، إلا أنه اختلف على موسى بن طلحة اختلافًا كثيرًا، وقد أخرج البيهقي (¬3) الأمر بأكلها من حديث محمد بن صفوان وجابر بن عبد الله وغيرهما. وقد وقع الإجماع على حِل أكلها، وجاء عن عبد الله بن عمر وعن عكرمة من التابعين وعن محمد بن أبي ليلى من الفقهاء -وهو مذهب الهادي- أنها مكروهة (¬4). وحجتهم حديث خزيمة بن جَزء (¬5): قلت: يا رسول الله، ما تقول في الأرنب؟ قال: "لا آكله ولا أحرمه". قلت: فإني آكل ما لا تحرمه، ولِمَ يا رسول الله؟ قال: "نبئت أنها تدمى". وسنده ضعيف. وأخرج أبو داود والبيهقي (¬6) من حديث ابن [عمرو] (أ) أنه جيء بها إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فلم يأكلها ولم ينه عنها. وزعم أنها تحيض. وأخرج البيهقي (¬7) عن عمر وعمار مثل ¬

_ (أ) في ب، جـ: عمر. والمثبت من مصدري التخريج.

ذلك، وأنه أمر بأكلها ولم يأكل منها. وكذا أخرج عن عمر في "مسند إسحاق بن راهويه" (¬1)، ولكن عدم أكله لا يدل على الكراهة، وحكى الرافعي عن أبي حنيفة التحريم. قال المصنف رحمه الله (1): وغلط النووي في النقل عن أبي حنيفة حلها. وقوله في صدر الحديث: أنفجنا. بفاء مفتوحة وجيم ساكنة، أي: أثَرْنا. وقوله: بمَرِّ الطَّهران. مر بفتح الميم وتشديد الراء، والظهران بفتح المعجمة وبلفظ المثنى، اسم موضع على مرحلة من مكة، وهو الذي يسميه عوام المصريين بطن مرو، والصواب مرّ بتشديد الراء. وقوله: فلغبوا. بالغين المعجمة وموحدة؛ أي: تعبوا. وزنا ومعنى، وقال النووي (¬2): بفتح الغين المعجمة في اللغة الصحيحة والمشهورة، وفي لغة ضعيفة كسرها، حكاها الجوهري (¬3) وغيره وضعفوها. فائدة: ذكر الدميري في "حياة الحيوان" (¬4) أن الذي يحيض من الحيوان المرأة والضبع والخفاش والأرنب، ويقال: إن الكلبة كذلك. والله أعلم. 1107 - وعن ابن عباس رضي الله عنه قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن قتل أربع من الدواب؛ النملة والنحلة والهدهد والصرد. رواه أحمد ¬

_ (¬1) ينظر الفتح 9/ 662. (¬2) شرح مسلم 13/ 104، 105. (¬3) الصحاح (ل غ ب) 1/ 220. (¬4) حياة الحيوان 1/ 32.

وأبو داود، وصححه ابن حبان (¬1). الحديث رجاله رجال الصحيح، قال البيهقي (¬2): هو أقوى ما ورد في هذا الباب. ثم رواه من حديث سهل بن سعد، وزاد فيه الضفدع، وفيه عبد المهيمن بن عباس بن سهل بن سعد وهو ضعيف (¬3). الحديث فيه دلالة على تحريم قتل الأربع المذكورة (أ)، ويلزم منه تحريم أكلها؛ لأنه لو حل أكلها لما نهى عن القتل، وجعل الإمام المهدي في "البحر" أصول تحريم الحيوان سبعة أشياء هذا أحدها، والقول بتحريم أكلها هو قول الجمهور، وفي كل واحدة خلاف إلا في النمل فالظاهر أنه إجماع، وإنما الرافعي نقل وجها عن أبي الحسن العبادي أنه يجوز بيعه في قرية من الأهواز تسمى عسكر مُكْرَم؛ لأنه يعالج بها السَّكَر، بفتح السين والكاف، وفي نصيبين؛ لأنه يعالج به العقارب الطيارة. وعن الخطابي (¬4) أن النهي الوارد في قتل النمل المراد به السليماني، أي لانتفاء الأذى منه دون الصغير، وكذا في "شرح السنة" (¬5). والعقارب الطيارة المراد بها الجرارة، وقد جاء في حديث خوات بن جبير عن أبيه، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى أن يؤكل ما حملت النملة ¬

_ (أ) في جـ: المذكورات.

بفيها وقوائمها. أخرجه أبو نعيم في "الطب". وأما النحلة فقد روي عن بعض السلف أنه أباح أكلها. وأما الهدهد فقيل: إنه يحل أكله. وهو مأخوذ من قول الشافعي: إنه يلزم الفدية في قتله. وعنده لا يجب الفدية إلا في الصيد المأكول. وأما الصرد فهو طائر فوق العصفور، وقال مالك: إنه يؤكل. قال الفاضي أبو بكر بن العربي (¬1): إنما نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن قتله، لأن العرب كانت تتشاءم به، فنهى عن قتله ليزول ما في قلوبهم من اعتقاد التشاؤم. وقول للشافعي مثل مالك، لأنه أوجب فيه الجزاء على المحرم إذا قتله. 1108 - وعن ابن أبي عمار قال: قلت لجابر رضي الله عنه: الضبع صيد هي؟ قال: نعم. قلت: قاله رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: نعم. رواه أحمد والأربعة، وصححه البخاري وابن حبان (¬2). هو عبد الرحمن بن أبي عمار المكي، وثّقه أبو زرعة والنسائي ولم يتكلم فيه أحد، وسمي القس لعبادته (¬3). ووهم ابن عبد البر في إعلاله (¬4)، وصحح ¬

_ (¬1) عارضة الأحوذي 6/ 277. (¬2) أحمد 3/ 318، 322، وأبو داود، كتاب الأطعمة، باب في أكل الضبع 3/ 354 ح 3801، والترمذي، كتاب الحج، باب ما جاء في الضبع يصيبها المحرم 3/ 207 ح 851، وفي كتاب الأطعمة، باب ما جاء في أكل الضبع 4/ 222 ح 1791، وابن ماجه، كتاب الصيد، باب الضبع 2/ 1078 ح 3236، والنسائي، كتاب المناسك، باب ما لا يقتله المحرم 5/ 191، وكتاب الصيد، باب الضبع 7/ 200، وابن حبان، كتاب الحج، باب ما يباح للمحرم وما لا يباح 9/ 278 ح 3965، وينظر علل الترمذي للقاضي ص 298. (¬3) ووثقه ابن سعد، وقال أبو حاتم: صالح الحديث. وذكره ابن حبان في الثقات، وقال الحافظ: ثقة عابد. الطبقات 5/ 484، والجرح والتعديل 5/ 249، والثقات 5/ 113، والتقريب ص 344، وينظر تهذيب الكمال 17/ 229. (¬4) التمهيد 1/ 155.

الحديث المذكور البيهقي وابن خزيمة (¬1). قال الشافعي (¬2): وما يباع لحم الضباع إلا بين الصفا والمروة. وفي رواية أبي داود زيادة: ويجعل فيه كبش إذا صاده المحرم. والحديث فيه دلالة على حل أكل الضبع، وقد تقدم ذكر الخلاف فيه (أ). ويحتج لمن قال بالتحريم بعموم لفظ: "كل ذي ناب من السباع" المتقدم (¬3)، وبما أخرجه الترمذي (¬4) من حديث خزيمة بن [جزء] (ب) قال: "أو يأكل الضبع أحد؟ ". ويجاب عنه بأن العموم مخصوص. وهذا الحديث في إسناده عبد الكريم أبو أمية، والراوي عنه إسماعيل بن مسلم، وهو متفق على ضعف عبد الكريم (¬5). وقد روي إباحتها عن علي رضي الله عنه (¬6). 1109 - وعن ابن عمر رضي الله عنهما، أنه سئل عن القنفذ فقال: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا} (¬7) الآية. فقال شيخ عنده: سمعت أبا هريرة يقول: ذكر عند النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: "خبيثة من الخبائث". ¬

_ (أ) ساقطة من: جـ. (ب) في ب، جـ: حري. والمثبت من مصدر التخريج، وينظر تهذيب الكمال 8/ 245.

أخرجه أحمد وأبو داود وإسناده ضعيف (¬1). الحديث (أضعف بجهالة أ) الشيخ المذكور. وقال الخطابي (¬2): ليس إسناده بذاك. وقد أخرجه أبو داود من حديث عيسى بن نميلة -بالنون- عن أبيه. وقال البيهقي (¬3): فيه ضعف ولم يرو إلا بهذا الإسناد. قال البيهقي: لم يرو إلا من وجه ضعيف. وعن سعيد بن جبير قال: جاءت أم حفيد بقنفذ إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فوضعته بين يديه فنحَّاه ولم يأكله. وفيه إرسال. والقنفذ بضم القاف وفتحها الذكر منه، وكنيته أبو سفيان وأبو الشوك، والأنثى أم دلدل (¬4). الحديث فيه دلالة على أنه يحرم أكله؛ لأن المستخبث محرم، وقد ذهب إلى هذا أبو طالب والإمام يحيى. وقال الرافعي: في القنفذ وجهان؛ أحدهما، أنه يحرم. وبه قال أبو حنيفة وأحمد؛ لما روى في الخبر أنه من الخبائث. والثاني، وهو الأصح، أنه يحل. وقال القفال (¬5): إن صح الخبر فهو حرام، وإلا رجعنا إلى العرب، والمنقول عنهم أنهم يستطيبونه. وذهب ¬

_ (أ- أ) في جـ: ضعيف لجهالة.

مالك وابن أبي ليلى إلى أنه حلال، والحديث فيه ما سمعت. وذهب المؤيد إلى أنه يكره أكله كالضب. ويتأيد القول بحله بما أخرج أبو داود (¬1) من حديث ملقام بن التلب (أ) عن أبيه قال: صحبت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلم أسمع لحشرة الأرض تحريمًا. والحشرة صغار دواب الأرض كاليرابيع والضباب والقنافذ، إلا أن قوله: لم أسمع. لا تصريح فيه بالحل؛ لجواز أن يكون غيره قد سمع التحريم، وعلى أنه لم يسمع فيه التحريم فالخلاف بين الأصوليين في الأصل في الأشياء الحظر أو الإباحة، وهي مسألة مشهورة، وذهب بعضهم إلى أن الإطلاق لا يصح، فلا بد من أن يكون بعضها محظورًا وبعضها مباحًا، والدليل يغني عن حكمه في مواضعه. ورخص في اليربوع والوبر ونحوهما عروة والشافعي والهدوية، وكرهه ابن سيرين وأصحاب الرأي. وسئل عنه مالك فقال: لا أدري. وفي تحريمه حديث رواه أبو داود (¬2)، وليس إسناده بذاك. 1110 - وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الجلالة وألبانها. أخرجه الأربعة إلا النسائي، وحسنه الترمذي (¬3). ¬

_ (أ) في جـ: التب. وينظر تهذيب الكمال 28/ 483.

وأخرج الحاكم والدارقطني والبيهقي (¬1) من حديث ابن عمرو بن العاص نحوه وقال: حتى تعلف أربعين ليلة. ورواه أحمد وأبو داود والنسائي والحاكم (¬2) من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده بلفظ: نهى عن لحوم الحمر الأهلية وعن الجلَّالة وعن ركوبها. ولأبي داود (¬3): أن يركب عليها أو يشرب ألبانها. الحديث فيه دلالة على تحريم لحم الجلالة؛ وهي التي تأكل العذرة والنجاسات، سواء كانت من الإبل أو البقر أو الغنم أو الدجاج، وكذا شرب لبنها، وسواء كان الغالب على علفها النجاسة أو غيرها، وقيل: لا تكون جلالة إلا إذا غلب على علفها النجاسة. وهذا مقتضى كلام النووي (¬4) في "التحرير"، والصحيح أنه لا اعتبار بالكثرة بل بالرائحة والنتن كما جزم به النووي. وذكر مثل هذا الإمام يحيى، قال: ولا يطهر بالطبخ وإلقاء التوابل وإن زال الريح إذ ليس باستحالة بل تغطية، وحرمت لأنها صارت من الخبائث. وقيل: تكره لأن النهي الوارد فيه إنما كان لتغير اللحم، وهو لا يوجب التحريم بدليل المذكَّى إذا [جفَّ] (أ). وهذا نقله الرافعي في "الشرح والتذنيب" عن إيراد الأكثرين، فإن علفت طاهرًا وطاب لحمها بأن ¬

_ (أ) في ب، جـ: جاف. والمثبت من سبل السلام 4/ 160.

زال عنها التغير حل لزوال العلة. وقد ذهب إلى العمل بظاهر الحديث أحمد والثوري. قال الإمام المهدي في "البحر" ردًّا عليهما: ولا وجه له. ويجاب عنه بأن الوجه النهي عن ذلك. وقال الخطابي (¬1): كرهه أحمد وأصحاب [الرأي] (أ) والشافعي، وقالوا: لا تؤكل حتى تحبس أيامًا. وفي حديث، أن البقر تعلف أربعين يومًا ثم يؤكل لحمها. وكان ابن عمر يحبس الدجاجة (ب ثلاثة أيام ب). ولم يرَ بأكلها بأسًا مالك من دون حبس. انتهى. وقال المهدي: المذهب: ويكره ما علت جله، أو استوى هو أو علفه قبل حبسه. ثم قال: فإن لم تحبس وجب غسل أمعائها ما لم يستحل ما فيه استحالة تامة. وقال المذهب والفريقان: ونُدب حبس الجلالة قبل الذبح؛ الدجاجة ثلاثة أيام، والشاة سبعة، والبقرة والناقة أربعة عشر. وقال مالك: لا وجه له. قلنا: لتطيب أجوافها. انتهى. وقد عرفت أن في الحديث: تحبس أربعين ليلة. وكان الوقوف مع السنة هو الواجب. وقوله: وألبانها. يعني أن حكم لبن الجلالة حكم لحمها. فالحديث يدل على تحريم لبنها، ولعله يجيء في اللبن الخلاف الذي في اللحم، وكذا البيض، وفي رواية الركوب، يكون حكم الركوب حكمهما، ولعله إذا كان بغير حائل على وجه يترطب الراكب بجسمها. وحكم السخلة (¬2) المغتذية بلبن كلبة حكم الجلالة. 1111 - وعن أبي قتادة في قصة الحمار الوحشي: فأكل منه ¬

_ (أ) في ب: الرازي. (ب- ب) في جـ: ثلاثًا.

النبي - صلى الله عليه وسلم -. متفق عليه (¬1). تقدم قصة الحمار في كتاب الحج. والحمار الوحشي يقال له أيضًا: حمار وحش. وهو العَير، وربما أطلق العير عليه وعلى الحمار الأهلي، ويسمى الفراء (¬2). والحديث فيه دلالة على أنه يحل أكله، وهو مجمع على حِل أكله، إلا ما روي عن مطرف أنه إذا أنس واعتلف صار كالأهلي، وأهل العلم على خلافه. فائدة: يقال: إن الحمار الوحشي يتعمر مائتي سنة وأكثر. وذكر ابن خلكان (¬3) في ترجمة يزيد بن زياد (¬4) أن حمارًا وحشيًّا عاش أكثر من مائتي سنة. وألوانه مختلفة، والأخدرية أطولها عمرًا وأحسنها شكلا، وهي منسوبة إلى أخدر؛ فحل كان لكسرى أردشير، توحش واجتمع [بعانات] (أ) فضرب فيها، فالمتولد منها يقال له: أخدري. وقال الجاحظ (ب): أعمار حمر الوحش تزيد على أعمار الحمر الأهلية، ولا نعرف حمارًا أهليًّا عاش أكثر من ¬

_ (أ) في ب، جـ: بغابات. والمثبت من الحيوان 1/ 139، وحياة الحيوان الكبرى 1/ 361. والعانات جمع عانة وهي القطيع من حمر الوحش. اللسان (ع ون). (ب) في ب: الحافظ. والمثبت موافق لما في حياة الحيوان، وانظر الحيوان 1/ 139.

حمار أبي سيارة، وهو عُميلة بن خالد (أ) كان له حمار أسود أجاز [الناس] (ب) عليه من مزدلفة إلى منى أربعين سنة. 1112 - وعن أسماء بنت أبي بكر قالت: نحرنا على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرسًا فأكلناه. متفق عليه (¬1). مع زيادة: ونحن بالمدينة. تقدم الكلام في حل الخيل والخلاف فيه. وهذا الحديث فيه دلالة على الحل، وقد جاء في رواية الدارقطني (¬2) زيادة: فأكلنا نحن وأهل بيت النبي - صلى الله عليه وسلم -. ويستفاد من قولها: ونحن بالمدينة. أن ذلك بعد فرض الجهاد. وفيه رد (جـ) على من قال: إنها حرمت لعلة أنها من آلات الجهاد، والحل كان قبل فرض الجهاد. ولا يقال: إن ذلك من فعلهم ولم يذكر تقرير (د) النبي - صلى الله عليه وسلم - لهم على ذلك. لأن الظاهر من مثل هذه الصيغة دعوى تقرير النبي - صلى الله عليه وسلم - واطلاعه على ذلك، إذ من البعيد أن يقدموا على فعل شيء في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا يعلمون حله، وهذا هو المختار عند أهل الأصول المحققين أن قول الصحابي: كنا نفعل. و: كانوا يفعلون على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. له (هـ) حكم الرفع، وإذا كان هذا في مطلق الصحابة فكيف ¬

_ (أ) في الحيوان: أعزل. وما هنا موافق لما في حياة الحيوان 1/ 362. (ب) ساقطة من: ب، جـ. والمثبت من حياة الحيوان الكبرى 1/ 362. (جـ) في جـ: دلالة. (د) في جـ: تقدير. (هـ) ساقطة من: جـ.

بآل أبي بكر واتصالهم برسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟! وأما مع زيادة الدارقطني فالأمر أشد ظهورًا. وقولهما: نحرنا. وقد جاء في رواية الدارقطني: ذبحنا. وفي هذا دلالة على أن الذبح والنحر بمعنى واحد، إذ القصة واحدة، وإن كان النووي (¬1) قال: اختلاف الرواة بلفظ: نحرنا، و: ذبحنا. يدل على تعدد القصة. وقال: ويجوز أن تكون قصة (أ) واحدة، وأحد اللفظين مجاز عن الآخر. والنحر إنما هو للإبل خاصة؛ وهو الضرب بالحديدة في لبة البدنة حتى تفرى أوداجها، والذبح، وهو قطع الأوداج، في غير الإبل، وقد جاءت أحاديث في ذبح الإبل وفي نحر غيرها. وقال ابن التين (¬2): الأصل في الإبل النحر وفي غيرها الذبح، وجاء في القرآن في البقرة: {فَذَبَحُوهَا} (¬3). وفي السنة: نحرها. وقد اختلف العلماء في ذبح ما ينحر ونحر ما يذبح، فأجازه الجمهور، ومنع ابن القاسم من المالكية. وروى إسماعيل بن أبي أويس عن مالك فيمن نحر البقر، قال مالك: بئس ما صنع. وتلا الآية (¬4). وعن أشهب: إن ذبح بعيرًا من غير ضرورة لم يؤكل. وقال ابن عباس (¬5): موضع الذكاة الحلق واللَّبَّة، بفتح اللام وتشديد الباء. وعن عمر مثله (5). وجاء ¬

_ (أ) في ب: قضية.

أيضًا مرفوعًا من وجه واه (¬1). واللبة: موضع القلادة من الصدر وهي المنحر. والذبح: قطع الودَجَين، بفتح الدال المهملة والجيم، وهما عرقان محيطان بالحلقوم. وقولهم: الأوداج. من باب التغليب على الحلقوم والمريء، فسميت الأربعة أوداجًا (أ). وذهبت الحنفية إلى أنه يكفي قطع ثلاثة أوداج من أي جانب. وعن أبي يوسف ثلاث روايات، أحدها، كالقول الذي قبله. والثاني، قطع الحلقوم واثنين من الثلاثة الباقية. والثالثة، الحلقوم والمريء وأحد الودجين. وحكى ابن المنذر (¬2) عن محمد بن الحسن، أنه إذا قطع الحلقوم والمريء وأكثر من نصف الأوداج أجزأ. وقال الشافعي (¬3): يكفي قطع الحلقوم والمريء وإن لم يقطع الودجين. قال: لأنهما قد يسلبان من الإنسان وغيره فيعيش. وعن الثوري: إن قطع الودجين أجزأ ولو لم يقطع الحلقوم والمريء. وعن مالك: يشترط قطع الحلقوم والودجين. واحتج له بقوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث رافع: "ما أنهر الدم" (¬4). وإنهاره إجراؤه؛ وذلك يكون بقطع الأوداج لأنها مجرى الدم. وأما المريء فهو مجرى الطعام، وليس به من الدم ما يحصل به إنهاره. ورواية عن مالك أنه يكفي قطع الودجين، وعنه اشتراط قطع الأربعة. وذهب الهدوية إلى أنه يشترط ذبح ¬

_ (أ) في جـ: أوداج.

الأربعة، ولا يجب استكمالها، فيعفى إذا بقي من كل دون ثلثه. والوجه أنه يطلق الكل على الأكثر. 1113 - وعن ابن عباس رضي الله عنه قال: أُكل الضَّب على مائدة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. متفق عليه (¬1). هذا الحديث بهذا اللفظ من رواية ابن عباس. والحديث قال: أهدت خالتي أم حُفَيد، بضم الحاء المهملة وبالفاء، إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سمنًا وأقطًا وأَضُبًّا، فأكل من السمن والأقط وترك الضب تقذرًا، وأُكل على مائدة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وفي رواية له (¬2): فدعا بِهنّ فأُكلن (أ) على مائدته وتركهن كالمتقذر لهن، ولو كن حرامًا ما أُكلن على مائدة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (ب ولا أمر ب) بأكلهن. وجاء في روايات (¬3) أنه كان معه خالد بن الوليد. وفي بعض الروايات (¬4) أنه روي ذلك عن خالد بن الوليد. وفي ذلك روايات أخر. قال الحميدي: وعلى روايات ذكر خالد عول البخاري وجعله من ¬

_ (أ) في جـ: فأكلوا. (ب- ب) في جـ: والأمر.

مسند خالد. والجمع بين هذه الروايات أن ابن عباس كان حاضرًا هو وخالد بن الوليد، وكانت ميمونة خالتهما جميعًا، وكأن ابن عباس استثبت في الرواية من خالد لكونه الذي باشر السؤال للنبي - صلى الله عليه وسلم - عنه كما جاء في الروايات، وهو الذي اجتر الضب وأكله، وكان ابن عباس ربما رواه عنه. وقد جاء في رواية الطحاوي (¬1) أنها أهدت ضبًّا وقنفذًا. وذكر القنفذ فيه غريب. والحديث فيه دلالة على حل أكله. وحكى القاضي عياض عن قوم تحريمه، وعن الحنفية كراهته. وأنكر ذلك النووي وقال (¬2): لا أظنه يصح عن أحد، فإن صح فهو محجوج بالنص ولإجماع من قبله. قال الطحاوي (¬3) في معنى الآثار: كره قوم أكل الضب، منهم أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد بن الحسن. قال (¬4): واحتج محمد بحديث عائشة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أُهدي له ضب فلم يأكله، فقام عليهم سائل فأرادت عائشة أن تعطيه، فقال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أتعطنه ما لا تأكلين؟ ". إلا أنه لا يدل على الكراهة؛ لأن الصدقة حقها أن تكون مما يحبه المتصدق. كذا قاله الطحاوي. إلا أنه يحتج لذلك بما أخرجه أبو داود (¬5) بإسناد حسن عن عبد الرحمن بن شبل، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الضب. وفي إسناده إسماعيل بن عياش، ولكن رجاله ¬

_ (¬1) الفتح 9/ 664. (¬2) شرح مسلم 13/ 99. (¬3) شرح معاني الآثار 4/ 200. (¬4) شرح معاني الآثار 4/ 201. (¬5) أبو داود 3/ 353 ح 3796.

شاميون وهو في الشاميين قوي (¬1). فقول الخطابي (¬2): ليس إسناده بذاك. غير مسلَّم، وكذا قول ابن حزم (¬3): فيه ضُعَفاء ومجهولون. غير مسلم؛ فإن رجاله ثقات، وقول البيهقي (¬4): تفرد به إسماعيل بن عياش، وليس بحجة. مدفوع بما عرفت. وأخرج أبو داود (¬5) من حديث عبد الرحمن بن حسنة، أنهم طبخوا ضبابا، فقال - صلى الله عليه وسلم -: "إن أمة من بني إسرائيل مُسخت دواب في الأرض، فأخشى أن يكون هذه، فألقوها". وأخرجه أحمد (¬6)، وصححه ابن حبان (¬7) والطحاوي (¬8)، وسنده على شرط الشيخين. وقد يجاب عن هذا بأنه وقع من النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل أن يعلم أن الممسوخ لا يَنْسِل (¬9). وقد أخرج الطحاوي (¬10) عن عبد الله بن مسعود قال: سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن القردة والخنازير؛ أهي مما مسخ؟ قال: "إن الله لم يهلك قومًا -أو يمسخ قوما- فيجعل لهم نسلًا ولا عاقبة". وأصل الحديث في مسلم (¬11). ويتعجب من ابن العربي حيث قال (¬12): قولهم: إن الممسوخ لا ينسل. دعوى، فإنه أمر لا ¬

_ (¬1) تقدمت ترجمته في 1/ 92. (¬2) معالم السنن 4/ 144. (¬3) المحلى 8/ 144. (¬4) البيهقي 9/ 326. (¬5) أبو داود 3/ 353 ح 3795 من حديث ثابت بن وديعة. (¬6) أحمد 4/ 196. (¬7) ابن حبان 12/ 73 ح 5266. (¬8) شرح معاني الآثار 4/ 197. (¬9) يَنْسِل: يلد. وينظر المصباح المنير (ن س ل). (¬10) شرح معاني الآثار 4/ 198، 199. (¬11) مسلم 4/ 2050 - 2052 ح 2663. (¬12) عارضة الأحوذي 7/ 290.

يعرف بالعقل، وإنما طريقه النقل، وليس فيه أمر يعول عليه. ولعله غفل عما في "صحيح مسلم"، وبأن كونه ممسوخًا لا يقتضي تحريم أكله، فإن كونه آدميا قد زال حكمه ولم يبق له أثر أصلًا، وإنما كره - صلى الله عليه وسلم - الأكل منه لما وقع عليه من سخط الله سبحانه وتعالى، كما كره الشرب من مياه ثمود. ومسألة تحريم أكل الآدمي إذا مسخ حيوانا مأكولا لم يتعرض لها الفقهاء، وظاهر كلام الهدوية في قولهم: إنه يعتبر في الحيوان بالأم. أن أول الممسوخات لا يحل أكلها؛ لأن أمها آدمية، وأما نسلها -إذا فُرِض- فيحل؛ لأن أمهاتها حيوان من الأنعام التي جنسها يؤكل. وفي قوله: "فأخشى". دلالة على عدم الجزم بما ذكر، وإنما ذلك من باب التقذر (أ) والبعد عن الشبهة. وأخرج مسلم (¬1) من حديث يزيد بن الأصم، أنه قال بعض القوم عند ابن عباس: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في الضب: "لا آكله ولا أنهى عنه ولا أحرمه". فقال ابن عباس: بئس ما قلتم، ما بعث (ب) نبي الله إلّا محرِّمًا أو محلِّلًا. وأخرج الحديث أبو بكر بن أبي شيبة (¬2) شيخ مسلم بالسند الذي ساقه مسلم بلفظ: "لا آكله ولا أنهي عنه ولا أحله ولا أحرمه". ولعل مسلمًا حذف زيادة: "ولا أحله". عمدًا لشذوذها؛ فإن في حديث ¬

_ (أ) في جـ: التقرير. (ب) في ب: بعد.

ابن (أ) عمر: "لا آكله ولا أحرمه". ولم يذكر: "ولا أحله". ويزيد بن الأصم وإن كان ثقة فهو أخبرنا بها عن قوم كانوا عند ابن عباس وكانوا مجهولين، ولم يقل يزيد أنهم أصحاب ابن عباس، ويتأول لفظ: "ولا أحله". بأني لا أحله على وجه أكله لا على معنى التحريم؛ لقوله: "ولا أحرمه". فيتحصل من هذا كراهة أكله لا تحريمه، ويتأيد هذا بما جاء في رواية لمسلم (¬1): "كلوه، فإنه حلال، ولكنه ليس من طعامي". 1114 - وعن عبد الرحمن بن عثمان رضي الله عنه أن طبيبًا سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الضِّفدِع يجعلها في دواء، فنهى عن قتلها. أخرجه أحمد وصححه الحاكم (¬2). هو عبد الرحمن بن عثمان بن عبيد الله التيمي القرشي، ابن أخي طلحة بن عبيد الله، صحابي، وقيل: إنه أدرك النبي - صلى الله عليه وسلم -، وليست له رواية. وأسلم يوم الحديبية، وقيل: يوم الفتح. وقتل مع عبد الله بن الزبير في يوم واحد، روى عنه ابناه معاذ وعثمان، ومحمد بن المنكدر (أ)، وأبو سلمة بن عبد الرحمن، وسعيد بن المسيب (¬3). ¬

_ (أ) ساقطة من: ب. (ب) في جـ: المنذر. وينظر تهذيب الكمال 17/ 274.

الحديث أخرجه أحمد وأبو داود (¬1) والنسائي (¬2) والبيهقي (¬3) بلفظ: ذكر طبيب عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دواء وذكر الضِّفدِع يجعل فيه، فنهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن قتل الضِّفدِع، قال البيهقي (3): هو أقوى ما ورد في النهي عن قتل الضِّفدِع. وأخرج (¬4) من حديث أبي هريرة النهي عن قتل الصُّرَد والضفدع والنملة والهدهد. وفي إسناده إبراهيم بن الفضل وهو متروك (¬5). وأخرج (¬6) من حديث سهل بن سعد مثله، وفي إسناده عبد المهيمن بن عباس بن سهل بن سعد وهو ضعيف (¬7). وأخرج (3) من حديث عبد الله بن عمرو موقوفًا: لا تقتلوا الضفادع فإن نقيقها تسبيح، ولا تقتلوا الخفاش فإنه لما خرب بيت المقدس قال: يا رب سلطني على البحر حتى أغرقهم. قال البيهقي: (أإسناد صحيح أ). وعن أنس: لا تقتلوا الضفادع، فإنها مرت على نار إبراهيم فجعلت في أفواهها الماء وكانت ترشه على النار. ¬

_ (أ- أ) في جـ: إسناده ضعيف.

والحديث فيه دلالة على تحريم أكلها؛ لأنه نهي عن قتلها، وهو يقتضي تحريم الأكل، وهو إجماع، لأنه لو حل أكلها لما حرم قتلها. قال بعض الفقهاء: المناسب لتحريمها أنها كانت جار الله سبحانه في الماء الذي كان عليه العرش قبل خلق السماوات والأرض، قال الله تعالى: {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ} (¬1). والله سبحانه أعلم. والضِّفدِع بوزن الخِنصِر واحد الضفادع، والأنثى ضِفدِعة، وقد يقال بفتح الدال، قال الخليل (¬2): ليس في الكلام فعلَل إلّا أربعة أحرف؛ درهم، وهِجْرَع للطويل، وهِثلَع للأكول، و [قلعم] (أ) وهو اسم. وقال ابن الصلاح (¬3): الأشهر فيه من حيث اللغة كسر الدال، وفتحها أشهر في أَلْسنة العامة وأشباهِ العامة من الخاصة، وقد أنكره بعض أئمة اللغة. ¬

_ (أ) في ب، جـ: فلعم. والمثبت من اللسان (قلعم) ومعناه: الشيخ الكبير المسن الهرم.

باب الصيد والذبائح

باب الصيد والذبائح 1115 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من اتخذ كلبًا إلا كلب ماشية أو صيد أو زرع، انتقص من أجره كل يوم قيراط". متفق عليه (¬1). الحديث ورد بلفظ: "اتخذ" (¬2)، و: "اقتنى"، و: "أمسك". في روايات "الصحيحين". وجاء بلفظ: أمر بقتل الكلاب إلّا كلب صيد أو غنم. في حديث ابن عمر. وزيادة: "أو زرع". وردت في حديث أبي هريرة، فقيل لابن عمر، فقال ابن عمر: إن لأبي هريرة زرعًا (¬3). ويقال: إنه أراد ابن عمر أن أبا هريرة لما كان صاحب زرع كان له عناية في حفظها؛ لأن من كان مشتغلًا بشيء احتاج إلى تعرف أحكامه، وقد روي ذلك من حديث سفيان بن أبي زهير (¬4) وعبد الله بن مغفل (¬5)، والعطف بـ "أو" في الثلاثة للتنويع لا للتشكيك. والحديث فيه دلالة على المنع من اتخاذ الكلاب، وهو يحتمل الكراهة بدليل نقص بعض الثواب على التدريج، فلو كان حرامًا لذهب الثواب مرة ¬

_ (¬1) البخاري، كتاب الحرث والمزارعة، باب اقتناء الكلب للحرث 5/ 5 ح 2322، ومسلم، كتاب المساقاة، باب الأمر بقتل الكلاب وكان نسخه 3/ 1203 ح 1575/ 58 واللفظ له. (¬2) لفظ: "اتخذ" عند مسلم الوضع السابق. ولفظ: "اقتنى" عند البخاري 5/ 5 ح 2323، ومسلم 3/ 1203 ح 1575/ 57. ولفظ: "أمسك" عند مسلم 3/ 1203 ح 1575/ 59. (¬3) مسلم 3/ 1200 ح 1571/ 46. (¬4) مسلم 4/ 1203 ح 1576/ 61. (¬5) مسلم 3/ 1200، 1201 ح 1573/ 48.

واحدة. والوجه المناسب لمنع اتخاذها من دون حاجة هو ما يحصل منها من ترويع الناس وامتناع دخول الملائكة للبيت الذي هم فيه. كذا ذكره ابن عبد البر (¬1). ولكنه يحتمل أن يكون حرامًا وتكون العقوبة في اتخاذه نقصان القيراط، يعني أن الإثم الحاصل باتخاذه يوازن قدر قيراط من أجر المتخذ له. وأما حكمة التحريم فلِما في بقائها في البيت من التسبب إلى امتناع دخول الملائكة إليه، الذين دخولهم يقرب إلى فعل الطاعة والبعد عن المعصية، وبعدهم يتسبب إلى القرب من المعصية وترك الطاعة، ولما فيها من أذى المسلمين ولتنجيسها للأواني، وقد يغفل صاحبها فيستعمل الإناء المتنجس وقد سبَّب في نجاسته باتخاذ الكلاب. وقد ذهب إلى تحريم اقتناء الكلب الشافعية، إلا المستثنى. ذكَره النووي (¬2). واختلف العلماء هل نقصان القيراط من عمل ماض أو من الأعمال المستقبلة؟ فقال ابن التين (¬3): إن ذلك من العمل المستقبل. وقد حكى الروياني (3) في "البحر" اختلافا في ذلك، وقد جاء في رواية: "قيراطان". واختلف العلماء في الجمع بين الروايتين؛ فقيل: الحكم بالزائد هو الواجب؛ لأن في ذلك زيادة على الناقص فقد حفظ ما لم يحفظ غيره، أو أنه باعتبار كثرة الإضرار (أ) -كما في المدن- ينقص قيراطان، وقلَّته (ب) -كما في البوادي- ينقص قيراط، أو أن بعض القيراطين ¬

_ (أ) في جـ: الإضراب. (ب) في جـ: ثلثه.

في المدينة المشرفة والقيراط في غيرها، أو قيراط من عمل النهار وقيراط من عمل الليل. فالمقتصر في الرواية باعتبار كل واحد من الليل والنهار، والمثنى باعتبار مجموعهما. واختلف في القيراط هنا هل هو كالقيراط المذكور في الجنازة؟ فقيل بالتسوية، وقيل: الذي في الجنازة من باب الفضل ففيه التوسعة، وهذا من باب العقوبة فهو محمول على العدل، وهي النظر إلى جانب الموازنة. وذكر في الحديث الثلاثة المستثناة فلا ضرر على متخذها، ويقاس عليه حفظ الدور إذا احتيج إلى ذلك. كذا أشار إليه ابن عبد البر (¬1). واتفقوا على أن المأذون في اتخاذه إنما هو غير العقور، وأما العقور فلا يتخذ؛ لأنه مأمورٌ بقتله، ويجوز تربية الجرو الصغير للمنفعة التي يئول إليها إذا كبر. وقد استدل بجواز الاتخاذ على طهارة المتخذ، لأن في ملابسته مع الاحتراز عنه مشقة شديدة، فالإذن في اتخاذه إذن في مكملاتِ مقصودِه، كما أن المنع من لوازمه مناسب للمنع من اتخاذه، وهو استدلال قوي يمكن أن يخصص عموم غسل الإناء مما ولغ فيه الكلب. وفي الحديث دلالة على الحث على تكثير الأعمال الصالحة، والتحذير من العمل بما ينقصها، والتنبيه على أسباب الزيادة فيها والنقص منها لتجتنب، ولطف الله سبحانه بإباحة ما يحتاج إليه في تحصيل أمر المعاش وحفظه. وقد ورد الأمر بقتل الكلاب؛ أخرجه مسلم (¬2) في "صحيحه" من حديث ابن عمر وابن المغفل. قال القاضي عياض (¬3): ذهب كثير من العلماء إلى الأخذ بالحديث في قتل الكلاب إلا ما استثني. قال: وهذا مذهب ¬

_ (¬1) التمهيد 14/ 219، 220. (¬2) تقدم ص 353. (¬3) صحيح مسلم بشرح النووي 10/ 235.

مالك وأصحابه. قال: وذهب آخرون إلى جواز اتخاذها جميعا ونسخ الأمر بقتلها والنهي عن اقتنائها إلا الأسود البهيم. قال: وعندي أن النهي كان أولًا نهيًا عامًّا عن اقتنائها جميعًا، وأمر بقتل جميعها، ثم نهى عن قتل ما سوى الأسود، ومنَع الاقتناء في جميعها إلا المستثنى. انتهى. والمأمور بقتله هو الأسود البهيم وذو النقطتين؛ فإنه شيطان، والمراد بالبهيم الخالص السواد، والنقطتان معروفتان فوق عينيه، وأخذ أحمد من التعليل في الحديث وبعض الشافعية أنه لا يحل صيده. وقال الجمهور: يحل صيده؛ لأن الحديث لم يقصد به إخراجه عن جنس الكلاب، ولهذا إذا ولغ في (أ) إناء وجب غسله كما يغسل من الكلب الأبيض. والله أعلم. 1116 - وعن عدي بن حاتم رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا أرسلت كلبك المعلَّم فاذكر اسم الله، فإن أمسك عليك فأدركته حيًّا فاذبحه، وإن أدركته قد قتل ولم يأكل منه فكله، وإن وجدت مع كلبك كلبا غيره وقد قتل فلا تأكل، فإنك لا تدري أيهما قتله، وإن رميت سهمك فاذكر اسم الله، فإن غاب عنك يوما ولم تجد فيه إلا أثر سهمك فكل إن شئت، وإن وجدته غريقا في الماء فلا تأكل". متفق عليه (¬1)، وهذا لفظ مسلم. قوله: "إذا أرسلت كلبك المعلم". فيه دلالة على أنه لا يعتبر صيد ¬

_ (أ) في ب، جـ: من. والمثبت يقتضيه السياق.

الكلب إلا إذا أرسله صاحبه، فلو استرسل بنفسه لم يحل ما اصطاده عند الجمهور، وحُكي عن الأصم إباحته، قال: لأن المعتبر التعليم. وحكى ابن المنذر (¬1) عن عطاء والأوزاعي أنه يحل إن كان صاحبه أخرجه للاصطياد. ولا بد أن يكون معلقًا، فأما غير المعلم فمجمع على أنه لا يحل صيده. وحدّ التعلم أن يُغْرَى فيقصد، ويزجر فيقعد. ذكره أبو طالب. وقال الشافعي: التعليم هو قبول الإرسال والإغراء حتى يمتثل الزجر في الابتداء لا بعد العدو، ويترك أكل ما أمسك. ومثل هذا ذكر الإمام يحيى؛ أنه إنما يعتبر امتثاله للزجر قبل الإرسال، أما بعد إرساله على الصيد فذلك يتعذر. وقوله: "فاذكر اسم الله". دليل على وجوب التسمية، وقد أجمع المسلمون على التسمية عند الإرسال وعند الذبح والنحر، واختلفوا في أن ذلك واجب أو سنة؛ فذهب الهدوية والناصر وأبو حنيفة وأصحابه إلى أنها واجبة على الذاكر لها، لا تحل ذبيحته ولا صيده إذا تركها عمدا. قالوا: لقوله تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} (¬2). ولما تقدم من الحديث، وعفي عن الناسي لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان" (¬3). ولما سيأتي من حديث ابن عباس في آخر الباب، ولأنه كالأخرس. وذهب من قال بسنتها؛ وهم ابن عباس وزيد بن ثابت وأبو هريرة، ¬

_ (¬1) شرح مسلم 13/ 74. (¬2) الآية 121 من سورة الأنعام. (¬3) تقدم ح 890.

ورواية عن مالك وأحمد، قالوا: لقوله تعالى: {إلا مَا ذَكَّيْتُمْ} (¬1). فأباح التذكية من غير اشتراط التسمية ولا وجوبها، ولقوله تعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} (¬2). وهم لا يسمون، ولحديث عائشة الآتي أنهم قالوا: يا رسول الله، إن قومًا حديث عهد بالجاهلية يأتوننا بلحمان لا ندري أذكروا اسم الله أم لم يذكروا، فنأكل منها؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "سموا وكلوا". رواه البخاري (¬3). وأجابوا عن حجة الأولين أن قوله تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا} الآية. المراد به ما ذبح للأصنام؛ كما قال تعالى: {وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ} (1)، {وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ} (¬4). لأن الله تعالى قال: {وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} (3). وقد أجمع المسلمون على أن من أكل متروك التسمية عليه فليس بفاسق، فوجب حملها على ما ذكر؛ جمعا بينها وبين الآيات السابقة وحديث عائشة، إلا أنه يقال: إن حديث عائشة لا يدل على المقصود؛ لأنه إنما حَلَّ حملا على السلامة للذابحين؛ بأنهم قد سَمَّوا لكونهم مسلمين. وذهب الظاهرية إلى أنه يحرم ما تركت عليه التسمية ولو نسيانا، وهو مروي عن ابن سيرين وأبي ثور. قالوا: لظاهر الآية الكريمة وحديث عديٍّ ولم يفصل (أ) وقد عرفت الجواب عنه، وذهب أحمد، على ما هو الصحيح ¬

_ (أ) في جـ: يفضل.

من مذهبه، أن التسمية شرط في صيد الجوارح. وقوله: "فإن أدركته حيا فاذبحه". فيه دلالة على أنه يجب عليه التذكية إذا وجد فيه الحياة، ولم يحل إلا بالذكاة، وهو مجمع عليه، وقد نقل عن الحسن البصري والنخعي خلافه، ولعله باطل (¬1). قال في "البحر": إجماعا. وأما إذا أدركه ولم يبق فيه حياة مستقرة؛ بأن كان قد قطع حلقومه ومريئه، أو خرق أمعاءه، أو أخرج حشوه (¬2)، فيحل من غير ذكاة. قال النووي (¬3): بالإجماع. قالت الشافعية: ويستحب إمرار السكين على حلقه. واختار الإمام المهدي لمذهب الهدوية إلى أنه إذا بقي فيه رمق وجب تذكيته، والرمق إمكان التذكية لو حضرته آلة. وقوله: "وإن أدركعه وقد قتل ولم يأكل". فيه دلالة على أنه إذا أكل منه حرم أكله. وقد جاء في هذه الرواية معلّلا لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "فإني أخاف أن يكون إنما أمسك على نفسه". وهذا ناظر إلى قوله تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} (¬4). ولم يكن ممسكا على صاحبه، وقد أخرج أحمد (¬5) من حديث ابن عباس: "إذا أرسلت الكلب فأكل [من] (أ) الصيد ¬

_ (أ) ساقط من: ب، جـ. والمثبت من مصدر التخريج.

فلا تأكل، فإنما أمسك على نفسه، وإذا أرسلته فقتل ولم يأكل فكل، فإنما أمسك على صاحبه". وأخرجه البزار (¬1) من وجه آخر عن ابن عباس، وابن أبي شيبة (¬2) من حديث [أبي] (أ) رافع نحوه بمعناه. وقد ذهب إلى هذا ابن عباس وأبو هريرة وعطاء وسعيد بن جبير والحسن والشعبي والنخعي وعكرمة وقتادة وأبو حنيفة وأصحابه وأحمد وإسحاق وأبو ثور وابن المنذر وداود. وذهب عليٌّ وابن عمر وسلمان وسعد بن أبي وقاص، ومالك، وهو قول ضعيف للشافعي، إلى أنه يحل، قالوا: لقوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث أبي ثعلبة الخشُني، قال: يا رسول الله، إن لي كلابا مُكَلَّبَةً، فأفتني في صيدها. قال: "كل مما أمسكن عليك". قال: وإن أكل منه؟ قال: "وإن أكل منه". أخرجه أبو داود (¬3) بإسناد حسن. وفي حديث سلمان: "كله وإن لم تدرك منه إلا نصفه" (¬4). قال الإمام المهدي في "البحر": ويحمل خبر عدي بأن ذلك في كلب قد اعتاد الأكل فخرج عن التعليم، ثم حديث أبي ثعلبة أرجح لكثرة العامل به. انتهى. ¬

_ (أ) في ب، جـ: ابن. والمثبت من مصدر التخريج.

وأجاب بعضهم بأن حديث عدي محمول على كراهة التنزيه، وحديث أبي ثعلبة لبيان أصل الحل، قال بعضهم: ومناسبة ذلك أن عديًّا كان موسرًا فاختير له الأَوْلى، بخلاف أبي ثعلبة فإنه كان من الأعراب العسرين. وبعضهم بأنه يحمل على الذي مات من شدة العدْو أو من الصدمة وأكل منه الكلب. ولا يخفى بُعْدُ هذا. وأجاب أهل القول الأول بأن الحديثين تعارضا، لكن حديث عدي مُرَجَّح؛ لأنه مخرج في "الصحيحين"، ودلالته صريحة، مبيَّنة بالمناسب للتحريم، مؤيَّدة بظاهر قوله تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} (¬1). ومقتضاها أن الذي أمسكه من غير إرسال يحرم، فكذلك ما أكل منه، لأنه في حكم ما استُرسل بنفسه، ويتقوى أيضًا بالشواهد، كحديث ابن عباس. وأما جواب الإمام المهدي وما ذكر بعده فلا تخفى رِكَّتُه. وقوله: "وإن وجدت". إلخ. فيه دلالة على أنه لا يحل ما احتمل أن المؤثر في قتله غيرُ المرسل؛ لوجود الشك في ذلك، فيُغَلَّب جانبُ الحظر، ولهذه القاعدة اختلفوا في أكل الصيد إذا غاب مصرعه؛ فقول لمالك أنه إذا وجد به أثرًا من الكلب، أنه يؤكل ما لم يبت، فإذا بات كره. وقال بالكراهة الثوري. وقال عبد الوهاب من المالكية: إنه لا يؤكل إذا كان من أثر الكلب، وإن كان من السهم ففيه خلاف. وقال ابن الماجشون: يؤكل منهما جميعًا إذا وجد منفوذ المقاتل. وقال مالك في "المدونة" (¬2): لا ¬

_ (¬1) الآية 4 من سورة المائدة. (¬2) المدونة الكبرى 3/ 52.

يؤكل منهما جميعًا إذا بات وإن وجد منفوذ المقاتل. وقال الشافعي: القياس ألا تأكله إذا غاب عنك مصرعه. وقال أبو حنيفة: إذا توارى والكلب في طلبه فوجده المرسِل مقتولا جاز أكله ما لم يترك الكلب الطلب. وتخريج أبي طالب ورواه في "البحر" عن أصحاب أبي حنيفة أنه لا يحل إلا أن يشاهد الإصابة ولحقه فورا فيجدها في مقتل، ولا يُجَوِّزها من غيره، ولا أنه مات بغيرها. انتهى. وحدُّ الفور ألا يتراخى عن اللحوق بقدر التذكية، وذلك بناءً على أن اللحوق من تمام الاصطياد. وقد اختلفت الأحاديث، فروى مسلم والنسائي وأبو داود والترمذي (¬1) عن أبي ثعلبة الخشني عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الذي يدرك صيده بعد ثلاث، قال: "كل ما لم يُنْتِن". وروى مسلم (¬2) عن أبي ثعلبة أيضًا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا رميت سهمك فغاب عنك مصرعه فكل ما لم يبت". وفي حديث عدي في رواية (¬3): "إذا وجدت سهمك فيه ولم تجد فيه أثر سبع، وعلمت أن سهمك قتله فكل". وقوله: "وإن وجدته غريقا فلا تأكل". ظاهر هذا أنه لا يؤكل وإن كان السهم قد أنفذ مقاتله. وقد ذهب إلى هذا أبو حنيفة، قال: ¬

_ (¬1) مسلم 3/ 1532 ح 1931، والنسائي 7/ 220، وأبو داود 3/ 111 ح 2861، وليس عند الترمذي، وينظر تحفة الأشراف 9/ 131 ح 11863. (¬2) مسلم 3/ 1532 ح 1931/ 9 بنحوه، وعنده: "ينتن". بدلا من: يبت". (¬3) النسائي 7/ 219.

[لا يؤكل] (أ) إن وقع في ماء منفوذ المقاتل ويؤكل إن تردى. وقال عطاء (¬1): لا يؤكل أصلا إذا أصيبت المقاتل ووقع في ماء أو تردى من موضع عال؛ لإمكان أن يكون زهوق نفسه من قِبَل التردي أو الماء قَبْل زهوقها من قِبَل إنفاذ المقاتل. واعلم أنه وقع الإجماع على حل ما قتله الكلب، إلا الأسود، ففيه ما تقدم من الخلاف، واختلف العلماء فيما عداه من السباع، كالفهد والنَّمِر وغيرهما، وكذلك الطيور؛ فذهب مالك، كما رواه عنه ابن شعبان (¬2)، أنه يحل بجميع الحيوانات إذا قبلت التعليم وعُلِّمت، حتى السنَّور، وذهب إليه أصحاب مالك، وبه قال فقهاء الأمصار، وهو مروي عن ابن عباس، وقال جماعة، ومنهم مجاهد: لا يحل ما صاده غير الكلب إلا بشرط إدراك ذكاته. وبعضهم خص البازي بحل ما قتله. وقوله تعالى: {مُكَلِّبِينَ}. يحتمل أن تكون مشتقة من الكلْبِ، بسكون اللام، اسم العين، فيكون حجة لمن خص الكلب بالحِلِّ، ويحتمل أن يكون مشتقا من الكلَبِ، بفتح العين، وهو مصدر، بمعنى التكليب؛ وهو التَّضْرِيَةُ. ويقوِّي هذا عموم قوله: {مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ}. فإن الجوارح المراد به الكواسب على أهلها، وهو عام. وعلى جَعْل {مُكَلِّبِينَ} مشتقا من الكلْبِ بالسكون يقاس عليه ¬

_ (أ) ساقط من: ب، جـ. وفي حاشية ب: أظن هنا سقط: لا يؤكل. وينظر بداية المجتهد 6/ 268.

سائر الكواسب من السباع والطير مما يقبل التعليم. ودليل من خص البازي ما أخرجه الترمذي (¬1) من حديث عدي بن حاتم قال: سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن صيد البازي فقال: "ما أمسك عليك فكل". 1117 - وعن عدي قال: سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن صيد المعراض، فقال: "إذا أصبت بحده فكل، وإذا أصبت بعرضه فقتل فإنه وقيذ فلا تأكل". رواه البخاري (¬2). المعراض بكسر الميم وسكون المهملة وآخره معجمة، وهو سهم لا ريش له ولا نصل. كذا قال الخليل (¬3). وقال ابن دريد (¬4) وتبعه ابن سيده (¬5): إنه سهم طويل له أربع قذذ رقاق فإذا رمي به اعترض. وقال الخطابي (¬6): نصل عريض له ثقل ورزانة. وقيل (3): عود رقيق الطرفين غليظ الوسط. وقيل (3): خشبة ثقيلة آخرها عصا محدد رأسها وفد لا يحدد. وقال النووي (¬7): هذا هو المشهور. وقال ابن التين (3): المعراض عصا في طرفها حديد يرمي به الصائد، فما أصاب بحده فهو ذكي يؤكل، وما أصاب بعرضه فهو وقيذ. والوقيذ بقاف وآخره ذال معجمة بوزن عظيم؛ أي موقوذ، وهو ما قتل ¬

_ (¬1) الترمذي 4/ 55 ح 1467. (¬2) البخاري، كتاب الذبائح والصيد، باب صيد المعراض 9/ 603 ح 5476. (¬3) الفتح 9/ 600. (¬4) جمهرة اللغة 2/ 363. (¬5) الفتح 9/ 600، وفي المحكم لابن سيده 1/ 247: المعراض السهم دون ريش يمضي عرضها. (¬6) معالم السنن 4/ 290. (¬7) مسلم بشرح النووي 13/ 75.

بعصا أو حجر أو ما لا حد فيه، والموقوذة المضروبة بخشبة حتى تموت من وقذته، أي ضربته. وقال ابن عمر (¬1): المقتولة بالبندقة تلك الموقوذة. والحديث فيه دلالة على أنه يحل صيد المعراض إذا كان خارقًا للجلد حتى يخرق معه اللحم، فإذا لم يكن له حد لم يحل. وقد ذهب إلى هذا الشافعي ومالك وأبو حنيفة وأحمد، وهو مذهب الهدوية، وذهب مكحول والأوزاعي وغيرهما من فقهاء الشام إلى أنه يحل صيد المعراض مطلقا. وكذا قالوا في صيد البندقة أنه يحل. وذهب إلى هذا ابن أبي ليلى، وحكي عن سعيد بن المسيب (¬2). وقال الجمهور: لا يحل صيد البندقة لأنه كالمعراض. وقوله: "فإنه وقيذ". أي كالوقيذ، من باب التشبيه البليغ، وذلك لأن الوقيذ المقتول بالضرب بالعصا من دون حد، وهذا شاركه في العلة وهو القتل بغير حد. 1118 - وعن أبي ثعلبة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا رميت بسهمك فغاب عنك فأدركته فكُلْه (أ) ما لم ينتن". أخرجه مسلم (¬3). تقدم الكلام في الصيد إذا غاب وإذا بات، وقد جاء في رواية فيمن يدرك (ب) صيده بعد ثلاثٍ: "فكله ما لم ينتن". والحديث فيه دلالة على أنه ¬

_ (أ) في ب: فكل. (ب) في جـ: أدركه.

يحرم أكل اللحم المنتن، وهو محمول على أنه يضر الآكل، أو أنه قد صار مستخبثا. وقد جاء النهي عن أكل المستخبث، أو يحمل على التنزيه، ويقاس عليه سائر اللحوم والأطعمة المنتنة. والله أعلم. 1119 - وعن عائشة رضي الله عنها أن قومًا قالوا للنبي - صلى الله عليه وسلم -: إن قومًا يأتوننا باللحم لا ندري أذكر اسم الله عليه أم لا. فقال: "سموا الله عليه أنتم وكلوه". رواه البخاري (¬1). قوله: إن قومًا. قال المصنف (¬2) رحمه الله تعالى: لم أقف على تعيينهم، ووقع في رواية مالك (¬3): سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وقوله: أَذُكِرَ. بضم الذال على البناء للمجهول. وجاء في رواية (¬4): أذَكَروا. بالضمير بصيغة المعلوم. وفي رواية (¬5): لا ندري أيذكرون. وفي رواية أبي داود (¬6) بلفظ: أم لم يذكروا، أفنأكل منها؟ وتمام الحديث في البخاري قالت: وكانوا حديثي عهد بالكفر. وفي رواية مالك زيادة في آخره: وذلك في أول الإسلام. الحديث فيه دلالة على أن التسمية على الذبح غير واجبة. قال المهلب (2): لأن التسمية على الأكل ليست واجبة بالإجماع وقد قامت مقام التسمية على الذبح، فدلت على عدم وجوبها. قال: والأمر في حديث ¬

_ (¬1) البخاري، كتاب الذبائح والصيد، باب ذبيحة الأعراب ونحوهم 9/ 634 ح 5507. (¬2) الفتح 9/ 635. (¬3) الموطأ 2/ 488 ح 1065 من حديث هشام بن عروة عن أبيه. (¬4) تقدم ص 358. (¬5) البخاري 13/ 379 ح 7398. (¬6) أبو داود 3/ 103 ح 2829.

عدي (¬1) وأبي ثعلبة (¬2) محمول على الندب، وذلك لأنهما كانا يصيدان على ما عهداه في الجاهلية، فعلمهما النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر الصيد والذبح؛ فرضه ومندوبه، لئلا يقعا في مشتبه ويأخذا بأكمل الأحوال في المستقبل، وأما الذين سألوا عن أكل اللحم المذكور، فإنهم سألوا عن أمر قد وقع ويقع من غيرهم ليس لهم قدرة على الأخذ بالأكمل، فبين لهم أصل الحل. والأولى أن يقال: إن الحديث لا دلالة له (أ) على ذلك، وإنما دلالته على أنه لا عليكم أن تعلموا ذلك؛ لأنه يحمل على الصحة جميع ما يجلب إلى أسواق المسلمين، وكذا ما ذبحه أعراب السلمين؛ لأنهم قد عرفوا التسمية. قال ابن عبد البر (¬3): لأن المسلم لا يظن به في كل شيء إلا الخير حتى يتبين خلاف ذلك. ويكون الجواب بقوله: "فسموا" إلى آخره. من تلقي السائل بغير ما يتطلب؛ تنبيهًا على أنه الأولى بأن يهتم به، فكأنه قال: لا تهتموا أنتم بالسؤال عن ذلك، بل الذي يهمكم أنتم أن تذكروا اسم الله وتأكلوا. وهذا من الأسلوب الحكيم. وقد ذهب بعضهم إلى أن هذا الحديث منسوخ بآية "الأنعام": {وَلَا تَأكلُوا} (¬4) الآية. وتمسك بالزيادة التي في رواية مالك. وأجيب عنه بأن الحديث وقع في حق أعراب المدينة، وآية "الأنعام" مكية بالاتفاق. وقد جاء في رواية ابن عيينة (¬5): "اجتهدوا أيمانهم وكلوا". أي: حلِّفوهم على أنهم سمّوا حين ذبحوا. والزيادة غريبة لكن ابن عيينة ¬

_ (أ) ساقط من: جـ.

ثقة، إلا أن روايته مرسلة، ولكنها متأيدة بما أخرجه الطبراني (¬1) من حديث أبي سعيد نحوه لكن [قال] (أ): "اجتهدوا أيمانهم أنهم ذبحوها". ورجاله ثقات. ولعله يقال: إن ذلك على وجه الندب للاحتياط في الورع عن المشتبه. ويدل على هذا ما أخرجه الطحاوي في "المشكل" (¬2): سأل ناس من الصحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: أعاريب يأتوننا بلحمان وجبن وسمن، ما ندري ما كنه إسلامهم. قال: "انظروا ما حرم الله عليكم فأمسكوا عنه، وما سكت عنه فقد عفا لكم، وما كان ربك نسيًّا، اذكروا اسم الله". ففيه دلالة على الاحتياط بالنظر في ذلك، وأن الله سبحانه وتعالى قد عفا عما سكت عنه ولم ينص على تحريمه مثل طعام الأعرابي الذي فيه احتمال الشبهة، والله سبحانه أعلم. وقد ذكر الغزالي في "الإحياء" (¬3) أن من المشتبه ما يتأكد الاستحباب في التورع عنه، وهو ما يقوى فيه دليل المخالف كمتروك التسمية عند ذبحه، فإن الآية ظاهرة في تحريم الأكل منه على جهة العموم والأخبار المتواترة في الأمر بها، ولكن لما صح من قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "المؤمن يذبح على اسم الله سمّى أم لم يسم" (¬4).واحتمل أن يكون عامًّا موجبا لصرف الآية والأخبار عن ظاهرها، واحتمل أن يحمل على الناسي، وهذا الاحتمال الثاني أولى. انتهى. لكن قوله: لما صح من قول النبي - صلى الله عليه وسلم -. غير صحيح، فإن الحديث قال النووي (¬5): هو مجمع على ضعفه. وقد ¬

_ (أ) ساقطة من: ب، جـ. والمثبت من الفتح 9/ 635.

أخرجه البيهقي (¬1) من حديث أبي هريرة وقال: منكر لا يحتج به. وقد أخرج أبو داود في "المراسيل" (¬2) عن الصلت السدوسي (أ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ذبيحة المسلم حلال ذكر الله أو لم يذكر". وهو مرسل جيد، فقد ذكر ابن حبان الصلت في "الثقات" (¬3). وأما حديث أبي هريرة ففيه مروان بن سالم وهو متروك (¬4)، ولكنه قد ثبت ذلك عن ابن عباس (¬5)، واختلف (ب) في رفعه ووقفه، ومع انضمامه إلى المرسل المذكور يقوى ولا يبلغ درجة الصحة. 1120 - وعن عبد الله بن مغفل رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الخذف وقال: "إنها لا تصيد صيدًا ولا تنكأ عدوًّا، ولكنها تكسر السن وتفقأ العين". متفق عليه واللفظ لسلم (¬6). قوله: نهى عن الحذف. هو بالخاء والذال المعجمتين وبالفاء؛ وهو رمي الإنسان بحصاة أو نواة أو نحوها، يجعلها بين أصبعيه السبابتين أو الإبهام والسبابة. ¬

_ (أ) في جـ: الدوسي، وينظر تهذيب الكمال 13/ 232. (ب) في جـ: اختلفوا.

وقال ابن سيده (¬1): خذف بالشيء يخذف [خذفا: رمى] (أ)، وخص بعضهم به الحصى. قال: والمخذفة التي يوضع فيها الحجر ويرمى بها الطير، وتطلق على المقلاع أيضًا. قاله في "الصحاح" (¬2). وقوله: "إنها لا تصيد صيدًا". قال المهلب (¬3): أباح الله الصيد على صفة معينة، فقال: {تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ} (¬4). وليس الرمي بالبندقة ونحوها من ذلك، وإنما هو وقيذ. انتهى. وأطلق الشارع أن الخذف لا يصاد به؛ لأنه ليس مما يجهز به، وذلك لأنه إنما يقتل الصيد بقوة راميه لا بحده، وقد اتفق العلماء إلا من شذ منهم على تحريم أكل ما قتلته البندقة والحجر. وقوله: "ولا (ب ينكأ". بفتح الياء ب) والهمزة في آخره. قال النووي (¬5): هكذا هو في الروايات. قال القاضي عياض: وكذا رويناه. قال: وفي بعض الروايات المشهورة: "ينكى". بفتح الياء وكسر الكاف غير مهموز. قال القاضي: وهو أوجه هنا، لأن المهموز إنما هو من: نكأت القرحة. وليس هذا موضعه إلا بتجوز، وإنما هذا من النكاية، يقال: نكيت العدو وأنكيته نكاية. ونكأت بالهمزة (جـ) لغة فيه. قال: فعلى هذه اللغة تتوجه رواية شيوخنا. ¬

_ (أ) في ب، جـ: فارسي. وينظر مصدر التخريج. (ب- ب) في جـ: تنكأ بفتح التاء. (جـ) زاد في جـ: تقدم.

وقوله: "وتفقأ العين" مهموز. والحديث فيه دلالة على النهي عن الخذف؛ لأنه لا مصلحة فيه ويخاف [مفسدته] (أ)، ويلحق به كل ما كان فيه مفسدة. والمراد هنا أن الخذف قد يكسر سن المرمي ويفقأ عينه لغير غرض يعود على الرامي، ويحتمل أنه قد يصيب غير الرمي من آدمي، ولذلك كره الحسن البصري رمي البندقة في القرى والأمصار (¬1)، ومفهومه أنه لا يكره في الفلاة، فجعل (5) مدار النهي خشية إدخال الضرر على أحد من الناس، والظاهر من الحديث إنما هو باعتبار الصيد، لأنه يعرضه للتلف لغير أكل، وقد ورد النهي عن ذلك، وأما إذا كان الرمي بالبندق وبالخذف إنما هو لتحصيل الصيد وكان الغالب فيه عدم قتله، فإنه يجوز ذلك إذا أدركه الصائد وذكاه، كرمي الطيور الكبار بالبنادق. كذا قال النووي (¬2). وقد أخرج البيهقي (¬3) عن ابن عمر أنه كان يقول: المقتولة بالبندقة تلك الموقوذة. وأخرج ابن أبي شيبة (¬4) عن سالم بن عبد الله بن عمر والقاسم بن محمد أنهما كانا يكرهان البندقة إلا ما أدركت ذكاته. وكذا مالك (¬5) بلغه أن القاسم كان يكره ما قتل بالمعراض والبندقة. وأخرج ابن أبي شيبة (4) عن مجاهد أنه قال: لا تأكل إلا أن تذكي. وأخرج (4) عن إبراهيم النخعي: لا ¬

_ (أ) في ب، جـ: مفسدة. والمثبت من شرح النووي 13/ 106. (ب) في جـ: فجعله.

تأكل ما أصابت البندقة إلا أن تذكي. وأخرج عبد الرزاق (¬1) عن عطاء: إن رميت صيدًا ببندقة فأدركت ذكاته فكله، وإلّا فلا تأكله. وأخرج ابن أبي شيبة (¬2) عن الحسن: إذا رمى الرجل الصيد بالجلّاهقة -وهي بضم الجيم وتشديد اللام وكسر الهاء بعدها قاف، وهي البندقة بالفارسية (أ)، والجمع جلاهق- فلا جمل إلا أن تدرك ذكاته. 1121 - وعن ابن عباس رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تتخذوا شيئًا فيه الروح غرضًا". رواه مسلم (¬3). الحديث فيه دلالة على تحريم جعل الحيوان كالغرض الذي يجعل منصة للرمي من الرماة كما تجعل الجلود وغيرها غرضًا للرمي، ويدل على أن النهي للتحريم قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لعن الله من فعل هذا" (¬4). لَمَّا مَرَّ وطائرٌ قد نصب وهم يرمونه، والحكمة في النهي أن فيه تعذيب الحيوان وإتلاف نفسه وتضييع ماليته، وتفويت ذكاته إن كان مذكى، ولمنفعته إن كان غير مذكى. والمراد بقوله: "شيئًا فيه الروح". الحيوان. والغرض بالغين المعجمة محرك (ب) الراء: هدف يرمى إليه، ثم جُعل اسمًا لكل غاية يتحرى إدراكها. ¬

_ (أ) في جـ: الفارسية. (ب) في جـ: محرف.

1122 - وعن كعب بن مالك رضي الله عنه، أن امرأة ذبحت شاة بحجر، فسُئل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك، فأمر بأكلها. رواه البخاري (¬1). قوله: أن امرأة. وجاء في لفظ في (أ) البخاري: جارية. وفي لفظ: أمة. ولفظ: أمة. فيه قيد زائد فيكون مفسرًا لقوله: امرأة. فيه دلالة على أنه يصح التذكية من المرأة. وهذا قول الجمهور، وقد نقل عن محمد بن عبد الحكم عن مالك كراهته (¬2)، وفي "المدونة" (¬3) جوازه، وفي "نهاية المجتهد" (¬4) لابن رشد أنه جائز غير مكروه من المرأة والصبي. قال: وهو مذهب مالك، وكره ذلك أبو مصعب. انتهى. وفي وجه للشافعية: يكره ذبح المرأة الأضحية. وعند سعيد بن منصور (¬5) بسند صحيح عن إبراهيم النخعي، أنه قال في ذبيحة المرأة والصبي: لا بأس إذا أطاق (ب) الذبيحة وحفظ التسمية. وهو قول الجمهور. وقوله: فسئل النبي - صلى الله عليه وسلم -. قد بين في لفظ للبخاري (¬6) أن السائل كعب بن مالك. ¬

_ (أ) ساقط من: جـ. (ب) في جـ: طاق.

وفي الحديث دلالة أنه يحل (أ) أكل ما ذبح بغير إذن المالك. والخلاف في ذلك لطاوس وعكرمة وإسحاق بن راهويه وأهل الظاهر. وحجتهم أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بإهراق ما في قدور من ذبح من الغنم قبل القسمة بذي الحليفة من تهامة ما بين حاذة (ب) وذات عرق. أخرجه البخاري ومسلم (¬1). وأجيب عنه بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما أمر بإراقة المرق، وأما اللحم فهو باق جُمِع ورد إلى المغنم. فإن قيل: إنه لم ينقل أنه جمع ورد إلى المغنم. قلنا: ولم ينقل أنهم أتلفوه وأحرقوه، فيجب تأويله بما ذكرنا موافقا للقواعد الشرعية. والحديث فيه دلالة على أن التذكية تصح بالحجر الحاد إذا فرى (¬2) الأوداج، وقد جاء في لفظ في هذه الرواية أنها كسرت الحجر وذبحت، والحجر إذا كسر يكون فيه الحد. قال في "الفتح" (¬3): ويدل الحديث على تصديق الأجير الأمين فيما اؤتمن عليه حتى يظهر عليه دليل الخيانة، وجواز تصرف المودَع بغير إذن المالك للمصلحة كما جاء في هذه القصة أنها رأت بالشاة الموت فذبحتها. وقال [ابن] (جـ) القاسم: إذا ذبح الراعي شاة بغير إذن المالك وقال: خشيت عليها من الموت. لم يضمن على ظاهر هذا الحديث. وتعقب بأن الجارية كانت ¬

_ (أ) في جـ: يجعل. (ب) في ب: حاوه، وفي جـ: حاده. والمثبت من معجم البلدان 2/ 182، 324. (جـ) في ب: أبو.

أمة لصاحب الغنم، فلا يتصور تضمينها، وعلى تقدير أن تكون غير ملكه فلم ينقل في الحديث أنه أراد تضمينها، وكذا لو أنزى على الإناث فحلًا بغير إذن أهلها فهلكت. قال ابن القاسم: لا يضمن، لأنه من صلاح المال. والله أعلم. 1123 - وعن رافع بن خديج رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكل، ليس السن والظفر؛ أما السن فعظم، وأما الظفر فَمُدَى الحبشة". متفق عليه (¬1). قوله: "ما أنهر الدم". بالراء المهملة، أي أساله وصبه بكثرة، شُبه بجري الماء في النهر، وهذا هو المشهور في الروايات. وذكره أبو ذر الخشني (¬2) بالزاي المعجمة وقال: النهز بمعنى الدفع. وهو غريب. قال العلماء: في هذا دلالة صريحة بأنه يشترط في الذكاة ما يقطع ويُجري الدم ولا يكفي رضُّها ودمغها بما لا يُجري. قال بعض العلماء: والحكمة في اشتراط الذبح وإنهار الدم تميز حلال الشحم واللحم من حرامهما، وتنبيه على أن تحريم الميتة لبقاء دمها. وقوله: "وذكر اسم الله عليه". لفظ "عليه" في رواية أبي داود (¬3). وأما في "الصحيحين" فمحذوفة، والمعنى على ذكرها. ¬

(¬1) البخاري، كتاب الذبائح والصيد، باب مما أنهر الدم 9/ 631 ح 5503، ومسلم، كتاب الأضاحي، باب جواز الذبح بكل ما أنهر الدم 3/ 1558 ح 1968/ 20. (¬2) ينظر شرح مسلم 13/ 123. (¬3) أبو داود 3/ 101 ح 2821.

وقوله: "فكُلْ، ليس السن والظفر". منصوبان على الاستثناء لإخراجهما من عموم ما يحل به الذبح، فدل على أنه يحل الذبح بكل محدد، فدخل في ذلك السيف والسكين والحجر والخشب والزجاج والقصب والخزف والنحاس وسائر الأشياء المحدودة. والظفر يدخل فيه ظفر الآدمي وغيره من كل الحيوانات، وسواء المتصل والمنفصل، والطاهر والنجس. والسن يدخل فيه سن الآدمي وغيره، والطاهر والنجس، والمتصل والمنفصل. وقوله: "أما السن فعظم". فيه بيان العلة المانعة للتذكية بالسن بأنها كونها عظمًا، وكأنه - عليه السلام - قد قرر أولًا أن العظم لا يحل به الذبح. قال ابن الصلاح في "مشكل الوسيط" (¬1): ولم أر مَن ذكر للمنع من الذكاة بالعظم معنى معقولًا. وعلله النووي (¬2) بأن الذبح بالعظم تنجيس للعظم فيكون كالاستجمار بالعظم، وقد ثبت أنه طعام الجن (¬3). وهذا معنى مناسب. وقد ذهب إلى ما دل عليه الحديث الشافعي وأصحابه. وقال به النخعي والحسن بن صالح والليث وأحمد وإسحاق وأبو ثور وداود وفقهاء الحديث والجمهور. وقال أبو حنيفة وصاحباه: لا يجوز بالسن والعظم المتصلين، ويجوز بالمنفصلين. وعن مالك روايات أشهرها جوازه بالعظم دون السن كيف كانا. والثانية كمذهب الجمهور. والثالثة كأبي حنيفة. والرابعة حكاها عنه ابن المنذر: يجوز بكل شيء حتى بالسن والظفر. ¬

_ (¬1) الفتح 9/ 628، 629. (¬2) شرح النووي 13/ 125. (¬3) تقدم تخريجه في 2/ 84.

واحتجوا بما أخرجه أبو داود (¬1) من حديث عدي بن حاتم: "أَمِرَّ الدم بما شئت". والجواب أنه مخصص بهذا الحديث. وعن ابن جريج جواز الذكاة بعظم الحمار دون القرد (¬2). وهذه الأقوال منابذة للحديث (أ). وقوله: "وأما الظفر فمُدَى الحبشة". مدى جمع مُدية بالدال المهملة؛ أي وهم كفار وقد نهيتم عن التشبه بهم، وقد يعترض على هذا التعليل بأن الحبشة تذبح بالسكين أيضًا فيلزم المنع من ذلك للشبه، وأجيب بأن الذبح بالسكين هو الأصل وهو غير مختص بالحبشة ولحق بها ما أشبهها، وهذا مختص بهم فمنع منه، وعلل ابن الصلاح (¬3) بأن ذلك إنما هو لما يحصل به من التعذيب للحيوان، ولا يحصل به إلا الخنق الذي هو ليس على صورة الذبح، وقد قالوا: إن الحبشة تدمي مذابح الشاة بالظفر حتى تزهق نفسها خنقا. وقد ذكر في "المعرفة" للبيهقي (¬4) من رواية حرملة عن الشافعي أنه حمل الظفر في هذا الحديث على النوع الذي يدخل في الطيب وهو من بلاد الحبشة وهو لا يفري، فيكون في معنى الخنق. ¬

_ (أ) ساقطة من: جـ.

1124 - وعن جابر رضي الله عنه قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يُقتل شيء من الدواب صبرًا. رواه مسلم (¬1). الحديث فيه دلالة على تحريم إمساك الحيوان حيًّا ثم يرمى حتى يموت، ويسمى ذلك صبرا، وكذلك كل من قتل في غير معركة ولا حرب ولا خطأ فإنه مقتول صبرًا، والصبر الحبس. 1125 - وعن شدَّاد بن أوس رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القِتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، ولْيُحد أحدكم شفرته، ولْيُرح ذبيحته". رواه مسلم (¬2). هو أبو يعلى شداد بن أوس بن ثابت النجاري الأنصاري (¬3)، وهو ابن أخي حسان بن ثابت، يقال: إنه شهد بدرًا. ولا يصح، ونزل بيت المقدس وعداده في أهل الشام، روى عنه ابنه يعلى ومحمود بن الربيع وضمرة بن حبيب، مات بالشام سنة ثمان وخمسين وهو ابن خمس وسبعين، وقيل: مات سنة إحدى وأربعين. وقيل: سنة أربع وستين. قال عبادة بن الصامت وأبو الدرداء: كان شداد بن أوس ممن أوتي العلم والحلم. قوله: "كتب الإحسان". أي: أوجب. [والإحسان] (أ) هو فعل ¬

_ (أ) في ب: الإحسان.

الحسن الذي هو ضد القبيح، فيتناول الحسن شرعا والحسن عرفًا. والقِتلة بكسر القاف مصدر للنوع، وهي الحالة والهيئة التي يكون عليها القتل، وهو عام في ذبح الحيوان من البهائم المأكولة، والقتل قصاصًا وحدًّا ونحو ذلك. وقوله: "فأحسنوا الذبحة". بكسر الذال وبالهاء مصدر نوعي، ووقع في كثير من نسخ "مسلم": "فأحسنوا الذَّبح". بفتح الذال وبغير هاء مصدر توكيدي. وقوله "وليُحدَّ". هو بضم الياء، يقال: أحد السكين وحددها واستحدها. والشفرة بفتح الشين المعجمة: السكين العظيمة وما عظم من الحديد وحُدِّد. وقوله: "وليرح ذبيحته". بضم الياء، وهو في معنى ما قبله، فإن الإراحة تكون بإحداد السكين وتعجيل إمرارها وغير ذلك. ويستحب ألا يحدد السكين بحضرة الذبيحة، وألا يذبح واحدة بحضرة أخرى. 1126 - وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ذكاة الجنين ذكاة أمه". رواه أحمد وصححه ابن حبان (¬1). الحديث أخرجه أحمد في "مسنده" عن أبي عبيدة الحداد، عن يونس بن أبي إسحاق، عن أبي الودّاك، عن أبي سعيد. وأخرجه الترمذي (¬2) من طريق ¬

_ (¬1) أحمد 3/ 39، وابن حبان، كتاب الذبائح، ذكر البيان بأن الجنين إذا ذكيت أمه حل 13/ 206، 207 ح 5889. (¬2) الترمذي 4/ 60 ح 1476.

مجالد، عن أبي الودّاك، عن أبي سعيد، ورواه أبو داود (¬1) مثله، ورواه الدارقطني (¬2) بلفظ: "إذا سميتم على الذبيحة فإن ذكاته ذكاة أمه". وقد ضعفه (أ) عبد الحق (¬3) وقال: لا يحتج بأسانيده كلها. وخالفه الغزالي في "الإحياء" (¬4) وقال: هو حديث صحيح. وتبع في ذلك إمامه فإنه قال في "الأساليب": هو حديث صحيح لا يتطرق احتمال إلى متنه ولا ضعف إلى سنده. وفي هذا نظر، والحق أن فيها ما تنتهض به الحجة باعتبار مجموع الطرق، فإن مجالدًا (¬5) وإن كان ضعيفًا فمتابعته بما رواه أحمد متابعة قوية، وكذا بما رواه الحاكم (¬6) عن عطية عن أبي سعيد، وعطية (¬7) وإن كان لين الحديث فهو معتبر في المتابعة، وأما أبو الودّاك فلم يصرح أحد (ب) بضعفه، وقد احتج به مسلم، وقال يحيى بن معين: ثقة (¬8). ووثقه الذهبي في "الكاشف" (¬9)، واسمه جبر بن نوف البكالي. ومن هذا الوجه صححه ابن ¬

_ (أ) زاد في ب، جـ: ابن. (ب) في جـ: أحمد.

حبان وابن دقيق العيد. وفي الباب عن جابر وأبي أمامة وأبي الدرداء وأبي هريرة (¬1). قاله الترمذي (¬2). وفيه أيضًا عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وابن مسعود وأبي أيوب والبراء بن عازب وابن عمر وابن عباس وكعب بن مالك (¬3)، وطوقها ضعيفة، وضعفها يَنجبر بتعدد الطرق. والحديث فيه دلالة على أن الجنين إذا خرج ميتًا من بطن أمه بعد ذبحها حل أكله وكانت ذكاته حاصلة بذكاة أمه، وقد ذهب إلى هذا الشافعي وأبو يوسف ومحمد والثوري؛ وذلك لأن هذا الحديث صريح في ذلك، فإن الحديث لفظه قال: سألنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن البقرة أو الناقة أو الشاة ينحرها أحدنا فيجد في بطها جنينًا أيأكله أم يُلقيه؟ فقال: "كلوه إن شئتم، فإن ذكاته ذكاة أمه". وقد جاء في بعض روايات البيهقي (¬4): "في ذكاة أمه". وفي رواية له (4): "بذكاة أمه". والمراد من هذا أنها حاصلة بسبب ذكاة أمه، فإن الباء للسببية، وكذلك "في" قد تستعمل للسببية وإن كانت للظرفية، فالمعنى: كائنة في ذكاة أمه، والمعنى واحد، واشترط مالك أن يكون قد ¬

_ (¬1) حديث جابر عند الدارمي 2/ 841، وأبي داود 3/ 103 ح 2828. وحديث أبي أمامة وأبي الدرداء عند البزار 2/ 70 ح 70 - كشف، والطبراني في الكبير 8/ 121، 122 ح 7498. وحديث أبي هريرة عند الدارقطني 4/ 274 ح 32، والحاكم 4/ 114. (¬2) الترمذي 4/ 60 عقب ح 1476. (¬3) حديث علي وابن مسعود عند الدارقطني 4/ 274، 275 ح 31، 33، وحديث أبي أيوب عند الطبراني 4/ 192 ح 4010، والحاكم 4/ 114، 115. وحديث البراء بن عازب ذكره البيهقي 9/ 335. وحديث ابن عباس عند الدارقطني 4/ 275 ح 33، والبيهقي 9/ 336. وحديث ابن عمر وكعب بن مالك سيأتي في الصفحة التالية. (¬4) البيهقي 9/ 335، 336.

أشعر؛ وذلك لما ورد في حديث ابن عمر، رواه أحمد بن عصام عن مالك عن نافع عن ابن عمر مرفوعًا: "إذا أشعر الجنين فذكاته ذكاة أمه". قال الخطيب (¬1): تفرد به أحمد بن عصام (¬2) وهو ضعيف. وهو في "الموطأ" (¬3) موقوف على ابن عمر وهو أصح، ولفظه: إذا نحرت الناقة فذكاة ما في بطنها في ذكاتها إذا كان قد تم خلقه ونبت شعره، فإذا خرج من بطن أمه حيًّا ذبح حتى يخرج الدم من جوفه. وروي من طرق عن ابن عمر، (أوروي عن جماعة من الصحابة، وروى معمر عن الزهري عن كعب بن مالك أ) قال: كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقولون: إذا أشعر الجنين فذكاته ذكاة أمه (¬4). ويتأيد بالقياس، فإن الذكاة إنما هي فيما له حياة، والحياة لا تكون في الجنين إلّا إذا نبت شعره وتم خلقه. وأجيب عن اشتراط نبات الشعر بالمعارضة بما تقدم من إطلاق الأحاديث التي مرت، وبما رواه ابن المبارك عن ابن أبي ليلى قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "ذكاة الجنين ذكاة أمه، أشعر أولم يشعر". وفيه ضعف؛ لأن ابن أبي ليلى سيئ الحفظ (¬5)، ذكر هذا الحديث في "نهاية المجتهد" (¬6) لابن رشد المالكي. وأخرج البيهقي (¬7) من حديث ابن ¬

_ (أ- أ) مضروب عليها في: جـ.

المبارك عن مجاهد عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال في الجنين: "ذكاته ذكاة أمه، أشعر أو لم يشعر". وروي من أوجه عن ابن عمر مرفوعًا. قال البيهقي: ورفعه عنه ضعيف، والصحيح أنه موقوف. والقياس معارض بأن الجنين جزء من أمه فلا معنى لاشتراط الحياة فيه. وذهب العترة وأبو حنيفة والحسن بن زياد إلى أن الجنين إذا خرج ميتا من المذكاة، صيدًا كان أو غيره، فإنه يكون ميتة. قالوا: لعموم قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} (¬1). ولو خرج حيّا ثم مات. وإليه ذهب [أبو] (أ) محمد بن حزم (¬2). قال الإمام المهدي في "البحر": والحديث متأول بأن المراد ذكاة الجنين كذكاة أمه إن خرج حيًّا. انتهى. وقد يجاب عنه بأن الحديث روي بالرفع على أن قوله: "ذكاة أمه". مبتدأ مؤخر، و: "ذكاة الجنين". خبر مقدم، كقوله (¬3): * بنونا بنو أبنائنا ... * وهو يحتمل أن يكون المعنى: ذكاة أم الجنين هي ذكاة للجنين. وهذا ¬

_ (أ) ساقطة من: ب، جـ.

الذي يدل عليه سياق الحديث، وحديث: "في ذكاة أمه". ورواية الباء، فتكون هذه الرواية مفسرة للمراد، وهذا الذي فهمه الشافعي ومن ذهب إلى قوله. ويحتمل أن يكون المعنى على التشبيه البليغ ويكون في الكلام قلب التشبيه، والمعنى: ذكاة الجنين كذكاة أمه، فيشترط له ذكاة إذا خرج حيًّا، وإن خرج ميتًا كان ميتة، فلا يتم الاحتجاج به، ولكن هذا الاحتمال مرجوح لما عرفت من سياق الحديث. وقد روي بالنصب، فيكون المعنى على التشبيه ونصبه على المصدرية بتقدير مضاف؛ أي مثل ذكاة أمه، والعامل فيه النصب المصدر المبتدأ وخبره محذوف، أي ذكاة الجنين كائنة أو حاصلة مثل ذكاة أمه. وأجيب بأنها غير صحيحة، وإن صحت فهو يحتمل النصب على الظرفية بتقدير ظرف محذوف، والتقدير: ذكاة الجنين حاصلة وقت ذكاة أمه. والله سبحانه أعلم. فائدة: قال ابن المنذر (¬1): ولم يرو عن أحد من الصحابة ولا من العلماء أن الجنين لا يؤكل إلا باستئناف الذكاة فيه، إلا ما روي عن أبي حنيفة. انتهى. قلت: وكذلك ما عرفت من مذهب العترة والحسن بن زياد. 1127 - وعن ابن عباس رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "المسلم يكفيه اسمه، فإن نسي أن يسمي حين يذبح فليسم ثم ليأكل". أخرجه الدارقطني، [وفيه راو في حفظه ضعف] (أ)، وفي إسناده محمد بن يزيد بن سنان (¬2) وهو صدوق ضعيف الحفظ. وأخرجه عبد الرزاق بإسناد ¬

_ (أ) ساقط من: ب، جـ، والمثبت من بلوغ المرام ص 305.

صحيح إلي ابن عباس موقوفًا عليه (¬1). وله شاهد عند أبي داود في "مراسيله" (¬2) بلفظ: "ذبيحة المسلم حلال، ذكر اسم الله عليها أو لم يذكر". ورجاله موثقون (أ). وأخرج البيهقي (¬3) الحديث من طريق أخرى عن ابن عباس فيمن ذبح ونسي التسمية، قال: المسلم فيه اسم الله وإن لم يذكر التسمية. وأخرج أيضًا (¬4) من طريق أخرى عن ابن عباس قال: إذا ذبح المسلم ونسي أن يذكر اسم الله فليأكل، فإن المسلم فيه اسم من أسماء الله تعالى. تقدم الكلام في أول الباب على أحكام الحديث. وقوله في الحديث: "المسلم يكفيه اسمه". الضمير يعود إلى المسلم، يفسره الحديث الأخير، والمعنى أن المسلم في حكم المسمي لما كان اسمه مشتملا على اسم الله سبحانه وتعالى. ¬

_ (أ) بعده في جـ: تقدم الكلام في أول الباب على أحكام الحديث. وسيأتي في ب بعد قليل.

باب الأضاحي

بابُ الأضاحي الأضاحي جمع أُضحيّة، بضم الهمزة ويجوز كسرها، ويجوز حذف الهمزة وتفتح الضاد، والجمع ضحايا، ويجوز أضحاة بفتح الهمزة والجمع أُضحِي، وبه سمي يوم الأضحى، وهو يذكر ويؤنث، وكأن تسميتها اشتقت من اسم الوقت الذي تشرع فيه، والضحو والضحوة والضحيَة -كعنبة (أ) - ارتفاع النهار، والضحى بضم الضاد مؤنثة وتذكر، وتصغر ضُحيا بلا هاء، والضحاء بفتح الضاد والمد (ب إذا كبَّرت انتصاف النهار ب)، وبالضم والقصر الشمس. كذا في "القاموس" (¬1)، وفي "الضياء": والضُّحَي بعد الضحوة، وهو مؤنث تصغير ضحى بغير هاء، فرقا بينه وبين تصغير ضحوة. والأضحيَّة من شرائع الدين بلا خلاف. واختلف العلماء في حكمها؛ فذهب الجمهور من الصحابة والتابعين والفقهاء إلى أنها سنة مؤكدة. بل قال ابن حزم (¬2): لا يصح عن أحد من الصحابة أنها واجبة. وهي عند الشافعية سنة مؤكدة على الكفاية، وفي وجه ¬

_ (أ) في هامش ب: مضبوط في نسخة المؤلف: كعنبة. واحدة العنب، والذي وجدته في نسخة القاموس: وضحية كعشية. (ب) في هامش ب: هكذا في نسخة المؤلف رحمه الله، والذي رأيته في القاموس: إذا كرب انتصاف النهار. والمعنى واضح. اهـ. والذي في القاموس الذي بين أيدينا: قرب. وبهامشه: كرب.

للشافعية من فروض الكفاية. وذهب أبو حنيفة وجماعة إلى أنها واجبة على المقيم والموسر. وعن مالك في رواية عنه مثله، لكنه لم يقيد بالمقيم. ونُقِل عن الأوزاعي وربيعة والليث مثله. وذهب أبو يوسف ومحمد وأشهب إلى مثل قول الجمهور. وقال أحمد: يكره تركها مع القدرة (أ). وفي رواية عنه أنها واجبة. وعن محمد بن الحسن: هي سنة غير مرخص في تركها. قال الطحاوي: وبه نأخذ. احتج القائل بأنها سنة غير واجبة بما أخرجه مسلم والبيهقي (¬1) من حديث أم سلمة قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا دخل العشر فأراد أحدكم أن يضحي فلا يمَس من شعره ولا من بشره شيئًا". قال الشافعي رحمه الله تعالى: إن قوله: "فأراد أحدكم". يدل على عدم الوجوب. وبما أخرجه البيهقي (¬2) من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص، أن رجلًا أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أمرت بيوم الأضحى عيدًا جعله الله لهذه الأمة". فقال الرجل: فإن لم أجد إلّا مَنيحة [أبي] (ب) أو شاة [أبي] (ب) وأهلي ومنيحتهم، أذبحها؟ قال: "لا، ولكن قلِّم أظفارك، وقص شاربك، واحلق عانتك، فذلك تمام أُضحيتك عند الله عزَّ وجلَّ". وأخرج (¬3) من حديث ابن عباس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "ثلاث هن عليّ فرائض وهي ¬

_ (أ) زاد في ب، جـ: عنه. وينظر الفتح 10/ 3. (ب) غير منقوطة في ب. وفي جـ: ابني. والمثبت من مصدر التخريج، ووقع عند أبي داود والنسائي وابن حبان: أنثى.

لكم تطوع؛ النحر، والوتر، وركعتا الضحى". ومن طريق أخرى (¬1) عن ابن عباس رفعه قال: "كتب عليّ النحر ولم يكتب عليكم". وبزيادة من بعض رواته: "وأمرت بصلاة الضحى ولم تؤمروا بها". وأخرج (¬2) من حديث [جابر] (أ)، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلَّى للناس يوم النحر، فلما فرغ من خطبته وصلاته دعا بكبش فذبحه هو بنفسه وقال: "باسم الله والله أكبر، اللهم عني وعمن لم يضحِّ من أمتي". وروي ذلك عن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة وأنس بن مالك عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بمعناه (2). فقوله: "وعمن لم يضحِّ من أمتي". ظاهره الإطلاق لمن كان يتمكن من الأضحية ومن كان لا يتمكن. وأخرج (¬3) عن أبي بكر وعمر أنهما كانا لا يضحيان خشية أن يُقتدى بهما. وكذا قال الشافعي (¬4): بلغنا أن أبا بكر الصديق وعمر رضي الله عنهما كانا لا يضحيان كراهة أن يُقتدى بهما، فيظن من رآهما أنها واجبة. وأخرج البيهقي (3) عن عكرمة أن ابن عباس كان إذا حضر الأضحى أعطى مولَّى له درهمين فقال: اشتر بهما لحمًا، وأخبر الناس أنه ¬

_ (أ) ساقطة من: ب، جـ. والمثبت من البيهقي 9/ 264.

[أضحى (أ)] ابن عباس. وروى أن بلالًا ضحى بديك (¬1)، وعن أبي مسعود عقبة بن [عمرو] (ب) الأنصاري (¬2) قال: لقد هممت أن أدع الأضحية -وإني لمن أيسركم- مخافة أن تحسب النفس أنها عليها (جـ) حتم واجب. وعن ابن عمر بعد أن سأله رجلٌ عن شيء من أمر الأُضحية فبين له ابن عمر صفتها ثم قال له ابن عمر: لعلك تحسبه حتما؟ قلت: لا ولكنه أجر وخير وسنة. قال: نعم. قال الشافعي (¬3): وأما أمر أبي بردة بإعادة الضحية فيحتمل أن يكون إنما أمره أن يعود لأن الضحية واجبة، ويحتمل أن يكون أمره أن يعود إن أراد أن يضحي؛ لأن الضحية قبل الوقت ليست بضحية تجزئه، فيكون من عداد من ضحى. واحتج القائل بوجوبها بقوله - صلى الله عليه وسلم - في رواية مِخْنَف -بكسر الميم وسكون الخاء المعجمة وفتح النون- بن سُليم- بضم السين: "يأيها الناس على أهل كل بيت في كل عام أضحية وعَتيرة، هل تدرون ما العتيرة؟ التي تسمونها الرَّجَبية". أخرجه أصحاب "السنن الأربعة" وأحمد (¬4) من حديث عبد الله بن عوف عن أبي رملة عنه، وهذا لفظ الترمذي وقال: حسن غريب، لا نعرف هذا الحديث إلا من هذا ¬

_ (أ) في ب، جـ: ضحى. والمثبت من مصدر التخريج. (ب) في ب، جـ: عامر. والمثبت من مصدر التخريج. وينظر أسد الغابة 4/ 57، 6/ 286. (جـ) في ب: علينا.

الوجه. قال الخطابي (¬1): أبو رملة مجهول (¬2)، وهذا الحديث ضعيف المخرج. ولمحافظة النبي - صلى الله عليه وسلم - عليها حتى لم يتركها في سفره، ولما سيأتي في حديث جندب بن سفيان (¬3) بقوله: "فليذبح". والأمر للوجوب، وحديث أبي هريرة (¬4) الآتي بقوله فيه: "فلا يقربن مصلانا". دلالة على الوجوب؛ لأنه لما نهى من كان ذا سعة عن قربان المصلى إذا لم يضحِّ دلَّ على أنه قد ترك واجبًا فكأنه قال: لا فائدة في التقرب بالصلاة مع ترك هذا الواجب. ولقوله تعالى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} (¬5). فأخرج ابن جرير وابن المنذر (¬6) عن ابن عباس في قوله: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ}. قال: الصلاة المكتوبة والنحر يوم الأضحى. وأخرج ابن جرير (¬7) عن قتادة: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ}. قال: صلاة الأضحى، والنحر نحر البُدن. وأخرج ابن أبي حاتم (¬8) عن سعيد بن جبير: {وَانْحَرْ}. قال: انحر البُدن. وأخرج ابن جرير (¬9) عن أنس قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - ينحر قبل أن يصلي، فأمر أن يصلي ثم ينحر. فالأمر بالنحر ظاهر في الوجوب، وأجيب بأن هذه الأحاديث لم يكن فيها تصريح بالوجوب، مع ما عرفت من الضعف في بعضها، وبأنها معارضة بما تقدم الدال على عدم الوجوب فيكون قرينة على حمل ما فيه احتمال الوجوب ¬

_ (¬1) معالم السنن 2/ 226. (¬2) عامر أبو رملة، شيخ لابن عون لا يعرف. التقريب ص 289، وينظر تهذيب الكمال 14/ 85. (¬3) سيأتي ح 1130. (¬4) سيأتي ح 1129. (¬5) الآية 2 من سورة الكوثر. (¬6) ابن جرير 30/ 326، وابن المنذر -كما في الدر المنثور 6/ 403. (¬7) تفسير ابن جرير 30/ 327. (¬8) ابن أبي حاتم -كما في الدر المنثور 6/ 403. (¬9) ينظر تفسير ابن جرير 30/ 326.

على السنية المتأكدة المشابهة للواجب في أنه لا يحسن تركها، وأما الآية الكريمة، فهو يحتمل أن يكون المقصود بقوله: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ}. (أ [أي: انحر أ) له لا كما يفعله الجاهلية من النحر للأصنام. والمقصود خصّه بهذه القربة، وقد ذكر في تفسيرها (¬1) أن النحر رفع اليدين عند التكبير، أو وضعهما على الصدر في الصلاة. فلا احتجاج حينئذ. 1128 - وعن أنس بن مالك رضي الله عنه، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يضحي بكبشين أملحين أقرنين، ويسمي ويكبر ويضع رجله على صفاحهما [متفق عليه] (ب) (¬2). وفي لفظ (¬3): ذبحهما بيده. وفي لفظ: سمينين. ولأبي عوانة (جـ) (¬4) في ¬

_ (أ- أ) في جـ: انحر أي. (ب) سقط من ب، جـ. والمثبت من بلوغ المرام ص 306. (جـ) بهامش ب: بفتح العين المهملة والواو بعد الألف نون، اسمه يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم بن زيد النيسابوري ثم الإسفراييني الحافظ صاحب المسند الصحيح المخرج على كتاب أبي الحسين مسلم بن الحجاج وكان أبو عوانة أحد الحفاظ الجوالين المحدثين المكثرين، طاف الشام ومصر والبصرة والكوفة وواسط والحجاز والجزيرة واليمن والري وفارس. إلخ ما ذكره في تاريخ الحافظ ابن خلكان وقال كانت وفاته سنة ستة عشرة وثلاث مائة.

صحيحه: ثمينين. بالمثلثة بدل السين، وفي لفظ لمسلم (¬1): ويقول: "باسم الله والله أكبر". وله (¬2) من حديث عائشة رضي الله عنها: "أمر بكبش أقرن يطأ في سواد، ويبرك في سواد، وينظر في سواد، ليضحي به، فقال: "اشحذي المُدية". ثم أخذها فأضجعه ثم ذبحه وقال: باسم الله، اللهم تقبل من محمد وآل محمد ومن أمة محمد". الكبش الثَّنِيُّ من الحمل، أو إذا خرجت رَباعيته، والأملح قال ابن الأعرابي وغيره: هو الأبيض الخالص. وقال الأصمعي: هو الأبيض ويشوبه شيء من سواد. وقال أبو حاتم: هو الذي يخالط بياضه حمرة. وقال بعضهم: هو الأسود تعلوه حمرة. وقال الكسائي: هو الذي فيه بياض وسواد. والبياض أكثر. قال الخطابي (¬3): هو الأبيض الذي في خلل صوفه طبقات (أ) سود. وقال الداودي: هو المتغير الشعر ببياض وسواد. والأقرنين أي لكل واحد منهما قرنان حسنان. قال العلماء: يستحب الأقرن لهذا .. وأجمع العلماء على جواز التضحية بالأجم الذي لم يخلق له قرنان، واختلفوا في مكسور القرن؛ فجوزه الشافعي وأبو حنيفة والجمهور سواء كان يدمى أولًا. وذهب مالك إلى أنه يكره إذا كان يدمى، وجعله عيبًا، وذهب إلى مثله الإمام المهدي، ذكره في "البحر" وفي "الأزهار" وغيره من كتب الهدوية، أنه لا يجزئ إذا كان القرن الذاهب مما تحله الحياة. وأجمعوا على استحباب استحسانها واختيار أكملها، وأجمعوا على ¬

_ (أ) في معالم السنن: طاقات. والمثبت موافق لما في شرح النووي 13/ 120.

استحباب الأملح، قال النواوي (¬1): قال أصحابنا: أفضلها البيضاء، ثم الصفراء، ثم الغبراء وهي التي لا يصفو بياضها، ثم البلقاء وهي التي بعضها أبيض وبعضها أسود، ثم السوداء. وأما قوله في حديث عائشة: يطأ في سواد، ويبرك في سواد، وينظر في سواد. فمعناه أن قوائمه وبطنه وما حول عينيه أسود. وقوله: ويسمي ويكبر. فيه دلالة على شرعية التسمية، وقد تقدم الخلاف هل ذلك على جهة الوجوب أو غيره. وقوله: ويكبر. يدل على شرعية التكبير على الأضحية والهدي. وقوله: "يضع رجله على صفاحهما". أي صفحة العنق، وهي جانبه، وإنما فعل هذا ليكون أثبت له وأمكن لئلا تضطرب الذبيحة برأسها فتمنعه من إكمال الذبح أو تؤذيه، وهذا أصح من الحديث الذي جاء بالنهي عن هذا. وقوله: ذبحهما بيده. يدل على أنه يستحب للمضحي أن يتولى الذبح بنفسه، ولا يوكل إلا لعذر، وحينئذ يستحب له الحضور، والوكيل لا بد أن يكون مسلما عند من يشترط إسلام الذابح، وعند من لا يشترط جاز أن يستنيب كتابيا وكره كراهة تنزيه، إلا مالكا في إحدي الروايتين عنه فإنه لم يجوز ذلك، ويجوز أن يستنيب صبيًّا وامرأة حائضًا، لكن يكره توكيل الصبي، وفي كراهة توكيل الحائض وجهان عند الشافعية، قالوا: والحائض أولى من الصبي، والصبي أولى من الكتابي. والأفضل لمن وكل أن يوكل مسلما فقيها بباب الذبائح والضحايا؛ لأنه أعرف بشروطها وسُننِها. وقوله ثمينين. بالثاء أي أعلى ثمنًا. والمدية: يجوز في الميم الثلاث حركات، وهي السكين، بالدال المهملة. والشحذ: بالشين المعجمة والحاء المهملة والذال المعجمة، وهو في الحديث بصيغة الأمر، بفتح الحاء المهملة، أي: حدديها، وهو موافق ¬

_ (¬1) ينظر شرح النووي على مسلم 13/ 120.

للحديث السابق: "إذا قتلتم فأحسنوا القتلة" (¬1). وقوله: فأضجعه. فيه دلالة على استحباب الإضجاع للغنم وأنها لا تذبح قائمة ولا باركة بل مضجعة؛ لأنه أرفق بها، وبهذا جاءت الأحاديث وأجمع عليه المسلمون، واتفق العلماء -والمسلمون عملوا به- على أن إِضجاعها يكون على جانبها الأيسر؛ لأنه أسهل على الذابح في أخذ السكين باليمين وإمساك رأسها باليسار. وقوله: "اللهم تقبل من محمد". يدل على أنه يستحب الدعاء بقبول التضحية. قال أصحاب الشافعي: ويستحب أن يقول: اللهم منك وإليك تقبل مني. وكذا في "البحر"، وكرهه أبو حنيفة، وكره مالك: اللهم منك وإليك. وقال: هي بدعة. وذكره الإمام المهدي في "البحر" أنه يقول عند توجيهها القبلة: {وَجَّهْتُ وَجْهِيَ} إِلى: {وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} (¬2). وقد أخرج ابن ماجه (¬3) من حديث جابر أنه - صلى الله عليه وسلم - ضحى بكبشين وقال حين وجههما: " {وَجَّهْتُ وَجْهِيَ} الآية. إلى: {وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} (¬4). اللهم منك ولك، عن محمد وأمته". وقوله: "وآل محمد". فيه دلالة على جواز التضحية من الرجل عنه، ¬

_ (¬1) تقدم ح 1125. (¬2) الآية 79 من سورة الأنعام. (¬3) ابن ماجه 2/ 1043 ح 3121. وفيه: فقال حين وجههما: إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين. وهما آيتان منفصلتان كما تقدم وظاهر صنيع المصنف يوحي بأنهما آيتان متصلتان. (¬4) الآية 163 من سورة الأنعام.

وعن أهل بيته وإشراكهم معه في الثواب، وقد ذهب إليه الجمهور، وكرهه الثوري وأبو حنيفة وأصحابه، وزعم الطحاوي (¬1) أن هذا الحديث منسوخ أو مخصوص، وغلّطه العلماء، فإن النسخ والتخصيص لا يصح: لمجرد الدعوى، ويدل على أنه يصح أن ينوب المكلف عن غيره في فعل الطاعات وإن لم يكن من الغير أمر أو وصية. وقد تقدم بيان ذلك في آخر كتاب الجنائز (¬2)، ويدل على أن الآل هم القرابة لعطف الآمة، وقد تقدم في خطبة الكتاب (¬3). 1129 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من كان له سعة ولم يضح فلا يقربن مصلانا". رواه أحمد وابن ماجه وصححه الحاكم (¬4)، لكن رجح الأئمة (¬5) غيره وقفه. قد تقدم الكلام في الاحتجاج به على وجوب الأضحية، والجواب عن هذا بأن نهيه عن قربان المسجد للمبالغة في أنه ترك سنة مؤكدة بقرينة ما تقدم (¬6). 1130 - وعن جندب بن سفيان رضي الله عنه قال: شهدت ¬

_ (¬1) شرح معاني الآثار 4/ 178. (¬2) تقدم في 4/ 275 - 278. (¬3) تقدم في 1/ 13 - 15. (¬4) أحمد 2/ 321، وابن ماجه، كتاب الأضاحي، باب الأضاحي واجبة هي أم لا؟ 2/ 1044 ح 3123، والحاكم، كتاب التفسير 2/ 389. (¬5) ينظر البيهقي 9/ 260، والتمهيد 23/ 191، ونصب الراية 4/ 207. (¬6) تقدم ص 391، 392.

الأضحى مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلما قضى صلاته بالناس نظر إلى غنم قد ذبحت فقال: "من ذبح قبل الصلاة فليذبح شاة مكانها، ومن لم يكن ذبح فليذبح على اسم الله". متفق عليه (¬1). هو أبو عبد الله جندب بن عبد الله بن سفيان البجلي العَلَقي الأحمسي، ويقال له: جندب البجلي، وجندب العلقي، وجندب الأحمسي، وجندب [الخير] (أ)، وابن أم جندب. كان بالكوفة ثم انتقل إلى البصرة، ثم خرج منها، ومات في فتنة ابن الزبير بعد أربع سنين، روى عنه سَلمة بن كُهيل، والأسود بن قيس، والحسن البصري، ومحمد بن سيرين، وبكر بن عبد الله المزني. البَجَلي بفتح الباء الموحدة وفتح الجيم، والعَلَقي بفتح العين وفتح اللام وبالقاف. الحديث فيه دلالة على أن وقت ذبح الأضحية إنما يكون بعد الصلاة للعيد، وأنه لا يجزئ قبل ذلك، وظاهر هذا اللفظ أن المعتبر صلاة المضحي، وإن كان يحتمل أن اللام في قوله: "الصلاة". للعهد الخارجي، وأنه مشار به إلى قوله: فلما قضى صلاته. فيكون المعتبر صلاة الإمام لا صلاة المضحي، فإذا ضحى بعد صلاته مع الإمام فقد أخذ بالإجماع. قال ابن المنذر (¬2): وأجمعوا على أنها لا تجوز قبل طلوع فجر يوم النحر، واختلفوا ¬

_ (أ) في الأصل، جـ: الخيل. وينظر ترجمته في تهذيب الكمال 5/ 137، والإصابة 1/ 509.

فيما بعده، فقال الشافعي وداود وآخرون: يدخل وقتها (أ) إذا طلعت الشمس، ومضى قدر صلاة العيد وخطبتين، فإذا ذبح بعد هذا الوقت أجزأه، سواء صلى الإمام أو لا، وسواء صلى المضحي أم لا، وسواء كان من أهل الأمصار أو من أهل القرى أو البوادي أو المسافرين. وقال عطاء وأبو حنيفة: يدخل وقتها في حق أهل القرى والبوادي إذا طلع الفجر، ولا يدخل في حق أهل الأمصار حتى يصلي الإمام ويخطب، فإن ذبح قبل ذلك لم يجزه (ب). وقال مالك: لا يجوز ذبحها قبل صلاة الإمام وخطبته وذبحه. وقال أحمد: لا يجوز قبل صلاة الإمام ويجوز بعدها قبل ذبح الإمام. وسواء عنده أهل القرى والأمصار. ونحوه عن الحسن والأوزاعي وإسحاق بن راهويه. وقال الثوري: يجوز بعد صلاة الإمام قبل خطبته وفي أثنائها. وقال ربيعة فيمن (جـ) لا إمام له: إن ذبح قبل طلوع الشمس لا يجزئه، وبعد طلوعها يجزئه. وذهبت (د) الهدوية إلى أنه إن كان المضحي ممن لا تلزمه الصلاة كان أول وقتها من طلوع الفجر، وإن كان ممن تلزمه الصلاة فمن بعد أن يصلي، وهذا الحديث لا يوافق ظاهره شيئًا من هذه الأقوال. قال القرطبي (¬1): ظواهر الأحاديث تدل على تعليق الذبح بالصلاة، لكن لما رأى الشافعي أن مَن لا صلاة عليه مخاطب بالتضحية حمل الصلاة على وقتها. ¬

_ (أ) في جـ: فيها. (ب) في جـ: تجزه. (جـ) في جـ: فمن. (د) في الأصل: ذهب.

وقال ابن دقيق العيد (¬1): هذا اللفظ أظهر في اعتبار فعل الصلاة، وهو قوله في رواية: "من ذبح قبل أن يصلي فليذبح مكانها أخرى". قال: لكن إن أجريناه على ظاهره اقتضى أنه لا تجزئ الأضحية في حق من لم يصلِّ العيد، فإن ذهب إليه أحد فهو أسعد الناس بظاهر هذا الحديث، وإلا وجب الخروج عن هذا الظاهر في هذه الصورة، ويبقى ما عداها في محل البحث، وقد جاء في رواية مسلم: "قبل أن يصلي أو نصلي". الأولى بالياء والثانية بالنون، وهو شك من الراوي، فلفظ: "أن يصلي" بالياء موافق للرواية، ورواية النون تكون متمسّكا لمن يقول: المعتبر صلاة الإمام. ويؤيده ما أخرجه الطحاوي (¬2) من حديث جابر؛ أن رجلًا ذبح قبل أن يصلي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فنهى أن يذبح أحد قبل الصلاة. وصححه ابن حبان (¬3)، ويتأيد ذلك بقوله في حديث البراء (¬4): "إن أول ما نصنع أن نبدأ بالصلاة، ثم نرجع فننحر". وقد جاء في رواية الطحاوي (¬5) [عن مسلم] (أ) عن جابر، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى يوم النحر بالمدينة، فتقدم رجال فنحروا وظنوا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد نحر، فأمرهم أن يعيدوا. فهذا متمسَّك لمن يعتبر نحر الإمام، ولكنه ¬

_ (أ) كذا في ب، جـ. وجاءت العبارة في الفتح 10/ 22 بلفظ: أورد الطحاوي ما أخرجه مسلم من حديث ابن جريج عن أبي الزبير عن جابر.

يلزم أنه إذا لم ينحر الإمام أن يسقط عن الناس مشروعية النحر. والظاهر أنه لم يقل به أحد. وقد تقدم (¬1) قريبًا أن أبا بكر وعمر كانا يتركان التضحية، ولم يعلم أن أحدًا أمر الناس بترك الذبح، أو قال في ذلك العصر: إن المذبوح ليس بضحية. والجمهور يتأولون الحديث على أن المراد زجرهم عن التعجيل الذي قد يؤدي إلى فعلها قبل الوقت. ولهذا جاء في باقي الأحاديث التقييد بالصلاة، وأن من ضحى بعدها أجزأه. إلا أنه يجوز أن يقال: إن المعتبر ذبح المصلي. وما أفادته الأحاديث من صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يخالف ذلك؛ لأنه من المعلوم في ذلك الوقت أنه لم يكن أحد قد صلى قبل النبي - صلى الله عليه وسلم -، فإنهم في ابتداء تقرير الشريعة وتعريف الأحكام، ولم يكن قد تقرر تعريف صلاة العيد ولا حكم الأضحية. وقوله: "على اسم الله". جاء في رواية لمسلم (¬2): "باسم الله". والمعنى متحد؛ فإن الجار والمجرور متعلق بمحذوف تقديره: قائلا باسم الله. و"على" تفيد هذا المعنى، وإن كانت للاستعلاء؛ لأن العامل للفظ في حكم المستعلى عليه. وقال القاضي عياض (¬3): يحتمل أن تكون الباء أو "على" بمعنى اللام؛ أي لله. أو تكون بمعنى: بسنة الله. قال: وأما كراهة بعضهم أن يقال: أفعل كذا على اسم الله؛ لأن اسمه على كل شيء. فضعيف. قال المصنف رحمه الله تعالى (3): ويحتمل وجها خامسًا وهو أن يكون معنى "باسم الله" مطلق الإذن في الذبيحة، لأن مقتضى السياق المنع قبل ذلك والإذن بعده، ¬

_ (¬1) تقدم ص 389. (¬2) مسلم 3/ 1552 ح 1960/ 3. (¬3) الفتح 10/ 20، 21.

كما يقال للمستأذن: باسم الله. أي ادخل. 1131 - وعن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: قام فينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "أربع لا تجوز في الضحايا، العوراء البين عورها، والمريضة البين مرضها، والعرجاء البين [ظلعها]، والكسراء (أ) التي لا تُنْقِي". رواه أحمد والأربعة، وصححه الترمذي وابن حبان (¬1). والحديث أخرجه أبو داود والنسائي وغيرهم، عن عبيد بن فيروز، وادعى الحاكم (¬2) أن مسلما أخرجه، وأنه مما أُخذ عليه؛ لأنه من رواية سليمان بن عبد الرحمن عن عبيد بن فيروز، وقد اختلف الناقلون عنه فيه. ذكَر هذا في كتاب الضحايا، وذكره (¬3) في كتاب الحج من هذه الطريق وصححه، وقال: لم يخرجاه. قال المصنف رحمه الله (¬4): وهو مصيب هنا. يعني قوله: ولم يخرجاه -مخطئ هناك. في قوله: أن مسلما أخرجه. ¬

_ (أ) في جـ: الكسيرة.

وقال النووي في "شرح مسلم" (¬1): لم يخرجه البخاري ومسلم في "صحيحيهما"، ولكنه صحيح، أخرجه أصحاب "السنن" بأسانيد صحيحة وحسنة. قال أحمد بن حنبل: ما أحسنه من حديث! وقال الترمذي: حديث حسن صحيح. الحديث فيه دلالة على أن المانع من إجزاء التضحية هو هذه الأربعة العيوب لا غيرها، وإن كان أشد منها، وقد ذهب إلى هذا الظاهرية، وقوفًا على النص، وذهب الجمهور إلى أنه يقاس عليها ما كان أشد منها من العيوب، أو مساويًا بالقياس؛ وذلك كالعمياء ومقطوعة الساق، وأما ما كان عورها غير تام وكان بعض النظر باقيا، فذكر الإمام المهدي في "البحر" أنه يعفى عما كان الذاهب الثلث فما دون، وكذا في العرج قال: ألا يصل إلى المنحر على الأربع. والحديث يحتمل ذلك بقوله: "البين عورها". و: "البين ظلعها". ومن المرض والعجف ما يعافه المترفون. وقال الشافعي في العرجاء: إذا تأخرت عن الغنم لأجله فهو بين. وقوله: "ظلعها". أي اعوجاجها. وقوله: "التي لا تُنْقِي". بضم التاء المثناة فوق وإسكان النون وكسر القاف، أي التي لا نِقْي لها بكسر النون وإسكان القاف وهو المخ؛ يقال: هذه ناقة منقية. أي فيها نقي وهو المخ. وفي رواية النسائي (¬2): "والعجفاء". بدل "الكسراء". ¬

_ (¬1) صحيح مسلم بشرح النووي 13/ 120. (¬2) النسائي 7/ 215، 216.

1132 - وعن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تذبحوا إلّا مسنة، إلّا أن يَعْسُر عليكم فتذبحوا جَذَعَة من الضأن". رواه مسلم (¬1). المسنة هي الثنيَّة من كل شيء؛ من الإبل والبقر والغنم فما فوقها. والحديث فيه دلالة على أنه لا يجوز الجذع من غير الضأن في حالٍ من الأحوال، وقد نقل القاضي عياض (¬2) الإجماع عليه. ونقل العبدري (2) وغيره من الشافعية عن الأوزاعي أنه قال: يجزئ الجذع من الإبل والبقر والغنم. وحكي هذا عن عطاء. والثني من الإبل ما قد تم له خمس سنين، ومن البقر والغنم والمعز ما تم له سنتان. والجذع من الإبل ما كان له أربع سنين، ومن غيرها ما كان له سنة، وقد قيل في البقر: إن المسنة ما دخلت في السنة الرابعة، أو التي دخلت في الثالثة. وظاهر الاستثناء بقوله: "إلا أن يعسر عليكم فتذبحوا جذعة من الضأن". أنه لا يجزئ الجذع من الضأن مع إمكان الثني. وقد حكى عن ابن عمر والزهري (2) العمل بهذا، إلا أن قولهما أنه لا يجزئ ولو مع تعسر الثني. وقالا: لا يجزئ الجذع. والجمهور ذهبوا إلى خلافه، وأن الحديث محمول على الاستحباب. والقرينة ما جاء في الأحاديث من التضحية بالجذع، وهو حديث أم بلال قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ضحوا بالجذع من الضأن". أخرجه أحمد وابن جرير الطبري والبيهقي (¬3). ورواه ابن ماجه (¬4) من حديث أم بلال بنت هلال عن أبيها ¬

_ (¬1) مسلم، كتاب الأضاحي، باب سن الأضحية 3/ 1555 ح 1963. (¬2) صحيح مسلم بشرح النووي 13/ 117. (¬3) أحمد 6/ 368، وابن جرير -كما في التلخيص 4/ 139 - والبيهقي 9/ 271. (¬4) ابن ماجه 2/ 1049 ح 3139.

بلفظ: "يجوز الجذع من الضأن أضحية". وأشار الترمذي (¬1) إلى هذه الرواية. ومن حديث أبي هريرة: "نعمت الأضحية الجذع من الضأن أضحية" (¬2). وقد روي موقوفًا (¬3). وروى ابن وهب (¬4) من حديث عقبة بن عامر بلفظ: ضحينا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بجذع من الضأن. 1133 - وعن علي رضي الله عنه: أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نستشرف العين والأذن، ولا نضحي بعوراء، ولا مقابلة ولا مدابرة، ولا خرقاء ولا شرقاء. أخرجه أحمد والأربعة، وصححه الترمذي وابن حبان والحاكم (¬5). الحديث أعلَّه الدارقطني (¬6)، وأخرجه البيهقي (¬7) وفسر الحديث قال: المقابلة ما قطع طرف أذنها، والمدابرة ما قطع من جانب الأذن، والشرقاء المشقوقة، والخرقاء المثقوبة الأذنين. وأخرج (7) عن علي: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نضحي بعضباء الأذن والقرن. قال قتادة: وسألت سعيد بن المسيب ¬

_ (¬1) الترمذي 4/ 74 عقب حديث 1499. (¬2) الترمذي 4/ 74 حديث 1499. (¬3) الترمذي عقب ح 1499، وينظر العلل الكبير ص 247، 248. (¬4) النسائي 7/ 219. (¬5) أحمد 1/ 95، وأبو داود، كتاب الضحايا، باب ما يكره من الضحايا 3/ 97، 98 ح 2804، والترمذي، كتاب الأضاحي، باب ما يكره من الأضاحي 4/ 73 ح 1498، والنسائي، كتاب الضحايا، باب المدابرة 7/ 217، وابن ماجه كتاب الأضاحي، باب ما يكره أن يضحى به 2/ 1050 ح 3143، وابن حبان، كتاب الأضحية، ذكر الزجر عن أن يضحي المرء بأربعة أنواع من الضحايا 13/ 242، والحاكم، كتاب المناسك 1/ 468. (¬6) علل الدارقطني 3/ 238، 239. (¬7) البيهقي 9/ 275.

عن العضب، فقال: النصف فما زاد. إلا أنه أخرج (1) من حديث حُجَيَّةَ بن عدي قال: كنا عند علي، فأتاه رجل فقال: البقرة؟ فقال: عن سبعة. قال: القرن؟ قال: لا يضرك. قال: العرجاء؟ قال: إذا بلغت المنسك أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نستشرف العين والأذن. فهذا يدل على أن المراد بالأول -إن صح- نهي التنزيه في القرن. قال الشافعي (¬2) رحمه الله: وليس في القرن نقص. يعني ليس في نقصه أو فقده نقص في اللحم. قوله: أن نستشرف العين والأذن. أي يُشرف (أ) عليهما ويتأملان؛ كي لا يقع نقص وعيب فيهما. وقيل: إن ذلك مأخوذ من الشُّرف بضم الشين، وهو خيار المال. أي أمرنا أن نتخيرهما. وروي عن الشافعي أن معناه أن نضحي بواسع العينين طويل الأذنين. الحديث فيه دلالة على أنه لا تجزئ التضحية (أ) بما ذكر، وهو ظاهر مذهب الهدوية. وقال الإمام يحيى أنه يكره التضحية بها وتجزئ. قال الإمام المهدي: وهو قوي؛ إذ لا ينقص لحمها بذلك، بخلاف العوراء والعرجاء؛ فإن رعيهما ينقص بذلك فينقص بذلك اللحم. ويتأيد هذا التأويل بما تقدم من حديث البراء (¬3)، وجاء النهي عن التضحية بالمصفرة، بضم الميم وإسكان الصاد المهملة وفتح الفاء في حديث عتبة بن ¬

_ (أ) في جـ: نستشرف. (ب) في جـ: الضحية.

عبد السلمي: أخرجه أبو داود والحاكم (¬1)، قال في "النهاية" (¬2): قيل: هي المهزولة؛ لخلوها عن السمن، وفي رواية: المصفورة. قيل: هي المستأصلة الأذن، سميت بذلك لأن صماخها صفر من الأذن أي: خلو. وإن رويت المصفّرة بالتشديد فللتكثير. وأما مقطوع الألية والذنب فجاء في الحديث (أ) أنه يجزئ، كما في حديث أبي سعيد: اشتريت كبشًا لأضحي به، فعدى الذئب فأخذ منه الألية، فسألت النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: "ضح به". أخرجه أحمد وابن ماجه والبيهقي (¬3) من حديثه، ومداره على جابر الجعفي. وشيخه محمد بن قرظة غير معروف، ويقال: إنه لم يسمع من أبي سعيد. قال البيهقي (¬4): ورواه حماد بن سلمة عن الحجاج بن أرطاة عن عطية عن أبي سعيد أن رجلًا سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن شاة قطع ذنبها يضحي بها؟ قال: "ضحِّ بها". وظاهر الحديث أن ذلك لا يضر، واستدل به في "المنتقى" (¬5) على أن العيب الحادث بعد تعيين الأضحية لا يضر، فلا يتم دليلًا على إجزاء ما كان ذاهبًا من قبل. وذهبت الهدوية والإمام يحيى إلى أن مسلوبة الألية والذنب لا تجزئ. وقال ابن رشد في "نهاية المجتهد" (¬6): سبب الخلاف بين العلماء أنه ورد في هذا ¬

_ (أ) في جـ: حديث.

الباب من الأحاديث الحسان حديثان متعارضان، فذكر النسائي عن أبي بردة أنه قال: يا رسول الله، أكره النقص يكون في القرن والأذن. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ما كرهته فدعه ولا تحرمه على غيرك". وذكر (¬1) عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نستشرف العين والأذن، ولا نضحي بشرقاء ولا خرقاء ولا مدابرة ولا بتراء. والشرقاء المثقوبة الأذن، والمدابرة التي قطع من جنبتي أذنها من خلف. فمن رجح حديث أبي بزدة قال: لا يتقى إلا العيوب الأربعة وما هو أشد منها. ومن جمع بين الحديثين، بأن حمل حديث أبي بردة على اليسير الذي هو غير بَيِّن، وحديث علي رضي الله عنه على الكثير الذي هو بيِّن -ألحق بحكم المنصوص عليها ما هو مساوٍ لها، ولذلك [جرى] (أ) أصحاب هذا المذهب إلى التحديد فيما يمنع الإجزاء مما يذهب من هذه الأعضاء، فاعتبر بعضهم ذهاب الثلث من الأذن والذنب، وبعضهم اعتبر الأكثر. وكذلك الأمر في ذهاب الأسنان وأطباء الثدي (¬2)، وأما القرن، فإن مالكا قال: ليس ذهاب جزء منه عيبًا، إلا أن يكون يدمى. فإنه عنده من باب المرض، ولا خلاف في أن المرض [البين] (ب) يمنع الإجزاء. وخرّج أبو داود (¬3)، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن أعضب الأذن والقرن (¬4). واختلفوا في الصكاء، وهي التي خلقت بغير أذنين؛ فذهب ¬

_ (أ) في الأصل، جـ: أجرى. والمثبت من بداية المجتهد 6/ 184. (ب) في الأصل، جـ: ليس. والمثبت من بداية المجتهد 6/ 184.

مالك والشافعي إلى أنها لا تجوز. وذهب أبو حنيفة إلى أنه إذا كان خِلْقَةً جاز كالأجمِّ (¬1). ولم يختلف الجمهور أن قطع الأذن كله أو أكثره عيب، وكل هذا الاختلاف راجع إلى ما قلنا. واختلفوا في الأبتر، فقوم أجازوه؛ لحديث (أ) جابر الجعفي عن أبي سعيد، وجابر عند أكثر المحدثين لا يحتج به. وقوم منعوه؛ لحديث علي رضي الله عنه. انتهى كلامه. والحديث أخرجه أبو داود (¬2) عن يزيد ذو مصر قال: أتيت [عتبة] (ب) بن عبد السلمي فقلت: يا أبا الوليد، إني خرجت ألتمس الضحايا فلم أجد شيئًا يعجبني غير ثرماء، فكرهتها، فما تقول؟ قال: أفلا جئتني بها. قلت: سبحان الله! تجوز عنك ولا تجوز عني. قال: نعم، إنك تشك ولا أشك، إنما نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن المصفرة والمستأصلة والبخقاء والمشيعة والكسراء، والمصفرة التي تستأصل أذنها حتى تبدو أصماخها، والمستأصلة التي استؤصل قرنها من أصله، والبخقاء التي تبخق عينها، والمشيعة التي لا تتبع الغنم عجفًا و (جـ) ضعفًا، والكسراء الكسيرة. هذا لفظ أبي داود. وقوله: غير ثرماء. أي غير ساقطة السن، يقال: ثرمت الشاة. إذا سقطت ثنيتها. والبخق، بالباء الموحدة والخاء المعجمة، هو ذهاب العين التي لم يكن ¬

_ (أ) في جـ: بحديث. (ب) في الأصل، جـ: عقبة. والمثبت من مصدر التخريج. (جـ) في جـ: أو.

فيها بصر، أو ذهاب بصر العين وهي باقية. كذا في "النهاية" (¬1)، والمشيعة إن كانت بصيغة اسم الفاعل بكسر الياء فهي التي لا تزال تتبع الغنم عجفًا، أي لا تلحقها، فهي أبدًا تشيعها، أي تمشي وراءها. وإن فتحت الياء بصيغة اسم المفعول فلأنها تحتاج إلى من يشيعها، أي يسوقها؛ لتأخرها عن الغنم. وقال في "البحر" في المشيعة: إن كان لهزال لم تجز، وإن كان للكسل كرهت. وفي ذاهب الأسنان وجهان، الإمام يحيى: أصحهما يجزئ إن لم تهزل لأجلها. 1134 - وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: أمرني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن أقوم على بُدْنه، وأن أقسم لحومها وجلودها وجلالها (¬2) على الفقراء والمساكين، ولا أعطي في جزارتها منها شيئًا. متفق عليه (¬3). والحديث فيه قصة النحر، وكان ذلك يوم النحر في حجة الوداع، وكانت البدن مائة بدنة، فنحر - صلى الله عليه وسلم - سبعا بيده. كذا في رواية أنس في "الصحيحين" (¬4): ثم أخذ الحربة هو وعلي فنحرا ثلاثا وستين كما في حديث [غَرَفة] (أ) بن الحارث الكندي أنه شاهد النبي - صلى الله عليه وسلم - يومئذ وقد أخذ أعلى ¬

_ (أ) في ب: عروة، وغير واضحة في جـ. والمثبت من مصدر التخريج. وينظر تهذيب الكمال 23/ 95، والإصابة 5/ 318.

الحزبة، وأمر عليًّا أن يأخذ أسفلها ونحرا بها البدن، ثم انفرد علي بنحر الباقي من المائة. كما جاء في حديث جابر (¬1)، وما أخرجه أحمد وأبو داود (¬2) من حديث علي أنه نحر - صلى الله عليه وسلم - ييده ثلاثين، وأمرني فنحرت سائرها. فقد انقلب على الراوي، فإن الذي نحر ثلاثين علي. وحديث أنه قرب لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - خمس بدن فطفقن يزدلفن إليه بأيهن يبدأ (¬3). لا ينافي ما تقدم؛ فإن الإبل لم تقرب دفعة واحدة، وإنما كانت تقرب أرسالًا، فقرب أولًا خمسًا ثم قرب بعد ذلك غيرها، فذبح ائنتين حتى كانت سبعًا بيده، ثم شاركه علي كما ذكر، وأما حديث أبي بكرة الذي في "الصحيحين" (¬4): ثم انكفأ إلى كبشين أملحين [فذبحهما] (أ) بعد أن خطب يوم النحر. فهو لا يخالف ما تقدم؛ فذبح النبي - صلى الله عليه وسلم - الغنم ثم نحر البدن في ذلك. وروى أبو بكرة ما رأى وأنس ما رأى، واقتصر أحد الراويين على بعض ما رآه في ذلك اليوم. وقد أشار إلى هذا الجمع [أبو] (ب) محمد بن حزم، و [هو] (جـ) أولى مما قال غيره: إن أبا بكرة ذكر ما كان من النبي - صلى الله عليه وسلم - في المدينة. ويؤيد ما قال ابن حزم ما ثبت في "الصحيحين" (¬5) عن عائشة، أنه ضحى - صلى الله عليه وسلم - يؤمئذ عن أزواجه بالبقر. فهو يدل أنه جمع بين الثلاثة الأنواع. وأطلقت ¬

_ (أ) في ب، جـ: فذبحهن. والمثبت من مصدر التخريج. (ب) ساقط من: ب، جـ. (جـ) في ب: هي.

اسم الأضحية على الهدي؛ لأن ما كان في منى يسمى هديًا، وما كان في غير منى يسمى أضحية. وقد جاءت ألفاظ [أنه] (أ) ذبح عن أزواجه بقرة، و: البقر (¬1). وفي لفظ: دخل علينا وفي يده لحم بقر، فقيل: ذبح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن أزواجه (¬2). فإذا كان لفظ بقرة مقدرًا مفعولًا لـ: ذبح. فهو حجة لإسحاق أن البقرة عن عشرة، خلاف الشافعي وأحمد وغيرهما أن البقرة عن سبعة، وبهذا الجمع الذي ذكرنا يندفع توهم اختلاف الروايات. وقد دل الحديث على فوائد؛ منها استحباب سوق البدن، والبدن تطلق على الإبل والبقر والغنم (ب). هذا قول أكثر أهل اللغة (¬3)، إلّا أن استعمالها في الأحاديث وفي كتب الفقه في الإبل خاصة. وجواز النيابة في النحر والتصدق، وأنه يتصدق باللحم والجِلال والجلود، وأنها تجلل، وأن يكون الجلال حسنًا. وأنه لا يعطى الجزار منها شيئًا؛ لأن ذلك يكون في حكم البيع من الجزار لاستحقاقه الأجرة. وهذا الذي دل عليه الحديث من تحريم البيع ذهب إليه الجمهور من الأئمة؛ أهل البيت والشافعية، وبه قال عطاء والنخعي ومالك وأحمد وإسحاق، وحكى ابن المنذر (3) عن ابن عمر وأحمد ¬

_ (أ) في ب، جـ: أن. والمثبت يقتضيه السياق. (ب) زاد في ب: و.

وإسحاق أنه لا بأس ببيع جلد الهدي والتصدق بثمنه، قال: ورخص في بيعه أبو ثور. وقال النخعي والأوزاعي: لا بأس أن يشتري به الغربال والفأس والميزان ونحوها. وقال الحسن البصري: يجوز أن يعطي الجزار جلدها. وهذا منابذ للسنة. والتجليل سنة، وهو مختص بالإبل، وهو مشهور العمل عن السلف، وممن [رآه] (أ) مالك والشافعي وأبو ثور وإسحاق وغيرهم قالوا: ويكون بعد الإشعار لئلا يتلطخ بالدم، ويستحب أن تكون قيمتها ونَفَاستها بحسب حال المهدِي. وكان بعض السلف يستحب أن يجلل بالوشي، وبعضهم بالحيرَة (¬1) وبعضهم بالقُباطي (¬2) والملاحف والأزر، قال مالك: ويُشَقُّ على الأسنمة إن كان الجِلال قليل الثمن. قال: وتركه ابن عمر استبقاء للثياب، لأنه كان يجلل بالجلال المرتفعة من الأنماط والبرود والحير. قال: وكان لا يجلل حتى يغدو من منى إلى عرفات. قال: وقد روي أنه كان يجلل من ذي الحليفة، وكان يعقد أطراف الجلال على [أذيالها] (ب) فإذا مشى ليله نزعها، فإذا كان يوم عرفة جللها، وإذا كان [عند] (جـ) النحر نزعها؛ لئلا يصيبها الدم. وكان ابن عمر يكسوها الكعبة، فلما كسيت الكعبة (د) تصدق بها. ¬

_ (أ) في ب: رواه. (ب) في ب، جـ: آذانها. والمثبت من شرح مسلم. (جـ) في ب: عقب. (د) ساقطة من: جـ.

وحكم الأضحية حكم الهدي فيما تقدم من أنه لا يبيع لحم الأضحية ولا جلدها ولا يعطه الجازر. ذكره الإمام يحيى، وحكاه في "البحر" عن مذهب الهدوية وأبي حنيفة. وقال ابن رشد في "نهاية المجتهد" (¬1): والعلماء متفقون فيما علمت أنه لا يجوز بيع لحمها، واختلفوا في جلدها وشعرها مما ينتفع به؛ فقال الجمهور: لا يجوز. وقال أبو حنيفة: يجوز بيعه بغير الدنانير والدراهم. يعني بالعروض. وقال عطاء: يجوز بكل شيء، دراهم وغير ذلك. وإنما فرق أبو حنيفة بين الدراهم وغيرها؛ لأنه رأى أن المعاوضة بالعروض هي من باب الانتفاع؛ لإجماعهم على أنه يجوز أن ينتفع به. انتهى. وفي "الأزهار" (¬2): ويكره البيع. وهو مخالف لما حكاه في "البحر"، والصحيح ما في "البحر"، للقياس على الهدي، لتعلق القربة بذلك، وإن كانت الأضحية سنة فذلك قبل تعيينها، والله أعلم. 1135 - وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: نحرنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عام الحديبية البدنة عن سبعة والبقرة عن سبعة. رواه مسلم (¬3). الحديث فيه دلالة على جواز الاشتراك في البدنة والبقرة، وأنهما سواء عن سبعة، وهذا في الهدى. وحكم الأضحية حكم الهدي، وقد ذهب إلى هذا زيد بن علي وأحمد بن عيسى - في رواية صاحب "الكافي "، والشافعية والحنفية. ¬

_ (¬1) الهداية تخريج بداية المجتهد 6/ 203. (¬2) السيل الجرار 4/ 79. (¬3) مسلم، كتاب الحج، باب الاشتراك في الهدي وإجزاء البقرة والبدنة كل منهما عن سبعة 2/ 955 ح 1318/ 350.

قال النووي (¬1): سواء كانوا متفرقين أو مجتمعين، وسواء كانوا مفترضين أو متطوعين، وسواء كانوا متقربين أو بعضهم متقربا وبعضهم طالب لحم. وروي هذا عن ابن عمر وأنس، وبه قال أحمد بن حنبل. ومالك ذهب إلى أنه لا يجوز الاشتراك في الهدي، وإنما يكون الاشتراك في هدي التطوع، وعنده هدي الإحصار غير واجب، وروى ابن القاسم (¬2) عنه أنَّه لا يصح الاشتراك لا في هدي التطوع ولا في الواجب. وهذا رد للحديث. وعند أبي حنيفة أن الاشتراك يجوز في الهدي [المتقرب] (أ) وإن لم يكن واجبا عند أحدهم، ولا يشارك من لم يكن متقربا. والهدوية اشترطوا في الاشتراك اتفاق [الفرض] (ب) ولا يصح مع الاختلاف. قالوا: لأن الذبح شيء واحد فلا يتبعض بأن يكون بعضه واجبا وبعضه غير واجب. وذهب الهدوية إلى أن البدنة عن عشرة والبقرة عن سبعة؛ لما رواه ابن عباس، قال: كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سفر فحضر الأضحى واشتركنا، في البقرة سبعة وفي البعير عشرة. أخرجه الترمذي والنسائي (¬3). وفي "أصول الأحكام" و "الشفا" عن الحسن بن علي مثل ذلك في الأضحية مرفوعًا، وقاسوا الهدي على الأضحية، ويجاب عنه بأنه لا يقاس مع وجود النص في الهدي. وقال ابن رشد (¬4). وأجمعوا على أنه لا يجوز أن يشترك في النسك ¬

_ (أ) في ب: المبعوث، وغير منقوطة في جـ. والمثبت يقتضيه سياق كلامه بعد ذلك. (ب) في ب: العرض، وفي جـ: العروض. والمثبت موافق لسياق الكلام الآتي بعده، وينظر نيل الأوطار 5/ 121.

أكثر من سبعة، وإن كان قد روي من حديث رافع بن خديج أن النبي - صلى الله عليه وسلم - عدل البعير بعشر شياه. أخرجه (أ) في "الصحيحين" (¬1). ومن طريق ابن عباس وغيره: البدنة عن عشرة. قال الطحاوي: وإجماعهم دليل على أن الآثار في ذلك غير صحيحة. انتهى. ويجاب عنه بأن الإجماع غير مسلم، ولعله تجوز فيه؛ لأنه قول الأكثر. وهذا في الإبل والبقر، وأما الغنم فذهب الهدوية إلى أن الشاة تجزئ عن ثلاثة في الأضحية؛ وذلك لما تقدم من تضحية النبي - صلى الله عليه وسلم - بالكبش عن محمَّد وآل محمَّد. قالوا: وظاهر الحديث يقضي أن يجزئ عن أكثر (أ)، ولكن الإجماع قصَر الإجزاء (ب) على الثلاثة. وذهب الأكثر إلى أن الشاة لا تجزئ إلا عن واحد، وادعى ابن رشد (¬2) الإجماع على ذلك. وذهب مالك أنَّه يجوز أن يذبح الشاة عن نفسه وعن أهل بيته لا على جهة الاشتراك بل إذا كان ملكه للمضحى منفردًا؛ لما تقدم من حديث علي رضي الله عنه، وكذا ما أخرجه في "الموطأ" (¬3) عن أبي أيوب الأنصاري قال: كنا نضحى بالشاة الواحدة يذبحها الرجل عنه وعن أهل بيته، ثم تباهى الناس بعدُ. وكره أبو حنيفة والثوري الاشتراك. ¬

_ (أ) في جـ: الأكثر. (ب) في جـ: الأحوال.

فائدة (أ): السنة لمن أراد أن يضحي ألا يأخذ من شعره ولا من ظفره إذا أهل هلال ذي الحجة حتى يضحي. أخرجه مسلم (¬1) من أربع طرق من حديث أم سلمة: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا دخل العشر فأراد أحدكم أن يضحي فلا يمس من شعره ولا بَشَره شيئًا". قال الشافعي (¬2) رحمه الله تعالى: فإن قال قائل: ما دلّ على أنه اختيار لا واجب؟ يعني عدم الأخذ من الشعر والظفر، قيل له: روى مالك (¬3)، عن عبد الله بن أبي بكر، عن [عمرة] (ب)، عن عائشة قالت: أنا فتلت قلائد هدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيدي، ثم قلدها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيده، ثم بعث بها مع أبي، فلم يَحرُم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيء أحله الله له حتى نحر الهدى. قال الشافعي رحمه الله تعالى: وفي هذا دلالة على ما وصفتُ، وعلى أن المرء لا يُحرِم بالبعثة بهديه يقول: البعثة بالهدي أكبر (جـ) من إرادة الضحية. أخرج الحديث في "الصحيحين" (¬4) من طريقين. وقد ذهب إلى هذا الشافعي والإمام يحيى وغيرهم، وذهب أحمد بن حنبل وإسحاق إلى أنه يحرم ذلك؛ نظرا إلى ظاهر النهي، ومقتضاه التحريم حقيقة. ويجاب عنه بحديث عائشة. وذهب مالك وأبو حنيفة إلى أنه لا يسن ذلك. والحديث يرد عليهما. كذا ¬

_ (أ) في حاشية ب: السنة أن يترك المضحى شعره وظفره. (ب) في ب، جـ: عمرو. والمثبت من مصدر التخريج، وينظر تهذيب الكمال 35/ 241. (جـ) في جـ: أكثر.

روى الخلاف في "البحر". قال أصحاب الشافعي: والحكمة في النهي أن يبقى كامل الأجزاء؛ ليعتق من [النار] (أ). وقيل: للتشبه بالمحرم. ولا يصح هذا؛ لأنه لا يعتزل النساء ولا يترك الطيب واللباس وغير ذلك مما يتركه المحرم. فائدة أخرى: أجمع العلماء على جواز الضحايا من جميع بهيمة الأنعام، واختلفوا في الأفضل من ذلك؛ فذهب مالك إلى أن الأفضل من الضحايا الكباش ثم البقر ثم الإبل، وفي الهدي الإبل أفضل ثم الكباش. وقد قيل عنه: الإبل ثم البقر. وذهب الشافعي إلى أن الأفضل الإبل ثم البقر ثم الكباش. وبه قال أشهب وابن شعبان. وحجة مالك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يرو عنه أنَّه ضحى إلا بكبش، ولكن في "البخاري" (¬1) من حديث ابن عمر ما يدل على أنه نحر الإبل، وهو قوله أنه كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يذبح وينحر بالمصلى. والنحر في الإبل، ويدل على ذلك عطفه على: يذبح. وأما الهدي فالإبل؛ لأنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - أهدى الإبل كما قد مر. وقوله تعالى: {وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ} (¬2). إذا فسر ذلك بالأضحية. وقد فدى إبراهيم بالكبش، فيدل على أن الكبش أفضل في الأضحية. وحجة الشافعي قوله - صلى الله عليه وسلم -: "من راح في الساعة الأولى فكأنما قرب بدنة، ومن راح في الساعة ¬

_ (أ) في ب: المال.

الثانية فكأنما قرب بقرة، ومن راح في الثالثة فكأنما قرب كبشا" (¬1). فحمل هذا على جميع التقرب بالحيوان، وأما فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - فقد ضحى بالأمرين، ولكنه يتأيد بالقياس على الهدي، والإجماع على أنه لا يجوز الضحية بغير بهيمة الأنعام، إلا ما حكِي عن الحسن بن صالح، أنه يجوز التضحية ببقرة الوحش عن سبعة والظبي عن واحد. وما روي عن أسماء بنت أبي بكر قالت: ضحينا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالخيل (¬2). وعن أبي هريرة أنه ضحى بذلك (¬3). ومدة النحر اليوم العاشر ويومان بعده عند العترة ومالك وأبي حنيفة وأحمد وغيرهم، قال في "البحر": إذ روي عن علي رضي الله عنه، وهو توقيف. وذهب الشافعي وأصحابه والأوزاعي، أن أيام الأضحى أربعة؛ يوم النحر وثلاثة أيام بعده. وروي عن جماعة أن الأضحى يختص باليوم العاشر. وذهب إلى هذا حميد بن عبد الرحمن ومحمد بن سيرين وداود الظاهري. وعن سعيد بن جبير وأبي الشعثاء مثله إلا في منى فيجوز ثلاثة أيام، ويتمسك لهذا بحديث عبد الله بن عمرو رفعه: "أمرت بيوم الأضحى عيدا جعله الله لهذه الأمة". الحديث صححه ابن حبان (¬4)، وعن جماعة أن الذبح إلى آخر يوم من ذي الحجة. وهي أقوال للسلف، قال ابن رشد (¬5): ¬

_ (¬1) البخاري 2/ 366 ح 881، ومسلم 2/ 582 ح 850. (¬2) ذكره السهيلي في الروض الأنف 6/ 553. (¬3) ذكره ابن حجر في التلخيص 4/ 138. (¬4) ابن حبان 13/ 235، 236 ح 5914. (¬5) الهداية تخريج بداية المجتهد 6/ 200.

سبب اختلافهم شيئان (أ)، أحدهما، الاختلاف في الأيام المعلومات ما هي في قوله تعالى: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ} (¬1). فقيل: يوم النحر ويومان بعده. وهو المشهور، وقيل: العشر الأول من ذي الحجة. والسبب الثاني، معارضة دليل الخطاب في هذه الآية لحديث جبير بن مطعم مرفوعًا أنَّه قال: "كل فجاج مكة منحر، وكل أيام التشريق ذبح" (¬2). فمن قال في الأيام المعلومات أنها يوم النحر ويومان بعده في هذه الآية ورجح دليل الخطاب فيها على الحديث المذكور قال: لا نحر إلا في هذه الأيام. ومن رأى الجمع بين الحديث والآية وقال: لا معارضة بينهما؛ إذ الحديث اقتضى حكما زائدا على ما في الآية، مع أن الآية ليس المقصود منها تحديد (ب) أيام النحر، والحديث المقصود منه ذلك. قال: يجوز الذبح في اليوم الرابع [إذ] (جـ) كان باتفاق من أيام التشريق. و [لا] (د) خلاف بينهم أن الأيام المعدودات هي أيام التشريق وأنها ثلاثة أيام بعد يوم النحر؛ إلا ما روي عن سعيد بن جبير أنَّه قال: يوم النحر من أيام التشريق، وإنما اختلفوا في الأيام المعلومات على القولين. وأما من قال يوم النحر فقط؛ فبناء (هـ) على أن ¬

_ (أ) في جـ: سببان. (ب) في جـ: بحديث. (جـ) في ب، جـ، ومصدر التخريج: إذا. والمثبت هو الصواب. (د) في ب: لأنه. (هـ) في جـ: فبناؤه.

المعلومات العشر الأول. قالوا: وإذا كان الإجماع قد انعقد على أنه لا يجوز الذبح منها إلا في اليوم العاشر، وهي محل الذبح المنصوص عليها، فواجب أن يكون الذبح إنما هو يوم النحر فقط. و [قد] (أ) ذهب مالك في المشهور عنه إلى أنه لا يجوز الذبح في ليالي أيام النحر. وذهب غيره إلى جواز ذلك، وسبب الاختلاف هو أن اليوم يطلق على اليوم والليلة، مثل قوله تعالى {تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ} (¬1). وقد يطلق على النهار دون الليل، كما في قوله تعالى: {سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا} (¬2). فعطف الأيام على الليالي، والعطف للمغايرة. ولكن بقي النظر في أيهما هو أظهر، [والمحتج] (ب) بالمغايرة على أنَّه [لا] (جـ) يصح في الليل، يكون ذلك بناء على العمل بمفهوم اللقب، ولم يقل به إلا الدقاق، إلا أن يقال: دل الدليل على أنَّه يجوز بالنهار، والأصل في الذبح الحظر، فيبقى الليل على الحظر، وعلى مجوِّزه في الليل الدليل. انتهى مع اختصار. فائدة أخرى: يستحب أن يكون المتولي للذبح المضحي، والاتفاق على جواز التوكيل، كما تقدم في حديث على رضي الله عنه، واختلف العلماء إذا ذبحها غيره بغير إذنه؛ فقيل: لا يجوز. وقيل بالفرق بين أن يكون صديقا أو ولدًا فيجوز، وإن كان أجنبيا أنها لا تجوز. ¬

_ (أ) ساقطة من: ب. (ب) في ب: لكن المحتج به هل. وفي جـ: لكن المحتج به. والمثبت من سبل السلام 4/ 191. (جـ) ساقطة من ب، جـ. والمثبت من سبل السلام 4/ 191.

والمستحب للمضحي أن يأكل ويتصدق. واستحب له (أ) كثير من العلماء أن يقسمها أثلاثا؛ ثلثا للادخار وثلثا للصدقة وثلثا للأكل؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "كلوا وتصدقوا وادخروا" (¬1). ولعل الظاهرية يوجبون التجزئة. وقال عبد الوهاب المالكي (¬2): أوجب قوم الأكل وليس بواجب في المذهب. وقال ابن المواز (2): له أن يفعل أحد الأمرين؛ إما الأكل أو التصدق بالكل. ¬

_ (أ) ساقطة من: ب.

باب العقيقة

باب العقيقة العقيقة الذبيحة التي تذبح للمولود، وأصل العق الشق والقطع، وقيل للذبيحة: عقيقة. لأنها يشق حلقها. وقد يقال للشعر الذي يخرج على رأس المولود من بطن أمه: عقيقة. لأنه يحلق، وجعل الزمخشري الشعر أصلًا والشاة المذبوحة مشتقة منه، قال امرؤ القيس (¬1): أيا هند لا تنكحي (أ) بوهة ... عليه [عقيقته] (ب) أحسبا البوهة: الأحمق. زيد أنه من حمقه لم يحلق شعره الذي ولد عليه، والأحسب: الشعر الأحمر الذي يضرب إلى البياض. وقد جاء في صفة شعر النبي - صلى الله عليه وسلم -: إن انفرقت عقيقته فرق (¬2)، أي شعره، يسمى عقيقة تشبيها بشعر المولود، وسميت الذبيحة عقيقة باسم سببها، وأما عقوق الأمهات الوارد في الحديث فهو مشتق من العق الذي هو الشق والقطع. 1136 - وعن ابن عباس رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - عق عن الحسن والحسين كبشا كبشا. رواه أبو داود وصححه ابن خزيمة وابن الجارود ¬

_ (أ) في جـ: تبكي. (ب) في ب، جـ: عقيقة. والمثبت من الديوان.

وعبد الحق، لكن رجح أبو حاتم إرساله (¬1). وأخرج ابن حبان (¬2) من حديث أنس نحوه، وأخرج البيهقي والحاكم وابن حبان (¬3) من حديث عائشة (أ) نحوه بزيادة: يوم السابع وسماهما وأمر أن يماط عن رءوسهما الأذى. قال الحسن البصري (¬4): إماطة الأذى حلق الرأس. وصححه ابن السكن (¬5) بأتم من هذا، وفيه: وكان أهل الجاهلية يجعلون قطنة في دم العقيقة ويجعلونها على رأس المولود، فأمرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يجعلوا مكان الدم خلوقا. ورواه أحمد والنسائي (¬6) من حديث بريدة وسنده صحيح. ورواه الحاكم (¬7) من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، والطبراني في "الصغير" (¬8) من حديث قتادة عن أنس، والبيهقي (¬9) من حديث فاطمة. ورواه الترمذي والحاكم والبيهقي (¬10) من حديث علي. ¬

_ (أ) ساقط من: ب.

الحديث فيه دلالة على شرعيتها في الجملة، وقد اختلف العلماء في حكمها؛ فذهب الجمهور إلى أنها سنة، وذهبت الظاهرية والحسن البصري إلى وجوبها، وذهب أبو حنيفة إلى أنها ليست فرضا ولا سنة، وقيل أنها عنده تطوع، ويحتج للجمهور بفعله - صلى الله عليه وسلم - مع قوله وقد سئل عن العقيقة فقال: "لا أحب العقوق، ومن ولد له ولد فأحب أن ينسك عن ولده فليفعل" (¬1). فهذا يدل على عدم الوجوب، وهو يحتمل الإباحة، ولكن فعله - صلى الله عليه وسلم - يدل على السنية، وأما القائل بوجوبها فلحديث عائشة الآتي، فإن الأمر حقيقة في الإيجاب، ولكنه يجاب عنه بأن ذلك إذا لم تقم قرينة تقضي (أ) بأن يحمل على غير الوجوب، والقرينة قوله: "فأحب أن ينسِك عن ولده". وهذا الحديث حجة لأبي حنيفة، ولكنه لا ينافي السنية فلا يتم احتجاجه، وذهب محمَّد بن الحسن الشيباني إلى أنها كانت في الجاهلية فنسخت في الإسلام، والجواب عنه بأن المنسوخ إنما هو التدمية للمولود كما تقدم في حديث عائشة. وفي زيادة: يوم سابعه. في حديث عائشة يدل على أنه لا يصح قبل السابع ولا بعده، وادعى في "البحر" الإجماع، ونظر عليه؛ وذلك لأن النووي (¬2) ذكر عن أصحاب الشافعي قولا أنه يعق قبل السابع (ب كذلك عن الكبير ب)، ¬

_ (أ) في جـ: تقتضي. (ب- ب) ساقط من: جـ.

وكذا ابن رشد (¬1)، قال: وأجاز بعضهم أن يعق عن الكبير؛ لما روى أنس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - عق عن نفسه بعد البعثة. وأخرجه البيهقي (¬2) وقال: منكر. وفيه عبد الله بن محرر (¬3)، بالحاء المهملة وراءين مهملتين، وهو ضعيف جدًّا. وأخرجه أبو الشيخ (¬4) من طريق أخرى عن أنس. قال النواوي (¬5): حديث باطل. وأخرجه من رواية أبي بكر المستملي عن الهيثم بن جميل (أ) عن عبد الله بن المثنى من حديث أنس، وفي ابن المثنى (¬6) مقال. وأخرجه الطبراني (¬7) أيضًا من هذه الطريق، وإن كان الترمذي والعجلي (¬8) وثقاه فهو من الشيوخ الذين لا يقبل ما تفردوا به، وقد أخرجه الضياء (¬9) بهذا الإسناد في "الأحاديث المختارة مما ليس في الصحيحين"، ويحتمل مع فرض صحته أن يكون ذلك من خصائصه، وقال السيوطي في كتاب "المقصد في عمل المولد" أنَّه فعل ذلك إظهارا للشكر على اتخاذ الله تعالى إياه رحمة للعالمين ¬

_ (أ) في جـ: حميد.

وتشريعا (أ) لأمته، فينبغي لنا أيضًا إظهار الشكر لمولده بالاجتماع وإطعام الطعام ونحو ذلك من وجوه القربات وإظهار المسرات (¬1). انتهى. وقال مالك لا يعد في الأسبوع اليوم الذي ولد فيه إن ولد نهارا. وكذا نقله البويطي (ب) عن الشافعي، ونقل الرافعي وجهين رجح الحسبان (جـ)، وقال عبد الملك بن الماجشون: يحتسب. وقال ابن القاسم: إن عق ليلا لم يجزه. واختلف أصحاب مالك في مبدأ وقت الإجزاء؛ فقيل: وقت الضحايا، أعني ضحى. وقيل: بعد الفجر قياسا على قول مالك في الهدايا. ولا شك أن من أجاز الضحايا ليلا أجاز العقيقة ليلا، وقد قيل: يجوز في السابع الثاني والثالث، وكذا أخرج البيهقي (¬2) عن عبد الله بن بريدة عن أبيه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "العقيقة تذبح لسبع ولأربع عشرة ولإحدى وعشرين". 1137 - وعن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمرهم أن يعق عن الغلام شاتان مكافئتان وعن الجارية شاة. رواه الترمذي (¬3) وصححه، وأخرج أحمد والأربعة (¬4) عن أم كرز الكعبية نحوه. ¬

_ (أ) في جـ: تشريفا. (ب) في ب: السيوطي. (جـ) في جـ: الحساب.

حديث أم كرز أخرجه البيهقي (¬1) في طرق ست، وفي بعضها مقال، وحديث عائشة (1) من طريقين، وأخرج (1) عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن اليهود تعق عن الغلام شاة ولا تعق عن الجارية، فعقوا عن الغلام شاتين وعن الجارية شاة". وأخرجه أبو داود والنسائي (¬2) من حديث عمرو بن شعيب، وأخرجه أحمد (¬3) من حديث أسماء بنت يزيد. ومكافئتان. قال النووي (¬4): هو بكسر الفاء وبعدها همزة، هكذا صوابه عند أهل اللغة، والمحدثون يقولونه بفتح الفاء. قال أحمد وأبو داود (¬5): ومعناه متساويتان أو متقاربتان. قال الخطابي (¬6): والمراد التكافؤ في السن فلا تكون [إحداهما] (أ) مسنة والأخرى غير مسنة، بل تكون مما تجزئ في الأضحية، وقيل: معناه أنهما متساويتان. وقيل: معناه أن تذبح إحداهما مقابلة للأخرى. والحديث فيه دلالة على اختلاف العقيقة عن الذكر وعن الأنثى. وقد ذهب إلى هذا الشافعي، وأبو ثور، وأحمد، وداود، والإمام يحيى، ومذهب الهدوية ومالك إلى أنه يجزئ عن الذكر والأنثى شاة، لما تقدم من ¬

_ (أ) في ب، جـ: أحدهما. والمثبت من معالم السنن.

حديث ابن عباس. وأجيب عنه بأن حديث ابن عباس فعل وهذا (أقول، وهو أ) أقوى، وقد روي أيضًا من طرق كثيرة فهو أرجح، مع (ب) أن أبا الشيخ (¬1) أخرج حديث ابن عباس من وجه آخر عن عكرمة عن ابن عباس بلفظ: كبشين كبشين. ومن حديث عمرو بن شعيب مثله (1). مع أنه قد يقال: إن في اقتصار النبي - صلى الله عليه وسلم - دلالة على أنه يجوز أن يفعل مثل ذلك للذكر وأن التثنية ليست بمتعينة، وإن كانت هي المستحبة، والفرد جائز غير مستحب. ويحتمل أنه إنما فعل ذلك لكونه المتيسر، ولم يتسير الاثنان، مع مناسبة العلة لهذا الحكم، فإنه إذا كانت العقيقة مشروعة؛ لما فيها من التقرب لاستبقاء المولود فأشبهت الدية التي دية المرأة على النصف من دية الرجل، وفي إطلاق لفظ "شاتان" دلالة على أنه لا يشترط فيها ما يشترط في الأضحية، وفيه وجهان للشافعية؛ أصحهما: يشترط. وهو بالقياس، وقد (جـ) ذكر شاتان على أنه يتعين الغنم للعقيقة، وبه ترجم أبو الشيخ الأصفهاني (¬2)، ونقله ابن المنذر (2) عن حفصة بنت عبد الرحمن بن أبي بكر، وقال البندنيجي من الشافعية (2): لا نص للشافعي في ذلك، وعندي لا يجزئ غيرها. واختلف قول مالك في الإجزاء، وأما الأفضل عنده فالكبش مثل الأضحية، والجمهور على إجزاء الإبل والبقر أيضًا، وفيه حديث عند الطبراني وأبي الشيخ (¬3) عن أنس رفعه: "يعق عنه من الإبل والبقر والغنم". ¬

_ (أ- أ) ساقط من: جـ. (ب) في جـ: من. (جـ) في ب: في.

ونص أحمد على اشتراط كاملة. وذكر الرافعي بحثا أنه يجوز اشتراك سبعة في الإبل والبقر، كما في الأضحية. 1138 - وعن سمرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "كل غلام مرتهن بعقيقته، تُذبح عنه يوم سابعه ويُحلق ويُسمَّى". رواه أحمد والأربعة (¬1)، وصححه الترمذي. الحديث ذكره البخاري (¬2) مجملا ولم يسق لفظه، وكأنه اكتفى عن إيراده لشهرته، وهو من رواية الحسن عن سمرة، وأخرج نحوه البزار (¬3) وأبو الشيخ (¬4) في كتاب "العقيقة" عن ابن سيرين عن أبي هريرة، فالحديث يتقوى برواية التابعيين الجليلين عن الصحابيين، إلا أنه لم يقع في حديث أبي هريرة لفظ: "ويسمى". وقوله: "مرتهن". قال الخطابي (¬5): اختلف الناس في هذا؛ فذهب أحمد بن حنبل إلى أنه يريد أنه إذا مات وهو طفل ولم يُعقّ عنه لم يشفع لأبويه. وقيل: المعنى أن العقيقة لازمة لا بد منها، فشبه لزومها للمولود بلزوم الرهن للمرهون في يد المرتهن. وهذا يقوي قول الظاهرية بالوجوب، وقيل: ¬

_ (¬1) أحمد 5/ 7، 8، 12، 17، 18، 22، وأبو داود، كتاب الضحايا، باب في العقيقة 3/ 105 ح 2838، والترمذي، كتاب الأضاحي، باب من العقيقة 4/ 85 ح 1522، والنسائي، كتاب العقيقة، باب متى يعق؟ 7/ 166، وابن ماجه، كتاب الذبائح، باب العقيقة 2/ 1056، 1057 ح 3156. (¬2) البخاري 9/ 590 عقب ح 5472. (¬3) البزار 2/ 73 ح 1236 - كشف. (¬4) أبو الشيخ -كما في الفتح 9/ 593. (¬5) معالم السنن 4/ 285، 286.

المعنى أنه مرهون بأذى شعره، ولذلك جاء: "فأميطوا عنه الأذى" (¬1). ويقوي قول أحمد ما أخرجه البيهقي (¬2) عن عطاء الخراساني، وأخرج ابن حزم (¬3) عن بريدة الأسلمي قال: إن الناس يُعرضون يوم القيامة على العقيقة كما يعرضون على الصلوات الخمس. وهذا لو ثبت لكان دليلا لمن قال بالوجوب. قال ابن حزم (3): ومثله عن فاطمة بنت الحسين. وقوله: "يذبح عنه يوم سابعه". فيه دلالة على أن العقيقة موقتة بالسابع، وأنها تفوت بعده، وهذا قول مالك، وقال أيضًا: إن (أ) مات قبل السابع سقطت العقيقة. وفي رواية ابن وهب عن مالك أنه إن فات السابع الأول فالثاني. قال ابن وهب: ولا بأس أن يعق عنه في السابع الثالث. ونقل الترمذي (¬4) عن أهل العلم أنهم يستحبون أن تذبح العقيقة في السابع، فإن لم يتهيأ فيوم الرابع عشر، فإن لم يتهيأ فيوم أحد وعشرين. قال المصنف رحمه الله تعالى (¬5): ولم أر هذا صريحا إلا عن أبي عبد الله البوشنجي، ونقله صالح بن أحمد عن أبيه (ب وورد فيه ب) حديث عبد الله بن بريدة عن أبيه (¬6) ¬

_ (أ) زاد في ب، جـ: من. (ب- ب) في ب، جـ: وقد تقدم. والمثبت من الفتح.

ولكن من رواية إسماعيل بن مسلم، قال الطبراني (¬1): تفرد به وهو ضعيف. وعند الحنابلة في اعتبار الأسابيع بعد ذلك [روايتان] (أ)، وعند الشافعية أن ذِكر السابع للاختيار لا للتعيين، فنقل الرافعي أنه يدخل وقتها بالولادة. قال: وذكر السابع في الخبر بمعنى أنه لا تؤخر عنه اختيارًا. ثم قال: والاختيار ألا يؤخر عن البلوغ، فإن تأخرت (ب) إلى البلوغ سقطت عمن كان يريد أن يعق عنه، لكن إن أراد هو أن يعق عن نفسه فعل. وأخرج ابن أبي شيبة (¬2) عن ابن سيرين قال: لو أعلم أني لم يُعق عني لعققت عن نفسي. واختاره القفال، ونقل عن نص الشافعي ألا يُعق عن كبير، وهو يحتمل أنه لا يعق عنه الغير إذا كبر، وأما هو عن نفسه فيصح. وأخرج عبد الرزاق (¬3) عن قتادة أن من لم يُعق عنه أجزته أضحيته عن العقيقة. ولفظ: "تُذبح". بضم التاء مغيرًا للمجهول لم يدل على تعيين الذابح، وأنه يصح أن يتولى ذلك أجنبي، وعند الشافعي يتعين على من تلزمه النفقة للمولود، وعند الحنابلة يتعين الأب إلا أن يموت أو يمتنع، وفي كون النبي - صلى الله عليه وسلم - عق عن الحسنين [ما] (جـ) يقوي الاحتمال الأول، ولعله يحتمل أن ¬

_ (أ) في ب، جـ: روايات. والمثبت من الفتح 9/ 594، وينظر المغني 13/ 397. (ب) في جـ: تأخر. (جـ) ساقط من: ب، جـ. والمثبت يقتضيه السياق.

يكون مؤيدا لقول الحنابلة أنَّه يصح من غير الأب (أ) إذا تعذر منه الفعل، والتعذر يجوز أن يكون لإعسار الأبوين، أو أنَّه تبرع بإذنهما، أو أن قوله: عق. أي أمر الأب أن يعق عنهما، أو أن ذلك من خصائصه - صلى الله عليه وسلم -، أو لكونه للحسنين كالأب. وأخرج أحمد (¬1) من حديث أبي رافع: لما ولدت فاطمة حسنا قالت: يا رسول الله، ألا أعق عن ابني بدم؟ قال: "لا ولكن احلقي رأسه ثم تصدقي بوزن شعره فضة". ففعلت، فلما ولدت حسينا فعلت مثل ذلك. وهذا يحتمل أنه - صلى الله عليه وسلم - كان عق عنه ثم استأذنته فاطمة أن تعق هي عنه أيضًا فمنعها، وكأنه لكونه تبرع بالعقيقة، أو كان لضيق ما عندهم فأرشدها إلى نوع من الصدقة أخف، أو أنه لم يكن قد فعل لتعسره عليه وعليهم ثم فعل ذلك. ونص مالك على أنَّه يعق عن اليتيم من ماله، ومنعه الشافعية. "ويحلق رأسه". أي جميعه؛ لثبوت النهي عن القزع. وحكى المازري (ب) كراهة حلق رأس الجارية. وعن بعض الحنابلة: يحلق. وهو ظاهر إطلاق الحديث. وفي حديث علي عند الترمذي والحاكم (¬2) في حديث ¬

_ (أ) في هامش بـ: قلت: أو لكونه أباهما كما قد ورد: "أنا أبوهما وعصبتهما" وقال: "إن ابني هذا سيد" وغير ذلك، وقد أشار إلى ذلك الشارح رحمه الله. (ب) كذا في: ب، جـ، وفي الفتح 9/ 595: الماوردي.

العقيقة عن الحسن والحسين: "يا فاطمة، احلقي رأسه وتصدقي بزنة شعره". قال: فوزنّاه فكان درهما أو بعض درهم. وأخرج سعيد بن منصور (¬1) من مرسل [أبي جعفر] (أ) الباقر أن فاطمة كانت إذا ولدت [ولدا حلقت] (ب) شعره وتصدقت بزنته ورِقا. وقوله: "ويسمَّى". رواها أكثر أصحاب قتادة بالسين، وقال همام عن قتادة: "يدمى" بالدال. قال أبو داود (¬2): خولف همام، وهو وهم منه ولا يؤخذ به. ورَوَى (¬3) من غير طريق قتادة بلفظ: "يسمَّى". وقد استُشكل ما قاله أبو داود؛ فإن تمام رواية همام ما يدل على تحقيق ما رواه، وذلك أنهم سألوا قتادة عن الدم كيف نصنع به؟ فقال: إذا ذبحت العقيقة أخذت منها صوفة واستقبلت به أوداجها، ثم توضع على يافوخ الصبي حتى يسيل على رأسه مثل الخيط، ثم يغسل رأسه بعد ويحلق. فيبعد مع هذا الضبط أن يقال: إن هماما وهم عن قتادة في قوله: "ويدمى". إلا أن يقال: إن أصل الحديث: "ويسمَّى" ولكن قتادة بعد أن ذكر: "ويسمَّى" ذكر الدم حاكيا عما كان أهل الجاهلية يصنعونه. وقال ابن عبد البر (¬4): هذا الذي تفرد به همام إن كان حفظه فهو ¬

_ (أ) في ب، جـ: جعفر بن. والمثبت من الفتح. (ب) في ب، جـ: أحلقت. والمثبت من الفتح.

منسوخ. وحمل بعضهم التسمية على التسمية عند الذبح؛ لما أخرج ابن أبي شيبة (¬1) من طريق هشام عن قتادة قال: يسمي على العقيقة كما يسمي على الأضحية: باسم الله، عقيقة فلان. ومن طريق سعيد نحوه عن قتادة (1) وزاد: اللهم منك ولك، عقيقة فلان، باسم الله والله أكبر. ثم يذبح. وقد ورد ما يدل على النسخ في عدة أحاديث؛ منها ما أخرجه ابن حبَّان (¬2) في "صحيحه" عن عائشة قالت: كانوا في الجاهلية إذا عقوا عن الصبي خضبوا قطنة بدم العقيقة، فإذا حلقوا رأس المولود وضعوها على رأسه، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "اجعلوا مكان الدم خلوقا". زاد أبو الشيخ (¬3): ونهى أن يمس رأس المولود بدم. وأخرج ابن ماجه (¬4) عن يزيد بن عبد المزني أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "يعق عن الغلام ولا يمس رأسه بدم". وهذا مرسل؛ فإن يزيد لا صحبة له، وقد وصله البزار (¬5) من هذه الطريق وقال: عن يزيد بن عبدٍ المزني عن أبيه. ومع هذا فقد قالوا إنه مرسل. وأخرج أبو داود والحاكم (¬6) من حديث عبد الله بن بريدة عن أبيه قال: كنا في الجاهلية -فذكر نحو حديث عائشة ولم يصرح برفعه - فلما جاء الله بالإِسلام كنا نذبح شاة ونحلق رأسه ونلطخه بزعفران. وهو شاهد لحديث عائشة، ولهذا ¬

_ (¬1) ابن أبي شيبة 8/ 180. (¬2) ابن حبان 12/ 124 ح 5308. (¬3) أبو الشيخ -كما في الفتح 9/ 594. (¬4) ابن ماجه 2/ 1057 ح 3166. (¬5) البزار -كما في الفتح 9/ 594. (¬6) أبو داود 3/ 106، 107 ح 2843، والحاكم 4/ 238.

كره الجمهور التدمية. ونقل ابن حزم (¬1) عن ابن عمر وعطاء استحباب التدمية. قال في "نهاية المجتهد" (¬2): وحكم لحمها وجلدها حكم لحم الضحايا في الأكل والصدقة ومنع البيع. ¬

_ (¬1) المحلى 8/ 317. (¬2) الهداية في تخريج أحاديث البداية 6/ 284.

كتاب الأيمان والنذور

كتاب الأيمان والنذور الأيمان بفتح الهمزة، جمع يمين، وأصل اليمين في اللغة اليد، وأطلقت على الحلف لأنهم كانوا إذا تحالفوا أخذ كل بيمين صاحبه. وقيل: لأن اليد اليمين من شأنها حفظ الشيء، فسمي الحلف بذلك لحفظه المحلوف عليه، ويسمَّى المحلوف عليه يمينا لتلبسه بها. ويجمع اليمين أيضًا على أيمن كرغيف وأرغف. وعُرِّفت شرعًا بأنها توكيد الشيء بذكر اسم أو صفة لله تعالى. والنذور جمع نذر، وأصله الإنذار بمعنى التخويف، وعرَّفه الراغب (¬1) بأنّه إيجاب ما ليس بواجب لحدوث أمر. 1139 - عن ابن عمر رضي الله عنه، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه أدرك عمر بن الخطاب رضي الله عنه في ركب وعمر يحلف بأبيه، فناداهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ألا إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم، فمن كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت". متفق عليه (¬2). وفي رواية لأبي داود والنسائي (¬3) عن أبي هريرة: "لا تحلفوا بآبائكم وأمهاتكم ولا بالأنداد، ولا تحلفوا بالله إلا وأنتم صادقون". ¬

_ (¬1) مفردات الراغب ص 487. (¬2) البخاري، كتاب الأيمان والنذور، باب: لا تحلفوا بآبائكم 11/ 530 ح 6646، ومسلم، كتاب الأيمان، باب النهي عن الحلف بغير الله تعالى 3/ 1267 ح 3/ 1646. (¬3) أبو داود 3/ 219 ح 3248، والنسائي 7/ 5.

الحديث فيه دلالة على أن الحلف بالآباء منهي عنه، وقد اختلف العلماء هل النهي للتحريم أو للتنزيه؟ فللمالكية قولان، (أقال ابن دقيق العيد: المشهور عندهم الكراهة أ). والحنابلة اختلفوا في ذلك، والمشهور عن ابن حنبل التحريم، وبه جزم الظاهرية. وقال ابن عبد البر (¬1): لا يجوز الحلف بغير الله بالإجماع. ومراده بنفي الجواز الكراهة أعم من التحريم والتنزيه، فإنه قال في موضع آخر (¬2): أجمع العلماء على أن اليمين بغير الله مكروهة منهي عنها لا يجوز لأحد الحلف بها. والخلاف عند الشافعية؛ لأن الإمام الشافعي قال (¬3): أخشى أن يكون الحلف بغير الله معصية. فأشْعَر بالتردد، وجمهور أصحابه على أنه للتنزيه، وقال إمام الحرمين (¬4): المذهب القطع بالكراهة. وجزم غيره بالتفصيل، وقال الماوردي (4): لا يجوز لأحد أن يُحلِّف أحدًا بغير الله تعالى؛ لا بطلاق ولا بعتاق ولا نذر، وإذا حلَّف الحاكم أحدًا بشيء من ذلك وجب عزله. وذهب الإمام يحيى إلى أنه يكره الحلف بغير الله، وصرح الإمام المهدي في "الأزهار" (¬5) أن الحلف بغير الله لا يقتضي الإثم ولا الكفارة ما لم يُسو في التعظيم أو يضمن كفرا أو فسقا. انتهى. والأوْلى أن يقول: أو إثما. بدل قوله: فسقا. ¬

_ (أ- أ) عبارة الفتح 11/ 531: كذا قال ابن دقيق العيد، والمشهور عندهم الكراهة. وينظر شرح عمدة الأحكام 4/ 144.

وظاهر الحديث التحريم، والمناسبة (أ) للنهي أن الحلف يقتضي تعظيم المحلوف به، وحقيقة العظمة مختصة بالله فلا يضاهى به غيره، وقد وردت أحاديث صريحة في التحريم، وهو ما أخرجه أبو داود والحاكم (¬1) واللفظ له من حديث ابن عمر أنَّه قال - صلى الله عليه وسلم -: "من حلف بغير الله فقد كفر". وفي رواية للحاكم (¬2) أيضًا: "كل يمين يحلف بها دون الله شرك". ورواه أحمد (¬3) بلفظ: "من حلف بغير الله فقد أشرك". وحجة من قال بعدم التحريم ما جاء في حديث الأعرابي: "أفلح وأبيه إن صدق" (¬4). وما وقع في القرآن من الإقسام بغير الله، فيكون النهي محمولا على الكراهة. وأما قوله: "فقد كفر". وقوله: "فقد أشرك". فقال الترمذي (¬5): قد حمل بعض العلماء مثل هذا على التغليظ، كما حمل بعضهم قوله: "الرياء شرك" (¬6). على ذلك، وفُسِّر قوله تعالى: {وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} (¬7). أي: لا يرائي. وقال الماوردي: فيه تأويلان؛ أحدهما: فقد أشرك بين الله وبين غيره في التعظيم وإن لم يَصِر من الكافرين المشركين. وثانيهما: صار ¬

_ (أ) في ب: المناسب.

كافرا به بعد أن اعتقد لزوم يمينه بغير الله كاعتقاد لزومها بالله. وأجيب عن الحديث بأن قوله: "وأبيه". لم يقصد به القسم، وإنما قصد به مجرد التوكيد، أو قاله قبل أن يعلم كراهة ذلك. وقال ابن عبد البر (¬1): هذه اللفظ غير محفوظة، وقد جاءت عن راويها بلفظ: "أفلح والله إن صدق". وزعم بعضهم أن راويها صحف: "والله" بـ: "أبيه". وأما تأويل الحديثين بالتغليظ فإنما يدفع القول بكفر من قال بذلك، وأما التحريم فلا يدفعه، فإن التغليظ إنما كان لأجل التحريم. وقول أبي بكر في الذي سرق حلي ابنته فقال: وأبيك ما ليلك بليل سارق. أخرجه "الموطأ" (¬2) وغيره، فتأول بما ذكر من قصد التأكيد. وقوله: "ولا تحلفوا بالأنداد". الأنداد جمع ند، والند هو من (أ) يجعل شريكا في العبادة. وقد أخرج مسلم (¬3) قوله - صلى الله عليه وسلم -: "من حلف منكم فقال في حلفه: واللات والعزى. فليقل: لا إله إلا الله". وأخرج النسائي (¬4) من حديث سعد بن أبي وقاص أنه حلف باللات والعزى. قال: فذكرت ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: "قل: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير. وانفث عن يسارك ثلاثا، وتعوذ بالله من الشيطان ¬

_ (أ) في جـ: ما.

الرجيم، ثمَّ لا تعُد". وأخرج النسائي (¬1) عن قُتَيلة -امرأة من جهينة- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر أن يقولوا: ورب الكعبة. بعد ذكر الإشراك بقولهم: والكعبة. والحديث فيه دلالة على تحريم الحلف بالأصنام. وأما أنه يكفر بذلك فظاهر قوله: "فليقل: لا إله إلا الله". أنه لا يكفر؛ لأنه لو كفر لوجب تمام الشهادتين بالإقرار بالنبي - صلى الله عليه وسلم -. وقال ابن المنذر (¬2): اختلف فيمن قال: أكفر بالله ونحو ذلك إن فعلت كذا. (أثم فعل أ)؛ فقال ابن عباس وأبو هريرة وعطاء وقتادة وجمهور فقهاء الأمصار: لا كفارة عليه، ولا يكون كافرا إلا إن أضمر ذلك بقلبه. وقال الأوزاعي والثوري والحنفية وأحمد وإسحاق: هو يمين، وعليه الكفارة إذا حنث. وقال ابن المنذر: الأول أصح؛ لقوله: "من حلف باللات والعزى فليقل: لا إله إلا الله". ولم يذكر كفارة. وكذا قال: "من حلف بملة سوى الإسلام فهو كما قال" (¬3). فأراد التغليظ في ذلك حتى لا يجترئ أحد عليه. ونقل أبو الحسين بن القصار (¬4) من المالكية عن الحنفية أنهم احتجوا لإيجاب الكفارة بأنه إنما وجبت في اليمين لإيجابها الامتناع من الفعل، ¬

_ (أ - أ) ساقط من: جـ.

وهذا كذلك، وتضمن كلامه تعظيم الإسلام، وقياسا على الظهار، فإنه منكر من القول وزور، وهذا كذلك. ولكنه كان يلزم أن تجب فيه كفارة الظهار ولا يقولون به. ويرد عليهم أنهم قالوا: إذا قال: وحق الإسلام. لا تجب عليه الكفارة إذا حنث، (أوبه قالت أ) الحنفية، إلا إذا قال: أنا مبتدع أو بريء من النبي - صلى الله عليه وسلم -. فلا كفارة، وكذا قوله: هو يهودي إن فعل كذا. وظاهر قوله: "فليقل: لا إله إلا الله". وجوب ذلك، وذهب الجمهور إلى أنه مستحب، وكأن القرينة على الحمل على الاستحباب أن وجوبه إنما يكون إذا قلنا بأنه يقتضي الكفر، ولو قلنا بذلك لوجب تمام الشهادتين، فدل الاقتصار على أن ذلك لا على سبيل الوجوب، وإنما هو كالأمر بازدياد الذكر. وقوله: "ولا تحلفوا بالله إلا وأنتم صادقون". يدل على تحريم الحلف على الشيء وهو يعتقد كذبه، وهذه اليمين هي الغموس المحرمة، والله أعلم. 1140 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يمينك على ما يصدقك به صاحبك". وفي رواية: "اليمين على نية المستحلِف". أخرجهما مسلم (¬1). الحديث فيه دلالة على أن اليمين تكون على ما يقصده المحلِّف، ولا تنفع نية الحالف إذا نوى بها غير ما أظهره. وظاهر الحديث الإطلاق، سواء كان ¬

_ (أ - أ) في جـ: فقالت.

المحلِّف له الحاكم أو المدعي للحق. وقد أفهم الحديث أنه حيث (أ) كان المحلِّف له التحليف؛ لأن قوله: "على ما يصدقك به صاحبك". إنما هو حيث كان المحلف له التحليف وهو حيث كان صادقا فيما ادعاه على الحالف، وأما لو كان على خلاف ذلك كانت النية نية الحالف، وقد اعتبر الشافعية والفقيه محمد بن يحيى من الهدوية أن يكون المحلف الحاكم وإلا كانت النية نية الحالف. قال النووي (¬1): وأما إذا حلف بغير استحلاف وورَّى فتنفعه التورية ولا يحنث، سواء حلف ابتداء من غير تحليف أو حلَّفه غير القاضي أو غير نائبه في ذلك، ولا اعتبار بنية المستحلِف -بكسر اللام- غير القاضي، وحاصله أن اليمين على نية الحالف في كل الأحوال إلا إذا استحلفه القاضي أو نائبه في دعوى توجهت (ب) عليه فتكون اليمين على نية المستحلِف، وهو مراد الحديث، أما إذا حلف بغير استحلاف القاضي في دعوى فالاعتبار بنية الحالف، وسواء في هذا كله اليمين بالله تعالى أو بالطلاق والعتاق، إلا أنه إذا حلفه القاضي بالطلاق والعتاق تنفعه التورية، ويكون الاعتبار بنية الحالف؛ لأن القاضي ليس له التحليف بالطلاق والعتاق وإنما يستحلف بالله تعالى. وقال (1): التورية وإن كان لا يحنث بها فلا يجوز فعلها، حيث يبطل بها حق المستحق، وهذا مجمع عليه. انتهى. ¬

_ (أ) في جـ: حنث. (ب) في ب: وجهت.

ونقل القاضي عياض (¬1) عن مالك وأصحابه اختلافا وتفصيلا فقال: لا خلاف بين العلماء أن الحالف من غير استحلاف ومن غير تعلق حق بيمينه، له نيته ويُقبل قوله، وأما إذا حلف لغيره في حق أو وثيقة متبرعا أو بقضاء عليه فلا خلاف أنه يحكم عليه بظاهر يمينه، سواء حلف متبرعا باليمين أو باستحلاف. وأما فيما بينه وبين الله تعالى فقيل: اليمين على نية المحلوف له. وقيل: على نية الحالف، وقيل: إن كان مستحلَفا فعلى نية المحلوف له وإن كان متبرعا باليمين فعلى نية الحالف، وهذا قول عبد الملك وسحنون، وهو ظاهر قول مالك وابن القاسم، وقيل عكسه، وهي رواية عن يحيى عن ابن القاسم أيضًا، وحُكي عن مالك أن ما كان من ذلك على وجه المكر والخديعة فهو فيه آثم حانث، وما كان على وجه العذر فلا بأس به، وقال ابن حبيب عن مالك (¬2): ما كان على المكر والخديعة فله نيته، وما كان في حق فهو على نية المحلوف له. انتهى. 1141 - وعن عبد الرحمن بن سمرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "وإذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيرا منها فكفر عن يمينك وأْت الذي هو خير". متفق عليه (¬3)، وفي لفظ البخاري (¬4): ¬

_ (¬1) شرح مسلم 11/ 117. (¬2) شرح مسلم 11/ 118. (¬3) البخاري، كتاب الأيمان والنذور، باب قول الله تعالى: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْو فِي أَيْمَانِكُمْ} 11/ 516 ح 6622، ومسلم، كتاب الأيمان، باب ندب من حلف يمينا فرأى غيرها خيرا منها أن يأتي الذي هو خير ويكفر عن يمينه 3/ 1273، 1274 ح 1652. (¬4) البخاري، كتاب كفارات الأيمان، باب الكفارة قبل الحنث وبعده 11/ 608 ح 6722.

"فأْت الذي هو خير وكفر عن يمينك". وفي رواية لأبي داود (¬1): "فكفر عن يمينك ثم ائت الذي هو خير". وإسنادها (أ) صحيح. قوله: "على يمين". أي المحلوف منه، سماه يمينا مجازا، والضمير في: "غيرها" يعود إلى اليمين بمعناها المجازي، وأنَّث الضمير نظرا (ب) إلى لفظ: "يمين" فإنه مُؤنث. الحديث فيه دلالة على أن من حلف على فعل شيء أو تركه وكان الحنث خيرا من التمادي على اليمين استُحِب له الحنث وتلزمه الكفارة، وهذا متفق عليه، والإجماع على أنه لا تجب الكفارة قبل الحنث، وعلى أنه يجوز تأخيرها إلى بعد الحنث، وعلى أنه لا يصح تقديمها قبل اليمين. ودلَّ الحديث على أنه يجوز تقديم الكفارة على الحنث بعد وقوع اليمين لا سيما حديث: "ثم ائت". فإن "ثم" تدل على الترتيب مع المهلة، وأما الرواية التي العطف فيها بالواو فهي لا تدل على شيء؛ لجواز عطف المتأخر على المتقدم والعكس فيها. وقد ذهب إلى جواز تقديم الكفارة على الحنث مالك والأوزاعي والثوري والشافعي وأربعة عشر صحابيا وجماعات من التابعين (¬2)، وهو قول جماهير العلماء؛ لكن قالوا: يستحب كونها بعد الحنث. وظاهره جميع ¬

_ (أ) في ب: إسنادهما. (ب) ساقط من: جـ.

أنواع الكفارة، واستثنى الشافعي (¬1) الكفارة بالصوم فقال: لا يجوز قبل الحنث؛ لأنها عبادة بدنية لا يجوز تقديمها على وقتها كالصلاة وصوم رمضان، وأما التكفير بالمال فيجوز تقديمه كما يجوز تعجيل الزكاة. واستثنى بعض أصحابه (¬2) حنث المعصية فقال: لا يجوز تقديم كفارته؛ لأن فيه إعانة على المعصية. وظاهر هذا أن الشافعي لم يحتج بالحديث، وذلك لاختلاف الرواية، ولذلك قال البيهقي رحمه الله تعالى (¬3): واحتجاج الشافعي في هذه المسألة بما أخبرنا أبو سعيد بن أبي عمرو، ثنا أبو العباس الأصم، أنبأ الربيع قال: قال الشافعي: وإن كفَّر قبل الحنث بإطعام رجوت أن يُجزئ عنه، وذلك أنّا نزعم أن لله حقا على العباد في أنفسهم وأموالهم، فالحق الذي في أموالهم إذا قدموه قبل محله أجزأ، وأصل ذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - تسلَّف من العباس صدقة عام قبل أن يدخل، وأن المسلمين قد قدموا صدقة الفطر قبل أن يكون الفطر، فجعلنا الحقوق التي في الأموال قياسًا على هذا. انتهى. فظاهر الاحتجاج إنما هو بالقياس. وذهب أبو حنيفة وأصحابه وأشهب المالكي وهو مذهب الهدوية ونسبه الإمام المهدي في "البحر" إلى العترة -إلى أنه لا يجوز تقديم الكفارة على الحنث بكل حال، وذلك لأن سبب وجوب الكفارة عند الأئمة هو مجموع الحنث واليمين، فلا يصح التقديم قبل سبب الوجوب، وعند أبي حنيفة أن السبب هو الحنث فكذلك، والاحتمال حاصل في ذلك، فإنه يحتمل أن ¬

_ (¬1) الأم 7/ 63. (¬2) شرح مسلم 11/ 109. (¬3) البيهقي 10/ 54.

يكون السبب هو اليمين والحنثُ شرط، ويحتمل أن يكون المجموع هو السبب، أو أن كل واحد منهما سبب. فعلى التقدير الأول والثالث يجوز التقديم، وعلى التقدير الثاني لا يجوز. وأما الاحتجاج بالحديث فعلى صحة رواية "ثم" يتعين العمل به من جواز التقديم، ولا تعارض [بينها] (أ) وبين رواية الواو؛ لأن الترتيب يصدق مع الجمعية المطلقة التي تدل عليها الواو. 1142 - وعن ابن عمر رضي الله عنه، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من حلف على يمين فقال: إن شاء الله. فلا حنث عليه". رواه أحمد والأربعة، وصححه ابن حبان (¬1). الحديث قال الترمذي (¬2): لا نعلم أحدًا رفعه غير أيوب السَّختياني، وقال ابن علية: كان أيوب تارة يرفعه وتارة لا يرفعه. قال: ورواه مالك وعبيد الله بن عمر وغير واحد موقوفًا. وهو في "الموطأ" (¬3) موقوف. وقال ¬

_ (أ) في ب، جـ: بينهما. والمثبت يقتضيه السياق.

البيهقي (¬1): لا يصح رفعه (أ) إلا عن أيوب مع أنه شك فيه، وتابعه على لفظه عبد الله العمري، وموسى بن عقبة، وكثير بن فَرقد، وأيوب بن موسى، وحسان بن عطية، كلهم عن نافع مرفوعًا. ورواية أيوب بن موسى أخرجها ابن حبَّان في "صحيحه" (¬2)، ورواية كَثير أخرجها النسائي والحاكم في "مستدركه" (¬3)، ورواية موسى أخرجها ابن عدي (¬4) في ترجمة داود بن عطاء أحد الضعفاء (¬5). الحديث فيه دلالة على أنه إذا حلف على شيء وقال: إن شاء الله تعالى. أنه لا يحنث إذا فعل المحلوف على تركه، أو ترك المحلوف على فعله، فيكون الاستثناء مانعًا لانعقاد اليمين، أو حالًّا لها بعد الانعقاد، وهما احتمالان، وللاحتمالين فائدة أنه على الأول يشترط إرادة الاستثناء قبل الفراغ واتصال الاستثناء، وعلى الثاني لا يشترط الاتصال وإن اختلفوا في مقدار الانفصال، وقد ذهب إلى ظاهر الحديث الجمهور، وادعى القاضي أبو بكر بن العربي الإجماع على ذلك، وقال (¬6): أجمع المسلمون على أن قوله: إن شاء الله. يمنع انعقاد اليمين بشرط كونه متصلًا. قال: ولو جاز ¬

_ (أ) في جـ: رافعه.

منفصلًا كما روي عن (أ) بعض السلف، لم يحنث أحد قط في يمين ولم يحتج إلى كفارة. قال: واختلفوا في الاتصال؛ فقال مالك، والأوزاعي، والشافعي، والجمهور: هو أن يكون قوله: إن شاء الله. متصلا باليمين من غير سكوت بينهما ولا تضر سكتة التنفس. وعن طاوس، والحسن، وجماعة من التابعين، أن له الاستثناء ما لم يقم من مجلسه. وقال قتادة: ما لم يقم أو يتكلم. وقال عطاء: قدر حلبة ناقة. وقال سعيد بن جبير: بعد أربعة أشهر. وعن ابن عباس: له الاستثناء أبدا متى تذكره. وتأول بعضهم هذا المنقول عن هؤلاء على أن مرادهم أنَّه يستحب له (ب) قول: إن شاء الله. تبركا، أو يجب على ما ذهب إليه بعضهم؛ لقوله تعالى: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} (¬1). فيكون الإتيان بالاستثناء المذكور رافعا للإثم الحاصل بتركه، أو لتحصيل ثواب الندب على القول باستحبابه، ولم يريدوا به حل اليمين ومنع الحنث. وذهب الجمهور بأن الاستثناء مانع للحنث في الحلف بالله وفي غيره؛ كالطلاق والعتق وغير ذلك من الظهار والنذر والإقرار. وقال مالك والأوزاعي: لا ينفع الاستثناء إلا في الحلف بالله دون غيره. واستقواه ابن العربي قال (¬2): لأن الاستثناء أخو الكفارة، وقد قال الله تعالى: {ذَلِكَ ¬

_ (أ) ساقطة من: ب، جـ. والمثبت من شرح مسلم 11/ 119. (ب) في ب: لهم.

كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ} (¬1). فلا يدخل في ذلك إلا اليمين الشرعية، وهي الحلف بالله تعالى. وذهب أحمد أنه لا يدخل العتق. واحتج بما ورد في حديث (أ) معاذ رفعه: "إذا قال لامرأته: أنت طالق إن شاء الله تعالى. لم تطلق، وإن قال لعبده: أنت حر إن شاء الله. فإنه حر" (¬2). قال البيهقي: تفرد به حميد بن مالك وهو مجهول (¬3)، واختلف عليه في إسناده. وقال الحسن، وقتادة، وابن أبي ليلى، والليث: يدخل في الجميع إلا الطلاق. قالوا: لأن الطلاق لا تحله الكفارة، وهي أغلظ على الحالف من النطق بالاستثناء، فلا يحله الأضعف وهو الاستثناء. وذهبت (ب) الهدوية إلى أن الاستثناء بقوله: إن شاء الله. يعتبر فيه أن يكون المحلوف عليه مما يشاؤه الله تعالى أو لا يشاؤه، فإن كان مما يشاؤه الله تعالى، بأن يكون واجبا، أو مندوبا، أو مباحا، في المجلس؛ ذكره الفقيه يحيى من مفرعي الهدوية، أو حال التكلم، ذكره الفقيه علي الوشلي؛ لأن مشيئة الله حاصلة في الحال، فلا تبطل اليمين بل تتقيد به، وإن كان لا يشاؤه، بأن يكون محظورا أو مكروها، فلا تنعقد اليمين. فجعلوا حكم الاستثناء بالمشيئة حكم التقييد بالشروط، يقع المعلق عند وقوع المعلق به، وينتفي بانتفائه. وكذا قوله: إلا أن يشاء الله. فإن ¬

_ (أ) بعده في ب، جـ: ابن. والمثبت من مصادر التخريج. (ب) في جـ: ذهب.

حكمه حكم: إن شاء الله تعالى. وذهب المؤيد بالله أنه إذا قال: أنت طالق إن شاء الله تعالى. أن الطلاق يقع بكل حال؛ لأن معناه: إن بَقّاني الله تعالى وقتًا أقدر على طلاقك. فلو مات قبل أن يمضي وقت يمكن أن تطلق فيه لم تطلق. ولا يخفى منابذة هذه الأقوال للحديث، وعدم مناسبة القول الأخير للمعنى اللغوي أيضًا، وظاهر قوله: "فقال: إن شاء الله". وقوله - صلى الله عليه وسلم - في قصة سليمان - عليه السلام -: "لو قال: إن شاء الله. لم يحنث" (¬1). أن الاستثناء لا يكفي بالنية؛ لأنه رتبه على القول. وبهذا قال الشافعي، وأبو حنيفة، ومالك، وأحمد، والعلماء كافة، إلا ما حكي عن بعض المالكية أن قياس قول مالك صحة الاستثناء بالنية من غير لفظ. كذا ذكر النووي (¬2)، وأشار إلى هذا البخاري (¬3) وبوب عليه بـ: باب النية في الأيمان. يعني بفتح الهمزة، وذلك لأن النية عمل، وقد صح: "الأعمال بالنيات" (¬4). ومذهب الهدوية أنه يصح الاستثناء بالنية، وإن لم يلفظ بالعموم إلا من عدد منصوص، فلا بد من الاستثناء باللفظ، فإذا قال: أنت طالق ثلاثا. ونوى: إلا واحدة. لزمه حكم الثلاث، ونحو ذلك، وهذا مقتضى ما ذكره نجم الدين في "لا" التي لنفي الجنس أنها نص في الاستغراق، فلا يخصصها إلا مقارن متصل. والله سبحانه أعلم. 1143 - وعن ابن عمر رضي الله عنه قال: كانت يمين النبي - صلى الله عليه وسلم -: ¬

_ (¬1) البخاري 9/ 339 ح 5242، ومسلم 3/ 1275 ح 1654/ 22، 23. (¬2) شرح مسلم 11/ 120. (¬3) الفتح 11/ 572. (¬4) البخاري 1/ 9 ح 1.

"لا ومقلب القلوب". رواه البخاري (¬1). قوله: كانت يمين النبي - صلى الله عليه وسلم -. هكذا في لفظ، وفي لفظ (¬2): كثيرا ما كان. وفي لفظ (¬3): أكثر أيمان النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا ومصرف القلوب". زاد الإسماعيلي من رواية وكيع: التي يحلف عليها. وفي أخرى له (¬4): التي يحلف بها. والمراد اليمين التي كان يواظب على القسم بها أو يكثر. وقد ذكر البخاري في الباب أربعة ألفاظ أحدها: "والذي نفسي بيده" (¬5) وكذا: "نفس محمَّد بيده" (¬6). فبعضها مُصدَّر بلفظ "لا". [وبعضها بلفظ: "أما"] (أ). وبعضها بلفظ: "وايم". ثانيها: "لا ومقلب القلوب". وفي رواية الزهري: "مصرف القلوب" (¬7). ثالثها: "والله" (¬8). رابعها: "ورب الكعبة" (¬9). ولابن أبي شيبة (¬10): كان إذا اجتهد في اليمين قال: "لا والذي نفس أبي القاسم بيده". ولابن ماجه (¬11): [كانت] (ب) يمين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ¬

_ (أ) ساقط من: ب، جـ، والمثبت من الفتح 11/ 526. (ب) في ب، جـ: كان. والمثبت من ابن ماجه، وينظر الفتح 11/ 526.

التي يحلف بها: "أشهد عند الله، والذي نفسي بيده". ومنها: لاها الله (¬1). ولكنه لم يحلف بها - صلى الله عليه وسلم -، ولكنه قرر عليها أبا بكر. قوله: "لا" نفي للكلام السابق، و"مقلب القلوب"، هو المقسم به، والمراد بتقلب القلوب هو تقليب أعراضها وأحوالها، لا تقليب ذات القلب. قال الراغب (¬2): تقليب الله القلوب والأبصار صرفها عن رأي إلى رأي، والتقلب (أ) التصرف، قال الله تعالى: {أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ} (¬3). قال: وسمي قلب الإنسان قلبا لكثرة تقلبه، ويعبر بالقلب عن المعاني التي تختص به من الروح والعلم والشجاعة، ومنه قوله تعالى: {وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ} (¬4). أي الأرواح. وقوله: {لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ} (¬5). أي علم وفهم. وقوله تعالى: {وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ} (¬6). أي تثبت به شجاعتكم. وقال القاضي أبو بكر بن العربي (¬7): القلب جزء من البدن، خلقه الله تعالى وجعله للإنسان محل العلم والكلام وغير ذلك من الصفات الباطنة (ب)، وجعل ظاهر البدن محلّ التصرفات الفعلية والقولية، ووكل به ¬

_ (أ) في جـ: القلب. (ب) في ب، جـ: الناطقة. والمثبت من عارضة الأحوذي، والفتح 11/ 527.

ملكا يأمر بالخير وشيطانا يأمر بالشر، والعقل بنوره يهديه، والهوى بظلمته يغويه، والقضاء مسيطر (أ) على الكل، والقلب يتقلب بين الخواطر الحسنة والسيئة، واللمة من الملك تارة، ومن الشيطان أخرى، والمحفوظ من حفظه الله تعالى. انتهى. وفي الحديث دلالة على صحة القسم بصفة من صفات الله وإن لم تكن صفة ذات، وقد ذهب إلى هذا الهدوية، فإنهم قالوا: الحلف بالله أو بصفة (ب) لذاته أو لفعله لا تكون على ضدها، وصفة الذات كالعلم والقدرة، ولكنهم قالوا: لا بد من إضافتها إلى الله تعالى، كعلم الله وقدرته، وصفة الفعل؛ كالعهد والأمانة إذا أضيفت إلى الله تعالى، والمراد بعهد الله صدق الله فيما وعد وعقد، والأمانة، وكذا ذمة الله أي ضمانه والتزامه بإثابة المطيع، وقد جاء النهي عن الحلف بالأمانة، وهو حديث بريدة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من حلف بالأمانة فليس منا". أخرجه أبو داود (¬1). وذلك لأن (جـ) الأمانة ليست من صفاته تعالى بل من فروضه. ذكره في "المعالم" (¬2). وقولهم: لا تكون على ضدها. احتراز من الرضا والغضب والإرادة والمشيئة، فلا تنعقد بها اليمين. وذهب ابن حزم، وهو ظاهر كلام المالكية والحنفية، بأن جميع الأسماء الواردة في القرآن والسنة الصحيحة، وكذا الصفات، صريح في اليمين وتجب به الكفارة. وهو وجه غريب ¬

_ (أ) في جـ: مستطر. (ب) في جـ: بصفته. (جـ) في جـ: أن.

للشافعية، وعندهم وجه أغرب منه؛ أنه ليس في شيء من ذلك صريح إلا لفظ الجلالة. والأحاديث ترده، والمشهور (أعندهم وأ) عند الحنابلة أنها ثلاثة أقسام؛ أحدها، ما يختص به تعالى؛ كالرحمن، ورب العالمين، وخالق الخلق، فهو صريح تنعقد به اليمين، سواء قصد الله تعالى أم أطلق. ثانيها، ما يطلق عليه تعالى وقد يقال على غيره لكن بقيد؛ كالرب، والخالق، فتنعقد به اليمين، إلا أن يقصد به غير الله تعالى. ثالثها، ما يطلق عليه وعلى غيره على السواء؛ كالحي، والموجود، والمؤمن، فإن نوى غير الله تعالى أو أطلق فليس بيمين، وإن نوى به الله تعالى انعقد على الصحيح، فمثل: والذي نفسي بيده. ينصرف عند الإطلاق إلى الله تعالى جزما، وإن نوى به غيره، كملك الموت مثلًا، لم يخرج عن الصراحة، وكذا: الذي فلق الحبة، ومقلب القلوب. صريح لا يشاركه غيره، وكذا: الذي أعبده، أو: أسجد له، أو: أصلي له، صريح. وفرقت (ب) الحنفية بين العلم والقدرة، فقالوا: إن حلف بقدرة الله انعقدت به اليمين، وإن حلف بعلم الله لم ينعقد به؛ لأن العلم يعبر به عن المعلوم، كقوله تعالى: {قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا} (¬1). ويجاب بأن ذلك مجاز، والكلام في المعنى الحقيقي. 1144 - وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه قال: جاء أعرابي ¬

_ (أ - أ) ساقط من: جـ. (ب) في جـ: فرق.

إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله، ما الكبائر؟ فذكر الحديث، وفيه: "اليمين الغموس". وفيه: قلت: وما اليمين الغموس؟ قال: "الذي يقتطع مال امرئ مسلم هو فيها كاذب". أخرجه البخاري (¬1). قوله: جاء أعرابي. قال المصنف (¬2) رحمه الله: لم أقف على اسم هذا الأعرابي. وقوله: ما الكبائر؟ هي جمع كبيرة، وقد اختلف العلماء في المعاصي، هل تنقسم إلى صغيرة وكبيرة أو جميعها كبيرة؟ فذهب جماعة منهم الأستاذ أبو إسحاق الإسفرايني والقاضي أبو بكر الباقلاني، وإمام الحرمين في "الإرشاد"، وابن القشيري في "المرشد"، وحكاه ابن فُورَك عن الأشاعرة، واختاره في "تفسيره"، واعتمد ذلك السبكي، إلى أنها كلها كبائر، وقال القاضي عبد الوهاب: لا يمكن أن يقال في معصية: إنها صغيرة. إلا على معنى أنها تصغُر باجتناب غيرها. وأخرج مثل هذا الطبراني (¬3) عن ابن عباس بإسناد منقطع، أنه ذكر عنده الكبائر فقال: ما نهى الله عنه فهو كبيرة. وفي رواية عنه (¬4): كل شيء عصي الله فيه (أ) فهو كبيرة. وذهب الجماهير من العلماء إلى أن المعاصي تنقسم إلى صغائر وكبائر؛ ¬

_ (أ) ساقطة في: جـ.

لقوله تعالى: {وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ} (¬1). وقوله تعالى: {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إلا اللَّمَمَ} (¬2). وقوله تعالى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} (¬3). وفي الأحاديث الصحيحة ما هو صريح في ذلك؛ ولذلك قال الغزالي (¬4): لا يليق إنكار الفرق بين الكبائر والصغائر، وقد عرفا من مدارك الشارع. وقال بعضهم: إنه لا خلاف في المعنى، وإنما الخلاف في التسمية والإطلاق؛ لإجماع الكل على أن من المعاصي ما يقدح في العدالة، ومنها ما لا يقدح، وإنما فر الأولون من تسمية المعصية صغيرة نظرًا إلى عظمة الله وشدة عقابه وإجلاله عَزَّ وَجَلَّ عن تسمية معصيته صغيرة. ثم اختلف القائلون بالفرق في حدّ الكبيرة؛ فقال النووي في "الروضة" (¬5): هي ما لحق صاحبها عليها بخصوصها وعيد شديد بنص كتاب أو سنة. ولفظ: شديد. قيد واقع لا مخصص. وقال البغوي (¬6): كل معصية أوجبت الحد. وهذا الحد منتقض بكبيرة وقع النص عليها بأنها كبيرة ولا حد؛ كأكل الربا، وعقوق الوالدين، وغير ذلك. وقال بعضهم: كل ما نص الكتاب على تحريمه، أو وجب في جنسه حد، أو ترك فريضة تجب فورا، والكذب في الرواية واليمين وكل قول خالف الإجماع العام. وقال بعضهم: كل جريمة (أ) تؤذن بقلة اكتراث ¬

_ (أ) زاد في جـ: لا.

مرتكبها بالدين ورقة الديانة مبطلة للعدالة، وكل جريمة لا تؤذن بذلك، بل يبقى حسن الظن ظاهرا بصاحبها، لا تبطل العدالة. وذهب إلى هذا ابن القشيري في "المرشد"، واختاره الإمام السبكي وغيره، إلا أن هذا ما جعله ضابطًا إلا لما يخل العدالة، وقد شمل صغائر الخسة وليست بكبائر، إلا أنه قد شمل جميع ما عد من الكبائر. وقال الماوردي (¬1): الكبيرة ما أوجب الحد أو توجه إليه الوعيد. وقال ابن عطية: كل ما وجب فيه حد، أو ورد فيه وعيد بالنار، أو جاءت فيه لعنة. وقال الحليمي (¬2) فيما نقله عنه القاضي حسين: إنها كل محرم لعينه منهي عنه لمعنى في نفسه، فإن فعله على وجه يجمع وجهين أو وجوها من التحريم، كان فاحشة، فالزنى كبيرة، وبحليلة الجار فاحشة، والصغيرة تعاطي ما تنقص رتبته عن رتبة المنصوص عليه، أو تعاطيه على وجه دون المنصوص عليه، فإن تعاطاه على وجه يجمع وجهين أو وجوها من التحريم كان كبيرة، فالقبلة واللمس والمفاخذة صغيرة، ومع حليلة الجار كبيرة، فما من ذنب إلا وفيه صغيرة وكبيرة، وقد تنقلب الصغيرة كبيرة بما ينضم إليها، والكبيرة فاحشة كذلك، إلا الكفر بالله، فإنه ليس من نوعه صغيرة. وقال بعضهم: إنها كل فعل نص الكتاب على تحريمه. يعني بلفظ التحريم. وقال الواحدي (¬3): إنه لا حصر لها على وجه تعرفه (أ) العباد، وإنما ¬

_ (أ) في جـ: بمعرفة.

ذلك أخفاه الله سبحانه ليجتهد العباد في اجتناب المنهي عنه رجاء أن تجتنب الكبائر، كما أخفى الصلاة الوسطى وليلة القدر. وقال الحسن، وابن جبير، ومجاهد، والضحاك: كل ذنب وعد فاعله بالنار. وقال الغزالي (¬1): كل معصية يُقدم المرء عليها من غير إشعار خوف ووجدان (أ) ندم تهاونًا واستجراءً عليها، فهي كبيرة، وما كان من فلتات النفس ولا ينفك عن ندم يمتزج بها ويُنغِّص التلذذ بها، فليس بكبيرة. وقال مرة أخرى (¬2)؛ لا مطمع في معرفة الكبائر مع الحصر، إذ لا يعرف ذلك إلا بالسمع، ولم يرد. وقال ابن عبد السلام (¬3): الكبيرة ما تشعر بتهاون مرتكبها بدينه (ب) إشعار أصغر الكبائر المنصوص عليها. قال: وإذا أردت الفرق لون الصغيرة والكبيرة فأعرض مفسدة الذنب على مفاسد الكبائر المنصوص عليها، فإن نقصت عن أقل الكبائر فهي صغيرة، وإلا فكبيرة. ويرد عليه أن الإحاطة بمفاسدها كلها حتى يعلم أقلها مفسدة في غاية الندور بل التعذر والاستحالة، إذ لا يطلع على ذلك إلا الشار - صلى الله عليه وسلم -. وقال الجلال البلقيني (¬4) على ما لخصه البارزي في "تفسيره" الذي على "الحاوي": التحقيق أن الكبيرة كل ذنب قرن به وعيد أو لعن بنص كتاب أو سنة، أو علم أن مفسدته كمفسدة ما قرن به وعيد أو حد ¬

_ (أ) في شرح النووي: حذار. (ب) في جـ: بذنبه.

أو لعن، أو أكبر من مفسدته، أو أشعر بتهاون مرتكبه في دينه إشعار (أ) أصغر الكبائر المنصوص عليها بذلك، كما لو قتل من يعتقده معصوما فظهر أنه مستحق لدمه، أو وطئ امرأة ظانا أنه زان بها، فإذا هي زوجته أو أمته. وأول الضابط يؤيده قول ابن عباس: الكبائر كل ذنب ختمه الله بنار، أو لعنة، أو غضب، أو عذاب. رواه عنه ابن جرير (¬1). وآخره مثل قول ابن عبد السلام. وذهب آخرون إلى تعريفها بالعد من غير حد؛ فعن ابن عباس (¬2) وجماعة أنها ما ذكره الله تعالى في أول سورة "النساء" إلى قوله: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ}. وقيل: سبع. ويستدل له (ب) بخبر "الصحيحين" (¬3): "اجتنبوا السبع الموبقات؛ الشرك بالله عَزَّ وَجَلَّ، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل مال اليتيم، وأكل الربا، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات". وفي رواية لهما (¬4): "الكبائر؛ الشرك بالله، والسحر، وعقوق الوالدين، وقتل النفس". زاد البخاري: "واليمين الغموس". ومسلم بدلها: "وقول الزور". وروي عن علي رضي الله عنه أنها سبع (¬5). وكذا عن عطاء وعبيد بن عمير. وقيل: ¬

_ (أ) في جـ: أشعر. (ب) في جـ: به.

خمس عشرة. وقيل: أربع عشرة. وقيل: أربع. ونقل عن ابن مسعود (¬1). وعنه أنها ثلاث (¬2). وعنه أنها عشر (¬3). وعن ابن عباس كما رواه عبد الرزاق والطبري (¬4): هي إلى السبعين أقرب منها إلى السبع. وقال سعيد بن جبير: هي إلى السبع المائة أقرب. وروى الطبري (¬5) هذه المقالة عن سعيد، عن ابن عباس، أن رجلا قال لابن عباس: كم الكبائر، سبع هي؟ قال: هي إلى سبعمائة أقرب منها إلى سبع، غير أنه لا كبيرة مع الاستغفار، ولا صغيرة مع الإصرار. وقد عد العلائي في "قواعده" خمسة وعشرين، وهو ما نص النبي - صلى الله عليه وسلم - على أنه كبيرة، وهو الشرك بالله، والقتل، والزنى؛ وأفحشه بحليلة الجار، والفرار من الزحف، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنات، والسحر، والاستطالة في عرض السلم بغير حق، وشهادة الزور، واليمين الغموس، والنميمة، والسرقة، وشرب الخمر، واستحلال بيت الله الحرام، ونكث الصفقة، وترك السنة، والتعرب بعد الهجرة، واليأس من رَوْح الله، والأمن من مكر الله، ومنع ابن السبيل من فضل الماء، وعدم التنزه من البول، وعقوق الوالدين، والتسبب إلى شتمهما، والإضرار في الوصية. وقد تعقب بأن السرقة لم ينص على أنها كبيرة، وإنما في "الصحيحين" (¬6): "ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن". وفي رواية النسائي (¬7): "فإن فعل ¬

_ (¬1) تفسير ابن جرير 5/ 40. (¬2) تفسير ابن المنذر 2/ 669 ح 1664، وتفسير ابن جرير 5/ 41. (¬3) تفسير ابن أبي حاتم 3/ 933 ح 5212 وعنده إحدى عشرة. (¬4) تفسير عبد الرزاق 1/ 155، وتفسير ابن جرير 5/ 41. (¬5) تفسير ابن جرير 5/ 41. (¬6) البخاري 5/ 119 ح 2475، ومسلم 1/ 76 ح 100/ 57. (¬7) النسائي 8/ 436.

ذلك فقد خلع رِبْقةَ (¬1) الإِسلام من عنقه، فإن تاب تاب الله عليه". وقد جاء في أحاديث صحيحة النص على الغلول (¬2) -وهو إخفاء بعض الغنيمة- بأنه كبيرة، وقد جاء في حديث الجمع بين الصلاتين لغير عذر (¬3)، ومنع الفحل (¬4). [ولكنه] (أ) حديث ضعيف. وقال أبو طالب المكي (¬5): الكبائر سبع عشرة؛ أربع في القلب؛ الشرك، والإصرار على المعصية، والقنوط، والأمن من المكر. وأربع في اللسان؛ القذف، وشهادة الزور، والسحر، وهو كل كلام يغير الإنسان أو شيئًا من أعضائه، واليمين الغموس، وهي التي يُبطل بها حقًّا أو يثبت بها باطلا. وثلاث في البطن؛ أكل مال اليتيم ظلما، وأكل الربا، وشرب كل مسكر. واثنتان في الفرج؛ الزنى واللواط. واثنتان في اليد؛ القتل والسرقة. وواحدة في الرجل؛ الفرار من الزحف. وواحدة في جميع الجسد؛ عقوق الوالدين. وقوله: فذكر الحديث [و] (ب) فيه: "الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وقتل النفس، واليمين لغموس". وفي رواية غُنْدَر، عن شعبة: "وعقوق الوالدين -أو قال: -اليمين الغموس". شك شعبة. أخرجه البخاري (¬6) في ¬

_ (أ) في ب، جـ: ولكن. (ب) الواو ساقطة من: ب، جـ.

أوائل الديات. وأخرجه الإسماعيلي (¬1) عن شعبة بلفظ: "الكبائر؛ الإشراك بالله، واليمين الغموس، وعقوق الوالدين -أو قال: قتل النفس". وفي رواية شيبان (¬2)، عن فراس: "الإشراك بالله". قال: ثم ماذا؟ قال: "ثم عقوق الوالدين". قال: ثم ماذا؟ قال: "اليمين الغموس". ولم يذكر قتل النفس. قلت: وما اليمين الغموس؟ قال: "التي اقتطع مال امرئ مسلم هو فيها كاذب". والقائل هو عبد الله بن عمرو راوي الخبر، والمجيب النبي - صلى الله عليه وسلم -. ويحتمل أن يكون السائل من دون عبد الله، والمجيب هو عبد الله أو من دونه. قال المصنف رحمه الله (¬3): الحديث أخرجه في "صحيح ابن حبان" (¬4) بالسند الذي أخرجه البخاري، فقال في آخره بعد قوله: "ثم اليمين الغموس". قلت لعامر: ما اليمين الغموس؟ إلخ. فظهر أن السائل عن ذلك فراس، والمسئول الشعبي وهو عامر. فلله الحمد على ما أنعم، ثم لله الحمد، ثمَّ لله الحمد، فإني لم أر من تحرر (أ) له ذلك من الشراح. انتهى. وهذه المذكورات في الحديث أنها الكبائر قد جاءت في الأحاديث الصحيحة أنها من أكبر الكبائر، ولا منافاة في ذلك، إلا أنه يدل على أن في الذنوب كبيرا وأكبر، وقد جاء في الحديث أيضًا تسمية أكبر (ب) غير ما ذكر، ¬

_ (أ) في جـ: يجوز. (ب) ساقطة من: جـ.

مثل ما جاء في حديث ابن مسعود (¬1): أي الذنب أعظم؛ فذكر فيه الزنى بحليلة الجار. وحديث أبي هريرة: "إن من أكبر الكبائر استطالة المرء في عرض رجل مسلم". أخرجه ابن أبي حاتم (¬2) بإسناد حسن. وحديث بريدة يرفعه: "من أكبر الكبائر". وذكر منها منع فضل الماء، ومنع الفحل. أخرجه البزار (¬3) بسند ضعيف. وغير ذلك. وقوله: "الغموس". هو بفتح الغين المعجمة وضم الميم وآخره سين مهملة، قيل: سميت بذلك لأنها تغمس صاحبها في الإثم ثم في النار. فهي فَعول بمعنى فاعل. وقيل: الأصل في ذلك أنهم كانوا إذا أرادوا أن يتعاهدوا أحضروا جَفنة فجعلوا فيها طينا أو دما أو رمادا، ثم يحلفون عندما يُدخلون أيديهم فيها، ليتم لهم المراد من جميد ما أرادوا، فسميت بذلك إذا غدر صاحبها غموسا؛ لكونه بالغ في نقض العهد، وكأنها على (أ) هذا مأخوذة من اليد المغموسة، فيكون فَعول بمعنى مفعولة. وظاهر الحديث أنه لا يلزم كفارة في اليمين الغموس؛ لأن الكفارة لم تُذكر في الحديث، ولأنها قرنت بما لا يكفره إلا التوبة ولا كفارة فيها. ونقل ابن المنذر ثم ابن عبد البر (¬4) اتفاق العلماء على أنه لا كفارة فيها. وهو ¬

_ (أ) زاد بعده في جـ: ما.

مذهب الهدوية، ولكن الاستدلال بما ذكر غير صحيح، فإن عدم الذكر لا ينفي أن يكون لها دليل آخر، وكذا الاقتران بما لا كفارة له، فإن الجمع بين مختلف الأحكام واقع، إلا أنه يحتج لذلك بما أخرجه ابن الجوزي في "التحقيق" (¬1) عن أبي هريرة، أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "ليس فيها كفارة، يمين صبر (¬2) يقتطع بها مالا بغير حق". وظاهر سند الحديث الصحة، إلا أن فيه عنعنة بقية (¬3)، وفي إسناده أبو المتوكل. وقد أخرجه أحمد (¬4) بهذا السند، وقال: عن التوكل (¬5)، أو أبي المتوكل (5). وهذا ليس هو أبا المتوكل الناجي الثقة (¬6)، بل آخر مجهول. وبما رواه آدم بن أبي إياس في "مسند شعبة"، وإسماعيل القاضي في "الأحكام" (¬7)، عن ابن مسعود: كنا نعد الذنب الذي لا كفارة له اليمين الغموس، أن يحلف الرجل على مال أخيه كاذبا ليقتطعه. قالوا: ولا مخالف له من الصحابة. وذهب الحكم، وعطاء، والأوزاعي، ومعمر، والشافعي، إلى وجوب الكفارة في اليمين الغموس؛ لقوله تعالى: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ} (¬8). ¬

_ = 11/ 557 عن ابن المنذر وابن عبد البر اتفاق الصحابة على أن لا كفارة في اليمين الغموس. (¬1) التحقيق 2/ 383 ح 2028. (¬2) يمين صبر: أي: ألزم بها وحبس عليها، وكانت لازمة لصاحبها من جهة الحكم. النهاية 3/ 8. (¬3) تقدمت ترجمته في 1/ 122. (¬4) أحمد 2/ 362. (¬5) قال أبو حاتم: مجهول، وقال ابن حبان: لا أدري من هو. الثقات 5/ 459، وتعجيل المنفعة 2/ 235. (¬6) علي بن داود، ويقال: ابن دؤاد، أبو المتوكل الناجي، البصري، مشهور بكنيته، ثقة. التقريب ص 401، وتهذيب الكمال 20/ 425. (¬7) الفتح 11/ 557. (¬8) الآية 89 من سورة المائدة.

واليمين المغموسة معقودة، والكفارة وإن لم ترفع الإثم كله فيما كان المحلوف عليه مال الغير، لكنها قد نفعته في الجملة، فإن ضم إلى الكفارة التحلل من حق الغير نفعه مجموعهما. والحديث (أ) قد عرفت ما فيه. وأثر ابن مسعود تكلم في صحته ابن حزم (¬1)، واحتج ابن حزم بالقياس على من جامع في نهار رمضان متعمدا وفيمن أفسد حجه. وقد يجاب عنه بأن هذا يستقيم فيمن لم يقتطع مال الغير، وأما من اقتطع مال الغير، فقد ثبت وعيده بالنار، وقد عرفت الجواب عن هذا، والله أعلم. 1145 - عن عائشة رضي الله عنها في قوله تعالى: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْو فِي أَيْمَانِكُمْ} (¬2). قالت: هو قول الرجل؛ لا والله. و: بلى والله. أخرجه البخاري، ورواه أبو داود مرفوعًا (¬3). الحديث فيه دلالة على أن لغو اليمين لا حنثَ فيه، وقد (ب) فسرت عائشة اللغو بما لا يكون عن قصد الحلف، وإنما جرى على اللسان من غير قصد للحلف، وهذا أنسب، لموافقته الوضع اللغوي للغو (ب)؛ وذلك لأن اللغو حقيقة فيما كان باطلا وما لا يعتد به من القول، ومنه قيل لولد الناقة ¬

_ (أ) كتب فوقها في ب: يعني حديث أبي هريرة الذي أخرجه ابن الجوزي. (ب) ساقطة من: جـ.

الذي لا يعتد به في الدية: لغو. وقد ذهب إلى هذا الشافعي، ونقله ابن المنذر (¬1) وغيره عن ابن عمر، وابن عباس، وغيرهما من الصحابة، وعن القاسم، وعطاء، والشعبي، وطاوس، والحسن. وعن أبي قلابة: لا والله، وبلى والله. لغة من لغات العرب لا يراد بها اليمين، وهي من (أ) صلة الكلام. ودليلهم تفسير عائشة رضي الله عنها؛ لكونها شهدت التنزيل، وقد جزمت بأن الآية نزلت فيما ذكر. وقد رواه أبو داود مرفوعًا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لغو اليمين هو كلام الرجل في بيته: كلا والله، وبلى والله". وأشار أبو داود (¬2) إلى أنه اختلف على عطاء وعلى إبراهيم الصائغ في رفعه ووقفه. وقد أخرج ابن أبي عاصم، وابن وهب، وعبد الرزاق (¬3)، عن معمر، كلهم عن الزهري، عن عروة، عن عائشة: لغو اليمين ما كان في المراء والهزل والمراجعة في الحديث الذي لا يعقد عليه القلب. وهذا موقوف. وأخرج الطبري (¬4) من طريق الحسن مرفوعًا في قصة الرماة: وكان أحدهم إذا رمى حلف أنه أصاب، فيظهر أنه أخطأ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أيمان الرماة لغو لا كفارة لها ولا عقوبة". ولكنه من مراسيل الحسن وهو غير ثابت. وذهب أبو حنيفة، والهدوية، وغيرهم، إلى أن لغو اليمين هو ما حلف على الشيء يظن صدقه فينكشف خلافه. وبه قال ربيعة، ومالك، ¬

_ (أ) ساقطة من: ب.

ومكحول، والأوزاعي، والليث. وعن أحمد روايتان. وأخرجه عبد الرزاق (¬1) عن الحسن. وذهب طاوس إلى أن اللغو أن يحلف وهو غضبان. وأخرجه الطبري (أ) (¬2) من طريق طاوس، عن ابن عباس. وروي عن علي؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يمين في إغلاق". وعن ابن عباس أن اللغو أن يحرم ما أحل الله له. أخرجه الطبري (¬3) من طريق سعيد بن جبير، عن ابن عباس. ولكنه معارض بما صح عن ابن عباس من وجوب الكفارة فيه. أخرجه البخاري (¬4). وقال بعض أهل العلم: إن اللغو ما يجب نقضه؛ لأن اللغو واجب الرفع. فقال الشعبي ومسروق: هو أن يحلف على معصية فلا يكفر. ويروى عن ابن عباس أيضًا (¬5). وقال بعضهم: هو أن يقول: إن فعلت كذا فهو كافر بالله، أو مشرك، أو يهودي، أو نصراني. فلا كفارة إذا فعل ذلك، ولكن يقال: ليس ذلك لغوا؛ لأنه مؤاخذ باليمين المحرمة، وإنما لم تلزم كفارة. وقد ذهب إلى عدم لزوم الكفارة مالك والشافعي، وهو (ب) قول الهدوية. وذهب أبو حنيفة وأحمد إلى لزوم الكفارة، وتجال بعضهم: إن اللغو ما تجب فيه الكفارة؛ لأنها إذا لزمت الكفارة لم يتعلق ¬

_ (أ) في جـ: الطبراني. (ب) في ب: هذا.

حنث بالحالف. وأجيب بأن الله تعالى رفع المؤاخذة عن اللغو مطلقا، فلا إثم ولا كفارة، فكيف يفسر اللغو بما فيه الكفارة، وثبوت الكفارة من لوازم الحنث؟ والأظهر من هذه الأقوال هو القولان الأولان. والله أعلم. 1146 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن لله تسعة وتسعين اسما، من أحصاها دخل الجنة". متفق عليه (¬1). وساق الترمذي وابن حبان (¬2) الأسماء، والتحقيق أن سردها إدراج من بعض الزوائد (أ). لفظ "اسما" منصوب على التمييز في معظم الروايات، وحكى السهيلي (¬3) أنه رُوي بالجر، وخرجه على لغة من يعرب "تسعين" بالحركات، فيجعل النون محل الإعراب وتضاف مع بقاء النون، مثل قوله (¬4): * وقد جاوَزْتُ حَدَّ الأرْبَعينِ* بكسر النون. قوله: "تسعة وتسعين". ظاهر الحديث أن الأسماء الحسنى منحصرة في ¬

_ (أ) كتب في حاشية ب: هكذا بخط المؤلف، وفي نسخة المتن: من بعض الرواة.

هذا العدد بدلالة مفهوم العدد، ويحتمل أن الحصر في هذه الأسماء باعتبار ما ذكر بعده من قوله: "من أحصاها دخل الجنة". وهو خبر المبتدأ، والمعنى أن هذه التسعة والتسعين لها فضيلة تختص (أ) بها من بين (ب) سائر الأسماء، وهو أن حفظها سبب لدخول الجنة، وليس المقصود حصر الأسماء فيها؛ لثبوت غيرها، فهي كثيرة، وذهب الجمهور إلى هذا، ونقل النووي (¬1) اتفاق العلماء عليه، وقال: ليس في الحديث حصر أسماء الله تعالى، وليس معناه أنه ليس له اسم غير هذه التسعة والتسعنِن، وإنما مقصود الحديث أن هذه الأسماء من أحصاها دخل الجنة. ويدل عليه حديث ابن مسعود الذي أخرجه أحمد، وصححه ابن حبان (¬2): "أسألك بكل اسم هو لك، سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحدا من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك". وعند مالك (¬3): وأسألك بأسمائك الحسنى ما علمت منها وما لم أعلم. قال الخطابي (¬4): خصصها بالذكر لكونها أكثر الأسماء وأثبتها (جـ) معاني. وحكى القاضي أبو بكر بن العربي (4) عن بعضهم ¬

_ (أ) في جـ: تخص. (ب) ساقطة من: جـ. (جـ) في الفتح: أبينها.

أن لله ألف اسم. ونقل الفخر الرازي (¬1) عن بعضهم أن لله أربعة آلاف اسم، قال: استأثر الله بعلم ألف منها، وأعلم الملائكة بالبقية، والأنبياء بألفين منها وسائر الناس بألف. وهذه دعوى تحتاج إلى دليل. وقد ورد في حديث قيام الليل: "أنت المقدم وأنت المؤخر" (¬2). وفي "صحيح البخاري" (¬3) حديث أنه وتر يحب الوتر. وذهب ابن حزم إلى أن الأسماء منحصرة في هذا العدد لا تزيد عليه، قال في "المحلى" (¬4) بعد أن روى حديث "الصحيح": قال الله تعالى: {إِنْ هِيَ إلا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ} (¬5). فصح أنه لا يحل لأحد أن يسمَّي الله تعالى إلا بما سمى به نفسه، وصح أن أسماءه لا تزيد على تسعة وتسعين اسما؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "مائة إلا [واحدًا] (أ) ". فنفى الزيادة وأبطلها، وظاهره أنها موجودة في القرآن. وحكى الفخر الرازي (¬6) عن الأكثر أن ذكر العدد المذكور تعبد (ب) لا يعقل معناه، كما قيل في عدد الصلوات. وعن أبي خلف السلمي أن ذكر هذا العدد إشارة إلى أن الأسماء لا تؤخذ قياسا. وقيل: الحكمة فيه أن العدد زوج وفرد، والفرد أفضل من الزوج، ومنتهى الأفراد من غير تكرار تسعة وتسعون؛ لأن مائة وواحدا ¬

_ (أ) في ب، جـ: واحدة. والمثبت من المحلى. (ب) في ب: بعيد.

يتكرر فيه الواحد. وقيل: الكمال في العدد حاصل في المائة؛ لأن الأعداد ثلاثة أجناس، آحاد وعشرات ومئات، والألف مبتدأة لآحاد أخر، فأسماء الله مائة استأثر الله منها بواحد، وهو الاسم الأعظم، فلم يطلع عليه أحدٌ، فكأنه قيل: إن لله مائة لكن واحد منها عند الله. وقيل: إن مكمل المائة هو الجلالة. وجزم بذلك السهيلي (¬1) وقال: الأسماء الحسنى على عدد درجات الجنة، والذي يكمل المائة "الله"، ويؤيده قوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} (¬2). فالتسعة والتسعون لله، فهي زائدة عليه، وبه تكمل المائة. وقوله: "من أحصاها دخل الجنة". هكذا في رواية سفيان من طريق ابن أبي عمر (¬3). وفي رواية علي بن المديني (¬4)، ووافقه الحميدي، وكذا عمرو الناقد عند مسلم (¬5) بلفظ: "من حفظها". وفي "تفسير ابن مردويه" [و] (أ) عند أبي نعيم (¬6)، من طريق ابن سيرين، عن أبي هريرة بلفظ: "من دعا بها دخل الجنة". وفي سنده حصين بن [مخارق] (ب) وهو ضعيف (¬7)، وزاد خليد ¬

_ (أ) ساقطة من: ب، جـ، والمثبت من الفتح. (ب) في ب، جـ: محارب. والمثبت من مصادر الترجمة.

ابن دعلج في روايته: "وكلها في القرآن" (¬1). وكذا وقع من (أ) قول سعيد بن عبد العزيز. وفي حديث ابن عباس وابن عمر معا بلفظ: "من أحصاها دخل الجنة، وهي في القرآن" (¬2). وقد اختلفوا في تفسير الإحصاء، فقال الخطابي (¬3): يحتمل وجوها؛ أحدها، أن يعدها حتى يستوفيها، يعني: لا يقتصر على بعضها، بل يدعو الله بها كلها ويثني عليه بجميعها، فيستوجب الموعود عليه من الثواب. ثانيها، أنه بمعنى الإطاقة، كقوله تعالى: {عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ} (¬4). ومنه حديث: "استقيموا ولن تحصوا" (¬5). أي: تبلغوا كنه الاستقامة. والمعنى: من أطاق القيام بحق هذه الأسماء والعمل بمقتضاها، وهو أن يعتبر معانيها، فيلزم نفسه بواجبها، فإذا قال: الرزاق. وثق بالرزق، وكذا سائر الأسماء. ثالثها، المراد الإحاطة بمعانيها، من قول العرب: فلان ذو حصاة. أي: ذو عقل ومعرفة. انتهى. قال القرطبي (3): المرجو من كرم الله تعالى أن من حصل له إحصاء هذه ¬

_ (أ) في جـ: في.

الاسماء على إحدى (أ) هذه المراتب مع صحة النية أن يدخله الله الجنة، وهذه المراتب الثلاث للسابقين والصديقين وأصحاب اليمين. وقيل: "أحصاها" أي: عرفها؛ لأن العارف بها لا يكون إلا مؤمنا. وقيل: عدها معتقدا؛ لأن الدَّهري لا يعترف بالخالق، والفلسفي لا يعترف بالقادر. وقيل: "أحصاها" أي: أراد بها إعظامه تعالى. وقيل: "أحصاها": عمل بها، فإذا قال: الحكيم. سلم لجميع أوامره، لأن جميعها على (ب) مقتضى الحكمة، وإذا قال: القدوس. استحضر كونه منزها عن جميع النقائص. واختاره أبو الوفاء بن عقيل (¬1). وقال ابن بطال (¬2): هو أن ما كان يسوغ الاقتداء به سبحانه فيها، كالرحيم والكريم، فيمرن العبد نفسه على أن يصح له الاتصاف [بها] (جـ)، وما كان يختص به سبحانه، كالجبار والعظيم، فعلى العبد الإقرار بها والخضوع لها وعدم التحلي بصفة منها، وما كان فيه (د) معنى الوعد يقف فيه عند الطمع والرغبة، وما كان فيه (د) معنى الوعيد يقف منه عند الخشية والرهبة، ويؤيد هذا أن حفظها لفظا من دون اتصاف كحفظ القرآن من دون عمل لا ينفع، كما جاء: "يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم" (¬3). ولكن ¬

_ (أ) في جـ: إحصاء. (ب) ساقطة من: جـ. (جـ) ساقطة من: ب، جـ، والمثبت من الفتح 11/ 226. (د) في جـ: فيها.

هذا الذي ذكره لا يمنع من ثواب من قرأها سردا وإن كان متلبسا بمعصية، وإن كان ذلك مقام الكمال الذي لا يقوم به إلا أفراد الرجال. قال النواوي (¬1): وقال البخاري وغيره من المحققين: معناه: حفظها. وهذا ظاهر، فإن إحدى الروايتين تكون مفسرة للأخرى. وبه قال ابن الجوزي (¬2). ولكنه يحتمل لفظ: "حفظها" الحفظ المعنوي، فلا يكفي حفظها سردًا. وقيل: المراد بحفظها حفظ القرآن جميعه، لأنها موجودة في القرآن مفرقة فيه. وقال ابن عطية (¬3): إنه يتضمن إحصاؤها وحفظها الإيمان بها، والتعظيم لها، والرغبة فيها، والاعتناء بمعانيها. وهذا قريب مما فصله ابن بطال، وكذا ما قاله أبو نعيم الأصفهاني (3): إن المراد به العلم والعقل بمعاني الأسماء والإيمان بها. وكذا ما قال أبو عمَنْكي مر الطلَمَنْكي (3) أن يكون عالمًا بمعاني الأسماء، مستفيدا بذكرها ما تدل عليه من المعاني. وقال أبو العباس بن معد (3): يحتمل معنيين؛ هو أن يتتبعها من الكتاب والسنة حتى يحصل عليها، أو أن يحفظها بعد أن يجدها محصاة. ثم قال: وللإحصاء معان أخر، منها الإحصاء الفقهي؛ وهو العلم بمعانيها وتنزيلها على الوجوه المحتملة شرعا، ومنها الإحصاء النظري، وهو أن يعلم معنى كل اسم بالنظر في الصيغة ويستدل عليه بأثره الساري في الوجود، فلا تَمُرُّ على موجود إلا ويظهر لك فيه معنى من معاني تلك الأسماء، وتعرف خواص بعضها، وموقع القيد بمقتضى كل اسم. قال: وهذا أرفع مراتب الإحصاء. قال: ¬

_ (¬1) شرح مسلم 17/ 5. (¬2) غريب الحديث لابن الجوزي 1/ 219، والفتح 11/ 226. (¬3) الفتح 11/ 226.

وتمام ذلك أن يتوجه إلى الله تعالى من العمل الظاهر والباطن بما يقتضيه كل اسم من الأسماء، فيعبد الله بما يستحقه من الصفات المقدسة التي وجبت لذاته. قال: فمن حصلت له جميع مراتب الإحصاء حصل على الغاية، ومن منح منحًى من مناحيها (أ) فثوابه بقدر ما قال. فهذا ما قيل في تفسير الإحصاء، وقد قيل غير ذلك إلا أنه يرجع إلى بعض ما ذكر. وقوله: وساق الترمذي. إلى آخره. الحديث رواه الترمذي، وابن خزيمة، وابن حبان، والحاكم (¬1)، من حديث الوليد بن مسلم، عن [شعيب] (ب)، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة وسَرَد الأسماء. وقال الترمذي (¬2): لا نعلم في كثير شيء من الروايات ذكر الأسماء (جـ) إلا في هذا الحديث. ثم قال: هذا حديث غريب حدثنا به غير واحد عن صفوان بن صالح، [ولا نعرفه إلا من حديث صفوان بن صالح] (د)، وهو ثقة. وقد اختلف العلماء في سرد الأسماء، هل هو مرفوع أو مدرج من بعض الرواة؛ فمشى كثير منهم على الأول، واستدلوا به على جواز تسمية الله تعالى بما لم يرد في القرآن بصيغة الاسم، لأن كثيرا من هذه الأسماء ¬

_ (أ) في ب: مناحتها. (ب) في ب، جـ: سعيد. والمثبت من مصادر التخريج، وينظر الفتح 11/ 214. (جـ) في جـ: الاسم. (د) في ب، جـ: عن الوليد بن مسلم. والمثبت من الترمذي والفتح 11/ 215.

كذلك. وذهب آخرون إلى أن التعيين مدرج؛ لخلو أكثر الروايات عنه. ونقله عبد العزيز النخشبي (أ) عن كثير من العلماء. قال الحاكم (¬1) بعد تخريج الحديث من طريق صفوان بن صالح، عن الوليد بن مسلم: صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه بسياق الأسماء، والعلة فيه عندهما تفرد الوليد بن مسلم. قال: ولا أعلم خلافا عند أهل الحديث أن الوليد أوثق وأحفظ وأجل وأعلم من بشر بن شعيب [وعلي بن عياش وغيرهما من أصحاب شعيب. يشير إلى أن بشرا وعليا وأبا اليمان رووه عن شعيب] (ب) بدون سياق الأسماء. وقد تعقب هذا بأنه ليس العلة تفرد الوليد، وإنما العلة الاختلاف عليه والاضطراب وتدليسه، واحتمال الإدراج، فقد جاء في رواية عثمان الدارمي (¬2)، عن هشام بن عمار، عن الوليد بإسناده إلى أبي هريرة. فذكره بدون التعيين. قال الوليد: وحدثنا سعيد بن عبد العزيز مثل ذلك، وقال: "كلها في القرآن، هو الله الذي لا إله إلا هو الرحمن الرحيم". وسرد الأسماء. وأخرجه أبو الشيخ بن حيان (جـ) (¬3) من رواية أبي عامر القرشي، عن الوليد بن مسلم بسند آخر، فقال: حدثنا زهير بن محمد، عن موسى بن عقبة، عن الأعرج، عن أبي هريرة. قال زهير: فبلغنا أن غير واحد من أهل ¬

_ (أ) في ب: اليحسي. (ب) ساقط من: ب، جـ، والمثبت من الفتح 11/ 215. (جـ) في جـ: حبان. وينظر السير 16/ 276.

العلم قال: إن أولها أن تفتتح بلا إله إلا الله. وسرد الأسماء. وهذه الطريق أخرجها ابن ماجه، وابن أبي عاصم، والحاكم (¬1)، من طريق عبد الملك بن محمد الصنعاني، عن زهير بن محمد. لكن سرَد الأسماء أولًا فقال بعد قوله: "من حفظها دخل الجنة"- "الله، الواحد، الصمد". إلى آخره. ثم قال بعد أن انتهى العد (أ): قال زهير: فبلغنا عن غير واحد من أهل العلم أن أولها يفتتح بقول: لا إله إلا الله له الأسماء الحسنى. قال المصنف (¬2) رحمه الله: والوليد بن مسلم أوثق من عبد الملك بن محمد الصنعاني، ورواية الوليد تشعر بأن التعيين مدرج، وقد تكرر في رواية الوليد عن زهير ثلاثة أسماء، وهي الأحد الصمد الهادي، ووقع بدلها في رواية عبد الملك: المقسط القادر الوالي (ب) الرشيد، وعند الوليد [أيضًا: الوالي الرشيد] (جـ)، وعند عبد الملك: [الوالي الراشد. وعند الوليد: العادل المنير، وعند عبد الملك] (جـ): الفاطر القاهر. واتفقا في البقية. وأما رواية الوليد، عن شعيب، وهي أقرب الطرق إلى الصحة، وعليها عول غالب من شرح الأسماء الحسنى، (د فساقها عنه د) الترمذي (¬3): هو الله الذي لا إله إلا ¬

_ (أ) في جـ: العدد. (ب) في جـ: الولي. (جـ) ساقط من: ب، جـ، والمثبت من الفتح 11/ 216. (د- د) في الفتح: فسياقها عند.

هو الرحمن الرحيم الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر الخالق البارئ المصور الغفار القهار الوهاب الرزاق الفتاح العليم القابض الباسط الخافض الرافع المعز المذل السميع البصير الحكم العدل اللطيف الخبير الحليم العظيم الغفور الشكور العلي الكبير الحفيظ المقيت الحسيب الجليل الكريم الرقيب المجيب الواسع الحكيم الودود المجيد الباعث الشهيد الحق الوكيل القوي المتين الولي الحميد المحصي المبدئ المعيد المحصي المميت الحي القيوم الواجد الماجد الواحد الصمد القادر المقتدر المقدم المؤخر الأول الآخر الظاهر الباطن الوالي (أ) المتعالي البر التواب المنتقم العفو الرءوف مالك الملك ذو الجلال والإكرام المقسط الجامع الغني المغني المانع الضار النافع النور الهادي البديع الباقي الوارث الرشيد الصبور. وقد أخرجه الطبراني (¬1) عن أبي زرعة الدمشقي، عن صفوان بن صالح، فخالف في عدة أسماء، فقال: القائم الدائم بدل القابض الباسط، والشديد (ب) بدل الرشيد، والأعلى المحيط مالك يوم الدين، بدل الودود المجيد الحكيم. ووقع عند ابن حبان (¬2) عن الحسن بن سفيان، عن صفوان: الرافع بدل المانع. ووقع في (صحيح ابن خزيمة" (¬3) في رواية صفوان أيضًا مخالفة في بعض الأسماء: الحاكم بدل الحكم (جـ)، والقريب بدل الرقيب، والمولى بدل الوالي، والأحد بدل المغني. ¬

_ (أ) في جـ: الولي. (ب) في جـ: السديد. (جـ) في الفتح: الحكيم.

ووقع في رواية البيهقي وابن منده (¬1) من طريق موسى بن أيوب، عن الوليد: المغيث، بالمعجمة والمثلثة بدل المقيت، بالقاف والمثناة. ووقع في رواية زهير وصفوان، عن الوليد المخالفة في ثلاثة وعشرين اسما، فليس في رواية زهير وصفوان عن الوليد: [الفتاح القهار الحكم العدل الحسيب] (أ) الجليل المحصي المقتدر المقدم المؤخر البر المنتقم الغني النافع الصبور البديع الغفار الحفيظ الكبير الواسع الأحد مالك الملك ذو الجلال والإكرام. وذكر بدلها: الرب الفرد الكافي القاهر المبين -بالموحدة- الصادق الجميل البادئ -بالدال- القديم البار -بتشديد الراء- الوفي البرهان الشديد الواقي -بالقاف- القدير الحافظ العادل المعطي العالم الأحد [الأبد] (أ)، الوتر ذو القوة. ووقع في رواية عبد العزيز بن الحصين (¬2) اختلاف آخر، فسقط فيها مما في رواية صفوان من القهار إلى تمام خمسة عشر اسما على الولاء، [وسقط منها أيضًا القوي الحليم الماجد القابض الباسط الخافض الرافع المعز الذل المقسط الجامع الضار النافع الوالي الرب، فوقع فيها مما في رواية موسى بن عقبة الذكورة آنفا ثمانية عشر اسما على الولاء] (أ) وفيها أيضًا: الحنان المنان الجليل الكفيل المحيط القادر الرفيع الشاكر [الأكرم] (ب) الفاطر الخلاق الفاتح المثبت -بالمثلثة ثم الموحدة- العلام المولى (جـ) النصير ذو الطول ذو المعارج ذو الفضل الإله ¬

_ (أ) ساقطة من: ب، جـ، والمثبت من الفتح 11/ 216. (ب) في ب، جـ: الإنعام. والمثبت من الفتح. (جـ) في جـ: الولي.

المدبر -بتشديد الموحدة. قال الحاكم (¬1): إنما أخرجت رواية عبد العزيز بن الحصين شاهدًا لرواية الوليد، عن شعبة، لأن الأسماء التي زادها على الوليد كلها في القرآن. كذا قال، وقد أورد عليه أنه ليس الأمر كذلك؛ وإنما تؤخذ من القرآن بضرب من التكلف، لا أن جميعها أورد فيه (أ) بصورة الأسماء. والأسماء الحسنى على أربعة أقسام؛ الأول، الاسم العلم، وهو الله، وقد اختلف فيه هل مرتجل أو منقول؟ واختلف أيضًا في اشتقاقه. والثاني ما يدل على الصفات الثابتة للذات، كالعليم، والقدير، والسميع، والبصير. والثالث، ما يدل على إضافة أمر ما إليه؛ كالخالق، والرازق. والرابع، ما يدل على سلب شيء عنه؛ كالعلي، والقدوس. واختلف أيضًا هل هي توقيفية؟ بمعنى أنه لا يجوز لأحد أن يشتق من الأفعال الثابتة لله اسما إلا إذا ورد نص في الكتاب أو السنة، فقال الفخر الرازي (¬2): المشهور عن أصحابنا أنها توقيفية. وقالت المعتزلة والكرّامية: إذا دل العقل على معنى للفظ ثابت في حق الله تعالى جاز إطلاقه على الله. وقال القاضي أبو بكر والغزالي (¬3): الأسماء توقيفية دون الصفات. قال الغزالي: كما ليس لنا أن نسمي النبي - صلى الله عليه وسلم - باسم لم يسمه به أبوه ولا أمه ولا ¬

_ (أ) في جـ: فيها.

سمى به نفسه، فكذلك في حق الله تعالى. واتفقوا أنه لا يجوز أن يطلق عليه اسم أو صفة توهم نقصا، فلا يقال: ماهد، ولا زارع، ولا فالق. وإن جاء في القرآن: {فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ} (¬1). {أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ} (¬2). {فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى} (¬3) ونحوها، ولا يقال: ماكر، ولا بناء، وإن ورد: {وَمَكَرَ اللَّهُ} (¬4). {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا} (¬5). وقال أبو القاسم القشيري (¬6): الأسماء تؤخذ توقيفا من الكتاب والسنة والإجماع، فكل اسم ورد فيها (أ) وجب إطلاقه في وصفه، وما لم يرد لم يجز ولو صح معناه. قال ابن حزم (¬7): قد صح عندي قريب من ثمانين اسما اشتمل عليها القرآن، فليطلب الباقي من الصحاح. والذي التقطه ابن حزم (¬8) هو: الله الرحمن الرحيم العليم الحكيم الكريم العظيم الحليم القيوم الأكرم السلام التواب الرب الوهاب الغني الكبير الخبير القدير البصير الغفور الشكور الغفار القهار الجبار المتكبر المصور البر المقتدر البارئ العلي الولي القوي ¬

_ (أ) في ب: منها.

المحيي (أ) الإله [القريب] (ب) المجيب السميع الواسع العزيز الشاكر القاهر الآخر الظاهر المجيد الحميد الودود الصمد الأحد الواحد الأول الأعلى المتعال الخالق الخلاق الرزاق الحق اللطيف الرءوف العفو الفتاح المبين المتين المؤمن المهمين الباطن القدوس [الملك] (جـ) المليك الأكبر الأعز السيد السبوح الوتر المحسن الجميل الرفيق المعز القابض الباسط الباقي المعطي المقدم المؤخر الدهر. فهذه أحد وثمانون اسما (د). قال القرطبي (¬1): وفاته: الصادق المستعان المحيط الحافظ الفعال الكافي النور الفاطر البديع الفالق الرافع المخرج. قال المصنف (1) رحمه الله تعالى: والذي ذكره ابن حزم لم يقتصر فيه على ما في القرآن، بل ذكر ما اتفق له العثور عليه منه، وهو [سبعة] (هـ) وستون اسما في القرآن إلى قولك: الملك. وما بعد ذلك التقطه من الأحاديث، ومما لم يذكره وهو في القرآن: المولى النصير الشهيد الشديد الحفي الكفيل [الوكيل] (و) الحسيب الجامع الرقيب النور البديع الوارث السريع المقيت الحفيظ المحيط القادر الغافر الغالب الفاطر العالم القائم المالك الحافظ المنتقم المستعان الحكم الرفيع ¬

_ (أ) زاد بعده في ب، جـ: الغني. وهو تكرار. (ب) في ب، جـ: العزيز. والمثبت من المحلى والتلخيص. (جـ) ساقطة من: ب، جـ، والمثبت من المحلى والتلخيص. (د) كذا في ب، جـ، والتلخيص الحبير، والأسماء المذكورة أربعة وثمانون اسما، ووقع في المحلى: الحىِ بدل المحيي. والمسعر بدل المعز. والشافي بدل الباقي. (هـ) في ب، جـ، والفتح 1/ 217: ثمانية. والمثبت من التلخيص الحبير. (و) ساقطة من: ب، جـ. والمثبت من التلخيص.

الهادي الكافي [ذو الجلال والإكرام] (أ). فهذه [اثنان] (ب) وثلاثون، وجميعها واضحة في القرآن، والحفي في قوله تعالى: {إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا} (¬1). ثم قال المصنف (¬2) رحمه الله تعالى: وهذه تسعة وتسعون اسما منتزعة من القرآن منطبقة على قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إن لله تسعة وتسعين اسما". موافقة لقوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} (¬3). فلله الحمد على جزيل عطائه، وجليل نعمائه، وقد رتبتها على هذا الوجه ليدعى بها: الله الرب الإله الواحد الرحمن الرحيم الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر الخالق البارئ المصور الأول الآخر الظاهر الباطن الحي القيوم العلي العظيم التواب الحكيم الواسع الحليم الشاكر العليم الغني (جـ) الكريم العفو القدير اللطيف الخبر السميع البصير المولى (د) النصير القريب المجب الرقيب الحسيب القوي الشهيد الحميد المجيد المحيط الحفيظ الحق المبين الغفار القهار الخلاق الفتاح الودود الغفور الرءوف الشكور الكبير المتعال المقيت المستعان الوهاب الحفي الوارث الولي القائم القادر الغالب القاهر البر الحافظ الأحد الصمد المليك المقتدر الوكيل الهادي الكفيل الكافي الأكرم الأعلى ¬

_ (أ) ساقطة من: ب، جـ، والمثبت من التلخيص. (ب) في ب، جـ: إحدى، والمثبت من التلخيص. (جـ) ساقطة من: جـ. (د) في جـ: الولي.

الرزاق ذو القوة المتين غافر إلذنب قابل التوب شديد العقاب ذو الطول رفيع الدرجات سريع الحساب (أعالم الغيب والشهادة أ) فاطر السماوات والأرض بديع السماوات والأرض نور السماوات والأرض مالك الملك ذو الجلال والإكرام. وهذه الأسماء مائة واثنان (ب)، وإذا ضم ما ثبت في الأحاديث إلى هذه المنتزعة من القرآن كانت زائدة على المائة زيادة كبيرة، وهذا أيضًا مما يدل على أنها غير منحصرة في العدد المذكور. والحديث فيه دلالة على أن هذه (جـ الأسماء لله جـ) تعالى، فإذا وقع الحلف بأي اسم منها انعقدت به اليمين، وفيها التفصيل الذي قد مر في شرح حديث: "لا ومقلب القلوب". 1147 - وعن أسامة بن زيد رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من صنع إليه معروف فقال لفاعله: جزاك الله خيرًا. فقد أبلغ في الثناء". أخرجه الترمذي وصححه ابن حبان (¬1). قوله: "معروف". هو ضد المنكر، والمراد: من أحسن إليه. ¬

_ (أ- أ) غير موجود في التلخيص. (ب) كذا في: ب، جـ، والمذكور مائة اسم، وفي التلخيص تسعة وتسعون اسما. (جـ-جـ) في ب: أسماء الله.

وقوله: "فقد أبلغ في الثناء". يدل على أن الدعاء للمحسن مكافأة له على إحسانه، وقد ورد في الحديث أن الدعاء إذا عجز عن المكافأة مكافأة. وذكر هذا الحديث في هذا الباب غير مناسب. والله أعلم. 1148 - وعن ابن عمر رضي الله عنهما، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، أنه نهى عن النذر وقال: "إنه لا يأتي بخير، وإنما يستخرج به من البخيل". متفق عليه (¬1). قوله: نهى عن النذر. هذا أول الكلام في النذور، والنذر في اللغة: التزام خير أو شر، وفي الشرع: التزام المكلف شيئًا لم يكن عليه، منجزا أو معلقا، وهو قسمان: نذر تبرر ونذر لجاج، ونذر التبرر قسمان، أحدهما، ما يتقرب به ابتداء: لله عليَّ أن أصوم (أ) كذا. ويلحق به ما إذا قال: لله عليَّ أن أصوم كذا شكرًا لله على ما أنعم به من شفاء مريضي. والثاني، ما يتقرب به معلقا بشيء ينتفع به إذا حصل له، كـ: إن قدم غائبي، أو كفاني شر عدوي، فعليَّ صوم كذا. مثلًا. ونذر اللجاج وهو ما كان معلقا على فعل شيء أو تركه، وهو قسمان؛ أحدهما، أن يعلقه على فعل حرام أو ترك واجب، فلا ينعقد في الراجح إلا إذا كان فرض كفاية وكان في فعله مشقة فيلزمه، ويلحق به ما يعلقه (ب) على ¬

_ (أ) في جـ: الصوم. (ب) في جـ: تحلقه.

فعل مكروه. والثاني، ما يعلقه (أ) على فعل خلاف الأولى أو مباح أو ترك مستحب؛ وفيه ثلاثة أقوال للعلماء؛ الوفاء، أو كفارة يمين، أو التخيير بينهما. واختلف الترجيح عند الشافعية، وكذا عند الحنابلة، وجزم الحنفية بكفارة اليمين في الجميع، والمالكية بأنه لا ينعقد أصلا. وقوله: نهى عن النذر. ظاهر الحديث النهي عن النذر على جهة الإطلاق، وقد اختلف العلماء في هذا النهي؛ فمنهم من حمله على ظاهره، ومنهم من تأوَّله؛ قال ابن الأثير في "النهاية" (¬1): تكرر النهي عن النذر في الحديث هو تأكيد لأمره وتحذير عن التهاون به بعد إيجابه، ولو كان معناه الزجر عنه حتى لا يفعل لكان في ذلك إبطال لحكمه وإسقاط للزوم الوفاء به إذ (ب) كان بالنهي يصير معصية فلا يلزم، وإنما وجه الحديث أنه قد أعلمهم أن ذلك الأمر لا يجر لهم في العاجل نفعا، ولا يصرف عنهم ضَرًّا، ولا يغير قضاء، فقال: لا تنذروا على أنكم تدركون بالنذر شيئًا لم يقدر الله لكم أو [تصرفون] (جـ) عنكم ما قدره عليكم، فإذا نذرتم فاخرجوا [عنه] (د) بالوفاء، فإن الذي نذرتموه لازم لكم. انتهى. ونسبه (هـ) بعض شراح "المصابيح" إلى الخطابي، وأصله من (و) كلام أبي ¬

_ (أ) في جـ: تعلقه. (ب) في جـ: إذا. (جـ) في ب، جـ: تصرفوا، والمثبت من النهاية. (د) ساقطة من: ب، جـ، والمثبت من النهاية. (هـ) في جـ: سمعه. (و) في جـ: في.

[عبيد] (أ) فيما نقله ابن المنذر في كتابه "الكبير"، وذلك معنى ما ذكر، وقال المازري (¬1): ذهب بعض علمائنا إلى أن الغرض بهذا الحديث التحفظ في النذر والحض على الوفاء به. قال: وهذا عندي بعيد من ظاهر الحديث. قال: ويحتمل عندي أن يكون وجه الحديث أن الناذر يأتي بالقربة مستثقلا لها لما صارت عليه ضربة لازب (¬2)، فلا ينشط للفعل نشاط مطلق الاختيار، أو لأن الناذر يصير القربة كالعوض عن المنذور لأجله فلا تكون (ب) خالصة. ويدل عليه قوله: "إنه لا يأتي بخير". وقوله: "إنه لا يقرب من ابن آدم شيئًا لم يكن الله قدره" (¬3). وهذا الاحتمال يخص نذر المجازاة، وقال القاضي عياض (¬4): إن المعنى أنه لا يغالب القدر، والنهي لخشية أن يقع في ظن بعض الجهلة ذلك. وذهب مالك إلى أن النذر مباح إلا (جـ) إذا كان مؤبدا. قال القاضي (¬5): وقوله: "لا يأتي بخير" أي أن عقباه لا تحمد، وقد يتعذر الوفاء به، أو أنه لا يكون سببا لخير لم يقدر فيكون مباحا. ¬

_ (أ) في ب، جـ: عبيدة. والمثبت من الفتح 11/ 577. (ب) في ب: يكون. (جـ) سقط من: جـ.

وذهب أكثر الشافعية ونقله أبو علي السنجي (أ) عن نص الإمام الشافعي، أن النذر مكروه؛ لثبوت النهي عنه، وكذا نقل عن المالكية وجزم به عنهم ابن دقيق العيد (¬1)، وأشار ابن العربي (¬2) إلى الخلاف عنهم، والجزم عن الشافعية بالكراهة، قال: واحتجوا بأنه ليس طاعة محضة؛ لأنه لم يقصد خالص القربة، وإنما قصد أن ينفع نفسه أو يدفع عنها ضررًا بما التزم. وجزم الحنابلة بالكراهة، وعندهم رواية في أنها كراهة تحريم، وتوقف بعضهم في صحتها، وقال الترمذي (¬3) بعد أن ترجم كراهة النذر وأورد حديث أبي هريرة، ثم قال: وفي الباب عن ابن عمر: العمل على هذا عند بعض أهل العلم من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وغيرهم، كرهوا النذر. وكذا قال ابن المبارك: يكره النذر في الطاعة وفي المعصية؛ فإن نذر بالطاعة ووفى بالنذر كان له الأجر. قال ابن دقيق العيد (¬4): وفيه إشكال على القواعد، فإنه يقتضي أن الوسيلة إلى الطاعة طاعة كما أن الوسيلة إلى المعصية معصية، والنذر وسيلة إلى التزام القربة، فيلزم أن يكون قربة، إلا أن الحديث دل على الكراهة. ثم قال: الكراهة في نذر المجازاة، وأما نذر الابتداء فهو قربة محضة. وقال ابن أبي الدم (¬5): هو خلاف الأولى وليس بمكروه. وأورد عليه بأن خلاف ¬

_ (أ) في جـ: السبحي، وينظر تهذيب الأسماء 2/ 538، والإكمال 4/ 474.

الأولى ما اندرج في عموم نهي، والمكروه ما نهي عنه بخصوصه، وقد ثبت النهي عن النذر بخصوصه فيكون مكروها. وذهب النووي في "شرح المهذب" (¬1) إلى أن النذر مستحب، وقال: إذا تلفظ به في الصلاة لا يبطلها؛ لأنها مناجاة لله تعالى فأشبهت الدعاء. قال المصنف (¬2) رحمه الله تعالى: وأنا أتعجب ممن انطلق لسانه بأنه ليس بمكروه مع ثبوت النهي الصريح، فأقل درجاته أن يكون مكروها. وجمع ابن الرَّفعة بين قول من قال بالاستحباب وبالكراهة، بأن الكراهة في نذر المجازاة، والاستحباب في نذر الابتداء. وجزم به القرطبي (2) وتأول أحاديث النهي به (¬3)، قال: وهذه حالة البخيل الذي لا يخرج من ماله شيئًا إلا بعوض (أ) عاجل، وهذا المشار إليه في الحديث. قال: وقد ينضم إليه اعتقاد جاهل يظن أن النذر يوجب (ب) حصول الغرض، أو أن الله تعالى يفعل ذلك الغرض لأجل ذلك النذر، وقد أشار إليه في الحديث؛ فإن النذر لا يرد من قدر الله شيئًا، والحالة الأولى كفر أو تقارب الكفر، والثانية خطأ صريح، واختار التحريم في حق من له الاعتقاد الفاسد، والكراهة في حق غيره. وقد أخرج الطبري (¬4) بسند صحيح عن قتادة في قوله تعالى: {يُوفُونَ ¬

_ (أ) في جـ: لعوض. (ب) في جـ: وجب.

بِالنَّذْرِ} (¬1). قال: كانوا ينذرون طاعة الله تعالى من الصلاة والصيام والزكاة والحج والعمرة وما افترض عليهم، [فسَمّاهم] (أ) الله تعالى أبرارًا. وقوله: "إنه لا يأتي بخير". بإثبات الياء لأكثر الرواة، ووقع في بعض النسخ (¬2): "لا يأت". بغير ياء، وليس بلحن، لأنه قد سمع في (ب) كلام العرب نظيره، والباء في: "بخير". يحتمل أن تكون لتعدية (جـ): "يأتي". والمعنى: لا يجلب خيرا؛ لأن المقدور كائن لا محالة، ويحتمل أن تكون للسببية (د)، بمعنى أنه لا يحصل بسبب خير في نفس الناذر، لأنه إنما (هـ) فعله لتحصيل مراده لا لغرض التقرب إلى الله تعالى. وقوله: "وإنما يستخرج به (و) من البخيل". على البناء للمفعول في رواية مالك وابن ماجه والنسائي (¬3)، وفي لفظ (¬4): "ولكنه شيء يستخرج به من البخيل". وفي رواية للبخاري (¬5): "يستخرج الله به من البخيل". وقد جاء الحديث بألفاظ كثيرة. قال ابن العربي (¬6): في الحديث دلالة على وجوب ¬

_ (أ) في ب، جـ: وسماهم. والمثبت من مصدر التخريج. (ب) في جـ: من. (جـ) في جـ: لتقدمة. (د) في جـ: للتشبيه. (هـ) في جـ: فعل. (و) ساقطة من: جـ.

الوفاء بما التزمه الناذر؛ لأن الحديث نص على ذلك؛ لأنه لو لم يلزمه إخراجه لما تم المراد من استخراج مال البخيل. وقد تعارض هذا الحديث بما أخرجه الترمذي (¬1) من حديث أنس، أن الصدقة تدفع ميتة السوء. ويجمع بينهما بأن الصدقة تكون سببا لدفع ميتة السوء، والأسباب مقدرة كالمسببات، وقد قال - صلى الله عليه وسلم - لمن سأله عن الرقى: هل ترد من قدر الله شيئًا؟ قال: "هي من قدر الله". أخرجه أبو داود والحاكم (¬2)، ونحوه قول عمر (¬3): نفر من قدر الله إلى قدر الله. ومثل ذلك مشروعية الطب والتداوي. وقال ابن العربي (¬4): النذر شبيه بالدعاء؛ فإنه لا يرد القدر ولكنه من القدر، وقد ندب إلى الدعاء ونهي عن النذر؛ وذلك لأن الدعاء عبادة عاجلة ويظهر به التوجه إلى الله تعالى والتضرع والخضوع، والنذر فيه تأخير العبادة إلى حين الحصول وترك العمل (أ) إلى حين الضرورة. 1149 - وعن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "كفارة النذر كفارة يمين". رواه مسلم (¬5)، وزاد الترمذي (¬6) فيه: ¬

_ (أ) ساقطة من: جـ.

"إذا لم يُسم". وصححه، ولأبي داود (¬1) من حديث ابن عباس مرفوعًا: "من نذر نذرًا لم يسمه فكفارته كفارة يمين، ومن نذر نذرًا في معصية فكفارته كفارة يمين، ومن نذر نذرًا لا يطيقه فكفارته كفارة يمين". وإسناده صحيح إلا أن الحفاظ رجحوا وقفه. وللبخاري (¬2) من حديث عائشة رضي الله عنها: "ومن نذر أن يعصي الله تعالى فلا يعصه". ولمسلم (¬3) من حديث عمران: "لا وفاء لنذر في معصية". قوله: "كفارة النذر كفارة يمين". ظاهر الحديث أن النذر سواء كان بمال الناذر جميعه، أو ببعضه، أو بمال في الذمة، أو بفعل من الأفعال، أو خرج مخرج الأيمان، كفارته كفارة يمين، ولا يجب الوفاء بما نذر به، وقد ذهب إلى هذا جماعة من فقهاء أهل الحديث، كذا قال النووي (¬4)، وقال البيهقي (¬5) في باب من جعل شيئًا من ماله صدقة أو في سبيل الله أو في رتاج الكعبة (أ) على معاني الأيمان: قال الشافعي رحمه الله تعالى: والذي يذهب إليه عطاء أنه يجزئه من ذلك كفارة يمين، ومن قال هذا القول قاله في كل ما حنث فيه سواء عتق أو طلاق، وهو مذهب عائشة ومذهب عدد من ¬

_ (أ) في حاشية ب: الرتاج ككتاب وهو الباب المغلق وعليه باب صغير. قاموس. وفي حاشية جـ: رتاج الكعبة أي الباب. نهاية. وينظر القاموس (ر ت جـ)، النهاية 2/ 193.

الصحابة. ثم أخرج (¬1) عن عطاء عن عائشة في رجل جعل ماله في المساكين صدقة، قالت: كفارة يمين. وأخرج (1) عن (أ) صفية أنها سمعت عائشة وإنسان يسألها عن الذي يقول: كل ماله في سبيل الله. أو: كل ماله في رتاج الكعبة. ما يكفر ذلك؟ قالت عائشة: يكفره ما يكفر اليمين. وأخرج (1) عن عائشة أن رجلا أو امرأة سألتها عن شيء كان بينها وبين ذي قرابة لها، فحلفت إن كلمته فمالها في رتاج الكعبة. فقالت عائشة رضي الله عنها: يكفره ما يكفر اليمين. وأخرج (¬2) عن سعيد بن المسيب، أن أخوين من الأنصار كان بينهما ميراث، فسأل أحدهما صاحبه القسمة، فقال: لئن عدت تسألني القسمة لم أكلمك أبدًا. أو: كل مال لي في رتاج الكعبة. فقال عمر رضي الله عنه: إن الكعبة لغنية عن مالك، كفر عن يمينك، وكلم أخاك، فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "لا يمين عليك ولا نذر في معصية الرب، ولا في قطيعة الرحم، ولا فيما لم تملك". وأخرج (2) من طريق البخاري من حديث أبي رافع أنه كان مملوكا لابنة عم عمر بن الخطاب فحلفت أن مالها في المساكين صدقة. فقال ابن عمر: كفري يمينك. وأخرج (2) عن عائشة وأم سلمة مثله. قال البيهقي (2): وهذا في غير العتق، فقد روي عن ابن عمر من وجه آخر أن العتاق يقع. وكذلك عن ابن عباس، وأخرج (¬3) عن عمر وعائشة في الرجل يحلف بالمشي، أو ماله في المساكين، أو في رتاج الكعبة، أنها يمين يكفرها إطعام عشرة مساكين. وأخرج ¬

_ (أ) زاد في ب، جـ: أم. والمثبت من مصدر التخريج. وينظر تهذيب الكمال 35/ 211.

الشافعي (¬1) في المشي إلى الكعبهْ عن عطاء، أنه يكفر كفارة يمين. وأخرج البيهقي (¬2) عن عطاء فيمن قال: هو محرم بحجة. فحنث: كفارة يمين. قال البيهقي: من قال بهذا القول يشبه أن يحتج. وذكر حديث مسلم المتقدم وحديث عمرو بن شعيب: "إنما النذر ما ابتغي به وجه الله". مرفوعًا. وذهب غيرهم إلى تفصيل المنذور به؛ فإن كان المنذور به فعلا، فالفعل إن كان غير مقدور فهو غير منعقد، وإن كان مقدوزا فإن كان جنسه واجبا لزم الوفاء به عند الهدوية، ومالك، وأحد قولي الناصر، وأحد قولي الشافعي، وعند أبي حنيفة وأصحابه. وذهب المروزي، والصيرفي، وأحد قولي الشافعي إلى أنه لا ينعقد النذر المطلق بل يصير يمينا فيكفر. هكذا حكى الخلاف في "البحر"، وذهب داود وأهل الظاهر، وذكر النووي في "شرح مسلم" (¬3) ما لفظه: أجمع المسلمون على صحة النذر ووجوب الوفاء به إذا كان الملتزم طاعة، فإن كان معصية أو مباحا؛ كدخول السوق لم ينعقد النذر ولا كفارة عليه عندنا. وبه قال جمهور العلماء، وقال أحمد وطائفة: فيه كفارة يمين. قال: وأما الحقوق المالية فمجمع عليها وأما البدنية ففيها خلاف قدمناه في مواضع من هذا الكتاب. ثم قال (¬4) في قوله - صلى الله عليه وسلم -: "كفارة النذر كفارة يمين": اختلف العلماء في المراد به، فحمله جمهور أصحابنا على نذر اللجاج فهو مخير بين الوفاء بالنذر أو الكفارة، وحمله مالك وكثيرون -أو الأكثرون- على النذر المطلق كقوله: عليّ نذر. وحمله ¬

_ (¬1) الأم 7/ 67. (¬2) البيهقي. 10/ 67. (¬3) شرح مسلم 11/ 96. (¬4) شرح مسلم 11/ 104.

جماعة من فقهاء الحديث على جميع أنواع النذر، وقالوا: هو مخير في جميع أنواع المنذورات بين الوفاء بما التزم ولنن كفارة يمين. انتهى كلامه، ولا يخفى ما فيه من التدافع، ثم حكى في "البحر" الخلاف فيما إذا خرج مخرج اليمين؛ فروى عن مذهب الهدوية أنه يلزم الوفاء به، قال: لعموم الدليل. وحكى عن الصادق والباقر والناصر والشافعي أنه يخير بيين الوفاء والكفارة. قال الإمام المهدي: وهو قوي. وقيل: لا يلزمه وفاء ولا كفارة، إذ شرط النذر القربة، ولا قربة هنا. قلنا: الخبر، وهو قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إن شاء وفى وإن شاء كفَّر". أولى. وقال في النذر بالمال: إنه ينفذ من الثلث إذ هو في أصل شرعه قربة تعلقت بالمال كالوصية. قلت: ولخبر صاحب (أ) بيضة الذهب (¬1). وقال المؤيد: بل من جميع المال كالهبة. وقال الشافعي: بل يخير بين الوفاء والتكفير في المطلق لما مر. وقال النخعي والحكم بن زياد: لا شيء عليه. وقال ربيعة: بل يتصدق بقدر الزكاة إذ لم يوجب الله سبحانه في المال سواها. هكذا حكى الخلاف. وذكر ابن رشد في "نهاية المجتهد" (¬2) في تحقيق الخلاف في هذه المسألة ما حاصله أنه وقع الاتفاق على لزوم النذر بالمال إذا كان في سبيل البر وكان على جهة الخبر، وإن كان على جهة الشرط؛ فقال مالك: يلزم كالخبر، ولا كفارة يمين في ذلك، إلا أنه إذا نذر بجميع ماله لزمه ثلث ماله إذا كان مطلقا، وإن كان معينا المنذور به لزمه وإن كان جميع ماله، وكذا إذا كان ¬

_ (أ) ساقط من: ب.

المعين أكثر من الثلث. وذهب الشافعي إلى أنه تجب كفارة يمين لأنه ألحقها بالأيمان، وذهب قوم أنه إذا نذر بجميع ماله لزمه إخراج الكل. وبه قال إبراهيم النخعي وزفر، وقال أبو حنيفة: يخرج جميع الأموال التي تحب الزكاة فيها. وقال بعضهم: إن أخرج مثل زكاة ماله أجزأه. وفي المسألة قول خامس، وهو أنه إذا كان المال كثيرا أخرج خمسه، وإن كان وسطا أخرج سُبُعه، وإن كان يسيرا أخرج عشره. وحدَّ هؤلاء الكثير بألفين، والوسط بألف، والقليل بخمسمائة، وذلك مروي عن قتادة، فمن قال: يخرج جميع ماله. فقياسًا على النذر الذي لم يكن مشروطا، ومن قال بالثلث فلقوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث أبي لبابة (¬1) وقد أراد أن يتصدق بماله كله: "يجزئك من ذلك الثلث". وكذلك حديث (¬2) صاحب بيضة ذهب وقد قال للنبي - صلى الله عليه وسلم -: أصبت هذه من معدن، فخذها فهي صدقة، ما أملك غيرها. فأعرض عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم جاءه عن يمينه، ثم عن يساره، ثم من خلفه، فأخذها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وحذفه بها، فلو أصابه بها لأوجعه، فقال - صلى الله عليه وسلم -: "يأتي أحدكم بما يملك فيقول: هذا صدقة. ثم يقعد يتكفف الناس، خير الصدقة ما كان عن ظهر غِنى". وهذا الحديث يكون حجة لمن يقول: إن النذر لا يلزم ولو لم يكن مشروطا بشرط، ويوافق حديث عقبة بن عامر الذي مر. انتهى. وقال في النذر المطلق حيث يقول الناذر: لله عليَّ نذر: قال كثير من العلماء: في ذلك كفارة يمين لا غير. وقال قوم: فيه كفارة الظهار. وقال قوم: فيه أقل ما ينطلق عليه الاسم من القُرب؛ صيام يوم، أو ¬

_ (¬1) أحمد 3/ 452، 453. (¬2) أبو داود 2/ 131، 132 ح 1673، 1674، وابن حبان 8/ 165، 166 ح 3372 من حديث جابر بن عبد الله.

صلاة ركعتين. وإنما صار الجمهور إلى وجوب كفارة اليمين للثابت من حديث عقبة بن عامر: "كفارة النذر كفارة يمين". وغيرهم اقتصر على أقل ما ينطلق عليه اسم النذر وهو صلاة ركعتين، وصيام يوم، وأما كفارة الظهار فخارج عن القياس. انتهى. وقوله: "من نذر نذرا لم يسمه فكفارته كفارة يمين". تقدم الكلام فيه من كلام "نهاية المجتهد". وهو قول الجمهور. وقوله: "من نذر نذرا في معصية". الحديث فيه دلالة على وجوب الكفارة ولو فعل المعصية، قد ذهب إلى هذا السيد يحيى من الهدوية، واستقواه الإمام المهدي في "البحر"، قال: لولا القياس. يعني القياس على سائر المنذورات أنها إذا فعلت سقطت الكفارة. ويجاب عنه بأن النص أرجح من القياس. وقوله: "ومن نذر نذرا لا يطيقه فكفارته كفارة يمين". الحديث فيه دلالة على أنه لا يصح النذر بما لا يقدر على فعله، وظاهره حيث كان غير مقدور عقلا؛ كصعود السماء، وصوم أمس، فإن كان غير مقدور شرعا، كحجتين في عام واحد، لزمه حجتان في عامين، وكذا صوم يومين في يوم، لزمه صوم يوم واحد، وذكر بعض مفرعي الهدوية أنه لا بد أن يكون مقدورًا عقلًا وشرعًا. وقال ابن الصباغ: إن للشافعي قولين في صوم أمس. وقال الإمام يحيى: بل قول واحد أنه لا ينعقد. وقوله في حديث عائشة: "فلا تعصه". وحديث عمران بن حصين: "لا وفاء لنذر في معصية الله تعالى". يدل على أن النذر بالمعصية لا ينعقد ولا يلزمه كفارة يمين ولا غيرها. وقد ذهب إلى هذا الشافعي ومالك وأبو

حنيفة وداود وجمهور العلماء، وذهب الهدوية وأحمد بن حنبل إلى وجوب الكفارة؛ لحديث ابن عباس وحديث عمران بن حصين وعائشة مرفوعًا: "لا نذر في معصية وكفارتة كفارة يمين". وأجيب عنه بأن حديث ابن عباس الراجح وقفه، وحديث عمران وعائشة ضعيف باتفاق المحدثين، كذا قال النووي (¬1). قال المصنف رحمه الله تعالى (¬2): قد صححه الطحاوي (¬3)، فأين الاتفاق؟! وزيادة حديث عمران: "وكفارته كفارة يمين". هذا الحديث بهذه الزيادة رواه النسائي والحاكم والبيهقي (¬4)، ومداره على محمد بن الزبير الحنظلي (¬5) وليس بالقوي وهو وأبوه (¬6) مجهولان. وقد وقع في (1) طريق حديث عمران وقد اختلف عليه فيه، وله طريق أخرى إسنادها صحيح إلا أنه معلول، ورواه الأربعة (¬7) من حديث عائشة وفيه سليمان بن أرقم متروك (¬8). ورواه الدارقطني (¬9) وفي سنده غالب بن [عبيد الله] (1) الجزري وهو متروك (¬10)، ¬

_ (أ) في جـ: من. (ب) في النسخ: عبد الله. والمثبت من التلخيص 4/ 176.

ورواه أبو داود (¬1) من حديث ابن عباس وإسناده حسن، لكن قال أبو داود: وقفه أصح. 1150 - وعن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: نذرت أختي أن تمشي إلى بيت الله حافية، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لتمش ولتركب". متفق عليه (¬2) واللفظ لمسلم، ولأحمد والأربعة (¬3): فقال: "إن الله لا يصنع بشقاء أختك شيئًا، مرها فلتختمر، ولتركب، ولتصم ثلاثة أيام". الحديث فيه دلالة على أن النذر بالمشي إلى بيت الله لا يلزم الناذر، وله أن يركب وإن أطاق المشي، وقد ذهب إلى هذا الشافعي، كذا ذكر عن الشافعي الإمام المهدي، ولكن يلزم دم إذا كان الركوب لغير العجز، وذهب الهدوية إلى أنه لا يجوز الركوب مع القدرة على المشي، فإذا عجز جاز الركوب ولزمه دم، وحديث أخت عقبة وإن جاءت الرواية مطلقة فقد رواها أبو داود (¬4) مبينة أنها ركبت للعجز. قال: إن أختي نذرت أن تحج ماشية، وإنها لا تطيق. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله لغني عن مشي أختك، فلتركب ولتهد بَدَنة". فيتأول قوله: "لتمش ولتركب". أي تمشي إن ¬

_ (¬1) أبو داود 3/ 238 ح 3322. (¬2) البخاري، كتاب جزاء الصيد، باب من نذر المشي إلى الكعبة 4/ 78، 79 ح 1866، ومسلم، كتاب النذر، باب من نذر أن يمشي إلي الكعبة 3/ 1264 ح 1644/ 11. (¬3) أحمد 4/ 152، وأبو داود، كتاب الأيمان والنذور، من رأى عليه كفارة إذا كان في معصية 3/ 231 ح 3299، والنسائي، كتاب الأيمان والنذور، باب إذا حلفت المرأة لتمشي حافية غير مختمرة 7/ 26، والترمذي، كتاب النذور والأيمان 4/ 98 ح 1544، وابن ماجه، كتاب الكفارات، باب من نذر أن يحج ماشيا 1/ 689 ح 2134. (¬4) أبو داود 3/ 232 ح 3303.

استطاعت، وتركب في الوقت الذي لا تستطع المشي فيه، أو لحقها مشقة ظاهرة فتركب. وحديث أبي إسرائيل (¬1) وقد رآه النبي - صلى الله عليه وسلم - يهادى بين ابنيه، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ما بال هذا؟ " فقالوا: نذر أن يمشي. فقال: "إن الله غني عن تعذيب هذا نفسه". وأمره أن يركب، فالأمر بالركوب للعجز. وقوله: "مرها فلتختمر". وقع في الرواية أنها نذرت أن تحج لله ماشية غير مختمرة، قال: فذكرت ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "مر أختك فلتختمر، ولتركب، ولتصم ثلاثة أيام". وأخرجه البيهقي (¬2) وفي إسناده اختلاف، والأمر بالصيام ثلاثة أيام لعله للنذر بعدم الاختمار، وهو نذر معصية، فوجب كفارة يمين، وأما الركوب فلم يذكر الهدي لأجله، وقد جاءت فيه روايات مختلفة، قال البخاري (2): لا يصح في حديث عقبة بن عامر الأمر بالهدي. وقد أخرج أبو داود (¬3) من حديث ابن عباس، أن أخت عقبة بن عامر نذرت أن تمشي إلى البيت، فأمرها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن تركب وتهدي هديا. قال ابن دقيق العيد: إسناده على شرط الشيخين. 1151 - وعن ابن عباس رضي الله عنه قال: استفتى سعد بن عبادة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في نذر كان على أمه توفيت قبل أن تقضيه، فقال: "اقضه عنها". متفق عليه (¬4). الحديث. ¬

_ (¬1) البخاري 11/ 586 ح 6704، وأبو داود 3/ 232 ح 3300، وابن ماجه 1/ 690 ح 2136. (¬2) البيهقي 10/ 80. (¬3) تقدم في الصفحة السابقة حاشية 4. (¬4) البخاري، كتاب الأيمان والنذور، باب من مات وعليه نذر 11/ 583 ح 6698، ومسلم، كتاب النذر، باب الأمر بقضاء النذر 3/ 260 ح 1638.

قوله: في نذر. لم يبين في هذه الرواية النذر ما هو، وقد جاء في رواية: أفيجزئ عنها أن أعتق عنها؟ قال: "أعتق عن أمك". فظاهر هذه الرواية أن المنذور به عتق، وإن كان يحتمل أنها نذرت نذرًا مطلقا غير معين، فيكون في الحديث حجة لمن قال: يلزم في النذر المطلق كفارة يمين. والإعتاق أعلى كفارات الأيمان، فلذلك أمره أن يعتق عنها، وذهب بعضهم إلى أن النذر كان صومًا، واستند إلى حديث ابن عباس أن رجلا قال: يا رسول الله، إن أمي ماتت وعليها صوم. الحديث، ورده ابن عبد البر (¬1) بأن هذا في سؤال امرأة؛ فإن في بعض رواياته عن ابن عباس: جاءت امرأة فقالت: إن أختي ماتت. ورجح المصنف رحمه الله تعالى (¬2) أنهما قضيتان، وكذلك ما أخرجه النسائي (¬3) عن سعد بن عبادة قال: قلت: يا رسول الله، إن أمي ماتت، أفأتصدق عنها؛ قال: "نعم". قلت: فأي الصدقة أفضل؟ قال: "سقي الماء". وأخرجه الدارقطني (¬4) في "غرائب مالك"، فيكون في شأنها الأمران؛ قضاء النذر عنها والصدقة. وفي الحديث دلالة على أنه ينفع الميت ما فعله غيره عنه من واجب أو تطوع كما في رواية النسائي، وقد تقدم الكلام عليه في آخر كتاب الجنائز (¬5). ¬

_ (¬1) التمهيد 9/ 25، 26. (¬2) الفتح 5/ 390. (¬3) النسائي 6/ 254، 255. (¬4) الدارقطني -كما الفتح 5/ 389. (¬5) تقدم في 4/ 275 - 278.

وقد يفهم من الحديث أن الوصية لمن كان فقيرا غير واجبة عليه؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم ينكر عليها ترك الوصية، ولكنه قد يجاب عنه بأنه لا فائدة للإنكار؛ لتعذر الفعل بالموت، إلا أن يقال: فائدته تعريف الغير وجوب الوصية، فلما أقر عليه دل على عدم الوجوب. وأم سعد هي عمرة بنت مسعود -وقيل: سعد- بن قيس بن عمرو، أنصارية خزرجية، ذكر ابن سعد (¬1) أنها أسلمت وبايعت، وماتت سنة خمس والنبي - صلى الله عليه وسلم - في غزوة دومة الجندل وابنها سعد بن عبادة معه. قال: فلما رجعوا جاء النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي على قبرها. وعلى هذا فالحديث مرسل صحابي؛ لأن ابن عباس كان حينئذ مع أبويه بمكة، ويمكن أنه سمعه من سعد بن عبادة، وقد جاء في رواية سليمان بن كثير (¬2)، عن الزهري، عن عبيد الله، عن ابن عباس، عن سعد بن عبادة، أنه استفتى. الحديث. واعلم أن مذهب الجمهور أنه لا يلزم الوارث أن يقضي عن الميت النذر إذا كان غير مالي، وكذا المالي إذا لم يُخَلِّفْ تركة، لكن يستحب، وقال أهل الظاهر: يلزمه ذلك، لحديث سعد. والجواب أنه لا دلالة فيه على وجوب ذلك، ولعله تبرع بذلك عنها برًّا منه لها، أو كان لها مال فقضاه من مالها. 1152 - وعن ثابت بن الضحاك قال: نذر رجل على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن ينحر إبلا ببُوانة، فأتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسأله، فقال: "هل كان فيها ¬

_ (¬1) الطبقات 3/ 614، 8/ 451. (¬2) النسائي 6/ 253.

وثن يعبد؟ ". قال: لا. قال: "فهل كان فيها عيد من أعيادهم؟ ". فقال: لا. فقال: "أوف بنذرك، فإنه لا وفاء لنذر في معصية الله، ولا في قطيعة رحم، ولا فيما لا يملك ابن آدم". رواه أبو داود والطبراني (¬1) واللفظ له، وهو صحيح الإسناد، وله شاهد من حديث كَردَم عند أحمد (¬2). هو ثابت بن الضحاك [الأشهلي] (أ)، قال البخاري (¬3): إنه ممن بايع تحت الشجرة، حدث عنه أبو قلابة وغيره، توفي سنة خمس وأربعين. وأخرجه أبو داود (¬4) من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده. ورواه ابن ماجه (¬5) من حديث ابن عباس. ورواه أحمد (¬6) في "مسنده" من حديث عمرو بن شعيب، عن ابنة كردم، عن أبيها أنه سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: إني نذرت أن أنحر ثلاثة من إبلي. فقال: "إن كان على وثن من أوثان الجاهلية فلا". وفي لفظ لابن ماجه (¬7): عن ميمونة بنت كردم الثقفية أن أباها لقي النبي - صلى الله عليه وسلم - وهي رَديفة كَردَم وقال: إنىِ نذرت أن أنحر ببُوانة. فقال: "فهل فيها وثن؟ ". قال: لا. قال: "فأوف بنذرك". ¬

_ (أ) في ب، جـ: الإشبيلي. والمثبت من الإصابة 1/ 391.

وبُوانة بضم الباء الموحدة وبعد الألف نون، موضع بين الشام وديار بكر. قاله أبو عبيد (¬1)، وقال البغوي: أسفل مكة دون يلملم. وقال المنذري: هضبة من وراء ينبع. وكذا في "النهاية" (¬2). الحديث فيه دلالة على أنه إذا نذر بفعل صدقة أو غيرها في محل معين، فإذا كان فعله في ذلك المحل جائزا لا يشوبه شيء من أعمال الجاهلية لزم الناذر الوفاء بذلك، وقد ذهب إلى أنه يتعين المكان المنذور بالفعل فيه المنصور بالله وأبو مضر من الهدوية، وظاهر الأثر يدل عليه، ولكنه يعارَض بحديث: "لا تشد الرحال". وسيأتي، فيكون قرينة على أن الأمر هنا للندب جمعا بين الأحاديث. 1153 - وعن جابر رضي الله عنه أن رجلا قال يوم الفتح: يا رسول الله، إني نذرت إن فتح الله عليك مكة أن أصلي في بيت القدس. فقال: "صل ها هنا". فسأله، فقال: "صل ها هنا". فسأله، فقال: "شأنك إذن". رواه أحمد وأبو داود وصححه الحاكم (¬3). وأخرج الحديث البيهقي (¬4)، وصححه أيضًا ابن دقيق العيد في "الاقتراح". الحديث فيه دلالة على أن المكان لا يتعين في النذر وإن عين. 1154 - وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ¬

_ (¬1) معجم ما استعجم 1/ 283. (¬2) النهاية 1/ 164. (¬3) أحمد 3/ 363، وأبو داود، كتاب الأيمان والنذور، باب من نذر أن يصلي في بيت المقدس 3/ 233 ح 3305، والحاكم، كتاب النذور 4/ 304، 305. (¬4) البيهقي 10/ 82، 83.

"لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد؛ مسجد الحرام، ومسجد الأقصى، ومسجدي". متفق عليه (¬1) واللفظ للبخاري. تقدم الكلام في الحديث في آخر باب الاعتكاف (¬2)، ولعل المصنف رحمه الله تعالى ذكره للتنبيه على أن النذر لا يتعين فيه المكان في غير الثلاثة المساجد، وقد ذهب مالك والشافعي إلى أنه يلزم الوفاء بالنذر بالصلاة في الثلاثة المساجد، وقال أبو حنيفة: لا يلزمه الوفاء، وله أن يصلي في أي محل شاء. وإنما يجب عنده المشي إلى المسجد الحرام إذا كان لحج أو عمرة، وقال أبو يوسف: من نذر بالصلاة في بيت المقدس ومسجد النبي - صلى الله عليه وسلم - أجزأه الصلاة في المسجد الحرام عن ذلك. وما عدا هذه الثلاثة المساجد فأكثر الناس على أنه لا يلزم، وذهب بعض إلى أن النذر إلى غير الثلاثة مما له فضل زائد يلزم؛ لما روي من فتوى ابن عباس في المرأة التي نذرت أن تمشي إلى مسجد قباء فماتت، فقال لولدها: امش عنها. وقد تقدم الكلام في آخر كتاب الاعتكاف. 1155 - وعن عمر رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله، إني نذرت في الجاهلية أن أعتكف ليلة في المسجد الحرام. قال: "أوف بنذرك". متفق عليه (¬3) وزاد البخاري (¬4) في رواية: "فاعتكف ليلة". ¬

_ (¬1) البخاري، كتاب فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة، باب مسجد بيت المقدس 3/ 70 ح 1197، ومسلم، كتاب الحج، باب سفر المرأة مع محرم إلى حج وغيره 2/ 976 ح 827/ 415. (¬2) تقدم في 5/ 164 - 169. (¬3) البخاري، كتاب الاعتكاف، باب الاعتكاف ليلا 4/ 274 ح 2032، ومسلم، كتاب الأيمان، باب نذر الكافر وما يفعل فيه إذا أسلم 3/ 1277 ح 1656/ 27. (¬4) البخاري، كتاب الاعتكاف، باب من لم ير عليه إذا اعتكف صوما 4/ 284 ح 2042.

الحديث فيه دلالة على وجوب الوفاء بالنذر من الكافر متى أسلم، وقد ذهب إلى هذا بعض أصحاب الشافعي والمغيرة المخزومي وأبو ثور والبخاري وابن جرير. وذهب الجمهور إلى أنه لا ينعقد النذر من الكافر، قال الطحاوي: لا يصح منه التقرب بالعبادة، ولكنه يحتمل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - فهم من عمر أنه سمح بفعل ما كان نذر فأمره به، لأن فعله طاعة وليس هو ما كان نذر به في الجاهلية. وقال بعض المالكية: إنما أمره بالوفاء استحبابا وإن كان التزمه في حال لا ينعقد فيها. قال عمر: ولم أعتكف إلا بعد حنين. وقد استدل به على أن الاعتكاف لا يلزمه الصوم، إذ الليل ليس ظرفا له، وتعقب بأن في رواية شعبة عن عبد الله عند مسلم (¬1): "يوما" بدل "ليلة" (أ)، وجمع ابن حبان (¬2) وغيره بأنه نذر اعتكاف يوم وليلة، فمن أطلق ليلة أراد بيومها، ومن أطلق يوما أراد بليلته، وقد ورد ذكر الصوم صريحا في رواية أبي داود والنسائي (¬3): "اعتكف وصم". وهو ضعيف. وفي الحديث حجة على من قال: أقل الاعتكاف عشرة أيام. وهو مالك، وعنه: يوم أو يومان. وأراد بقوله: في الجاهلية. ما قبل بعثة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد تقرر أنه نذر قبل إسلامه، وبين البعثة وإسلامه مدة. ¬

_ (أ) في ب: الليلة.

البدرُ التمام شرح بلوغ المرام للإمام القاضي الحسين بن محمد المغربي (1048 هـ- 1119 هـ) تحقيق علي بن عبد الله الزبن عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية قدم له فضيلة الشيخ صالح بن محمد اللحيدان رئيس مجلس القضاء الأعلى الجزء العاشر

البدرُ التمام شرح بلوغ المرام

حقوق الطبع محفوظة الطبعة الأولى 1428 - هـ-2007 م

كتاب القضاء

بسم الله الرحمن الرحيم كتاب القضاء القضاء [في اللغة] (أ) بالمد في الأصل بمعنى إحكام الشيء والفراغ منه؛ كقوله تعالى: {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ} (¬1). وبمعنى إمضاء الأمر؛ كقوله تعالى: {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ} (¬2). وبمعنى الحتم والإلزام؛ كقوله تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إلا إِيَّاهُ} (¬3). وبمعنى إمضاء الحكم، وسمي القاضي حاكما لأنه يمضي الأحكام. وشرعا: هو إلزام ذي الولاية بعد الترافع. وقيل: هو الإكراه بحكم الشرع في الوقائع الخاصة لمعين أو جهة. فخرج الفتيا بقوله: إلزام. إذ لا إلزام من المفتي، وبقيد الترافع يخرج إلزام من له ولاية بأمر شرعي؛ كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبقوله: في الوقائع الخاصة. يخرج إلزام مثلًا بوجوب الصوم عموما، وقوله: أو جهة. يدخل فيه القضاء على بيت المال أوله؛ كالحكم بنفقة فقير في بيت المال أو بوجوب الدية، وله كالميراث لبيت المال، ويجوز أن يكون وجه تسميته بالقاضي لإيجابه الحكم على من وجب عليه، وتسميته حاكما لمنعه الظالم من المظلوم، يقال: حكمت الرجل وأحكمته إذا منعته. وسميت حَكَمة الدابة لمنعها [الدابة] (أ). ¬

_ (أ) ساقطة من: ب.

والحُكم في اللغة قد استعمل بمعنى المنع ونقل إلى المعنى الشرعي، وهو الخطاب المتناول للأحكام الخمسة؛ لمنعها من فعل القبيح. 1156 - عن بريدة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "القضاة ثلاثة؛ اثنان في النار وواحد في الجنة، رجل عرف الحق فقضى به فهو في الجنة، ورجل عرف الحق ولم يقض به وجار في الحكم فهو في النار، ورجل لم يعرف الحق فقضى للناس على جهل فهو في النار". رواه الأربعة وصححه الحاكم (¬1). وقال الحاكم في "علوم الحديث": تفرد به الخراسانيون ورواته مراوزة. قال المصنف رحمه الله تعالى (¬2): له [طرق] (أ) غير هذه [جمعتها] (ب) في جزء مفرد. 1157 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من ولي القضاء فقد ذبح بغير سكين". رواه أحمد والأربعة وصححه ابن خزيمة وابن حبان (¬3). ¬

_ (أ) في ب، جـ: طريق. والمثبت من الفتح 13/ 319. (ب) في ب، جـ: جميعها. والمثبت من الفتح 13/ 319.

الحديث معناه التحذير من الدخول في القضاء والحرص عليه، كأنه يقول: من تصدى للقضاء فقد تعرض للذبح، فليحذره وليتوقه. وقوله: "بغير سكين". يحتمل وجوها؛ أحدها: أن الذبح يكون عرفا وغالب عادته بالسكين، فعدل به عن ظاهر العرف ليعلم أن الخوف هلاك دين من تعرض لذلك. أو أراد أن الذبح [الوَحِيَّ] (أ) هو ما يقع بالسكين وفيه خلاص الذبيحة من الألم، فضرب الشارع المثل بذلك ليبعد طالبه عن طلبه والتعرض (ب) لشأنه. وقيل: ذبح ذبحا معنويا، وهو لازم له؛ لأنه إن (جـ) أصاب ورشد فقد أتعب نفسه في الدنيا؛ للوقوف للحق وطلبه واستقصاء ما يجب عليه رعايته في النظر في الحكم، والوقوف مع الخصمين بالتسوية بينهما (هـ في العدل هـ) والقسط، وإن أخطأ في ذلك لزمه عذاب الآخرة، فلا بدَّ له من التعب والنصب. قال أبو العباس أحمد بن القاص: ليس في الحديث كراهية القضاء وذمه، إذ الذبح بغير سكين مجاهدة النفس وترك ¬

_ (أ) في ب ,جـ: الوجى. والمثبت من سبل السلام 4 /. والوحى: السريع. اللسان (وح ى). (ب) في جـ: التعريض. (جـ) ساقطة من: جـ (هـ - هـ) في جـ: بالعدل. وينظر سبل السلام 4/ 235.

الهوى، والله تعالى يقول: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا} (¬1). وقد جاء في حديث أبي هريرة: "عليك بطريق قوم إذا فزع الناس أمِّنُوا". قلت: من هم يا رسول الله؟ قال: "هم قوم تركوا الدنيا فلم يكن في قلوبهم ما يشغلهم عن الله، قد أجهدوا أبدانهم، وذبحوا نفوسهم في طلب رضا الله" الحديث. فذكر من صفات هؤلاء الموصِي بمتابعتهم ذبح النفوس، فدل ذلك على عظم ما بذلوا نفوسهم لتحصيله وأنهكوها في رضا الله سبحانه، حتى صارت كأنها مذبوحة، فالحاكم المجتهد في إنفاذ ما (أ) أمر الله به (أ) سبحانه له هذه الفضيلة المضاهية لفضيلة الشهداء الذين لهم الجنة. والله سبحانه أعلم. 1158 - وعنه رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنكم ستحرصون على الإمارة، وستكون ندامة يوم القيامة، فنعم المرضعة وبئست الفاطمة". رواه البخاري (¬2). قوله: "على الإمارة". يدخل فيها الإمارة العظمى وهي الخلافة، والصغرى وهي الولاية على بعض البلاد، وهذا من أعلام النبوة؛ للإخبار به قبل وقوعه، ووقع كما أخبر به. وقوله: "ندامة". أي على من لا يعمل فيها بما ينبغي. وزاد في رواية ¬

_ (أ) ساقطة من: جـ.

شبابة (¬1): "وحسرة". وجاء ذلك في رواية البزار والطبراني (¬2) بسند صحيح عن عوف بن مالك بلفظ: "أولها ملامة، وثانيها ندامة، وثالثها عذاب يوم القيامة، إلا من عدل". وجاء في حديث أبي هريرة موقوفًا: الإمارة أولها ندامة، وأوسطها غرامة، وآخرها عذاب يوم القيامة. أخرجه الطبراني (¬3)، وأخرج (¬4) من حديث شداد بن أوس رفعه بلفظ: "أولها ملامة وثانيها ندامة". ومن حديث زيد بن ثابت (¬5) رفعه: "نعم الإمارة لمن أخذها بحقها وحلها، وبئس الشيء الإمارة لمن أخذها بغير حقها، تكون عليه حسرة يوم القيامة". وهذا يقيد ما أطلق في (أ) الذي قبله، وهو مثلما أخرجه مسلم (¬6) عن أبي ذر قال: قلت: يا رسول الله، ألا تستعملني؟ قال: "إنك ضعيف، وإنها أمانة، وإنها يوم القيامة خزي وندامة، إلا من أخذها بحقها وأدى الذي عليه فيها". قال النووي (¬7): هذا أصل عظيم في اجتناب الولاية، ولا سيما لمن كان فيه ضعف. وهو في حق من دخل فيها بغير أهلية ولم يعدل، فإنه يندم على ما فرَط منه إذا جوزي [بالخزي] (5) يوم القيامة، وأما من كان أهلا ¬

_ (أ) في جـ: و. (ب) في ب، جـ: بالجزاء. والمثبت من الفتح 13/ 126.

وعدل فيها فأجره عظيم، كما تظاهرت به الأخبار، ولكن في الدخول فيها خطر عظيم، ولذلك امتنع الأكابر منها. وقوله: "فنعم المرضعة". الحديث. قال الداودي: أي نعمت المرضعة في الدنيا وبئست الفاطمة أي بعد الموت؛ لأنه يصير إلى المحاسبة على ذلك، فهو كالذي يفطم قبل أن يستغني، فيكون في ذلك هلاكه. وقال غيره: نعمت المرضعة؛ لما فيها من حصول الجاه والمال ونفاذ الكلمة وتحصيل اللذات الحسية والوهمية حال حصولها، وبئست الفاطمة عند الانفصال عنها بموت أو غيره وما (أ) يترتب عليها من التبعات في الآخرة. وإنما ألحق التاء في "بئست" ولم يلحقها في "نعم" مع أن الفاعل فيهما مؤنث للافتنان (ب)؛ لما كان لحوق التاء بأفعال المدح والذم غير واجب، استعمل أحد الجائزين في لفظ والجائز الآخر في لفظ. وقال الصبي: تأنيث الإمارة غير حقيقي، فترك تأنيث "نعم" وألحقها بـ "بئس"، نظرا إلى كون الإمارة حينئذ داهية دهياء. قال: وإنما أنث المرضعة والفاطمة لما صوَّر قوة الحالتين المتجددتين في الإرضاع والفطام. 1159 - وعن عمرو بن العاص أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر". متفق عليه (¬1). ¬

_ (أ) في جـ: بما. (ب) في جـ: للافتتان.

قوله: "إذا حكم الحاكم". أي إذا أراد أن يحكم فاجتهد؛ لأن الاجتهاد مقدم على الحكم، ويحتمل أن يكون قوله: "فاجتهد". تفسيرًا لـ: "حكم". فتكون الفاء تفسيرية لا للتعقيب. وقوله: "فأصاب" أي صادف ما في نفس الأمر من حكم الله تعالى. "فله أجران" الحديث فيه دلالة على أن الحق عند الله تعالى واحد، وأن لله حكما معينا في كل جزئية، وأن المجتهد إذا أعمل فكره، واستقصى جهده في تحصيل حكم من الأحكام، فحصَّل فيه مطلبًا من تحريم أو تحليل، فإن وافق حكم الله تعالى كان مصيبا، وإن لم يوافق كان مخطئا، وقد ذهب إلى هذا أكثر أهل التحقيق من الفقهاء والمتكلمين، وهو مروي عن جماعة من قدماء أهل البيت وعن الأئمة الأربعة، وهو الأصح عن الشافعي، وفي كلمات الصحابة رضي الله عنهم ما يدل على ذلك، وفي قوله تعالى: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} (¬1) ما يدل على ذلك، وذهب جماعة من المعتزلة كأبي علي وأبي هاشم وأبي الهذيل وأبي عبد الله البصري وقاضي القضاة، ومن أهل البيت كأبي طالب والمؤيد بالله والمنصور بالله وأحمد بن الحسين -إلى أن الحق غير متعين، وأنه ليس لله تعالى في الأحكام الفروعية الاجتهادية مراد معين، وإنما المطلوب من المجتهد العمل بما أدى إليه اجتهاده، فما أدى إليه اجتهاده فهو مراد الله تعالى منه، قالوا: لأن الأجر الذي حازه مع الخطأ إنما كان لأجل الإصابة للحق. قالوا: وتسميته مخطئا؛ لأن الكلام وارد في حق من اجتهد وأخطأ النص بغير تعمد، لا في الحكم الذي لا نص فيه. وقال ¬

_ (¬1) الآية 79 من سورة الأنبياء.

القرطبي في "المفهم" -وما أحسن ما قال-: ينبغي أن يكون هذا الحكم المذكور في الحديث مختصًّا بالحاكم لا يتعداه إلى سائر المجتهدين؛ لأن الخصمين إذا تحاكما إلى حاكم فهناك حق معين في نفس الأمر يتنازعه الخصمان، فإذا قضي به لأحدهما بطل حق الآخر، فإذا كان المقضي له مبطلا فقد أخطأ الحاكم، والحاكم لا يطلع على ذلك، فهذه الصورة لا يختلف فيها بأن المصيب واحد لكون الحق واحدا أو في طرف واحد، وينبغي أن يختص الخلاف بأن المصيب واحد أو كل مجتهد مصيب بالمسائل التي يستخرج الحق منها بطريق الدلالة. انتهى. قلت: ويؤيد هذا حديث أم سلمة: "إنكم لتختصمون إلي، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فأقضي له على نحو ما أسمع منه، فمن قطعت (أ) له من حق أخيه شيئًا فلا يأخذه، فإنما أقطع له به قطعة من النار". وسيأتي قرييا إن شاء الله تعالى (¬1). وقوله: "فله أجران". أجر الاجتهاد وأجر الإصابة، والذي أخطأ له أجر الاجتهاد فقط، وقد جاء في حديث عمرو بن العاص (¬2) في الإصابة: "فلك عشر حسنات". وكذلك في حديث عقبة بن عامر (¬3). وفي سند كل منهما ضعف. ¬

_ (أ) في جـ: قضيت.

واعلم أن هذا الاختلاف في خطأ المجتهد وصوابه إنما هو في الاجتهاد في الفروع، فأما أصول الدين فالمصيب فيها واحد عند الأكثر، والخلاف في ذلك [لعبيد الله] (أ) بن الحسن العنبري وداود فصوبا المجتهدين فيه، وتأول العلماء قولهما بأنهما أرادا المجتهدين من أهل الملة دون مجتهدي اليهود والنصارى وغيرهم، وإن كان ظاهر احتجاجهم شاملا. والحديث يدل على أن الحاكم لا يكون إلا مجتهدا، وهو المتمكن من أخذ الأحكام من الأدلة الشرعية، ولكنه يعِزُّ وجوده بل كاد يعدم بالكلية (ب)، ومع تعذره فمن شرطه أن يكون مقلدا مجتهدا في مذهب إمامه، ومن شرطه أن يتحقق أصول إمامه وأدلته، وينزل أحكامه عليها فيما لم يجده منصوصا من مذهب إمامه، وأما من ليس بأهل للحكم فلا يحل له ¬

_ (أ) في ب، جـ: لعبد الله. والمثبت من مصادر ترجمته طبقات ابن سعد 7/ 275، والقضاة لوكيع 2/ 88، وتهذيب الأسماء واللغات 1/ 311، وتهذيب الكمال 19/ 23. (ب) هذا التعليق جاء في حاشية ب: قوله: بل كاد يعدم بالكلية، ومع تعذره .. الخ. قلت: لا يخفى ما في هذا الكلام من البطلان وإن تطابق عليه الأعيان، وقد بينا بطلان دعوى تعذر الاجتهاد في رسالتنا المسماة بـ: "إرشاد النقاد إلى تيسير الاجتهاد". بما لا يمكن دفعه وما أرى هذه الدعوى التي تطابق عليها الأنظار إلا من كفران نعمة الله عليهم فإنهم -أعني المدعين لهذه الدعوى والمقررين لها- مجتهدون يعرف أحدهم من الأدلة وما يمكنه بها الاستنباط ما لم يكن قد عرفه عتاب بن أسيد قاضي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على مكة، وأبو موسى الأشعرى قاضي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في اليمن، ومعاذ بن جبل قاضيه فيها وعامله عليها, ولا شريح قاضي عمر وعلي رضي الله عنه على الكوفة. ويدل كذلك قول الشارح: فمن شرطه أي المقلد أن يكون مجتهدا في مذهب إمامه وأن يتحقق أصوله وأدلته ومن شرطه أن يتحقق أصول إمامه وأدلته وينزل أحكامه عليها فيما لم يجده منصوصا من مذهب إمامه. قلت هذا هو الاجتهاد والذي حكم بكيدودة عدمه بالكلية وسماه متعذرا، فهلا جعل هذا المقلد إمامه كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عوضا عن إمامه، وتتبع نصوص الكتاب والسنة عوضا عن تتبع نصوص إمامه والعبارات كلها ألفاظ دالة على معان، فهلا استبدل =

الحكم فإن حكم فأصاب اتفاقا فلا أجر له بل هو آثم، وهو أحد الثلاثة الذي مرَّ ذكرهم (¬1)، وهو عاص في جميع أحكامه سواء وافق الصواب أم لا، وهي مردودة كلها ولا يعذر في شيء من ذلك. وقال أبو حنيفة: يجوز أن يكون عامِّيًّا. وحكي عن مذهب مالك. وقال الكرابيسي صاحب الشافعي في كتاب "أدب القضاء" (¬2): لا أعلم بين (أ) العلماء ممن سلفى خلافا أن أحق ¬

_ = بألفاظ إمامه ومعانيها ألفاظ الشارع ومعانيها ونزل الأحكام عليها إذا لم يجد نصا شرعيا عوضا عن تنزيلها على مذهب إمامه فيما لم يجده منصوصا. تالله لقد استبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير من معرفة الكتاب والسنة إلى معرفة كلام الشيوخ والأصحاب وتفَهُّم مرامهم والتفتيش عن كلامهم، ومن المعلوم يقينا أن كلام الله تعالى وكلام رسوله أقرب إلى الأفهام وأدنى إلى إصابة بلوغ المرام، فإنه أبلغ الكلام بالإجماع، وأعذبه في الأفواه والأسماع، وأقربه إلى الفهم والانتفاع، ولا ينكر هذا إلا جلمود الطاع، ومن لا حظ له في النفع والانتفاع. والأفهام التي فهم بها الصحابة الكلام الإلهي والخطاب النبوي هي كأفهامنا، وأحلامهم كأحلامنا، إذ لو كانت الأفهام متفاوتة تفاوتا يسقط معه فهم العبارات الإلهية والأحاديث النبوية لما كنا مكلفين ولا مأمورين ولا منهيين، لا اجتهادا ولا تقليدا، أما الأول فلاستحالته، وأما الثاني فلأنا لا نقلد حتى نعلم أنه يجوز لنا التقليد، ولا نعلم ذلك إلا بعد فهم الدليل من الكتاب والسنة على جوازه لتصريحهم بأنه لا يجوز التقليد في جواز التقليد، فهذا الفهم الذي فهمنا به هذا الدليل نفهم به غيره من الأدلة من كثير وقليل، على أنه قد شهد المصطفى بأنه يأتي من بعده من هو أفقه ممن في عصره وأوعى لكلامه حيث قال: "فرب مبلَّغ أفقه من سامع". وفي لفظ: "أوعى له من سامع". والكلام قد وفيناه حقه في الرسالة المذكورة. كذا من سبل السلام. قلت: وممن أبلغ في إيضاح هذه المسألة السيد الإِمام العلاء عز الدين محمَّد بن إبراهيم الوزير في كتابه "العواصم" ومختصره "الروض الباسم". (أ) في جـ: من.

الناس أن يقضي بين المسلمين من بان فضله وصدقه وعلمه وورعه، وأن يكون قارئا لكتاب الله تعالى، عالمًا بأكثر أحكامه، عالما بسنن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، حافظا لأكثرها، وكذا لأقوال الصحابة، عالما بالوفاق والخلاف وأقوال فقهاء التابعين، يعرف الصحيح من السقيم، يتبع في النوازل الكتاب، فإن لم يجد فالسنن, فإن لم يجد عمل بما اتفق عليه الصحابة، فإن اختلفوا فما وجده أشبه بالقرآن ثم بالسنة ثم بفتوى أكابر الصحابة، ويكون كثير المذاكرة مع أهل العلم والمشاورة لهم، مع فضل وورع، ويكون حافظا للسانه و [بطنه] (أ) وفرجه فَهِمًا لكلام الخصوم، ثم لا بد أن يكون عاقلا مائلا عن الهوى. ثم قال: وهذا وإن كنا نعلم أنه ليس على وجه الأرض أحد يجمع هذه الصفات، ولكن يجب أن يطلب من أهل كل زمان (ب) أكملهم وأفضلهم. قال ابن حبيب (¬1) عن مالك: لا بد أن يكون القاضي عالما عاقلا. قال ابن حبيب: فإن لم يكن علم فعقل وورع؛ لأنه بالورع يعف، وبالعقل يسأل، وهو إذا طلب العلم وجده، وإذا طلب العقل لم يجده. قال ابن العربي (1): واتفقوا على أنه لا يشترط أن يكون غنيا؛ لقوله تعالى: {وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ} الآية (¬2). قال: ¬

_ (أ) في ب، جـ: نطقه. والمثبت من الفتح 13/ 146. (ب) في جـ: زمانه.

والقاضي لا يكون في حكم الشرع إلا غنيا؛ لأن غناه في بيت المال، فإذا منع من بيت المال واحتاج كان تولية من يكون غنيًّا أولى من تولية من يكون فقيرًا؛ لأنه يصير في مظنة من يتعرض لتناول ما لا يجوز له تناوله. قال المصنف رحمه الله تعالى (¬1): وهذا قاله بالنسبة إلى الزمان الذي كان فيه، ولم يدرك زماننا هذا الذي صار من يطلب القضاء فيه يصرح بأن سبب طلبه الاحتياج إلى ما يقوم به أوده، مع العلم بأنه لا يحصل له شيء من بيت المال. 1160 - وعن أبي بكرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "لا يحكم أحد بين اثنين وهو غضبان". متفق عليه (¬2). هذا الحديث لفظ مسلم، وقد ورد بألفاظ غير هذا. وقوله: "لا يحكم أحد" إلخ. نهي (أ)، وظاهر النهي (ب) التحريم، وقد صرح الإِمام المهدي في "البحر" (¬3) بهذا، وأطلقه ولم ينسبه إلى أحد، وقال: ويحرم قضاؤه حال تأذٍّ بغضب أو (جـ) ألم أو جوع أو احتقانٍ أو نعاس غالب؛ لمنافاته التثبت. وقريب من هذا ذكره ابن رشد في "نهاية المجتهد" (¬4)، وظاهر ¬

_ (أ) في ب: نفي. (ب) في ب: النفي. (جـ) في جـ: و.

كلام الجمهور حمل النهي على الكراهة، وبوب مسلم بذلك وقال باب كراهة قضاء القاضي وهو غضبان. والبخاري بوب ذلك: باب هل يقضي القاضي أو يفتي (¬1) المفتي وهو غضبان؟ وصرح النووي بالكراهة في ذلك (¬2)، وكأنهم حملوا النهي على الكراهة نظرًا إلى العلة المستنبطة المناسبة لذلك، وهو أنه لما رتب النهي على الغضب، والغضب. بنفسه لا مناسبة فيه لمنع (ب) الحكم، وإنما ذلك لما هو مظنة لحصوله، وهو تشوش الفكر، وشغله القلب عن استيفاء ما يجب من النظر، وحصول هذا قد يفضي إلى الخطأ عن الصواب، ولكنه غير مطردٍ مع كل غضب ومع كل إنسانٍ، فإن أفضى الغضب إلى عدم تمييز الحق عن الباطل فلا كلام في تحريمه، وإن لم يصل إلى هذا الحد فأقل أحواله الكراهة، قال النووي (1): حديث اللقطة وجواب النبي - صلى الله عليه وسلم - مع الغضب، وكذلك الحكم في قصة الزبير وهو غاضب. ولكنه يجاب عنه بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يخرجه الغضب إلى غير الحق؛ فإنه معصوم. وظاهر الحديث أنه لا فرق بين مراتب الغضب و (جـ لا بين جـ) أسبابه، وخصه إمام الحرمين والبغوي (2) بما (د) إذا كان الغضب لغير الله تعالى، ¬

_ (أ) في جـ: يقضي. (ب) في ب: تمنع. (جـ- جـ) في جـ: لأن. (د) في جـ: لما.

واستبعده الرُّوياني (¬1) وغيره؛ لمخالفته ظاهر الحديث وللمعنى الذي لأجله نهي عن الحكم، وكان الأولى أن يقال: إنه يختص بما إذا أدى الغضب إلى عدم تمييز الحق من الباطل، فهو سبب النهي، وإن كان الغضب دون ذلك فإن قلنا بتحريم الحكم مع هذا، كان اعتبار الغضب المطلق لأنه منضبط، وهذا غير منضبط، فتعلق الحكم بالمظنة، وسواء وجد معها المأمنة أو لا، فلا فرق بين مراتب الغضب؛ كالسفر المعتبر للقصر، والإفطار وإن لم توجد المشقة، فلو حكم في حال الغضب وصادف الحق نفذ الحكم وصح، وهذا مع القول بأن النهي للكراهة ظاهر، وإن كان للتحريم فكذلك أيضًا، إذا لم يكن فيه ذلك على وجه الجرأة، وإلا كان قادحًا في العدالة، فلا يصح الحكم لكونه لم يكن عدلًا، وقال بعض الحنابلة: لا ينفذ الحكم في حال الغضب لثبوت النهي، والنهي يقتضي الفساد. ولكنه متعقب بأن الصحيح أن النهي لا يقتضي الفساد إلا إذا كان النهي لذات المنهي أو لوصف ملازم، وهنا (أ) النهي لوصف مفارق للمنهي عنه، فإنه إنما نهى لما يؤدي إلى تشويش (ب) الخاطر، فيكون كالنهي عن البيع وقت النداء للجمعة، وبعضهم قال: ينفذ إذا كان الغضب بعد أن قد استبان له الحق، وإلا لم ينفذ. وهذا القول خارج عن محل النزاع، ويقاس على القضاء في حال الغضب غيره من المشوشات للخاطر؛ كالجوع والعطش وغلبة النعاس، وسائر ما يشغل القلب عن ¬

_ (أ) في ب: هذا. (ب) في جـ: تشوش.

استيفاء النظر، وهو قياس مظنة، وكأن الحكمة في الاقتصار على الغضب لاستيلائه على النفس وصعوبة مقاومته، بخلاف غيره، مع أنه قد أخرج البيهقي (¬1) بسند ضعيف عن أبي سعيد رفعه: "لا يقضي القاضي إلا وهو شبعان ريان". قال الشافعي في "الأم" (¬2): وأكره للحاكم أن يحكم وهو جائع أو تعب أو مشغول القلب، فإن ذلك يضر العقل. 1161 - وعن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا تقاضى إليك رجلان فلا تقض للأول حتى تسمع كلام الآخر، فسوف تدري كيف تقضي". قال علي: فما زلت قاضيًا بعد. رواه أحمد وأبو داود والترمذي وحسنه، وقواه ابن المديني، وصححه ابن حبان (¬3). وله شاهد عند الحاكم من حديث ابن عباس رضي الله عنه (¬4). الحديث أخرجوه من طرق عن علي أحسنها رواية البزار (¬5) عن عمرو بن مرة، عن عبد الله بن سلمة، عن علي. وفي إسناده عمرو بن أبي المقدام (¬6)، واختلف فيه على عمرو بن مرة، فرواه شعبة عنه عن أبي البختري (أ)، قال: ¬

_ (أ) في هامش ب: أبو البختري بفتح الموحدة والمثناة؛ بينهما معجمة ساكنة سعيد بن فيروز.

حدثني من سمع عليًّا. أخرجه أبو يعلى (¬1) وإسناده صحيح لولا هذا المبهم، ومنهم من أخرجه عن أبي البختري عن علي (¬2)، ومنها رواية [البزار] (ب) (¬3) أيضًا عن حارثة بن مضرب (جـ)، عن علي قال. وهذا أحسن أسانيده، ومنها رواية أبي داود (¬4) وغيره عن سماك بن حرب، عن حنش بن المعتمر (د)، عن علي. وأخرجه النسائي (¬5) في "الخصائص"، والحاكم (¬6)، وقد رواه ابن حبان (¬7) من رواية سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس، عن علي، وفيه مقال. ومنها رواية ابن ماجه (¬8) من طريق أبي البختري عن علي، وهو منقطع، وأخرجها البزار والحاكم (¬9). الحديث فيه دلالة على أنه يجب على الحاكم أن يسمع دعوى المدعي ثم ¬

_ (أ) في ب، جـ: البراء. والمثبت يقتضيه السياق. (ب) في جـ: مصرف. وينظر تهذيب الكمال 5/ 317. (جـ) في هامش ب: حنش بن المعتمر، ويقال: ابن ربيعة. ويقال: إنه حنش بن ربيعة بن المعتمر، ويقال: إنهما اثنان، الكناني أبو المعتمر، الكوفي. صدوق له أوهام يرسل، من الثالثة، وأخطأ من عده في الصحابة.

يسمع جواب المجيب، ولا يجوز له أن يبني الحكم على سماع دعوى المدعي قبل أن يسمع جواب المجيب، (أفإن حكم أ) قبل سماع الآخر عمدًا لم يصح قضاؤه، وكان قدحًا في عدالته، وإن كان خطأ لم يكن قدحًا وأعاد الحكم على وجه الصحة. وهذا حيث أجاب الخصم، فإن سكت عن الإجابة، أو قال: لا أقر ولا أنكر. فقال في "البحر" الإِمام يحيى، وعن مالك: يحكم عليه (ب) الحاكم لتصريحه بالتمرد، وإن شاء حبسه حتى يقر أو ينكر. وقال أبو العباس: بل يلزمه الحق بسكوته، إذ الإجابة تجب فورًا، فإذا سكت كان كنكوله. (جـ قلنا: النكول جـ) الامتناع من اليمين. وهذا ليس كذلك، وأحد قولي المؤيد بالله وابن أبي ليلى: بل يحبس حتى يقر أو ينكر، ولا يحكم عليه. قلنا: التمرد كاف في جواز الحكم، إذ الحكم شرع لفصل الشجار ودفع الضرار. انتهى. والأولى أن يقال: إن ذلك حكمه حكم الغائب، فمن أجاز الحكم على الغائب أجازه على الممتنع عن الإجابة؛ لاشتراكهما في عدم الإجابة. والحديث فيه دلالة على أنه لا يحكم على الغائب لعدم سماعه لكلام الخصم، وقد ذهب إلى هذا زيد بن علي وابن أبي ليلى وأبو حنيفة، قالوا: ولأنه لو كان الحكم جائزًا على الغائب لم يكن الحضور واجبًا. وذهب الهدوية والمؤيد بالله ومالك والليث والشافعي وابن شبرمة والأوزاعي وإسحاق وإحدى الروايتين عن أحمد إلى أنه يجوز الحكم على الغائب، ¬

_ (أ- أ) في جـ: قال وحكم. (ب) ساقطة من: ب. (جـ-جـ) ساقطة من: جـ.

واحتجوا بما تقدم من حديث هند وقد تقدم الكلام على ذلك مستوفى (¬1)، وحملوا حديث علي على الحاضر، وبأن الغائب لا يفوت عليه حق؛ فإنه إذا حضر فحجته قائمة، فيسمع ويعمل بمقتضاها ولو أدى إلى نقض الحكم؛ لأنه في حكم المشروط، ولأنه كما إذا لم يمكن الإجابة حيث كان المدعى عليه (أ) صغيرًا أو مجنونًا أو محجورًا عليه، إلا أن هذا الوجه الآخر يدفع بأن المجنون والصغير يملك عنهما وليهما، والمحجور إنما يبقى إقراره موقوفًا، وعند المانعين أن من هرب أو تستر بعد إقامة البينة فنادى عليه الحاكم ثلاثًا، فإن جاء وإلا أنفذ الحكم عليه، وأنكر ابن الماجشون صحة الرواية عن مالك، وأما ابن القاسم فاستثنى عن مالك ما يكون للغائب فيه حجج؛ كالأرض والعقار إلا إن طالت غيبته أو انقطع خبره، وقد جوز الحنفية الحكم على الغائب في نفقة الزوجة، فإذا ادعت (ب) نفقتها على زوجها الغائب، وأن له وديعة عند آخر، وقدرت على الوديع الوديعة، قضي لها مما عنده. 1162 - وعن أم سلمة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنكم تختصمون إلي، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فأقضي له على نحو ما أسمع منه، فمن قطعت له من حق أخيه شيئًا فإنما أقطع له قطعة من النار". متفق عليه (¬2). ¬

_ (أ) ساقطة من: ب. (ب) في جـ: أودعت.

قوله: "ألحن". اللحن: الميل عن جهة الاستقامة، يقال: لحن فلان في كلامه. إذا مال عن صحيح المنطق. وأراد: إن بعضكم يكون أعرف بالحجة وأفطن لها (أ) من غيره. ويقال: لحنت (ب) لفلان. إذا قلت له قولًا يفهمه ويخفى على غيره؛ لأنك تميله بالتورية عن الواضح المفهوم. وقوله: "على نحو مما أسمع منه". ظاهره الحكم بما يسمع الحاكم من كلام المتخاصمين بما يثبت به الحكم من سرد الدعوى، أو من إجابة المدعى عليه، أو الإقرار من أي المتخاصمين، وكذلك بما يكون معهما من شهادة، وسواء كانت صادقة في نفس الأمر أو كاذبة، ومثلها اليمين. وقوله: "فمن قطعت له من حق أخيه". هكذا في بعض روايات مسلم، والمراد: من قضيت له بشيء من مال أخيه. وأطلق عليه القطع استعارة، شبه القضاء بمال الغير بقطع الشيء من الشيء، بجامع أنه بَعُد صاحب الملك عن الانتفاع بملكه؛ لصيرورته مع الغير، كما أن المقطوع من الشيء المتصل بعضه ببعض يبعد عن المقطوع منه. وقوله: "قطعة من النار". يعني باعتبار ما يئول إليه، فإنه يئول إلى أنه يعذب بسببه، فسماه نارًا لما كان سببًا لعذاب صاحبه بالنار، مثل قوله تعالى: {إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا} (¬1). وتمامه في البخاري: "فليأخذها أو ليتركها". والأمر للتهديد فيه، مثل قوله: {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ ¬

_ (أ) في جـ: بها. (ب) في جـ: ألحنت.

وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} (¬1). والمراد منه: أن حكمي لا ينقل الشيء عن التحريم إلى التحليل. فرجع الأمر إلى المحكوم له أن يختار لنفسه أي الأمرين، وزاد عبد الله بن رافع في آخر الحديث: فبكى الرجلان وقال كل منهما: حقي لك. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أما إذا فعلتما فاقتسما وتوخيا الحق، ثم استهما، ثم تحاللا". أخرجه أبو داود (¬2). وبكى الرجلان حين سمعا ذكر النار. وقوله: حقي لك. الخطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم -. فيه (أ) دلالة على صحة هبة الشيء قبل ثبوته، والهبة للحاكم في حضرة المحكوم عليه والشريك قبل أن يستأذن شريكه. وقوله: "أمَّا". بتخفيف الميم، فيه دلالة على أن الهبة لا تملك إلا بالقبول، وأن الحاكم إذا لم يظهر له الحق توقف، ويأمرهما بالصلح والتحلل، وأن الصلح لا (ب) يُحل ملك الغير، وأن التحلل من المجهول يصح، ولعله كان في يد ثالث لا يدعيه لنفسه، أو في يد واحد [طارئ] (جـ) على الشيء مقر بطروئها. والله سبحانه أعلم. والحديث فيه دلالة على أن حكم الحاكم لا يحل للمحكوم له ما حكم به، مما هو على خلاف ما هو له في نفس الأمر، فإذا حكم الحاكم بشهادة شاهدين وظن عدالتهما، وهما في الباطن كاذبان في مال، لم يحل ¬

_ (أ) ساقطة من: جـ. (ب) ساقطة من: ب. (جـ) في ب: طار به، وفي جـ: طار به. والمثبت ما يقتضيه السياق.

للمحكوم له ذلك المال، وكذا لو شهدا بقتل لم يحل لولي الدم الإقصاص، أو بزوجية امرأة لم تحل للمحكوم له، فحكم الحاكم صواب؛ لأنه قد حكم بما يجب الحكم به في الظاهر، وهو غير مطالب بالتفتيش عن جلية الحال، ولذلك قال - صلى الله عليه وسلم - في حق المتلاعنين: "لولا الأيمان لكان لي ولها شأن" (¬1). ولو شاء الله لأطلع رسوله - صلى الله عليه وسلم - على باطن أمر الخصمين بيقين، فلا يكون حكمه مخالفًا لما في نفس الأمر من غير حاجة إلى شهادة أو يمين، ولكن لما أمر الله تعالى أمته - صلى الله عليه وسلم - باتباعه، والاقتداء بأقواله وأفعاله وأحكامه، أجرى له حكمهم في عدم الاطلاع على باطن الأمور؛ ليكون حكم الأمة في ذلك حكمه، فأجرى الله تعالى حكمه في ذلك على الظاهر، الذي يستوي فيه هو وغيره؛ ليصح الاقتداء به، وتطيب نفوس العباد للانقياد للأحكام الظاهرة من غير نظر إلى الباطن، وقد ذهب إلى ما دل عليه الحديث الجمهور من علماء الإِسلام وفقهاء الأمصار من الصحابة والتابعين فمن بعدهم، إلا في الأحكام التي يوقعها الحاكم، وذلك مثل بيع مال المفلس إذا باعه لقضاء دينه بعد أن ظهر للحاكم إفلاسه، فإنه ينفذ باطنًا وظاهرًا, ولو كان في نفس الأمر موسرًا؛ لأن امتناعه من القضاء يبيح (أ) بيع ماله لقضاء غريمه، وكذا في فسخ اللعان فإنه ينفذ ظاهرًا وباطنًا ولو (ب) كان الزوج كاذبًا عليها في نفس الأمر، والخلاف لأبي حنيفة أن حكم الحاكم ينفذ ظاهرًا وباطنًا، فلو حكم الحاكم بشهادة زور أن هذه المرأة زوجة فلان حلت له عند أبي حنيفة، ¬

_ (أ) ساقطة من: جـ. (ب) في جـ: أو.

واحتج بما روي عن علي رضي الله عنه أن رجلًا خطب امرأة فأبت، فادعى أنه تزوجها وأقام شاهدين، فقالت المرأة (أ): إنهما شهدا بالزور، فزوجني أنت منه فقد رضيت. فقال: شاهداك زوّجاك (ب). وأمضى عليها النكاح. وكذا إذا حكم بشهادة أن هذا باع من زيد أرضًا أو نحوها، فإنها تحل الأرض للمحكوم له، للزومه العوض، واحتج أيضًا من حيث النظر بأن الحاكم قضى بحجة شرعية فيما (جـ) له ولاية الإنشاء فيه، فجعل الإنشاء [تحرزًا] (د)؛ لأنه يملك إنشاء العقود والفسوخ، فإن له أن يبيع أمة زيد من عمرو حال خوف هلاكها لحفظها، وحال الغيبة، وإنشاء النكاح على الصغيرة، والفرقة على العنين، فلو لم ينفذ باطنًا وقد حكم مثلًا بطلاق هذه المرأة، لبقيت حلالًا للزوج الأول باطنًا وللثاني ظاهرًا، فلو حصل مع الثاني نزع، لحلت لثالث ورابع، ولا يخفى فحشه، ويوافق أبو حنيفة أنه إذا حكم الحاكم بتقرير يد من هو ثابت على ملك شيء بيمينه بعدأن عجز المدعي عن البينة، أو ببقاء زوجية امرأة بعد أن عجزت عن إقامة الشهادة على الطلاق (هـ) وكذا الحكم المطلق الذي لا ينضاف إلى عقد، وكذا القصاص وما كان فيه بسبب محرم، كالحكم بزوجية امرأة وينكشف أنها رضيعة، أن الحكم لا يحل للمحكوم له ما حكم به، كذا ذكره الإِمام المهدي في "الغيث"، وذكر ¬

_ (أ) ساقطة من: جـ. (ب) في ب: يزوجاك. (جـ) في جـ: مما. (د) في ب، جـ: مجوزا. والمثبت من الفتح 13/ 176. (هـ) في جـ: الإطلاق.

النواوي في "شرح مسلم" (¬1) أن أبا حنيفة لا يقول بحل الأموال، وظاهره الإطلاق، وفي "ملتقى الأبحر" في فقه الحنفية ما لفظه: والقضاء بحل (أ) أو حرمة ينفذ ظاهرًا وباطنًا ولو بشهادة زور؛ إذا ادعى بسبب معين، وعندهما لا ينفذ باطنًا بشهادة الزور، فلو قامت بينة زور أنه تزوجها وحكم بها (ب) حل لها تمكينه، خلافًا لهما، وفي الأملاك المرسلة (¬2) لا ينفذ باطنًا اتفاقًا. انتهى. وأجيب عن ذلك بأن الأثر المروي عن علي رضي الله عنه لم يثبت، أو أن عليا رضي الله عنه لما حكم بالشهادة التي تعين الحكم لأجلها، فعليٌّ مصيب في حكمه بالنظر إلى سبب الحكم، وإن كان مخالفًا في نفس الأمر للحقيقة، فلا مقتضى للاحتياط بإعادة العقد بالنظر إليه، وإن كان المحكوم له لا يحل له إمساكها، فهو زان في نفس الأمر، وإذا أقر على نفسه لزمه الحد، والمرأة لها أن تدفعه عن نفسها في باطن الأمر، وأما قولهم: إن الحاكم يملك إنشاء العقود. فهو مسلم أنما أصدره من الإيقاعات نفذ ظاهرًا وباطنًا، وكذا في الظنيات ينفذ الحكم ولو خالف مذهب المحكوم له، ويحل له ذلك عند الجمهور، ولا يلزم منه أن ينفذ حكمه فيما كان الحكم لتقرير ملك بسبب قد تقدم، أو نكاح، أو طلاق، أو غير ذلك، حيث لم يطابق الحقيقة، وقد نبه على ذلك قوله تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى ¬

_ (أ) في جـ: محلا. (ب) في جـ: لها.

الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ} (¬1)، فنهي سبحانه وتعالى عن أكل المال بحكم الحاكم وسماه سبحانه باطلًا وإثمًا، فإن قيل: ظاهر الحديث أنه يقع من النبي - صلى الله عليه وسلم - حكم في الظاهر مخالف للباطن، وقد اتفق الأصوليون على أنه - صلى الله عليه وسلم - لا يقر على خطأ في الأحكام. أجيب بأنه لا تعارض بين ما دل عليه الحديث وما قرره الأصوليون؛ لأن مرادهم فيما حكم فيه - صلى الله عليه وسلم - باجتهاده، والأكثرون على جواز الخطأ، ولا يقر عليه كما في قضية (أ) الأسارى، والإذن (ب) للمتخلفين، وأما الحكم الصادر عن الطريق التي قد فرضت كالحكم بالبينة أو بيمين المحكوم عليه، فإنه إذا كان مخالفًا للباطن فلا يسمى الحكم خطأ، بل الحكم صحيح؛ لأنه (جـ) على وفق ما وقع به التكليف، ووجوب العمل بالشاهدين وإن كانا شاهدي زور فالتقصير منهما (د)، وأما الحاكم فلا حيلة له في ذلك ولا عيب عليه بسببه، بخلاف ما إذا أخطأ في الاجتهاد الذي صدر الحكم علي وفقه، مثل أن يحكم بأن الشفعة -مثلًا- للجار، وكان الحكم في ذلك -مثلًا- في علم الله أنه لا يثبت إلا للخليط، فإنه إذا كان مخالفًا للحق الذي في حكم الله بناء على وحدة الحق، فيثبت فيه الخطأ للمجتهد، وهو الذي تقدم في حديث عمرو، أو الإصابة ويكون له أجر واحد أو أجران. ¬

_ (أ) في جـ: قصة. (ب) في جـ: الأدب. (جـ) ساقطة من: جـ. (د) في جـ: منها.

وفي الحديث دلالة على أنه ينبغي للحاكم موعظة المتخاصمين وتحذيرهم من الدعوى الباطلة، وأنه ليس للحاكم أن يحكم بما خطر له من غير استناد (أ) إلى أمر يكون مقتضيًا للحكم من بينة أو غيرها, ولذلك قال: "ألحن بحجته". وعلى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما يحكم بالظاهر ولا يلزمه غيره، إلا أنه إذا قامت البينة بخلاف ما يعلمه الحاكم علمًا يقينًا لم يجز له أن يحكم بما قامت به البينة، ونقل بعضهم الاتفاق عليه وإن وقع الخلاف في القضاء بما يعلم الحاكم. والله سبحانه أعلم. 1163 - وعن جابر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "كيف تقدَّس أمة لا يؤخذ من شديدهم لضعيفهم! ". رواه ابن حبان (¬1). وله شاهد من حديث بريدة عند البزار (¬2)، وآخر من حديث أبي سعيد عند ابن ماجه (¬3). أخرج حديث جابر أيضًا ابن خزيمة وابن ماجه (¬4)، وفي الباب عن ¬

_ (أ) في جـ: إسناد.

قابوس بن المخارق (ب) عن أبيه، رواه الطبراني وابن قانع (¬1)، وعن خولة -غير منسوبة- به. يقال: إنها امرأة حمزة. رواه الطبراني وأبو نعيم (¬2). وروى الحاكم والبيهقي (¬3) من حديث عثمان بن جبلة [عن شعبة] (ب)، عن سماك، عن شيخ، عن أبي سفيان بن الحارث بن عبد المطلب رفعه: "إن الله لا يقدس أمة لا تأخذ للضعيف من القوي حقه وهو غير متعتع". ورواه الحاكم (¬4) من حديث شعبة، عن سماك، عن عبد الله بن أبي سفيان بن الحارث به في قصة. قال البيهقي: المرسل أصح. وقال الحاكم: بل الموصول صحيح، والمرسل مفسر لاسم المبهم الذي في الموصول. هذا معنى كلامه. قوله: "كيف تقدس أمة". أي كيف تطهر، والتقديس التطهير، والمراد التطهير من الذنوب، ومنه بيت القدس لأنه يتطهر فيه من الذنوب. والاستفهام هنا للإنكار، أي لا تطهير من الذنوب مع كونهم موصوفين بهذه الصفة. والحديث فيه دلالة على وجوب إنكار المنكر ونصرة الضعيف لأخذ ¬

_ (أ) في هامش ب: بضم الميم بعدها معجمة خفيفة، ويقال: ابن أبي المخارق الكوفي، لا بأس به، من الثالثة. (ب) ساقطة من: ب، جـ. والمثبت من مصدري التخريج.

الحق له. 1164 - وعن عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول. "يدعى بالقاضي العدل يوم القيامة فيلقى من شدة الحساب ما يتمنى أنه لم يقض بين اثنين في عمره". رواه ابن حبان وأخرجه البيهقي (¬1)، ولفظه: "في تمرة". الحديث أخرجوه عن عمران بن حطان الخارجي، قال العقيلي (¬2): لا يتابع عليه في الرواية عن عائشة، ولم يتبين لي سماعه منها. انتهى. قال المصنف رحمه الله تعالى (¬3): وقع في رواية الإِمام أحمد (¬4) من طريقه قال: دخلت على عائشة فذاكرتها حتى ذكرنا القاضي. والحديث فيه الدلالة على المبالغة في التحذير من الدخول في القضاء، وتعظيم خطره، وعلى أن الحاكم يحاسب بما قضى به بين المتخاصمين. فنسأل الله تعالى التجاوز والمسامحة بمنه وإحسانه. 1165 - وعن أبي بكرة رضي الله عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة". رواه البخاري (¬5). الحديث فيه دلالة على اشتراط كون الحاكم ذكرًا, ولا يصح تولية امرأة ¬

_ (¬1) ابن حبان، كتاب القضاء، ذكر الأخبار عن وصف مناقشة الله في القيامة الحاكم العادل إذا كان في الدنيا 11/ 439 ح 5055، والبيهقي، كتاب آداب القاضي، باب كراهية الإمارة وكراهية تولي أعمالها لمن رأى من نفسه ضعفا 10/ 96. (¬2) الضعفاء الكبير 3/ 297. (¬3) التلخيص الحبير 4/ 184. (¬4) أحمد 6/ 75. (¬5) البخاري، كتاب الفتن 11/ 53 ح 7099.

الحكم، وكذا غير الحكم من أعمال المسلمين العامة، وذلك لما يحتاج إليه الوالي من كمال الرأي، ورأي المرأة ناقص، ولا سيما في محافل الرجال، وذهب الحنفية إلى جواز تولية المرأة الحكم، إلا الحدود فلا تتولاها، وذهب ابن جرير إلى صحة توليتها جميع الأحكام. 1166 - وعن أبي مريم الأزدي رضي الله عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من ولاه الله شيئًا من أمر المسلمين فاحتجب عن حاجتهم وفقيرهم، احتجب الله دون حاجته". أخرجه أبو داود والترمذي (¬1). أبو مريم الأزدي هو صحابي، روى عنه ابن عمه أبو الشماخ وأبو المعطل والقاسم بن مخيمرة. الحديث أخرجه الحاكم (¬2) وأبو داود من حديث القاسم بن مخيمرة، عن أبي مريم، وفيه قصة له مع معاوية، وأورد الحاكم (¬3) له شاهدًا عن عمرو بن مرة الجهني، وعنه رواه أحمد والترمذي (¬4)، ورواه الطبراني في "الكبير" (¬5) من حديث ابن عباس بلفظ: "أيما أمير احتجب عن الناس فأهمهم احتجب الله عنه يوم القيامة". وقال ابن أبي حاتم (¬6) عن أبيه في هذا الحديث: منكر. وفيه دلالة على أنه يجب على من ولي من أمر المسلمين تسهيل ¬

_ (¬1) أبو داود، كتاب الخراج والإمارة والفيء، باب ما يلزم الإِمام من أمر الرعية، 3/ 135 ح 2948، والترمذي، كتاب الأحكام، باب ما جاء في إمام الرعية 3/ 620 ح 1333. (¬2) الحاكم 4/ 93. (¬3) الحاكم 4/ 94. (¬4) أحمد 4/ 231، والترمذي 3/ 619 ح 1332. (¬5) الطبراني -كما في التلخيص الحبير 4/ 189. (¬6) علل الحديث 2/ 428 ح 2793.

الحجاب؛ ليصل إليه ذو الحاجة فيقضي حاجته، والفقير فيعطه من مال الله الذي يسد خلته، وأن من لم يفعل ذلك منعه الله تعالى فضله ورحمته، وكنى عن ذلك بالحجاب. 1167 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الراشي والمرتشي في الحكم. رواه أحمد والأربعة وحسنه الترمذي وصححه ابن حبان (¬1). وله شاهد من حديث عبد الله بن عمرو عند الأربعة إلا النسائي (¬2). وحديث ابن عمرو بهذا اللفظ ولم يذكر لفظ: في الحكم. في رواية أبي داود، وزادها الترمذي، [قال الترمذي] (أ): وقواه الدارمي. قوله: الراشي. هو المعطي، والمرتشي. الآخذ، وزاد أحمد (¬3): والرائش. وهو الذي يمشي بينهما، وهو السفير بين الآخذ والدافع وإن لم يأخذ على سفارته أجرًا، فإن أخذ فهو أبلغ، والرشوة يدخل في إطلاقها رشوة الحاكم ورشوة العامل على أخذ الصدقات، وهي حرام بالإجماع. ¬

_ (أ) ساقطة من: جـ.

كذا قال في "شرح سنن أبي داود" لابن رسلان، ونقله الإِمام المهدي عن "شرح الإبانة" في "الغيث". ويدل على تحريمها أيضًا قوله تعالى: {أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ} (¬1). قال الحسن وسعيد بن جبير (¬2) في "تفسيره": هي الرشوة. وقال مسروق (¬3): سألت ابن مسعود عن السحت: أهو الرشوة في الحكم؟ قال: لا، {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} و {الظَّالِمُونَ} و {الْفَاسِقُونَ}، ولكن السحت أن يستعينك الرجل على مظلمة فيُهدي لك، [فإن أهدى لك] (أ) فلا تقبل. وقال أبو وائل شقيق بن سلمة أحد أئمة التابعين: القاضي إذا أخذ الهدية فقد أكل السحت، وإذا أخذ الرشوة بلغت به الكفر. رواه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬4) بإسناد صحيح، وإنما استحقا العقوبة معًا لاستوائهما في القصد و (ب) الإرادة، وأما إذا أعطى المعطي ليتوصل إلى حق، أو يدفع عن نفسه ظلمًا، فإنه لا يدخل في الوعيد، وقد أُخذ ابن مسعود بأرض الحبشة في شيء فأعطى دينارين حتى خُلي سبيله (¬5)، وقال الحسن والشعبي (¬6): لا بأس بذلك وكذا الأخذ، ¬

_ (أ) ساقطة من: جـ. (ب) في ب: أو.

إنما يستحق الوعيد حيث كان (أما أخذه أ) على حق يلزمه أداؤه، أو على باطل يجب عليه تركه، ولكن لا يفعل ما ذكر حتى يصانع ويرشي، فإنها (ب) رشوة، وأما إذا كان الحق لا يلزمه فعله، والترك لا يجب عليه، فالظاهر جواز الأخذ. 1168 - وعن عبد (جـ) الله بن الزبير رضي الله عنه قال: قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن الخصمين يقعدان بين يدي الحاكم. رواه أبو داود وصححه الحاكم (¬1). وأخرجه أحمد والبيهقي (¬2)، وقد أخرجوه من حديث مصعب بن ثابت بن عبد الله بن الزبير، وقد ضعفه يحيى بن معين (¬3) وابن حبان (¬4). وقال الذهبي في "الكاشف" (¬5): فيه لين؛ [لغلطه] (د). ولم يزد على ذلك، وقال ¬

_ (أ- أ) في جـ: يأخذه. (ب) في جـ: فإنه. (جـ) في جـ: عبيد. (د) في جـ: لغطه. وفي ب، ومصدر التخريج: لغلظه. وهو تصحيف، والمثبت هو الصواب، وانظر ما سيأتي في كلام أبي حاتم.

ابن رسلان: روى عن جده مرسلًا، وعن أبيه وعمه عامر. قال أبو حاتم (¬1): صدوق كثير الغلط. وقال النسائي (¬2) وغيره: ليس بالقوي. وقد جاء في حديث علي الذي مر: "فإذا جلس الخصمان بين يديك". والحديث ظاهره يدل على أنه يتعين قعود الخصمين بين يدي الحاكم من غير تفرقة بين أن يستويا أو لا؛ وذلك لما فيه من العدل بينهما والإقبال عليهما. قال الماوردي (¬3): ولا يسمع منهما الدعوى وهما قائمان. قال ابن رسلان (¬4): إذا كانا شريفين جلس أحدهما عن يمينه والآخر عن شماله. انتهى. وهذا التخصيص يحتاج إلى دليل، والله أعلم. ¬

_ (¬1) الجرح والتعديل 8/ 304. (¬2) النسائي 8/ 91. (¬3) أدب القاضي له 2/ 249. (¬4) غاية البيان شرح زُبَد بن رسلان لمحمد بن أحمد الرملي 1/ 325.

باب الشهادات

باب الشهادات هي جمع شهادة، وهي مصدر شهد يشهد، جمع المصدر لما أريد به أنواع الشهادات. قال الجوهري (¬1): الشهادة خبر قاطع، والمشاهدة المعاينة، مأخوذة من الشهود، أي: الحضور؛ لأن الشاهد مشاهد لما غاب عن غيره. وقيل: مأخوذة من الإعلام. 1169 - عن زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ألا أخبركم بخير الشهداء؟ الذي يأتي بشهادته قبل أن يسألها". رواه مسلم (¬2). الحديث فيه دلالة على أن الأفضل للشاهد أن يأتي بشهادته قبل أن يسأله من له الشهادة أن يشهد له، وظاهر هذا معارض لحديث عمران المذكور عقيب هذا، فإنه جعل الشهادة قبل أن يستشهد من صفات الذم للآتين بعد القرون التي فيها الخير. واختلف العلماء في الترجيح فجنح ابن عبد البر (¬3) إلى ترجيح حديث زيد بن خالد؛ لكونه من رواية أهل المدينة، فقدمه على رواية أهل العراق، وبالغ فزعم أن حديث عمران لا أصل له، وجنح غيره إلى ترجيح حديث عمران؛ لاتفاق "الصحيحين" على إخراجه، وحديث زيد من أفراد مسلم، ¬

_ (¬1) الصحاح (ش هـ د). (¬2) مسلم، كتاب الأقضية، باب بيان خير الشهود 3/ 1344 ح 1719. (¬3) التمهيد 17/ 298 - 300.

وذهب آخرون إلى الجمع بينهما، وأجابوا بأجوبة في الجمع (أ)؛ أحدها: أن المراد بحديث زيد أنه إذا كان عند الشاهد شهادة بحق لا يعلم بالشهادة صاحب الحق فيأتي إليه فيخبره بها، أو يموت صاحبها العالم بها ويخلف ورثة فيأتي الشاهد إليهم أو إلى من يتحدث عنهم فيعلمهم بذلك. وهذا أحسن الأجوبة، وقد أجاب به يحيى بن سعيد شيخ مالك ومالك وغيرهما. الثاني: المراد به شهادة الحسبة، وهي ما لا تتعلق بحقوق الآدميين المختصة بهم (ب) محضًا، ويدخل في الحسبة ما يتعلق بحق الله أو ما فيه شائبة؛ كالعتاق والوقف والوصية العامة والعدة والطلاق والحدود ونحو ذلك، وحديث عمران مراد به الشهادة في حقوق الآدميين المحضة. الثالث: أن المراد بقوله: "أن يأتي بالشهادة قبل أن يسألها". هو المبالغة في الإجابة، فيكون لقوة استعداده كالذي أتى بها قبل أن يُسألها, كما يقال في حق الجواد: إنه ليعطي قبل الطلب. وهذه الأجوبة مبنية على أن الشهادة عند الحاكم لا تصح أن تؤدى قبل أن يطلبها صاحب الحق. وذهب البعض إلى جواز أداء الشهادة قبل السؤال على ظاهر عموم حديث زيد، وتأول حديث عمران بتأويلات؛ أحدها: أنه محمول على شهادة الزور، أي يؤدون شهادة لم يسبق لهم تحملها، وهذا حكاه الترمذي (¬1) عن بعض أهل العلم. ثانيها: المراد بها الشهادة في الحلف، ¬

_ (أ) في ب: الجميع. (ب) في جـ: لهم.

والمراد أن يأتي بالشهادة بلفظ الحلف بأن يقول الرجل: أشهد بالله ما كان إلا كذا. وهذا جواب الطحاوي (¬1). ثالثها: أن المراد الشهادة على ما لا يعلم ما سيكون من الأمور المستقبلة، فيشهد على قوم بأنهم من أهل النار، وعلى قوم بأنهم من أهل الجنة، بغير دليل، كما يصنع ذلك أهل الأهواء. حكاه الخطابي (¬2). رابعها: أن ينتصب شاهدًا وليس من أهل الشهادة. خامسها: أن يتسارع إلى الشهادة وصاحبها يعلم أنه شاهد له من قبل أن يسأله. والله أعلم. 1170 - وعن عمران بن حصين رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن خيركم قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يكون قوم يشهدون ولا يستشهدون، ويخونون ولا يؤتمنون، وينذرون ولا يوفون، ويظهر فيهم السِّمَن". متفق عليه (¬3). قوله: "إن خيركم قرني". القرن أهل زمان واحد متقارب اشتركوا في أمر من الأمور المقصودة، ويقال: إن ذلك مخصوص بما إذا اجتمعوا في زمن [نبي] (أ) أو رئيس يجمعهم على ملة أو مذهب أو عمل، ويطلق القرن على ¬

_ (أ) ساقطة من: ب، جـ. والمثبت من الفتح 7/ 5.

مدة من الزمان، واختلفوا في تحديدها من عشرة أعوام (أإلى مائة أ) وعشرين. قال المصنف (¬1) رحمه الله تعالى: إنه لم ير من صرح بالتسعين ولا بمائة وعشرة، وما عدا ذلك فقد قال به قائل. وذكر في "القاموس" (¬2) إطلاقه من العشرة إلى مائة وعشرين، ولم يذكر فيها التسعين، ورجح الإطلاق على المائة، وذكر الجوهري (¬3) الثلاثين والثمانين، وقد وقع في حديث عبد الله بن (ب) بسر عند مسلم (¬4) ما يدل على أن القرن مائة. وقال صاحب "المطالع" (¬5): القرن أمة هلكت فلم يبق منهم أحد. ولم يذكر صاحب "المحكم" (¬6) الخمسين، وذكر من عشر إلى تسعين (¬7)، وهو القدر المتوسط من أعمار (جـ) أهل كل زمن، وهذا أعدل الأقوال، وبه صرح ابن الأعرابي وقال: إنه مأخوذ من الأقران. والمراد بقرن النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث الصحابة، وفي صفة النبي - صلى الله عليه وسلم - ¬

_ (أ- أ) ساقطة من: جـ. (ب) في جـ: بشر. (جـ) في جـ: أعمال.

قوله: "وبعثت من خير قرون بني آدم" (¬1). وفي رواية بريدة عند أحمد (¬2): "خير هذه الأمة القرن الذي بعثت فيهم". وقد ظهر أن الذي بين البعثة وآخر من مات من الصحابة مائة سنة وعشرون سنة أو دونها أو فوقها بقليل على الاختلاف في وفاة أبي الطفيل، وإن اعتبر ذلك بعد وفاته - صلى الله عليه وسلم - فيكون مائة سنة أو تسعين أو سبعا وتسعين. وأما قرن التابعين فإن اعتبر من سنة مائة كان نحو سبعين أو ثمانين، وأما الذين بعدهم فإن اعتبر منها كان نحوًا من خمسين، فظهر بذلك أن مدة القرن تختلف باختلاف أعمار أهل كل زمان، والله أعلم. واتفق أن آخر من كان من أتباع التابعين ممن يقبل قوله من عاش إلى حدود العشرين ومائتين، وفي هذا الوقت ظهرت البدع ظهورًا فاشيًا وتغيرت الأحوال تغيرًا شديدًا ولم يزل الأمر في نقص إلى الآن. وقوله: "ثم الذين يلونهم". أي القرن الذي بعدهم وهم التابعون. "ثم الذين يلونهم". وهم أتباع التابعين، وهذا يقضي بأن الصحابة أفضل من التابعين، وأن التابعين أفضل من أتباعهم، وظاهر التفضيل أنه بالنظر إلى كل فرد فرد، وقد ذهب إلى هذا الجمهور، وذهب ابن عبد البر (¬3) إلى أن التفضيل إنما هو بالنسبة إلى مجموع الصحابة، فإنهم أفضل ممن بعدهم لا كل فرد منهم، واحتج على ذلك بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "مثل أمتي مثل المطر لا يدرى خير أوله أم آخره". وهو حديث حسن له طرق قد يرتقي بها إلى الصحة، ¬

_ (¬1) أحمد 2/ 417، والبخاري 6/ 566 ح 3557. (¬2) أحمد 5/ 357. (¬3) التمهيد 20/ 251، 252.

وإن كان النووي في "فتاويه" نسبه إلى "مسند أبي يعلى" (¬1) من حديث أنس بإسناد ضعيف، وغفل عن رواية الترمذي (¬2) له بإسناد أقوى منه من حديث أنس أيضًا، وصححه ابن حبان (¬3) من حديث عمار، ويقويه ما أخرجه ابن أبي شيبة (¬4) من حديث عبد الرحمن بن جبير بن نُفَيْر أحد التابعين بإسناد حسن قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ليدركن المسيح أقوامًا إنهم لمثلكم أو خير -ثلاثا- ولن يخزي الله أمة أنا أولها والمسيح آخرها". وأخرج أبو داود والترمذي (¬5) من حديث ثعلبة رفعه: "تأتي أيام للعامل فيهن أجر خمسين". قيل: منهم أو منا يا رسول الله؟ قال: "بل منكم". واحتج ابن عبد البر (¬6) أيضًا بحديث عمر رفعه: "أفضل الخلق إيمانًا قوم في أصلاب الرجال يؤمنون بي ولم يروني". أخرجه الطيالسي (¬7) وغيره لكن إسناده ضعيف فلا حجة فيه. وروى أحمد والدارمي والطبراني (¬8) من حديث أبي جمعة قال: قال أبو عبيدة: يا رسول الله، أحد خير منا؟ أسلمنا معك وجاهدنا معك. قال: "قوم يكونون من بعدكم، يوُمنون بي ولم يروني". وإسناده حسن، وقد صححه الحاكم (¬9)، واحتج من حيث القياس بأن السبب في كون القرن ¬

_ (¬1) أبو يعلى 6/ 190، 191، 380 ح 3475، 3717. (¬2) الترمذي 5/ 140 ح 2869. (¬3) ابن حبان 16/ 209، 210 ح 7226. (¬4) ابن أبي شيبة 5/ 299. (¬5) أبو داود 4/ 121 ح 4341، والترمذي 5/ 240 ح 3058. (¬6) التمهيد 20/ 248. (¬7) الطيالسي -كما في التمهيد 20/ 248 - والعقيلي 4/ 238. (¬8) أحمد 4/ 106، والدارمي 2/ 308، والطبراني 4/ 26، 27 ح 3537. (¬9) الحاكم 4/ 85.

الأول خير القرون، أنهم كانوا غرباء في إيمانهم؛ لكثرة الكفار، وصبرهم على أذاهم، وتمسكهم بدينهم. قال: فكذلك أواخرهم إذا أقاموا الدين وتمسكوا به وصبروا على الطاعة حين ظهرت المعاصي والفتن -كانوا أيضًا غرباء، وزكت أعمالهم في ذلك كما زكت أعمال أولئك، شهد له ما رواه مسلم (¬1) عن أبي هريرة رفعه: "بدأ الإِسلام غريبًا وسيعود غريبًا كما بدأ، فطوبى للغرباء". وأجيب عليه بالآيات الواضحة النيرة والأحاديث الصحيحة كحديث "الصحيحين" (¬2): "لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبًا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه". و [هكذا] (أ) حديث عمران وغيرهما من الأحاديث المصرحة بأفضلية الصحابة على غيرهم، واستثنى ابن عبد البر (¬3) أهل بدر والحديبية؛ فقال بأفضليتهم على غيرهم، وجمع الجمهور بين الأحاديث بأن الصحبة لها فضيلة ومزية لا يوازيها (ب) شيء من الأعمال؛ فلمن صحب النبي - صلى الله عليه وسلم - فضيلتها وإن قصر عمله وأجره باعتبار الاجتهاد في العبادة، وتكون خيرية مَن سيأتي من المذكورين باعتبار كثرة الأجر بالنظر إلى ثواب الأعمال، وهذا قد يكون في حق بعض من الصحابة، وأما مشاهير الصحابة فإنهم حازوا مراتب السبق في كل نوع من أنواع الخير، ¬

_ (أ) في ب، جـ: هذا. والمثبت يقتضيه السياق. (ب) في ب: يوازنها.

وبهذا يحصل الجمع بين الأحاديث، وأيضًا فإن المفاضلة بين الأعمال بالنظر إلى الأعمال المتساوية في النوع، وفضيلة الصحبة مختصة بالصحابة لم يكن فيمن عداهم شيء من ذلك النوع، وأما حديث أبي جمعة فلم تتفق الرواة (أ) على لفظه؛ فقد رواه بعضهم بلفظ الخيرية، ورواه بعضهم بلفظ: قلنا: يا رسول الله، هل مِن قوم أعظم منا أجرًا؟ الحديث. أخرجه الطبراني (¬1)، وإسناد هذه الرواية أقوى من إسناد الرواية المتقدمة، وأجاب النووي عن حديث: "مثل أمتي مثل المطر". بما حاصله أن المراد ممن يشتبه عليه الحال في ذلك من أهل الزمان الذين يدركون عيسى بن مريم - عليه السلام - ويرون ما في زمانه من الخير والبركة وانتظام كلمة الإِسلام ودحض أمر الكفر، فيشتبه الحال على مَن (ب) شاهد ذلك أي الزمانين خير. وهذا الاشتباه مندفع بصريح قوله - صلى الله عليه وسلم -: "خير القرون قرني (جـ) ". وذكر في حديث عمران قرنين (هـ) بعده، وكذا في حديث عائشة عند مسلم (¬2)، وكذا عند الطبراني وسمويه (و) (¬3) من حديث بلال بن سعد عن ¬

_ (أ) في جـ: الرواية. (ب) في جـ: ما. (جـ) ساقط من: جـ. (د) زاد بعده في ب، جـ: هذا. وبحذفها يستقيم السياق. (هـ) في جـ: قرني. (و) في جـ: ميمونه.

أبيه، وكذا من حديث عمر عند الطيالسي (¬1)، ووقع في حديث جعدة بن هبيرة عند ابن أبي شيبة والطبراني (¬2) إثبات ثلاثة بعد قرن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ورجاله ثقات، إلا أن جعدة مختلف في صحبته، ووقع في رواية البخاري (¬3) لحديث عمران شك؛ قال: فلا أدري ذكر بعد قرنه قرنين أو ثلاثة. ووقع مثل هذا الشك في حديث ابن مسعود وأبي هريرة عند مسلم (¬4)، وفي حديث بريدة عند أحمد (¬5). وقوله: "ثم يكون بعدهم قوم". إلخ. ظاهر هذا أنه (أ) لم يكن في القرون الثلاثة من يتصف بهذه الصفات، والظاهر في القرنين بعد الصحابة أنه قد كان فيهم من هو متصف بالصفات المذمومة، ولكن هذا بحسب الأغلب. وقد استدل بهذا الحديث على تعديل القرون الثلاثة وإن تفاوتت منازلهم في الفضل، ولكنه محمول على الأغلب. وقوله: "يخونون". بالخاء المعجمة والواو، مشتق من الخيانة، وهو كذا في جميع نسخ البخاري، وزعم ابن حزم (¬6) أنه وقع في نسخته: ¬

_ (أ) زاد في جـ: إذا.

"يحربون (أ) ". بسكون الحاء المهملة وبالراء بعدها باء موحدة، قال: فإن كان محفوظًا فهو من قولهم: حَرَبه يَحربه. إذا أخذ ماله (ب) وتركه بلا شيء، ورجل محروب أي مسلوب. وقوله: "ولا يؤتمنون". من الأمانة، أي: لا يثق الناس بهم ولا يعتقدونهم أمناء. بأن تكون خيانتهم ظاهرة بحيث لا يبقى للناس اعتماد عليهم. ووقع في أكثر نسخ مسلم: "ولا يُتَّمنون". بتشديد التاء الفوقانية مثل قراءة ابن مُحَيْصن: (فليؤد الذي اتُّمن) بالإدغام (¬1). وقوله: "وينذرون". بفتح أوله وكسر الذال المعجمة وضمها، تقدم الكلام على النذر (¬2). وقوله: "ويظهر فيهم السِّمَن". بكسر السين المهملة وفتح الميم بعدها نون، أي: يحبون التوسع في المآكل والمشارب. وهي أسباب السمن، والمراد ذم من قصد إلى حصوله لا من خلق كذلك. وقيل: أراد كثرة المال. وقيل: إنهم يتسمنون. أي يتكثرون (جـ) بما ليس فيهم، ويدعون ما ليس لهم من الشرف، وقد جاء في حديث الترمذي (¬3) عن عمران بن حصين بلفظ: ¬

_ (أ) في جـ: يخونون. (ب) ساقط من: جـ. (جـ) في جـ: يتكبرون.

"ثم يجيء قوم يتسمنون ويحبون السمن". فجمع بين السمن أي التكثر (أ) بما ليس عنده وتعاطي أسباب السمن الحقيقي. 1171 - وعن عبد الله بن عمرو (ب) رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تجوز شهادة خائن ولا خائنة، ولا ذي غِمْر على أخيه، ولا تجوز شهادة القانع لأهل البيت". رواه أحمد وأبو داود (¬1). أخرجه أبو داود من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، ولفظ أبي داود: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رد شهادة الخائن والخائنة. الحديث. وأخرج الحديث ابن ماجه والبيهقي (¬2) أيضًا، وسنده قوي، وساقه في "البدر المنير" (¬3) من خمس طرق عن عمرو بن شعيب، وأخرجه الترمذي والدارقطني والبيهقي (¬4) من حديث عائشة بلفظ: "لا تجوز شهادة خائن ولا خائنة، ولا ذي غِمر لأخيه، ولا ظنين [في ولاءٍ] (جـ) ولا قرابة". وفيه يزيد بن زياد الشامي الواسطي، وهو ضعيف (¬5)، وقال الترمذي (¬6): لا يعرف هذا من حديث الزهري إلا من هذا الوجه، ولا يصح عندنا إسناده. وقال أبو زرعة ¬

_ (أ) في جـ: التكبر. (ب) في جـ: عمر. (جـ) ساقط من: ب، جـ. والمثبت من الترمذي والبيهقي.

في "العلل": منكر. وضعفه عبد الحق وابن حزم وابن الجوزي (¬1)، ورواه الدارقطني والبيهقي (¬2) من حديث عبد الله بن عُمر، وفيه عبد الأعلى (¬3)، وهو ضعيف، وشيخه يحيى بن سعيد الفارسي (¬4)، وهو ضعيف. قال البيهقي (¬5): لا يصح من هذا شيء عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. قوله: "الخائن والخائنة". ظاهره الخيانة في الأموال، كخيانة الوديعة، والتطفيف بالكيل والوزن. وقال أبو [عبيد] (أ) (¬6): لا نراه خص به الخيانة في أمانات الناس دون ما افترض الله على عباده وائتمنهم عليه؛ فإنه قد سمى ذلك أمانة: قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ} (¬7). فمن ضيع شيئًا مما أمر الله تعالى به أو ركب ما نهى عنه فليس ينبغي أن يكون عدلًا. انتهى. وقوله: "ولا ذي غِمْر": بكسر الغين المعجمة وسكون الميم بعدها راء مهملة، فسره أبو داود (¬8) بالحنة، بكسر الحاء المهملة وتخفيف النون ¬

_ (أ) في ب، جـ: عبيدة. والمثبت من النهاية 2/ 89، واللسان (ح ون).

المفتوحة، لغة في الإحْنة، وهو الحقد والشحناء، بالمد، والمراد به العداوة. وقوله: "على أخيه". المراد به السلم، والمقصود من ذكره التنبيه بأنه لا يحسُن الحقد والعداوة بين المسلمين؛ لأنهم إخوة، وهو بحسب الأغلب، وإلا فالكافر كذلك، لا يصح أن يشهد عليه وبينهما عداوة على سبب غير المخالفة في الدين. وقوله: "القانع لأهل البيت". المراد به الخادم، والقانع المنقطع إلى خدمتهم ويتبع حوائجهم وموالاتهم عند الحاجة. وتمام الحديث: وأجازها لغيرهم. أي أجاز شهادة القانع لغير أهل البيت. والعلة في رد شهادة المذكورين المناسبة لشرعية هذا الحكم، هو أن الشهادة مبناها على تحصيل الظن المشهود عنده ليعمل (أ) بمقتضى ما شهدوا به، والخائن غير موثوق بخبره؛ لأنه إذا لم يكن له تقوى تردعه عن ارتكاب محظورات الدين، لم يكن له ما يردعه عن ارتكاب الكذب، فلا يحصل الظن بصدق خبره؛ لأنه مَظِنَّة تهمة، أو مسلوب أهلية الشهادة والإخبار، وكذلك ذو الحقد والشحناء متهم في تحري الصدق؛ لمحبته إنزال الضرر بمن قد حقد عليه، وأما قبول شهادة المسلم على الكافر، وإن كان بينهما عداوة، (ب فهي عداوة دين، وعداوة ب) الدين لا تقضي بأن يشهد عليه زورًا؛ فإن الدين لا يسوغ ذلك، وكذا القانع إذا شهد لمن هو خادم له فهو مَظِنة تهمة؛ لأنه يجلب لنفسه استمرار النفع عند من هو تابع (جـ) له، ويلحق به الوكيل والوصي، فلا تصح شهادتهما فيما لهما فيه التصرف. والحديث فيه دلالة على اشتراط عدالة الشاهد على وفق قوله تعالى: ¬

_ (أ) في جـ: ليعلم. (ب- ب) ساقط من: جـ. (جـ) في جـ: نافع.

{وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} (¬1). فإن الخيانة إذا كانت في مال له خطر فذلك غصب وأكل مال المسلم بغير حق، وكذلك عدم الوفاء بما افترض الله على عباده، إذا كان ذلك مما هو واجب قطعي فهو كبيرة، ومرتكب الكبيرة غير عدل؛ لأن العدالة في عرف الشرع محافظة دينية تحمل على ملازمة التقوى والمروءة، أو ملكة نفسانية تحمل على ملازمة التقوى والمروءة، وهي تُحَقَّق باجتناب الكبائر وعدم الإصرار على الصغائر، واجتناب خصال الخسَّة، وهي ما لا يفعلها أمثاله من أهل زمانه ومكانه. قال الإِمام يحيى والغزالي: فحمل [ذي] (أ) المنصب العالي المتاع من السوق إلى بيته لا على وجه المجاهدة لنفسه جرح. والكافر الصريح الحربي لا تقبل شهادته على المسلم إجماعًا, ولا على كافر مثله أو غيره عند الأكثر، وذهب الحسن البصري وعثمان البتي وحماد وأبو حنيفة وأصحابه إلى أنه تقبل شهادته على كافر ولو خالفه في الاعتقاد؛ إذ الكفر ملة واحدة، وذهب الشعبي وداود والحكم وإسحاق وأبو عبيد (ب) وبعض الهدوية، وهو المبني عليه عند المتأخرين منهم، إلى أنه تقبل على أهل ملته ولا تقبل على غيرهم للعداوة، ولا تقبل [من] (أ) الذمي على المسلم إجماعًا في غير الوصية في السفر، وفيها خلاف أبي موسى الأشعري وابن ¬

_ (أ) ساقط من: ب، جـ. والمثبت يقتضيه السياق. (ب) في ب: عبيدة.

أبي ليلى وشريح والنخعي وأبو حنيفة وأحمد بن حنبل، وذهب إليه المنصور بالله؛ لقوله تعالى: {أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} (¬1). وأما صاحب البدعة التي تئول بدعته إلى كفر أو فسق عند من يقول بكفر التأويل وفسقه؛ فالجمهور أنه تقبل شهادته وخبره، وكذا فسق التأويل، وفاسق (أالجارحة لا تصح شهادته أ) إجماعًا، للآية الكريمة وهذا الحديث، وإنما كان خصال الخسَّة جرحا؛ لأن ترك المروءة دليل عدم الحياء الذي هو مظنة الجرأة؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا لم تستحي فاصنع ما شئت" (¬2). وأما ذو الغِمْر فذهب إلى أن شهادته لا تقبل الهدوية ومالك والشافعي وأحمد؛ لهذا الحديث، وذهب المؤيد بالله وأبو حنيفة إلى أن شهادته تقبل؛ قالوا: لأن العدالة تمنع التهمة. والجواب: السنة منعت وقد صار مظنة تهمة، والنفس طموح. وأما شهادة القانع فذهب إلى أنها لا تقبل الهادي والقاسم والناصر والشافعي؛ قالوا: لاستغراق منافعه فأشبه العبد، وهو الذي يعبر عنه بالأجير الخاص الذي منافعه مستغرقة لمن تبعه. وأما الأجير المشترك فتصح شهادته فيما لا يتعلق بعمله، والخلاف للمؤيد بالله أنها لا تصح شهادة الأجير مطلقًا، وذلك لما يلحق من التهمة بالمحاباة. ¬

_ (أ- أ) في جـ: الجرحة.

وأما المحاباة بالقرابة ففيها تفصيل وخلاف مستوفى في الفروع. وكذا بالرق والولاء، فالعبد (أ) لسيده إلا يصح إجماعًا، وأما لغيره ففيه خلاف. 1172 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه، أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تجوز شهادة بدوي على صاحب قرية". رواه أبو داود وابن ماجه (¬1). البدوي: هو من سكن البادية، والنسبة على خلاف القياس، والقياس بادوي، ومسكنه المضارب والخيام، وهو غير مقيم في موضع خاص، بل يرتحل من مكان إلى مكان، كذا ذكره ابن رسلان في "شرح سنن أبي داود"، ولم يذكر في "القاموس" ولا في "الضياء" ولا في "النهاية" هذا التفسير. والقرية بفتح القاف وبكسرها: المِصر الجامع، والنسبة إليها قريي، وقروي. والحديث فيه دلالة على أن شهادة البدوي لا تصح على القروي، وأما على مثله فتصح، وقد ذهب إلى هذا أحمد بن حنبل وجماعة من أصحابه، قال أحمد: أخشى ألا تقبل شهادة البدوي على صاحب القرية لهذا الحديث، ولأنه متهم حيث عدل عن أن يُشهِد قرويًّا وأشهد بدويًّا. وذهب إلى هذا أبو [عبيد] (ب)، وكذا قال مالك إلا أنه استثنى الدماء فتقبل فيها ¬

_ (أ) في جـ: بالعبد. (ب) في ب، جـ: عبيدة. والمثبت من المغني 14/ 150.

احتياطًا للدماء، وعلل هذا في "النهاية" (¬1)، قال: إنما كره شهادة البدوي لما فيه من الجفاء في الدين والجهالة بأحكام الشرع، ولأنهم في الغالب لا يضبطون الشهادة على وجهها. وذهب الأكثر ومنهم الهدوية والشافعي وأبو حنيفة وابن سيرين وأبو ثور، واختاره أبو الخطاب من الحنابلة إلى قبول شهادتهم، وحملوا الحديث على من لم تعرف عدالته من أهل البادية، والغالب عليهم أن عدالتهم غير معروفة. واحتج الإِمام المهدي على ذلك في "البحر" بما ثبت من قبول النبي - صلى الله عليه وسلم - للأعرابي في شهادة رمضان (¬2). 1173 - وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أنه خطب فقال: إن أناسًا كانوا يؤخذون بالوحي في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وإن الوحي قد انقطع، وإنما نأخذكم الآن بما ظهر لنا من أعمالكم. رواه البخاري (¬3). الحديث تمامه: فمن أظهر لنا خيرًا أَمِنَّاه وقربناه وليس إلينا (أ) من سريرته شيء، الله يحاسبه في سريرته، ومن أظهر لنا سوءًا لم نأمنه ولم نصدقه وإن قال: إن سريرته حسنة. فيه دلالة على أنه تقبل شهادة من لم توجد منه ريبة بالنظر إلى ظاهر الحال، وأنه يكفي في التعديل ما يظهر من حال المعدل من الاستقامة من غير كشف عن سريرته؛ لأن ذلك متعذر، وكان في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - قد يطلع ¬

_ (أ) في جـ: لنا.

على معرفة سريرة البعض بالوحي، وقد انقطع الوحي بموته - صلى الله عليه وسلم -. وقوله: أَمِنَّاه. بفتح الهمزة وكسر الميم وتشديد النون. 1174 - وعن أبي بكرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، أنه عد شهادة الزور في أكبر الكبائر. متفق عليه في حديث (¬1). الحديث في البخاري قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ " ثلاثًا. قالوا: بلى يا رسول الله. قال: "الإشراك بالله، وعقوق الوالدين". وجلس وكان متكئًا فقال: "ألا وقول الزور". فما زال يكررها حتى قلنا: ليته سكت. الحديث فيه دلالة على تعظيم إثم شهادة الزور، والمراد بها أن يشهد الشاهد بما لا يعلمه. قال الثعلبيِ في "تفسيره" (¬2): أصل الزور تحسين الشيء ووصفه بخلاف صفته، حتى يخيل إلى من سمعه أو رآه أنه بخلاف ما هو به، فهو تمويه الباطل بما يوهم أنه حق، وقد جعلها مساوية للشرك في أنها من أكبر الكبائر. قال النووي (¬3): وليس هو على ظاهره المتبادر؛ وذلك لأن الشرك أكبر منها بلا شك، وكذلك القتل، فلا بد من تأويله، وفي تأويله ثلاثة أوجه؛ أحدها: الحمل على الكفر، فإن الكافر شاهد بالزور وقائل به. والثاني: الحمل على المستحل ويصير بذلك كافرًا. الثالث: أن التفضيل لها ¬

_ (¬1) البخاري، كتاب الشهادات، باب ما قيل في شهادة الزور 5/ 261 ح 2654، ومسلم، كتاب الإيمان، باب بيان الكبائر وأكبرها 1/ 91 ح 87/ 143. (¬2) شرح مسلم 2/ 84. (¬3) شرح مسلم 2/ 87، 88.

بالنظر إلى ما يناظرها في المفسدة، فهي أكبر مما يناظرها في المفسدة، وهي التسبب إلى أكل المال بالباطل، وهذا التأويل هو متعين؛ لأن الحمل على الكفر بعيد؛ فإنه قد ذكر الإشراك بالله، ولأنه خرج مخرج الزجر عن شهادة الزور في الحقوق المالية، وأما قبح الكفر وكونه أكبر الكبائر فذلك معروف ولا يتشكك فيه أحد من أهل القبلة، وظاهر الحديث أنه لا فرق في شهادة الزور بين أن يكون المشهود به حقيرًا أو عظيمًا، وقد يحتمل أن يقال مثل ما تقدم في حد الكبيرة. انتهى كلام النووي مع تصرف فيه. وفي تمام الحديث تهويل وتحذر؛ فإنه - صلى الله عليه وسلم - جلس وكان متكئًا، ثم أتى بحرف التنبيه؛ ليلقي الخاطب سمعه لما يُحذر منه، ثم أعاد اللفظ ثلاث مرات، ولعل سبب الاهتمام بذلك كون قول الزور أو شهادة الزور أسهل وقوعًا على اللسان، والتهاون بها أكثر؛ فإن الإشراك ينبو عنه قلب المسلم، والعقوق يصرف عنه حسن الطبع وكرم الخلق، وأما الزور فالحوامل عليه كثيرة؛ كالعداوة والحسد وغيرهما، [فاحتيج] (أ) إلى الاهتمام بتعظيمه، ولأن الإشراك مفسدته قاصرة لا (ب) تتعدى إلى غير المشرك القائم به الإشراك، وأما المعبود فهو الغني عن الخلق، له ما في السماوات وما في الأرض، وقول الزور مُتَعدٍّ إلى المقول فيه؛ كما قال تعالى: {وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} (¬1). وقد جاء في لفظ في البخاري: "ألا وقول الزور ¬

_ (أ) في ب، جـ: واحتيج. والمثبت من الفتح 5/ 263. (ب) ساقطة من: جـ.

وشهادة الزور" (¬1). وهو يحتمل أن يكون من عطف الخاص على العام، أو من عطف الشيء على نفسه، زيادة في التحذير. وقوله: حتى قلنا: ليته سكت. أي شفقة عليه وكراهية لما يزعجه، مما يدل على نكارة الحال وشدتها، وهذا منهم لما كانوا عليه من الأدب معه - صلى الله عليه وسلم - والمحبة والشفقة عليه. 1175 - وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لرجل: "ترى الشمس؟ ". قال: نعم. قال: "على مثلها فاشهد أو دع". أخرجه ابن عدي بإسناد ضعيف وصححه الحاكم فأخطأ (¬2). الحديث أخرجه أيضًا العقيلي وأبو نعيم في "الحلية" والبيهقي (¬3) من حديث طاوس عن ابن عباس أنه سئل - صلى الله عليه وسلم - عن الشهادة فقال للسائل: "ترى الشمس؟ ". قال: نعم. قال: "على مثلها فاشهد أو دع". وفي إسناده محمَّد بن سليمان بن مشمول (أ) (¬4) ضعفه النسائي (¬5)، وقال البيهقي: لم يرو من وجه يعتمد عليه. ¬

_ (أ) في جـ: مشول. وعند النسائي والبيهقي وفي تاج العروس (س م ل): مسمول بالسين، وأكثر ما يذكر في مصادر ترجمته بالسين المهملة.

الحديث فيه دلالة على أنه لا يجوز للشاهد أن يشهد إلا على ما يعلمه علمًا يقينًا كما يعلم الشمس بالمشاهدة، ولا تجوز الشهادة بالظن، فإن كانت الشهادة على فعل فلا بد من رؤية ذلك الفعل، وإن كانت على صوت فلا بد من سماع ذلك الصوت ورؤية المصوِّت، أو التعريف بالمصوِّت بعدلين، أو عدل عند من يكتفي به، إلا في مواضع فيجوز الشهادة بالظن، وبوب البخاري لذلك بقوله: باب الشهادة على الأنساب والرضاع المستفيض، والموت القديم (¬1)، فعقد هذه الترجمة. وذكر في الباب أربعة أحاديث في إثبات الرضاع، وثبوته إنما هو بالاستفاضة فيها، لم يذكر فيها شهادة على رؤية الرضاع، وأشار بذلك إلى ثبوت النسب، فإنه من لازم الرضاع ثبوت النسب، وأما ثبوت الرضاعة نفسها بالاستفاضة فهي مستفادة من صريح الأحاديث، فإن الرضاعة المذكورة فيها كانت في الجاهلية وكان ذلك مستفيضًا عند من وقع له، وأما الموت القديم فمقيس على الرضاعة. قال ابن المنير (¬2): واحترز البخاري بالقديم عن الموت الحادث، والمراد بالقديم ما تطاول الزمان عليه، وحدّه بعض المالكية بخمسين سنة. وقيل: بأربعين سنة. وحد الاستفاضة عند الهدوية شهرة في المحلة تثمر علمًا أو ظنّا، وأقل من يسمع منهم جمع يُؤمَن تواطؤهم على الكذب. وقيل: خمسة. وقيل: أربعة. وقيل: يكفي من عدلين. وقيل: يكفي من عدل واحد إذا سكن القلب إليه. وإنما اكتفي بالشهرة في المذكورة، إذ لا طريق إلى التحقيق ¬

_ (¬1) البخاري 5/ 253. (¬2) الفتح 5/ 254.

[بالنسب، لتعذر] (أ) التحقيق فيه بحسب الأغلب، والموت يشق فيه التحقيق، ويلحق بما ذكر ما شابهها في هذا الوصف، وقد ذهب العترة والحنفية والشافعية وأحمد إلى العمل بالشهرة في النسب والموت، وفي الولاء العترة وأبو يوسف ومحمد وأحد قولي الشافعي؛ لأن الولاء كالنسب، وذهب أبو حنيفة وأحد قولي الشافعي إلى أنها لا تكفي، وتوقف أبو العباس، وذهب العترة وأبو حنيفة وصاحباه إلى أنها تكفي في النكاح، وذهبت الهدوية إلى أنها تكفي في الوقف والوصية، وذهب المنصور بالله، وكذا في مصرف الوقف والوصية، وذهب العترة وأبو حنيفة ومحمد إلى أنها تكفي في كونه قاضيًا، وذهب الشافعي واختاره الإمام المهدي إلى أنها تكفي في ثبوت الملك وثبوت اليد؛ لتعذر تعين الملك كالنسب، هكذا حكى الخلاف الإمام المهدي في "البحر". وقال المصنف رحمه الله تعالى في "الفتح" (¬1): اختلف العلماء في ضابط ما تقبل فيه الشهادة بالاستفاضة؛ فتصح عند الشافعية في النسب قطعًا والولادة وفي الموت والعتق والولاء والوقف والولاية والعزل (ب) والنكاح وتوابعه والتعديل والتجريح والوصية والرشد والسَّفَه والملك، على الراجح في جميع ذلك، وبلغها بعض المتأخرين من الشافعية بضعة وعشرين موضعًا، وهي مستوفاة في "قواعد العلائي"، وعن أبي حنيفة: تجوز في النسب والموت والنكاح والدخول وكونه قاضيًا، زاد أبو يوسف الولاء، ¬

_ (أ) في ب، جـ: فالنسب بتعذر. والمثبت من سبل السلام 4/ 261. (ب) في ب، جـ: العدل. والمثبت من الفتح 5/ 254.

ومحمد الوقف. قال صاحب "الهداية" (¬1): وإنما أجيزا (أ) استحسانًا، وإلا فالأصل أن الشهادة لا بد فيها من المشاهدة. انتهى. 1176 - وعن ابن عباس رضي الله عنهما، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قضى بيمين وشاهد. أخرجه مسلم وأبو داود والنسائي، وقال: إسناده جيد (¬2). وعن أبي هريرة رضي الله عنه مثله. أخرجه أبو داود والترمذي، وصححه ابن حبان (¬3). وأخرج حديث ابن عباس الشافعي (¬4)، وزاد فيه: عن عمرو بن دينار أنه قال: وذلك في الأموال. قال الشافعي: وهذا الحديث ثابت لا يرده أحد من أهل العلم لو لم يكن فيه غيره، مع أن معه غيره مما شده. وقال البزار (¬5): في الباب أحاديث حسان أصحها حديث ابن عباس. وقال ابن عبد البر (¬6): لا مطعن لأحد في إسناده. كذا قال، ولكن قد قال عباس الدوري في "تاريخ يحيى بن معين" (¬7) عنه: ليس بمحفوظ. وقال ¬

_ (أ) في ب: أجيز.

البيهقي (¬1): أَعلّه الطحاوي بأنه لا يعلم قيسًا يحدث عن عمرو بن دينار بشيء. قال: وليس ما لا يعلمه الطحاوي لا يعلمه غيره. ثم روى (أ) البيهقي (¬2) حديث الذي وقصته ناقته عن قيس بن سعد (ب) عن عمرو بن دينار، يعني فقد ثبت روايته عنه، ثم قال البيهقي: وليس من شرط قبول الأخبار كثرة رواية الراوي عمن روى عنه، ثم إذا روى الثقة عمن لا ينكر سماعه منه حديثًا واحدًا، وجب قبوله وإن لم يرو عنه غيره، على أن قيسًا قد تابعه محمد بن مسلم الطائفي عن عمرو بن دينار في رواية عبد الرزاق، أخرجه أبو داود (¬3). وتابع عبد الرزاق أبو حذيفة، وقال الترمذي في "العلل" (¬4): سألت محمدًا عن هذا الحديث فقال: لم يسمعه عندي عمرو من ابن عباس. قال الحاكم (¬5): قد سمع عمرو من ابن عباس عدة أحاديث، وسمع من جماعة من أصحابه، فلا ينكر أن يكون سمع منه حديثًا وسمعه من بعض أصحابه عنه، وأما رواية عصام البلخي وغيره ممن زاد فيه بين عمرو وابن عباس طاوسًا، فهم ضعفاء. قال البيهقي (¬6): ورواية الثقات لا تعلل ¬

_ (أ) في جـ: رد. (ب) في ب، جـ: سعيد. والمثبت من مصدر التخريج. وينظر تهذيب الكمال 24/ 47.

برواية الضعفاء. وحديث أبي هريرة أخرجه أيضًا الشافعي (¬1). وقال ابن أبي حاتم في "العلل" عن أبيه (¬2): هو صحيح. ورواه البيهقي (¬3) من حديث مغيرة بن عبد الرحمن عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة. ونقل عن أحمد أن حديث الأعرج ليس في الباب أصح منه (¬4). وقد أخرج الحديث عن اثنين وعشرين من الصحابة (¬5)، عمر، وجابر، وسعد بن عبادة، وعمارة بن حزم، وأبو هريرة، وأُبي بن كعب، وزيد بن ثابت، وسُرَّق بن أسد، وعبد الله بن عمرو، وابن عباس، وقضى به علي في العراق، وابن عمر، وأبو سعيد، وعامر بن ربيعة، وسهل بن سعد، والمغيرة بن شعبة، وبلال بن الحارث، ومسلمة بن قيس، وأنس، وتميم الداري، وزُبَيب بن ثعلبة -بضم الزاي وفتح الباء الموحدة ثم مثناة تحت ساكنة ثم باء موحدة، وقيل: زنيب بالنون- وأم سلمة. الحديث فيه في دلالة على أنه يثبت القضاء بشاهد ويمين، وقد ذهب إليه جماهير من الصحابة والتابعين والأئمة وهم؛ علي وأبو بكر وعمر وعثمان وابن عباس وأُبي وعمر بن عبد العزيز وشُريح والشعبي وربيعة وفقهاء المدينة السبعة والناصر والهدوية ومالك والشافعي؛ لهذه الأحاديث الصحيحة، وذهب زيد بن علي والزهري والنخعي والأوزاعي وابن شُبرمة والثوري ¬

_ (¬1) الأم 6/ 255. (¬2) العلل لابن أبي حاتم 1/ 463، 464. (¬3) البيهقي 10/ 169. (¬4) التلخيص الحبير 4/ 192. (¬5) ينظر عمدة القاري 13/ 246، 247.

وأبو حنيفة وأصحابه وجمهور أهل العراق إلى أنه لا يجوز القضاء بشاهد ويمين؛ قالوا: لقوله تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} (¬1). وهذا يقتضي الحصر، والزيادة بالشاهد واليمين تخالفه، فإذا اعتبر مفهوم المخالفة كان المعنى: لا بغير ذلك. وزيادة الشاهد واليمين تكون نسخًا لمفهوم المخالفة عند من أثبته، أو على ما أصله الشيخ أبو الحسن الكرخي وأبو عبد الله البصري أن الزيادة باعتبار الشاهد واليمين على ما دلت عليه الآية من الاقتصار على الشاهدين أو الرجل والمرأتين- نسخ للاقتصار، وكذا على قول من قال: إن الزيادة على ما دل عليه (أالنص نسخ أ)؛ لأنها قد رفعت أجزاء المزيد عليه من دونها مطلقًا، سواء كانت الزيادة دالة على زيادة شطر لشيء؛ كزيادة ركعة في الفجر وزيادة التغريب في الحد، أو شرط؛ كزيادة وصف الإيمان في إعتاق رقبة بالإطلاق، وزيادة الطهارة على الطواف، أو رفع مفهوم مخالفة كما في هذا الذي نحن فيه. قالوا: ولا يصح نسخ العلوم بالمظنون، فوجب الاقتصار على ما دلت عليه الآية، وكذا قوله - صلى الله عليه وسلم - في مخاصمة الأشعث بن قيس: "شاهداك أو يمينه". أخرجه البخاري ومسلم (¬2). والجواب عن ذلك أن حديث ابن عباس صحيح كما عرفت، وهو متأيد بغيره كما نبهناك عليه، والآية الكريمة إن سلمنا دلالتها على مفهوم المخالفة الذي دلت عليه الآية ¬

_ (أ- أ) في جـ: التصريح.

الكريمة فالمفهوم ظني، فلا مانع أن ينسخها الحديث المذكور، وإن كان ظنيًّا فهو من باب نسخ الظني بالظني، وكذا الاقتصار على منطوق الآية ظني، وعلى ما حققه العلامة عضد الملة والدين والمدقق الفهامة سعد الدين رحمهما الله تعالى في "شرح مختصر ابن الحاجب" أنه لا نسخ حينئذٍ، وحاصل ذلك أن المرفوع بحديث الشاهد واليمين إنما هو عدم جواز الحكم به، وقوله تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} الآية. لم يثبته لا بمنطوقه ولا بمفهوم المخالفة؛ وذلك لأن الآية دلت على حصر طلب الاستشهاد؛ بمعنى أن اللازم رجلان على تقدير الإمكان، ورجل وامرأتان على تقدير التعذر، فإن منع المفهوم كما هو رأي الحنفية فلا نسخ، وإن سلم المفهوم فليس (أمفهوم قوله أ): {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ}. وقوله: {فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ}. سواء. أن غير هذا الاستشهاد ليس بمطلوب، بمعنى أن طلب الاستشهاد لم يتعلق إلا بهذين النوعين، وأما أنه لا يصح الحكم بغير هذين النوعين، فلا دلالة عليه للنص، لا بالمنطوق ولا بالمفهوم. انتهى. فيكون حديث الشاهد واليمين بيان حجة مستقلة يثبت بها الحق، وأما حديث: "شاهداك أو يمينه". فهذا الحديث مثله صحيح ظني فيعمل به فيما دل عليه صريحًا وإن خالف مفهوم: "شاهداك أو يمينه". وأجاب الإمام المهدي في "البحر" عن حجة الآخرين بالآية بقوله: قلنا: لم يصرح بإبطال ما روينا، فوجب الجمع. انتهى. وهذا الجواب مجمل لا يفيد المطلوب، ثم قال: وتوقف المؤيد بالله. قلنا: لا وجه موجب للتوقف، إذ الحجة الضعيفة إذا انضمت إلى القوية عمل بها، كالامرأتين مع الرجل. ¬

_ (أ- أ) في جـ: بمفهوم وقوله.

انتهى. ولا يخفى ركة الجواب والله أعلم. وفي وجه للشافعي وصححه الحنابلة أنه لا يقضى بالشاهد واليمين إلا إذا عدم الشاهدان. وقوله في زيادة الشافعي: وذلك في الأموال. يدل على أنه لا تثبت الحقوق والحدود بهما، قال الإمام المهدي في "البحر": ولا يحكم بذلك إلا في حق لآدمي محض لا في الحد والقصاص إجماعًا ثم قال: ولا في وقف وعتق إلا عن بعض أصحاب الشافعي. قلنا: فيهما (أ) حق لله تعالى فأشبها الحد. ثم قال: فرع: الهدوية: ويحكم بذلك في الحقوق؛ كالنكاح والطلاق والرجعة والوكالة والوصاية. الشافعي: لا، إلّا في الأموال وتوابعها؛ كالإبراء والكفالة والرد بالعيب. قلنا: والحقوق مقيسة، إذ لا فاصل. قلت: ويصح في غلة الوقف إذ هو مالي. انتهى. ولا يخفى أن النص حجة للشافعي، إلا أن الحقوق إذا كانت تئول إلى المال فقياسها قوي على المال، وأما الحق المحض فلا يصح قياسه لعدم الجامع. ثم قال الإمام في "البحر": فرع: ولا يحكم بامرأتين ويمين، إذ ضم ضعيف إلى ضعيف، كأربع نسوة أو يمينين. مالك: الامرأتان كالرجل. لنا ما مر، وكما لا يكفي في النكاح. انتهى. فائدة من "طبقات السبكي الكبرى" (¬1): حكى الكرابيسي عن معاوية أنه قبل شهادة أم سلمة لابن أخيها، وأجاز زُرارة شهادة أبي مجلز وحده، وأجاز شريح شهادة أبي إسحاق وحده، وأجاز شريح أيضًا شهادة أبي قيس ¬

_ (أ) في جـ: فهما.

على مصحف وحده. قال الكرابيسي: إن قال قائل: أجيز شهادة واحد. ارتد (أ)، فإن تاب وإلا قتل. قال: فإن قال قائل: هؤلاء من العلماء. قيل له: إنما يهدم الإسلام زَلَّةُ عالم ولا يهدمه ألف زلة جاهل. انتهى. وقد أخذ أبو مضر من قول المؤيد بالله: إن خبر الواحد مع القرينة قد يفيد العلم أن الحاكم إذا حصل له العلم بخبر الواحد جاز له الحكم إلا في الحدود. قال أبو مضر: أو ظن مقارب. قال: ولا فرق بين أن يكون المخبر عدلًا أو فاسقًا. قال الفقيه يحيى بن أحمد: هذا غلط، لأن الأمة أجمعت على اعتبار العدد. ومثل كلام أبي مضر قال المنصور بالله، قالوا: لأن الشهادة العادلة لا تحصل إلا الظن. والله سبحانه أعلم.

باب الدعوى والبينات

باب الدعوى والبينات الدعوى: اسم مصدر من ادعى شيئًا (أإذا زعم أن له حقًّا أو باطلًا، ومن دَعَاه إذا صاح به أ)، والبينات: جمع بينة، وهي الحجة الواضحة، سميت الشهادة بينة لوضوح الحق وظهوره بها. 1177 - عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لو يعطى الناس بدعواهم لادعى ناسٌ دماء رجال وأموالهم، ولكن اليمين على المدعَى عليه". متفق عليه (¬1)، وللبيهقي بإسناد صحيح (¬2): "البينة على المدعي، واليمين على من أنكر". أخرجه البيهقي بإسناد حسن، قال المصنف رحمه الله (¬3): وزعم الأصيلي أن قوله: "البينة". إلى آخره إدراج في الحديث، حكاه القاضي عياض، وفي الباب عن مجاهد عن ابن عمر لابن حبان (3) في حديث، وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أخرجه الترمذي (¬4)، وأخرجه الدراقطني (¬5) بإسناد ضعيف بمسلم بن خالد الزنجي مولى بني مخزوم (ب)، قال الذهبي في ¬

_ (أ- أ) في جـ: ومن دعاه إذا صاح به له وأزعم أنه له حقا أو باطلا. (ب) في حاشية ب: فقيه صدوق كثير الأوهام من الثامنة مات سنة تسع و [سبعين] أو بعدها، روى له أبو داود وابن ماجة، تقريب. وينظر التقريب ص 529.

"الكاشف" (¬1): وثق، ضعفه أبو داود الكثرة غلطه. وهذا الحديث دل على قاعدة كبيرة (أ) من قواعد أحكام الشرع؛ وهو أنه لا يقبل قول الإنسان فيما يدعيه لمجرد دعواه، بل يحتاج إلى بينة أو تصديق المدعَى عليه، فإن طلب يمين المدعَى عليه فله ذلك، وقد بين - صلى الله عليه وسلم - الحكمة في كونه لا يعطى بمجرد دعواه؛ لأنه لو أعطي بمجردها لادعى قومٌ دماء قوم وأموالهم واستبيح ذلك، ولا يمكن المدعى عليه أن يصون دمه وماله، وأما المدعي فيمكنه صيانتهما بالبينة، ودل على ما ذهب إليه الجمهور من سلف الأمة وخلَفها أن اليمين تتوجه على كل من ادُّعي عليه حق (ب)، سواء كان بينه وبين المدعي اختلاط أم لا، وقال مالك وجمهور أصحابه والفقهاء السبعة المدنيون: إن اليمين لا تتوجه إلا على من بينه وبين المدعي خلطة؛ لئلا [يبتذل] (جـ) السفهاء أهل الفضل بتحليفهم مرارًا في اليوم الواحد، فاشترطت الخلطة دفعًا لهذه المفسدة. والخلطة قيل: هي معرفته بمعاملته ومداينته بشاهد أو شاهدين. وقيل: تكفي الشبهة، بأن تكون الدعوى مما يليق مثلها بمثله. وقيل: أن يليق بالمدعي أن يعامل المدعى عليه بمثلها. وذهب الإصطخرى من الشافعية أن قرائن الأحوال إذا شهدت ¬

_ (أ) في جـ: كثيرة. (ب) في جـ: شيء. (جـ) في ب: يتبذل، وفي جـ: يتبدل. والمثبت من شرح مسلم 12/ 3، والفتح 5/ 283.

بكذب المدعي لم يتلفت إلى دعواه، ويجاب عنهم بأن الحديث مطلق، ولم يدل على اشتراط الخلطة كتابٌ ولا سنة ولا إجماع، ولعل المستند مثل حديث: "لا ضرر ولا ضرار في الإسلام" (¬1). فإذا لم يكن بينهما ما يظن من أسباب الخلطة التي تشكك في ثبوت الدعوى كان مجرد ضرار منهي عنه، قال العلماء: والحكمة في كون البينة على المدعي أن جانب المدعي ضعيف؛ لأنه يدعي خلاف الظاهر، فكلف الحجة القوية وهي البينة، فيقوى بها ضعف المدعي، وجانب المدعى عليه قوي؛ لأن الأصل فراغ ذمته، فاكتفي منه باليمين. وهي حجة ضعيفة؛ لأن الحالف يجلب النفع لنفسه ويدفع الضرر عنها. وقد اختلف في تعريف المدعي والمدعَى فقيل: المدعي من يُخلَّى وسكوتَه. وقيل: من معه أخفى الأمرين. والمدعى عليه بخلافه في الطرفين. 1178 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - عرض على قوم اليمين فأسرعوا، فأمرهم أن يُسهم بينهم في اليمين أيهم يحلف. رواه البخاري (¬2). الحديث أخرجه البخاري عن أبي هريرة بهذا اللفظ، وأخرجه النسائي (¬3) أيضًا عن محمد بن رافع عن عبد الرزاق، وقال فيه: فأسرع الفريقان. وقد رواه أحمد (¬4) عن عبد الرزاق شيخ شيخ البخاري فيه بلفظ: ¬

_ (¬1) أحمد 1/ 313، وابن ماجه 2/ 784 ح 2341. (¬2) البخاري، كتاب الشهادات، باب إذا تسارع قوم في اليمين 5/ 285 ح 2674. (¬3) النسائي في الكبرى، كتاب القضاء، باب الاستهام على اليمين 3/ 487 ح 6001. (¬4) أحمد 2/ 317.

"إذا أكره الاثنان على اليمين فاستحباها فليستهما عليه". وأخرجه أبو نعيم في "مسند إسحاق بن راهويه" (¬1) عن عبد الرزاق مثل رواية البخاري، و [تعقبه بأنه رآه] (أ) في أصل إسحاق عن عبد الرزاق باللفظ الذي رواه أحمد، وأخرجه أبو داود (¬2) عن أحمد وسلمة بن شبيب عن عبد الرزاق بلفظ: "أو استحباها". قال الإسماعيلي (¬3): هذا هو الصحيح. أي أنه بلفظ "أو" لا بالفاء ولا بالواو، وقد أخرجها الإسماعيلي من طريق عبد الرزاق بالواو. وحديث أبي هريرة المذكور أوَّلًا يحتمل أنه ورد في حق جماعة وجبت عليهم اليمين؛ بأن يكونوا مدعّى عليهم وتسارعوا من يحلف أوَّلًا، فإنه يقرع بينهم، وأما رواية: "إذا (ب) أكره". فقال الخطابي (3): لا يراد به حقيقته (جـ)؛ لأن الإنسان لا يكره على اليمين، وإنما المعنى إذا توجهت اليمين على اثنين وأرادا الحلف، سواء كانا كارهين لذلك بقلبهما، وهو معنى الإكراه، أو مختارين لذلك بقلبهما، وهو معنى الاستحباب، وتنازعا أيهما يبدأ، فلا يقدم أحدهما إلا بالقرعة، وهو المراد بقوله: "فليستهما". وقيل صورة الاشتراك في اليمين أن يتنازع اثنان عينًا ليست في يد واحد منهما، ¬

_ (أ) في ب، جـ: تعقب بأنه رواه. والمثبت من الفتح 5/ 286. (ب) في جـ: إذ ما. (جـ) في جـ: حقيقه.

ولا بينة لواحد منهما، ويكون هذا موافقًا لما رواه أبو داود والنسائي (¬1) من طريق أبي رافع عن أبي هريرة، أن رجلين اختصما في متاع ليس لواحد منهما بيّنة، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "استهما على اليمين ما كان أحبا ذلك أو كرها". ويكون مفهوم الحديث أن يحلف من خرجت له القرعة ويستحقها. ولم أطلع على قول لأحد من الأئمة بمقتضى هذا المفهوم، والذي في كتب الفروع في الشيء المدعَى؛ إن كان عليه يد فالقول قول صاحب اليد واليمين عليه، وهو الموافق لحديث ابن عباس، وإن لم يكن عليه يد فهو لمن بيَّن أو حلف، فإن بيَّنا جميعًا أو تحالفا فبينهما. ذكره الإمام يحيى، وإن نكلا فلا شيء لهما. وقالت الهدوية: يقسم. وقال الفقهاء المفرِّعون على أصل الهادي: لا يقسم وإن حلفا، إذ (أ) مع عدم البينة هو كاللقطة. وأجاب الإمام المهدي بالفرق، وذلك أن يد الملتقط يد لبيت المال بخلاف ما لا يد عليه لأحد، فدعواه مع اليمين كاليد، ولم يكتف بالدعوى، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لو أعطي الناس بدعاويهم". الحديث. 1179 - وعن أبي أمامة الحارثي رضي الله عنه، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه، فقد أوجب الله له النار وحرم الله عليه الجنة". فقال له رجل: وإن كان شيئًا يسيرًا يا رسول الله؟ قال: "وإن كان قضيبًا من أراك". رواه مسلم (¬2). ¬

_ (أ) في جـ: أو.

الحديث فيه دلالة على وعيد من حلف ليأخذ حقًّا على غيره، أو يسقط عن نفسه حقًّا استحقه غيره. وفي لفظ: "حق". دلالة على حصول الوعيد على من غصب ما ليس بمال؛ كجلد الميتة والسرجين (أ) (¬1) وغير ذلك من النجاسات التي ينتفع بها، وكذلك سائر الحقوق التي ليست بمال؛ كحد القذف ونصيب الزوجة في القسم وغير ذلك، والمال كذلك، فإنه يشمله الحق. وقوله: "مسلم". التقييد بالمسلم ليس لإخراج غير المسلم، فأما على قول من لا (ب) يقول بالمفهوم فالذكر لا يلزم منه أن غير المذكور بخلافه، وأما على قول من يقول بالمفهوم فيقول: المفهوم هنا غير معمول به؛ لأن المخاطب بذلك المسلمون، فخصهم بالذكر، أو لأن أكثر المعاملة بين المسلمين، فلا يلزم منه مغايرة غير المسلم في الحكم، بل الذمي كذلك، ويحتمل أن تكون هذه العقوبة العظيمة إنما تختص بمن اغتصب حق المسلم دون الذمي وإن كان محرمًا. وقوله: "وإن كان قضيبًا من أراك". مبالغة في تحريم حق المسلم، وأنه يستوي فيه قليل الحق (جـ) وكثيره. ¬

_ (أ) في جـ: السرحى. (ب) ساقطة من: جـ. (جـ) في ب: المال.

وقوله: "فقد أوجب الله له" إلخ. محمول على عدم التوبة، وأما إذا تاب وتخلص مما عليه، فإن الله سبحانه وتعالى يغفر الذنوب جميعًا إنه هو الغفور الرحيم. وفيه دلالة لمذهب الجمهور أن حكم الحاكم لا ينفذ باطنًا وإن نفذ ظاهرًا، وقد تقدم ذلك. 1180 - وعن الأشعث بن قيس رضي الله عنه، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من حلف على يمين يقتطع بها مال امرئ مسلم، هو فيها فاجرٌ، لقي الله وهو عليه غضبان". متفق عليه (¬1). هو أبو محمد الأشعث -بالشين المعجمة والعين المهملة والثاء المثلثة- ابن قيس بن معد يكرب الكندي، قدم على النبي - صلى الله عليه وسلم - في وفد كندة، وكان رئيسهم، وذلك في سنة عشر، كان رئيسًا (أ) في الجاهلية، مطاعًا في قومه، وكان وجيهًا في الإسلام، وارتد عن الإسلام لما مات النبي - صلى الله عليه وسلم -، ثم راجع الإسلام في خلافة أبي بكر، وخرج مع سعد بن أبي وقاص إلى العراق فشهد القادسية والمدائن وجلولاء ونهاوند، ونزل الكوفة ومات بها سنة اثنين وأربعين، وصلى عليه الحسن بن علي وهو بها أيامَ صالح معاوية، وقيل: مات سنة أربعين بعد موت علي بأربعين يومًا. روى عنه ابنه محمد وقيس ابن ¬

_ (أ) في جـ: رأسا.

ابنه وقيس بن أبي حازم وأبو وائل والشعبي وإبراهيم النخعي وعبد الرحمن بن عدي الكندي (¬1). قوله: "هو فيها فاجرٌ". أي إذا كان متعمدًا عالمًا بأنه غير محق، والتقييد لا بد منه؛ لأنه لا وعيد يستحقه الحالف إلا إذا كان بهذه الصفة. وقوله: "وهو عليه غضبان". وفي رواية: "معرض". المراد به إرادته بُعد المغضوب عليه من رحمته وتعذيبُه وإنكارُ فعله وذمُّه (¬2)، وهو مقيد بأن يموت ولم يتب، والله أعلم. 1181 - وعن أبي موسى رضي الله عنه، أن رجلين اختصما في دابة ليس لواحد منهما بينة، فقضى بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بينهما نصفين. رواه أحمد وأبو داود والنسائي (¬3) وهذا لفظه، وقال: إسناده جيد. وأخرج الحديث الحاكم (¬4)، وأخرجه البيهقي (¬5) وذكر الاختلاف فيه على قتادة، وقال: هو معلول للاختلاف فيه على سعيد بن أبي عروبة؛ فقيل: عنه عن قتادة عن سعيد بن أبي بردة عن أبيه عن أبي موسى. وقيل: عنه عن سماك بن حرب عن تميم بن طرفة، قال: أنبئت أن رجلين. قال ¬

(¬1) ينظر تهذيب الكمال 3/ 286، والإصابة 1/ 87. (¬2) مذهب السلف وسائر الأئمة إثبات صفة الغضب والرضا والعداوة والولاية والحب والبغض ونحو ذلك من الصفات التي ورد بها الكتاب والسنة، ومنع التأويل الذي يصرفها عن حقائقها اللائقة بالله تعالى. شرح العقيدة الطحاوية 2/ 685. (¬3) أحمد 4/ 402، وأبو داود، كتاب الأقضية، باب الرجلين يدعيان شيئًا 3/ 309 ح 3613، والنسائي، كتاب آداب القضاة، باب القضاء فيمن لم تكن له بينة 8/ 248. (¬4) الحاكم 4/ 94، 95. (¬5) البيهقي 6/ 67، 10/ 254.

سماك بن حرب: أنا حدثت أبا بردة بهذا الحديث (¬1). فعلى هذا لم يسمع أبو بردة هذا الحديث من أبيه، ورواه أبو كامل مظفر بن مدرك عن حماد عن قتادة عن النضر بن أنس عن أبي بردة مرسلًا، قال حماد: [فحدثت] (أ) به سماك بن حرب، قال: أنا حدثت به أبا بردة (¬2). وقال الدارقطني والبيهقي والخطيب (¬3): الصحيح أنه عن سماك مرسلًا، ورواه ابن أبي شيبة (¬4) عن [أبي] (ب) الأحوص عن سماك عن تميم بن طرفة أن رجلين ادعيا بعيرًا، فأقام كل واحد منهما البينة أنه له، فقضى النبي - صلى الله عليه وسلم -[به] (جـ) بينهما. ووصله الطبراني (¬5) بذكر جابر بن سمرة فيه بإسنادين في أحدهما حجاج بن أرطاة (¬6) والراوي عنه سُويد بن عبد العزيز (¬7)، وفي [الآخر] (د) ياسين الزيات (¬8)، والثلاثة ضعفاء. ¬

_ (أ) في ب، جـ: فحدث. والمثبت من التلخيص الحبير 4/ 210. (ب) في ب، جـ: ابن. والمثبت من مصدر التخريج، وينظر تهذيب الكمال 12/ 282. (جـ) ساقطة من ب، جـ. والمثبت من مصدر التخريج. (د) في ب، جـ: الأخرى. والمثبت من التلخيص الحبير 4/ 210.

وهذا حديث أبي بردة في أكثر ألفاظه بعير. وفي لفظ: في شيء (¬1). وفي لفظ: في دابة. وفي لفظ أبي داود: بعيرًا أو دابة. وفي النسائي بلفظ: دابة. من غير شك. الحديث محمول على أن الدابة في أيدي المتداعيين كما بوب على ذلك البيهقي (¬2)، قال: باب المتداعيين يتنازعان المال وما يتنازعان في أيديهما معًا، ثم قال: قال الشافعي: فهو بينهما نصفان، فإن لم يجد واحد منهما بينة أحلفنا كل واحد منهما على دعوى صاحبه. ثم ساق حديث أبي موسى. وقد ذكر الإمام المهدي في "البحر" تفصيل المسألة والخلاف فيها، قال: ومتى كان المدعَى في أيديهما أو مقر لهما -قلت: أو لواحدٍ غير معين- فلِمَن بَيَّن أو حلف أو نكل صاحبه دونه، فإن بينا أو حلفا أو نكلا؛ ابن عمر وابن الزبير والثوري والهدوية وأبو حنيفة وأصحابه والشافعي: يقسم نصفين؛ لفعله - صلى الله عليه وسلم - في متداعيي البعير، لكن حيث بيّنا أو نكلا استحق كل واحد ما في يد خصمه ببينته، والنكول كالإقرار، وحيث لا بينة يتحالفان ويقسم؛ إذ كلٌّ مُدعٍ ومنكر، فيحلف كلٌّ فيما أنكره ولا يعطى ما ادعاه؛ لعدم البينة. الناصر ومالك والشافعي: بل تتهاتر البينتان (أ)؛ لتيقن كذب ¬

_ (أ) في جـ: البينات. وتهاترت البينات إذا تساقطت وبطلت. المصباح المنير (هـ ت ر).

إحداهما، ولا تحالف (أ) مع عدمهما، فتقر مع ذي اليد، كتساقط الخبَرين والقياسين حيث تعارضا. الإمام يحيى: بل يحتمل صدقهما؛ لصحة تصرف كل واحد في كله تصرف المالك، فحملتا على الشركة؛ إذ الواجب التلفيق (¬1) ما أمكن. للشافعي: يقرع بينهما. للشافعي: بل يوقف حتى يصطلحا. قلنا: لا دليل. انتهى. ورواية: أنه أقام كل واحد منهما بينة. قال ابن رسلان في "شرح السنن": يحتمل أن تكون القصة في هذا الإسناد والذي قبله واحدة، إلا أن البيِّنتين لما تعارضتا تساقطتا وصارتا كالعدم، وحكم لهما نصفين؛ لاستوائهما في اليد، ويحتمل أن يكون الحديث الأول في عين كانت في يدهما، ويدل عليه أن في رواية ابن ماجه (¬2): اختصم إليه رجلان بينهما دابة. والحديث الثاني: كانت العين في يد ثالث لا يدعيها. يدل عليه رواية النسائي (¬3) بلفظ: ادعيا دابة وجداها عند رجل، فأقام كل واحد (ب) منهما شاهدين، فلما أقام كل واحد شاهدين نزع من يده ودفع [إليهما] (جـ) ليقتسماه بينهما نصفين. وهذا أظهر؛ لأن حمل الإسنادين على معنيين متعددين أرجح من حملهما على معنى واحد. ¬

_ (أ) في جـ: يخالف. (ب) ساقطة من: ب. (جـ) في ب، جـ: إليه. والمثبت يقتضيه السياق.

1182 - وعن جابر (أ) رضي الله عنه، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من حلف على منبري هذا بيمين آثمة تبوأ مقعده من النار". رواه أحمد وأبو داود والنسائي وصححه ابن حبان (¬1). وأخرجه البيهقي (¬2) من طريق الشافعي. الحديث فيه دلالة على عظم (ب) إثم من حلف اليمين الآثمة على منبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وقد اختلف العلماء في تغليظ التحليف بالمكان والزمان، هل يجوز للحاكم أم لا؟ وهذا الحديث لا يدل على ذلك، وإنما فيه دلالة على وعيد من فعل اليمين الفاجرة فقط، وقد ذكره البيهقي في باب تأكيد اليمين بالمكان، فذهب العترة والحنفية إلى أنه لا تغليظ بمكان ولا زمان، والحنابلة كذلك، والمراد أنه لا يجب على الحالف الإجابة إلى ذلك، وذهب الجمهور إلى وجوب التغليظ؛ ففي المدينة المشرفة على المنبر، وفي مكة بين الركن والمقام، وفي غيرهما في المسجد الجامع، واحتج من لم يقل بالتغليظ ¬

_ (أ) كتب في هامش ب: هكذا في بعض نسخ المتن وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قضى بشاهد ويمين. رواه الشافعي وأصحاب السنن وابن حبان، وقال ابن أبي حاتم: إنه صحيح. ورواه البيهقي أيضًا. وحديث أبي هريرة رضي الله عنه تقدم برقم 1076 من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. (ب) في جـ: عظيم.

بالأحاديث الواردة في اليمين كقوله: "شاهداك أو يمينه" (¬1). وغيره، ولم يذكر معها تغليظ؛ ولذلك بوب البخاري (¬2): باب: يحلف المدعَى عليه حيثما وجبت عليه اليمين ولا يصرف من موضع إلى غيره، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "شاهداك أو يمينه". ولم يخص مكانًا دون مكان. انتهى. وهذا من جودة فقه البخاري وقوة استنباطه، ولا يعترض عليه بما بوب قبله: باب: اليمين بعد العصر. وذكر فيه حديث أبي هريرة (¬3): "ثلاثة لا يكلمهم الله ... " الحديث، وفيه: "ورجل ساوم بسلعته بعد العصر". انتهى. ولعله يقول: ورد التغليظ بالزمان فيكون خاصا كما في الحديث، وكما في قوله تعالى: {تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ} (¬4). وقد فسرت بصلاة العصر، إلا أنه يرد عليه: القياس يقضي بالتغليظ بالكان قياسًا على الزمان. واحتج الجمهور لهذا بحديث جابر وحديث أبي أمامة مرفوعًا: "من حلف عند منبري هذا بيمين كاذبة يستحل بها مال امرئ مسلم فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه صرفًا ولا عدلًا". أخرجه النسائي (¬5) ورجاله ثقات، وأخرج الكرابيسي (¬6) في "أدب القضاء" بسند قوي إلى سعيد ابن المسيب قال: ادعى مدع على آخر أنه اغتصب له بعيرًا، فخاصمه إلى عثمان، فأمره عثمان أن يحلف عند المنبر، فأبى أن يحلف وقال: أحلف له ¬

_ (¬1) تقدم في ص 62. (¬2) البخاري 5/ 284 عقب ح 2672. (¬3) البخاري 5/ 284 ح 2672. (¬4) الآية 106 من سورة المائدة. (¬5) النسائي في الكبرى 3/ 492 ح 6019. (¬6) الكرابيسي -كما في الفتح 5/ 285.

حيث شاء غير المنبر. فأبى عليه عثمان أن يحلف إلا عند المنبر، فغرم له بعيرًا مثل بعيره ولم يحلف. وأخرج البيهقي (¬1) من طريق الشافعي عن أبي غطفان (أابن طريف أ) المري قال: اختصم زيد من ثابت وابن مطيع إلى مروان بن الحكم في دار، فقضى باليمين على زيد بن ثابت على المنبر، فقال زيد: أحلف له مكاني. فقال مروان: لا والله إلا عند مقاطع الحقوق. فجعل زيد يحلف أن حقه لحق، ويأبي أن يحلف على المنبر، فجعل مروان يعجب من ذلك. قال مالك: كره زيد صبر اليمين. وأخرج (1) عن الشافعي قال: وبلغني أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه حلف على المنبر في خصومة كانت بينه وبين رجل، وأن عثمان رضي الله عنه ردت عليه اليمين على المنبر فاتقاها وافتدى منها، وقال: أخاف أن يوافق قدر بلاء فيقال: بيمينه. وأخرج (1) عن ابن عباس أنه سئل عن امرأة شهدت أنها أرضعت امرأة وزوجها، فقال: استحلفها عند المقام؛ فإنها إن كانت كاذبة لم يحل عليها الحول حتى يَبيَضَّ ثدياها. فاستحلفت فحلفت، فلم يحل عليها الحول حتى ابيض ثدياها. وأخرج (¬2) عن الشعبي قال: قُتل رجل فأدخل عمر بن الخطاب الحجرة من المدعَى عليهم خمسين رجلًا، فأقسموا: ما قتلنا ولا ¬

_ (أ- أ) في جـ: من طريق.

علمنا قاتلًا. وأخرج (¬1) عن عطاء بن أبي رباح، أن رجلًا قال لامرأته: حبلك على غاربك. مرارًا، فأتى عمر بن الخطاب، فاستحلفه بين الركن والمقام: ما الذي أردت بقولك؟ وهما مرسلان يؤكد أحدهما الآخر، وأخرج (1) من طريق الشافعي عن المهاجر بن أبي أمية قال: كتب إليَّ أبو بكر الصديق رضي الله عنه أن ابعث إليّ بقيس بن مكشوح في وثاق، فأحلفه خمسين يمينا عند منبر النبي - صلى الله عليه وسلم - ما قتل دادوي (أ). قال الشافعي (¬2): وهذا قول حكام المكيين ومفتيهم. قال الشافعي: وأخبرني مسلم والقداح عن ابن جريج عن عكرمة ابن خالد، أن عبد الرحمن بن عوف رأى قوما يحلفون بين المقام والبيت، فقال: أعلى دم؟ فقالوا: لا. قال: فعلى عظيم من الأموال (ب)؟ قالوا: لا. قال: لقد خشيت أن يبهأ (جـ) الناس بهذا المقام. أي [يأنسوا] (د) به فتذهب (هـ) هيبته من (و) قلوبهم. قال أبو عبيد (¬3): بَهَأت بالشيء إذا أنِسْت ¬

_ (أ) كذا في ب، جـ، وسنن البيهقي. وفي إحدى نسخه كما في حاشية السنن: داذوي. وقد اختلف في ضبط اسمه، فورد: داذويه، وبزادويه، ودادويه. والأكثر على داذويه. وينظر الإصابة 2/ 397، 425. (ب) كذا في ب، جـ، وسنن البيهقي 10/ 176، وفي الأم 7/ 34: الأمر. (جـ) في الأم 7/ 34: يتهاون. (د) في ب، جـ: يأنس. والمثبت من سنن البيهقي 10/ 176. (هـ) في جـ: فيذهب. (و) في جـ: في.

به. قال الشافعي (¬1): ذهبوا إلى أن العظيم من الأموال عشرون دينارًا. و [قال مالك] (أ): يحلف على ربع دينار. لانه نصاب السرقة عنده. فهذه الآثار عن الصحابة تدل على أن التغليظ بالمكان شائع ذائع واجب إذا طلبه الخصم؛ لأنه لو كان غير واجب لما امتنع البعض منه وافتدى منه بالمال. وقال الإمام يحيى: إن التغليظ يستحب وليس بواجب. وقال أبو علي بن أبي هريرة من أصحاب الشافعي: يستحب أيضًا في القليل كالكثير؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "ولو على أراك" (¬2). قال الإمام المهدي: والأقرب أنه موضع اجتهاد للحاكم واستحسانه جنسًا وقدرًا. قال: كما أشار إليه الشافعي حيث قال: استحسنت له ذلك. انتهى. وظاهر كلام الشافعي الذي نقله عنه البيهقي الوجوب. والله أعلم. وقد ورد التغليظ بالزمان كما في قوله تعالى: {تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ} (¬3). قال الشافعي (¬4): وقال المفسرون: صلاة العصر. قال البيهقي (¬5): قد روينا عن الشعبي في مثل قصة الآية الكريمة عن أبي موسى الأشعري: وأحلفهما بعد العصر ما خانا. وأخرج (5) في حديث الثلاثة الذين لا يكلمهم. الحديث: "ورجل ساوم رجلًا على سلعة بعد العصر، فحلف بالله لقد أعطي بها كذا وكذا. فصدقه الآخر". ¬

_ (أ) في ب: قالوا. وفي جـ: قال. والمثبت من الأم 7/ 34.

(أعن أبي هريرة أ). وعن أبي هريرة (¬1) أيضًا: "ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولا ينظر إليهم؛ رجل حلف على مال امرئ مسلم بعد صلاة العصر فيقتطعه ... " الحديث. أخرجاهما في "الصحيحين" (¬2)، و (ب) قال الخطابي (¬3): خص وقت العصر بتعظيم الإثم فيه وإن كانت اليمين الفاجرة محرمة في كل وقت؛ لأن الله تعالى (جـ) عظم شأن هذا الوقت بأن جعل الملائكة تجتمع فيه، وهو وقت ختام الأعمال، والأمور بخواتيمها، فغلظت العقوبة فيه؛ لئلا يقدم عليها تجرؤا، فإن من تجرأ عليها فيه اعتادها في غيره. وكان السلف يحلفون بعد العصر، وكذلك التحليف على المصحف. أخرج البيهقي (¬4) عن الشافعي قال: أخبرني مُطَرف بن مازن (جـ) بإسناد لا أحفظه أن ابن الزبير أمر أن يحلف على المصحف. قال الشافعي: ورأيت مطرفًا بصنعاء يحلف على المصحف. قال الشافعي (¬5): وقذ كان من حكام الآفاق من يستحلف علي المصحف، وذلك عندي حسن. قال الإمام يحيى: وفي المساجد لشرفها، وعلى المصاحف لحرمتها؛ فيضع يده على المصحف. ¬

_ (أ- أ) ساقطة من: ب. (ب) ساقطة من: ب. (جـ) في جـ: به. (د) في جـ: ماران. وينظر ميزان الاعتدال 4/ 125.

ويكره اختصاص شيء من الحجارة، إذ فيه تشبه (أ) بالوثنيين؛ كما يفعل في مؤخر جامع صنعاء عند الحجر الأخضر، وهي في شرقي جامع صنعاء. انتهى (ب). 1183 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا ينظر إليهم، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم، رجل على فضل ماء بالفلاة يمنعه ابن السبيل، ورجل بايع رجلًا بسلعة بعد العصر فحلف له بالله: لأخذها بكذا وكذا. فصدقه وهو على غير ذلك، ورجل بايع إمامًا لا يبايِعه إلا للدنيا، فإن أعطاه منها وفي، وإن لم يعطه منها لم يف". متفق عليه (¬1). قوله: "لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا ينظر إليهم". هذا كناية عن غضبه تعالى عليهم، وإشارة إلى حرمانهم عما عند الله من المنازل والقرب، فإن من سخط على غيره واستهان به أعرض عنه وعن التكلم معه والالتفات نحوه، كما أن من اعتد (جـ) بغيره يقاوله ويكثر النظر إليه (¬2). "ولا يزكيهم". أي: لا يطهرهم من الذنوب ولا يثني عليهم. ¬

_ (أ) في جـ: شبيه. (ب) ساقطة من: ب. (جـ) في جـ: اعيد.

"ولهم عذاب أليم". على ما فعلوا. لفظ: "ولا ينظر إليهم". زادها جرير من رواية الأعمش وسقط من روايته لفظ: "يوم القيامة". وسقط من روايته: "ولا يكلمهم". وثبت هذا اللفظ جميعه من رواية معاوية عن الأعمش عند مسلم على وفق الآية التي في "آل عمران" وقال في آخر الحديث: ثم قرأ هذه الآية: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا} (¬1). وقوله: "رجل على فصل ماء". جاء في رواية (¬2): "رجل كان له فضل ماء منعه من ابن السبيل". والمقصود واحد، وجاء في رواية البخاري "بالطريق" بدل "الفلاة". وقد تقدم في كتاب البيع الكلام عليه (¬3). وقوله: "لأخذها بكذا". جاء في رواية البخاري (¬4): "لقد أُعطي بها كذا وكذا". مضبوطًا بضم الهمزة وكسر الطاء على البناء للمجهول، وفي بعض نسخه بفتح الهمزة وفتح الطاء على البناء للفاعل، والضمير للحالف، وهي أرجح لمطابقتها لرواية: "لأخذها بكذا". وقوله: "فصدقه". أي المشتري. وقوله: "وهو على غير ذلك". الضمير في "وهو" إلى الآخذ المدلول عليه بالفعل بأقل مما ذكره الحالف، وفي نسخ البخاري (4): "فصدقه فأخذها" ¬

_ (¬1) الآية 77 من سورة آل عمران. (¬2) البخاري 5/ 34 ح 2358. (¬3) تقدم في 6/ 56 - 61. (¬4) الفتح 12/ 202.

أي (أ) المشتري، "ولم يعط بها القدر". أي القدر الذي حلف أنه عوضها. وقوله: "ورجل بايع إمامًا". جاء في رواية: "إمامه". وهذا حكم المؤلفة قلوبهم. وفي الحديث وعيد شديد في نكث البيعة والخروج على الإمام؛ لما في ذلك من تفريق الكلمة، ولما في الوفاء من تحصين الفروج والأموال وحقن الدماء. والأصل في مبايعة الإمام أن يبايعه على أن يعمل بالحق ويقيم الحدود ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، فمن جعل مبايعته لمال يعطاه دون ملاحظة المقصود في الأصل، فقد خسر خسرانًا مبينًا، ودخل في الوعيد المذكور، وجاء في رواية البخاري (¬1) عوض الثالث: "ورجل حلف على يمين كاذبة بعد العصر ليقتطع بها مال رجل مسلم". قال الكرماني (¬2): ولا منافاة؛ لأن التخصيص بعدد لا ينفي ما زاد عليه، يعني أن [الراويين] (ب) حفظ أحدهما ما لم يحفظ الآخر، فالمجتمع من الحديثين أربع خصال، وكل من الحديثين مصدر بثلاثة، فكأنه كان في الأصل أربعة، فاقتصر كل من الراويين على واحد ضمه مع الاثنين اللذين توافقا عليهما، فصار في رواية كل منهما ثلاثة، وقد أخرج مسلم (¬3) حديث أبي هريرة ولكن قال: "وشيخ زان، ¬

_ (أ) في جـ: إلى. (ب) في ب، جـ: الروايتين. والمثبت من الفتح 13/ 202.

وملك كذاب، وعائل مستكبر". وأخرج من حديث أبي ذر (¬1) عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة، المنان الذي لا يعطي شيئًا (أ) إلا منه، والمنفق سلعته بالحلف الفاجر، والمسبل إزاره". ويجتمع من مجموع هذه الأحاديث تسع خصال، ويحتمل أن تبلغ عشرًا، لأن النفق سلعته بالحلف الكاذب مغاير للذي حلف: لقد أعطى بها كذا. لأن هذا خاص بمن يكذب في أعمال الشراء، والذي قبله أعم منه، فتكون خصلة أخرى. 1184 - وعن جابر رضي الله عنه، أن رجلين اختصما في ناقة فقال كل واحد منهما: نُتِجت عندي. وأقاما (ب) بينة، فقضى بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لمن هي في يده (¬2). الحديث أخرجه البيهقي (¬3) ولم يضعف إسناده، وأخرج أيضًا من طريق الشافعي نحوه (3) إلا أن فيه: تداعيا دابة. ولم يضعف إسناده أيضًا، وأخرج عبد الرزاق (¬4) عن يحيى [بن] (جـ) الجزار قال: اختصم إلى علي رجلان في دابة وهي في يد أحدهما، فأقام هذا بينة أنّها دابته فقضى بها للذي هي في ¬

_ (أ) في جـ: شيء. (ب) في مصدري التخريج: أقام. (جـ) ساقطة من: ب، جـ. والمثبت من مصدر التخريج، وينظر تهذيب الكمال 31/ 251.

يده. قال: وقال علي: إن لم تكن في يد واحد منهما، فأقام كل واحد منهما بينة أنها دابته فهي بينهما. الحديث فيه دلالة على أن اليد مرجحة للشهادة الموافقة لها، وقد ذهب إلى هذا الشافعي ومالك وشريح والنخعي وأبو ثور والحكم (أ)، قال الشافعي رحمه الله تعالى: يقال لهما: قد استويتما في الدعوى والبينة، وللذي (ب) هو في يده سبب بكينونته في يده هو أقوى من سببك؛ فهو له بفضل قوة سببه، وفيه سنة بمثل ما قلنا. فذكر الحديث. وذهب الناصر والهادي والمؤيد وأبو طالب وأبو العباس وأحمد بن حنبل إلى أنها ترجح بينة الخارج، وهو من لم تكن في يده، قالوا: إذ شرعت له وللمنكر اليمين، وإذ قوله - صلى الله عليه وسلم -: "البينة على المدعي" (¬1). يقتضي ألا تفيد بينة المنكر، وروي عن علي رضي الله عنه أنه قال: من كان في يده شيء (جـ) فبينته لا تعمل له شيئًا. ذكره في "البحر"، وقد يجاب عن ذلك بأن حديث جابر خاص وحديث: "البينة على المدعي". عام، والخاص مخصص، وحديث علي رضي الله عنه معارض بما سبق. وذهب القاسم في إحدى الروايتين عنه أنه يقسم بينهما؛ لأن اليد مقوية لبينة الداخل، فساوت بينة الخارج، والرواية الأخرى كقول الشافعي، وذهب أبو حنيفة وأصحابه إلى أنها ترجح بينة الخارج حيث شهدت بملك مطلق أو مضاف إلى سبب يتكرر؛ كالمصبوغ الذي يتكرر بسبب صبغته حسب (جـ) ¬

_ (أ) في جـ: الحاكم. (ب) في جـ: الذي. (جـ) ساقطة من: جـ.

الحاجة، وذلك فيما يصاغ من الذهب والفضة، وكخز مما ينسج مرتين أو كتان ينقض (أ) ثم ينسج، إذ (ب) الإطلاق يحقق كونه مُدعيا، والتكرار يفيد القوة، فإن أضيف إلى سبب لا يتكرر؛ كنتاج وصوف ونحوه، فبينة الداخل؛ لقوتها باليد وضعف الخارجة (جـ). كذا حكى الخلاف الإمام المهدي - عليه السلام - في "البحر"، والجواب عن الحنفية، أن العمل بالسنة أولى. وأخرج البيهقي (¬1) عن شريح أن رجلين ادعيا دابة فأقام أحدهما البينة وهي في يده أنه نتجها، وأقام الآخر بينة أنها دابته عرفها، فقال شريح: الناتج أحق من [العارف] (د). وهذا الذي (هـ ذهب إليه هـ) يصلح أن يكون قولًا غير ما قد حكى. 1185 - وعن ابن عمر رضي الله عنه، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رد اليمين على طالب الحق. رواهما الدارقطني (¬2) وفي إسنادهما ضعف. الحديث أخرجه البيهقي (¬3) من طرق ومدارها (و) على محمد بن مسروق ¬

_ (أ) في جـ: ينقضى. (ب) في جـ: إذا. (جـ) في جـ: الحاجة. (د) في ب، جـ: العرف. والمثبت من مصدر التخريج. (هـ- هـ) ساقطة من: جـ. (و) في ب: مدارهما.

عن إسحاق بن الفرات، ومحمد بن مسروق (¬1) لا يعرف، وإسحاق بن الفرات مختلف فيه. كذا قال المصنف (¬2) رحمه الله، وفي "الكاشف" للذهبي (¬3) قال: هو قاضي مصر ثقة معروف. قال المصنف (2): ورواه تمام في "فوائده" من طريق أخرى عن نافع. وقد ذكر هذا الحديث البيهقي في باب النكول ورد اليمين. وضعفه بتفرد سليمان بن عبد الرحمن الدمشقي إلا أنه قال: الاعتماد على غيره. وساق في هذا الباب أحاديث القسامة، وأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أولياء الدم بأن يحلفوا فأبوا، قال: "فيحلف (أ) يهود؟ ". وهو حديث "الصحيحين" (¬4). وأخرج (¬5) من طريق الشافعي وغيره، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بَدَّأ الأنصاريين فلما لم يحلفوا رد اليمين على يهود. ومن طريق مالك مرسلة في "الموطأ" (¬6) كذلك، وأخرج (¬7) من طرق أنه قدم أيمان اليهود، فلما قالوا: كيف نقبل أيمان قوم كفار؟ قال: "أفيقسم (ب) منكم خمسون أنهم قتلوه (جـ)؟ ". ولكن هذا خلاف رواية الجماعة، والجماعة أولى بالحفظ من ¬

_ (أ) في ب: فتحلف. (ب) في ب: ليقسم. (جـ) في ب، جـ: قاتلوه. والمثبت من مصدر التخريج.

الواحد، يعني ابن عيينة، قال الشافعي رحمه الله في كتاب القسامة (¬1): كان ابن عيينة لا يثبت: أقدّم النبي - صلى الله عليه وسلم - الأنصاريين في الأيمان أو يهود؟ قال البيهقي (¬2): والقول قول من أثبت ولم يشك دون من شك، والذين أثبتوه عدد كلهم حفاظ أثبات وبالله التوفيق. ثم أخرج (¬3) عن عمر في قصة (أ) رجل من بني سعد بن ليث، أجرى فرسًا فوطئ على أصبع رجل من جهينة فنزي (ب) منها فمات، فقال عمر للذين (جـ) ادعي عليهم: تحلفون خمسين يمينًا ما مات منها؟ فأبوا وتحرجوا من الأيمان، فقال للآخرين: احلفوا أنتم. فأبوا. زاد أبو سعيد (¬4) في روايته بإسناده قال: قال الشافعي رحمه الله تعالى: فقد رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اليمين على الأنصاريين يستحقون، فلما لم يحلفوا حوَّلها على اليهود يبرءون بها، ورأى عمر رضي الله عنه اليمين على الليثيين يبرءون بها، فلما أبوا حوّلها على الجهنيين يستحقون بها (د)، وكل هذا تحويل يمين من موضع رئيت (هـ) فيه إلى الموضع الذي يخالفه، فبهذا وما أدركنا عليه أهل العلم ببلدنا يحكونه عن مفتيهم وحكامهم قديمًا وحديثًا. انتهى. ¬

_ (أ) في ب: قضية. (ب) في جـ: فبري. ونزي دمه: إذا جرى ولم ينقطع. النهاية 5/ 43. (جـ) في جـ: للذي. (د) في جـ: لها. (هـ) في جـ: فرأيت، وفي مصدر التخريج: رتبت، وفي نسخة منه كالمثبت.

فهذه الأحاديث هي المعتمدة في رد اليمين على المدعي إذا لم يحلف المدعَى عليه. الحديث فيه دلالة على ثبوت رد اليمين على المدعي، والمراد به أنها تجب اليمين على المدعي، ولكن إذا لم يحلف المدعى عليه، وقد ذهب مالك والشافعي وفقهاء أهل الحجاز وطائفة من العراقيين إلى أنه إذا نكل المدعى عليه فقالوا: لا يجب بنفس النكول شيء إلا إذا حلف المدعي، ولكن اليمين عند مالك تكون في الموضع الذي يقبل فيه شاهد وامرأتان وشاهد ويمين، إلا في التهمة، ولمالك في التهمة قولان، وعند الشافعي في كل موضع تجب فيه اليمين، وقال ابن أبي ليلى: في كل موضع. وذهب الهدوية والناصر وأبو حنيفة وأصحابه وجمهور الكوفيين إلى أنه يثبت الحق بالنكول من دون تحليف للمدعي، إلا أن أبا حنيفة اشترط أن يكون النكول ثلاثًا، واستثنى القصاص في النفس، وصاحباه: القصاص ولو في دون النفس. (أوذهب الهادي إلى أنه لا يثبت به السبب، قال الإمام المهدي في "البحر": قلت: ولا خلاف فيه أ). واحتج له في "البحر" بفعل عمر في قصة (ب) مَن وطئ أصبع رجل (¬1)، وفعل عثمان لما قضى على عبد الله بن عمر في الغلام الذي باعه وادعى المشتري أن به داءً، وأمره عثمان أن يحلف لقد باعه وما به داءٌ، فأمر عثمان برد اليمين وارتجاع الغلام (¬2)، وبما روي عن ابن عباس أنه قال لابن أبي ¬

_ (أ- أ) ساقطة من: ب. (ب) في ب: قضية.

مليكة: احكم بمثل هذا في امرأتين استعدت إحداهما على صاحبتها بأنها غرزت فيها [إِشْفَى] (أ)، فأنكرت المرأة ونكلت، فقرأ عليها: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلا} (¬1). ثم ضمنها الأرش (ب) (¬2) بالنكول (¬3). ويجاب عما ذكر بأن فعل عمر وعثمان لم يكن الحكم بنفس النكول، بل مع تحليف المدعي كما ذهب الأولون، وحديث ابن عباس يمكن حمله على زيادة تحليف المدعي وإن لم يذكره الراوي، ليوافق غيره، وقال ابن رشد في "نهاية المجتهد" (¬4): وعمدة من قضى بالنكول أن الشهادة لما كانت لإثبات الدعوى واليمين لإبطالها، وجب إن نكل عن اليمين أن [تحقق] (جـ) عليه الدعوى. قالوا: وأما نقلها من المدعى عليه إلى المدعي فهو خلاف النص؛ لأن اليمين قد نص على أنها دلالة المدعى عليه. انتهى. ويجاب عنه بأن النص قد دل أيضًا على ثبوتها على المدعي كما عرفت، فالعمل به واجب، واعلم أن الفقهاء المفرعين (د) على المذاهب قد ذكروا في مسائل كثيرة قبول يمين المدعي حيث لا يمكن إقامة البينة، وقد يستأنس له بما ذكر في حديث القسامة وغيره. والله أعلم. ¬

_ (أ) في ب، جـ: المشقى. والمثبت من مصدر التخريج، والإشْفَى: المثقب. اللسان (ش ف ى). (ب) بعده في ب: و. (جـ) في ب، جـ: بحق. والمثبت من بداية المجتهد 8/ 663. (د) في ب، جـ: المفرعون. والمثبت هو الصواب.

1186 - وعن عائشة رضي الله عنها قالت: دخل على النبي - صلى الله عليه وسلم - ذات يوم مسرورًا تبرق أسارير وجهه، فقال: "ألم تري إلى مُجَزِّزٍ المدلجي نظر آنفًا إلى زيد بن حارثة وأسامة بن زيد فقال: هذه أقدام بعضها من بعض؟ ". متفق عليه (¬1). قوله: تبرق. بفتح التاء وضم الراء. أي: تضيء وتستنير من الفرح والسرور. والأسارير: هي المخطوط التي في الجبهة، واحدها (أسِر، والجمع أ) سرر وجمع الجمع أسارير. وقولى: "ألم تري"؟. وفي لفظ للبخاري (¬2): "ألم تسمعي؟ ". ومُجَزِّز بضم الميم وفتح الجيم ثم زاي مشددة مكسورة ثم زاي أخرى. وهذا هو الصحيح المشهور، وحكى القاضي عياض (¬3) عن الدارقطني وعبد الغني أنهما حكيا عن ابن جريج (ب) أنه بفتح الزاي الأولى، وذكر مصعب الزبيري والواقدي (¬4) أنه سمي مجززًا لأنه كان إذا أخذ أسيرًا في الجاهلية جزَّ ناصيته وأطلقه. وهذا يدفع رواية فتح الزاي الأولى من اسمه، ويدل على أن ¬

_ (أ-أ) ساقطة من: جـ. (ب) في ب: جرير.

له اسمًا آخر، وهذا العلم طارئ عليه، ولكنه لم يذكره أحد، وكان مجزز عارفًا بالقيافة، وذكره ابن يونس (¬1) فيمن شهد فتح مصر، وقال: لا أعلم له رواية. وعن ابن عبد البر وأبي علي الغساني، أنه قال ابن جريج: إنه مُحْرِز بضم اليم والحاء المهملة الساكنة وكسر الراء المهملة وبعدها زاي، و (أ) هو ابن الأعور بن جعدة المدلجي؛ نسبة إلى مدلج بن مرة بن عبد مناة بن كنانة (¬2)، وكانت القيافة في بني مدلج وبني أسد، والعرب تعترف لهم بذلك، وليس خاصًّا بهم (ب) على الصحيح، فقد أخرج يزيد بن هارون (¬3) في "الفرائض" بسند صحيح إلى سعيد بن المسيب، أن عمر كان قائفًا. أورده في قصة، وعمر قرشي ليس مدلجيًّا ولا أسديًّا، لا أسد قريش ولا أسد خزيمة. وقوله: "آنفا"، بالمد أي قريبا، أو أقرب وقت. قوله: "فقال: هذه أقدام بعضها من بعض؟ ". في رواية للبخاري (¬4): "ألم تري أن مجززا المدلجي دخل فرأى أسامة وزيدا وعليهما قطيفة قد غطّيا رءوسهما، وبدت أقدامهما، فقال: إن هذه الأقدام بعضها من بعض؟ ". ¬

_ (أ) في جـ: هذا. (ب) في جـ: لهم.

الحديث فيه دلالة على اعتبار القيافة في ثبوت النسب، وهي مصدر قاف قيافة، يقال: فلان يقوف الأمر ويقتافه قيافة، مثل قفا الأثر واقتفاه. والقائف هو الذي يتبع الآثار ويعرفها ويعرف شبه الرجل بأخيه وأبيه، والجمع القافة (¬1)، وكأنه مقلوب من قفا يقفو. وقد ذهب إلى اعتبارها مالك والشافعي وجماهير العلماء، قال النووي (¬2): والمشهور عن مالك إثباتها في الإماء دون الحرائر. وفي رواية عنه إثياتها فيهما. وروى الخلاف في "نهاية المجتهد" (¬3). واعتبارها يكون في الأمة المتناسخة بالشراء أو المشتركة، ووطئها المشتريان في طهر، أو المشتركة يطؤها الشريكان في طهر، وكذا الزوجة إذا تزوجها زوج في العدة جهلا في طهر واحد، ووطئها في ذلك الطهر، وكذا في اللقيط إذا ادعاه اثنان، فإذا ألحق القائف الولد بواحد لحق به، وإن أشكل عليه أو نفاه عنهما، فيترك الولد حتى يبلغ وينتسب (أ) إلى من أراد منهما، وإن ألحقه بهما، فذهب عمر بن الخطاب (¬4) ومالك والشافعي إلى أنه يترك حتى يبلغ فينتسب إلى من يميل إليه منهما. وقال أبو ثور: ويستحبون أنه يكون ابنا لهما. وقال الماجشون ومحمد بن مسلمة المالكيان: يلحق (ب) بأكثرهما له (جـ) شبها. قال محمد بن ¬

_ (أ) في جـ: ينسب. (ب) في جـ: يلتحق. (جـ) ساقطة من: ب.

مسلمة: إلا أن يعلم الأول فيلحق به. وروى في "نهاية المجتهد" (¬1) عن مالك أنه ليس يكون ابنا لاثنين؛ لقوله تعالى: {إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى} (¬2). وحجتهم هذا الحديث، ووجه الاحتجاج به أن سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - تنقسم إلى قول وفعل وتقرير، قالوا: وهذا (أ) من التقرير، وذلك لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا رأى فعلا من فاعل، أو علم به وكان ذلك الفعل من الأفعال التي لم يعلم إنكاره عليها (ب وقد قدر عليها ب)، كمضي كافر إلى كنيسة، أو مع عدم القدرة، كما كان يشاهده من كفار مكة من عبادة الأوثان وأذى المسلمين ولم ينكره؛ كان ذلك تقريرًا، ودل على جوازه، فإن استبشر به (جـ) فأوضحُ، كما وقع في قصة مجزّز، فإنه تكلم بانتساب أسامة إلى زيد واستبشر به النبي - صلى الله عليه وسلم -، فدلّ على تقرير كون القيافة طريقا إلى معرفة الأنساب، وما رواه مالك (¬3) عن سليمان بن يسار، أن عمر بن الخطاب كان يليط (¬4) أولاد الجاهلية بمن ادّعاهم في الإسلام، فأتى رجلان كلاهما يدّعي ولد امرأة، فدعا قائفا، فنظر إليه القائف فقال: لقد اشتركا فيه. فضربه عمر بالدرة، ثم دعا المرأة فقال: أخبريني خبرك. فقالت: كان هذا -لأحد الرجلين- يأتيني في إبل ¬

_ (أ) في جـ: هنا. (ب- ب) ساقط من: جـ. (جـ) في ب: له.

لأهلها، فلا يفارقها حتى [يظُنَّ و] (أ) تظن أنه قد استمر بها حمل، ثم انصرف عنها، فأهريقت عليه دماء، ثم خلف عليها هذا -يعني الآخر- فلا أدري من أيهما هو؟ فكبّر القائف، فقال عمر للغلام؟ [وال] (ب) أيهما شئت. فقضى عمر بمحضر من الصحابة رضي الله عنهم بالقيافة من غير إنكار من واحد منهم، فكان كالإجماع. قالوا: وهو مروي عن ابن عباس (¬1) وأنس بن مالك (¬2)، ولا مخالف لهما من الصحابة. وذهب العترة وأبو حنيفة والكوفيون وأكثر أهل العراق إلى أنه لا يعمل بالقيافة في إثبات النسب، والحكم في ذلك الولد المذكور أن يكون للشريكين أو المشتريين أو الزوجين، إلا أن في الزوجين [تفصيلًا] (جـ) عند الهدوية، وهو أنه إذا ترتب فراشان حكم به للآخر إن أمكن، وإلا فللأول إن أمكن، وإلا فلأيّهما، وفي اللقيط يكون لمن ادّعاه أولًا، فإن اتفقوا كان لهم الجميع إذا استووا، وإن كان أحدهم عبدًا كان للحر، أو (د) كان كافرًا كان للمسلم، وإن تداعى امرأتان فيه لحق بهما. وقال أبو يوسف ومحمد: لا يلحق إلا بامرأة واحدة. وقال إسحاق: يقرع بينهما. قالوا: وحديث أسامة ليس من باب التقرير؛ وذلك لأن نسب أسامة كان معلوما إلى زيد، وإنما كان الكفار يقدحون في نسب أسامة ¬

_ (أ) ساقط من: ب، جـ، والمثبت من الموطأ. (ب) في ب، جـ: فإلى. والمثبت من الموطأ. (جـ) في ب، جـ: تفصيل. والمثبت هو الصواب. (د) في جـ: وإن.

لكونه كان أسود شديد السواد، وكان زيد أبيض. كذا قاله أبو داود (¬1) عن أحمد بن صالح، وقال القاضي عياض (¬2): قال غير أحمد بن صالح: كان زيد أزهر اللون، وأم أسامة هي أم أيمن، واسمها بركة، وكانت حبشية سوداء. قال القاضي: هي بركة بنت محصن بن ثعلبة بن عمر بن حصن (أ) بن سلمة بن عمرو بن النعمان (¬3)، وقد وقع في "الصحيح" (¬4) عن ابن شهاب، أن أم أيمن كانت حبشية وصيفة لعبد الله والد النبي - صلى الله عليه وسلم -، ويقال: كانت من سبي الحبشة الذين قدموا زمن الفيل، فصارت لعبد المطلب فوهبها لعبد الله، وتزوجت قبل زيد عبيدًا الحبشي، فولدت له أيمن فكنيت به، واشتهرت به، وكان يقال لها: أم الظباء. قال القاضي عياض (¬5): لو صح أن أم أيمن كانت سوداء لم ينكر سواد ابنها أسامة؛ لأن السوداء قد تلد من الأبيض أسود. قال المصنف رحمه الله تعالى (5): يحتمل أنها كانت صافية فجاء أسامة شديد السواد، فوقع الإنكار لذلك، وذلك لأن القيافة إنما كانت من عادة الجاهلية، وقد جاء الإسلام بمحو آثارها، وتغيير أعلامها، ¬

_ (أ) في مصدر التخريج: حصين. وانظر الاستيعاب 4/ 1793.

وطمس آثارها، فسكوته عن الإنكار على مجزز لا يكون تقريرا لفعله، واستبشاره إنما هو لإلزام المعاند الطاعن في نسب أسامة بما يقوله ويعتمده، فلا حجة في ذلك. ولكنه يرد عليه أنه لم يكن قد عرف من النبي - صلى الله عليه وسلم - إنكار القيافة، وليس كل ما كان يعتاد في الجاهلية غيّره الإسلام، فلا يبطل الاحتجاج، ويتأيد اعتبار هذا الحكم بما روي عن عمر، وعدم الإنكار عليه من الصحابة، وهو جار مجرى الإجماع، مع أنه قد روى الثوري (أ) عن صالح بن حيّ عن الشعبي عن زيد بن أرقم قال: كان علي رضي الله عنه باليمن، فأتي بامرأة وطئها ثلاثة في طهر وأحد، فسأل كل واحد منهم أن يقر لصاحبه بالولد، فأبوا، فأقرع بينهم وقضى بالولد للذي أصابته القرعة، وجعل عليه ثلثي الدية، فرفع ذلك إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فأعجبه وضحك حتى بدت نواجذه (¬1). وهذا يخالف القولين السابقين. واتفق القائلون بالقائف على أنه يشترط فيه العدالة، واختلفوا في أنه هل (ب) يشترط العدد أم يكتفى بواحد؟ والأصح عند أصحاب الشافعي الاكتفاء، وبه قال ابن القاسم المالكي. وقال مالك: يشترط اثنان. وبه قال بعض أصحاب الشافعي، والحديث يدل على أنه يكتفى بواحد. واختلف أصحاب الشافعي في أنه هل يختص هذا الحكم ببني مدلج؟ والأصح أنه لا يختص، ويدل عليه ما روي عن عمر. ¬

_ (أ) في جـ: النووي. (ب) ساقطة من: ب.

كتاب العتق

كتاب العتق العتق الحرية، قال أهل اللغة: يقال فيه: عتق عتقا. بكسر العين، وعتقا بفتحها أيضًا. حكاها صاحب "المحكم" وغيره (¬1). وعتاقا وعتاقة بفتح العين فهو عتيق وعاتق أيضًا. حكاها الجوهري (¬2). وهم عتقاء، وأعتقه فهو معتق وعتيق، وأمة عتيق وعتيقة، وإماء عتائق، وحلف بالعتاق أي الإعتاق. قال الأزهري (¬3): هو مشتق من قولهم: عتق الفرس. إذا سبق ونجا، وعتق الفرخ إذا طار واستقلّ، لأن العبد يتخلص بالعتق ويذهب حيث شاء. قال الأزهري وغيره (3): وإنما قيل لمن أعتق نسمة: إنه أعتق رقبة وفك رقبة. فخصت الرقبة دون سائر الأعضاء مع أن العتق تناول الجميع؛ لأن (أحكم السيد أ) عليه وملكه له كحبل في رقبة العبد، وكالغل المانع له من الخروج، فإذا أعتق فكأنه أطلقت رقبته من ذلك. 1187 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أيما امرئ مسلم أعتق امرأ مسلما، استنقذ الله بكل عضو منه عضوًا من ¬

_ (أ- أ) في جـ: الحكم للسيد.

النار". متفق عليه (¬1). وللترمذي (¬2) وصححه عن أبي أمامة: "وأيما امرئ مسلم أعتق امرأتين مسلمتين، كانتا فكاكه من النار". ولأبي داود (¬3) من حديث كعب بن مرة: "وأيما امرأة مسلمة أعتقت امرأة مسلمة كانت فكاكها من النار". الحديث فيه دلالة على فضيلة العتق، وأنه من أفضل الأعمال، ومما يحصل له العتق من النار ودخول الجنة. وقوله: "أيما امرئ مسلم". جاء في رواية البخاري (أ): "أيما رجل"، والإسلام لابدّ من اعتباره، وإن صح العتق من الكافر، لكن لا نجاة له بسببه من النار. و (ب) قوله: "امرأ مسلما". يدل على أن هذه الفضيلة إنما هي في عتق الرقبة المؤمنة، وأما غير المؤمنة فإنها وإن كان (جـ) في عتقها فضل بلا خلاف، لكن دون المؤمنة، ولذلك وقع الإجماع في كفارة القتل على اشتراط الإيمان كما نص عليه سبحانه وتعالى، وحكى القاضي عياض (¬4) عن مالك أن ¬

_ (أ) في جـ: للبخاري. (ب) زاد في ب: في. (جـ) في جـ: كانت.

الأعلى (أ) ثمنا أفضل وإن كان كافرا، وخالفه الجمهور من الصحابة وغيرهم. ويحتج لمالك بالحديث الذي يأتي عقيب هذا (¬1)، ويجاب بأنه مقيد بأن الأعلى ثمنا من المسلمين. وقوله: "بكل عضو". وقع في رواية مسلم (¬2): "إرب". والإرب بكسر الهمزة وإسكان الراء: هو العضو، بضم (ب) العين وكسرها، ويدل على أن الأفضل عتق كامل الأعضاء، فلا يكون خصيًّا ولا فاقد غيره من الأعضاء، وفي الخصي وغيره الفضل العظيم، لكن الكامل أولى. وقال الخطابي (¬3): إذا كان في الخصي منافع لا تكون في غيره، كان مثل غير الخصي، والأعلى (أ) ثمنا أفضل. وقد ورد ذلك في الحديث الآتي. وفي حديث أبي أُمامة دلالة على أن عتق الذكر أفضل من عتق الأنثى. قال القاضي عياض (¬4): وقد اختلف العلماء في ذلك؛ فقال بعضهم: الإناث أفضل، لأنها إذا عتقت (د) كان ولدها حرًّا، سواء تزوجها حر أو ¬

_ (أ) في ب: الأعلى. (ب) في جـ: بكسر. (جـ) في جـ: أعتقت.

عبد. وقال آخرون: عتق الذكر أفضل؛ لحديث أبي أُمامة، ولما في الذكر من المعاني العامة والمنفعة التي لا توجد في الإناث؛ من الشهادة والقضاء والجهاد، وغير ذلك مما يختصُّ بالرجال، إمَّا شرعًا وإما عادةً، ولأن في الإماء من لا ترغب في العتق، وتضيع به، بخلاف العبد. وقوله: "بكل عضو عضوًا". يدل على استغراق جميع الأعضاء. وتمام الحديث في رواية البخاري: "حتى فرجه بفرجه". وهذه الغاية تؤكد الاستغراق، وقد استشكل ابن العربي (¬1) عتق الفرج بالفرج، مع أن المعصية التي تتعلق بالفرج هي الزنى، والزنى كبيرة لا تكفره إلا التوبة، إلا أن تكون المعصية غير الزنى، كالملامسة بالفرج على غير الزنى في سائر الأعضاء، فهو ممكن إلا أن يقال: إن العتق يرجّح عند الموازنة بحيث تكون حسنات المعتق راجحةً توازي سيئة الزنى، مع أنه لا اختصاص لهذا بالزنى، فإن اليد يكون بها القتل، والرِّجل الفرار من الزحف، وغير ذلك، فلا بد من هذا الاعتبار. 1188 - "وعن أبي ذر رضي الله عنه قال: سألت النبي - صلى الله عليه وسلم -: أيّ العمل أفضل؟ قال: "إيمانٌ بالله، وجهادٌ في سبيله". قلت: فأيّ الرقاب أفضل؟ قال: "أعلاها (أ) ثمنًا، وأنْفَسُها عند أهلها". متفق عليه (¬2). الحديث فيه دلالةٌ على تفضيل الجهاد على غيره، وقد تقدم في كتاب ¬

_ (أ) في ب: أغلاها.

الصلاة أن الصلاة أول وقتها أفضل الأعمال (¬1)، والكلام هناك على الجمع بين الأحاديث. وقوله: "أعلاها ثمنا". بالعين المهملة لأكثر رواة البخاري، وللكشميهني بالغين المعجمة، وكذا في رواية النسفي (¬2)، والمعنى متقارب. وفي رواية لمسلم (¬3): "أكثرها ثمنًا". وهي تبين المراد، تدل على أن الأكثر ثمنًا (أعتقه أفضل أ)، وظاهره: ولو كانت رقبتان متساويتان (ب) في جهة الخير، وكانت إحداهما (جـ) أكثر ثمنًا على مشتريها (د) أن عتقها أفضل. قال النووي رحمه الله تعالى (¬4): محله والله أعلم فيمن أراد أن يعتق رقبة واحدة، أما لو كان مع شخص ألف درهم مثلًا فأراد أن يشتري بها رقبة يعتقها (هـ) فوجد رقبة نفيسة ورقبتين مفضولتين، قال: فثنتان أفضل بخلاف الأضحية، فإن الواحدة الثمينة أفضل، لأن المطلوب في العتق فك الرقبة، وفي الأضحية طيب اللحم. انتهى. ¬

_ (أ- أ) في جـ: أفضل عتقه. (ب) في جـ: متساويان. (جـ) في ب: أحدهما. (د) في جـ: مشتريهما. (هـ) في جـ: بعينها.

والأولى أن ذلك يختلف باختلاف الأشخاص، فإنه إذا كان شخص من العلم والعمل وانتفاع المسلمين به بمحلّ عظيم، فعتقه أفضل من عتق جماعة ليس فيهم هذه السمات، فيكون الضابط اعتبار الأكثر نفعا. وقوله: "وأنفسها عند أهلها" أي (أ) ما كان اغتباطهم به أشدَّ، وهو الموافق لقوله تعالى: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} (¬1). 1189 - وعن ابن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من أعتق شركا له في عبد فكان له مال يبلغ ثمن العبد قُوّم قيمة عدْل، فأعطى شركاءه حصصهم وعتق عليه العبد، وإلّا فقد عتق منه ما عتق". متفق عليه (¬2). ولهما (¬3) عن أبي هريرة رضي الله عنه: "وإلّا قُوِّم العبد عليه، واستسعي غير مشقوق عليه". وقيل: إن السعاية مدرجة في الخبر. قوله: "قيمة عدل". بفتح العين، لا زيادة فيه ولا نقص، وقد جاء في رواية النسائي (¬4): "لا وكس ولا شطط". والوكس بفتح الواو وسكون الكاف بعدها سين مهملة: النقص، والشطط بمعجمة ثم مهملة مكررة والفتح: الجور. ¬

_ (أ) ساقطة من: جـ.

الحديث فيه دلالة على أن العبد المشترك إذا أعتق أحد الشريكين حصته فيه وكان موسرا من تسليم قيمة حصة الشريك، فإنه يقوم حصة الشريك بقيمة مثله، ولزمه تسليم ذلك، وعتق عليه العبد جميعه. وقد أجمع العلماء أن نصيب المعتق يعتق (أ) بنفس الإعتاق، إلا ما حكاه القاضي عن ربيعة أنه لا يعتق نصيب المعتق موسرا كان أو معسرًا. وهو مذهب باطل مخالف للأحاديث الصحيحة كلها. وحكى الإِمام المهدي أن خلافه إنما هو في نصيب الشريك، سواء كان موسرا أو (ب) معسرا. ولعله تأويل لقوله: وأما نصيب الشريك. فهذا حديث ابن عمر يدل على أنه لا يعتق إلَّا إذا كان موسرا, ولا يعتق مع الإعسار. وفي المسألة ستة أقوال: الأول: للهدوية، وهو الصحيح من مذهب الشافعي، وبه قال ابن شبرمة والأوزاعي والثوري وابن أبي ليلى وأبو يوسف ومحمد بن الحسن وأحمد بن حنبل وإسحاق وبعض المالكية أنه يعتق بنفس الإعتاق، ويقوّم عليه نصيب شريكه بقيمته يوم الإعتاق ويكون ولاؤه جميعه للمعتق، وحكمه من حين الإعتاق حكم الأحرار في الميراث وغيره من الأحكام، وليس للشريك إلا المطالبة بقيمة نصيبه كما لو قتله، ولو أعسر المعتق بعد ذلك استمرّ نفوذ العتق وكانت القيمة دينًا في ذمته، ولو مات أخذت من تركته، فإن لم يكن له تركة ضاعت القيمة واستمرّ عتق جميعه. الثاني: أنه لا يعتق إلَّا بدفع القيمة، وهو المشهور من مذهب مالك، وبه قال أهل الظاهر، وهو قول للشافعي. ¬

_ (أ) في جـ: معتق. (ب) في جـ: أم.

الثالث: مذهب أبي حنيفة أن للشريك الخيار، إن شاء استسعى العبد في نصف قيمته، وإن شاء أعتق نصيبه والولاء بينهما جميعًا، وإن شاء قوّم نصيبه على شريكه المعتق، ويرجع بما دفع إلى شريكه على العبد يستسعيه في ذلك، والولاء كله للمعتق. قال: والعبد في مدة السعاية بمنزلة المكاتب في كل أحكامه. الرابع: مذهب عثمان البتِّي: لا شيء على المعتق إلَّا أن تكون جارية رائعة (¬1) تراد للوطء، فيضمن ما أدخل على شريكه فيها من الضرر. الخامس: محكي عن ابن سيرين أن القيمة في بيت المال. السادس: محكيٌّ عن إسحاق بن راهويه أن هذا الحكم للعبيد دون الإماء. ويُردّ قول إسحاق بما (أ) أخرجه الدارقطني (¬2) من طريق الزهريّ عن نافع عن ابن عمر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من كان له شريك في عبد أو أمة". الحديث. وأخرج الطحاوي (¬3) من طريق ابن إسحاق عن نافع مثله، وقال فيه: "حمل عليه ما بقي في ماله حتى يعتق كله". والجمع بين العبد والأمة بنفي الفارق يقوّي هذا، وقد قال إمام الحرمين (¬4): إدراك كون الأمة في هذا الحكم كالعبد حاصل للسامع قبل التفطن لوجه الجمع والفرق. ¬

_ (أ) في جـ: ما.

وظاهر الحديث سواء كان العبد مسلما أم كافرا, ولا خيار للعبد ولا للشريك ولا للمعتق، بل ينفذ هذا الحكم وإن كرهوه كلهم رعاية لحق الله تعالى. وقوله: "وإلا فقد عتق منه ما عتق" -بفتح العين من الأول، ويجوز فتح العين وضمها في الثاني. كذا قاله الداودي (¬1)، وتعقبه ابن التين بأنه لم يقله غيره، وإنما يقال: عتق. بالفتح، وأُعتق بضم الهمزة، ولا يعرف عُتق بضم أوله؛ لأنه لازم غير متعدٍّ. أي: وإن لا يكن له مال فقد عتق حصة المعتق، وبقي حصة الشريك مملوكة. هذه الزيادة في الحديث ظاهرها أنها من كلام النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكذا رواه مالك (¬2) وعبيد الله العمري (¬3) فوصلاه بكلام النبي - صلى الله عليه وسلم - وجعلاه منه، ورواه أيوب عن نافع (¬4) فقال: قال نافع: وإلّا فقد عتق منه ما عتق. ففصله من الحديث وجعله من قول نافع. قال أيوب مرة: لا أدري هو من الحديث أم هو شيء قاله نافع؟ ولهذه الرواية قال ابن وضاح (¬5): ليس هذا من كلام النبي - صلى الله عليه وسلم -. قال القاضي (5): وما قاله مالك وعبيد الله العمري أولى، وقد جوّداه، وهما في نافع أثبت من أيوب عند أهل هذا الشأن، كيف وقد شك أيوب فيه ¬

_ (¬1) الفتح 5/ 153. (¬2) الموطأ 2/ 772 ح 1. (¬3) النسائي في الكبرى 3/ 182 ح 4947، والطحاوي في شرح المشكل 13/ 412 ح 5369. (¬4) البخاري 5/ 151 ح 2524، ومسلم 2/ 1139 ح 1501. (¬5) شرح النووي على صحيح مسلم 10/ 139.

كما ذكرناه؟ قال: وقد رواه يحيى بن سعيد عن نافع، وقال في هذا الموضع: "وإلّا فقد جاز ما صنع" (¬1). سيأتي به على المعنى، وقد أثبتها جرير بن حازم عند البخاري (¬2)، وإسماعيل بن أمية عند الدارقطني (¬3)، وقد رجح الأئمة رواية من أثبت هذه الزيادة من قوله - صلى الله عليه وسلم -، قال الشافعي (¬4): لا أحسب عالمًا في الحديث يتشكك في أن مالكا أحفظ لحديث نافع من أيوب؛ لأنه كان ألزم له، حتى ولو استويا، فشك أحدهما في شيء ولم يشك فيه صاحبه، كان الحجة مع من لم يشك، ويؤيد ذلك قول عثمان الدارمي (¬5): قلت لابن معين: مالك في نافع أحب إليك أو أيوب؟ قال: مالك. وهذه الزيادة في الحديث ذهب إليها مالك والشافعي وأحمد وأبو [عبيد] (أ) وجمهور علماء الحجاز. وفي المسألة أربعة مذاهب هذا أولها. الثاني: ما ذهب إليه ابن شبرمة والأوزاعيّ وأبو حنيفة وابن أبي ليلى وسائر الكوفيين وإسحاق بن راهويه، وهو مذهب الهدوية: أنه يستسعى العبد في حصة الشريك ويعتق جميعه. واختلف هؤلاء في رجوع العبد بما أدّى، وفي سعايته على معتقه (أ)، فقال ابن أبي ليلي: يرجع به عليه. وقال ¬

_ (أ) في ب، جـ: عبيدة. وينظر المغني 14/ 358. (ب) في جـ: منفقه.

أبو حنيفة وصاحباه: لا يرجع. بل هو عند أبي حنيفة في مدة السعاية بمنزلة المكاتب، وعند الآخرين حُرٌّ بالسعاية. المذهب الثالث: مذهب زفر وبعض البصريين أنه يقوّم على المعتق ويؤدي القيمة إذا أيسر. المذهب الرابع: حكاه القاضي عن بعض العلماء، أنه إن (أ) كان المعتق معسرا بطل عتقه في نصيبه أيضًا، فيبقى العبد كله رقيقا كما كان. وقوله في حديث أبي هريرة: "وإلا قوّم العبد واستسعي غير مشقوق عليه (ب) ". يدل على ثبوت السعاية. وقد احتج به من قال بوجوب السعاية، ولكنه جزم جماعة بأنه مدرج وليس من الحديث. قال القاضي أبو بكر بن العربي (¬1): اتفقوا على أن ذكر الاستسعاء ليس من قول النبي - صلى الله عليه وسلم - وأنه من قول قتادة. ونقل الخلال في "العلل" (¬2) عن أحمد أنه ضعف رواية سعيد بن أبي عروبة في الاستسعاء، وضعفه أيضًا الأثرم عن سليمان (جـ) بن حرب (¬3)، واستند أن فائدة الاستسعاء ¬

_ (أ) في جـ: إذا. (ب) ساقط من: ب. (جـ) في جـ: سلمان. وكتب بهامش ب: قاضي مكة، إمام حافظ من التاسعة مات سنة أربع وعشرين وله ثمانون سنة، تقريب. وينظر التقريب ص 250.

ألا يدخل ضررا على الشريك، قال: لأنه لو كان مشروعا للزم إعطاؤه مثلًا كل شهر درهمين، وفي ذلك غاية الضرر. انتهى. قال النسائي (¬1): بلغني أن هماما رواه فجعل هذا الكلام؛ أي الاستسعاء، من قول قتادة. وكذا قال (أ) الإسماعيلي (1): إنما هو من قول قتادة مدرج على ما رواه (ب) همام. وقال ابن المنذر والخطابي (¬2): هو من فتيا قتادة. وأخرج أبو داود (¬3) الحديث من حديث همام عن قتادة، ولم يذكر الاستسعاء أصلًا. ورواه عن همام؛ عبد الله بن يزيد المقرئ، وذكر السعاية وفصَلها عن الحديث. كذا أخرجه الإسماعيلي وابن المنذر والدارقطني والخطابي والحاكم في "علوم الحديث" والبيهقي والخطيب وكذا الدارقطني (¬4). فهؤلاء جزموا بأنه مدرج، وقد ردّ قول من قال: إنه مدرج. بما اتفق عليه الشيخان (¬5) (جـ من رفعه جـ)؛ فإنها في أعلى درجات التصحيح، وقد روى (د) ¬

_ (أ) في جـ: قول. (ب) في جـ: روى. (جـ - جـ) في جـ: بدفعه. (د) في جـ: ورد.

إثباته من الحديث سعيد بن أبي عروبة عن قتادة (¬1)، وهو أعرف بحديث قتادة؛ لكثرة ملازمته له وكثرة أخذه عنه من همام وغيره. وهشام وشعبة وإن كانا أحفظ من سعيد، لكنهما لم ينافيا ما رواه، وإنما اقتصرا من الحديث على بعضه، وليس المجلس واحدًا حتى يتوقف في زيادة سعيد، فإن ملازمة سعيد لقتادة كانت أكثر منهما، والإعلال بأن سعيدًا اختلط، مردود؛ لأنه في "الصحيحين" وغيرهما من رواية من روى عن سعيد قبل الاختلاط كيزيد بن زريع، ووافقه عليه غيره، وقد أشار البخاري (¬2) إلى دفع هذا التعليل، فأخرج الحديث من رواية يزيد بن زريع عن سعيد، وهو من أثبت الناس فيه، وسمع منه قبل الاختلاط، ثم استظهر له برواية جرير بن حازم لمتابعته؛ لينفي عنه التفرد، ثم أشار إلى أن غيرهما تابعهما، ثم (أ) قال: اختصره شعبة. وكأنه جواب لسؤال مقدر تقديره أن شعبة أحفظ الناس لحديث قتادة، فكيف لم يذكر الاستسعاء؟ فأجاب بأن هذا لا يؤثر فيه ضعفًا؛ لأنه أورده (أ) مختصرًا وغيره ساقه بتمامه، والعدد الكثير أولى بالحفظ من الواحد، وقد جاء ذكر الاستسعاء من حديث جابر أخرجه الطبراني (¬3) وأخرجه البيهقي (¬4) من حديث رجل من بني عذرة، أن رجلًا منهم أعتق مملوكًا له عند موته ¬

_ (أ) ساقط من: جـ.

وليس له مال غيره، فأعتق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلثه وأمره أن يستسعي (أ) في الثلثين. وأخرج أبو داود (¬1) من حديث أبي المليح عن أبيه أن رجلًا أعتق شقصًا له من غلام، فذكر ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: "ليس لله شريك". وفي رواية: فأجاز عتقه. وأخرجه النسائي (¬2) بإسناد قوي، وأخرج أحمد (¬3) بإسناد حسن من حديث سمرة، أن رجلًا أعتق شقصًا له في مملوك (ب)، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "هو [حُرٌّ] (جـ) كله، فليس لله شريك". وقد عورضت هذه الأحاديث بما أخرجه أبو داود (¬4) من طريق ملقام (د) عن أبيه، أن رجلًا أعتق نصيبه من مملوك فلم يضمنه النبي - صلى الله عليه وسلم - وإسناده حسن، وبحديث عمران بن حصين عند مسلم (¬5)، أن رجلًا أعتق ستة مملوكين له عند موته لم يكن له مال غيرهم، فدعا بهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فجزأهم أثلاثا (د) ثم أقرع بينهم، فأعتق اثنين وأرق أربعة. وسيأتي قريبًا. وذلك لأنه لو كان الاستسعاء مشروعًا لنجز من كل واحد منهم عتق ثلثه وأمره بالسعاية في بقية قيمته لورثة ¬

_ (أ) في جـ: يسعى. (ب) في جـ: مملوكه. (جـ) ساقط من: ب، جـ، والمثبت من مصدر التخريج. (د) بهامش الأصل: ملقام بكسر أوله وسكون اللام ثم قاف. ويقال: بالهاء بدل الميم ابن التلب بفتح المثناة وكسر اللام وتشديد الموحدة، التميميّ العنبرى، مستور من الخامسة. تقريب. (هـ) في جـ: ثلاثة.

الميت، إلا أنه قد يجاب عنه بأنها قضية عين، أو كان ذلك قبل شرعية الاستسعاء. وأخرج النسائي (¬1) عن ابن عمر بلفظ: "من أعتق عبدًا (أ) وله فيه شركاء وله وفاء (ب)، فهو حر، ويضمن نصيب شركائه بقيمته بما أساء من مشاركتهم، وليس على العبد شيء". وبما تلوناه عليك عرفت صحة الحديثين، وظاهرهما التعارض، وقد جمع بينهما بوجهين؛ أحدهما، أن قوله: "وإلا فقد عتق ما عتق منه". ليس معناه أنه يستمر ملكه، وإنما المعنى أنه عتق ما عتق بإعتاق مالك الحصة، وحصة الشريك تعتق بالسعاية، فيعتق العبد بعد تسليم ما عليه ويكون كالمكاتب، وهذا هو الذي جزم به البخاري، والذي يظهر أنه في ذلك باختياره، لقوله: "غير مشقوق عليه". فلو كان ذلك على سبيل اللزوم بأن يكلف العبد الاكتساب والطلب حتى يحصل ذلك، حصل له بذلك غاية المشقة، وهو لا يلزم في الكتابة بذلك عند الجمهور؛ لأنها غير واجبة، هذا مثلها (جـ)، وإلى هذا الجمع مال البيهقي (¬2) وقال: لا يبقى بين الحديثين معارضة أصلًا. وهو كما قال، إلا أنه يلزم منه أن يبقى الرق في حصة الشريك إذا لم يختر (د) العبد الاستسعاء، ويحمل حديث أبي المليح وحديث سمرة أن ذلك في حق ¬

_ (أ) زاد في جـ: له. (ب) في النسائي: رفاق، وهو تصحيف. (جـ) في جـ: منها. (د) في جـ: يجبر.

الموسر فلا معارضة، وحديث الملقام في حق المعسر، وجمع أبو عبد الملك بأن المراد بالاستسعاء أن العبد يستمر في خدمة سيده الذي لم يعتق رقيقًا بقدر ماله من الرق. ومعنى "غير مشقوق عليه". أي: لا يكلفه سيده من الخدمة فوق ما يطيقه ولا فوق حصته من الرق. إلا أنه يبعد هذا الجمع حديث الرجل من بني عذرة، هذا إذا كان المعتق يملك بعض العبد، وأما إذا كان يملكه جميعًا فأعتق بعضه، فجمهور علماء الحجاز والكوفة والعراق أنه يعتق جميعه، وقال أبو حنيفة وأهل الظاهر: يعتق منه ذلك القدر الذي عتق ويسعى في الباقي. وهو قول طاوس وحماد. وحجة الأولين حديث أبي المليح وغيره. وبالقياس على عتق الشقص، فإنه إذا سرى إلى ملك الشريك فبالأولى إذا لم يكن له شريك، وحجة أبي حنيفة أن السبب في حق الشريك هو أنه لما يدخل على شريكه من الضرر، فإذا كان العبد له جميعه لم يكن هناك ضرر، فلا قياس. وبما رواه إسماعيل بن أمية عن أبيه عن جده أنه أعتق نصف عبده فلم ينكر النبي - صلى الله عليه وسلم - عتقه (¬1). والله أعلم. 1190 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يجزي ولد والده، إلا أن يجده مملوكًا فيشتريه فيعتقه". رواه مسلم (¬2). قوله: "لا يجزي". بفتح أوله، أي, لا يكافئه بإحسانه وقضاء حقه، إلا أن يعتقه. ¬

_ (¬1) أحمد 3/ 412. (¬2) مسلم، كتاب العتق، باب فضل عتق الوالد 2/ 1148 ح 1510/ 25.

وقوله: "فيشتريه فيعتقه". ظاهره أنه لا يعتق بمجرد الشراء، وأنه لا بد من الإعتاق بعد الشراء، وقد ذهب إلى هذا الظاهرية، وذهب الجمهور إلى أنه يعتق بنفس الشراء، ومعنى قوله: "فيعتقه". هو أنه لما شراه تَسَبَّب منه (أ) العتق، فنسب إليه العتق مجازًا، وإنما كان جزاء له؛ لأن العتق أفضل ما أنعم به أحد على أحد، لتخليصه بذلك من الرق، فيكمل له أحوال الأحرار من الولاية والقضاء والشهادة بالإجماع. والحديث نص في عتق الوالد، وهو مجمع عليه في (ب) حق الأب والأم إلا داود الظاهري. 1991 - وعن سمرة بن جندب رضي الله عنه، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من ملك ذا رحم محرم فهو حر". رواه أحمد والأربعة (¬1)، ورجح جمع من الحفاظ أنه موقوف. الحديث أخرجه أبو داود مرفوعًا من رواية حماد وموقوفًا من رواية سعيد (جـ)، وقال: سعيد (جـ) أحفظ من حماد. فالوقف حينئذ أرجح، وأخرجه أيضًا من طريق سعيد (جـ) عن قتادة، أن عمر بن الخطاب قال: من ملك. الحديث، فوقفه على عمر، وقال أبو داود: ولم يحدث بهذا الحديث ¬

_ (أ) في د: "فيه". (ب) زاد في جـ: حكم. (جـ) في ب: شيبة.

إلا حماد، وقد شك فيه. وقال علي بن المديني: هو حديث منكر. وقال البخاري (¬1): لا يصح. رواه ابن ماجه والنسائي والترمذي والحاكم (¬2) من طريق ضمرة عن الثوري عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر. قال النسائي: حديث منكر. وقال الترمذي: لم يتابع ضمرة عليه وهو خطأ. وقال [البيهقي] (أ) (¬3): وهم في هذا الإسناد، والمحفوظ بهذا الإسناد: نهى عن بيع الولاء وعن هبته. ورد الحاكم (2) هذا بأنه روى من طريق ضمرة الحديثين بالإسناد الواحد. وصححه ابن حزم (¬4) وعبد الحق (¬5) وابن القطان، وضمرة بن ربيعة هذا لا يضر تفرده؛ لأنه ثقة، لم يكن في الشام رجل يشبهه. الحديث فيه دلالة على أنه إذا ملك من بينه وبينه رحامة محرمة للنكاح، فإنه يعتق عليه؛ وذلك كالآباء وإن علوا، والأولاد وإن سفلوا، والإخوة وأولادهم والأخوال والأعمام لا أولادهم، وقد ذهب إلى هذا الهادي وأبو حنيفة وأصحابه؛ للحديث المذكور، وذهب الشافعي إلى أنه لا يعتق إلا الآباء والأبناء نصًّا في الحديث السابق على الآباء وقياسًا للأبناء على الآباء. قالوا: ولأن البنوة صفة تنافي العبودية؛ لقوله تعالى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ} (¬6). فأفهمت الآية أنه يتنافى أن يكون ¬

_ (أ) في ب، جـ: الطبراني. والمثبت من التلخيص 4/ 212.

عند الشخص أبناء له [عبيد] (أ)، وزاد مالك الإخوة والأخوات قياسًا على الآباء والأبناء، وذهب داود الظاهري إلى أنه لا يعتق أحد (ب) بهذا السبب، واحتج بظاهر قوله في حديث أبي هريرة (¬1): "فيشتريه فيعتقه". فظاهره أن الأب لا يعتق إلا بإعتاقه. وقد تقدم الجواب عنه. 1192 - وعن عمران بن حصين رضي الله عنه، أن رجلًا أعتق ستة مملوكين له (ب) عند موته لم يكن له مال غيرهم، فدعا بهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فجزأهم أثلاثًا ثم أقرع بينهم، فأعتق اثنين وأرق أربعة، وقال له قولًا شديدًا. رواه مسلم (¬2). القول الشديد في رواية النسائي وأبي داود (¬3) أنه قال - صلى الله عليه وسلم -: "لو شهدته قبل أن يدفن لم يدفن في مقابر المسلمين". وقد ذهب إلى ما دل عليه الحديث -وهو أن حكم التبرع في المرض حكم الوصية فينفذ من الثلث- مالك والشافعي وأحمد، ولكنهم اختلفوا، فذهب مالك إلى اعتبار التقويم، فإذا كانوا ستة أعبد مثلًا أعتق منهم الثلث بالقيمة، سواء كان الحاصل من ذلك اثنين منهم أو أقل أو [أكثر] (جـ)، ويكون تعيين المعتق بالقرعة، وبعضهم ذهب إلى أن المعتبر العدد من غير تقويم، فإن كانوا ستة أُعتق منهم اثنان، ¬

_ (أ) ساقطة من: ب، جـ. والمثبت يقتضيه السياق. وينظر إعانة الطالبين 4/ 327، والإقناع للشربيني 2/ 646. (ب) ساقط من: جـ. (جـ) في ب، جـ: أكثر. والمثبت يقتضيه السياق.

وإن كانوا مثلًا سبعة أُعتق منهم اثنان وثلث، ويكون ذلك بالقرعة، وهذا هو ظاهر الحديث، إلا (أ) أنه يحتمل أنه تساوى في هذا قيمهم. وذهب الهدوية وأبو حنيفة وأصحابه إلى أنه يعتق من كل عبد ثلثه، ويسعى كل واحد في ثلثي قيمته للورثة. قالت الحنفية: إنه لا يعمل بهذا الحديث؛ لأنه أحادي خالف الأصول الثابتة بالتواتر. وهذه قاعدة الحنفية، وذلك أن السيد قد أوجب لكل واحد منهم العتق، فلو كان له مال لنفذ العتق في الجميع بالإجماع، وإذا لم يكن له مال وجب أن ينفذ لكل واحد منهم بقدر الثلث الجائز فعل السيد (ب) فيه. ولكنه يقال في الرد عليهم: إن هذا ليس ثابتًا في الأصول مطلقًا ولو أدخل ضررًا على الغير، وهذا يدخل ضررًا على الورثة وعلى العبيد المعتقين. وإذا جمع العتق في أشخاص بأعيانهم حصل الوفاء بحق المعتق وحق الوارث، فلا مخالفة للأصول. وقوله: ثم أقرع بينهم. قال الخطابي (¬1): فيه إثبات القرعة في تمييز الشائع. 1193 - وعن سفينة رضي الله عنه قال: كنت مملوكًا لأم سلمة فقالت: أعتقتك واشترطت عليك أن تخدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما عشت. رواه أحمد وأبو داود والنسائي والحاكم (¬2). ¬

_ (أ) في جـ: إلى. (ب) في جـ: السنة.

الحديث فيه دلالة على صحة اشتراط الخدمة على العبد العتق، والعتق يصح أن يعلق بشرط فيقع بوقوع الشرط، ويصح أن يكون معقودًا على عوض مال أو غرض كالخدمة، فيقع العتق بوقوع ذلك المعقود أو بالقبول لذلك، وإذا تعذرت الخدمة لزم (أ) العبد القيمة، ولعل هذه العبارة وهي قولها: واشرطت (ب) عليك. يتنزل منزلة العقد، كأنها قالت: على خدمة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وقد قال بهذا الهدوية، وروي عن عمر أنه أعتق رقيق الإمارة وشرط عليهم أن يخدموا الخليفة بعده ثلاث سنين. قال ابن رشد في "نهاية المجتهد" (¬1): ولم يختلفوا أن العبد إذا أعتقه سيده على أن يخدمه سنتين، أنه لا يتم عتقه إلا بخدمته. وهو يوافق ما ذكرته الهدوية، وكذا عند الحنفية، قال في "ملتقى الأبحر": ولو حرره على أن يخدمه سنة فقبل، عتق، وعليه أن يخدمه تلك المدة، فإن مات المولى قبلها, لزمه قيمة نفسه، وعند محمَّد قيمة خدمته. 1194 - وعن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنما الولاء لمن أعتق". متفق عليه في حديث (أ) (¬2). تقدم الحديث -وهذا بعض من حديث بريرة المذكورة في البيع- والكلام عليه. ¬

_ (أ) في جـ: لزمت. (ب) في جـ: شرطت.

وقوله: "والولاء لمن أعتق". يعني لا يثبت لغير المعتق بشرط، كما في حديث بريرة، ولا بغيره كما في الحديث الآتي، و"إنما" للحصر، وهو إثبات الحكم للمذكور ونفيه عما عداه، وقد استدل به على أنه لا ولاء بالإِسلام خلافًا للهدوية والحنفية، ولا للملتقط خلافًا لإسحاق. 1195 - وعن ابن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الولاء لحمة كلحمة النسب، لا يباع ولا يوهب". رواه الشافعي وصححه ابن حبان والحاكم (¬1)، وأصله في "الصحيحين" (¬2) بغير هذا اللفظ. الحديث أخرجه الشافعي عن محمَّد بن الحسن عن أبي يوسف عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر، ورواه ابن حبان في "صحيحه" من طريق [بشر] (أ) ابن الوليد عن أبي يوسف، لكن قال: عبيد الله بن عمر عن عبد الله بن دينار. وكذا رواه البيهقي (¬3)، وقال في "المعرفة" (¬4): كأن الشافعي حدّث به من حفظه فنسي عبيد الله بن عمر من إسناده، وقد رواه محمَّد بن الحسن في كتاب "الولاء" له عن أبي يوسف عن عبيد الله بن عمر عن عبد الله بن دينار به (ب). وقال أبو بكر النيسابوري (¬5): هذا خطأ بيِّن، ¬

_ (أ) في ب، جـ: بشير، والمثبت من مصدر التخريج. وينظر الجرح والتعديل 2/ 369. (ب) ساقط من: جـ.

الثقات رووه عن عبد الله بن دينار بغير هذا اللفظ، وهذا اللفظ إنما هو رواية الحسن المرسلة. ورواه البيهقي (¬1) من طريق ضمرة بن ربيعة عن الثوري عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر، وقد جمع أبو نعيم طرق حديث النهي عن بيع الولاء عن هبته في "مسند عبد الله بن دينار" له، فرواه عن نحوٍ من خمسين رجلًا (أو أكثر أ) من أصحابه عنه، ورواه أبو جعفر الطبري في "تهذيبه"، وأبو نعيم في "معرفة "الصحابة" (¬2)، والطبراني في "الكبير" من حديث عبد الله بن أبي أوفى، وظاهر إسناده الصحة، وهو يعكر على البيهقي حيث قال (¬3) عقيب حديث أبي يوسف: ويروى بأسانيد أخر كلها ضعيفة. وقوله: وأصله في "الصحيحين" (¬4). أخرج البخاري من حديث عبد الله بن دينار عن ابن عمر قال: نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الولاء وعن هبته. وكذا أخرجه مسلم عنه، وقال مسلم بعد إخراجه عن عبد الله بن دينار: الناس في هذا الحديث عيال عليه. وقال الترمذي (¬5) بعد تخريجه: حسن صحيح لا نعرفه إلا من حديث عبد الله بن دينار، رواه عنه سعيد وسفيان ومالك. وقوله: "الولاء لحمة كلحمة النسب". وفي رواية: "كلحمة الثوب". وقد اختلف في ضم اللام وفتحها؛ فقيل: هي في النسب مضمومة، وفي ¬

_ (أ - أ) في ب: وكثر.

الثوب بالفتح وحده. وقيل: بالفتح في النسب والثوب، فأما بالضم فهو ما (أيصاد به أ) الصيد، وفي "القاموس" (¬1) بفتح اللام وضمها في النسب والثوب. ومعنى الحديث أن المخالطة في الولاء تحري مجرى النسب في الميراث، كما تخالط (ب) اللُّحمة سد الثوب حتى يصيرا (جـ) كالشيء الواحد. كذا في "النهاية" (¬2). وقال ابن العربي (¬3): معناه أن المعتق أخرجه بالحرية إلى النسب حكمًا، كما أن الأب أخرجه بالنطفة إلى الوجود حشًا؛ لأن العبد كان كالمعدوم بالنظر إلى الأحكام التي قصر فيها عن الحر، فلما شابه حكم النسب جعل للعتق (د) حكم النسب. انتهى. وقوله: "لا يباع ولا يوهب". فيه دلالة على أنه لا يصح بيع الولاء ولا هبته؛ لأن ذلك أمر معنوي كالنسب لا يتأتى انتقاله؛ كالأبوة والأخوة والجدودة التي لا يتأتى انتقالها، قال ابن بطال (¬4): أجمع العلماء على أنه لا يجوز تحويل النسب. فإذا كان حكم الولاء حكم النسب، فكما لا ينتقل النسب لا ينتقل الولاء، وكانوا في الجاهلية ينقلون (هـ) بالولاء لا بالبيع وغيره، ¬

_ (أ - أ) في ب: يصادمه. (ب) في ب: تخلط. (جـ) في ب: يصير. (د) في ب: للمعتق. (هـ) في ب: يعطون.

فنهى الشرع عن ذلك. وقال ابن بطال (¬1) وغيره: جاء عن عثمان جواز بيع الولاء، وكذا عن عروة، وجاء عن ميمونة جواز هبة الولاء، فإنها وهبت ولاء سليمان بن يسار لابن عباس. قال المصنف رحمه الله تعالى (¬2): قلت: قد أنكر ذلك ابن مسعود في زمن عثمان، فأخرج عبد الرزاق (¬3) عنه أنه كان يقول: أيبيع أحدكم [نسبه] (أ)؟ ومن طريق على: الولاء شعبة من النسب (¬4). ومن طريق جابر أنه أنكر بيع الولاء وهبته (¬5). ومن طريق عطاء أن ابن عمر كان ينكره (¬6)، ومن طريق عطاء عن ابن عباس: لا يجوز (¬7). وسنده صحيح، ومن ثم فصلوا في النقل عن ابن عباس بين البيع والهبة. انتهي. وروى في "البحر" عن مالك، أنه يجوز هبة الولاء وبيعه، ولم أره في غيره، ويحتج عليه بالحديث. ¬

_ (أ) في ب: نسيبه، وفي جـ: سببه. والمثبت من مصدر التخريج.

باب المدبر والمكاتب وأم الولد

باب المدبر والمكاتب وأم الولد المدبر بفتح الباء: اسم مفعول، هو الذي علق عتقه بموت مالكه؛ سمي بذلك لأن الموت دبر الحياة، أو لأن فاعله دبر أمر دنياه وآخرته؛ أما دنياه فباستمراره على الانتفاع بخدمة عبده، وأما آخرته فبتحصيل ثواب العتق، وهو راجع إلى الأول؛ لأن تدبير الأمور راجع إلى النظر في العاقبة، فيرجع إلى دبر الأمر وهو آخره. والمكاتب بفتح التاء اسم مفعول: مَنْ وقعت عليه الكتابة، وبالكسر اسم فاعل: مَن تقع منه الكتابة، والكتابة مصدر بكسر الكاف وفتحها، قال الراغب (¬1): اشتقاقها من كتب بمعنى أوجب، ومنه قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} (¬2). {نَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} (¬3). أو بمعنى وجب وضم، ومنه كتب الخط، وعلى الأول فالمناسبة أن الكتابة يلتزم فيها أداء المال المناسب، بمعنى (أ) الوجوب، أي: الثبوت، وعلى الثاني، فلما يكون عند عقدها من كتابة نجوم الأداء وعقدها غالبًا. قال الروياني (¬4): الكتابة إسلامية ولم تكن تعرف في الجاهلية. وقال ابن التين (4): كانت الكتابة متعارفة قبل الإِسلام فأقرها ¬

_ (أ) في ب: لمعنى.

النبي - صلى الله عليه وسلم -. وقال ابن خزيمة في كلامه على حديث بريرة: قيل: إن بريرة أول مكاتبة في الإِسلام، وقد كانوا يكاتبون في الجاهلية بالمدينة، وأول من كوتب في الإِسلام من الرجال سلمان. وقال ابن التين حكاية (¬1): أن أول من كوتب أبو المؤمل فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " [أعينوه] " (أ). وأول من كوتب من النساء بريرة، وأول من كوتب بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - أبو أمية مولى عمر، [ثم] (ب) سيرين مولى أنس. وحقيقة الكتابة تعليق عتق على أداء مال أو نحوه من مالك أو نحوه لمملوك، وهي (جـ) على خلاف القياس عند من يقول: إن العبد لا يملك. وهي لازمة من جهة السيد إلا إن عجز العبد، وجائزة غير واجبة عليه على الراجح من أقوال العلماء. وأم الولد هي من ولدت من مالكها. 1196 - وعن جابر رضي الله عنه، أن رجلًا من الأنصار أعتق غلامًا له (د)، عن دبر لم يكن له مال غيره، فبلغ ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "من يشتريه مني؟ " فاشتراه نعيم بن عبد الله بثمانمائة درهم. متفق عليه (¬2). وفي لفظ البخاري: فاحتاج. وفي رواية النسائي (¬3): وكان عليه دين فباعه ¬

_ (أ) في ب، جـ: أعتقوه. والمثبت من الفتح. (ب) في ب، جـ: بن. والمثبت من الفتح. (جـ) في جـ: هو. (د) ساقطة من: جـ.

بثمانمائة درهم فأعطاه وقال: "اقض دينك". قوله: أن رجلًا. اسمه مذكور، والغلام اسمه يعقوب. كذا في رواية مسلم وأبي داود والنسائي (¬1)، والغلام قبطي. كذا في رواية مسلم (¬2) وابن أبي شيبة (¬3)، ومات أول عام في إمارة ابن الزبير. والحديث فيه دلالة على مشروعية التدبير، وهو متفق عليه، وله ألفاظ صريحة وكناية، فصريحه (أ): أنت حرٌّ على دبر مني. أو: أنت مُدَبَّر. وأما: أنت حر بعد موتي. فقال مالك (¬4): إذا قاله وهو صحيح، فالظاهر أنه وصية، والقول قوله في ذلك، ويجوز رجوعه إلا أن يريد التدبير. وبه قال ابن (ب) القاسم، وقال (أبو حنيفة): الظاهر أنه تدبير فليس له الرجوع. وقال به من أصحاب مالك أشهب، إلا أن يكون هناك قرينة تدل على الوصية، مثل أن يكون على سفر، أو يكون مريضًا، أو ما أشبه ذلك من الأحوال التي جرت العادة أن يكتب الناس فيها وصاياهم. وجعله الإِمام المهدي في "البحر" صريح التدبير، وجعل في: دبرتك. احتمال الصريح والكناية، واختلف العلماء: هل ينفذ من رأس المال أو من الثلث؟ فذهب ¬

_ (أ) في جـ: بصريحه. (ب) ساقطة من: ب. (جـ- جـ) ساقط من: جـ.

الجمهور إلى أنه ينفذ من الثلث، وذهب ابن مسعود والحسن البصري وسعيد بن جبير والنخعي ومسروق والظاهرية إِلى أنه ينفذ من رأس المال، وحجة الأولين القياس على الوصية بجامع أنه مال ينفذ بعد الموت فيكون من الثلث، وبما أخرجه البيهقي (¬1) من حدثنا علي بن ظبيان عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر: "المدبر من الثلث". مرفوعًا، ورواه الشافعي (¬2) أيضًا عن علي بن ظبيان وقال: قلت لعلي: كيف هو؟ قال: كنت أحدث به مرفوعًا، فقال لي أصحابي: ليس هو بمرفوع. فوقفته. قال الشافعي: و (أ) الحفاظ يقفونه على ابن عمر. ورواه الدارقطني (¬3) من حديث عبيدة بن حسان (¬4) عن أيوب عن نافع مرفوعًا بلفظ: "المدبر لا يباع ولا يوهب، وهو حر من الثلث". قال أبو [حاتم] (ب) (¬5): عبيدة منكر الحديث. وقال الدارقطني في "العلل" (¬6): الأصح وقفه. وقال العقيلي (¬7): لا يعرف إلا بعلي بن ظبيان وهو منكر الحديث (¬8). وقال أبو زرعة (¬9): الموقوف أصح. بل قال ¬

_ (أ) ساقطة من: ب. (ب) ساقطة من: ب، جـ. والمثبت من التلخيص الحبير 4/ 215.

أبو زرعة: بل (أ) رفعه باطل. وقال ابن القطان (¬1): المرفوع ضعيف. وقال البيهقي (¬2): الصحيح موقوف كما رواه الشافعي. وروي من وجه آخر عن أبي قلابة مرسلًا، أن رجلًا أعتق عبدًا له عن دبر فجعله النبي - صلى الله عليه وسلم - من الثلث، وعن علي كذلك موقوفًا عليه، وروى بسنده عن عثمان بن أبي شيبة أنه قال: حديث علي بن ظبيان خطأ (¬3). وعلي بن ظبيان هو قاضي بغداد تفقه بأبي حنيفة. وحجة الآخرين القياس على الهبة ونحوها مما يخرجه الإنسان من ماله في حال حياته فأشبه الهبة، وكأنهم رجعوا إلى القياس لما ضعف الحديث، ولكنه يقال: هذا الحديث وإن ضعف فضعفه لأجل الوقف، إلا أنه مؤيد بالقياس على الوصية، ويتأيد بصحة بيعه (ب) لإعسار صاحبه، فإن أكثر التصرفات التي تنقض إنما هي ما لم تكن نافذة في حال الحياة، وهذا في الوصية لا في غيرها، فهذا لما نقض كان كالوصية، وإن كان النقض لأجل إعسار السيد فهي قضية عينية لا يمنع البيع لغيرها، وقد روي عن عائشة رضي الله عنها، أنها باعت جارية سَحَرتها وقد كانت مُدَبَّرة (¬4). ولعل هذا حجة الهدوية الذين قالوا: إنه يجوز بيع المدبر لفسق أو ضرورة. والحديث فيه دلالة على صحة بيع المدبر ولكن في حق من لا مال له، ¬

_ (أ) ساقطة من: جـ. (ب) في جـ: منعه.

كما في رواية البخاري، أو في قضاء الدين، كما في رواية النسائي، وقد احتج بهذا الهادي والقاسم والمؤيد وأبو طالب، أنه لا يجوز بيعه إلا لضرورة، وذهب إليه طاوس أيضًا، وذهب مالك وأبو حنيفة وجماعة من أهل الكوفة إلى أنه ليس للسيد أن يبيع مُدَبَّره، قالوا: لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} (¬1). ولأنه عتق إلى أجل فأشبه أم الولد، أو أشبه العتق المطلق، إلا أن مالكًا قال: إذا باعه إلى من يعتقه نفذ البيع والعتق، وقال أبو حنيفة والكوفيون: البيع مفسوخ سواء أعتقه المشتري أم لم يعتقه. وظاهر كلامهم أنه لا يصح بيعه ولو للدين، والحديث يرد عليهم ويكون تخصيصًا (ب) لعموم الآية، وذهب الشافعي وأحمد وأهل الظاهر وأبو ثور وأهل الحديث، ونقله البيهقي في "المعرفة" (¬2) عن أكثر الفقهاء، إلى أن للسيد أن يبيع مدبره، قالوا: لحديث جابر، ولشبهه بالوصية، وينفذ غير البيع من الهبة والنذر كما يبطل الوصية، والحديث لم يكن فيه قصر الحكم على حالة الحاجة والضرورة، وإنما الواقع [جزئي] (أ) من جزئيات صور بيعه، وقياسه على الوصية يؤيد اعتبار الجواز المطلق، وأبو حنيفة يجوّز بيعه إذا كان التدبير مقيدًا كـ: إن مت في شهري أو مرضي هذا. لشبهه بالمشروط، كذا روى الخلاف هذا عن أبي حنيفة في "البحر"، وكذا في "ملتقى الأبحر"، ورده ¬

_ (أ) في جـ: مخصصا. (ب) في ب، جـ: جزأين. والمثبت من السبل 4/ 290.

الإِمام المهدي بأن الدليل لم يفصل (أ)، وبأن المختار في مثل هذا أنه ليس بتدبير بل عتق معلق على شرط، وفيه تفصيل؛ أنه إن قصد به تنجيز العتق بطل العتق؛ لأنه بعد موته قد صار في ملك الورثة، وإن قصد به الوصية كان وصية، وقد تقدم الخلاف في هذا، وروي عن أحمد الجواز في المدبرة دون المدبر. وعن الليث: يجوز إن شرط على المشتري عتقه. وعن ابن سيرين: يبيعه من نفسه. 1197 - وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "المكاتب عبد ما بقي عليه من مكاتبته درهم". أخرجه أبو داود (¬1) بإسناد حسن، وأصله عند أحمد والثلاثة وصححه الحاكم (¬2). رووا الحديث من طرق، ورواه النسائي وابن حبان (¬3) من وجه آخر من حديث عطاء عن عبد الله بن عمرو في حديث طويل ولفظه: "ومن كان مكاتبًا على مائة درهم فقضاها إلا أوقية فهو عبد". قال النسائي (¬4): هذا ¬

_ (أ) في ب: يفضل.

حديث منكر، وهو عندي خطأ. وقال ابن حزم (¬1): عطاء عندي هذا هو الخراساني ولم يسمع من عبد الله بن عمرو. وقال الشافعي (¬2) في حديث عمرو بن شعيب: لا أعلم أحدًا روى هذا إلا عمرو بن شعيب، ولم أر من رضيت من أهل العلم يثبته، وعلى هذا فتيا المفتين. واخرج ابن أبي شيبة (¬3) موقوفًا على عائشة رضي الله عنها عن سليمان بن يسار قال: استأذنت على عائشة فعرفت صوتي فقالت: سليمان (أ)؟ فقلت: سليمان. فقالت: أديت ما بقي عليك من كتابتك؟ قلت: نعم، إلا شيئًا يسيرًا. قالت: ادخل فإنك عبد ما بقي عليك شيء. وأخرج الشافعي (¬4) أن زيد بن ثابت قال في المكاتب: هو عبد ما بقي عليه درهم. والحديث فيه دلالة على أن المكاتب إذا لم يوف ما عليه من مال الكتابة فهو عبد له أحكام المملوك جميعها، وقد ذهب إلى هذا الجمهور؛ منهم عمر وابن عمر وعائشة وأم سلمة والحسن وابن المسيب والزهري والثوري والهادي وأبو حنيفة والشافعي ومالك، وقد روي عن علي (¬5)، أنه يعتق إذا أدّى الشطر. ورواية عنه (¬6) أنه يعتق منه بقدر ما أدّى. وعن ابن ¬

_ (أ) في حاشية ب: كان مولى لميمونة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم -.

مسعود (¬1): لو كاتبه على ما في أوقية وقيمته مائة فأدى المائة عتق. وهو رواية عن عائشة وابن عمر وزيد بن ثابت (¬2). والأشهر عنهم مثل قول الجمهور، وروي عن بعض من السلف أنه يعتق بعقد الكتابة. وعن بعض: إذا أدى الثلث. وقول الجمهور هو الأولى، وهو متأيد بالآثار عن (1) الصحابة وقد صحت عنهم الرواية, وروى ذلك مالك في "الموطأ" (¬3)، ولأنه أخذ بالاحتياط في ملك السيد لا يزول إلا بما قد رضي به من تسليم ما عقد عليه، وشبهة من قال: يعتق بعقد الكتابة. أنه شبه الكتابة بالبيع، فكأن المكاتب اشترى نفسه من سيده. ومن ذهب إلى أنه يعتق منه بقدر ما أدى احتج بما أخرجه النسائي (¬4) من حديث يحيى بن أبي كثير عن عكرمة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "يُودى المكاتب بحصة ما أدى دية حر وما بقى دية عبد". قال البيهقي (¬5): قال أبو عيسى فيما بلغني عنه: سألت البخاري عن هذا الحديث فقال: روى بعضهم هذا الحديث عن أيوب عن عكرمة عن علي رضي الله عنه. قال البيهقي: فاختلف على عكرمة فيه، ورواية عكرمة عن علي مرسلة، ورواه حماد بن زيد وإسماعيل بن إبراهيم عن أيوب عن عكرمة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسلًا، وجعله إسماعيل من قول عكرمة. وروي موقوفًا عن علي ¬

_ (أ) زاد في جـ: بعض.

من طرق أخرجها البيهقي، ومن طرق مرفوعًا (¬1). وقد ذهب إلى هذا من الهدوية المؤيد بالله وأبو طالب، وهذا الخلاف إنما هو في جري الأحكام على المكاتب في الحدود والدية وغيرها. وأما بيع المكاتب فقد تقدم الكلام عليه في كتاب البيع (¬2). 1198 - وعن أم سلمة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا كان لإحداكن مكاتب وكان عنده ما يؤدي فلتحتجب منه". رواه أحمد والأربعة (¬3) وصححه الترمذي. الحديث من رواية سفيان عن الزهريّ. قال الشافعي (¬4): ولم أحفظ عن سفيان أن الزهريّ سمعه من نبهان مكاتب أم سلمة (¬5). وقد روي من حديث معمر عن الزهريّ، قال الشافعي: ولم أر من رضيت من أهل العلم يثبت واحدًا من هذين الحديثين. يعني حديث نبهان وحديث عمرو بن شعيب الذي مرَّ وتعقب عليه البيهقي بأن حديث عمرو قد روي من أوجه، وحديث نبهان قد صرح فيه معمر بسماع الزهريّ من نبهان، إلا أن البخاري ومسلمًا لم يخرجا حديث نبهان في الصحيح، وكأنه لم تثبت عدالته عندهما، أو لم يَخْرُجْ من حد الجهالة برواية عدل عنه، وقد أخرجه ابن ¬

_ (¬1) البيهقي 10/ 326. (¬2) تقدم 6/ 46، 47. (¬3) أحمد 6/ 289، وأبو داود، كتاب العتق، باب في المكاتب يؤدي بعض كتابته فيعجز أو يموت 4/ 20 ح 3928، والترمذي، كتاب البيوع، باب ما جاء في المكاتب إذا كان عنده ما يؤدي 3/ 562 ح 1261، والنسائي في الكبرى, كتاب عشرة النساء، دخول العبد على سيدته ونظره إليها 5/ 389 ح 9228، وابن ماجه، كتاب العتق، باب المكاتب 2/ 842 ح 2520. (¬4) البيهقي 10/ 327. (¬5) تقدمت ترجمة نبهان في 2/ 401.

خزيمة (¬1) عن أبي بكر بن إسحاق [الصغاني] (أ) عن قبيصة عن سفيان عن محمَّد بن عبد الرحمن مولى [آل] (ب) طلحة عن مكاتب مولى أم سلمة يقال له: نبهان. فذكر هذا الحديث، وأخرجه محمَّد بن يحيى الذهلي (¬2) عن محمَّد بن يوسف عن سفيان بالإسناد الأول، فذكر حديث نبهان. الحديث فيه دلالة على أن المكاتب إذا كان معه وفاء مال الكتابة، أنه قد صار حرًّا فتحتجب منه سيدته، وظاهره: وإن لم يكن قد سلَّم ذلك. وهو يخالف حديث عمرو بن شعيب، ولذلك تأوله الشافعي وقال (¬3): إن هذا يجوز أن يكون خاصًّا بأزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو احتجابهن عن المكاتب، وإن لم يكن قد سلَّم مال الكتابة إذا كان يجده، ولا (جـ) منع من ذلك كما منع سودة من نظر ابن زمعة إليها مع أنه قد قال: "الولد للفراش" (¬4). وهو قريب، وأما ما رواه عبد الله بن زياد بن سمعان (¬5) عن ابن شهاب أن أم سلمة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - قالت لنبْهان مكاتبها: ادفع ما بقي من كتابتك إلى ابن أخي ابن عبد الله بن أبي أمية فإني قد أعنته بها، ثم لا تكلمني إلا من وراء حجاب. ¬

_ (أ) في الأصل، جـ: الصنعاني. والمثبت من مصدر التخريج، وينظر الأنساب 3/ 508، 542. (ب) في الأصل، جـ: أبي. والمثبت من مصدر التخريج، وينظر تهذيب الكمال 25/ 614. (جـ) في جـ: إلا.

فبكى نبهان، فقالت أم سلمة: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لنا: "إذا كاتبت إحداكن عبدها [فليرها] (أ) ما بقي عليه شيء من كتابته، فإذا قضاها فلا تكلمن إلا من وراء حجاب". فهو ضعيف، ورواية الثقات عن الزهريّ بخلافه. والحديث فيه دلالة بمفهومه، وهو مفهوم الشرط، أنه يجوز له النظر إذا لم يكن معه وفاء مال الكتابة أولم يؤد ذلك، وذلك لأنه باق على ملك المكاتبة، والمملوك يجوز له النظر إلى سيدته، وهو موافق لقوله تعالى: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ}. في سورة "النور" (¬1) وقد ذهب إلى هذا أكثر السلف، ورواه في "البحر" عن عائشة وابن المسيب وأحد قولي الشافعي؛ للآية الكريمة ولحديث أم سلمة، ويحتج أيضًا لهم بقوله - صلى الله عليه وسلم - لفاطمة لما تقنعت بثوب إذا قنعت رأسها لم يبلغ رجليها وإذا غطت رجليها لم يبلغ رأسها فقال - صلى الله عليه وسلم -: "ليس عليك بأس، إنما هو أبوك وغلامك" (¬2). ثم قال: وذهب الهدوية وأبو حنيفة وأصحابه وأحد قولي الشافعي إلى أن المملوك كالأجنبي؛ بدليل صحة تزويجها إياه بعد العتق، وأجاب عن الآية بأن سعيد بن المسيب قال: لا تغرنكم آية "النور" فالمراد بها الإماء (¬3). وأن سعيدًا رجع عن مذهبه، قال في "البحر": وخصهن بالذكر رفعًا لتوهم مخالفتهن للحرائر في قوله تعالى: {أَوْ نِسَائِهِنَّ}. إذ الإماء ليس من نسائهن، إذ الإضافة تقتضي أن المراد أمثالهن، وقالت ميسون لمعاوية في الخصي: إن المثلة لا تحل ما حرم الله. وأجاب عن حديث أم سلمة بأنه مفهوم لا يؤخذ به انتهى. ولا يخفى ¬

_ (أ) في ب، جـ: فليراها. والمثبت من مصدر التخريج.

عليك ما في هذا؛ فإن الآية ظاهرة في تعميم: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ}. ولا مساغ للتوهم الذي قال برفعه، وقول ميسون لا يعتد به، والمفهوم معمول به عند الأكثر مع أن في كلام أم سلمة تصريح بجواز النظر عند ألا يفي، وفي كلام عائشة وفعلها ذلك، وهن أعرف بمعاني خطابه - صلى الله عليه وسلم - لهن، والله سبحانه أعلم (أ). 1200 - وعن عمرو بن الحارث، أخي جُوَيرية أم المؤمنين رضي الله عنها، قال: ما ترك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند موته درهما ولا دينارًا, ولا عبدًا ولا أمةً، ولا شيئًا، إلا بغلته البيضاء وسلاحه وأرضًا جعلها صدقة. رواه البخاري (¬1). هو عمرو بن الحارث بن أبي ضرار، بكسر الضاد المعجمة وبراء خفيفة، ابن عايذ، بالعين المهملة وباثنتين من أسفل تحتها نقطان وبالذال المعجمة، ابن مالك بن جذيمة، وهو المصطلق بن سعد الخزاعي عداده في أهل الكوفة، روى عنه أبو وائل شقيق بن سلمة وأبو إسحاق السبيعي (¬2). الحديث فيه دلالة على ما كان عليه - صلى الله عليه وسلم - من الزهد في الدنيا وإنفاق ما وصل إليه - صلى الله عليه وسلم -، وتنزهه عن أعراضها وأدناسها، وخلو قلبه وقالبه عن ¬

_ (أ) في حاشية ب: وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال يودى المكاتب بقدر ما عتق منه دية الحر وبقدر ما رق منه دية العبد. والحديث تقدم نحوه عن عكرمة مرسلًا في ص 544. وأخرجه النسائي في الكبرى 3/ 196 ح 5019، والدارقطني 4/ 122 ح 4، والحاكم 2/ 237.

الاشتغال بغير عبادة ربه سبحانه وتعالى، حتى نقله إلى الرفيق الأعلى سالمًا عن الأغراض والأعراض، وكان ما قد ملكه من أرقائه إما قد مات أو معتقا. وفيه دلالة على أن أم الولد تعتق بموت سيدها، فإن مارية القبطة أم إبراهيم صلى الله على نبينا وعليه وسلم توفيت في زمن عمر بن الخطاب سنة ست عشرة ودفنت بالبقيع، وهذا وجه ذكر الحديث هنا. وقد قيل: إنها ماتت في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم -. والأول هو الأشهر. وقوله: ولا شيئًا. على الأصح في رواية البخاري وكذا رواية الإسماعيلي (¬1)، وفي رواية الكشميهني (1): ولا شاة. وفي رواية مسلم (¬2) عن عائشة قالت: ما ترك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - درهما ولا دينارًا ولا شاة ولا بعيرا ولا أوصى بشيء. وقوله: وأرضًا جعلها صدقة. جاء في رواية أبي داود (¬3) أن صدقته - صلى الله عليه وسلم - كانت في المدينة أرضا، قال: فكانت نخل بني النضير لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - خاصة، أعطاها [الله] (أ) إياه، فقال: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ} (¬4). قال: فأعطى أكثرها للمهاجرين، وبقى منها صدقة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - التي في أيدي بني فاطمة. ولأبي داود (¬5) أيضًا من طريق ابن شهاب، قال: كانت ¬

_ (أ) ساقطة من: ب، جـ. والمثبت من مصدر التخريج.

لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاث صفايا؛ [بنو] (أ) النضير وخيبر وفدَك، فأما بنو النضير فكانت حُبُسًا لنوائبه، وأما فدك فكانت حُبُسًا لأبناء السبيل، وأما خيبر فجزأها ما (ب) بين المسلمين، ثم قسم جزءًا لنفقة أهله، وما فَضَلَ منه جعله في فقراء المهاجرين. وجاء في رواية [أبي] (جـ) إسحاق (¬1): وأرضا جعلها لابن السبيل صدقة. 1201 - وعن ابن عباس رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "أيما أمة ولدت من سيدها فهي حرة بعد موته". أخرجه ابن ماجه والحاكم (¬2) بإسناد ضعيف، ورجح جماعة وقفه على عمر رضي الله عنه. تقدم الكلام في هذا الحديث في كتاب البيع فخذه من هناك وافيا (¬3). 1202 - وعن سهل بن حنيف رضي الله عنه، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من أعان مجاهدًا في سبيل الله، أو غارمًا في عسرته، أو مكاتبًا في رقبته، أظله الله يوم لا ظل إلا ظله". رواه أحمد، وصححه الحاكم (¬4). ¬

_ (أ) في ب، جـ: بني. والمثبت من مصدر التخريج. (ب) ساقطة من: جـ، وفي مصدر التخريج: رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاثة أجزاء، جزأين. (جـ) في ب، جـ: ابن. والمثبت من مصدر التخريج، وهو أبو إسحاق السبيعي. وينظر الفتح 5/ 360.

وأخرج الحديث البيهقي (¬1) أيضًا، وقد تقدم بعض مباحث الحديث في تحقيق الظل في باب الصدقة (¬2). والله أعلم. ¬

_ (¬1) البيهقي 10/ 320. (¬2) تقدم في 4/ 364.

كتاب الجامع

كتاب الجامع باب الأدب 1203 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "حق المسلم على المسلم ست؛ إذا لقيته فسلم عليه، وإذا دعاك فأجبه، وإذا استنصحك فانصحه، وإذا عطس فحمد الله فشمته، وإذا مرض فعده، وإذا مات فاتبعه". رواه مسلم (¬1). قوله: "حق المسلم". الحق معناه ما لا ينبغي تركه، ويكون فعله إما واجبًا أو مندوبًا ندبًا مؤكدا شبيها بالواجب الذي لا ينبغي تركه، ويكون استعماله في المعنيين من باب استعمال المشترك في معنييه، فإن الحق مستعمل في معنى الواجب. كذا ذكره ابن الأعرابي، وفي معنى الثابت، ومعنى اللازم، ومعنى الصدق وغير ذلك، فيكون هنا مستعملا في الواجب والمندوب ندبًا مؤكدًا تشبيهًا (أ) بالواجب، وكون بعض هذه المذكورة واجبًا على خلاف فيه. وقوله: "ست". جاء في رواية لمسلم (¬2): "خمس تجب للمسلم على أخيه، رد السلام". وذكر الباقي، وأسقط منها "إذا استنصحك فانصح له". ¬

_ (أ) في جـ: شبيها.

وقوله: "إذا لقيته فسلم عليه". من باب الالتفات من الغيبة إلى الخطاب. والحديث فيه دلالة على شرعية الابتداء بالسلام، ونقل ابن عبد البر (¬1) وغيره إجماع المسلمين أن ابتداء السلام سنة وأن رده فرض، وأقل السلام أن يقول: السلام عليكم. فإن كان المسلَّمُ عليه واحدًا فأقله: السلام عليك. والأفضل أن يقول: السلام عليكم. ليتناوله وملائكته، وأكمل منه أن يزيد: ورحمة الله. وأيضًا: وبركاته. ولو قال: سلام عليكم. أجزأه. واستدل العلماء لزيادة: ورحمة الله وبركاته. يقول الله تعالى إخبارًا عن سلام الملائكة بعد ذكر السلام: {رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ} (¬2). وبقول المسلمين في التشهد: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته. وإذا كان المسلِّم جماعة فهو سنة كفاية في حقهم، إذا سلم بعضهم حصلت أصل سنية السلام في حق جميعهم، فإن كان المسلَّم عليه واحدًا تعين عليه الرد، وإن كانوا جماعة كان الردُّ فرض كفاية في حقهم، فإذا ردَّ واحدٌ سقط عن الباقين، والأفضل أن يبتدئ الجميع بالسلام وأن يرد الجميع. وعن أبي يوسف: يتعين على الجميع الرد (¬3). ويكره أن يقول المبتدئ: عليكم السلام. فإن قاله استحق الجواب على الصحيح المشهور، وقيل: لا يستحق. وقد صحَّ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تقل: ¬

_ (¬1) التمهيد 5/ 289. (¬2) الآية 73 من سورة هود. (¬3) شرح مسلم 14/ 140.

عليك السلام. فإن عليك السلام تحية الموتى" (¬1). وأما صفة الرد فالأفضل والأكمل أن يقول: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته. فيأتي بالواو، فلو حذفها جاز وكان تاركًا للأفضل، ولو اقتصر على: وعليكم السلام. أو على: عليكم السلام. أجزأه، فلو اقتصر على: عليكم. لم يجزئه بلا خلاف، ولو قال: وعليكم. بالواو، ففي إجزائه وجهان لأصحاب الشافعي، فإذا قال المبتدئ: سلام عليكم. أو: السلام عليكم. أجزأه وكان الجواب مثله. قال الله تعالى: {قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ} (¬2). ولكن بالألف واللام أفضل، وأقل السلام ابتداء وردًّا أن يسمع صاحبه، ولا يجزئه دون ذلك، ويشترط كون الرد على الفور، ولو أتى سلام من غائب مع رسول أو في ورقة، وجب الرد على الفور، وجاء في رواية مسلم (¬3): "يسلم الراكب على الماشي والماشي على القاعد والقليل على الكثير". وفي رواية البخاري (¬4): "والصغير على الكبير". وهذا كله للاستحباب، فلو عكسوا جاز وكان خلاف الأفضل. ¬

_ (أ) ساقطة من: ب، جـ، وهو عبد الله بن محيريز الإِمام الفقيه. وينظر سير أعلام النبلاء 4/ 494.

ومفهوم قوله: "حق المسلم". أنه لا يسلم على الكافر ابتداء ولو ذمِّيًّا، وأخرج البخاري في "صحيحه" (¬1) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تبدءوا اليهود ولا النصارى بالسلام، فإذا لقيتم أحدهم في طريق فاضطروه إلى أضيقه". وفي "الصحيحين" (¬2) عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا سلم عليكم أهل الكتاب فقولوا: وعليكم". وفي "صحيح البخاري" (¬3) عن ابن عمر رضي الله عنه، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا سلم عليكم اليهود فإنما يقول أحدهم: السام عليكم. فقل: وعليك". وفي ذلك أحاديث كثيرة، وقد قَطَع بأنه لا يجوز ابتداؤهم بالسلام الأكثرُ، وقال بعض أصحاب الشافعي: يكره. وحكى الماوردي وجهًا لبعض أصحاب الشافعي بجواز الابتداء بالسلام لهم، لكن يقتصر المسلم على قوله: السلام عليك. وروي ذلك عن ابن عباس وأبي أمامة (3) بن محيريز (¬4)، وحكى القاضي عن جماعة أنه يجوز ابتداؤهم للضرورة والحاجة، وهو قول علقمة والنخعي، وعن الأوزاعي قال: فإن سلمت فقد سلم الصالحون وإن تركت فقد ترك الصالحون. ولو سلم على رجل ظنه مسلمًا فبان كافرا، استحب أن يسترد سلامه ويقول له: رُدَّ علي سلامي. والغرض من ذلك أن يوحشه ويُظهر له أنه ليس بينهما ألفة. ¬

_ (¬1) البخاري في الأدب المفرد 2/ 531، 538 ح 1103، 1111 بنحوه، ولم أجده في الصحيح، ومسلم 4/ 1707 ح 13/ 2167، واللفظ له. (¬2) البخاري 11/ 42 ح 6258، ومسلم 4/ 1705 ح 6/ 2163. (¬3) البخاري 11/ 42 ح 6257. (¬4) تقدم في 9/ 294.

وروي أن ابن عمر، رضي الله عنهما، سلم على رجل، فقيل له: إنه يهودي. فتبعه وقال له: ردّ عليّ سلامي (¬1). وفي "الموطأ" (¬2) عن مالك أنه لا يسترده، واختاره ابن العربي، وقال أبو سعد. لو أراد تحية ذمي فعلها بغير السلام بأن يقول: هداك الله. أو (أ) أنعم الله صباحك. قال النووي (¬3): لا بأس بذلك إذا احتاج إليه، وأما إذا لم يحتج إليه فالاختيار ألا يقول شيئًا؛ فإن في ذلك إيناسًا وإظهار تودد. وأما إذا من على جماعة فيهم مسلم وكافر، فالسنة أن يسلم عليهم ويقصد المسلم؛ كما في "الصحيحين" (¬4) عن أسامة رضي الله عنه، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مر على مجلس فيه أخلاط من المسلمين والمشركين عبدة الأوثان واليهود فسلم عليهم النبي - صلى الله عليه وسلم -. وفي "الصحيحين" (¬5) في كتاب النبي - صلى الله عليه وسلم - في قصة هرقل، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كتب: "من محمَّد عبدِ الله ورسوله إلى هرقل عظّم الروم: سلام على مِن إتبع الهدى". وأما جواب سلام الذمي ففي "الصحيحين" (¬6) عن أنس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ¬

_ (أ) في ب: و.

"إذا سلم عليكم أهل الكتاب فقولوا: وعليكم". وفي "صحيح البخاري" (¬1) عن ابن عمر رضي الله عنه، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا سلم عليكم اليهود فإنما يقول أحدهم: السام عليك. فقل: وعليك". وقد ذهب إلى هذا أكثر العلماء بأن يقتصر في الجواب بقوله: وعليكم. بإثبات الواو وبحذفها، فإن كان بالواو فمعناه: وعليكم الموت. أي: نحن وأنتم فيه سواء كلنا يموت، ويحتمل الواو للاستئناف لا للعطف، وتقديره: وعليكم ما تستحقونه من الذم. ومع حذف الواو؛ تقديره: بل عليكم السام. واختار ابن حبيب حذف الواو لئلا يقتضي التشريك، وقال غيره بإثباتها كما في أكثر الروايات، وقال بعضهم: يقول: عليكم السِّلام. بكسر السين، أي الحجارة، وهذا ضعيف، قال الخطابي (¬2): عامة المحدثين يروون هذا الحرف: وعليكم. بالواو، وكان ابن عيينة يرويه بغير واو. قال الخطابي: وهذا هو الصواب؛ لأنه إذا حذف الواو صار كلامه بعينه مردودا عليهم خاصة، وإذا أثبت الواو اقتضى المشاركة معهم فيما قالوه. انتهى. والصواب أن كلا الأمرين جائزان والمعنى مستقيم عليهما، وثبوت الرواية بالواو عند الأكثر، وحذفها عند ابن عيينة، وظاهر قوله: "فقولوا". يدل على وجوب الرد على أهل الكتاب وهو متأيد بقوله تعالى: {وَإِذَا ¬

_ (¬1) تقدم ص 146. (¬2) معالم السنن 4/ 154.

حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ} (أ) (¬1) الآية. فإن الآية مطلقة في حق المسلم وغيره، وذهب إلى هذا أكثر العلماء وعامة السلف، وذهب بعض العلماء إلى أنه لا يرد عليهم السلام، ورواه ابن وهب وأشهب عن مالك (¬2)، ولكن الحديث يرد عليهم. والسلام قيل: هو اسم من أسماء الله تعالى. فقوله: السلام عليكم: أي اسم الله تعالى [عليكم] (ب). أي أنت في حفظ الله، كما يقال: الله معك. و: الله يصحبك. وقيل: السلام بمعنى السلامة. أي السلامة ملازمة لك. والله أعلم. وقوله: "وإذا دعاك فأجبه". المراد به إجابة دعوة الوليمة ونحوها من الطعام، وقد تقدم ذلك في باب الوليمة من كتاب النكاح. وقوله: "إذا استنصحك". أي طلب منك النصيحة فانصحه، يدل على وجوب بذل النصيحة؛ لأن تركها من باب الغش، وليس منا من غش. ¬

_ (أ) في حاشية ب: يقال المراد بالتحية المشروعة، وتحية اليهود بالسام غير مشروعة فلا يلزم الرد. (ب) ساقطة من: ب، جـ. والمثبت من شرح مسلم 14/ 141.

وقوله: "وإذا عطس فحمد الله فشمته". الحديث فيه دلالة على شرعية الحمد للعاطس، وقد اتفق العلماء على استحبابه، وأن يقول: الحمد لله. فلو زاد: رب العالمين. لكان أحسن، وفي "سنن أبي داود" (¬1) وغيره بإسناد صحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا عطس أحدكم فليقل: الحمد لله على كل حال". قال: "وليقل أخوه أو صاحبه: يرحمك الله. ويقول هو: يهديكم الله ويصلح بالكم". وفي "سنن الترمذي" (¬2) عن ابن عمر رضي الله عنه، أن رجلًا عطس إلى جنبه فقال: الحمد لله والسلام على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فقال ابن عمر: وليس هكذا علمنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ علمنا أن نقول: الحمد لله على كل حال (¬3). وفي "صحيح البخاري" (¬4) عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا عطس أحدكم فليقل: الحمد لله. وليقل له أخوه أو صاحبه: يرحمك الله. فإذا قال له: يرحمك الله. فليقل: يهديكم الله ويصلح بالكم". قال العلماء: أي: شأنكم. وفي "موطأ مالك" (¬5) عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنه، أنه قال, إذا عطس فقيل له: يرحمك الله. يقول يرحمنا الله وإياكم، ويغفر الله لنا ولكم. ¬

_ (¬1) أبو داود 4/ 309 ح 5033. (¬2) الترمذي 5/ 76 ح 2738. (¬3) الأثر بتمامه: فقال ابن عمر: وأنا أقول: الحمد لله والسلام على رسول الله، وليس هكذا علمنا ... (¬4) البخاري 10/ 608 ح 6224. (¬5) الموطأ 2/ 965.

والتشميت سنة على الكفاية، لو قال بعض الحاضرين أجزأ عنهم، ولكن الأفضل أن يقول له كل واحد؛ لظاهر قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث أبي هريرة أخرجه البخاري (¬1) قال: "إن الله يحب العطاس ويكره التثاؤب، فإذا عطس أحدكم وحمد الله، كان حقًّا على كل مسلم سمعه أن يقول: يرحمك الله تعالى". واختلف أصحاب مالك في وجوبه؛ فقال القاضي عبد الوهاب: هو سنة ويجزئ تشميت واحد. وقال ابن مريم: يلزم كل واحد منهم. وهو مذهب أهل الظاهر، واختاره ابن العربي المالكي. ومفهوم الشرط يدل على أنه إذا لم يحمد لا يشمت. وفي "الصحيحين" (¬2) عن أنس قال: عطس رجلان عند النبي - صلى الله عليه وسلم - فشمَّت أحدهما ولم يُشمت الآخر، فقال الذي لم يشمته: عطس فلان فشمتَّه وعطست فلم تشمتني؟ فقال: "هذا حمد الله تعالى وأنت لم تحمد الله تعالى". وفي "صحيح مسلم" (¬3) عن أبي موسى الأشعري قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إذا عطس أحدكم فحمد الله تعالى فشمتوه، فإن لم يحمد الله فلا تشمتوه". وأقل الحمد والتشميت أن يرفع صوته بحيث يسمعة صاحبه، ويستحب لمن حضر العاطس إذا لم (أيحمد الله أ) أن يذكره ¬

_ (أ - أ) في ب: يحمد.

الحمد، ورواه في "معالم السنن" (¬1) عن إبراهيم النخعي، وهو من باب الأمر بالمعروف، قال ابن العربي: لا يستحب. وفي كتاب ابن السني (¬2) بإسناد فيه من لم يتحقق عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إذا عطس أحدكم فليشمته جليسه، وإن زاد على ثلاث فهو مزكوم ولا يُشمت بعد ثلاث". قال ابن العربي (¬3): قيل: يقال في الثانية: إنك مزكوم. كما في رواية مسلم (¬4) عن سلمة بن الأكوع أنه قاله النبي في الثانية، وقيل: يقال في الثالثة. كما في رواية أبي داود والترمذي (¬5) لحديث سلمة بن الأكوع، أنه قال في الثالثة: "رحمك الله هذا رجل مزكوم". وقيل: في الرابعة. والأصح أنه في الثالثة. وأما ما رواه في "سنن أبي داود" و"الترمذي" (¬6) عن عبيد بن رفاعة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يشمت العاطس ثلاثًا (أفإن زاد أ)، فإن شئت فشمته وإن شئت فلا". فهو حديث ضيعف، قال الترمذي: إسناده مجهول. ¬

_ (أ - أ) ساقطة من: ب.

قال ابن العربي (¬1): والمعنى فيه: إنك لست ممن يشمت بعد هذا؛ لأن هذا الذي بك زكام ومرض (ألا خِفَّة أ) العطاس. ولكنه يدعى له بدعاء المسلم للمسلم بالعافية والسلامة، ولا يكون من باب التشميت. وناسب العطاس التحميد؛ لأن العطاس سببه محمود، وهو خفة الجسم التي تكون لقلة الأخلاط وتخفيف الغذاء، وهو أمر مندوب إليه؛ لأنه يضعف الشهوة ويسهل الطاعة، وهذه نعمة يحمد عليها. والتثاؤب بضد ذلك، ولذلك يؤمر برده ما استطاع. وإذا عطس وهو يصلي يستحب له أن يقول: الحمد لله. ويسمع نفسه، ذكره النووي، قال (¬2): ولأصحاب مالك ثلاثة أقوال؛ أحدها هذا واختاره ابن العربي، والثاني: يحمد في نفسه، والثالث قاله سحنون: لا يحمد جهرًا ولا في نفسه. والسنة أن يضع العاطس يده أو ثوبه أو نحو ذلك على فمه، وأن يخفض صوته، وفي "سنن أبي داود" و"الترمذي" (¬3) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإذا عطس وضع يده أو ثوبه على فيه وخفض -أو غض- بها صوته، شك الراوي، قال الترمذي (¬4): حديث حسن. وفي كتاب ابن السني (¬5) عن عبد الله بن الزبير رضي الله عنه ¬

_ (أ - أ) في جـ: لاحقه. (¬1) عارضة الأحوذي 10/ 201، 202. (¬2) المجموع 4/ 475. (¬3) أبو داود 4/ 308 ح 5029، والترمذي 5/ 80 ح 2745. (¬4) الترمذي 8015 عقب ح 2745 وفيه: هذا حديث حسن صحيح. (¬5) عمل اليوم والليلة ص 133 ح 267.

قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "إن الله عَزَّ وَجَلَّ يكره رفع الصوت بالتثاؤب والعطاس". وفيه (¬1) عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "التثاؤب الرفيع والعطسة الشديدة من الشيطان". وإذا سمع التحميد بعض الحاضرين دون بعض فيشمته من سمعه دون من لم يسمعه، وحكى ابن العربي (¬2) خلافًا في تشميت الذين لم يسمعوا الحمد إذا سمعوا تشميت صاحبهم. وإذا عطس يهودي، فأخرج أبو داود والترمذي (¬3) وغيرهما بالأسانيد الصحيحة عن أبي موسى قال: كان اليهود يتعاطسون عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يرجون أن يقول لهم: يرحمكم الله. فيقول: "يهديكم الله ويصلح بالكم". والتسميت بالسين المهملة والمعجمة لغتان مشهورتان، قال الأزهري (¬4): قال الليث: التسميت (أ) ذكر الله تعالى على كل شيء، ومنه قولك للعاطس: يرحمك الله. وقال ثعلب: يقال: سمت العاطس وشمته إذا دعوت له بالهدى، وقصد السمت المستقيم. قال: والأصل فيه السين المهملة فقلبت شينًا معجمة. ¬

_ (أ) في جـ، وشرح مسلم 14/ 31: التشميت. والمثبت موافق لما في تهذيب اللغة.

وقال صاحب "المحكم" (¬1): تسميت (أ) العاطس معناه: هداك الله إلى السمت. قال: وذلك لما في العاطس من الانزعاج والقلق. قال أبو عبيد (¬2) وغيره: الشين المعجمة على اللغتين. قال ابن الأنباري (¬3): يقال منه: (ب شمته وسمت عليه ب). إذا دعوت له بخير، وكل داعٍ بالخير فهو مُشمَّت ومُسَمَّت. وقوله: "وإذا مرض فعده". فيه دلالة على شرعية عيادة المريض، وهي مشروعة بالإجماع، وجزم البخاري بوجوبها، وقال (¬4): باب وجوب عيادة المريض. وقال ابن بطال (¬5): يحتمل أن يكون الوجوب للكفاية، كإطعام الجائع وفك الأسير، ويحتمل أن يكون الوارد فيها محمولا على الندب. وجزم الداودي (4) بالأول، وقال الجمهور بالندب، وقد يصل إلى الوجوب في حق بعض دون بعض. وعن الطبري (4): يتأكد في حق من ترجى بركته، ويُسَنُّ فيمن يراعى حاله، ويباح فيما عدا ذلك، وفي الكافر خلاف. ونقل ¬

_ (أ) في جـ: تشميت. (ب - ب) في جـ: سمته وشمت عليه.

النووي (¬1) الإجماع على عدم الوجوب، قال المصنف (¬2) رحمه الله تعالى: يعني على الأعيان. و [هي] (أ) عامة في كل مرض، وقد استثنى الرمد، ولكنه قد أخرج أبو داود (¬3) من حديث زيد بن أرقم قال: عادني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من وجع بعيني. وصحح الحديث الحاكم (¬4)، وأخرجه البخاري (¬5) في "الأدب المفرد". وظاهر العيادة ولو في أول مرضه، وقد أخرج ابن ماجه (¬6) من حديث أنس: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يعود إلا بعد ثلاث. تفرد به [مسلمة] (ب) ابن عُلَيٍّ (¬7) وهو متروك. وسواء فيه من يعرفه ومن لا يعرفه، والقريب والأجنبي. وقوله: و"إذا مات فاتبعه". كذلك فيه دلالة على شرعية اتباع الجنائز, وهو سنة بالإجماع، وسواء فيه من يعرفه ومن لا يعرفه، والقريب والأجنبي، وقد تقدم في الجنائز (¬8). 1204 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ¬

_ (أ) ساقطة من: ب، جـ. والمثبت يقتضيه السياق، وينظر الفتح 10/ 113. (ب) في ب، جـ: مسلم. والمثبت من مصدر التخريج، وينظر تهذيب الكمال 27/ 567.

"انظروا إلى من هو أسفل منكم، ولا تنظروا إلى من هو فوقكم، فهو أجدر ألا تزدروا نعمة الله عليكم". متفق عليه (¬1). قوله: "أجدر". أي: أحق، والازدراء: الاحتقار، والمراد بـ "أسفل منكم". أي: في المال والخَلق، وكذلك قوله: "فوقكم". وهو مصرح بهذا في حديث آخر أخرجه مسلم (¬2) عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا نظر أحدكم إلى من فُضِّل عليه في المال والخَلق فلينظر إلى من هو أسفل منه". وهذا حديث جامع لأنواع من الخير؛ لأنه إذا رأى من فُضل عليه في الدنيا طلبت نفسه مثل ذلك، فاستصغر ما عنده من نعمة الله، وحرص على الازدياد ليلحق بذلك أو يقاربه، هذا هو الموجود في غالب الناس، وأما إذا نظر في أمور الدنيا إلى من هو دونه فيها، ظهرت له نعمة الله تعالى فشكرها وتواضع وفعل فيه الخير. 1205 - وعن النَّوَّاس بن سَمْعان رضي الله عنه قال: سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن البر والإثم، قال: "البر حسن الخلق، والإثم ما حاك في صدرك وكرهت أن يطلع عليه الناس". أخرجه مسلم (¬3). هو النواس بفتح النون وتشديد الواو وبالسين المهملة، وسمعان بفتح السين المهملة وكسرها وبالعين المهملة، الكلابي، ورد أبوه سمعان على النبي - صلى الله عليه وسلم - وزوجه بابنته، وهي الكلابية التي تعوذت من النبي - صلى الله عليه وسلم -، سكن ¬

_ (¬1) البخاري، كتاب الرقاق، باب لينظر إلى من هو أسفل منه 11/ 322 ح 6490، ومسلم، كتاب الزهد والرقاق 4/ 2275 ح 2963/ 9، واللفظ له. (¬2) مسلم 4/ 2275 ح 8/ 2963. (¬3) مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب تفسير البر والإثم، 4/ 1980 ح 2553/ 14.

النواس الشام، وهو معدود فيهم، له سبعة عشر حديثًا، روى عنه جُبير بن نُفَير وأبو إدريس الخولاني، ووقع في "صحيح مسلم" نسبته إلى الأنصار، قال المازري (¬1) والقاضي عياض (¬2): والمشهور أنه كلابي ولعله حليف الأنصار. قوله: "البر حسن الحلق". ظاهر هذا حَصْر البر في حسن الخلق وأنهما في معنى واحد، وقد فسر سبحانه وتعالى قوله: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ} (¬3) إلى آخر الآية. وهو بتقدير مضاف، أي: بِرَّ مَن آمن بالله. أو: ذو البر من آمن. والمراد به أن الخصال المذكورة هي نفس البر ويفسره قراءة من قرأ: (ولكن البار من آمن) (¬4). فيكون المراد بحسن الخلق هو استكمال ما يجب شرعًا، كما في قوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} (¬5). قال النووي (¬6): قال العلماء رحمهم الله تعالى: البر يكون بمعنى الصلة وبمعنى الصدق وبمعنى اللطف، والمبرة وحسن الصحبة والعشرة، وبمعنى الطاعة، وهذه الأمور هي مجامع (أ) حسن الخلق. ¬

_ (أ) في ب: تجامع.

وقال القاضي عياض (¬1): حسن الخلق مخالقة (أ) الناس بالجميل، والبشر والتودد لهم والإشفاق عليهم واحتمالهم، والحلم عنهم والصبر عليهم في والمكاره وترك الكبر والاستطالة عليهم، ومجانبة الغلظة والغضب والمؤاخذة. وحُكِي فيه خلاف هل هو غريزة أو مكتسب؟ قال القاضي (¬2): والصحيح أن منه ما هو غريزة ومنه ما هو مكتسب بالتخلق والاقتداء بغيره. وقال السيد شريف الجرجاني رحمه الله في "تعريفات معاني العلوم" (¬3): حسن الخلق هيئة راسخة تصدر عنها الأفعال المحمودة بسهولة ويسر من غير حاجة إلى إعمال فكر وروية. انتهى. وكأنه أراد ما أشار إليه القائل: بشاشة الوجه وكف الأذى ... وبذلك المعروف حسن الخلق فيكون المراد بحسن الخلق هو الخصال التي يحمد الشخص عليها عادة وشرعا، وقد عد بعض العارفين مكاوم الأخلاق فقال: هي طلاقة الوجه، وإفشاء السلام على من عرفت وعلى من لم تعرف حيث يحسن، وإطعام الطعام، وكظم الغيظ، وكف الأذى عن الخلق، واحتماله منهم، والإيثار حيث يشرع، وترك الاستئثار، وترك الانتصاف، وشكر المتفضل، والمجازاة على الإحسان بحسب الإمكان، والسعي في قضاء حوائج ذوي الحاجات، ¬

_ (أ) في شرح مسلم: مخالطة.

وبذل الجاه في الشفاعات، والتحبب إلى الجيران والأقارب، وصلة الأرحام، والرفق بالطلبة وإعانتهم ومواساتهم والصبر عليهم والنصيحة لهم، وهذه الخصال كلها محمودة شرعا وعادة. وقال بعضهم: علامات حسن الخلق أن يكون كثير الحياء، قليل الأذى، كثير الصلاح، صدوق اللسان، قليل الكلام، كثير العمل، قليل الزلل، قليل الفضول، وهو بَرٌّ وصول، وقور صبور، رضي شكور، حليم رفيق، عفيف شفيق، لا لعان ولا سباب، ولا نمام ولا مغتاب، ولا عجول ولا حقود، ولا بخيل ولا حسود، هشاش بشاش، يحب في الله ويرضى في الله. والظاهر في الحديث أن المراد به ما دل الشرع على حسنه وجوبًا أو ندبًا أو إباحة، وظهرت الدلالة عليه، ويدل عليه تفسير الإثم بقوله: "ما حاك في صدرك وكرهت أن يطلع عليه الناس". أي: تحرك الخاطر في صدرك وترددت هل تفعله لكونه لا لوم فيه، أو تتركه خشية اللوم عليه من الله سبحانه وتعالى ومن الناس فلا يطلعون عليه لو فعلته؟ يعني: لم ينشرح لك صدرك (أ) وتحصل الطمأنينة بفعله خوف كونه ذنبا. ويفهم منه أنه ينبغي ترك ما تردد في إباحته، ويؤيده قوله - صلى الله عليه وسلم -: "دع ما يريبك إلى ما لا يريبك" (¬1). وأن الاحتياط في تغليب جنبة الحظر على الإباحة، والله أعلم. ¬

_ (أ) في جـ: الصدر.

1206 - وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا كنتم ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون الآخر حتى تختلطوا بالناس؛ من أجل أن ذلك يحزنه". متفق عليه (¬1)، واللفظ لمسلم. الحديث فيه دلالة على تحريم مناجاة اثنين ومعهما ثالث دونه، والمناجاة: المسارَّة، يقال: انتجى القوم وتناجوا. أي تساروا، أي سَارَّ بعضهم بعضًا، ويقاس على ذلك مناجاة ثلاثة ومعهم رابع، وأما مناجاة اثنين من أربعة فلا محظور فيه إلا إذا أذن الثالث لاثنين بالمناجاة جاز ذلك، وظاهر النهي العموم في جميع الأزمان و (أ) في الحضر والسفر، وقد ذهب إلى هذا ابن عمر (¬2) ومالك وأصحاب الشافعي وجماهير العلماء، وادعى بعضهم (ب) أن هذا منسوخ وأنه كان في صدر الإسلام، فلما فشا الإسلام وحصل الأمان مع الناس نسخ حكمه، و (جـ) كان المنافقون يفعلون (د) ذلك بحضرة المؤمنين ليحزنوهم. وكان الحزن؛ لأنه قد يتوهم الحاضر أن تناجي الاثنين من أجله لتدبير أمر فيه أو دسيسة غائلة، أو أن ذلك من أجل الاختصاص بالكرامة. ¬

_ (أ) ساقطة من: ب. (ب) ساقطة من: جـ. (جـ) زاد في جـ: إن. (د) ساقطة من: جـ.

قال الخطابي (¬1): سمعت ابن أبي هريرة يحكي عن أبي عُبيد بن حرب أنه قال: هذا في السفر الذي لا يأمن الرجل في صاحبه على نفسه، أما في الحضر وبين ظهراني العمارة فلا. وقوله: "يحزنه" بفتح الياء وضم الزاي من حزنه يحزنه، وبضم الياء وكسر الزاي من أحزنه، وقد قرئ بهما في السبع. 1207 - وعن ابن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يقيم الرجلُ الرجلَ من مجلسه ثم يجلس فيه، ولكن تفسحوا وتوسعوا" متفق عليه (¬2). قوله: "لا يقيم". بصيغة الخبر، والمراد به النهي، وفي لفظ لمسلم (¬3): "لا يقيمنَّ أحدكم الرجل من مجلسه". بصيغة النهي المؤكد، ظاهر النهي التحريم؛ فمن سبق إلى موضع مباح من مسجد أو غيره يوم جمعة أو غيرها لصلاة أو لغيرها من الطاعات، فهو أحق به ويحرم على غيره إقامته منه، إلا أنه يستثنى منه إذا كان قد سبق لغيره (أ) حق فيه بأن يكون قد قعد فيه مصل إذا كان في المسجد ثم قام منه لإعادة الوضوء أو يقضي شغلًا يسيرًا ثم يعود ¬

_ (أ) من هنا سقط لوحة من تصوير المخطوط (جـ) ينتهي في ص 168.

إليه، فإن له أن يقيم من كان قد قعد فيه، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "من قام من مجلسه ثم رجع إليه فهو أحق به". أخرجه مسلم (¬1). وقد ذهب إلى هذا الشافعية، وذكر مثل هذا في "البحر" للهدوية، وكذا في الأماكن المباحة مَن قعد في موضع مخصوص لحرفة أو تجارة أو محل لقراءة في المسجد معتاد (أ) لمقرئ، فإنه يكون أولى به ليس لأحد أن يقعد فيه إلا إذا طالت مفارقته لذلك بحيث ينقطع معاملوه، ذكره الذُّويد (ب) في شرحه على "الأزهار"، وكذا النووي في "شرح مسلم" (¬2)، وقال الإمام المهدي في "الغيث": يكون أحق به إلى العشي. وقال الغزالي: هو أحق به الأبد ما لم يَضرب. وقال بعض أصحاب الشافعي: إن ذلك على وجه الندب لا على الوجوب. وهو مذهب مالك، وقال أصحاب الشافعي: ولا فرق في المسجد بين أن يقوم منه ويترك له فيه سجادة ونحوها أم لا، فهو أحق به في الحالين. قالوا: وإنما يكون أحق به في تلك الصلاة وحدها دون غيرها، وظاهر الحديث الإطلاق. ويدل الحديث على أنه إذا قام القاعد باختياره وأقعد غيره في مكانه أنه يجوز. وجاء في رواية عن ابن عمر أخرجها مسلم (¬3): وكان ابن عمر إذا قام له رجل من مجلسه لم يجلس فيه. ولعل هذا تورع من ابن عمر، وليس ¬

_ (أ) في هامش ب: يستحق المحل في المسجد بالاعتياد له. (ب) في هامش ب: هو الفقيه العارف الحسين محمد الذويد الصوري رحمه الله أحد العلماء وشرحه هذا مفيد.

قعوده حراما إذا قام برضاه؛ لأنه أسقط حق نفسه. وتورع ابن عمر لوجهين؛ أحدهما، أنه ربما استحيى منه إنسان فقام له من مجلسه من طيب قلبه أو من غيره، فسدَّ ابن عمر هذا الباب، الثاني، أن الإيثار لمحل الفضلية مكروه وخلاف الأولى، كالقيام من الصف الأول إلى الثاني، فترك ذلك ابن عمر لئلا يرتكب أحدٌ خلاف الأولى لأجله، والإيثار إنما عهد بحظوظ النفس وأمور الدنيا دون الفضائل. 1208 - وعن ابن عباس رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا أكل أحدكم طعامًا فلا يمسح يده حتى يَلعَقَها أو يُلعِقَها". متفق عليه (¬1). قوله: "يَلعقها". بفتح الياء من الثلاثي، أي يَلعقها هو. وقوله: "أو يلعقها". بضم الياء من الرباعي، أي يُلعقها غيره، واللعق هو المص. الحديث فيه دلالة وإرشاد إلى أن من سنن الأكل لعق اليد بعد الطعام حتي يزيل ما عليها من أثر الطعام قبل أن يمسحها بالمنديل. وفيه دلالة على جواز مسح اليد بالمنديل لكن بعد اللعق منه أو من غيره، وعلل ذلك - صلى الله عليه وسلم - بأن لا يدري الآكل في أي الطعام البركة، هل فيما أكل أو فيما بقي على الأصابع، أو ما بقي في الصحفة، أو ما سقط من اليد عند الأكل؟ كما في رواية لمسلم (¬2) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بلعق الأصابع والصحفة وقال: "إنكم لا ¬

_ (¬1) البخاري، كتاب الأطعمة، باب لعق الأصابع ومصها قبل أن تمسح بالمنديل 9/ 577 ح 5456، ومسلم، كتاب الأشربة، باب استحباب لعق الأصابع ... 3/ 1605 ح 2031/ 129. (¬2) مسلم 3/ 1606 ح 2033/ 133.

تدرون في أَيِّه البركة". وفي رواية لمسلم (¬1) "إذا وقعت لقمة أحدكم فليمط ما عليها من الأذى وليأكلها، ولا يدعها للشيطان ولا يمسح يده بالمنديل حتى يلعق أصابعه؛ فإنه لا يدري في أي طعامه البركة". ومعنى الحديث -والله أعلم- أن الطعام الذي يحضره الإنسان فيه بركة ولا يدري أن البركة فيما أكله، أو فيما بقي على أصابعه أو ما بقي في أسفل القصعة، أو في اللقمة الساقطة، فينبغي أن نحافظ على هذا كله لتحصل البركة. وأصل البركة الزيادة وثبوت الخير، والمراد هنا ما تحصل به التغذية وتسلم عاقبته من أذىً ويقوي على طاعة الله تعالى وغير ذلك. وأراد بقوله: "فلا يمسح أحدكم يده حتى يلعقها". أصابعه، كما فسر ذلك الأحاديث الأُخر، وقد جاء مصرحًا به في هيئة أكله - صلى الله عليه وسلم -، أنه كان يأكل بثلاث أصابع (¬2). فدل على أن السنة الأكل بالثلاث، ولا يضم الرابعة أو الخامسة إلا إذا احتاج إلى ذلك؛ يأن يكون الطعام غير مشتد لا يحفظه الثلاث، فيستعين عليه بما يمكنه التناول، ويلعق ما مسه الطعام من اليد. وقد أخرج سعيد بن منصور (¬3) من مرسل ابن شهاب، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا أكل أكل بخمس. فيجمع بينه وبين حديث الثلاث بأنه إذا كان الطعام غير مشتد. وإلعاق الغير للأصابع إذا كان ممن لا يتقذر ذلك؛ كالصبي والزوجة ¬

_ (¬1) مسلم 3/ 1606 ح 2033/ 134. (¬2) أخرجه مسلم 3/ 1605 ح 2032/ 131. (¬3) كما في الفتح 9/ 578.

والخادم ونحوه، كمن يعتقد التبرك بالشخص. وقال البيهقي (¬1) إن "أو" في قوله: "أو يعلقها". يحتمل أن يكون شكا من الراوي، ويحتمل أن ذلك مقصود إذا كان محفوظا، وإذا تنجست اللقمة الساقطة أزال ما عليها من النجاسة وغسل المتنجس إن أمكنه ذلك، فإن تعذر أطعمها حيوانًا ولا يدعها للشيطان. وكذا ذكره النووي (¬2) بناء على أنه يجوز تمكين الحيوان من أكل المتنجس، وعليه الإجماع الفعلي خلفًا عن سلف. 1209 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ليسلم الصغير على الكبير والمار على القاعد والقليل على الكثير". متفق عليه (¬3) وفي رواية لمسلم (¬4): "والراكب على الماشي". تقدم الكلام عليه أول الباب. 1210 - وعن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يجزئ [عن] (أ) الجماعة إذا مروا أنْ يسلم أحدهم، ويجزئ عن الجماعة أن يرد أحدهم". رواه أحمد والبيهقي (¬5). ¬

_ (أ) في ب: على. والمثبت من مصدر التخريج وبلوغ المرام.

تقدم الخلاف فيه قريبا (¬1). فائدة: قد تكلم العلماء في الحكمة فيمن يشرع لهم الابتداء بالسلام؛ فقال ابن بطال (¬2) عن المهلب: يسلم الصغير على الكبير لأجل حق الكبير؛ لأنه أمر بتوقيره والتواضع له، ويسلم القليل لأجل حق الكثير؛ لأن حقهم أعظم، ويسلم المار على القاعد لشبهه بالداخل على أهل المنزل، ويسلم الراكب لئلا يتكبر بركوبه فيرجع إلى التواضع. قال ابن العربي (¬3): حاصل ما في الحديث أن المفضول بنوع ما يبدأ الفاضلَ، فلو تعارضت الجهة بأن يكون الراكب مثلًا كبيرًا والماشي صغيرًا بدأ الراكب. كذا نقله ابن دقيق العيد عن ابن رشد (¬4)، وإن كانا راكبين أو ماشيين بدأ الصغير، وظاهر هذه الأوامر الندب وخلافها مكروه، فلو ترك المأمور بالابتداء فبدأه الآخر كان المأمور تاركًا للمستحب والآخر فاعلًا للسنة. كذا ذكره المازري (4)، ويكون حكم سائر الصفات مثل هذا، وإذا تساوى المتلاقيان من كل وجه فكل منهما مأمور بالابتداء وخيرهما من يبدأ بالسلام. وقد أخرج البخاري من حديث جابر في "الأدب المفرد" (¬5) بسندٍ ¬

_ (¬1) تقدم ص 144. (¬2) شرح البخاري لابن بطال 9/ 15. (¬3) عارضة الأحوذي 10/ 171. (¬4) الفتح 11/ 17. (¬5) الأدب المفرد 2/ 458 ح 994.

صحيح "الماشيان إذا اجتمعا فأيهما يبدأ بالسلام فهو أفضل". وأخرج الطبراني (¬1) بسند صحيح عن الأغر المزني: قال لي أبو بكر: لا يسبقك أحد إلى [السلام] (أ). والترمذي (¬2) من حديث أبي أمامة مرفوعًا: "إن أولى الناس بالله من بدأ بالسلام". وقال: حسن. وأخرج الطبراني (¬3) من حديث أبي الدرداء، قلنا: يا رسول الله (ب)، إنا نلتقى، فأينا يبدأ (جـ) بالسلام؟ قال: "أطوعكم لله". قال النووي (¬4): يستثنى من العموم بابتداء السلام من كان مشتغلًا بأكل أو شرب أو جماع أو كان في الخلاء أو الحمام أو نائما أو ناعسا (د) أو مصليا أو مؤذنا، ما دام متلبسًا بشيء مما ذكر، إلا أن السلام على من كان في الحمام إنما يكره إذا لم يكن عليه إزار، وإلا فلا كراهة، وقد ثبت في "صحيح مسلم" (¬5) أن أم هانئ أتت النبي - صلى الله عليه وسلم -وهو يغتسل وفاطمة تستره فسلمت عليه. الحديث. ¬

_ (أ) في ب: بالسلام. والمثبت من مصدر التخريج. (ب) إلى هنا ينتهي السقط من المخطوطة (جـ) المشار إليه في ص 162. (جـ) في ب: بدأ. (د) ساقطة من: ب.

قال النووي (¬1): وأما السلام حال الخطبة في الجمعة فيكره؛ للأمر بالإنصات، فلو سلم لم يجب الرد عند من قال: الإنصات واجب. ويجب عند من قال: إنه سنة. وعلى الوجهين لا ينبغي أن يرد أكثر من واحد، وأما المشتغل بقراءة القرآن فقال الواحدي (¬2): الأولى ترك السلام عليه، فإن سلم عليه كفاه الرد بالإشارة، وإن رد لفظا استأنف الاستعاذة وقرأ. قال النووي (2): فيه نظر، والظاهر أنه يشرع السلام عليه، ويجب عليه الرد ثم (أ) قال: وأما من كان مشتغلًا بالدعاء مستغرقا فيه مستجمع القلب فيحتمل أن يقال: هو كالقارئ. والأظهر عندي أنه يكره السلام عليه؛ لأنه يتنكد (ب) به ويشق عليه أكثر من مشقة الأكل، وأما الملبي في الإحرام فيكره أن يسلم عليه؛ لأن قطع التلبية مكروه، ويجب عليه الرد مع ذلك لفظًا إن سلم عليه. قال: ولو تبرع واحد من هؤلاء برد السلام، هل يشرع له أو يستحب؟ فيه تفصيل؛ إن كان مشتغلًا بالبول ونحوه يكره، وإن كان آكلًا أو نحوه فيستحب، وإن كان مصليًا لم يجز أن يقول: عليك السلام. بلفظ الخطاب، فلو فعل بطلت صلاته إن علم التحريم لا إن جهل في الأصح، وإن أتى بضمير الغيبة لم تبطل، ويستحب أن يرد بالإشارة، وإن رد بعد فراغ الصلاة لفظا فهو أحب، وإن كان مؤذنا أو ملبيا لم يكره له الرد لفظا، لأنه ¬

_ (أ) ساقطة من: ب. (ب) في جـ: يتنكب.

قدر يسير لا يبطل الموالاة. انتهى. وما ذكره من بطلان الصلاة إذا كان بلفظ الخطاب ليس متفقًا عليه عند الشافعية؛ فعن الشافعي نص أنه لا تبطل؛ لأنه لا يريد حقيقة الخطاب بل الدعاء، وذكر بعض الحنفية أن من جلس في المسجد للقراءة أو التسبيح أو لانتظار الصلاة لم يشرع التسليم عليهم، وإن سلم عليهم لم يجب الرد، قال (¬1): وكذلك الخصم إذا سلم على القاضي لا يجب عليه الرد، وكذلك الأستاذ إذا سلم عليه تلميذه لا يجب عليه الرد. كذا قال ولا يوافق على الطرف الأخير. ويندب أن يسلم من دخل بيتًا ليس فيه أحدٌ، لقوله تعالى: {فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ} الآية (¬2). وأخرج البخاري في "الأدب المفرد" وابن أبي شيبة (¬3) بإسناد حسن عن ابن عمر: يستحب إذا لم يكن في البيت أحد أن يقول: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين. وأخرج [الطبري] (أ) عن ابن عباس نحوه (¬4). ويدخل فيه من مرَّ على مَنْ يظن أنه إذا سلم عليه لم يرد؛ لأنه قد يخطئ ¬

_ (أ) في ب، جـ: الطبراني، والمثبت من الفتح 11/ 20.

ظنه، قال النووي (¬1): وأما قول من لا تحقيق عنده أن ذلك يكون سببًا لتأثيم الآخر فهو غباوة، فإن المأمورات الشرعية لا تترك بمثل (أ) هذا. قال: وينبغي لمن وقع له ذلك أن يقول له بعبارة لطيفة: رد السلام واجب، فينبغي أن ترد ليسقط [عنك] (5) الفرض. وينبغي إذا تمادى على الترك أن يحلله من ذلك؛ لأنه حق آدمي. ورجح ابن دقيق العيد في "شرح الإلمام" (¬2) المقالة التي زيفها (جـ) النووي بأن مفسدة توريط المسلم في المعصية أشد من مصلحة السلام عليه، وامتثال حديث الأمر بالإفشاء يحصل مع غير هذا. والله أعلم. 1211 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تبدءوا اليهود والنصارى بالسلام، وإذا لقيتموهم في طريق فاضطروهم إلى أضيقه". أخرجه مسلم (¬3). تقدم الكلام في بداية اليهود والنصارى بالسلام. وقوله: "وإذا لقيتموهم في طريق". إلى آخره. المراد أنه إذا كان المسلمون يطرقون فلا يتركون يمرون في وسط الطريق، بل في جانبه، لكن ¬

_ (أ) في ب: لمثل. (ب) في ب، جـ: عليك. والمثبت من الفتح 11/ 20. (جـ) في جـ: رتبها.

بحيث لا يقع في هوة ولا يصدمه جدار، وإن خلت الطريق عن المسلمين فلا حرج أن يمروا في أيها شاءوا. 1212 - وعنه رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا عطس أحدكم فليقل: الحمد لله. وليقل له أخوه: يرحمك الله. فإذا قال: يرحمك الله. فليقل: يهديكم الله ويصلح بالكم". أخرجه البخاري (¬1). تقدم الكلام عليه (¬2). 1213 - وعنه رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يشربن أحدكم قائمًا". أخرجه مسلم (¬3). وتمامه: "فمن نسى فليستقئ". وأخرجه أحمد من وجه آخر وصححه ابن حبان (¬4) عن أبي صالح عنه بلفظ: "لو يعلم الذي يشرب وهو قائم لاستقاء". ولأحمد (¬5) من وجه آخر عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه - صلى الله عليه وسلم - رأى رجلًا يشرب قائما فقال: "مه (أ) " فقال: لمه؟ قال: "أيسرك أن يشرب معك الهر؟ ". قال: لا. قال: "قد شرب معلث من هو شر منه؛ الشيطان". ¬

_ (أ) كذا في ب، جـ، وفي المسند: قه.

وهو من رواية شعبة عن أبي زياد (أ) [الطحان] (ب) مولى الحسن بن علي عنه، وأبو زياد لا يعرف اسمه، وقد وثقه يحيى بن معين (¬1). والحديث يدل على النهي عن ذلك، ولكن هل النهي محمول على حقيقته وهو التحريم أو مصروف عن ظاهره؛ فذهب ابن حزم إلى الأول، وهو مقتضى قاعدة الظاهرية. وذهب الجمهور إلى أنه محمول على خلاف الأولى، وبعضهم قال بكراهته. قال المازري (¬2): قال بعض شيوخنا: لعل النهي منصرف إلى من أتى أصحابه بماءٍ فبادر ليشربه (جـ) قائما قبلهم، استبدادًا به وخروجا عن كون ساقي القوم آخرهم شربا، وبعضهم أن في الشرب قائما ضررًا ما، ولذلك كان القيء دواء له، ويؤيده قول النخعي: إنما نهي عن ذلك لداء البطن. وتكلم عياض على حديث أبي هريرة هذا بأن في سنده عمر بن حمزة (¬3)، وقد خالف غيره ولا يحتمل منه مثل هذا، والصحيح أنه موقوف. انتهى. وقد روى نحوه مسلم (¬4) من حديث أنس، واعترضه عياض بأنه من ¬

_ (أ) في جـ: الزناد. (ب) في ب، جـ: الطحاوي، والمثبت من مصدر التخريج، وينظر الجرح والتعديل 9/ 373. (جـ) في ب: بشربه.

رواية قتادة عن أنس، وهو معنعن، وكان شعبة يترك من حديثه ما لم يصرح فيه بالتحديث، هذا كلامه، وقد أجاب عنه المصنف رحمه الله (¬1) بأن قتادة قد أشار في سند حديث أنس بالتحديث منه؛ فإن فيه: قلنا لأنس: فالأكل؟ قال: أشر منه. واعترض عياض على رواية مسلم له من حديث أبي سعيد بأن في إسناده أبا عيسى (¬2) وهو غير مشهور ولم يرو عنه إلا قتادة، وقد سبق إلى هذا الاعتراض علي بن المديني وأجاب عنه المصنف رحمه الله (1) بأنه قد وثقه الطبري وابن حبان. ومئل هذا يخرج في الشواهد، ودعوى اضطرابه مردودة؛ لأن لقتادة إسنادين وهو حافظ. قال المصنف (1): وأما تضعيفه لحديث أبي هريرة بعمر بن حمزة فهو مختلف في توثيقه، ومثله يخرج له مسلم في المتابعات، وقد تابعه الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة كما تقدم عند أحمد وابن حبان، فالحديث بمجموع طرقه صحيح. انتهى. فتقرر أن الحديث لا مطعن فيه، ولكنه معارض بما أخرجه مسلم (¬3) عن ابن عباس قال: سقيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من زمزم، فشرب وهو قائم. وفي الرواية الأخرى، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شرب من زمزم وهو قائم. وفي "صحيح البخاري" (¬4)، أن عليا رضي الله عنه شرب قائما وقال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فعل كما رأيتموني فعلت. فطريق الجمع أنه فعل ذلك - صلى الله عليه وسلم - لبيان الجواز، ولا ¬

_ (¬1) الفتح 10/ 83. (¬2) أبو عيسى الأسواري، البصري، مقبول. التقريب ص 663، وينظر تهذيب الكمال 34/ 165. (¬3) مسلم 3/ 1601 ح 2027. (¬4) البخاري 10/ 81 ح 5615.

يقال: إنه فعل مكروها أو خلاف الأولى؛ لأن البيان في حقه واجب، وقد وقع مثل هذا في كثير من الأحكام مثل؛ توضئه مرةً مرةً مع أن المندوب الثلاث، والطواف راكبًا مع أن الأفضل المشي، وكذلك فعل علي رضي الله عنه، أنه شرب قائمًا فرأى الناس كأنهم أنكروه، فقال: ما ينظرون؟! إن أشرب قائما فقد رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يشرب قائما، وإن أشرب قاعدا فقد رأيته يشرب قاعدا. وصحح الترمذي (¬1) من حديث ابن عمر: كنا نأكل على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونحن نمشي، ونشرب ونحن قيام. وفي الباب عن سعد بن أبي وقاص أخرجه الترمذي (¬2)، وفي عبد الله بن أنيس أخرجه الطبراني (¬3)، وعن أنس أخرجه البزار والأثرم (¬4)، وعن (أعمرو بن شعيب أ) عن أبيه عن جده أخرجه الترمذي (¬5) وحسنه، وعن عائشة أخرجه البزار وأبو علي الطوسي في "الأحكام" (4). وعن أم سُليم نحوه أخرجه ابن شاهين (¬6) وغير ذلك، وثبت عن عمر ¬

_ (أ- أ) في ب: عمر بن سعيد.

وعن عثمان أخرجه في "الموطأ" (¬1)، وقال الأثرم (¬2): إن أحاديث الجواز أقوى من أحاديث النهي فترجح. قال: ويدل على وهاء أحاديث النهي اتفاق العلماء على أنه ليس على أحد أن يستقيء إذا شرب قائما، ومثله عن عياض، وقد دفع ذلك النووي بأنه لا يلزم من عدم القول بوجوب الاستقاء عدم الاستحباب. وبعضهم ادعى أن أحاديث الجواز ناسخة لأحاديث النهي؛ بقرينة عمل الخلفاء الراشدين ومعظم الصحابة والتابعين، وأن استقاء النبي - صلى الله عليه وسلم - من زمزم في حجة الوداع متأخر. وعكس ابن حزم (¬3) وادعى أن أحاديث النهي ناسخة لأحاديث الجواز؛ لأن الجواز مقرر لحكم الأصل من الإباحة، وأحاديث النهي ناقلةٌ لذلك، فمن ادعى الجواز بعد النهي فعليه البيان؛ فإن النسخ لا يثبت بالاحتمال. وجمع أبو الفرج (2) بين الأحاديث بتأويل الشرب قائما بأن المراد بالقيام المشي، يقال: قمت في الأمر، إذا مشيت فيه. وقصت في حاجتي إذا سعيت وقضيتها؛ وقوله تعالى: {إلا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا} (¬4). أي: مواظبًا بالمشي إليه. وتأول عكرمة حديث ابن عباس بأن المراد أنه شرب راكبًا، والراكب يشبه القائم من حيث كونه سائرًا، وشبه القاعد من حيث كونه مستقرا على الدابة؛ وذلك لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - طاف على بعيره، إلا أنه ¬

_ (¬1) الموطأ 2/ 925. (¬2) الفتح 10/ 84. (¬3) المحلى 8/ 305. (¬4) الآية 75 من سورة آل عمران.

يخدش فيه ما أخرجه أبو داود (¬1) عن عكرمة عن ابن عباس، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - طاف على بعيره ثم أناخه فصلى ركعتين. فلعله حينئذ شرب من زمزم قبل أن يعود إلى بعيره ويخرج إلى الصفا. وأما شرب الراكب، فقد أخرج البخاري (¬2) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - شرب وهو واقف على بعيره، وقد تقدم في كتاب الصيام (¬3). 1214 - وعنه رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا انتعل أحدكم فليبدأ باليمين، فإذا نزع فليبدأ بالشمال، ولتكن اليمين أولهما تُنْعل وآخرهما تنزع". أخرجه مسلم (¬4) إلى قوله: "بالشمال". وأخرج باقيه مالك والترمذي وأبو داود (¬5). ولفظ مسلم: "وإذا خلع" عوض: "وإذا نزع". الحديث فيه دلالة على شرعية البداية باليمين في الانتعال، وظاهر الأمر الوجوب ولكنه محمول على الاستحباب، ونقل القاضي عياض الإجماع على أن الأمر للاستحباب، قال ابن العربي (¬6): البداءة باليمين مشروعة في جميع الأعمال الصالحة؛ لفضل اليمنى حسًّا في القوة، وشرعا في الندب ¬

_ (¬1) أبو داود 2/ 183 ح 1881. (¬2) البخاري 10/ 85 ح 5618. (¬3) تقدم 5/ 126. (¬4) مسلم، كتاب اللباس والزينة، باب استحباب لبس النعال وما في معناها 3/ 1660 ح 2097. (¬5) مالك، كتاب اللباس، باب ما جاء في الانتعال 2/ 916، والترمذي، كتاب اللباس، باب ما جاء بأي رجل يبدأ إذا انتعل 4/ 215 ح 1779، وأبو داود، كتاب اللباس، باب في الانتعال 4/ 68 ح 4139. (¬6) عارضة الأحوذي 7/ 273.

إلى تقديمها. قال النووي (¬1): يُستحب البداءة باليمين في كل ما كان من باب التكريم والزينة، والبداءة باليسار في ضد ذلك؛ كالدخول في الخلاء، ونزع النعل، والخف، والخروج من المسجد، والاستنجاء، وغيره من جميع المستقذرات. وقد مَرَّ بعض ذلك في الوضوء. وقوله: "وإذا نزع". إلى آخره. قال الحليمي (¬2): إنما بدئ بالشمال عند الخلع لأن اللبس كرامة؛ لأنه وقاية للبدن، فلما كانت اليمنى أكرم من اليسرى بدئ بها في اللبس وأخرت في النزع لتكون الكرامة لها أدوم وحظها منها أكثر. قال ابن عبد البر (¬3): مَنْ بدأ في الانتعال باليسرى أساء؛ لمخالفته السنة، ولكن لا يحرم عليه لبس نعله. وقال غيره: ينبغي له أن ينزع النعل من اليسرى ثم يبدأ باليمنى، ويمكن أن يكون مراد ابن عبد البر ما إذا لبسهما معا فبدأ باليسرى، فإنه لا يشرع له أن ينزعهما ثم يلبسهما على الترتيب المأمور به؛ إذ قد فات محله. وهذا الحديث لا دلالة فيه على استحباب لبس النعل؛ لأنه قال: "إذا انتعل". وقد أخرج مسلم (¬4) من حديث جابر مرفوعًا: "استكثروا من النعال، فإن الرجل لا يزال راكبا ما انتعل". أي أنه يشبه الراكب في خفة المشقة وقلة التعب وسلامة الرجل من أذى الطريق، وهذا يدل على ¬

_ (¬1) شرح مسلم 14/ 74. (¬2) الفتح 10/ 312. (¬3) التمهيد 18/ 182. (¬4) مسلم 3/ 1660 ح 2096.

الاستحباب، وهذا اللفظ في غاية البلاغة والفصاحة لم ينسج على منواله ولا يؤتى بمثاله، وهو إرشاد إلى المصلحة وتنبيه على ما يخفف المشقة؛ فإن الحافي المديم للمشي يلقى من الآلام والمشقة بالعثار وغيره ما يقطعه عن المشي ويمنعه من الوصول إلى مقصده، بخلاف المنتعل فإنه لا يمنعه من إدامة المشي، فيصل إلى مقصده كالراكب فلذلك شبه به. 1215 - وعنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يمش أحدكم في نعل واحد ولينعلهما جميعًا أو ليخلعهما جميعًا". متفق عليه (¬1). الحديث فيه دلالة على أنه لا يشرع المشي في نعل واحدة؛ قال العلماء: إن ذلك مكروه. حملوا النهي على الكراهة، واختلفوا في علة الكراهة؛ فقيل: إن النعل شرعت لوقاية الرجل عمَّا يكون في الأرض من شوك أو نحوه، فإذا انفردت إحدى الرجلين احتاج الماشي أن يتوقى لإحدى رجليه ما لا يتوقى للأخرى، فيخرج بذلك عن سجية مشيته ولا يأمن مع ذلك العثار. وقيل: إنه قد ينسب فاعل ذلك إلى ضعف الرأي لما لم يسوِّ بين جوارحه. وقيل: إنها مشية الشيطان. وقيل: لخروجها عن الاعتدال. وقال البيهقي (¬2): الكراهة لما في ذلك من الشهرة في اللباس. وقد ورد في رواية لمسلم (¬3) عن أبي هريرة بلفظ: "إذا انقطع شِسْع أحدكم فلا يمش ¬

_ (¬1) البخاري، كتاب اللباس، باب لا يمشي في نعل واحدة 10/ 309 ح 5855 ومسلم، كتاب اللباس والزينة، باب استحباب لبس النعال في اليمين 3/ 1660 ح 2097. (¬2) شعب الإيمان 5/ 179. (¬3) مسلم 3/ 1660 ح 2098.

في نعل واحدة حتى يصلحها". ومن حديث جابر (¬1) بلفظ: "حتى يصلح نعله". فقد يفهم من التقييد بالشرط أن ذلك إنما هو عند وقوع هذه الحالة وكانتا قبل ذلك منتعلتين، وأما إذا لبسها ابتداءً فلا نهي. ويجاب عنه بأن التقييد إنما هو لكونه هو الغالب، فلا يعمل بالمفهوم، وبأنه قد يمكن أن يكون ذلك من باب مفهوم الموافقة؛ وهو أنه إذا كره مع كون أصل الانتعال لهما جميعا أن ينفرد أحدهما بالنعل لضرورة الانقطاع، فبالأولى الكراهة لذلك ابتداء، وقد عورض هذا الحديث بما أخرجه الترمذي (¬2) عن عائشة قالت: ربما انقطع شسع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فمشى في النعل [الواحدة] (أ) حتى يصلحها. وقد رجح البخاري (¬3) وغير واحد أن هذا موقوف على عائشة من فعلها، كما أخرج الترمذي (¬4)، عن القاسم بن محمد، عن عائشة، أنها مشت في نعل واحدة. وقال الترمذي: هذا أصح. إلا أنه ذكر رزين (¬5) عنها قالت: قد رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينتعل قائمًا ويمشي في نعل واحدة غير ما مرة. وقال القاسم بن محمد: رأيت عائشة تمشي بنعل واحدة -أو قال: في خف واحد- وهي تصلح الأخرى. ولعل رواية الخف أصح؛ فإنه قد أخرج أبو داود (¬6) عن ابن أبي مليكة، قال: قيل لعائشة: هل تلبس المرأة النعل؟ ¬

_ (أ) في ب، جـ: الواحد. والمثبت من مصدر التخريج.

فقالت: قد لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الرَّجُلة من النساء. ويمكن الجمع بأنه إن صحَّ أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فعل ذلك، ففعله لبيان الجواز، وأن النهي ليس للتحريم، أو أن ذلك كان وقتا يسيرا كما قالت: حتى يصلحها. وأمّا فعل عائشة لذلك فيحمل على أنها لم يبلغها النهي، أو كان زمن الفعل يسيرا، أو أنها حملت النهي على التنزيه، وكذلك يحمل ما روي عن علي وابن عمر (¬1) أنهما فعلا ذلك. والشِّسْع بكسر الشين المعجمة وسكون المهملة: أحد سيور النعل التي تكون في أصبع الرِّجل من الرَّجل، والشراك بكسر المعجمة وتخفيف الراء وآخره كافٌ: أحد سيور النعل التي تكون في وجهها، وكلاهما يختل السير بفقده، وقد فهم البعض من قوله: "لا يمش". أنه لا كراهة في وقوفه بنعل واحدة إذا عرض للنعل ما يحتاج إلى إصلاحها، وقد نقل عياض (¬2) عن مالك أنه قال: يخلع الأخرى ويقف إذا كان في أرض حارة أو نحوها مما يضر به المشي حتى يصلحها، أو يمشي حافيا إن لم يكن ذلك. فأفهم أنه لا يقعد في نعل واحدة، إلا أن العلل التي ذكرت لا تظهر في القعود بنعل واحدة. وقوله: "لينعلهما جميعًا". أعاد الضمير إلى القدمين وإن لم يجر لهما ذكر؛ لذكر ما يدل عليهما من النعل، وضبطه النووي (¬3) بضم الياء من أنعل يُنعل، أي: ألبس رجله نعلًا. وأنعل دابته: جعل لها نعلًا. كذا ذكره أهل ¬

_ (¬1) ينظر ابن أبي شيبة 8/ 416. (¬2) الفتح 10/ 310، 311. (¬3) شرح مسلم 14/ 75.

اللغة، وذكر في "شرح الترمذي" (¬1) أن أهل اللغة قالوا: نعل بفتح العين وحكى كسرها، وانتعل، أي: لبس النعال. فالياء مفتوحة على هذا، والضمير للنعلين لا للقدمين، والحاصل أن الضمير إن كان للنعلين كانت الياء مفتوحة، وإن كان للقدمين كانت الياء مضمومة، وقال صاحب "المحكم" (¬2): نَعَلَ الدابة والبعير ونعّلهما. بالتشديد فعلى هذا فيجوز الفتح مع عود الضمير إلى القدمين. وقوله: "أو ليخلعهما جميعًا". أي النعلين، كذا في رواية مسلم، وفي رواية البخاري: "أو ليحفهما جميعًا". والضمير للقدمين، ويلحق بهذا كل لباس شفع كالخفين. وقد أخرج ابن ماجه (¬3) حديث أبي هريرة بلفظ: "لا يمشي أحدكم في نعل واحدٍ ولا خف واحد". وهو عند مسلم (¬4) من حديث جابر، وعند أحمد (¬5) من حديث أبي سعيد، وعند الطبراني (¬6) من حديث ابن عباس، قال الخطابي (¬7): وكذا إخراج (أ) اليد الواحدة من الكم دون الأخرى، ¬

_ (أ) في ب: أخرج.

والتردي على أحد (أ) المنكبين دون الآخر، والإلحاق يستقيم على بعض الوجوه المناسبة، فتأمل. والنعل مؤنثة تجمع على نعال؛ وهي ما لها قبالان أو قبال واحد واسع. والقِبال بكسر القاف وتخفيف الباء، هو الزمام، وهو السير الذي يعقد فيه الشسع الذي يكون بين إصبعي الرِّجل. قال ابن العربي (¬1): النعل لباس الأنبياء، وإنما اتخذ الناس غيرها لما في أرضهم من الطين، وقد يطلق النعل على كل ما يقي القدم. قال في "المحكم" (¬2): النعل والنعلة ما وقيت به القدم، وكانت نعل النبي - صلى الله عليه وسلم - لها قبالان، سبتية، بكسر السين المهملة وسكون الموحدة بعدها مثناة، منسوبة إلى السِّبت. قال أبو عبيدة (¬3): أي المدبوغة. زاد أبو عمرو: بالقرظ. وقال بعضهم: هي التي حلق عنها الشعر. وهو مأخوذ من السبت؛ لأن معناه القطع، وقيل: لأنها سبتت بالدباغ. أي: لانت قال أبو عبيدة (¬4): كانوا في الجاهلية لا يلبس المدبوغة إلا أهل السعة. وقد روي من حديث أنس (¬5) أنه أخرج نعلين لهما قبالان، فقال ثابت البناني: هذه نعل النبي - صلى الله عليه وسلم -. روي ذلك عن أنس، وكذا أخرج ¬

_ (أ) في ب: إحدى.

الترمذي عن ابن عباس في "الشمائل" (¬1): كان لنعل النبي - صلى الله عليه وسلم - قبالان مُثَنَّى شراكهما. ولا كراهة (أ) في لبسها في أي محل. وقال أحمد (¬2): يكره لبسها في المقابر؛ لحديث بشير بن الخصاصية؛ قال: بينما أنا أمشي في المقابر وعليّ نعلان إذا رجل من خلفي ينادي: يا صاحب السبتيتين، إذا كنت في (ب) هذا الموضع فاخلع نعليك. أخرجه أبو داود وصححه الحاكم (¬3)، وتعقب ذلك الطحاوي (¬4) بأنه يجوز أن يكون الأمر بخلعها لأذى كان فيهما، وقد ثبت في الحديث أن الميت يسمع قرع نعالهم إذا ولوا عنه مدبرين (¬5). وهو دالٌّ على جواز لبس النعال في المقابر، وقد ثبت في حديث أنس أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - صلى في نعليه (¬6). فإذا جاز دخول المسجد بالنعل فالمقبرة أولى. قال المصنف رحمه الله تعالى (¬7): ويحتمل أن يكون النهي لإكرام الميت، كما ورد النهي عن الجلوس على القبر (¬8)، وقوله تعالى: {فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ} (¬9). إما لتكريم ¬

_ (أ) في جـ: كراهية. (ب) في جـ: من.

مقام المناجاة، أو لما قيل: إنهما كانتا من جلد حمار غير مدبوغ فهو للنجاسة. والله سبحانه أعلم. 1216 - وعن ابن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا ينظر الله إلى من جرَّ ثوبه خيلاء". متفق عليه (¬1). قوله: "لا ينظر الله". النظر حقيقة في إدراك العين للمرئي، وهو هنا مجاز عن الرحمة. أي: لا يرحم الله. لامتناع حقيقة النظر في حقه تعالى (¬2)، والعلاقة هو السببية، فإن من نظر إلى غيره في حالة ممتهنة، أو إلى من لم يكن بينه وبينه عداوة رحمه ووصله بإحسانه، وإذا استعمل في غير معناه الحقيقي في حق غير الله تعالى، كان كناية إذا لم تمنع القرينة من إرادة المعنى الحقيقي. وقال في "شرح الترمذي" (¬3): عبّر عن المعنى الكائن عند النظر بالنظر، لأن من نظر إلى متواضع رحمه، ومن نظر إلى متكبر مقته، فالرحمة والمقت متسببان عن النظر. ¬

_ (أ) في جـ: فأخل.

وقوله: "إلى مَنْ جرَّ" ظاهر "مَنْ" العموم للرجال والنساء، وقد فهمت ذلك أم سلمة رضي الله عنها فقالت بعد ذكر النبيّ - صلى الله عليه وسلم - هذا الحديث: فكيف تصنع النساء بذيولهن؟ فقال: "يرخين شبرا". فقالت: إذن تنكشف أقدامهن. قال: "فيرخينه ذراعًا لا يزدن عليه". أخرجه النسائي والترمذي (¬1)، والمراد بالذراع ذراع اليد، وهو شبران بشبر اليد المعتدلة. وجرّ الثوب: المراد به جره على الأرض، وهو الموافق لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "ما أسفل من الكعبين من الإزار في النار". أخرجه البخاري (¬2). وقوله: "خيلاء". الخُيَلاء: فُعَلاء بضم الخاء المعجمة ممدود، والخيلة والبطر والكبر والزهو والتبختر كلها بمعنى واحد، يقال: خال واختال اختيالًا. إذا تكبر، و: هو رجلٌ خال. أي متكبر، و: صاحب خال. أي صاحب كبر. والتقييد بالخيلاء يدل بمفهومه أن جرَّ الثوب لغير الخيلاء لا يكون داخلًا في هذا الوعيد. قال ابن عبد البر (¬3): مفهومه أن الجار لغير الخيلاء لا يلحقه الوعيد (أإلا أنه أ) مذموم. وقال النووي (¬4): إنه مكروه وهذا نص الشافعي. قال البويطي في "مختصره" عن الشافعي (¬5): قال: لا يجوز ¬

_ (أ- أ) في جـ: لأنه.

السدل في الصلاة ولا في غيرها للخيلاء، ولغيرها خفيف؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - لأبي بكر. انتهى. وحديث أبي بكر أنه قال أبو بكر بعد أن قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "منْ جرَّ ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة". فقال أبو بكر: يا رسول الله، إن إزاري يَسترخي إلا أن أتعاهده. فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنك لست ممن يفعله خيلاء". أخرجه البخاري وأبو داود والنسائي (¬1)، فقوله: خفيف. ليس صريحًا في نفي التحريم، وقد صرّحت السنة بأن أحسن الحالات أن يكون إلى نصف الساق ودون ذلك لا حرج على فاعله إلى الكعبين، وما دون الكعبين فهو حرام إن كان للخيلاء، وإن كان لغير الخيلاء فقال النووي (¬2) وغيره: إنه مكروه وقد يتجه أن يقال: إن كان الثوب على قدر لابسه لكنه يسدله، فإن كان لا عن قصد كالذي وقع لأبي بكر، فهو غير داخل في الوعيد، وإن كان الثوب زائدا على قدر لابسه فهذا ممنوع من جهة الإسراف؛ فهو محرم لأجله ومن أجل التشبه (أ) بالنساء، ومن حيث إن لابسه لا يأمن أن تعلق النجاسة به كما في حديث الترمذي والنسائي (¬3) عن عبيد بن خالد قال: كنت أمشي وعليّ برد أجره فقال لي رجل: "ارفع ثوبك فإنه أتقى وأنقى" (أ). فنظرت فإذا هو النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقلت: إنما هي بردة مَلْحاء -بفتح الميم ولام ساكنة وحاء مهمله ممدوًا، أي فيها خطوط سود ¬

_ (أ) في جـ: الشبه. (ب) في مصدري التخريج: أبقى.

وبيض- فقال: "ما لك في أسوةٌ؛". قال: فنظرت فإذا إزاره إلى نصف ساقيه (أ). وسنده جيدٌ، ويعلل أيضًا تحريم الإسبال بأنه مظنة للخيلاء. قال ابن العربي (¬1): لا يجوز للرجل أن يجاوز بثوبه كعبه ويقول: لا أجره خيلاء. لأن النهي قد تناوله لفظا، ولا يجوز لمن يتناوله اللفظ أن يخالفه، إذ صار حكمه أن يقول: لا أمتثله؛ لأن تلك [العلة] (ب) ليست فيّ. فإنها دعوى غير مسلمة، بل إطالة ذيله دالة على تكبره. انتهى. وحاصله أن الإسبال يستلزم جر الثوب، وجر الثوب يستلزم الخيلاء ولو لم يقصده اللابس، ويؤيده ما أخرجه أحمد بن منيع (¬2) عن ابن عمر في أثناء حديث رفعه: "إياك وجرَّ الإزار؛ فإن جر الإزار من المخيلة". وأخرج الطبراني (¬3) من حديث أبي أمامة: بينما نحن مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ لحقنا عَمرو بن زرارة الأنصاري في حلةٍ؛ إزارٍ ورداءٍ قد أسبل، فجعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأخذ بناحية ثوبه ويتواضع لله تعالى ويقول: "عبدك وابن عبدك وأمتك". حتى سمعها عمرو، فقال: يا رسول الله، إني حمش الساقين (¬4). فقال: "يا عمرو، إن الله تعالى قد أحسن كلَّ شيء خلقه، يا عمرو، إن الله ¬

_ (أ) في جـ: ساقه. (ب) في ب، جـ: لعلة. والمثبت من العارضة، وينظر الفتح 10/ 264.

لا يحب المسبل" (¬1) الحديث. وأخرجه [الطبراني] (أ) عن عمرو بن زرارة، وفيه: وضرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأربع أصابع تحت ركبة عمرو، فقال: "يا عمرو، هذا موضع الإزار". ثم ضرب بأربع أصابع تحت الأربع فقال: "يا عمرو، وهذا موضع الإزار" الحديث. ورجاله ثقات، وظاهره أن عمرًا لم يقصد الخيلاء وقد منعه (ب) منه لكونه مظنته، وغير هذا من الأحاديث الدالة على منع الإسبال وإن لم يقصد به الخيلاء، وما يفهم منها من قصد إرادة العموم معارض للمفهوم، فلا يخصص المفهوم. وما أخرجه ابن أبي شيبة (¬2) عن ابن مسعود بسندٍ جيد، أنه كان يسبل إزاره، فقيل له في (جـ) ذلك فقال: إني أحمش الساقين. فهو محمول على أنه أسبله قدرًا زائدا على المستحب من نصف الساق، ولعله فعل ذلك إلى الكعب أو أعلى منه وهو جائز، ولا يظن به أنه جاوز الكعب؛ إذ لا حاجة إلى ذلك لحصول ستر الساق بدونه، ولعله لم يبلغه قصة عمرو بن زرارة. وحكم غير الثوب والإزار حكمهما؛ ولذلك لما سأل شعبة مُحارب -بضم الميم وبعدها حاء مهملة وبالراء المهملة المكسورة بعدها باء موحدة بوزن مقاتل- بن دِثار بكسر المهملة وتخفيف الثاء المثلثة -فقال شعبة: أذَكَر ¬

_ (أ) في ب، جـ: الطبري. والمثبت من الفتح 10/ 264. (ب) في جـ: تبعه. (جـ) ساقطة من: ب.

الإزار؟ قال: ما خص إزارًا ولا قميصا (¬1). ومقصوده أن التعبير بالثوب يشمل الإزار وغيره، ويؤيد ذلك ما أخرجه أصحاب السنن إلا الترمذي (¬2) عن ابن عمر عن أبيه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "الإسبال في الإزار والقميص والعمامة، من جرَّ منها شيئًا خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة". وفي إسناده عبد العزيز بن [أبي] (أ) رواد، وفيه مقال. قال ابن بطال: وإسبال العمامة المراد به إرسال العذبة زائدًا على ما جرت به العادة. وقد أخرج النسائي (¬3) من حديث عمرو بن أمية أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أرخى طرف عمامته بين كتفيه. انتهى. وكذلك أكمام القميص تطويلها زائد على المعتاد كما يفعله بعض أهل الحجاز إسبالٌ محرم، وقد نقل القاضي عياض عن العلماء كراهة كل ما زاد على العادة وعلى المعتاد في اللباس من الطول والسعة. والله أعلم. 1217 - وعنه رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا أكل أحدكم فليأكل بيمينه، وإذا شرب فليشرب بيمينه، فإن الشيطان يأكل بشماله ويضرب بشماله". أخرجه مسلم (¬4). الحديث فيه دلالة على استحباب الأكل والشرب باليمين وكراهتهما ¬

_ (أ) ساقطة من ب، جـ. والمثبت من تهذيب الكمال 18/ 136.

بالشمال، وقد زاد نافع الأخذ والإعطاء (¬1)؛ وهذا إذا لم يكن له عذرٌ، فإن عرض مانع من مرض أو جراحة أو غير ذلك، فلا كراهة في الشمال. وأنه ينبغي اجتناب الأفعال التي تشبه أفعال الشياطين. وأن الشيطان يأكل ويشرب وأن له يدين. والله أعلم. 1218 - وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "كُلْ واشربْ والبس وتصدقْ في غير سَرفٍ ولا مَخيلة". أخرجه أبو داود وأحمد وعلقه البخاري (¬2)، ثبت هذا التعليق في البخاري للمستملي والسرخسي فقط، وسقط للباقين ولم يصله البخاري في محل آخر. وقوله: "في غير سرف". يدل على أن الإسراف منهي عنه؛ وهو عبارة عن مجاوزة الحد في كل فعل أو (أ) قولٍ، وهو في الإنفاق أشهر، وقد قال الله تعالى: {قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ} (¬3)، وقال الله تعالى: {فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ} (¬4). وقوله: "ولا مخيلة". بوزن عطيمة وهي الخيلاء والتكبر. قال ¬

_ (أ) في ب: و.

الراغب (¬1): الخيلاء في النفس، ووجه الحصر في الإسراف والمخيلة أن المنوع من تناوله أكلا ولبسًا وغيرهما، إما لمعنى فيه وهو تجاوز الحد وهو الإسراف، وإما للتعبد كالحرير إن ثبتت علة النهي عنه وهو الراجح. ومجاوزة الحد تتناول مخالفة ما ورد به الشرع، فدخل الحرام وقد يستلزم الإسراف الكبر وهو المخيلة، قال الموفق عبد اللطيف البغدادي: هذا الحديث جامع لفضائل تدبير الإنسان نفسه، وفيه تدبير مصالح النفس والجسد في الدنيا والآخرة، فإن السرف في كل شيء يضر بالجسد ويضر بالعيشة ويؤدي إلى الإتلاف، فيضر بالنفس إذا كانت تابعة للجسد في أكثر الأحوال، والمخيلة تضر بالنفس حيث تكسبها العُجب، وتضر بالآخرة حيث تكسب الإثم، وبالدنيا حيث تكسب المقت من الناس. وعلق البخاري (¬2) عن ابن عباسٍ وقال: قال ابن عباسٍ: كلْ ما شئت واشرب ما شئت، ما أخطأك ثنتان، سرف أو مخيلة. ¬

_ (¬1) المفردات (خ ي ل). (¬2) البخاري 10/ 252 قبل حديث 5783.

باب البر والصلة

باب البر والصلة 1219 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من أحب أن يبسط [له] (أ) في رزقه وأن ينسأ له في أثره فليصل رحمه". أخرجه البخاري (¬1). قوله: "من أحب". لفظ البخاري: "من سره أن يبسط له في رزقه". أي يوسع له (ب). وقوله: "وأن ينسأ له (جـ) ". بضم الياء وسكون النون بعدها مهملة ثم همزة، أي يؤخر. وقوله: "في أثره". أي أجله، وسمى الأجل أثرًا لأنه ينقطع الأثر في الأرض بانقطاع العمر. قال زهير (¬2): والمرء ما عاش ممدود له أمل ... لا ينقضي العمر حتى ينتهي الأثر قال ابن التين (¬3): ظاهر الحديث يعارض قوله تعالى: {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا ¬

_ (أ) في ب، جـ: عليه. والمثبت من بلوغ المرام ومصدر التخريج. (ب) زاد في جـ: في رزقه. (جـ) ساقطة من: جـ.

يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ} (¬1). والجمع بينهما من وجهين؛ أحدهما: أن الزيادة كناية عن البركة في العمر بسبب التوفيق إلى الطاعة وعمارة وقته بما ينفعه في الآخرة وصيانته عن تضييعه في غير ذلك، ومثل هذا ما جاء أن النبي - صلى الله عليه وسلم - تقاصر أعمار أمته بالنسبة إلى أعمار من مضى من الأم فأعطاه الله ليلة القدر (¬2)، وحاصله أن صلة الرحم تكون سببا للتوفيق للطاعة والصيانة عن المعصية، فيبقى بعده الذكر الجميل، فكأنه لم يمت، ومن جملة ما يحصل له من التوفيق العلم الذي ينتفع به من بعده، والصدقة الجارية عليه، والخلف الصالح. وثانيهما: أن الزيادة على حقيقتها وذلك بالنسبة إلى علم الملك الموكل بالعمر والذي في الآية بالنسبة إلى علم الله تعالى؛ كأن يقال للملك مثلًا: إن عمر فلان -مثلًا- ماثة إن وصل رحمه، وإن قطعها ستين. وقد سبق في علم الله تعالى أنه يصل أو يقطع، فالذي في علم الله تعالى لا يتقدم ولا يتأخر، والذي في علم الملك هو الذي يمكن فيه الزيادة والنقص، وإليه الإشارة بقوله تعالى: {يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} (¬3). فالمحو والإثبات بالنسبة إلى ما في علم الملك، وما في أم الكتاب وهو الذي في علم الله تعالى لا محو فيه البتة، ويقال له: القضاء ¬

_ (أ) زاد بعده في ب: عنه.

المبرم. ويقال للأول: القضاء المعلق. والوجه الأول أليق، فإن الأثر ما يتبع الشيء فإذا أخر حسن أن يحمل على الذكر الحسن بعد فقد المذكور، ورجحه الطيبي (¬1)، وأشار إليه في "الفائق" (¬2) قال: يجوز أن يكون المعنى أن الله يُبقِي ذكر واصل الرحم في الدنيا طويلا، فلا يضمحل سريعا كما يضمحل ذكر قاطع الرحم. ولما أنشد أبو تمام (¬3) قوله في بعض المراثي: توفيت الآمال بعد محمد ... وأصبح في شغل عن السفر السفر قال له أبو دلف: لم يمت من قيل فيه هذا الشعر. ومن هذه المادة قول إبراهيم الخليل - عليه السلام -: {وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ (84)} (¬4). وأخرج الطبراني في "الصغير" (¬5) بسند ضعيف عن أبي الدرداء قال: ذكر عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من وصل رحمه أنسئ له في أجله فقال: "إنه ليس زيادة في عمره؛ قال الله تعالى: {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (34)} (¬6). ولكن الرجل يكون له الذرية الصالحة يدعون له من بعده". وله في "الكبير" (¬7) من حديث أبي مشجعة الجهني يرفعه: "إن الله لا ¬

_ (أ) بعده في ب: عنه.

يؤخر نفسا إذا جاء أجلها وإنما هو زيادة العمر؛ ذرية صالحة". وجزم ابن فورك (¬1) بأن المراد بزيادة العمر نفى الآفات عن صاحب البر في فهمه وعقله، وقال غيره في أعم من ذلك وفي وجود البركة في رزقه وعلمه، ونحو ذلك، وجاء في الباب عند الترمذي (¬2) عن أبي هريرة: إن صلة الرحم محبة في الأهل مثراة في المال منسأة في الأثر. وعند أحمد (¬3) بسند رجاله ثقات عن عائشة مرفوعًا: "صلة الرحم وحسن الجوار وحسن الخلق يعمران الديار ويزيدان في الأعمار". وأخرج عبد الله بن أحمد (¬4) في زوائد "المسند" من حديث علي نحو حديث الباب، وقال فيه: "ويندفع عنه ميتة السوء". ولأبي يعلى (¬5) من حديث أنس رفعه: "إن الصدقة وصلة الرحم يزيد الله بهما في العمر ويدفع بهما ميتة السوء". فجمع الأثرين (أ) وسنده ضعيف، وأخرج البخاري في "الأدب المفرد" (¬6) من حديث ابن عمر بلفظ: "من اتقى ربه ووصل رحمه ينسأ له في عمره وثرى ماله وأحبه أهله". 1220 - وعن جبير بن مطعم رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ¬

_ (أ) في جـ: الأمرين.

"لا يدخل الجنة قاطع". (أيعني قاطع أ) رحم. متفق عليه (¬1). الحديث أخرجه البخاري ومسلم من رواية مالك عن الزهري بحذف "رحم"، وأخرجه البخاري في "الأدب المفرد" (¬2) بزيادة لفظ "رحم"، ومسلم جعل ذلك تفسيرا من ابن عيينة عن الزهري، قال: قال سفيان: يعني قاطع رحم (¬3). وأخرج إسماعيل القاضي في "الأحكام" (¬4) من طريق الأعمش، عن عطية، عن أبي سعيد، ومن طريق أخرى عن أبي موسى رفعه: "لا يدخل الجنة مدمن خمر ولا مصدق بسحر ولا قاطع رحم". أخرجه ابن حبان والحاكم (¬5)، ولأبي داود (¬6) من حديث أبي بكرة رفعه: "ما من ذنب أجدر أن يعجل الله لصاحبه العقوبة في الدنيا مع ما ادخر (ب) له في الآخرة من قطعة الرحم". وللبخاري في "الأدب المفرد" (¬7) من حديحث أبي هريرة رفعه: "إن أعمال أمتي تعرض عشية [كل] (جـ) خميس ليلة الجمعة فلا يقبل عمل ¬

_ (أ- أ) ساقطة من: جـ. (ب) في ب: ادخره. (جـ) ساقطة من: ب، جـ. والمثبت من مصدر التخريج.

قاطع رحم". وللطبراني (¬1) من حديث ابن مسعود: "إن أبواب السماء مغلقة دون قاطع الرحم". وللبخاري في "الأدب المفرد" (¬2) من حديث ابن أبي أوفى رفعه: "إن الرحمة لا تنزل على قوم فيهم قاطع رحم". قال الطيبي (¬3): يحتمل أن يراد بالقوم الذين يساعدونه على قطيعة الرحم ولا ينكرون عليه، ويحتمل أن يراد بالرحمة المطر وأنه يحتبس عن الناس عموما بشؤم التقاطع. وقد دل الحديث أن قطع الرحم من الكبائر وأن ذلك من معاظم الذنوب، قال القاضي عياض (¬4): ولا خلاف أن قطع الرحم معصية وأن صلتها واجبة، ولكن اختلفوا في حد الرحم التي يجب صلتها؛ فقيل هي الرحم التي يحرم النكاح بينهما بحيث لو كان أحدهما ذكرا حرم على الآخر، فعلى هذا لا يدخل أولاد الأعمام ولا أولاد الأخوال. واحتج هذا القائل بتحريم الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها في النكاح لا يؤدي إليه من التقاطع، وقيل: هو من كان يتصل بميراث، ويدل عليه قوله - صلى الله عليه وسلم -: "ثم أدناك أدناك" (¬5). انتهى. وقيل: من كان بينه وبين الآخر نسب سواء كان يرثه أو لا. قال القاضي عياض (4). وصلة الرحم درجات بعضها أرفع من بعض، وأدناها ترك المهاجرة وصلتها بالكلام ولو بالسلام، ويختلف ذلك باختلاف القدرة والحاجة فمنها واجب ومنها مستحب، ولو وصل بعض ¬

_ (¬1) الطبراني 9/ 173، 174 ح 8793. (¬2) الأدب المفرد 1/ 144 ح 63. (¬3) كما في الفتح 10/ 415. (¬4) شرح مسلم 16/ 113. (¬5) مسلم 4/ 1974 ح 2548/ 2.

الصلة ولم يصل غايتها لم يسمّ قاطعا، ولو قصر عما يقدر عليه وينبغي له لم يسمّ واصلا. انتهى. وقال القرطبي (¬1): الرحم التي توصل عامة وخاصة؛ فالعامة رحم الدين وتجب صلتها بالتوادد والتناصح والعدل والإنصاف والقيام بالحقوق الواجبة والمستحبة، والرحم الخاصة تزيد بالنفقة على القريب وتفقد حاله والتغافل عن زلته. وقال ابن أبي جمرة (أ) (1): تكون صلة الرحم بالمال وبالعون على الحاجة ودفع الضرر وطلاقة الوجه والدعاء. والمعنى الجامع إيصال ما أمكن من الخير ودفع ما أمكن من الشر بحسب الطاقة، وهذا في حق المؤمنين، وأما الكفار والفساق فتجب المقاطعة لهم إذا (ب) لم تنفع الموعظة، واختلف العلماء أيضًا بما تحصل القطيعة للرحم، فقال أبو زرعة الولي بن العراقي: تكون بالإساءة إلى الرحم. وقال غيره: تكون بترك الإحسان؛ لأن الأحاديث آمرة بالصلة ناهية عن القطيعة ولا واسطة بينهما، والصلة أيضًا نوع من الإحسان كما فسرها بذلك غير واحد، والقطيعة ضدها وهي ترك الإحسان. انتهى. واختار شيخ الإسلام أحمد بن حجر الهيتمي في كتابه "الزواجر" أن قطعة الرحم تكون بقطع ما ألفه القريب منه من الصلة والإحسان لغير عذر شرعي، وسواء كان المألوف مالا أو مكاتبة أو مراسلة أو زيارة أو غير ذلك، فقطع ذلك كله يعد فعله كبيرة إذا كان لغير عذر، والعذر في المال يكون إما لفقده أو لاحتياجه إليه أو لتقديم غير القريب ¬

_ (أ) في جـ: حمزة. (ب) في جـ: إذ.

عليه لحاجته أو لأنه أصلح، وأما عذر الزيارة فيكون بالأعذار التي يسقط معها وجوب حضور الجمعة؛ لأن كلا منهما فرض عين، وأما عذر المكاتبة والمراسلة فهو ألا يجد من يثق به في أداء ما يرسله به. انتهى كلامه. وهو كلام حسن إلا أنه ينبغي أن يقال: يقطع ما ألفه القريب مما قد عوده، أو يعوده أمثاله لمثل ذلك القريب، وإلا لزم أن يكون معذورا بترك الإحسان من أصله ويلزم منه ألا يحسن قريب إلى قريبه أصلا وهو المتبادر عرفا من القطع، وإذا كان أحد الرحمين قد وصل أحدهما صاحبه فكافأه على ذلك فهو واصل، وأما قوله - صلى الله عليه وسلم -: "ليس الواصل بالمكافئ ولكن الواصل الذي إذا قطعت رحمه وصلها" (¬1). فقال ابن العربي (¬2) في "شرح الترمذي": المراد به الكامل في الصلة. وقوله: "قطعت" ضبط في بعض الروايات بضم أوله وكسر ثانيه مبني للمجهول وفي أكثرها بفتحتين، وقال الطيبي (¬3): معناه ليست حقيقة الوصل ومن يعتد بصلته من يكافئ صاحبه بمثل فعله، ولكنه من يتفضل على صاحبه. وقال المصنف رحمه الله تعالى (¬4): لا يلزم من نفي الوصل ثبوت القطع فهم ثلاث درجات؛ مواصل، ومكافئ، وقاطع؛ فالمواصل هو الذي يتفضل ولا يُتفضل عليه، والمكافئ الذي لا يزيد في الإعطاء على ما يأخذ، والقاطع الذي لا يتفضل عليه ولا يتفضل. وأقول: بالأولى مَن يُتفضل عليه ولا يتفضل إنه قاطع، ثم قال المصنف رحمه الله تعالى: وكما تقع المكافأة بالصلة من الجانبين كذلك تقع بالمقاطعة من ¬

_ (¬1) البخاري 10/ 423 ح 5991. (¬2) عارضة الأحوذي 8/ 101. (¬3) الفتح 10/ 423. (¬4) الفتح 10/ 424.

الجانبين فمن بدأ حينئذٍ فهو القاطع، فإن جوزي سمي من جازاه مكافئا. فائدة: الرحم من أسماء المعاني، وهي قرابة ونسب (أ) لجمعه (ب) رحم والده، ويتصل بعضه ببعض فسمى ذلك الاتصال رحما، وقد أخرج البخاري (¬1) مرفوعًا: "الرحم شجنة -بكسر الشين المعجمة وسكون الجيم بعدها نون وجاء بضم أوله وفتحه- من الرحمن". أي أخذ اسمها من اسمه، وجاء في حديث عبد الرحمن بن عوف أخرجه في السنن (¬2) مرفوعًا: "أنا الرحمن خلقت الرحم وشققت لها من اسمى". ومعنى اشتقاقها من اسم الرحمن أنها أثر من آثار الرحمة، فلها مسكة بالرحمن، فالقاطع لها منقطع من رحمة الله تعالى، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "قامت الرحم فقالت: هذا مقام العائذ بك من القطيعة. قال: نعم، أما ترضين أن أصل من وصلك وأقطع من قطعك؟ قالت: بلى. قال: فذلك لك". أخرجه مسلم (¬3)، وفي رواية أخرى (¬4): "الرحم متعلقة بالعرش تقول: من وصلني وصله الله، ومن قطعني قطعه الله". قال ابن أبي جمرة: الوصل من الله كناية عن عظم إحسانه، وإنما خاطب الناس بما يفهمون، ولما كان أعظم ما يعطيه المحبوب لمحبه الوصال وهو القرب وإسعافه بما يريد ومساعدته على ما يرضيه، وكأن ¬

_ (أ) في جـ: سبب. (ب) في جـ: بجمعه.

حقيقة ذلك مستحيلة في حق الله تعالى، عرف أن ذلك كناية عن عظم إحسانه لعبده. قال: وكذا القطع كناية عن حرمان الإحسان. قال القرطبي (¬1): وسواء قلنا: إن القول المنسوب إلى الرحم على سبيل المجاز أو الحقيقة أو أنه على جهة التقدير والتمثيل كأن يكون المعنى لو كانت الرحم ممن يعقل ويتكلم لقالت كذا، كما في قوله تعالى: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا} الآية. وفي آخرها: {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} (¬2). فمقصود هذا الكلام الإخبار بتأكيد صلة الرحم وأنه تعالى أنزلها منزلة من استجار به فأجاره فأدخله في حمايته، وإذا كان كذلك فجار الله غير مخذول. 1221 - وعن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن الله حرم عليكم عقوق الأمهات ووأد البنات ومنعا وهات، وكره لكم قيل وقال وكثرة السؤال وإضاعة المال". متفق عليه (¬3). قوله: "عقوق الأمهات". وهو جمع "أمهة"، وأمهة لغة في الأم قيل: هما أصلان، أو أن الهاء زائدة والأصل (أ) "أم" عند غير المبرد؛ لأن المبرد لا يعد الهاء من حروف الزيادة، ولا تطلق "أمهة" إلا على من يعقل ¬

_ (أ) في ب: لأصل.

بخلاف "أم" فإنها تعم، وخص النبي - صلى الله عليه وسلم - الأم بالذكر هنا وإن كان الأب مثلها إظهارًا لعظم موقع عقوقها، وضابط العقوق المحرم هو أن يحصل من الولد للأبوين أو لأحدهما إيذاء ليس بالهين عرفا، فيخرج من هذا ما إذا حصل من الأبوين أمر أو نهي فخالفهما بما لا يعد في العرف مخالفته عقوقا، فلا يكون ذلك عقوقا، وكذلك لو كان على الأبوين مثلًا دين للولد أو حق شرعي فرافعه إلى الحاكم فلا يكون ذلك عقوقا، كما وقع من بعض أولاد الصحابة شكاية الأب إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - في اجتياحه لماله، فلم يعد النبي - صلى الله عليه وسلم - شكايته عقوقا (¬1). فعلى هذا العقوق أن يؤذي الولد أحد أبويه بما لو فعله مع غير أبويه كان محرما من جملة الصغائر، فيكون ذلك في حق الأبوين كبيرة أو مخالفة الأمر أو النهي فيما يدخل فيه الخوف على الولد من فوات نفسه أو عضو من أعضائه في غير الجهاد الواجب عليه، أو مخالفتهما في سفر يشق عليهما وليس بفرض على الولد، أو في غيبة طويلة فيما ليس لطلب علم نافع ولا كسب أو فيه وقيعة في العرض، [أو] (أ) ترك تعطم الوالدين، فإنه لو قدم عليه أحدهما ولم يقم إليه أو قطب (¬2) في (ب) وجهه، فإن هذا وإن لم يكن في حق الغير معصية فهو عقوق في حق الأبوين، وقد ذكر معنى هذا التحقيق البُلقيني في "فتاويه" وهذا خلاصته مع تصحيح في بعض أطرافه. ¬

_ (أ) في ب، جـ: إلا. والمثبت من سبل السلام 4/ 325. (ب) ساقطة من: جـ.

وقوله: "ووأد البنات". الوأد بسكون الهمزة هو دفن البنت وهي حية، وكان أهل الجاهلية يفعلون ذلك كراهة لهنَّ، ويقال: أول من فعل ذلك قيس بن عاصم التميمي، وكان بعض أعدائه أغار عليه فأسر بنته فاتخذها لنفسه، ثم حصل بينهم صلح فخير ابنته فاختارت زوجها، فآلى قيس على نفسه ألَّا يولد له بنت إلا دفنها حية، فتبعه العرب على ذلك، وكان من العرب من يقتل أولاده مطلقا خشية الإملاق أو لعدم النفقة، وكان صعصعة أول من فدى الموءودة، وذلك أنه كان يعمد إلى من يريد أن يفعل ذلك فيفتدي الولد منه بمال وإلى ذلك أشار الفرزدق (¬1) بقوله: وجدي الذي منع الوائدا ... ت وأحيا الوئيد فلم يوأْد (أ) وقد بقي كل من قيس وصعصعة إلى أن أدركا الإسلام ولهما صحبة، وإنما خص البنات بالذكر؛ لأنه الغالب من فعلهم، وكان الوأد على طريقين عندهم؛ أحدهما أن يأمر امرأته إذا اقترب وضعها أن تطلق بجانب حفرة، فإن وضعت ذكرا أبقته، وإن وضعت أنثى طرحتها في الحفرة، وهذا في حق من يقتل البنت، ومنهم من كان إذا صارت البنت سداسية قال لأمها: طيبيها وزينيها لأزور بها أقاربها. ثم يبعد بها في الصحراء حتى يأتي البئر فيقول لها: انظري في البئر. فيدفعها من خلفها ويطمها. وقوله: "ومنعا وهات". المنع بسكون النون مصدر منع يمنع، وقد جاء ¬

_ (أ) في جـ: يوده.

في بعض ألفاظ البخاري (¬1) عن بعض رواته، "ومنع" بغير تنوين، ولعله لمناسبة لفظ: "هات" والمراد به منع ما أمر بإعطائه وقوله: "وهات". فعل أمر مجزوم بحذف الياء وهو مكسور التاء المثناة من فوق، وهو من الإيتاء، قال الخليل (¬2): أصله آت فقلبت الهمزة هاء. والمراد به طلب ما لا يستحق أخذه، ويحتمل أن يكون معناهما هو أن يمنع بره وإحسانه مَن يسترفده (¬3)، ثم يطلب من الناس برهم فيبخل بما في يده ويسأل الناس تكثرا. وقوله: "وكره لكم قيل وقال". وقع في أكثر الروايات بغير تنوين، وهو حكاية للفظ الفعل، والمراد به نقل الكلام الذي يسمعه إلى غيره فيقول: قيل: كذا وكذا. بغير ذكر القائل، وقال فلان: كذا وكذا. وإنما كره ذلك لما فيه من الاشتغال بما لا يعني المتكلم، ولكونه قد يتضمن النميمة والغيبة والكذب، لا سيما مع الإكثار من ذلك، فقلما يخلو عنه، ويجوز الإعراب فيهما وإجراؤهما مجرى الأسماء بالنقل إلى الأسماء، وإن كان النقل من الفعل إلى اسم الجنس قليلًا، ولكن ورد فيه شطر صالح كما قيل في "الدُّئل"، وقد جاء في رواية الكشميهني (¬4) للبخاري: "قيلًا وقالًا" بالنصب، قال الجوهري (¬5): قيل وقال اسمان. يقال: كثير القيل والقال. ¬

_ (¬1) البخاري 5/ 68 ح 2408. (¬2) العين 8/ 146. (¬3) الرَّفد: العطاء والصلة. التاج (ر ف د). (¬4) الفتح 10/ 407. (¬5) الصحاح (ق ول).

قال ابن دقيق العيد (¬1): لو كانا اسمين لم يكن لعطف أحدهما على الآخر فائدة؛ لأنهما بمعنى القول. وقال المحب الطبري (1): في قيل وقال ثلاثة أوجه: أحدهما: أنهما مصدران للقول، تقول: قلت قولًا وقيلًا وقالًا. والمراد في الحديث الإشارة إلى كراهة كثرة الكلام لأنها تئول إلى الخطأ، وإنما كرره للزجر عنه. ثانيها: إرادة حكاية أقاويل الناس والبحث عنها ليخبر عنها فيقول: قال فلان: كذا. وقيل له: كذا. والنهي عنه إما للزجر عن الاستكثار منه، وإما لما يكرهه المحكي عنه. ثالثها: إن ذلك في حكاية الاختلاف في أمور الدين كقوله: قال فلان: كذا. وقال فلان: كذا. ومحل كراهة ذلك أن يكثر منه بحيث لا يؤمن من الزلل، وهو في حق من ينقل بغير تثبت تقليدًا لمن سمعه (أ) ولا يحتاط له، ويؤيد هذا الحديث الصحيح: "كفى بالمرء إثمًا أن يحدث بكل ما سمع" أخرجه مسلم (¬2). وقوله: "وكثرة السؤال". وهو إما المسألة في المال أو السؤال عن المشكلات والمعضلات أو مجموع ذلك وهو الأولى، وقد تقدم في الزكاة تحريم مسألة المال (¬3)، وقد ثبت النهي عن الأغلوطات. أخرجه أبو داود (¬4) من ¬

_ (أ) في جـ: يسمعه.

حديث معاوية وثبت عن جمعٍ من السلف كراهة تكلف المسائل التي يستحيل وقوعها عادة، أو يندر جدًّا لما في ذلك من التنطع والقول بالظن الذي لا يخلو صاحبه عن الخطأ (أ)، وكذلك النهي عن المسائل التي ما قد نزل فيها شيء من الوحي في زمان نزول الوحي، كما قال الله تعالى: {لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} (¬1). وذلك خاص بزمان نزول الوحي والبقاء على الإباحة الأصلية، كما أشار النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى ذلك بقوله (¬2): "أعظم الناس جرمًا عند الله من سأل عن شيء لم يُحرم، فحرم من أجل مسألته". وأشار بقوله: "كثرة السؤال". إلى أن بعض المسألة لا بد منها، وذلك فيما التبس على المكلف من أمر الدين؛ وسأل ليتبين له حقيقة ما قد وقع في زمان الوحي وفي غيره فيما هو أعم من ذلك، وكذلك سؤال المال للضرورة، وقد تقدم تفصيل ذلك في الزكاة، وتأوله بعض العلماء بأن المراد كثرة السؤال عن أخبار الناس وأحداث الزمان، أو كثرة سؤال إنسان معين عن تفاصيل حاله وكان مما يكرهه المسئول. وقوله: "وإضاعة المال". المتبادر من الإضاعة ما لم تكن لغرض ديني ولا دنيوي، وقيل: هو الإسراف في الإنفاق. وقيده بعضهم بالإنفاق في الحرام، ورجح المصنف (¬3) رحمه الله تعالى أنه ما أنفق في غير وجهه المأذون ¬

_ (أ) في ب: الخطاء.

فيه شرعا سواء كانت دينية أو دنيوية؛ لأن الله تعالى جعل المال قيامًا لمصالح العباد، وفي التبذير تفوت تلك المصالح إما في حق صاحب المال أو في حق غيره، قال: والحاصل في كثرة الإنفاق ثلاثة وجوه؛ الأول: الإنفاق في الوجوه المذمومة شرعًا، ولا شك في تحريمه. والثاني: الإنفاق في الوجوه المحمودة شرعًا، ولا شك في كونه مطلوبًا ما لم يفوِّت حقا آخر أهم من ذلك المنفق فيه. والثالث: الإنفاق في المباحات وهو ينقسم إلى قسمين؛ أحدهما: أن يكون على وجه يليق بحال المنفق وبقدر ماله، فهذا ليس بإضاعة ولا إسراف. والثاني: أن يكون فيما لا يليق به عرفًا؛ فإن كان لدفع مفسدة إما حاضرة أو متوقعة فذلك ليس بإسراف، وإن لم يكن لذلك فالجمهور على أنه إسراف. قال ابن دقيق العيد (¬1): ظاهر القرآن أنه إسراف. وصرح بذلك القاضي حسين (¬2) فقال في كتاب "قسم الصدقات": هو حرام. وتبعه الغزالي وجزم به الرافعي في الكلام على الغارم وصحح في باب الحجر من "الشرح" وفي "المحرر" أنه ليس بتبذير، وتبعه النووي، وقد تقدم في كتاب الزكاة البحث في جواز التصدق بجميع المال، وأن ذلك يجوز لمن عرف من نفسه الصبر على المضايقة (¬3). وقال الباجي من المالكية: إنه يحرم استيعاب جميع المال بالصدقة. قال: ويكره كثرة إنفاقه في مصالح الدنيا ولا بأس به إذا وقع نادرا لحادث ¬

_ (¬1) ينظر شرح عمدة الأحكام 2/ 91. (¬2) الفتح 10/ 408. (¬3) تقدم 4/ 371، 372.

يحدث؛ كضيف أو عيد أو وليمة والاتفاق على كراهة الإنفاق في البناء الزائد على قدر الحاجة، ولا سيما إن أضاف إلى ذلك المبالغة في الزخرفة، وكذلك احتمال الغبن الفاحش في المبايعات بغير سبب، وأما إضاعة المال في المعصية فلا يختص (أ) بارتكاب الفواحش، بل يدخل فيها سوء عدم القيام على الرقيق والبهائم حتى يهلكوا، ودفع مال من لم يؤنس منه الرشد إليه، وقسمة ما لا ينتفع بجزئه كالجوهرة النفيسة. انتهى كلام الباجي. وقال السبكي في "الحلبيات" (¬1): وأما إنفاق المال في الملاذ المباحة فهو موضع اختلاف، فظاهر قوله تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} (¬2). إن الزائد الذي لا يليق بحال المنفق إسراف، ومن بذل مالًا كثيرا في عرض يسير تافه عده العقلاء مضيعًا. انتهى. الحديث فيه دلالة على تحريم المحرمات الثلاث؛ فأما العقوق والوأد فلا كلام في التحريم وأن ذلك من الكبائر، وأما المنع وهات فهو محرم على بعض الوجوه التي مرت، فيحمل الحديث على ذلك وكراهة الثلاث تحتمل كراهة التحريم، وهي محمولة على الوجوه المحرمة المذكورة في تفسيرها، ويحتمل كراهة التنزيه، ويحمل أيضًا على بعض الوجوه التي لا تقتضي التحريم. ¬

_ (أ) في جـ: تخصص.

وفي رواية لأبي داود بلفظ: نهى. والنهى كذلك يحتمل التحريم والإرشاد، وإن كان حقيقته (أ) التحريم، والله أعلم. 1222 - وعن عبد الله بن [عمرو] (ب) رضي الله عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "رضا الله في رضا الوالدين، وسخط الله في سخط الوالدين". أخرجه الترمذي وصححه ابن حبان والحاكم (¬1). صححه الحاكم وقال: على شرط مسلم. ورجح الترمذي وقفه. الحديث فيه دلالة على أنه يجب على الولد الوقوف على حال الذي يرضاه الوالدان ولا يسخطهما؛ ففي ذلك سخط الله سبحانه وتعالى، فيقدم رضاهما على فعل ما يجب عليه إذا كان من فروض الكفاية، كما ثبت في حديث ابن عمرو (¬2) في الرجل الذي جاء يستأذن النبي - صلى الله عليه وسلم - للجهاد فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أحَيٌّ والداك؟ ". قال: نعم. قال: "ففيهما فجاهد". وفي رواية (¬3): "ارجع إليهما ففيهما المجاهدة". وفي رواية (¬4): جئت أبايعك على الهجرة وتركت أبواي يبكيان. فقال: "ارجع إليهما فأضحكهما كما أبكيتهما". وفي إسناده عطاء بن السائب (¬5) من رواية سفيان عنه، وأخرج أبو داود (¬6) عن أبي سعيد ¬

_ (أ) في جـ: حقيقة. (ب) في الأصل، جـ: عمر. والمثبت من بلوغ المرام، ومصادر التخريج.

الخدري، أن رجلًا هاجر إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من اليمن فقال: يا رسول الله، إني قد هاجرت. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "هل لك أحدٌ باليمن؟ ". فقال: أبواي. فقال: "أذنا لك؟ ". قال: لا. قال: "فارجع فاستأذنهما، فإن أذنا لك فجاهد، وإلا فبرهما". وفي إسناده دَرّاج أبو السمح [المصرى] (أ) ابن سمعان (¬1)، ضعفه أبو حاتم وغيره، ووثقة يحيى، وفي هذا أحاديث كثيرة، وقد ذهب إلى ظاهر الحديث الأمير الحسين ذكره في "الشفا" وفي "مهذب الشافعي"، وأنه يتعين ترك الجهاد إذا لم يرض الأبوان، وكذلك غيره من الواجبات، ولعله يستثنى من ذلك فرض العين؛ مثل الصلاة الواجبة وغير ذلك فإنه يقدم فعل ذلك وإن لم يرض به الأبوان بالإجماع، وهو الواجب الذي لا يؤدي إلى تلف الولد، وذهب الأكثر إلى أنه يجوز فعل الواجبات، وإن كان فرض كفاية، والمندوبات والخروج لذلك وإن كره الوالدن ما لم يتضررا مضرة بدن بسبب فقد الولد، وتحمل الأحاديث على المبالغة في رعاية حق الوالدين، وأنه يتبع رضاهما فيما لم يكن في ذلك سخط الله تعالى، كما قال تعالى: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} (¬2). وإذا تعارض حق الأم وحق الأب فظاهر قوله تعالى: {حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا} (¬3) الآية. أن لها مزيد ¬

_ (أ) في ب، جـ: البصري عبد الله. والمثبت من مصادر ترجمته.

اختصاص بالبر، وكذلك قوله - صلى الله عليه وسلم - لما قال له رجل: مَن أحق الناس بحسن صحابتي؟ فقال: "أمك". ثلاث مرات ثم قال: "أبوك". أخرجه البخاري (¬1) بتقديم رضا الأم على رضا الأب، قال ابن بطال (¬2): مقتضاه أن يكون للأم ثلاثة أمثال ما للأب. قال: وكأن ذلك لصعوبة الحمل ثم الوضع ثم الرضاع ثم تشارك الأب في التربية. وقال القرطبي: المراد أن الأم تستحق على الولد الحظ الأوفر من البر، وقد يقدم ذلك على حق الأب عند المزاحمة، وقال عياض: ذهب الجمهور إلى أن الأم تفضل على الأب في البر. وقيل: هما سواء. ونقله بعضهم عن مالك، ونقل الحارث المحاسبي الإجماع على تفضيل الأم في البر، وذكر ابن بطال (¬3) عن مالك لمن سأله وقال: طلبني أبي ومنعتني أمي: قال: أطع أباك ولا تعص أمك. وهذا يدل على أنه يرى أنهما سواء، وقال الليث في مثل هذا: أطع أمك فإن لها ثلثي البر. وهذا منه موافق للرواية التي ذكرت فيها الأم مرتين والأب في الثالثة، وقد وقع هذا في رواية لمسلم (¬4)، وأخرج البخاري في "الأدب المفرد" وأحمد وابن ماجه وصححه الحاكم (¬5) من حديث المقدام بن معد يكرب مرفوعًا: "إن الله يوصيكم بأمهاتكم ثم يوصيكم بأمهاتكم ثم يوصيكم بآبائكم ثم يوصيكم بالأقرب فالأقرب". ¬

_ (¬1) البخاري 10/ 401 ح 5971. (¬2) شرح البخاري 9/ 189. (¬3) شرح البخاري 9/ 190. (¬4) مسلم 4/ 1974 ح 2548. (¬5) الأدب المفرد 1/ 141 ح 60، وأحمد 4/ 132، وابن ماجه 2/ 1206 ح 3661، والحاكم 4/ 151.

وأخرج الحاكم (¬1) من حديث أبي رمثة -بكسر الراء المهملة وسكون الميم وبعدها مثلثة- انتهيت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسمعته يقول: "أمك وأباك ثم أختك وأخاك ثم أدناك أدناك". وأصل الحديث عند أصحاب السنن (أ) الثلاثة وأحمد وابن حبان (¬2)، وظاهره التسوية بين الأب والأم، والمراد بالأدنى: الأقرب إلى البار (ب). قال القاضي عياض: تردد بعض العلماء في الجد والأخ والأكثر على تقديم الجد، وجزم به الشافعية وقالوا: يقدم الجد ثم الأخ ويقدم من أدلى بسببين على من أدلى بسبب واحد، ثم القرابة من ذوي الرحم، ويقدم منهم المحارم على من ليس بمحرم، ثم العصبات، ثم المصاهرة، ثم الولاء، ثم الجار. وأشار ابن بطال إلى أن الترتيب حيث لا يمكن البر دفعةً واحدة، وجاء في حق المرأة تقديم (جـ) الزوج، وهو ما أخرجه أحمد (¬3) والنسائي وصححه الحاكم (¬4) من حديث عائشة رضي الله عنها: سألت النبي - صلى الله عليه وسلم -: أيُّ الناس أعظم حقا على المرأة؟ قال: "زوجها". قلت: فعلى الرجل؟ قال: "أمّه". ولعل مثل هذا مخصوص بما إذا حصل التضرر ¬

_ (أ) في ب: السير. (ب) في ب: المبارة. (جـ) في جـ: تقدم.

مع الوالدين فإنه يقدم حقهما على حق الزوج جمعًا بين الأحاديث. 1223 - وعن أنس رضي اللَّه عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "والذي نفسي بيده لا يؤمن عبد حتى يحب لجاره أو لأخيه ما يحب لنفسه". متفق عليه (¬1). الحديث فيه دلالة على رعاية حق الأخ والجار، وقد وقع في مسلم بالشك، وكذا هو في "مسند عبد بن حميد" (¬2) على الشك، وهو في البخاري وغيره "لأخيه" من غير شك. قال العلماء: معناه لا يؤمن الإيمان التام، وإلا فأصل الإيمان يحصل لمن لم يكن بهذه الصفة، والمراد: يحب لأخيه من الطاعات والأشياء المباحة، ويدل عليه ما جاء في رواية النسائي في هذا الحديث: "حتى يحب لأخيه من الخير (أ) ما يحب لنفسه". قال ابن الصلاح: وهذا قد يعد من الصعب الممتنع وليس كذلك؛ إذ معناه لا يكمل إيمان أحدكم حتى يحب لأخيه في الإسلام ما يحب لنفسه من الخير، والقيام بذلك يحصل بأن يحب له حصول مثل ذلك من جهة لا يزاحمه فيها بحيث لا تنقص النعمة على أخيه شيئًا من النعمة عليه، وذلك يسهل على القلب السليم وإنما يعسر على القلب الدّغِل (¬3) عافانا الله وإخواننا ¬

_ (أ) في جـ: الخيرات.

أجمعين. انتهى. وهذا على رواية "الأخ"، وأما على رواية "لجاره" فظاهر الجار أعم من أن يكون مسلما، أو كافرًا، أو فاسقا، أو صديقًا، أو عدوًّا، أو قريبًا، أو أجنبيًّا، والأقرب دارًا، أو الأبعد، فمن اجتمعت فيه الصفات المقتضية لمحبة الخير له، فهو في أعلى المراتب ومن كان فيه أكثرها فهو لاحق به وهلم جرّا إلى الخصلة الواحدة، فيعطي كل ذي حق حقه بحسب حاله، وقد روي عن عبد الله بن عمر أنه ذبح شاة فأهدى منها لجاره اليهودي. أخرجه البخاري في "الأدب المفرد" والترمذي (¬1) وحسنه، وقد أخرج الطبراني (¬2) من حديث جابر: "الجيران ثلاثة؛ جار له حقٌّ وهو المشرك، له حق الجوار، وجارٌ له حقان وهو المسلم، له حق الجوار وحق الإسلام، وجارٌ له ثلاثة حقوق؛ مسلمٌ له رحم جار، له حق الإسلام والرحم والجوار". قال القرطبي: الجار قد تطلق ويراد به الداخل في الجوار، ويراد به المجاور في الدار وهو الأغلب. انتهى. ولعله المراد هنا؛ فإذا كان جارًا أخًا أحب له ما يحب لنفسه، وإن كان كافرًا أحبَّ له الدخول في الإيمان أولًا مع ما يحب لنفسه من المنافع بشرط الإيمان، قال الشيخ أبو محمد بن أبي جمرة: حفظ حق الجار من كمال الإيمان والإضرار به من الكبائر؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذ جاره" (¬3). قال: ويفترق الحال في ذلك بالنسبة إلى ¬

_ (¬1) البخاري 1/ 221 ح 128، والترمذي 4/ 294 ح 1943. (¬2) لم نجده عند الطبراني، وهو عند البزار في مسنده 2/ 380 ح 1896، وعزاه الهيثمي له في مجمع الزوائد، 8/ 164. (¬3) البخاري 10/ 445 ح 6018.

الجار الصالح وغيره، والذي يشمل الجميع إرادة الخير وموعظته بالحسنى والدعاء له بالهداية وترك الإضرار له، إلا في الموضع الذي يحل له الإضرار بالقول والفعل، والذي يخص (أ) الصالح هو جميع ما تقدم وغير الصالح كفه عن الأذى وأمره بالحسنى على حسب مراتب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والكافر يعرض الإسلام عليه والترغيب فيه برفق، والفاسق يعظه بما يناسبه بالرفق ويستر عليه الله، وينهاه بالرفق، فإن نفع وإلا هجره قاصدًا لتأديبه على ذلك مع إعلامه بالسبب ليكف. ويقدم عند التعارض من كان أقرب إليه بابًا، كما في حديث عائشة قلت: يا رسول الله، إن لي جارين فإلى أيهما أهدي؟ قال: "إلى أقربهما بابًا". أخرجه البخاري (¬1). والحكمة فيه أن الأقرب يرى ما يدخل بيت جاره من هدية وغيرها، فيتشوق لها بخلاف الأبعد، وأن الأقرب أسرع إجابة لما يقع لجاره من المهمات، ولا سيما في أوقات الغفلة، واختلف في حدّ الجوار فجاء عن علي رضي الله عنه: من سمع النداء فهو جار. وقيل: من صلى معك صلاة الصبح في المسجد فهو جار. وعن عائشة: حدّ الجوار أربعون دارًا من كل جانب (¬2). وعن الأوزاعي مثله (¬3)، وأخرج البخاري في "الأدب المفرد" (¬4) عن الحسن مثله، وأخرج ابن وهب، عن يونس، عن ابن شهاب: أربعون ¬

_ (أ) في جـ: خص.

دارًا عن يمينه وعن يساره ومن خلفه ومن بين يديه (¬1). وهذا يحتمل أنه كالأول، وأن يريد التوزيع فيكون من كل جانب عشرة. 1224 - وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أيُّ الذنب أعظم؟ قال: "أن تجعل لله ندا وهو خلقك". قلت: ثمّ أيٌّ؟ قال: "أن تقتل ولدك خشية أن يأكل معك". قلت: ثم أيٌّ؟ قال: "أن تُزاني حليلة جارك". متفق عليه (¬2). قوله: "أي الذنب أعظم". تقدم الكلام في الذنوب وأن منها ما هو أعظم من غيره. وقوله: "ندًّا" الند: الضد والشبه، وفلان ندّ فلان ونديده: أي مثله. كذا رواه شمر عن الأخفش. وقوله: "مخافة أن يأكل معك". وفي لفظ مسلم: "أن يطعم معك". وهو في معنى يأكل، وهو معنى قوله تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ} (¬3). أي فقر. وقوله: "أن تزاني". أي تزني بها برضاها، وهذا يتضمن الزنى وإفسادها على زوجها واستمالة قلبها إلى الزانى، وذلك أفحش، وهو مع ¬

_ (¬1) المراسيل ص 257 ح 350، وسنن البيهقي 6/ 276. (¬2) البخاري، كتاب التفسير، باب قوله تعالى {فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} 8/ 163 ح 4477، ومسلم، كتاب الإيمان، باب كون الشرك أقبح الذنوب وبيان أعظمها بعده 1/ 90 ح 86/ 141. (¬3) الآية 31 من سورة الإسراء.

امرأة الجار أقبح وأعظم جرما؛ لأن الجار يتوقع من جاره الذبَّ عنه وعن حريمه ويأمن بوائقه ويطمئن إليه، وقد أمرنا بإكرامه والإحسان إليه، فإذا قابل هذا كله بالزنى بامرأته وإفسادها عليه مع تمكنه منها على وجه لا يتمكن غيره منه، كان في غاية من القبح، والحليلة بالحاء المهملة وهي الزوجة سميت بذلك لكونها تحل له، وقيل: لكونها تحل معه. والحديث فيه دلالة على أن الشرك أعظم المعاصي وهو ظاهر لا خفاء به، وأن القتل بغير حق يليه، وقد نصَّ على هذا الشافعي في كتاب الشهادات في "مختصر المزني" (¬1) أن القتل بعد الشرك، وبنى عليه أصحابه. وسائر الكبائر يختلف أمرها باختلاف الأحوال والمفاسد المرتبة عليها، وعلى هذا يحمل ما جاء في شيء منها: "أكبر الكبائر" والمراد: من أكبر الكبائر. كما تقدم الكلام على ذلك. 1225 - وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من الكبائر شتم الرجل والديه". قيل: وهل يسب الرجل والديه؟! قال: "نعم؛ يسب أبا الرجل فيسب أباه، ويسب أمه فيسب أمه". متفق عليه (¬2). قوله: "شتم الرجل والديه". المراد به التسبب إلى شتم الوالدين، فهو من باب المجاز المرسل استعمال المسبب في السبب، وقد بين ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - ¬

_ (¬1) مختصر المزني ص 310. (¬2) البخاري، كتاب الأدب، باب لا يسب الرجل والديه 10/ 403 ح 5973، ومسلم، كتاب الإيمان، باب بيان الكبائر وأكبرها 1/ 92 ح 90/ 146.

بقوله: "نعم؛ يسب أبا الرجل" إلى آخره. والحديث فيه دلالة على رعاية حق الوالدين وأنه يجب الترك لما قد يؤدي إلى سبهما، فإن المسبوب أبوه قد يجازي بذلك وقد لا يفعله، قال ابن بطال (¬1): هذا الحديث أصل في سد الذرائع، ويؤخذ منه أن من آل فعله إلى محرم حرم عليه الفعل وإن لم يقصد إلى المحرم. وقد دل عليه قوله تعالى: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} (¬2) الآية. واستنبط منه الماوردي (¬3) تحريم بيع الثوب الحرير إلى من يتحقق منه لبسه، والغلام الأمرد إلى من يتحقى منه فعل الفاحشة، والعصير ممن يتخذه خمرا، ويدل على أنه يعمل بالغالب؛ لأن الذي يسب أبا الرجل قد لا يجازيه بالسب لكن الغالب هو المجازاة. ويستفاد من الحديث جواز مراجعة الطالب لشيخه فيما يقوله مما أشكل عليه. 1226 - وعن أبي أيوب رضي الله عنه، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال؛ يلتقيان فيعرض هذا ويعرض هذا، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام". متفق عليه (¬4). الحديث فيه دلالة على أنه يحرم على المسلم هجران المسلم، فإن نفي الحل دال على التحريم. ¬

_ (¬1) شرح البخاري 9/ 192. (¬2) الآية 108 من سورة الأنعام. (¬3) الفتح 10/ 404. (¬4) البخاري، كتاب الأدب، باب الهجرة وقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يحل لرجل أن يهجر أخاه فوق ثلاث 10/ 492 ح 6077، ومسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم الهجر فوق ثلاث بلا عذر شرعي 4/ 1984 ح 2560/ 25.

وقوله: "فوق ثلاثة أيام (أ) " مفهومه أن الهجرة في الثلاثة الأيام رخصة، قال العلماء: وإنما عُفي عنها في الثلاثة الأيام؛ لأن الآدمي مجبول على الغضب وسوء الخلق ونحو ذلك، فعفي عن الهجرة في الثلاثة الأيام؛ ليذهب ذلك العارض تخفيفًا على الإنسان ورفعًا للإصر، ولأنه في اليوم الأول يسكن غضبه، وفي الثاني يراجع نفسه، وفي الثالث يعتذر، وما زاد على ذلك قطع لحقوق الأخوة. وقيل: إن الحديث لا يقضي بإباحة الهجرة في الثلاثة الأيام، وهو مبني على عدم القول بالمفهوم. وقوله: "يلتقيان" إلى آخره. تحقيق لمعنى الهجرة المنهي عنها، وهو على الغالب من حال المتهاجرين عند اللقاء. وقوله: "وخيرهما الذي يبدأ بالسلام". فيه دلالة على أن الهجرة تزول برد السلام. وقد ذهب إلى هذا الجمهور؛ ومنهم الشافعي ومالك، ويستدل له بما رواه الطبراني (¬1) من طريق زيد بن وهب عن ابن مسعود في أثناء حديث موقوف، وفيه: ورجوعه أن يأتي ويسلم عليه. وقال أحمد وابن القاسم المالكي: إن كان يؤذيه ترك الكلام لم يكف رد السلام، بل لا بد من الرجوع إلى الحال الذي كان بينهما، وأحسن من هذا أنه ينظر إلى حال المهجور، فإن كان خطابه بما زاد على السلام عند اللقاء مما تطيب به نفسه ويزول عنه غل الهجر كان من تمام الوصل، وتركه هجر، وإن كان لا ¬

_ (أ) كذا في ب، جـ، وقد تقدم في المتن: ثلاث ليال.

يحتاج إلى ذلك كفى السلام. وقال ابن عبد البر (¬1): أجمعوا على أنه يجوز الهجر فوق ثلاث لمن كانت مكالمته تجلب نقصا على المخاطِب له في دينه، أو مضرة تحصل عليه في نفسه أو دنياه، فرب هجر جميل خير من مخاطبة مؤذية، انتهى. وكذلك هجر من صدر عنه ما يلام عليه شرعا وكان في هجره صلاح له فإنه يحسن، بل قد يجب، كما أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بهجر الثلاثة المخلفين؛ وهم كعب بن مالك وهلال بن أمية ومرارة بن الربيع (¬2)، كما أفهم قوله تعالى: {ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ} (¬3). وبوب البخاري لقصتهم في الصحيح، وقد جرى بين السلف من الهجران فوق الثلاث، كما وقع من أبي ذر (¬4) وابن مسعود (¬5) وعمار (¬6) في حق بعض الصحابة، وهو مذكور في تراجمهم، واستمروا على ذلك حتى ماتوا، وقطع عثمان رضي الله عنه رزق ابن مسعود من بيت المال، وبعد موته عول الزبير على عثمان في إجرائه لأولاده وقد كان وصيًّا عليهم (¬7). وفي صحيح البخاري (¬8) أن عائشة رضي الله عنها نذرت أن لا تكلم عبد الله بن الزبير لما هم بالحجر عليها، لما رأى من إنفاقها حتى كانت لا تدع شيئًا مما جاءها من رزق الله، ¬

_ (¬1) التمهيد 6/ 127. (¬2) البخاري 8/ 113 ح 4418، ومسلم 4/ 2120 ح 2769. (¬3) الآية 118 من سورة التوبة. (¬4) ينظر طبقات ابن سعد 4/ 226، 227. (¬5) سيأتي في الصفحة التالية. (¬6) ينظر تاريخ المدينة لابن شبة 3/ 1124. (¬7) ابن سعد في الطبقات 3/ 161. (¬8) البخاري 10/ 491 ح 6073 - 6075.

فقال: أما والله، لتنتهين عائشة عن بيع رباعها أو لأحجرن عليها. فرأت أن ذلك نوع عقوق منه؛ لأنه لم يكن عندها أحد في منزلته (أ) وهي خالته أخت أمه، فرأت مجازاته ترك مكالمته. وهجر ابن مسعود من ضحك في جنازة (¬1)، وحُذَيفة من شد الخيط للحمى، وهجر عمر من سأل عن معنى: {وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا}. و {وَالْمُرْسَلَاتِ} (¬2). وهجرت عائشة حفصة، وعبد الرحمن هجر عثمان إلى أن مات، وطاوس هجر وهبًا إلى أن مات، وكان الثوري يتعلم من ابن أبي ليلى ثم هجره ومات ابن أبي ليلى ولم يشهد جنازته (¬3)، وقد روي عن أحمد بن حنبل أنه هجر أولاده وعمه وابن عمه لما أخذوا جائزة السلطان، حتى قال الذهبي في "الميزان" (¬4): لا يقبل جرح الأقران بعضهم على بعض سيما السلف، وحدهم رأس ثلاثمائة من الهجرة. ونقول: إن الأمر مستمر إلى وقتنا، بل في وقتنا من هذا العجب العجاب الذي نسأل الله تعالى السلامة منه، وأن يشرح صدورنا بالتسليم والإغضاء عن العيوب، ويطهر الصدر من الغل والحوب بمنه وإفضاله، ويحمل ما وقع من المذكورين وغيرهم من الأفاضل بأن الهجر لمصلحة دينية، وقد يكون مصيبًا من وقع منه في نظره، وقد يكون مخطئًا، والعصمة مرتفعة في حق الجميع، والعفو من الله تعالى مرجو للمقصر والمطيع، وقد ¬

_ (أ) في جـ: منزلة.

ذكر الخطابي (¬1) أن هجر الوالد لولده والزوج لزوجته ونحو ذلك لا يتضيق بالثلاث، واستدل بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - هجر نساءه شهرا (¬2)، وكذلك ما صدر من. كثير من السلف في استجازتهم ترك مكالمة بعضهم بعضًا مع علمهم بالنهي عن المهاجرة، انتهى. ولا يخفى أن ها هنا مقامين أعلى وأدنى، فالأعلى اجتناب الإعراض جملة وهو يكون ببذل السلام والكلام والموادة بكل طريق، والأدنى بالاقتصار على السلام دون غيره، والوعيد الشديد إنما وقع لمن يترك الأدنى، وأما الأعلى فمن تركه من الأجانب لا يلحقه اللوم، بخلاف الأقارب فإنه يدخل في قطيعة الرحم، وإلى هذا أشار ابن الزبير في قوله في هجر عائشة له: فإنها لا يحل لها قطيعتي. أي إن كانت هجرتنى عقوبة على ذنبي فليكن لذلك أمد، وإلا فتأبيد ذلك يفضي إلى قطيعة الرحم. 1227 - وعن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "كل معروف صدقة". أخرجه البخاري (¬3). قوله: "كل معروف صدقة". المعروف ضد المنكر، والإخبار عنه بأنه صدقة من التشبيه البليغ بحذف أداة التشبيه، والمقصود المبالغة بأن له حكم الصدقة في الثواب، وأنه لا يحتقر الفاعل شيئًا من المعروف ولا يبخل به، وقد جعل النبي - صلى الله عليه وسلم - كل تسبيحة صدقة، وكل تكبيرة صدقة، والأمر ¬

_ (¬1) معالم السنن 4/ 122. (¬2) أحمد 1/ 235. (¬3) البخاري، كتاب الأدب، باب كل معروف صدقة 10/ 447 ح 6021.

بالمعروف صدقة، والنهي عن المنكر صدقة، وقال: "في بضع أحدكم صدقة" (¬1). والإمساك عن الشر صدقة (¬2)، وغير ذلك من الأعمال الصالحة، والصدقة هي ما يعطه المتصدق للتقرب إلى الله تعالى، فتشمل الصدقة النافلة والواجبة. 1228 - وعن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تحقرن من المعروف شيئًا ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق". 1229 - وعنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا طبخت مرقة فأكثر ماءها وتعاهد جيرانك". أخرجهما مسلم (¬3). قوله: "بوجه طلق". يجوز في "طلق" إسكان اللام وكسرها، ويقال: طليق. بزيادة الياء، ومعناه بوجه سهل منبسط. وفي الحديث دلالة على فعل المعروف وما تيسر منه وإن قلَّ، حتى طلاقة الوجه عند اللقاء. وقوله: "إذا طبخت مرقة". الحديث فيه دلالة على التوصية بحق الجار والإحسان إليه وبيان عظيم حقه. 1230 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ نفس عن مسلم كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب ¬

_ (¬1) مسلم 2/ 697 ح 1006. (¬2) مسلم 2/ 699 ح 1008. (¬3) مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب الوصية بالجار والإحسان إليه، وباب استحباب طلاقة الوجه عند اللقاء 4/ 2025، 2026 ح 2624، 2626.

يوم القيامة، ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن يستر مسلما ستره الله في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه". أخرجه مسلم (¬1). قوله: "من نَفَّس عن مسلم". لفظ مسلم (¬2): "من فرّج" عوض "نفس". فيه دلالة على فضيلة إعانة المسلم، وتفريج الكربة يكون إما بإعطائه من ماله صدقة أو قرضه، أو بجاهه، ويدخل فيه ما كان يحصل به التفريج ولو بالإشارة والرأي والدلالة على المقصد الذي يقصد. وقوله: "ومَنْ يَسّر على معسرٍ". لم يكن هذا في مسلم (¬3)، وقد أخرجه غيره من أهل السنن (¬4)، والتيسير على المعسر هو إنظاره في دينه أو إبراؤه من الدين. وقوله: "ومن يستر (أ) مسلما". فيه دلالة على أنه ينبغي من المسلم أن يستر ما اطلع عليه من زلات المسلم، وقد ورد التجاوز عن ذوي الهيئات عثراتهم إلا الحدود (¬5)، وكذلك من لم يعرف منه معاودة المعاصي والفساد، ¬

_ (أ) في ب: ستر.

كما جاء في حق ماعز: "هلَّا سترت عليه بردائك يا هَزَّال" (¬1). وأما المعروف بالفساد والتمادي عليه فلا يستحب الستر عليه، بل ترفع قصته إلى من له الولاية إذا لم يخف من ذلك مفسدة؛ لأن الستر عليه يطمعه في الإيذاء والفساد وانتهاك الحرم وجسارة غيره على مثل فعله، هذا كله في ستر معصية وقعت وانقضت، أما معصية تراه وهو متلبس بفعلها فالواجب المبادرة بإنكارها والمنع منها على من قدر على ذلك، ولا يحل تأخيرها، فإن عجز لزمه رفعها إلى ولي الأمر إذا لم يترتب على ذلك مفسدة، وأما جرح الرواة والشهود والأمناء على الأوقاف والصدقات والأيتام ونحوهم فيجب جرحهم عند الخاصة، ولا يحل الستر عليهم إذا رئي منهم ما يقدح في أهليتهم، وليس هذا من الغيبة المحرمة بل من النصيحة الواجبة، وهذا مجمع عليه؛ قال العلماء: والقسم الأول الذي يستر فيه هو مندوب، فلو رفعه إلى السلطان ونحوه لم يأثم بالإجماع، لكن هذا خلاف الأولى، وقد يكون في بعض صوره ما هو مكروه. وقوله: "واللَّهُ في عون العبد" إلى آخره. لفظ مسلم (¬2): "من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته". والمراد منه أن الله سبحانه وتعالى يعين المذكور في قضاء حوائجه ويلطف به فيها جزاء وفاقا بجنس ما فعله من إعانة أخيه. 1231 - عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ¬

_ (¬1) أحمد 5/ 217، وأبو داود 4/ 144 ح 4420. (¬2) اللفظ الأول عند مسلم 4/ 2074 ح 2699.

"مَنْ دَلَّ على خير فله مثل أجر فاعله". أخرجه مسلم (¬1). الحديث فيه دلالة على فضيلة الدلالة على الخير، وأن ثواب الدلالة كثواب الفعل، ومثله قوله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ سنَّ في الإسلام سنة حسنة فعمل بها بعده، كتب له مثل أجر من عمل بها ولا ينقص من أجورهم شيء، ومن سنَّ في الإسلام سنة سيئةً فعمل بها بعده، كتب عليه مثل وزر من عمل بها ولا ينقص من أوزارهم شيء" (¬2). 1232 - وعن ابن عمر رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من استعاذكم بالله فأعيذوه، ومن سألكم بالله فأعطوه، ومن أتى إليكم معروفًا فكافئوه، فإن لم تجدوا فادعوا له". أخرجه البيهقي (¬3). الحديث (أ) أخرجه أبو داود والنسائي وابن حبان في "صحيحه" والحاكم (¬4) وصححه، وفيه زيادة: "ومن استجار بالله فأجيروه، ومن أتى إليكم معروفا فكافئوه، فإن لم تجدوا فادعوا له حتى تعلموا أنكم قد كافأتموه". وفي رواية (¬5): "فإن عجزتم عن مجازاته فادعوا له حتى تعلموا أن ¬

_ (أ) زاد في ب، جـ: و.

قد شكرتم فإن الله يحب الشاكرين". والترمذي (¬1) وقال: حسن غريب: "من أعطي عطاء فوجد فليجز به، فإن لم يجد فليثنِ؛ فإن من أثنى فقد شكر ومن كتم فقد كفره، ومن تحلى بباطل فهو كلابس ثوبي زور". وفي رواية جيدة لأبي داود (¬2): "من أبلي -أي أنعم عليه إذ الإبلاء الإنعام- فذكره فقد شكره، وإن كتمه فقد كفره". وقوله: "استعاذكم بالله". أي: طلب الخلاص من العمل الذي يطلب منه؛ لأن الاستعاذة بمعنى الالتجاء، فإذا طلب الالتجاء إلى الله تعالى بخلاصه. "فأعيذوه". أي: خلصوه من ذلك. وقوله: "ومن سألكم بالله فأعطوه". فيه دلالة على أنه يجب الإعطاء لمن سأل بالله تعالى، وقد جاءت الأحاديث بلعن السائل بوجه الله ولعن المسئول إذا لم يعطه؛ أخرج الطبراني (¬3) بسند رجاله رجال الصحيح إلا شيخه وهو ثقة على كلام فيه، عن أبي موسى الأشعري أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "ملعون من سأل بوجه الله، وملعون من سئل بوجه الله ثم منع سائله ما لم يسأل هُجْرا". بضم الهاء وسكون الجيم، أي أمرًا قبيحا لا يليق، ويحتمل أنه أراد ما لم يسأل سؤالا قبيحا، أي بكلام قبيح. وغير ذلك من الأحاديث، إلا أن العلماء حملوا هذا على الكراهة، إلا أنه يمكن حمل الحديث على منع المضطر، ويكون ذكره هنا أن منعه مع سؤاله بالله تعالى ¬

_ (¬1) الترمذي 4/ 332 ح 2034. (¬2) أبو داود 4/ 257 ح 4814. (¬3) الطبراني في الدعاء 3/ 1743 ح 2112، وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 3/ 103 وعزاه للطبراني في الكبير.

أقبح وأفظع، ويحمل لعن السائل على ما إذا ألح المسألة حتى أضجر المسئول. وقد أفهم كلام الحليمي في "المنهاج" (¬1) أن منع السائل قد ينتهي إلى أن يكون كبيرة، حيث قال: منع الزكاة كبيرة، ورد السائل صغيرة، فإن أجمع على منعه، أو ضمّ مع المنع الانتهار والإغلاظ، كان كبيرة. قال: وهكذا إن رأى محتاجٌ طعام رجلٍ موسعٍ عليه وتاقت إليه نفسه وسأله منه فردّه فذاك كبيرة. انتهى كلامه. واعترض الأذرعي الطرف الأخير وقال: إن رد السائل صغيرة. وحمله الجلال البلقيني على المضطر، وحمل الطرف الأول في منع سائل الزكاة بأن الفقير منحصر في ذلك البلد. وقوله: "ومن أتى إليكم معروفًا" إلى آخره. يدل على وجوب المكافأة للمحسن، وهو من باب شكر المنعم، فتجب المكافأة أو الشكر للمنعم بالاعتراف له بحق النعمة ولو بالدعاء والذكر باللسان، والله سبحانه أعلم. ¬

_ (¬1) الحليمي -كما في شعب الإيمان 1/ 268.

باب الزهد والورع

بابُ الزُّهدِ والوَرَع 1233 - عن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول -وأهوى النعمان بأصبعيه إلى أذنيه-: "إن الحلال بين، وإن الحرام بين، وبينهما مشتبهات لا يعلمهن كثيرٌ من الناس؛ فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يقع فيه، ألا وإن لكل ملك حمًى، ألا وإن حمى الله محارمه، ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله (أ)، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب". متفق عليه (¬1). أجمع العلماء على عظم موقع هذا الحديث وكثرة فوائده، وأنه أحد الأحاديث التي عليها مدار الإسلام، قال جماعة: هو ثلث الإسلام. وإن الإسلام يدور عليه وعلى حديث: "الأعمال بالنية" (¬2)، وحديث: "من حسن إسلام المرء تركه ما (ب لا يعنيه ب) " (¬3)، وقال أبو داود السجستاني (¬4): ¬

_ (أ) ساقطة من: ب. (ب - ب) في ب: ما لان لم.

يدور على أربعة أحاديث. هذه الثلاثة، وحديث: "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه" (¬1). وقفيل: حديث: "ازهد في الدنيا يحبك الله، وازهد فيما في أيدي الناس يحبك الناس" (¬2). قال العلماء رحمهم الله تعالى: وسبب عظم موقعه أنه - صلى الله عليه وسلم - نبّه فيه على إصلاح المطعم والمشرب والملبس وغيرها؛ بأنه ينبغي أن يكون حلالًا، وأرشد إلى معرفة الحلال، وأنه ينبغي ترك المشتبهات؛ فإنه سبب لحماية دينه وعرضه، وحذر من مواقعة الشبهات، وأوضح ذلك بضرب المثل بالحمى، ثم بين أهم الأمور، وهو مراعاة القلب، فقال عليه الصلاة والسلام: "ألا وإن في الجسد مضغة" إلى آخره. فبين أن بصلاح القلب يصلح باقي الجسد، وبفساده يفسد باقيه. وأمَّا قوله - عليه السلام -: "الحلال بين والحرام بين". فمعناه أن الأشياء ثلاثة أقسام؛ حلالٌ بين واضح لا يخفى حله، كالخبز والفواكه والزيت والعسل والسمن ولبن مأكول اللحم وبيضه وغير ذلك من المطعومات، وكذلك الكلام والنظر والمشي وغير ذلك من التصرفات، فإن هذه الأشياء حلال في أنفسها، واضحة الحل، والحرام البين كالخمر والخنزير والميتة والدم والبول، وكذلك الزنى والكذب والغيبة والنميمة والنظر إلى الأجنبية لشهوة، وأشباه ذلك، وأما المشتبهات فهي التي (أ) ليست بواضحة الحل ولا الحرمة، فلهذا لا ¬

_ (أ) ساقطة من: جـ.

يعرفها كثيرٌ من الناس ولا يعلمون حكمها، وأما العلماء فيعرفون حكمها بنص أو قياس أو استصحاب وغير ذلك، فإذا تردد الشيء بين الحل والحرمة ولم يكن فيه نص ولا إجماع، اجتهد فيه المجتهد وألحقه بأحدهما بالدليل الشرعي، وقد يكون دليله غير خال عن الاحتمال، فيكون الورع تركه، ويكون داخلًا في قوله - عليه السلام -: "فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لعرضه ودينه". وما لم يظهر للمجتهد فيه شيء وهو مشتبه، فهل يؤخذ بحله أو بحرمته أو يتوقف فيه؟ ثلاثة مذاهب، وهي مخرجة على الخلاف المعروف في حكم الأشياء قبل ورود الشرع؛ فعند من لا يثبت أن العقل حاكم قبل ورود الشرع لا حكم فيها (أبحل ولا حرمة أ) ولا إباحة ولا غيرها؛ لأن التكليف إنما هو بعد ورود الشرع، ومن قال بحكم العقل ففيها التحريم والإباحة والتوقف (ب). وقال الخطابي (¬1): ما شككت فيه فالورع اجتنابه، وهو على ثلاثة أحوال؛ واجب، ومستحب، ومكروه، فالواجب اجتناب ما يستلزم المحرم، والمندوب اجتناب معاملة مَنْ غلب على ماله الحرام، والمكروه اجتناب الرخصة المشروعة. انتهى. وقد ينازع في المندوب، فإنه إذا غلب الحرام الأولى أن يكون واجب الاجتناب، وهو الذي بنى عليه الهدوية في معاملة (جـ) الظالم فيما لم يظن ¬

_ (أ- أ) ساقط من: جـ. (ب) في جـ: الوقف. (جـ) غير واضحة في ب.

تحريمه؛ لأن الذي غلب عليه الحرام يظن فيه التحريم. وقال البخاري (¬1): باب من لم ير الوساوس من الشبهات. كمن يمتنع من أكل الصيد خشية أن يكون انفلت من يد إنسان، وكمن يترك شراء ما يحتاج إليه من مجهول لا يدري أماله حرام أم حلال، ولا علامة تدل على ذلك التحريم، وكمن يترك تناول شيء لخبر ورد فيه متفق على ضعفه (أ) ويكون دليل إباحته قويا وتأويله ممتنع أو مستبعد. وقسم الغزالي (¬2) الورع أقسامًا؛ ورع الصدّيقين؛ وهو ترك ما لم يكن بَيّنة واضحة على (ب حله. وورع ب) المتقين؛ وهو ما لا شبهة فيه ولكن يخاف أن يجر إلى حرام. وورع الصالحين، وهو ترك ما يتطرق إليه احتمال التحريم، بشرط أن يكون لذلك الاحتمال موقع، وإلا فهو ورع الموسوسين، وقد مرّ مثاله. قال: ووراء ذلك ورع الشهود، وهو ترك ما يسقط الشهادة أعم من أن يكون حرامًا أم لا. انتهى. وغير الحرام وهو ما يخل بالمروءة، بأن لا يفعله أمثال الفاعل، كالأكل في السوق وغير ذلك. وقوله: "مشتبهات". ويروى " مُشبهات"، بضم الميم وتشديد الموحدة، و "مُشتبهات"، بضم الميم وتخفيف الموحدة. ¬

_ (أ) زاد في ب: ويكون دليل على ضعفه. (ب- ب) في جـ: جهة ورع.

وقوله: "فقد استبرأ لدينه وعرضه". بالهمز بوزن "استفعل"، من البراءة، أي حصل له البراءة لدينه من الذم الشرعي، وصان عرضه عن كلام الناس فيه. وقوله: "إنَّ لكل ملك حمًى". معناه: أن الملوك من العرب وغيرهم يكون لكل واحدٍ حمًى يحميه من الناس ويمنعهم عن دخوله، فمن دخله أوقع به العقوبة، ومن احتاط لنفسه لا يقارب ذلك الحمى خوفًا من الوقوع فيه، ولله تعالى أيضًا حمًى، وهو محارمه، أي المعاصي التي حرمها؛ كالقتل، والزني، والسرقة، والقذف، والخمر، والكذب، والغيبة، والنميمة، وأكل المال بالباطل، وأشباه ذلك، وكل هذا حمى الله، من دخله بارتكاب شيء من المعاصي استحق العقوبة، ومن قاربه يوشك أن يقع فيه، فمن احتاط لنفسه لم يقاربه، فلا يتعلق بشيء لقربه من المعصية، ولا يدخل في شيء من الشبهات. وقوله: "ألا وإن في الجسد مضغة". المضغة القطعة من اللحم، سُميت بذلك لأنها تمضع في الفم لصغرها. وقوله: "إذا صلحت" و "إذا فسدت". بفتح اللام والسين وضمهما، والفتح أشهر وأفصح، والمراد تصغير القلب بالنسبة إلى باقي الجسد، مع أن صلاح الجسد وفساده تابعان للقلب، وفي هذا الدلالة على أنه يجب أن يسعى الإنسان في صلاح قلبه وحمايته عن الفساد، ويحتج بهذا الحديث على أن العقل في القلب لا في الرأس، وقد حكي الأول أيضًا عن الفلاسفة، والثاني عن الأطباء. قال المازري رحمه الله تعالى (¬1): احتج ¬

_ (¬1) ينظر شرح مسلم 11/ 29.

القائلون بأنه في القلب بقوله تعالى: {فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا} (¬1). وقوله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ} (¬2). وبهذا الحديث، فإنه جعل صلاح الجسد وفساده تابعًا للقلب، مع أن الدماغ من جملة الجسد فيكون صلاحه وفساده تابعًا للقلب، فعلم أنه ليس محلًّا للعقل، واحتج القائلون بأنه في الدماغ بأنه إذا فسد الدماغ فسد العقل، ويكون من فساد الدماغ الصرع في زعمهم، ولا حجة لهم في ذلك، لأنه يجوز أن الله سبحانه وتعالى أجرى العادة بفساد العقل عند فساد الدماغ مع أن العقل ليس فيه، ولا امتناع من ذلك. قال المازري (¬3): لا سيما على أصولهم في الاشتراك الذي يذكرونه بين الدماغ والقلب، وهم يجعلون بين رأس المعدة والدماغ اشتراكا. وفي إشارة النعمان بأصبعيه إلى أذنيه تصريح بسماعه من النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو الذي ذهب إليه أهل العراق والجماهير من العلماء، قال القاضي عياض (3): وقال يحيى بن معين: إن أهل المدينة لا يصححون سماع النعمان من النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهذه حكاية ضعيفة أو باطلة. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام". يحتمل وجهين؛ أحدهما: أنه من كثر تعاطيه الشبهات يصادف الحرام وإن لم يتعمده، وقد يأثم به، وذلك إذا نسب إلى تقصير. والثاني: أنه يعتاد ¬

_ (¬1) الآية 46 من سورة الحج. (¬2) الآية 37 من سورة ق. (¬3) شرح مسلم 11/ 29.

التساهل ويتمرن عليه، وينتقل من شبهة إلى شبهة أغلظ من الأولى، وهكذا حتى (أ) يقع في الحرام عمدًا، وهذا نحو قول السلف: إن المعاصي بريد الكفر. أي تسوق إليه، عافانا الله من الشرك. وقوله: "يوشك أن يقع فيه". يقال: أوشك يوشك. بضم الياء وكسر الشين، أي يسرع ويقرب. 1234 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "تعس عبد الدينار والدرهم والقطيفة، إن أعطي رضي، وإن لم يعط لم يرض". أخرجه البخاري (¬1). قوله: "تعِسَ". بكسر العين المهملة ويجوز الفتح، أي سقط، والمراد هنا أنه هلك. وقال ابن الأنباري (¬2): التعسر الشر، قال الله تعالى: {فَتَعْسًا لَهُمْ} (¬3). أراد: ألزمهم الشر. وقيل: التعس البعد، أي: بعدًا لهم. وقال غيره: قولهم: تعسًا لفلان. نقيض قولهم: لعًا له. دعاء عليه بالعثرة، ولَعًا دعاء له بالانتعاش. و"عبد الدينار". أي: طالب الدينار الحريص على جمعه القائم على حفظه، شبهه بالعبد لأنه لانغماسه في محبة الدنيا وشهواتها كالأسير الذي لا يجد خلاصًا، كالعبد الذي لا يخلص من أحكام الرِّقِّيَّة، وليس المذموم مجرد ¬

_ (أ) ساقطة من: جـ.

ملك الدينار المنتفع به في حاجاته ومقاصده، فإن ذلك مما يمدح ويحمد، بل قد يجب التملك ليسد به الخلة، وينفق على من يجب عليه الإنفاق. والقطيفة هي الثوب الذي له خَمل، والخميصة هي الكساء المربع (أ). وقوله: "إن أعطي رضي". يؤذن بشدة الحرص على ذلك، وذكر البخاري (¬1) الحديث في كتاب الجهاد بلفظ: "تعس عبد الدينار، وعبد الدرهم، وعبد الخميصة، تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش". قال الطيبي (¬2): فيه ترقٍّ في الدعاء عليه؛ لأنه إذا تعس انكب على وجهه، وإذا انتكس انقلب على رأسه. وقيل: التعس الجر على الوجه، والنكس الجر على الرأس. و "شيك" بكسر المعجمة بعدها ياء تحتانية ساكنة ثم كاف؛ أي إذا دخلت فيه شوكة لم يجد من يخرجها بالمنقاش، وهو معنى قوله: "فلا انتقش". أو أن الطيب لا يتمكن من إخراجها، وجاز الدعاء عليه لأنه قصر عمله على جمع الدنيا والاشتغال بها عن أمر الدين الذي أمر به. وقوله: "إن أُعطي". بضم أوله بتغيير صيغته، وهو يحتمل أن يكون ذما للمؤلَّف الذي لا يرضى إلا بما أعطي من الدنيا، أو لمن لم يرض بقسمة الله تعالى له من الرزق إذا قتر عليه ولا يرضيه إلا الغنى. 1235 - وعن ابن عمر رضي الله عنه قال: أخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمنكبي فقال: "كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل". وكان ابن ¬

_ (أ) في جـ: المرقع.

عمر يقول: إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لسقمك، ومن حياتك لموتك. أخرجه البخاري (¬1). قوله: بمنكبي (أ). المنكِب بكسر الكاف مجمع العضد والكتف، وضبط في بعض الأصول بصيغة التثنية، وجاء في رواية الترمذي (¬2) عن الليث: أخذ ببعض جسدي. وقوله: "كأنك غريب". الغريب هو الذي ليس له مسكن يأويه ولا سكن يأنس به. وقوله: "أو عابر سبيل". من باب عطف الترقي، و "أو" ليست للشك بل للتخيير أو الإباحة، يعني: قدر نفسك ونزلها منزلة من أردت من المذكورين، ويحتمل أن يكون بمعنى "بل" للإضراب قصدًا للترقي، يعني أن الناسك السالك ينزل نفسه منزلة الغريب، ثم يترقى إلى أن يكون عابر سبيل؛ لأن الغريب قد يسكن في بلد الغربة، بخلاف عابر السبيل القاصد إلى بلد شاسع، وبينهما أودية مردية، ومفاوز مهلكة، وقطاع طريق، فإن من شأنه ألا يقيم لحظة ولا يسكن لمحة. وقال ابن بطال (¬3): لما كان الغريب قليل الانبساط إلى الناس بل هو مستوحش [منهم] (ب)، لا يكاد يمر بمن ¬

_ (أ) ساقطة من: جـ. (ب) في ب، جـ: فيهم. والمثبت من مصدر التخريج، والفتح 11/ 234.

يعرفه فيأنس به، فهو ذليل في نفسه خائف، وكذلك عابر السبيل لا ينفذ في سفره إلا بقوته عليه وتخفيفه من الأثقال، غير متشبث بما يمنعه من قطع سفره، معه زاده وراحلته يبلغانه إلى بغيته من قصده، فشبه السالك بهما (أ). وفي هذا إشارة إلى إيثار الزهد في الدنيا، وأخذ البلغة منها والكفاف، فكما لا يحتاج المسافر إلى أكثر مما يبلغه إلى غاية سفره، فكذلك لا يحتاج المؤمن في الدنيا إلى أكثر مما يبلغه المحل. وقوله: وكان ابن عمر. إلى آخره. زاد عبدة في روايته عن ابن عمر: اعبد الله كأنك تراه، وكن في الدنيا. الحديث (¬1). وزاد ليث في روايته: وعد نفسك في (ب) أهل القبور (¬2). وهذا الموقوف عن ابن عمر جاء معناه في حديث ابن عباس مرفوعًا أخرجه الحاكم (¬3) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لرجل وهو يعظه: "اغتنم خمسًا قبل خمس؛ شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك". قال بعض العلماء: كلام ابن عمر منتزع من الحديث المرفوع، وهو متضمن لنهاية تقصير الأمل، وأن العاقل ينبغي له إذا أمسى لا ينتظر الصباح، وإذا أصبح لا ينتظر المساء، بل يظن (جـ) أن أجله يدركه قبل ذلك. ¬

_ (أ) في جـ: لهما. (ب) في جـ: من. (جـ) في جـ: ينظر.

وقوله: وخذْ من صحتك لمرضك. يعني أن العمر لا يخلو من صحة ومرض، فإذا كنت صحيحًا فسر سير القصد، وزد عليه بقدر قوتك ما دامت فيك قوة، بحيث يكون ما فعلت من الزيادة قائمًا مقام ما لعله يفوت حالة المرض والضعف، أو أن المعنى أن تعمل ما تلقى نفعه بعد الموت، وبادر أيام صحتك بالعمل الصالح، فإن المرض قد يطرأ فيمنع من العمل، فيخشى على من فرط في ذلك أن يصل إلى المعاد بغير زاد، ولا يعارض هذا الحديث الذي أخرجه البخاري (¬1): "إذا مرض العبد أو سافر كتب الله له ما كان يعمل صحيحًا مقيمًا". لأنه ورد في حق من قد ثبت منه العمل. وهذا الحديث في تحذير من لم يكن قد عمل عملًا معتادًا مداومًا عليه، فإنه إذا مرض ندم على ترك العمل فلا ينفعه الندم. وقوله: وخُذْ من صحتك لمرضك. أي من زمن صحتك لمرضك، وجاء في رواية ليث: لسقمك (¬2). وقوله: ومن حياتك لموتك. في رواية ليث (2): قبل موتك. وزاد: فإنك لا تدري يا عبد الله ما اسمك غدًا. يعني هل يقال لك شقي أو سعيد: أو المراد: هل حيٌّ أو ميت. وفي الحديث دلالة على أنه ينبغي للعالم تأنيس المتعلم والواعظ المتعظ بمس شيء من جسده، وتوجيه الخطاب إلى واحد وإن كان يراد الجمع، ¬

_ (¬1) البخاري 6/ 136 ح 2996. (¬2) تقدم تخريجه ص 239.

وحرص النبي - صلى الله عليه وسلم - على إيصال الخير إلى أمته، والحض على ترك الدنيا والاقتصار على ما لا بد منه. 1236 - وعن ابن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ تشبه بقوم فهو منهم". أخرجه أبو داود وصححه ابن حبان (¬1). الحديث في سنده ضعف، لكن له شواهد عند البزار عن حذيفة (¬2) وأبي هريرة (¬3)، وعن أنس في "تاريخ أصبهان" (¬4) لأبي نُعيم والقضاعي (¬5) عن طاوس مرسلًا، ومن شواهده قوله - صلى الله عليه وسلم -: "من رضي عمل قوم كان منهم". عن ابن (أ) مسعود، رواه أبو يعلى (¬6) مرفوعًا. الحديث فيه دلالة على أنه يحرم التشبه بالكفار والفساق فيما يختصون به، من كلام، أو مشي، أو هَيْئة، أو لباس، وإذا تشبه بالكافر في زي يختص به، واعتقد أن يكون بذلك مثله كفر، وإنْ لم يعتقد ففيه خلاف بين الفقهاء، قال في "شرح الإبانة": إنه لا يكفر عند السادة والفقهاء. وهو قول أبي هاشم، والقاضي عبد الجبار، لكن يؤدب. وقال أبو علي: إنه يكفر. وذهب إلى ذلك أبو طالب، وهو ظاهر الحديث. ¬

_ (أ) في ب: أبي.

1237 - وعن ابن عباس رضي الله عنه قال: كنت خلف النبي - صلى الله عليه وسلم - يومًا فقال: "يا غلام، احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، وإذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله". رواه الترمذي (¬1)، وقال: حسن صحيح. تمام الحديث: "واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء، لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء، لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام، وجفت الصحف". وجاء من رواية رزين (¬2): فقال لي: "يا غلام، احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك -أو قال: أمامك- تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، فإن العباد لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لم يكتبه الله لك، لم يقدروا على ذلك، ولو اجتمعوا أن يضروك بشيء لم يكتبه الله عليك لم يقدروا على ذلك، جفت الأقلام، وطويت الصحف، فإن استطعت أن تعمل لله بالرضا في اليقين فافعل، وإن لم تستطع فإن في الصبر على ما تكره خيرًا كثيرًا، واعلم أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسرا، ولن يغلب عسرٌ يسرين". وقد جاء نحو هذا في "مسند أحمد بن حنبل" (¬3) رحمه الله. قوله: "احفظ الله". أي احفظ أمر الله تعالى بملازمة طاعته وتقواه؛ فلا يراك حيث نهاك، واحفظ حدوده ومراسيم واجباته؛ فلا تضيع منها ¬

_ (¬1) الترمذي، كتاب صفة القيامة، باب (59) 4/ 575، 576 ح 2516. (¬2) رزين -كما في جامع الأصول 11/ 685، 686 ح 9315. (¬3) أحمد 1/ 307.

شيئًا، فإذا قمت بذلك تسبب منه أن يحفظك الله تعالى في دنياك ودينك، كما قال الله تعالى: {فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} (¬1). فقوله: "يحفظك". مجزوم جواب شرط الأمر. وقوله: "تجده تجاهك". التاء في "تجاه" مبدلة من الواو وأصله وجاه، وهو كناية عن كونه سبحانه وتعالى يقبل على العباد بقبول طاعتهم، ويجازي بالقليل من العمل الكثير الطيب، فالمراد هنا أنه سبحانه وتعالى يكون مع المطيع في كل أحواله بالحفظ والكلاءة والتأييد والإعانة. وفي الحديث دلالة على أنه ينبغي للمؤمن إمحاض التوكل على الله تعالى، والاعتماد عليه في جميع أحواله فيما سأل ورغب في حصوله، وفيما (أ) استعاذ من حصوله والتجأ إلى الله تعالى في دفع مكروهه. والتوكل هو إسناد الأمر إلى الله تعالى والوثوق به، ويكون بما عند الله أوثق بما عنده، ولا ينافيه القيام بالأسباب، فإن الله سبحانه وتعالى جعل الأرزاق في الأغلب مشروطة بشروط، فإذا طلب الإنسان رزقه بسبب فإن كان قد كتب له سبحانه وتعالى إدراك شيء بذلك السبب شكر على حصوله، وإن حرم صبر على الحرمان ورضي بما قسم الله له، ويعتقد أن الذي وصل إليه من الرزق من النعم الواصلة من الله تعالى، وأن الفائت له منه لمصلحة له، فطلب الرزق لا ينافي التوكل على الله، فقد جاء في الحديث: "كسب الحلال فريضة". أخرجه الطبراني والبيهقي والقضاعي (¬2)، عن ابن مسعود مرفوعًا، وفيه عَبّاد ¬

_ (أ) ساقطة من: جـ.

ابن كثير وهو ضعيف، وله شواهد. وأخرج الديلمي (¬1)، عن أنس: "طلب الحلال واجب على كل مسلم". وعن ابن عباس مرفوعًا: "طلب الحلال جهاد". رواه القضاعي (¬2). ومثله في "الحلية" (¬3)، عن ابن عمر. وبعضها يقوي بعضًا، وشواهدها كثيرة، والكسب الممدوح الذي يكون لطلب الكفاية له ولمن يعول، أو الزائد على ذلك إذا كان لقصد إغاثة ملهوف، أو إعانة طالب علم أو مفتٍ أو قاض وغيرهم، ممن كان اشتغالهم بمصالح المسلمين لا بغير (ب) ذلك، فإنه يكون من الإقبال على الدنيا التي حبها رأس كل خطيئة، وأما العالم المشتغل بالتدريس والحاكم المستغرق أوقاته في إقامة الشريعة، ومن كان من أهل الولايات العامة كالإمام، فترك التكسب أوْلى بهم؛ لما فيه من الاشتغال عن القيام بما هم فيه، ويرزقون من الأموال المعدة للمصالح. قال بعض العارفين: وإليه الإشارة بقوله تعالى: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ} (¬4). بعد قوله: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ} (¬5). وهو كلامٌ حسن، بل وقوله تعالى: {رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ ¬

_ (أ) في ب: بما. (ب) في جـ: لغير.

وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ (أ)} (¬1). والله سبحانه أعلم. 1238 - وعن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله، دلني على عمل إذا عملته أحبني الله وأحبني الناس. فقال: "ازهد في الدنيا يحبك الله، وازهد فيما عند الناس يحبك الناس". رواه ابن ماجه، وسنده حسن، (ب وصححه الحاكم ب) (¬2). الحديث في إسناده خالد بن عمرو القرشي (¬3)، عن الثوري، عن أبي حازم، عن سهل بن سعد الساعدي. وخالد مجمع على تركه بل نسب إلى الوضع، فلا يصح قول الحاكم: إنه صحيح الإسناد. لكن قد رواه غيره عن الثوري (¬4). وأخرجه أبو نعيم في "الحلية" (¬5) من حديث منصور بن المعتمر، عن مجاهد، عن أنس رفعه نحوه. ورجاله ثقات ولم يثبت سماع مجاهد عن أنس، وقد رواه الأثبات فلم يجاوزوا به مجاهدًا. وكذا يروى من حديث ربعي بن خراش، عن الربيع بن خثيم، رفعه مرسلًا (¬6)، وقد حسن الحديث النووي (¬7) رحمه الله تعالى. ¬

_ (أ) بعده في ب، جـ: تعالى. (ب - ب) ساقطة من: ب.

الحديث فيه دلالة على فضيلة الزهد، وأن الزهد سبب في محبة الله للعبد، التي هي أشرف المقاصد وأفضل المطالب، وكذلك الزهد فيما عند الناس؛ فإنه لا يرق المرء لغيره ويستحكم عليه نفاذ ما طلب منه إلا إذا كان له طمع فيما عند الناس، ويحصل بذلك إهانته والتبرم من حاله وكراهة مقامه. 1239 - وعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إن الله يحب العبد التقي الغني الخفي ". أخرجه مسلم (¬1). قوله: "إن الله يحب". قال العلماء: محبة الله لعبده هي إرادته الخير له، وهدايته ورحمته، ونقيض ذلك البغض، وهو إرادة عقابه وشقاوته (¬2). وقوله: "التقي". وهو الآتي بما يجب عليه من التكاليف، و "الغني". المراد به غنى النفس، وهو الغنى المحبوب؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "ولكن الغنى غنى النفس" (¬3). وأشار القاضي عياض (¬4) إلى أن المراد به غنى المال، وهو محتمل. وقوله: "الخفي". بالخاء المعجمة، هذا هو الموجود في النسخ والمعروف في روايات مسلم، وذكر القاضي عياض أن بعض رواة مسلم رووه بالمهملة، ومعناه بالمعجمة الخامل المنقطع إلى العبادة والاشتغال بأمور نفسه، ومعناه بالمهملة الوَصُول للرحم اللطيف بهم وبغيرهم من الضعفاء. وفي الحديث دلالة على تفضيل الاعتزال وترك الاختلاط بالناس، وفي ذلك خلاف، وقد يحمل هذا على ترك الاختلاط في أيام الفتنة، كما قد ¬

_ (¬1) مسلم، كتاب الزهد والرقائق 4/ 2277 ح 2965. (¬2) ينظر ما تقدم ص 73 حاشية (2). (¬3) البخاري 11/ 271 ح 6446، ومسلم 2/ 726 ح 1051. (¬4) ينظر شرح مسلم 18/ 100.

جاء الأمر بذلك صريحًا. والله أعلم. 1240 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من حُسْنِ إسلام المرء تركه ما لا يعنيه". رواه الترمذي وقال: حسن (¬1). وأخرج الحديث مالك (¬2) عن الزهري عن علي بن الحسين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من حسن إسلام المرء". الحديث. لما سأل رجل مالكًا عن رجل يشرب في الصلاة ناسيًا فقال: ولم لا يأكل؟! ثم ذكر الحديث. وهذا الحديث من جوامع الكلم التي أعطيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو يعم الأقوال، كما روي أن في صحف إبراهيم - عليه السلام -: "من عدَّ [كلامه] (أ) من عمله قَلَّ كلامه إلا فيما يعنيه" (¬3). ويعم الأفعال، فيندرج في هذا ترك التوسع في الدنيا وطلب المناصب والرئاسة، وحب المحمدة والثناء وغير ذلك مما لا يحتاج إليه المرء في إصلاح دينه وكفايته من دنياه، ولا يقال: إنه يكون من الاشتغال بما لا يعني ما ذكر العلماء من المسائل الفرضية التي يندر وقوعها أو يعدم، وقد بالغ العلماء في تدوين ذلك وتخريجه وتنقيحه وتصحيحه؛ لأنه صدر منهم ذلك لما عرفوه من وقوع الجهل بالشرائع في الأعصار المتأخرة، وتهدم أركانها كما قال - صلى الله عليه وسلم -: "بدأ الإسلام غريبًا وسيعود غريبًا كما بدأ" (¬4). و: "أول ما يرفع من هذه الأمة من العلم علم الفرائض" (¬5). ¬

_ (أ) في ب، جـ: كلمه. والمثبت من مصدر التاريخ.

و: "إن الله لا ينتزع العلم انتزاعًا" (¬1) الحديث. وغير ذلك، فهذبوا المسائل، وأتعبوا القرائح، وخرّجوا التخاريج، وقدروا التقادير تسهيلًا للطالبين، وإرشادًا للراغبين في نيل فضيلة التعليم والإرشاد والتفهم، لا لطلب التعمق والتكلف والتنطع ليقال: إنه العالم المحقق، والفاحص المدقق. والأعمال بالنيات، والله سبحانه وتعالى المجازي لكل أحد بما سعى وما جهر به وما أخفى. وقوله: "ما لا يعنيه". أي يهمه، من: عناه يعنوه ويعنيه، أي أهمه. 1241 - وعن المقدام بن معد يكرب رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما ملأ ابن آدم وعاء شرًّا من بطن". أخرجه الترمذي وحسنه (¬2). وأخرج الحديث ابن ماجه وابن حبان في "صحيحه" (¬3)، وتمامه: "بحسب ابن آدم أكلات يقمن صلبه، فإن كان لا محالة -وفي لفظ ابن ماجه: "فإن غلبت ابن آدم نفسه، فثلث لطعامه، وثلث لشرابه، وثلث لنفسه". الحديث فيه دلالة على ذم الشبع والامتلاء من الطعام، وأن ذلك شر، وهو مشهور معروف عند علماء الطب، أن الشبع أصل الأدواء، وأكثرها سببًا في فساد البدن، وترادف العلل، وقد أجاب الواقدي على مَنْ قال: إنه لم يكن في القرآن ذكر علم (أ) الطب بقوله تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا ¬

_ (أ) بعده في جـ: في.

تُسْرِفُوا} (¬1). بناء على أن توسعة الأكل والشرب من الإسراف المضر بالأبدان. وهذا الحديث منبه على القدر المحتاج إليه الذي يكون بلغةً للإنسان إلي حفظ البدن مدة بقائه في الدنيا، وقد جاء في الحديث كثير طيب في (أ) التحذير من توسيع الأكل. أخرج البزار (¬2) بإسنادين أحدهما ثقات مرفوعًا: "أكثر الناس شبعًا في الدنيا أكثرهم جوعًا يوم القيامة". قاله لأبي جحيفة لما تجشأ قال: فما ملأت بطني منذ ثلاثين سنة. وأخرج الطبراني (¬3) بسند حسن "أن أهل الشبع في الدنيا هم أهل الجوع غدًا في الآخرة". زاد البيهقي (¬4): "الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر". والطبراني (¬5) بسندٍ جيد أنه - صلى الله عليه وسلم - رأى رجلًا عظيم البطن فقال بأصبعه: "لو كان هذا في غير هذا لكان خيرا لك". والبيهقي واللفظ له والشيخان (¬6) باختصار: "ليؤتين يوم القيامة بالعظيم الطويل الأكول الشروب فلا يزن عند الله جناح بعوضة، اقرءوا إن شئتم: ¬

_ (أ) في جـ: من.

{فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا} (¬1). وابن أبي الدنيا (¬2) أنه - صلى الله عليه وسلم - أصابه جوع يومًا، فعمد إلى حجر فوضعه على بطنه ثم قال: "ألا رب نفس طاعمة ناعمة في الدنيا جائعة عارية يوم القيامة، ألا رب مكرم لنفسه وهو لها مهين، ألا رب مهين لنفسه وهو لها مكرم". وصح حديث: "من الإسراف أن تأكل كلما اشتهيت" (¬3). والبيهقي (¬4) بسند فيه ابن لهيعة (¬5) عن عائشة رضي الله عنها: أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد أكلت في اليوم مرتين فقال: "يا عائشة، أمَّا تحبين أن يكون لك شغل إلا جوفك!! الأكل في اليوم مرتين من الإسراف، والله لا يحب المسرفين". وصح: "كلوا واشربوا وتصدقوا والبسوا في غير إسراف ولا مخيلة". أخرجه أحمد والنسائي (¬6). والبزار (¬7) بإسناد صحيح إلا أنه مختلف فيه: "إن من شرار أمتي الذين غذوا بالنعيم ونبتت عليه أجسامهم". وابن أبي الدنيا والطبراني في "الكبير" و "الأوسط" (¬8): "سيكون رجال من أمتي يأكلون ألوان الطعام، ويشربون ألوان الشراب، ويلبسون ألوان الثياب، ويتشدقون في الكلام، فأولئك شرار أمتي". فهذه الأحاديث تزهد في اختيار الطعامات، والتوسع في الأكل، وأن ¬

_ (¬1) الآية 105 من سورة الكهف. (¬2) ابن أبي الدنيا -كما في الترغيب والترهيب 3/ 139، 140. (¬3) ابن ماجه 2/ 1112 ح 3352. (¬4) البيهقي في الشعب 5/ 26 ح 5641. (¬5) تقدمت ترجمته في 1/ 175. (¬6) أحمد 2/ 181، 182، والنسائي 5/ 79. (¬7) البزار 4/ 237 ح 3616 - كشف. (¬8) ابن أبي الدنيا في الجوع ص 113، 114 ح 173، والطبراني في الكبير 8/ 126، 127 ح 7512، 7513، وفي الأوسط 3/ 24 ح 2351.

ذلك يجلب الغفلة والتثاقل عن العبادة، والميل إلى الدنيا والرغبة في لذاتها. قال الحليمي (¬1) في قوله تعالى: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا} الآية (¬2): إن الوعيد وإن كان للكفار الذين يسارعون في الطيبات المحرمة؛ ولذا قال تعالى: {فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ}. فقد يخشى مثله على المنهمكين في الطيبات المباحة؛ لأن من تعودها مالت نفسه إلى الدنيا، فلم يأمن أن يرتكب الشهوات والملاذ، كلما أجاب نفسه إلى واحدة منها دعته إلى غيرها، فيعسر عليه عصيان نفسه في هؤى قط، وينسد باب العبادة دونه فلا ينبغي أن يعود النفس بما تميل به إلى الشره ثم يصعب تداركها، ولتُرَضْ من أول الأمر على السداد، فإن ذلك أهون من أن تدرب على الفساد ثم يجتهد في إعادتها إلى الصلاح، والله أعلم. انتهى. وقد فهم عمر (¬3) رضي الله عنه أن الآية عامة، ولذلك اجتهد في جهاد نفسه. نسأل الله تعالى السلامة والتوفيق لما يرضاه منا. وقد أخرج الشيخان (¬4) وغيرهما حديث: "المسلم يأكل في معًى واحدٍ، والكافر يأكل في سبعة أمعاء". وأخرج مسلم (¬5) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أضاف ضيفًا كافرًا، فأمر - صلى الله عليه وسلم - له بشاة فحلبت فشرب حلابها، ثم أخرى حتى شرب حلاب سبع شياه، فقال - صلى الله عليه وسلم -: "إن المؤمن يشرب في معًى واحد، وإن الكافر يشرب في سبعة أمعاء" الحديث. وقد تأوله العلماء بتأويلات، ومن ¬

_ (¬1) الشعب 5/ 35. (¬2) الآية 20 من سورة الأحقاف. (¬3) الشعب 5/ 34. (¬4) البخاري 9/ 536 ح 5396، ومسلم 3/ 1631 ح 2061/ 184. (¬5) مسلم 3/ 1632 ح 2063/ 186.

جملتها أن المؤمن يقتصد في أكله، فيكون مطابقًا لهذه الأحاديث، وقيل غير ذلك، والله أعلم، والسبعة الأمعاء التي في الإنسان هي المعدة وثلاثة رقاق وثلاثة غلاظ. 1242 - وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "كل بني آدم خطاء، وخير الخاطئين التوَّابون". أخرجه الترمذي وابن ماجه (¬1). وسنده قوي. الحديث فيه دلالة على أن بني آدم كل واحد لا يخلو عن خطيئة، وظاهره وفي حق الأنبياء عليهم السلام. وقد ذهب إلى هذا الجمهور من العلماء، فإنه يجوز وقوع الخطيئة من النبي وتكون صغيرة في حقه مغفورة، ولا يجوز عليهم الكبائر ولا صغائر الخسة، وقد ورد في كتاب الله سبحانه وتعالى ما يدل على ذلك، وقد جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يحيى بن زكريا ما هم بخطيئة (¬2). وقد روي أن يحيى بن زكريا صلى الله على نبينا وعليهما رأى إبليس ومعه معاليق من كل شيء، فسأله عنها فقال: هي الشهوات التي أصيب بها بني آدم. فقال: هل لي فيها شيء؟ فقال: ربما شبعت فثقلناك عن الصلاة والذكر. قال: هل غير ذلك؟ قال: لا. قال: لله عليّ ألا أملأ بطني من طعام أبدًا. قال إبليس: ولله عليّ ألا (أ) أنصح مسلمًا أبدًا (¬3). ¬

_ (أ) في ب: ما.

فيكون مخصصًا لهذا العموم. ويؤيد هذا الحديث حديث: "لو لم تذنبوا لأتى الله بقوم" الحديث (¬1). وقوله تعالى: {كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ} (¬2). بعد ذكر الإنسان، وظاهره الاستغراق، والله سبحانه أعلم. 1243 - وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الصمت حُكْمٌ وقليل فاعله". أخرجه البيهقي في "الشعب" (¬3) بسند ضعيف، وصحح أنه موقوف من قول لقمان الحكيم. الحديث فيه دلالة على حسن الصمت، وهو محمول على ترك الفضول من الكلام، كما قال الله تعالى: {لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ} الآية (¬4). وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "ألا وإن كلام المرء كله عليه" الحديث (¬5). وقوله: "من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه" (¬6). وغير ذلك كثير. وقوله: "حكم". أي منع من التكلم بما لا يعني، مأخوذ من الحَكَمة التي تمنع الفرس من الجمُوح. ¬

_ (¬1) مسلم 4/ 2106 ح 2749/ 11. (¬2) الآية 23 من سورة عبس. (¬3) البيهقي 4/ 264 ح 5027. (¬4) الآية 114 من سورة النساء. (¬5) أبو يعلى 3/ 56 ح 7132، والطبراني 23/ 243 ح 484، والبيهقي في الشعب 1/ 393، 4/ 246 ح 514، 4954 من حديث أم حبيبة. (¬6) تقدم ح 1240.

باب الترهيب من مساوئ الأخلاق

باب الترهيب من مساوئ الأخلاق 1244 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إياكم والحسد، فإن الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب". أخرجه أبو داود (¬1)، ولابن ماجه (¬2) من حديث أنس نحوه. حديث ابن ماجه فيه زيادة: "والصدقة تطفئ الخطيئة كما يُطفئ الماء النار، والصلاةُ نور المؤمن، والصيام جُنَّةٌ". أي ساتر ووقاية من النار. وفي الباب أحاديث كثيرة؛ أخرج أحمد والضياء والترمذي (¬3): "دبَّ إليكم داء الأم قبلكم؛ الحسد والبغضاء، هي الحالقة، حالقة الدين لا حالقة الشعر، والذي نفس محمد بيده، لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أفلا أنبئكم بشيء إذا فعلتموه تحاببتم، أفشوا السلام بينكم". وأخرج ابن صصرى (أ): "الغل والحسد يأكلان الحسنات، كما تأكل النار الحطب" (¬4). وأخرج الطبراني (¬5): "ليس مني (ب) ذو حسد ولا نميمة ولا ¬

_ (أ) في جـ: صيصري. وينظر ذيل التقييد 1/ 491. (ب) في جـ: منا.

كهانةٍ، ولا أنا منه". وأخرج الطبراني (¬1): "لا يزال الناس بخير ما لم يتحاسدوا". وأخرج الحاكم والديلمي (¬2) أن إبليس يقول: ابغوا من بني آدم البغي والحسد، فإنهما يعدلان عند الله الشرك. وأخرج الشيخان (¬3) قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تباغضوا، ولا تحاسدوا، ولا تدابروا، ولا تقاطعوا، وكونوا عباد الله إخوانا، ولا يحل لسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث"، وروي عنه - صلى الله عليه وسلم -: "أخوف ما أخاف على أمتي أن يكثر فيهم المال، فيتحاسدون ويقتتلون" (¬4). ثم قال: "استعينوا على قضاء الحوائج بالكتمان، فإن كل ذي نعمة محسود (أ) " (¬5). وفي رواية: "إن لنعم الله تعالى أعداء". قيل: ومن أولئك؟ قال: "الذين يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله" (¬6). وفي رواية: "ستة يدخلون النار قبل الحساب لستة". قيل: من هم يا رسول الله؟ قال: "الأمراء بالجور، والعرب بالعصبية، والدهاقين بالتكبر -والدهقان هو القوي على التصرف- والتجار بالخيانة، وأهل الرساتيق بالجهالة -وهم أهل السواد والقرى- والعلماء بالحسد" (¬7). ¬

_ (أ) في جـ: محسودة.

وفي هذا المعنى أحاديث كثيرة. وقوله: "إياكم والحسد". الضمير منصوب على التحذير، والمحذر منه الحسد، والحسد مصدر حَسَده، بالفتح، يحسُده بالضم، حسودا وحسدا، وقال الأخفش (¬1): يحسد، بالكسر، حسدا وحسادة. والحسد هو أن يتمنى الحاسد زوال نعمة المحسود إليه، وفي "القاموس" (¬2): نعمة المحسود أو فضيلته. وفي "الكشاف (¬3) في تفسير قوله تعالى: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ} (¬4): يتمنوا أن يكون لهم نعمة غيرهم. وزيادة "القاموس" الفضيلة إنما هو زيادة تصريح، وإلا فالنعمة تشمل الفضيلة. وقال المصنف (¬5) رحمه الله: الحسد تمني الشخص زوال النعمة عن مستحق لها، أعم من أن يسعى في ذلك أو لا؛ فإن سعى كان باغيًا، لأن لم يسع في ذلك ولا أظهره، ولا تسبب (أ) في ذلك نظر؛ فإن كان المانع له من ذلك العجز بحيث لو تمكن لفعل فهو مأزور، وإن كان المانع له من ذلك التقوى فقد يعذر؛ لأنه لا يستطع دفع الخواطر النفسانية، فيكفيه في مجاهدتها ألا يعمل بها، ولا يعزم على العمل بها. انتهى. وذكر مثل هذا في "الإحياء" (¬6) قال: فإن كان ¬

_ (أ) بياض في ب.

بحيث لو ألقي الأمر إليه ورد إلى اختياره، لسعى في إزالة النعمة عنه، فهو حسود حسدًا مذمومًا، وإن كان يزعه التقوى عن إزالة ذلك، فيعفى عنه ما يجده في طبعه، من ارتياحه إلى زوال النعمة عن محسوده، مهما كان كارهًا لذلك من نفسه بعقله ودينه. وهذا التفصيل يشير إليه ما أخرجه عبد الرزاق (¬1) عن معمر عن إسماعيل بن أمية مرفوعًا: "ثلاث لا يسلم منها أحد؛ الطيرة، والظن، والحسد". قيل: فما الخرج منها يا رسول الله؟ قال: "إذا تطيرت فلا ترجع، وإذا ظننت فلا تحقق، وإذا حسدت فلا تبغ". وأخرج ابن عدي (¬2): "إذا حسدتم فلا تبغوا، وإذا ظننتم فلا تحققوا، وإذا تطيرتم فامضوا، وعلى الله فتوكلوا". وأبو نعيم: "كل ابن آدم حسود؛ ولا يضر حاسدًا حسده ما لم يتكلم باللسان أو يعمل باليد". وفي رواية (¬3): "كل ابن آدم حسود؛ وبعض الناس (أ) في الحسد أفضل من بعض، ولا يضر حاسدا حسده ما لم يتكلم باللسان أو يعمل باليد". وعليه يحمل الحديث الذي رواه في كتاب "الفردوس" وهو قوله عزَّ وجلَّ: "لا تقبلوا أقوال العلماء بعضهم على بعض؛ فإن حسدهم عدد نجوم السماء، وإن الله لا ينزع الحسد من قلوبهم حتى يدخلهم الجنة". ومؤلف الكتاب هو أبو منصور شَهْرَدار بن أبي شجاع الديلمي. قال ابن الصلاح: يقال إنه كثير الأوهام. وقد اختصر ¬

_ (أ) ساقطة من: جـ.

أحاديثه [عبد المجيد القرشي الميَّانِشِي] (أ) في كتاب سماه "الانتقاء والانتخاب" فأفاد وأجاد، وصرح جلال الدين الأسيوطي في "الجامع الكبير" بضعف (ب) أحاديثه، وأن عزوه إليه في "الجامع" غير منبه على التضعيف مغنٍ عن ذلك (¬1). فهذه الأحاديث تدل على ما ذكر، وذلك لأن الخاطر في القلب من دون عمل لا يستطيع الإنسان دفعه، فينبغي الاحتياط التام في مدافعة مثل هذا الخاطر، ويكره من نفسه إمرار الخاطر فيها، ويكون إن شاء الله تعالى كفارة له. وقال المحقق أحمد بن حجر الهيتمي في كتابه "الزواجر": إن للحسد مراتب، وهي (جـ) إمَّا محبة زوال نعمة الغير وإن لم تنتقل للحاسد، وهذا غاية الحسد، أو مع انتقالها إليه، أو انتقال مثلها إليه، وإلا أحب زوالها لئلا يتميز عليه، أولًا مع محبة زوالها، وهذا الأخير هو المعفو عنه من الحسد إن كان في الدنيا، والمطلوب إن كان في الدين. انتهى. وهذا القسم الأخير يسمى غيرة، وإن (د) كان في الدين فهو المطلوب، ولذلك قال العلماء: ينبغي للقدوة إذا كان يأمن على نفسه من الرياء أن يظهر صالحات أعماله، عسى أن تتحرك نفوس العجزة بالغيرة فيفعلوا كفعله. ويحمل عليه ما رواه ¬

_ (أ) في ب: عبد الحميد القرشي المبانشي، وفي جـ: عبد الحميد القرشي المياشي. وهو عمر بن عبد المجيد بن الحسن المهدوي الميَّانِشي. معجم البلدان 4/ 709. (ب) في ب: بضعيف. (جـ) في جـ: هو. (د) في ب: إذا.

الشيخان (¬1) بن حديث ابن عمر أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا حسد إلا على [اثنتين] (أ)؛ رجل آتاه الله القرآن فهو يقوم به آناء الليل وآناء النهار، ورجل آتاه الله مالًا فهو ينفق منه آناء الليل وآناء النهار". والمراد أنه يُغار ممن اتصف [بهاتين] (ب) الصفتين، فيقتدي به من أثَّر في قلبه محبة السلوك في هذا المسلك، ولعل تسميته حسدًا مجازًا، وليس من هذا المعنى قوله - صلى الله عليه وسلم -: "الغيرة من الإيمان، والمذاء (جـ) من النفاق". أخرجه الديلمي والقُضاعي والبزار والبيهقي في "السنن" (¬2) عن أبي سعيد مرفوعًا وفيه: فقال رجل من أهل الكوفة لزيد بن أسلم [راويه] (د): ما المِذَاء؟ فقال: الذي لا يغار على أهله. فإن المراد بالغيرة هنا الغيرة على محارمه بألا يراد بهم سوءًا، ومقابله الديوث الذي لا غيرة له. والحديث فيه دلالة على تحريم الحسد، وأنه من الكبائر، فإنه إذا أكل الحسنات فقد أحبطها، ولا يحبط إلا الكبيرة، ونسبة الأكل إليه مجاز، وهو من باب الاستعارة بالكناية؛ شبه الحسد بالحيوان الذي يأكل قوته حتى ¬

_ (أ) في ب، جـ: اثنين. والمثبت من مصدر التخريج. (ب) في ب، جـ: بهاذين. والمثبت هو الصواب. (جـ) في مسند الفردوس: البذاء، وفي مسند الشهاب: المراء. قال أبو عبيد: وتفسيره عند الفقهاء أن يُدخِل الرجلُ الرجال على أهله، فإن كان المذاء هو المحفوظ فإن أخذ من المذي، يعني أن يجمع بين الرجال وبين النساء ثم يخليهم يماذي بعضهم بعضا مذاء. غريب الحديث 2/ 264. (د) في ب، جـ: رواية. وينظر كشف الخفاء 2/ 81.

يفنيه، ولا يبقى من صفته الأولى شيء، في أن الحَسَدَ تذهب معه الحسنات حتى لا يبقى لها نفع لفاعلها، ونسبة الأكل استعارة تخييلية؛ لأن الحيوان من لوازمه الأكل. وفي قوله: "كما تأكل النار الحطب". تحقيق لذهاب الحسنات بالحسد، كما يذهب الحطب بالنار ويتلاشى جرمه، فعلى العاقل أن يداوي هذا الداء ويزيله عن قلبه، بمعرفة أن الحسد يضر الحاسد دينًا ودنيا، ولا يضر المحسود دينًا ولا دنيا، إذ لا تزول نعمة بحسد قط، وإلا لم يبق لله نعمةٌ على أحد حتى الإيمان؛ لأن الكفار يحبون زواله عن المؤمنين، بل المحسود ينتفع بحسنات الحاسد له، لأنه مظلوم من جهته، سيما إذا ظهرت آثار الحسد بالانتقاص: الغيبة وهتك الستر وغيرها من أنواع الإيذاء، فيلقى الله يوم القيامة مفلسًا من الحسنات محرومًا من نعم الآخرة، كما حرم من نعمة سكون القلب وسلامة الصدر في الدنيا، بل في الحقيقة اعتراضه على ربه الذي أولى المحسود نعمته، فقد سخط القضاء، ولم يرض بما اختار الله سبحانه ورضيه له ولمن حسده، وأشبه إبليس في اعتراضه في حق آدم وإبائه على (أ) الذي أراده الله سبحانه، فنسأل الله تعالى السلامة والتسليم لقضائه والرضا بماضي أحكامه. 1245 - وعنه رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ليس الشديد بالصُّرَعة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب". متفق عليه (¬1). ¬

_ (أ) في ب: عن.

قوله: "ليس الشديد". أي: شديد القوة، "بالصُّرَعة" لضم الصاد المهملة وفتح الراء المهملة، وبالعين المهملة علي بناء فُعَلَة كالهُمَزة واللمزة للمبالغة، أي كثير الصرع لغيره، وبسكون الراء لمن يصرعه غيره كثيرا، قال ابن التين (¬1): ضبطاه بفتح الراء، ورواه بعضهم بسكونها، وليس بشيء، لأنه عكس المطلوب. قال: وضبط في بعض الكتب بفتح الصاد. ويدل على المعنى الأول ما جاء في حديث ابن مسعود عند مسلم (¬2): "ما تعدون الصُّرَعة فيكم؟ ". قالوا: الذي لا يصرعه الرجال. وقوله: "إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب". المراد بالشديد هنا هو شدة القوة المعنوية، وهو مجاهدة النفس وإمساكها عن الشر، ومنازعتها للجوارح بالانتقام ممن أغضبها، فالنفس في حكم الأعداء الكثيرين، وغلبتها فيما تشتهيه، في حكم من هو شديد القوة في غلبة الجماعة الكثيرين فيما يريدونه منه. وفيه إشارة إلى أن مجاهدة النفس أشد من مجاهدة العدو، لأنه - صلى الله عليه وسلم - جعل الذي يملك نفسه عند الغضب أعظم الناس قوة. والغضب عند الحكماء هو حركة النفس إلى خارج الجسد لإرادة الانتقام، وفسره أهل اللغة بضد الرضا، والرضا فسروه بضد السخط. والحديث فيه دلالة على أنه يجب على من أغضبه امرؤ وأرادت النفس المبادرة إلى الانتقام ممن أغضبه أن يجاهد نفسه ويمنعها عما طلبت، قال ¬

_ (¬1) الفتح 10/ 519. (¬2) مسلم 4/ 2014 ح 2608.

بعض العلماء: خلق الله الغضب من النار، وجعله غريزة في الإنسان، فمهما قصد أو نوزع في غرض ما اشتعلت نار الغضب وثارت حتى يحمر الوجه والعينان من الدم؛ لأن البشرة تحكي لون ما وراءها، وهذا إذا غضب على من دونه واستشعر القدرة عليه، وإن كان ممن فوقه تولد منه انقباض الدم من ظاهر الجلد إلى جوف القلب، فيصفر اللون حزنا، وإن كان على النظير (أ) تردد الدم بين انقباض وانبساط فيحمر ويصفر. ويترتب على الغضب تغير الظاهر والباطن، كتغير اللون والرعدة في الأطراف، وخروج الأفعال على غير ترتيب، واستحالة الخلقة، حتى لو رأى الغضبان نفسه في حال غضبه لسكن غضبه (ب) حياءً من قبح صورته واستحالة خلقته، هذا في الظاهر، وأمّا الباطن فقبحه أشد من الظاهر، لأنه يولد الحقد في القلب والحسد وإضمار السوء على اختلاف أنواعه، بل أول شيء يقبح منه باطنه، وتغير ظاهره (جـ) ثمرة تغير باطنه، فيظهر في اللسان الفحش والشتم، ويظهر في الأفعال بالضرب والقتل وغير ذلك من المفاسد، وقد جاءت الأحاديث في النهي عن الغضب، والمراد النهي عن آثار الغضب، لأن الغضب أمر جبلي لا يزول عن النفس. وفيما يعالج به نفسه من وجد فيها الغضب أخرج ابن عساكر (¬1): ¬

_ (أ) في ب: النصر. (ب) ساقطة من: جـ. (جـ) في ب: ظاهر.

"الغضب من الشيطان، والشيطان خلق من النار، والماء يُطفئ النار، فإذا غضب أحدكم فليغتسل". وفي رواية: "فليتوضأ". وابن أبي الدنيا وابن عساكر (¬1): "اجتنب الغضب". وابن عدي (¬2): "إذا غضب أحدكم فقال: أعوذ بالله. سكن غضبه". وأحمد (¬3): "إذا غضب أحدكم فليسكت". وأحمد وأبو داود وابن حبان (¬4): "إذا غضب أحدكم فليجلس، فإذا ذهب عنه الغضب، وإلا فليضطجع". وأبو الشيخ: "الغضب من الشيطان، فإذا وجده أحدكم قائمًا فليجلس، وإذا وجده جالسًا فليضطجع". والمراد بالغضب المنهي عنه هو الغضب في غير الحق؛ ولذلك بوّب البخاري (¬5): باب ما يجوز من الغضب والشدة لأمر الله تعالى، وقال الله تعالى: {جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} (¬6). كأنه يشير إلى أن الحديث الوارد في أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يصبر على الأذى إنما هو فيما كان من حق نفسه، وأمّا إذا كان لله تعالى فإنه يمتثل فيه أمر الله تعالى من الشدة، وذكر فيه خمسة أحاديث، وفي كل منها ذكر غضب النبي - صلى الله عليه وسلم - في أسباب مختلفة مرجعها إلى أن ذلك كان في أمر الله تعالى، وأظهر الغضب فيها ليكون أوكد، وكفى بما ذكر الله تعالى في قصة موسى صلى الله (أ) على نبينا وعليه: {وَلَمَّا ¬

_ (أ) بعده في ب: عليه وسلم.

سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ} (¬1) الآية. 1246 - وعن ابن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الظلم ظلمات يوم القيامة". متفق عليه (¬2). الحديث فيه دلالة على تحريم الظلم، وهو يشمل جميع أنواعه، سواء كان في نفس أو مال أو عرض. وقوله: "ظلمات يوم القيامة". قال القاضي عياض (¬3): قيل: هو على ظاهره فيكون ظلمات على صاحبه لا يهتدي يوم القيامة سبيلًا حيث يسعى نور المؤمنين بين أيديهم وبأيمانهم، ويحتمل أن الظلمات مرادٌ بها الشدائد، وبه فَسَّرُوا قوله تعالى: {قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} (¬4). أي من شدائدهما، ويحتمل أنها كناية عن [الأنكال] (أ) والعقوبات، والله أعلم. 1247 - وعن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "اتقوا الظلم، فإن الظلم ظلمات يوم القيامة، واتقوا الشح فإنه أهلك من كان قبلكم". أخرجه مسلم (¬5). ¬

_ (أ) في ب، جـ: النكال. والمثبت من مصدر التخريج.

قوله: "واتقوا الشح". قال جماعة: الشح أشد البخل، وأبلغ في المنع من البخل. وقيل: هو البخل مع الحرص. وقيل: البخل في بعض الأمور، والشح عام. وقيل: البخل بالمال خاصة، والشح بالمال والمعروف. وقيل: الشح الحرص على ما ليس عنده، والبخل بما عنده. وقوله: "فإنه أهلك من كان قبلكم". يحتمل أن يريد الهلاك الدنيوي المفسر بما بعده في تمام الحديث، وهو قوله: "حملهم على أن يسفكوا دماءهم ويستحلوا محارمهم". وهذا هلاك دنيوي، والحامل لهم هو شحهم على حفظ المال وجمعه وازدياده وصونه عن أن يذهب في النفقة، فطلبوا أن يصان بما ينضم إليه من مال الغير الذي لا يدرك إلا بالإغارة المفضية إلى القتل واستحلال المحارم، ويحتمل أن يراد الهلاك الأخروي الحاصل بما اقترفوه من هذه المظالم، ويحتمل أن يراد مجموع هلاكي (أ) الدنيا والآخرة. والحديث فيه دلالة على قبح الشح وتحريمه، ويكون المحرم منه ما أدى إلى منع واجب شرعي أو عرفي، وما زاد على ذلك فهو معدود من السخاء، وهو صفة كمال ممدوح ما لم يفض إلى إسراف، كما قال الله تعالى في حق نبيه - صلى الله عليه وسلم -: {وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ} (¬1). وكما قيل (¬2): * كلا طَرَفي قَصْدِ الأُمور ذميمُ * وخير الأمور أوسطها، وحاصل الأمر أن المال إذا كان موجودًا فينبغي أن يكون حال صاحبه الإيثار والسخاء واصطناع المعروف بالتي هي أحسن، ¬

_ (أ) في جـ: هلاك.

ويكون الإنسان مع ذلك المال بما عند الله أوثق منه بما عنده، وإن كان مفقودًا يكون حال الإنسان القناعة والتكفف وقلة الطمع فهو أحمد في العقبى، أراح للقلب في الدنيا. 1248 - وعن محمود بن لبيد رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر الرياء". أخرجه أحمد بإسناد حسن (¬1). هو محمود بن لبيد بن رافع بن امرئ القيس بن زيد الأنصاري الأشهلي من بني عبد الأشهل، ولد على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وحدث عنه أحاديث، قال البخاري (¬2): له صحبة. وقال أبو حاتم (2): لا نعرف له صحبة. وذكره مسلم (¬3) في التابعين في الطبقة الثانية منهم، قال ابن عبد البر (¬4): والصواب قول البخاري. فأثبت له صحبة. وهو أحد العلماء، روى عن ابن عباس وعتبان بن مالك، مات سنة ست وتسعين، وعِتْبان بكسر العين وسكون التاء فوقها نقطتان وبالباء الموحدة. الحديث فيه دلالة على قبح الرياء، وأنه من أعظم المعاصي المحبطة للأعمال، فإنه إذا كان أخوف الخوفات كان أعظمها وأخطرها، وتسميته شركًا أصغر يدل على أنه في رتبة تلي الشرك الأكبر الذي هو الظلم العظيم، والوبال المهلك الوخيم. ¬

_ (¬1) أحمد 5/ 428. (¬2) التاريخ الكبير 7/ 402، والمراسيل لابن أبي حاتم ص 200. (¬3) الطبقات لمسلم 1/ 231 (658). (¬4) الاستيعاب 3/ 1379.

والرياء مصدر راءى فاعَل، وهو يأتي على مفاعلة وفِعال بكسر الفاء وفتح العين وهو مهموز العين؛ لأنه من الرؤية، ويجوز فيه تخفيف الهمزة بقلبها ياء، وقرأ السبعة بتحقيق (أ) الهمزة إلا حمزة في حال الوقف فخففها بقلبها ياء كـ: مئة (¬1). ولام الرياء في الأصل ياء وقعت بعد ألف زائدة فقلبت همزة ككساءٍ، وحقيقة الرياء لغة هو أن يُرِي غيره خلاف ما هو عليه، وشرعًا هو أن يفعل الطاعة أو يترك المعصية مع ملاحظة غير الله، أو يخبر بها أو يحب الاطلاع عليها لقصدٍ دنيوي إما مالٍ أو عرض، وهو محرم إجماعًا، وقد ذكره (ب) الله سبحانه وتعالى ونبه على قبحه وتوعد مرتكبه بعقابه، كقوله تعالى: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ} (¬2) الآية، وقوله: {وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} (¬3). وغير ذلك، والأحاديث الكثيرة المتعاضدة المهوِّلة لعقاب (جـ) المرائي، والإجماع من الأمة على قبحه، والرياء ينقسم (د) إلى أقسام بعضها أشد من بعض، فأقبح أقسامه ما كان في الإيمان، فإذا أرَى أنه مؤمنٌ وليس بمؤمن فهو حال المنافقين الذين قال الله تعالى فيهم: {يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إلا قَلِيلًا} (¬4). ويقرب منهم الباطنية الذين يظهرون أنهم موافقون في الاعتقاد وهم يبطنون خلافه، ويقرب من ذلك من يفعل ¬

_ (أ) في جـ: بتخفيف. (ب) في ب: ذكر. (جـ) في جـ: بعقاب. (د) في ب: منقسم.

الفريضة إذا كان في الملأ، ويتركها في الخلاء خوف الذم، ويقرب من ذلك الذي يفعل النوافل في الملأ لئلا ينتقص بعدم فعلها، ويتركها في الخلوة كسلًا وعدم احتفال بما يقربه من الثواب، ويقرب من ذلك من يحسن فعل العبادة بالخضوع والخشوع واستكمال هيئاتها ومسنوناتها في الملأ، ويقتصر في الخلوة على فعل الواجب من ذلك؛ لئلا يُذم على ذلك، وقد يزين الشيطان لفاعل هذا بأنه إنما فعله لئلا يقع الغير في عرضه، وفاته النظر الشديد بأنه كان الباعث له على الفعل هو النظر إلى الخلق رجاء الثناء عليه، ولا بد من تفصيل فيما يصحبه الرياء من الأعمال في صحته وعدم صحته، وحاصل ذلك أنه إذا كان الباعث على أداء العبادة هو ملاحظة غير المعبود لغرض دنيوي فالعبادة غير صحيحة، ويجب على المرائي إعادتها، فإذا كان الباعث مثلًا على فعل الصلاة أو غيرها هو محبة الثناء أو غيره فالصلاة باطلة؛ لأنه لم ينو العبادة للمعبود، وهذا هو الشرك الأصغر، وإنما لم يكن شركًا أكبر؛ لأنه لم يقصد بالعبادة تعظيم المراءَى، وإنما قصد أن يثني عليه مثلًا، وأما السجود لغير الله فقد قصد به تعظيم المسجود له، وهذا هو السر في تسميته الشرك الأصغر، وكان شبيهًا بالشرك الأكبر؛ لأن المرائي لما عظم قدر المخلوق عنده حتى حمله على الركوع والسجود لله، فكان ذلك المخلوق هو المعظم بالسجود من وجه، وهذا هو الشرك الخفي لا الجلي، وإن كان الباعث على الطاعة هو الامتثال لأمر الله وقصد محبة الثناء مثلًا واجتمع الباعثان عند نية العبادة ولم يستقل أحدهما بالانبعاث على الفعل، فكذلك لا تصح العبادة، وقد أخرج الخطيب" (¬1) أن الله عزَّ وجلَّ يقول: أنا خير شريك، فمن أشرك ¬

_ (¬1) الدارقطني 1/ 51، والبيهقي في الشعب 5/ 336 عقب ح 6836 من حديث الضحاك بن قيس مرفوعًا.

معي شيئًا فهو لشريكي، يأيها الناس، أخلصوا أعمالكم لله، فإن الله لا يقبل من الأعمال إلا ما خلص له، ولا تقولوا: هذا لله وللرحم. فإنه للرحم وليس لله منه شيء. وإن كان كل واحد منهما مستقلًّا بحيث لو عدم باعث الرياء لفُعِل الفعل، فهذا مَحل النظر، ولعله يكون مثل الصلاة في الدار المغصوبة، وفيها الخلاف، وأما إذا كان الباعث خالصًا وورد عليه وارد الرياء، فإن كان بعد الفراغ من العمل لم يؤثر فيه، إلا إذا أظهر العمل للغير وتحدث به. وقد أخرج الديلمي (¬1) مرفوعًا: "إن الرجل ليعمل عملا سرًّا فيكتبه الله عنده سرا، فلا يزال به الشيطان حتى يتكلم به فيمحى من السر ويكتب علانية، فإن عاد [فتكلم] (أ) الثانية محي من السر والعلانية وكتب رياءً". وقال الغزالي (¬2) في هذا القسم: الأقيس أن ثوابه على عمله باق، ويعاقب على الرياء الذي قصده، وأما إذا عرض عليه قصد الرياء في أثناء العبادة التي باعثها خالص، فإن تمحض قصدُ الرياء أفسدها وأحبط ثوابها، وإن لم يتمحض ولكن غَلَب قصد القربة فهذا يتردد في إفسادها، ومال (جـ). الحارث المحاسبي (¬3) إلى أن العبادة تفسد. قال الغزالي (¬4): والأظهر أن هذا القدر إذا لم يظهر أثره في العمل بحصول زيادة فيه أنه لا يفسد العمل، لبقاء ¬

_ (أ) في ب، جـ: تكلم. والمثبت من مصدر التخريج. (ب) في جـ: قال.

أصل النية الباعثة عليه والحاملة على إتمامه، وأما إذا كان باعث الرياء مقارنًا لباعث العبادة ثم ندم في أثناء العبادة، فأوجب البعض الاستئناف لعدم انعقادها، وقال بعض: يلغو جميع ما فعله إلا التحريم. وقال بعض: يصح؛ لأن النظر إلى الخواتم، كما لو ابتدأ بالإخلاص وصحبه الرياء من بعدُ (أ). قال (¬1): والقولان الأخيران خارجان عن قياس الفقه. وقد أخرج الواحدي في "أسباب النزول" (¬2) جواب جندب بن زهير لما قال للنبي - صلى الله عليه وسلم -: إني أعمل العمل لله، وإذا اطلع عليه سرني. فقال - صلى الله عليه وسلم -: "لا شريك لله في عبادته". وفي رواية: "إنّ الله لا يقبل ما شورك فيه". رواه ابن عباس. وروى عن مجاهد أيضًا (2): جاء رجلٌ إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: إني أتصدق، وأصل الرحم، ولا أصنع ذلك إلا لله، فيذكر ذلك مني، فيسرني ذلك، وأعجب به. فلم يقل النبي - صلى الله عليه وسلم - شيئًا حتى نزلت الآية. فالحديث يدل على أن السرور بالاطلاع على العمل رياء، وظاهره ولو كان بعد العمل، وقد عارضه ما أخرجه الترمذي (¬3) عن أبي هريرة، وقال: حديث غريب. قال: قلت يا رسول الله، بينا أنا في بيتي في مصلاي، إذ دخل عليّ رجل، فأعجبني الحال التي رآني عليها. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لك أجران". وفي "الكشاف (¬4) من حديث جندب قال له: "لك أجران؛ أجر السر ¬

_ (أ) بعده في الإحياء 3/ 1885: لكان يفسد عمله.

وأجر العلانية". وقد ترجح هذا بظاهر قوله تعالى: {وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ} (¬1). فدل على أن محبة الثناء من الرسول لا ينافي الإخلاص، ولا يعد من الرياء، وقد يتأول الحديث الأول بأن المراد بقوله إذا اطلع عليه سرني. لمحبته للثناء عليه، (أويكون الرياء في محبته للثناء أ) على العمل، وإنْ لم يخرج العمل عن كونه خالصًا، وحديث أبي هريرة لم يكن فيه تعرض لمحبته الثناء من المطلع عليه، وإنما هو مجرد محبة (ب) لما صدر منه من العمل وعلم به غيره. أو يراد بقوله: فيعجبني. يعني تعجبه شهادة الناس له بالعمل الصالح؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "أنتم شهداء الله في الأرض". وقال في حق من شهدوا له بالجنة: "وجبت" (¬2). وقال الغزالي (¬3): أما مجرد السرور باطلاع الناس، إذا لم يبلغ أثره بحيث يؤثر في العمل، فبعيد أن يفسد العبادة. وقد يطلق الرياء على أمر مباح، وهو طلبُ نحو الجاهِ بغير عبادة، كأن يقصد بزينته في لباسه الثناء عليه بالنظافة والجمال ونحو ذلك، وكالإنفاق على الأغنياء ليقال: إنه سخي. فهذا ليس داخلا في حقيقة الرياء المحرم، وقد كان - صلى الله عليه وسلم - إذا أراد ¬

_ (أ- أ) ساقط من: جـ. (ب) في جـ: محبته.

الخروجِ سوَّى عمامته وشعره ونظر وجهه في الماء، فقالت عائشة: أو تفعل ذلك يا رسول الله؟! فقال: "نعم، إن الله يحب من العبد أن يتزين لإخوانه إذا خرج إليهم" (¬1). 1249 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "آية المنافق ثلاث؛ إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان". متفق عليه (¬2). ولهما (¬3) من حديث عبد الله بن عمرو: "وإذا خاصم فجر". قوله: "آية المنافق". أي: علامته، والمنافق الذي يظهر الإيمان ويبطن الكفر، وظاهر الحديث أنه يحكم بنفاق من اجتمع فيه الثلاث أو الأربع، وإن كان مؤمنًا مصدقًا بشرائع الإسلام، وقد أجمع العلماء على أن من كان مصدقًا بقلبه مقرًّا بلسانه وفعل هذه الخصال، لا يحكم عليه بكفر ولا نفاق يخلد به في النار؛ ولذلك عدَّ جماعة من العلماء هذا الحديث مشكلًا من حيث إنّ هذه الخصال توجد في المسلم المصدق. قال النووي (¬4): اختلف العلماء في معناه؛ فقال المحققون والأكثرون وهو الصحيح المختار: إن هذه الخصال هي من خصال المنافقين، فإذا اتصف بها أحدٌ من المصدقين أشبه المنافق، فيطلق عليه اسم النفاق مجازًا، فإن النفاق هو إظهار ما يبطن خلافه، وهذا المعنى موجود في صاحب هذه ¬

_ (¬1) ابن عدي 3/ 1102. (¬2) البخاري، كتاب الإيمان، باب علامة المنافق 1/ 89 ح 33، ومسلم، كتاب الإيمان، باب بيان خصال المنافق 1/ 78 ح 59/ 107. (¬3) البخاري، كتاب الإيمان، باب علامة المنافق 1/ 89 ح 34، ومسلم، كتاب الإيمان، باب بيان خصال المنافق 1/ 78 ح 58. (¬4) شرح مسلم 2/ 47.

الخصال؛ ويكون نفاقه في حق من حدثه ووعده وأْتمنه وخاصمه وعاهده من الناس، لا أنه منافق في الإسلام وهو يبطن الكفر، ومعنى تمام الحديث: "من كن فيه كان منافقًا خالصًا، ومن كانت فيه خلة منهن كان فيه خلة من نفاق حتى يدعها". أنه شديد الشبه بالمنافقين بسبب هذه الخصال. ثم قال (¬1): وهذا فيمن كانت الخصال غالبة مِنْ حاله لا مَنْ ندرت منه. وقيل: إن هذا في حق المنافقين الذين كانوا في أيام النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ تحدثوا بإيمانهم فكذبوا، وأْتُمنوا على دينهم فخانوا، ووعدوا في أمر الدين ونصره فأخلفوا، وفجروا في خصوماتهم، وهذا قول سعيد بن جبير وعطاء بن أبي رباح ورجع إليه الحسن البصري بعد أن كان على خلافه، وهو مروي عن ابن عباس وابن عمر و [روياه] (أ) عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. قال القاضي عياض (1): وإليه مال كثير من أئمتنا، وحكى الخطابي قولًا آخر أن معناه التحذير للمسلم أن يعتاد هذه الخصال التي يخاف عليه منها أن تفضي به إلى حقيقة النفاق. وقال الخطابي (¬2) أيضًا عن بعضهم أن الحديث ورد في رجل معين منافق، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يواجههم بصريح القول فيقول: فلان مُنافق. وإنما يشير إشارة. انتهى مع بعض تصرف فيه. والأقرب إلى سياق الحديث هو ما ذكره الخطابي، أن معناه التحذير. . . ¬

_ (أ) في ب، جـ: رويناه. والمثبت من مصدر التخريج.

إلى آخره، وأن اجتماع هذه الخصال يفضي بصاحبها إلى نفاق الكفر، كما قال الله تعالى: {فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ} (¬1). مع أن في قصته أنه أتى بزكاته في خلافة أبي بكر، وفي خلافة عمر، وفي خلافة عثمان، ولم تقبل، مع أن ظاهر حاله أنه مصدق بوجوب الزكاة وغيرها، ولكن النفاق داخل القلب بسبب المنع وإخلاف ما وعد الله به (¬2)، ويكون المراد بالحديث التحذير من التخلق بهذه الأخلاق التي تورث صاحبها النفاق الحقيقي الكامل، والخصلة الواحدة تكون في صاحبها شعبة من النفاق يعاقب عليها وإن لم يكن عقاب منافق خالص. والله سبحانه أعلم. وفي قوله: "ثلاث". أو: "أربع". لا تنافي بين ذلك، لأنه لا مانع أن يكون للشيء علامات، كل واحدة قد تحصل بها صفة ذلك الشيء. وقوله: "وإذا خاصم فجر". داخل في قوله: "وإذا حدَّث كذب". أي: مال عن الحق وقال الباطل والكذب. قال أهل اللغة: وأصل الفجور الميل عن القصد. 1250 - وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ¬

_ (¬1) الآية 77 من سورة التوبة. (¬2) قال ابن كثير: وقد ذكر كثير من المفسرين منهم ابن عباس والحسن البصري أن سبب نزول هذه الآية الكريمة في ثعلبة بن حاطب الأنصاري. تفسير ابن كثير 4/ 124. قال البيهقي: وفي إسناد هذا الحديث نظر، وهو مشهور فيما بين أهل التفسير. شعب الإيمان عقب ح 4357، وينظر مجمع الزوائد 7/ 31، 32، والإصابة 1/ 400، 401.

"سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر". متفق عليه (¬1). قوله: "سِباب". بكسر السين المهملة مصدر سبَّ، تقول: سبَّه سبًّا وسبابا. والسب في اللغة الشتم والتكلم في عرض الناس [بما] (أ) لا يعني الساب. والفسوق مصدر فسق، يقال: فسقًا وفسوقًا. والفسق معناه لغةً الخروج، وشرعًا الخروج عن طاعة الله تعالى. والحديث يَدُلُّ على تحريم سب المسلم بغير حق، وهو حرام بالإجماع، وفاعله فاسق. وقوله: "المسلم". ظاهره أنه يجوز سب الكافر، وأما مرتكب الكبيرة فهو داخل في معنى المسلم، وإن كان في عصر النبوة ظاهر حالهم السلامة من ارتكاب الكبيرة، فهو مراد به الإسلام الكامل، وذكر المسلم للتنويه بزيادة احترام المسلم، وإن كان الذمي كذلك لا يجوز سبه؛ لتحريم أذيته، وأما الحربي فيجوز؛ لأنه لا حرمة له ما لم يكن سبه بما هو كذب. وقد اختلف العلماء في جواز سب الفاسق بما هو مرتكب له من المعاصي، فذهب الأكثر إلى جوازه؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "اذكروا الفاسق بما فيه ¬

_ (أ) في ب، جـ: مما. والمثبت هو الصواب.

كي يحذره الناس" (¬1). وهو حديث ضعيف. وقال أحمد (¬2): منكر. وقال البيهقي (¬3): ليس بشيء، فإن صحَّ حمل على فاجر يعلن بفجوره، أو يأتي بشهادة، أو يعتمد عليه [في أمانة] (أ)، فيحتاج إلى بيان حاله؛ لئلا يقع الاعتماد عليه. انتهى كلام البيهقي. ونقل عن شيخه الحاكم أنه غير صحيح وأورده بلفظ: "ليس للفاسق غيبة" (¬4). وأخرج (ب) الطبراني (¬5) في "الأوسط " و "الصغير" بإسناد حسن رجاله موثقون، وفي "الكبير" (¬6) أيضًا عن معاوية بن حيدة، قال: خطبهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "حتى متى ترعون عن ذكر الفاجر، اهتكوه حتى يحذره الناس". وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "من ألقى جلباب الحياء فلا غيبة له". أخرجه البيهقي (¬7) من حديث أنس بإسناد ضعيف. وأخرج رزين قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا غيبة لفاسق ولا مجاهر، وكل أمتي معافى إلا المجاهرين" (¬8). وفي "مسلم" (¬9) أيضًا: "كل أمتي معافى إلا ¬

_ (أ) ساقط من: ب، جـ. والمثبت من مصدر التخريج. (ب) في ب: أخرجه. ونظر سبل السلام 4/ 370.

المجاهرين". وهم الذين جاهروا بمعاصيهم، فكشفوا ما ستر الله عليهم، فيتحدثون بها لغير ضرورة ولا حاجة، قال العلماء: يجوز أن يقال للفاسق: أنت فاسق أو مفسد. وكذا في غيبته بشرط قصد النصيحة له أو لغيره؛ كبيان حاله أو للزجر عن صنيعه لا لقصد الوقيعة به، فلا بد من قصدٍ صحيح، ولكن قد ورد في خصام أُسيد لسعد: إنما أنت منافق تجادل عن المنافقين (¬1). ولم ينكر النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقول عمر بن الخطاب في قصة حاطب بن أبي بلتعة: دعني أضرب عنق هذا المنافق. كما في "صحيح البخاري" (¬2)، ولم يشكر. وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - لأبي ذر: "إنك امرؤٌ فيك جاهلية وكفر" (¬3). وقد بوّب الحفاظ لا يجوز الاغتياب فيه لأهل الإفساد، وأورد فيه البخاري (¬4) في حديث عائشة رضي الله عنها، أن رجلًا استأذن على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلما رآه قال: "بئس أخو العشيرة، أو ابن العشيرة". فلمَّا جلس تطلَّق النبي - صلى الله عليه وسلم - في وجهه وانبسط له. قيل: والرجل عيينة بن حِصن الفَزَاري، وكان يقال له: الأحمق المطاع. وقد اختلف في حسن إسلامه، وقد كان ارتد في زمن أبي بكر ثم أسلم وحضر بعض (أ) الفتوح في زمن عمر. فظاهر هذا الجواز مطلقًا، ويستثنى من تحريم سباب المسلم جواز الجواب على المبتدئ بالسب؛ لقوله ¬

_ (أ) في جـ: بعد.

- صلى الله عليه وسلم -: "المستبان ما قالا، فعلى البادئ ما لم يعتد المظلوم (أ) ". أخرجه مسلم (¬1). فيدل على أنه يجوز للمسبوب أن يجيب بسب من ابتدأه، بشرط ألا يعتدي، ولا يكون ما سب به كذبًا أو قذفًا أو سببًا لإتلافه، فمن صور الجائز أن يقول له: يا ظالم. أو: يا أحمق. أو: جافي. أو نحو ذلك مما لا يكاد أحد ينفك من هذه الأوصاف. ولا خلاف في جواز الانتصار، وقد تظاهرت عليه الأدلة من الكتاب والسنة. قال الله تعالى: {وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ} (¬2). وقال الله تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ} (¬3). ومع هذا فالصبر والعفو أفضل، قال الله تعالى: {وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} (¬4). وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "ما زاد الله عبدًا بعفو إلا عزًّا" (¬5). قال العلماء: وإذا انتصر المسبوب استوفى ظلامته، وبرئ الأول من حقه وبقي عليه إثم الابتداء والإثم المستحق لله تعالى. وقيل (ب): يرتفع عنه الإثم، ويكون على البادئ اللوم والذم لا الإثم. وقوله: "وقتاله كفر". فيه دلالة على أنه يكفر من قاتل المسلم بغير حق، وهذا لا خفاء فيه في حق من استحل قتال المسلم أو، قاتله لأجل ¬

_ (أ) في جـ: المطلوب.

إسلامه، وأما إذا كان المقاتلة لغير ذلك فإطلاق الكفر عليه مجاز، ويراد به كفر الإحسان والنعمة، (أوأخوة الإسلام أ)، لا كفر الجحود، أو سماه كفرًا لأنَّه قد يئول إلى الكفر لِما (ب) يحصل من المعاصي من الرين على القلب حتى يعمى عن الحق، فقد يصير كفرًا. أَو أنه فعل كفعل الكافر الذي يقاتل المسلم. والظاهر من المقاتلة هي المقاتلة المعروفة بالفعل المفضية إلى القتل. قال القاضي عياض (¬1): ويجوز أن يكون المراد المشاررة والمدافعة. 1251 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إياكم والظن؛ فإن الظن أكذب الحديث". متفق عليه (¬2). قوله: "إياكم والظن". من باب التحذير، فالضمير منصوب بفعل مقدر واجب الحذف، و "الظن" معطوف عليه، والغرض منه التحذير من الظن، والمراد بالظن هنا هو الظن بالمسلم شرًّا، مثل قوله تعالى: {اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ} (¬3). وهو ما يخطر في النفس من التجويز المحتمل للصحة ¬

_ (أ- أ) في ب: أخوه المسلم. (ب) في جـ: بما.

والبطلان، فتحكم به وتعمل عليه. كذا فسر الحديث في "مختصر النهاية" للسيوطي. قال الخطابي (¬1): والمراد التهمة، ومحل التحذير والنهي إنما هو عن التهمة التي لا سبب [لها] (أ) يوجبها، كمن اتهم بالفاحشة ولم يظهر عليه ما يقتضي ذلك. قال النووي (¬2): والمراد النهي عن تحقيق التهمة والإصرار عليها وتقررها في النفس دون ما يعرض ولا يستقر، فإن هذا لا يكلف به كما في حديث تجاوز الله تعالى عما تحدث به الأمة ما لم تتكلم أو تعمل (¬3). ونقله القاضي عياض عن سفيان. وظاهر الحديث النهي عن الظن، وإن كان في حق من قد ظهر منه الشر والفحش، ولكنه معارض بما جاء في الحديث: "احترسوا من الناس بسوء الظن". أخرجه الطبراني في "الأوسط"، والبيهقي، والعسكري (¬4) عن أنس مرفوعًا، قال الطبراني: تفرد به بقية. ولأبي الشيخ والديلمي (¬5) عن علي رضي الله عنه من قوله: الحزم سوء الظن. وأخرجه القُضاعي في "مسند الشهاب" (¬6) عن عبد الرحمن بن عائذ مرفوعًا مرسلًا، وكل طرقه ضعيفة ¬

_ (أ) في ب، جـ: لما. والمثبت من مصدر التخريج.

وبعضها يتقوى ببعض. وأخرجه أحمد، والبيهقي (¬1)، عن مطرف بن عبد الله بن الشخير أحد التابعين من قوله، وأخرجه تمام في "فوائده" (¬2) عن ابن عباسٍ مرفوعًا بلفظ: "من حسن ظنه في الناس كثرت ندامته". ونظمه بعضهم فقال (¬3): لا يكن ظنك إلا سيئًا ... إن سوء الظن من أقوى الفطن ما رمى الأنفس في مكروهها ... أسفًا أقوى من الظن الحسن ولكنه محمول على الظن بأهل الشر والفجور، والأول على من لم يظهر منه شر وكان ظاهر حاله السلامة، وقد روت عائشة رضي الله عنها (¬4): من أساء بأخيه الظن فقد أساء بربه؛ لأن الله تعالى يقول: {اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ} (¬5). وروي عن علي رضي الله عنه، أنه إذا استولى الصلاح على الزمان وأهله، ثم أساء رجلٌ الظن برجل لم يظهر منه خَرَبة (¬6) فقد ظلم، وإذا استولى الفساد على الزمان وأهله، وأحسن رجل الظن برجل، فقد غرر. قال جار الله الزمخشري (¬7) رحمه الله تعالى: الظن ينقسم إلى واجبٍ، ومندوب، وحرام، ومباح؛ فالواجب حسن الظن بالله، والحرام سوء الظن ¬

_ (¬1) أحمد في الزهد ص 242، والبيهقي 10/ 129. (¬2) فوائد تمام 3/ 393 ح 1168 - روض. (¬3) ديوان الشافعي ص 53، وصدر البيت الثاني فيه هكذا: * ما رمى الإنسان في مخمصة * (¬4) عزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 92 إلى ابن مردويه وابن النجار في تاريخه عن عائشة مرفوعًا. (¬5) الآية 12 من سورة الحجرات. (¬6) الخربة: العيب والعورة والزلة. القاموس المحيط (خ ر ب). (¬7) تفسير الكشاف 3/ 567.

به تعالى، وبكل من ظاهره العدالة من المسلمين، وهو المراد بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إياكم والظن". الحديث. والمندوب حسن الظن بمن ظاهره العدالة من المسلمين. والجائز مثل قول أبي بكر رضي الله عنه لعائشة: إنما هو أخواك وأختاك (¬1). لما وقع في قلبه أن الذي في بطن امرأته أنثى، ومن ذلك ظن السوء لمن اشتهر بين الناس بمخالطة الريب والمجاهرة بالخبائث، فلا يحرم سوء الظن به؛ لأنه قد دل على نفسه، ومن ستر على نفسه لم يظن به إلَّا خير، ومن دخل في مداخل السوء اتُّهم، ومن هتك نفسه ظننا به السوء، والذي يميز الظنون التي يجب اجتنابها عمَّا سواها، أن كل ما لم يعرف له أمارة صحيحة، وسبب ظاهر كان حرامًا واجبًا الاجتناب؛ وذلك كأهل الستر والصلاح، ومن أُنست منه الأمانة في الظاهر، ومقابله بعكس ذلك. انتهى بمعناه في "الكشاف". ويؤيد هذا التفصيل قوله تعالى: {لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا} (¬2). وحمله بعضهم على العمل بالظن في الأحكام الشرعية، وأراد بالظن هو تغليب أحد الجانبين (أ)، وهو بعيد لا يلتفت إليه؛ لعدم مناسبته سياق الحديث، وعطف: "ولا تجسسوا" عليه كما في رواية البخاري. ¬

_ (أ) في ب: المحورين. وفي جـ: المجويزين. والمثبت من الفتح 10/ 481.

وقوله: "فإن الظن أكذب الحديث" الحديث. المراد بالظن الشيء المظنون، وهو تحقيق الخاطر ولو بالفعل، وسماه حديثًا تغليبا للقول على غيره، وإنما كان أكذب الحديث، لأن الكذب مخالفة الواقع من غير استناد إلى أمارة، وهو قبيح ظاهرًا لا يحتاج إلى إظهار قبحه، وأما الظن فيزعم صاحبه أنه مستند إلى شيء، فيخفى على السامع كونه كاذبًا بحسب الغالب، فكان أشد الكذب. والله أعلم. 1252 - وعن معقل بن يسار رضي الله عنه: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "ما من عبد يسترعيه الله رعية يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته إلَّا حرم الله عليه الجنة". متفق عليه (¬1). الحديث أخرجه البخاري من رواية الحسن أن عبيد الله بن زياد عاد معقل بن يسار في مرضه الذي مات فيه، فقال له معقل: إني محدثك حديثًا سمعته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: "ما من عبد يسترعيه الله رعية فلم يحطها بنصيحة لم يجد رائحة الجنة". وفي رواية للبخاري (¬2) عن الحسن قال: أتينا معقل بن يسار نعوده، فدخل علينا عبيد الله بن زياد، فقال له معقل: أحدثك حديثًا سمعته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: "ما من وال يلي رعية من المسلمين فيموت وهو غاش لهم إلا حرم الله عليه الجنة". وما ذكره المصنف رحمه الله تعالى إحدى روايتي مسلم. ¬

_ (¬1) البخاري، كتاب الأحكام، باب من استرعي رعية فلم ينصح 13/ 126، 127 ح 7150، ومسلم، كتاب الإمارة، باب فضيلة الإمام العادل وعقوبة الجائر. . . 3/ 1460 ح 142/ 21. (¬2) البخاري 13/ 127 ح 7151.

معقل بن يسار، بتحتانية ثم سين مهملة خفيفة هو المزني الصحابي المشهور، توفي فيما ذكره البخاري (¬1) في "الأوسط" بالبصرة فيما بين الستين إلى السبعين، وذلك في خلافة يزيد بن معاوية، وكان عبيد الله بن زياد أميرًا على البصرة في أيام معاوية وولدِه يزيد. قوله: "ما من عبد". "من" زائدة لتأكيد معنى النفي، أي: ما عبد. وقوله: "يسترعيه الله تعالى رعية". أي: طلب منه أن يكون راعيًا، والراعي هو القائم بمصالح ما ورعاه، وفي ننسخة الصَّاغاني (¬2) للبخاري بلفظ: "استرعاه الله". وقوله: "يموت يوم يموت". يعني: يدركه الموت وهو يتصف بالغِش غير تائب منه. وقوله: "وهو غاش لرعيته". الغش ضد النصح، وهو معنى قوله في الرواية الثانية: "فلم يحطها بنصيحة". وكأنه لا واسطة بين الغش وعدم النصح، ويتحقق الغش بظلمه لهم بأخذ أموالهم، أو سفك دمائهم، أو انتهاك أعراضهم، أو حبس ما يستحقونه من مال الله سبحانه المعدود للمصارف، أو ترك تعريفهم ما يجب عليهم في أمر دينهم أو دنياهم، أو بإهمال الحدود فيهم، أو عدم ردع المفسدين منهم، أو ترك حمايتهم من عدوهم، أو تولية من يحابيه لا لغرض إصلاحهم، أو تولية مَن غيره أولى بالقيام بحقوقهم. وقد جاء في هذين الأخيرين تحذير خاص؛ ما رواه أبو بكر رضي الله عنه، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من ولي من أمر المسلمين شيئًا فأمَّر عليهم أحدًا ¬

_ (¬1) التاريخ الصغير 1/ 155، 168. (¬2) الفتح 13/ 127.

محاباة فعليه لعنة الله، لا يقبل الله منه صرفًا ولا عدلًا حتى يدخله جهنم". أخرجه الحاكم (¬1) وصححه، لكن فيه من وثقه ابن معين في رواية، ووهاه في غيرها (¬2). وأخرجه أحمد (¬3)، وأخرج الحاكم (¬4) وصححه، عن ابن عباسٍ رضي الله عنه، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من استعمل رجلًا من عصابة وفيهم من هو أرضى لله منه، فقد خان الله ورسوله والمؤمنين". وفي إسناده واهٍ، إلا أن ابن نمير وثقه، وحَسَّن له الترمذي غير ما حديث. قال الحافظ المنذري (¬5) بعد أن ذكر ذلك: وصحح له الحاكم، ولا يضر في المتابعات. ويؤخذ منه أن عزل الصالح وتولية مَن هو دونه يكون من الغِش. وقوله: "إلا حرم الله عليه الجنة". خبر "عبد" المجرور لفظًا بـ "من" الزائدة واقع بعد "إلا" لقصد الحصر، أي: هو مقصور بالاتصاف بتحريم الجنة عليه. والحديث يدل على أن الغش محرم وهو من الكبائر التي ورد الوعيد عليها بعينها؛ فإن تحريم الجنة نص الله تعالى عليه في كتابه أن الله حرمها على الكافرين، فهذا الذي اتصف بهذه الصفة إذا كان محرمًا عليه الجنة اقتضى أنه من أهل النار الخالدين فيها، فأما على قاعدة العدلية (¬6) من تخليد صاحب الكبيرة فلا إشكال عليه، بل يكون الحديث من حججهم، وأما على قاعدة ¬

_ (¬1) الحاكم 4/ 93. (¬2) هو بكر بن خنيس. وقد تقدمت ترجمته في 7/ 314، وينظر تاريخ بغداد 7/ 89. (¬3) أحمد 1/ 6. (¬4) الحاكم 4/ 92. (¬5) الترغيب والترهيب 3/ 175. (¬6) العدلية هم المعتزلة، نسبة إلى العدل، وهو أحد أصولهم التي هم عليها، وهي العدل، والتوحيد، والوعيد، والمنزلة بين المنزلتين، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. انظر التنبيه والرد للملطي ص 40، 41.

من يقول: إن أهل التوحيد لا يخلد العصاة منهم في النار. فيحتاج إلى تأويل؛ فقال بعضهم: يحمل هذا على من استحل، الغش فيكون كافرًا مخلدًا في النار. وقال بعضهم: يحمل على الزجر والتغليظ، فكأنه قال: يمنع من الجنة ويكون في النار أوقاتًا متكاثرة مشابهة للخلود. ويتأيد هذا بما وقع في رواية لمسلم (¬1) بلفظ: "لم يدخل معهم الجنة". ولا يلزم منه الخلود في النار. وقال ابن بطال (¬2): هذا وعيد شديد على أئمة الجور، فمن ضيع من استرعاه اللهُ أو خانهم أو ظلمهم، فقد توجه إليه الطلب بمظالم العباد يوم القيامة، فكيف يقدر على التحلل من ظلم أمة عظيمة؟ ومعنى: "حرم اللهُ عليه الجنة". أي: أنفذ عليه الوعيد، ولم يُرض عنه المظلومين. ونقل ابن التين عن الداودي بأن هذا ورد في حق الوالي الكافر؛ لأن المؤمن لا بد له من نصيحة. قال المصنف (¬3) رحمه الله تعالى: وهذا احتمال بعيد والتعليل مردود؛ فإن الكافر قد يكون ناصحًا فيما تولاه ولا يمنعه ذلك الكفر. انتهى. ومن طالع التواريخ ورأى نصيحة كثير من الأكاسرة والقياصرة وغيرهم من الملوك الكفرة لرعاياهم وحمايتهم عن المظالم وقيامهم بحفظ ممالكهم والذب عنها تحقق ما قاله المصنف. وقد روي مثل هذا الحديث [عن] (أ) غير معقل بن يسار. أخرج ¬

_ (أ) في ب، جـ: من. والمثبت يقتضيه السياق.

الطبراني (¬1) في "الكبير" من وجه آخر عن الحسن قال: قدم علينا عبيد الله بن زياد أميرًا أمره علينا معاوية غلامًا سفيهًا يسفك الدماء سفكًا شديدًا، وفينا عبد الله بن مغفل المزني، فدخل عليه ذات يوم فقال له: انته عمَّا أراك تصنع. فقال له: وما أنت وذاك؟! قال: ثم خرج إلى المسجد، فقلنا له: ما كنت تصنع بكلام مثل هذا السفيه على رءوس الناس؟ فقال: إنه كان عندي علم فأحببت (أ) ألا أموت حتى أقول به على رءوس الناس. ثم قام، فما لبث أن مرض مرضه الذي توفي فيه، فأتاه عبيد الله بن زياد يعوده، فذكر نحو حديث الباب. ويحتمل أن القصة وقعت للصحابيين جميعًا. وفي الباب أحاديث كثيرة؛ أخرج مسلم (¬2): "ما من أمير يلي أمور المسلمين لا يجهد لهم ولا ينصح لهم إلا لم يدخل معهم الجنة". ورواه الطبراني (¬3) وزاد: "كنصيحته وجهده لنفسه". والطبراني (¬4) [بسند] (ب). رواته ثقات إلا واحدًا اختلف فيه: "من ولي من أمور المسلمين شيئًا فغشهم فهو في النار". والطبراني (¬5) بإسناد حسن: "ما من إمام ولا وال بات ليلة ¬

_ (أ) في ب: وأحببت. (ب) في ب، جـ: سند. والمثبت يقتضيه السياق.

سوداء غاشًّا لرعيته إلَّا حرم الله عليه الجنة". وفي رواية (¬1) له: "ما من إمام يبيت غاشا لرعيته إلا حرم الله عليه الجنة، وعَرْفها يوجد يوم القيامة من مسيرة سبعين عامًا". وغير ذلك من الوعيد الشديد الذي تُوعّد به من كفر بالله سبحانه وتعالى، نسأل الله تعالى السلامة من الأعمال المردية، والأهواء المخزية، بمنِّه ورحمته. 1253 - وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "اللهم من ولي من أمر أمتي شيئًا فشق عليهم فاشقق عليه". أخرجه مسلم (¬2). قوله: "فشق عليهم". أي: أدخل عليهم المشقة، أي المضرة. قال صاحب "العين" (¬3): تقول: شق الأمر عليك مشقة. أي: أضَر بك. وقوله: "فاشقق عليه". أي اجعل جزاءه من جنس عمله جزاءً وفاقًا، وتمام الحديث: "ومن ولي من أمر أمتي شيئًا فرفق بهم فارفق به". رواه أبو عوانة (¬4) في "صحيحه"، وقال فيه: "ومن ولي منهم شيئًا فشق عليهم فعليه بَهلة الله". قالوا: يا رسول الله، وما بهلة الله؟ قال: "لعنة الله". والحديث يدل على أنه يجب على الوالي تيسير الأمر على من وليه، والرفق بهم، ومعاملتهم بالعفو والصفح، وإيثار الرخصة على العزيمة في حقهم؛ لئلا ¬

_ (¬1) الطبراني -كما في الترغيب والترهيب 3/ 177، ونصب الراية 1/ 333، ومجمع الزوائد 5/ 212، 213. (¬2) مسلم، كتاب الإِمارة، باب فضيلة الإمام العادل وعقوبة الجائر. . . 3/ 1458 ح 1828/ 19. (¬3) كما في الفتح 13/ 130. (¬4) أبو عوانة 4/ 380 ح 7023.

يدخل عليهم المشقة. وقد عند بعض العلماء مشقة الوالي على من وليه من الكبائر، وهو صريح حديث أبي عَوانة؛ فإن اللعنة إنما تكون على من فعل الكبيرة. والله أعلم. 1254 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا قاتل أحدكم فليجتنب الوجه". متفق عليه (¬1). 1255 - وعنه، أن رجلًا قال: يا رسول الله، أوصني. قال: "لا تغضب". فردد مرارًا. قال: "لا تغضب". أخرجه البخاري (¬2). قوله: "إذا قاتل". وفي رواية لمسلم (¬3): "إذا ضرب أحدكم". وفي رواية (¬4): "فلا يلطمن الوجه". وفي رواية (¬5): "إذا قاتل أحدكم أخاه فليجتنب الوجه فإن الله خلق آدم على صورته". الحديث فيه دلالة على حرمة الوجه زيادة على سائر البدن، وأنه يترقى عن أن يصاب بضرب أو لطم ولو في حد، وذلك لأن الوجه لطيف مجمع المحاسن، وأعضاؤه نفيسة لطفة، وأكثر الإدراك بها، فقد يبطلها ضرب الوجه، وقد ينقصها، وقد يشوه الوجه، والشَّين فيه فاحش؛ لأنه بارز ظاهر لا يمكن ستره، ومتى أصابه ضرب لا يسلم من شين غالبًا، ويدخل في النهي ¬

_ (¬1) البخاري، كتاب العتق، باب إذا ضرب العبد فليجتنب الوجه 5/ 182 ح 2559 واللفظ له، ومسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب النهي عن ضرب الوجه 4/ 2016 ح 2612. (¬2) البخاري، كتاب الأدب، باب الحذر من الغضب 10/ 519 ح 6116. (¬3) مسلم 4/ 2016 ح 2612/ 112. (¬4) مسلم 4/ 2017 ح 2612/ 114. (¬5) مسلم 4/ 2017 ح 2612/ 115.

ما إذا أراد تأديب الولد أو الزوجة أو العبد؛ فإنه يجب اجتناب الوجه. والتعليل بقوله: "فإن الله خلق آدم على صورته". أي: صورة هذا المضروب، كما هو ظاهر عبارة مسلم. يعني أن الوجه الذي في المضروب هو على نحو ما خلق آدم عليه، وآدم خلق في أكمل الأحوال وأشرف الصفات، فينبغي احترامه، والضمير في: "صورته". يعود إلى المضروب. وقالت طائفة: يعود إلى آدم. والمعنى غير مناسب. وقالت طائفة: يعود إلى الله تعالى. ويكون المراد بالإضافة التشريف والاختصاص، كقوله: {نَاقَةَ اللَّهِ} (¬1). وكما يقال في الكعبة: بيت الله. وبعضهم جعله من أحاديث الصفات التي قال فيها جمهور السلف: نؤمن بأن ظاهرها غير مراد، ولها معنى يليق بها في حق الله تعالى وإن خفي علينا، وأنه ليس كمثله شيء. وهو أسلمُ من التكلف. قال المازري (¬2): هذا الحديث بهذا اللفظ ثابت، ورواه بعضهم: "إن الله خلق آدم على صورة الرحمن" (¬3). وهذا ليس بثابت عند أهل الحديث، وكأن من رواه رواه بالمعنى الذي وقع له، وغلط في ذلك. واللهُ أعلم. وقاله: أن رجلًا قال: يا رسول الله، أوصني. الرجل جاء في رواية أحمد وابن حبان والطبراني (¬4) مفسرًا ومبهمًا، والتفسير بتسميته جارية - ¬

_ (¬1) الآية 73 من سورة الأعراف. (¬2) ينظر شرح مسلم 16/ 166. (¬3) الآجري في الشريعة ص 315، والبيهقي في الأسماء والصفات ص 291، وينظر الفتح 5/ 183. (¬4) أحمد 3/ 484، 5/ 370، وابن حبان 12/ 502 - 504 ح 5689، 5690، والطبراني 2/ 292 - 295 ح 2093 - 2107.

بالجيم- بن قدامة، ويحتمل أن يفسر المبهم بغيره، فقد جاء في رواية للطبراني (¬1) من حديث سفيان بن عبد الله الثقفي: قلت: يا رسول الله، قل لي قولًا أنتفع به وأقلل. قال: "لا تغضب ولك الجنة". وفي حديث ابن عمر عند أبي يعلى (¬2): قلت: يا رسول الله، قل لي قولًا لعلي أعقله. وجاء في حديث أبي الدرداء (¬3): دلني على عمل يدخل الجنة. وفي حديث ابن [عمرو] (أ) عند أحمد (¬4): ما يباعدني من غضب الله. زاد أبو كريب عن أبي بكر بن عياش عند الترمذي (¬5): ولا تكثر علي؛ لعلي أعيه. وقوله: فردد مرارًا. بيَّن عثمان بن أبي شيبة (¬6) في روايته عددها قال: "لا تغضب". ثلاثًا. وقوله: "لا تغضب". قال الخطابي (¬7): [اجْتَنِب] (ب) أسباب الغضب ولا تتعرض لما يجلبه، وأمَّا نفس الغضب فلا يتأتى النهي عنه؛ لأنه أمر ¬

_ (أ- أ) في ب: جـ: عمر. والمثبت من الفتح 10/ 520. (ب) في ب، جـ: النهي عن اجتناب. والمثبت من الفتح.

جبلي. وقال غيره: وقع النهي عما كان من قبيل ما يكتسب فيدفعه بالرياضة. وقيل هو نهي عما ينشأ عنه الغضب، وهو الكبر؛ لكونه يقع عند مخالفة أمر يريده فيحمله الكبر على الغضب، فالذي يتواضع حتى تذهب عنه عزة النفس يسلم من شر الغضب. وقيل: معناه: لا تفعل ما يأمرك به الغضب. وإنما اقتصر النبي - صلى الله عليه وسلم - على هذه الخصلة، قال بعضهم: لعل السائل كان غضوبًا، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يأمر كل أحد بما هو أولى به. وقال ابن التين (¬1): جمع النبي - صلى الله عليه وسلم - في قوله: "لا تغضب". خير الدنيا والآخرة؛ لأن الغضب يئول إلى التقاطع ومنع الرفق، ويئول إلى أن يؤذي الذي غضب عليه بما لا يجوز، فيكون نقصًا في دينه. انتهى. ويحتمل أن يكون من باب التنبيه بالأعلى على الأدنى، لأن الغضب ينشأ عن النفس والشيطان، فمن جاهدهما حتى يغلبهما مع ما في ذلك من شدة المعالجة، كان لقهر نفسه عن غير ذلك بالأولى. وقد تقدم (¬2) قريبًا كلام حسن يتعلق بالغضب. 1256 - وعن خولة الأنصارية رضي الله عنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن رجالًا يتخوضون في مال الله بغير حق، فلهم النار يوم القيامة". أخرجه البخاري (¬3). ¬

_ (¬1) الفتح 10/ 520. (¬2) تقدم ص 262 - 265. (¬3) البخاري، كتاب فرض الخمس، باب قوله تعالى: {فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ}. 6/ 217 ح 3118.

الحديث فيه دلالة على أنه يحرم على من لم يستحق شيئًا من مال الله تعالى -بألا يكون من المصارف التي عين سبحانه وتعالى- أن يأخذه ويتملكه، وأن ذلك من المعاصي الموجبة للنار، ويَدْخل في هذا النوع من كان بيده مال الله تعالى من إمام أو وال، وصرفه في غير مصارفه اتباعًا لتشهِّيه واختياره. 1257 - وعن أبي ذر رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما يروي عن ربه عزَّ وجلَّ قال: "يا عبادي، إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرمًا، فلا تظالموا". أخرجه مسلم (¬1). قوله: "حرمت الظلم". التحريم في اللغة بمعنى المنع من الشيء. وفي الشرع: ما يستحق فاعله العقاب. وهذا ممتنع في حق الله تعالى، ولكنه مراد به أنه سبحانه متقدس ومتنزه عن الظلم، فأطلق عليه التحريم؛ لمشابهته الممنوع بجامع عدم الشيء (¬2)، والظلم مستحيل (أ) في ¬

_ (أ) في هامش ب: الأوضح أن يعدل: والظلم مستحيل في حقه حكمة؛ لأنه قبيح، وهو منزه عنه كما لا يخفى على المتأمل للعواقب الكلامية. قلت: وقال شيخ الإسلام رحمه الله: الأمر الذي لا يمكن القدرة عليه لا يصلح أن يمد الممدوح بعدم إرادته، وإنما يكون المدح بترك الأفعال إذا كان الممدوح قادرًا عليها، فعلم أن الله قادر على ما نزه نفسه عنه من الظلم، وأنه لا يفعله. الفتاوى الكبرى 1/ 46، وينظر منهاج السنة 1/ 452، 2/ 310، 6/ 403.

حقه تعالى؛ لأن الظلم هو التصرف في غير الملك، أو مجاوزة الحد، وكلاهما مستحيل في حق الله تعالى؛ لأنه المالك للعالم كله، السلطان المتصرف كيف شاء. وقوله: "فلا تظالموا". وفي رواية (¬1): "فلا تَظْلِموا". و: "تظالموا". بفتح التاء، مضارع بحذف حرف المضارعة، والمراد: لا يظلم بعضكم بعضًا. وهو توكيد لقوله: "وجعلته بينكم محرمًا". وزيادة في تغليظ تحريمه. 1258 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "أتدرون ما الغيبة؟ ". قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: "ذكرك أخاك يما يكره". قيل: أفرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال: "إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فقد بهته". أخرجه مسلم (¬2). قوله: "ما الغيبة؟ ". هي بكسر الغين المعجمة. ¬

_ = نفسه سبحانه تستلزم إرادته لما كتبه ومحبته له ورضاه به، وتحريمه على نفسه يستلزم بغضه لما حرمه وكراهته له وإرادة ألا يفعله، فإِ ن محبته للفعل تقتضي وقوعه منه، وكراهته لأن يفعله تمنع وقوعه منه. بدائع الفوائد 2/ 391. وينظر مفتاح دار السعادة 2/ 106، 108. (¬1) عبد الرزاق 11/ 182 ح 20272، والبيهقي في الشعب 5/ 405 ح 7088. (¬2) مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم الغيبة 4/ 2001 ح 2589.

الحديث فيه تعريف الغيبة وبيان حقيقتها، وقد اختلف العلماء في حدها وفي حكمها؛ فقال الراغب (¬1): هي أن يذكر الإنسان عَيْبَ أخيه من غير محوج إلى ذكر ذلك. وقال الغزالي (¬2): هي أن تذكر أخاك بما يكرهه لو بلغه. وقال ابن الأثير في "النهاية" (¬3): هي أن تذكر الإنسان في غيبته بسوءٍ وإن كان فيه. وقال النووي في "الأذكار" (¬4) تبعًا للغزالي: ذكر المرء بما يكره؛ سواء كان في بدن الشخص، أو دينه، أو دنياه، أو نفسه، أو خَلقه، أو خُلقه، أو ماله، أو والده، أو ولده، أو زوجه، أو خادمه، أو ثوبه، أو حركته، أو طلاقته، أو عبوسه، أو غير ذلك مما يتعلق به ذكر سوءٍ، سواء ذكر باللفظ، أو بالإشارة، أو بالرمز. قال النووي (¬5): ومن ذلك التعريض في كلام المصنفين، كقولهم: قال من يدعي العلم. أو: بعض من ينسب إلى الصلاح. أو نحو ذلك مما يفهم السامع المراد به. ومنه قولهم عند ذكره: الله يعافينا، الله يتوب علينا، نسأل الله السلامة. ونحو ذلك، فكل ذلك من الغيبة. ¬

_ (¬1) المفردات ص 367. (¬2) إحياء علوم الدين 3/ 1599. (¬3) النهاية 3/ 399. (¬4) الأذكار ص 784. (¬5) الأذكار ص 790.

وظاهر الحديث أن الغيبة ليس من شرطها أن تكون في حق الغائب، فإن قوله: "ذكرك أخاك بما يكره". يشمل الحاضر والغائب، وقد ذهب إلى هذا جماعة. ويكون هذا الحد الأثري لها بيان معناها الشرعي. وأما اللغوي، فالاشتقاق من الغيب يدل على أنها لا تكون إلا في الغيبة. ورجح تقي الدين وغيره، أن معناها الشرعي موافق للغوي، وروى حديثًا مسندًا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "ما كرهت أن تواجه به أخاك فهو غيبة" (¬1). فيكون هذا مخصصًا لحديث أبي هريرة. قال ابن فورك في "مشكل القرآن" في تفسير "الحجرات": الغيبة ذكر العيب بظهر الغيب. وقال سليم الرازي في "تفسيره": الغيبة أن يذكر الإنسان من خلفه بسوءٍ وإن كان فيه. وكذا ذكر الزمخشري (¬2)، وأبو نصر القشيري في "تفسيره"، والمنذري (¬3)، والكرماني (¬4)، وابن خميس (أ) في جزءٍ مفرد له في الغيبة، والإمام المهدي صرح بذلك في "الأزهار"، ولعل المستند هو الحديث المتأيد بالاشتقاق. وأما ذكر العيب في الوجه فهو كذلك حرام؛ لما فيه من الأذى. وذكر الأخ يدل على أن من لم يكن أخًا فلا يكون عيبه غيبة، وأما الكافر الحربي فإيذاؤه جائز، إلا أن يكون بانتقاص الخلقة، فالأولى عدم الجواز؛ لأن في ذلك انتقاصًا بفعل خالقها الذي أحسن كل ¬

_ (أ) في جـ: حسن.

شيء خلقه، وأمَّا الذمي فحكمه حكم المسلم في تحريم الإيذاء في العرض، وقد روى ابن حبان (¬1) في "صحيحه" أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من سَمَّع يهوديًّا أو نصرانيا فله النار". ومعنى: "سَمَّع"، أسمعه ما يؤذي. وهذا دليل واضح في التحريم للأذى. قال الغزالي: وأمَّا المبتدع فإن كفر ببدعته فكالحربي، وإلا فكالمسلم، وأما ذكره ببدعته فليس مكروهًا. وقال ابن المنذر: في الحديث دلالة على أن من ليس بأخ؛ كاليهودي والنصراني وسائر أهل الملل ومن قد أخرجته بدعته عن الإسلام، لا غيبة له. انتهى. وأمَّا غيبة مرتكب الكبيرة فقد تقدم الكلام فيه قريبًا، ويجوز أن يقال: إن قوله: "أخاك". ليس للتقييد، وإنما هو لترقيق المخاطب وتعريفه بخطئه، فإن الأخ لا يرضى بنقص أخيه، فيكون النهي عامًّا، ولا يخرج منه إلا لمخصص، كما هو القاعدة المعروفة. وقوله: "بما يكره". ظاهره أنه إذا كان المعيب لا يكره ما ذكر فيه من العيب، كما قد يوجد فيمن يتصف بالخلاعة والمجون، أنه يجوز، ولا [بُعد] (أ) في جوازه، إلا أن يكون بانتقاص الخلقة، فالظاهر أنه لا يجوز؛ لما عرفت. وقوله: "فقد بَهَته". بفتح الباء الموحدة وفتح الهاء المخففة، يعني: قلت فيه البهتان. وهو الباطل، وأصل البهت أن يقال له الباطل في وجهه، فاستعمل في معنى قول الباطل وإن كان في الغيبة، مجازًا مرسلًا من استعمال المقيد في المطلق، وهو كما قال الله سبحانه وتعالى: {وَالَّذِينَ ¬

_ (أ) غير منقوطة في ب، وفي جـ: يعد. ولعل المثبت هو الصواب.

يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} (¬1). والحديث فيه دلالة على تفسير الغيبة المنهي عنها في قوله تعالى: {وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا} (¬2). واختلف العلماء هل الغيبة من الكبائر أم من الصغائر؟ فنقل أبو عبد الله القرطبي (¬3) في "تفسيره" الإجماع على أن الغيبة من الكبائر؛ لأن حد الكبيرة صادق عليها، ونص عليه الشافعي فيما نقله عنه الكَواشي في كتابه المعروف بـ "آداب القضاء" من القديم، واستدل بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إن دماءكم وأعراضكم وأموالكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في بلدكم هذا، في شهركم هذا" (¬4). وجزم به الأستاذ أبو إسحاق الإسفرايني في "عقيدته"، في الفصل المعقود للكبائر، وكذا الحبُلي في "شرح التنبيه"، وكذلك الكواشي في "تفسيره"، وهو معدود من الشافعية. وقال: إنها من عظائم الذنوب. وذهب الغزالي وصاحب "العدة" إلى أنها من الصغائر. قال الأذرعي: لم أر من صرح بأنها من الصغائر غيرهما. وذهب الإمام المهدي وغيره من الهدوية إلى أنها محتملة للكبر والصغر، على قاعدة المعتزلة أن ما لم يقطع بكبره فهو محتمل في حق غير الأنبياء. وذهب الجلال البلقيني إلى أنها من الصغائر. قال: لأن الله تعالى شبهها بكراهية أكل لحم الميت، فقال تعالى: {أَيُحِبُّ ¬

_ (¬1) الآية 58 من سورة الأحزاب. (¬2) الآية 12 من سورة الحجرات. (¬3) تفسير القرطبي 16/ 337. (¬4) تقدم في 5/ 358، 359.

أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا} (¬1). قال بعض العلماء: قيل: معناه أنهم لا بد أن يجيبوا بأن يقولوا: لا أحد. فقال لهم تعالى: {فَكَرِهْتُمُوهُ}. وأما الأحاديث فلم أر فيها ذكر [المغتاب] (أ) ولا وعيد العذاب. وقد روى أحمد وأبو داود (¬2) عن أنس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لما عرج بي مررت بقوم لهم أظفار من نحاس يخمشون وجوههم، فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم". انتهى. وهذا لا يدل على أنها كبيرة، إنما يدل على تحريمها والتنفير منها: الزجر عنها. انتهى كلام الجلال. ويجاب عليه (ب) بأن الآية الكريمة تدل على المبالغة في التنزه عن الغيبة، كما أن الطبع ينفر ويتنزه عن إساغة لحم الأخ ميتًا، وهي وإن لم يذكر فيها صريح الوعيد بالنار فهو متضمن. قال الزركشي: والعجب ممن يعد أكل الميتة كبيرة ولا يعد الغيبة كذلك، والله تعالى أنزلها منزلة أكل لحم الآدمي، وأما ما ذكر أن الأحاديث لم يذكر فيها وعيد المغتاب، فحديث المعراج صريح في العقاب، وأي عقاب أعظم من ذلك؟. وفي الحديث من وعيد المغتاب الكثير المهول لذلك أشد الهول. وقد ¬

_ (أ) في ب، جـ: الغيبة. والمثبت ما سيأتي بعده في الرد على كلامه. (ب) في جـ: عنه.

ورد أيضًا في حديث القبر المعذب صاحبه ما أخرجه أحمد وغيره (¬1) بسند صحيح عن أبي [بكرة] (أ) رضي الله عنه، قال: بينا أنا أماشي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو آخذٌ بيدي ورجل عن [يساره] (ب)، فإذا نحن بقبرين أمامنا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنهما ليعذبان، وما يعذبان في كبيرة -وبكى- فأيُّكم يأتيني بجريدة؟ ". فاستبقنا فسبقته، فأتيته بجريدة فكسرها نصفين، فألقى على هذا القبر قطعة وألقى على ذا القبر قطعة، قال: "إنه يهون عليهما ما كانتا رطبتين، وما يعذبان إلا في الغيبة والبول". وأخرج أحمد (¬2) بسند رواته ثقات إلا عاصمًا (¬3) أحد القراء السبعة قَبِلَه جماعة، ورده آخرون، وحديثه حسن، أنه - صلى الله عليه وسلم - أتى على قبر يعذب صاحبه، فقال: "إن هذا كان يأكل لحوم الناس". وأخرج ابن جرير (¬4) عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقيع الغرقد، فوقع على قبرين ثريين، فقال: "أدفنتم فلانًا وفلانة؟ " -أو قال: "فلانًا وفلانا"- قالوا: نعم يا رسول الله. قال: "لقد أقعد فلان الآن فضرب". ثم قال: "والذي نفسي بيده لقد ضرب ضربة ما بقي منه عضو إلا انقطع، ولقد تطاير قبره نارًا، ولقد صرخ صرخةً سمعها ¬

_ (أ) في ب، جـ: بكر. والمثبت من مصدري التخريج. (ب) في ب، جـ: يساري. والمثبت من مصدري التخريج.

الخلائق إلا الثقلين؛ الإنس والجن، ولولا تمرُّغ (أ) في قلوبكم وتزيدكم في الحديث لسمعتم ما أسمع" (ب). قالوا: يا رسول الله، صلى الله عليك، وما ذنبهما؟ قال: "أما فلان، فكان (جـ) لا يستبرئ من البول، وأما فلان -أو قال: فلانة- فإنه كان يأكل لحوم الناس". ورواه من طريق ابن جرير أحمد (¬1) لكن بلفظ: "بالنميمة". وزاد فيه قال: يا رسول الله، حتى متى هما يعذبان؟ قال: "غيب لا يعلمه إلا الله تعالى". وقد يؤخذ من إيراد هذا الحديث في الغيبة، أن الغيبة نوع من النميمة، إذا قيل باتحاد القصة؛ وذلك لأن النميمة هي إسماع المقول فيه ما قاله القائل، ولو سمعه القائل لكره أن ينقل عنه ذلك، فقد صدق: "ذكرك أخاك بما يكره". قال المصنف (¬2) رحمه الله تعالى: إن الغيبة قد توجد في بعض صور النميمة؛ وهو أن يذكره في غيبته ممَّا يسوءه قاصدًا بذلك الإفساد بينه وبين السامع، فيحتمل أن تكون قصة الذي كان يعذب في قبره كانت كذلك، ويحتمل أن تكون القصة متعددة، وأن عذاب القبر تكون من أسبابه الغيبة والنميمة، فبزيادة قيد الإفساد تكون الغيبة أعم مطلقًا، إذ لا يشترط فيها قصد الإفساد، وإذا قلنا: إن الغيبة لا تكون إلا في الغيب يكون ¬

_ (أ) كذا في ب، جـ، وحاشية نسخة من مسند أحمد، وفي مصدر التخريج: تمريج، وفي نسخ من مسند أحمد: تمريغ. (ب) زاد في مصدر التخريج: ثم قال: "الآن يضرب هذا، الآن يضرب هذا". ثم قال: والذي نفسي بيده، لقد ضرب ضربة ما بقي منه عظم إلا انقطع، ولقد تطاير قبره نارًا، ولقد صرخ صرخة سمعها الخلائق إلا الثقلين من الجن والإنس، ولولا تمريج في قلوبكم، وتزيدكم في الحديث لسمعتم ما أسمع". (جـ) في جـ: فإِنه كان.

بينهما عموم وخصوص من وجه. واعلم أنها قد تجب الغيبة أو تباح لغرض صحيح شرعي لا يتوصل إليه إلا بها، وذلك لستة أسباب: الأول، التظلم، فيجوز لمن ظُلِمَ أن يشكو ظلامته على من له قدرة على إزالتها أو تخفيفها. الثاني، الاستعانة على تغيير المنكر بذكره لمن يظن قدرته على إزالته، فيقول له: فلان فعل كذا. في حق من لم يكن مجاهرًا بالمعصية. الثالث، الاستفتاء بأن يقول لمفت: فلان ظلمني بكذا، فما طريقي إلى الخلاص؟ الرابع، التحذير للمسلمين من الاغترار بالمذكور؛ كجرح الرواة، والشهود، والمتصدرين لإفتاءٍ أو إقراءٍ مع عدم الأهلية (أ). الخامس، ذكر من يجاهر بفسقه أو بدعته؛ كالمكاسين وذوي الولايات الباطلة، فيجوز ذكرهم بما يجاهروا به دون غيره، وقد تقدم. السادس، التعريف بالشخص بما فيه من العيب؛ كالأعور والأعرج والأعمش وغير ذلك، ولا يراد به نقصه وغيبته. وهذه الأسباب الستة مجمع عليها، وقد نظمها ابن أبي شريف، فقال: الذم ليس بغيبة في ستة ... مُتَظَلِّم ومُعرِّف ومحذرِ ولمُظهر فسقًا ومستفت ومَن ... طلَب الإعانة في إزالة منكرِ ودلت عليها الأحاديث، كالذي استأذن عليه - صلى الله عليه وسلم -، فقال: "ائذنوا له، بئس أخو العشيرة". متفق عليه (¬1). وروى البخاري (¬2) حديث: "ما أظن ¬

_ (أ) في ب: أهلية.

فلانًا وفلانًا يعرفان من ديننا شيئًا". قال الليث: كانا منافقين، هما مخرمة بن نوفل بن عبد مناف القرشي، وعُيَيْنة بن حصن الفزاري. وقوله: "أما معاوية فصعلوك لا مال له، وأما أبو الجهم فلا يضع العصا عن عاتقه" (¬1). وقصة زيد بن أرقم يرفعه ما قال عبد الله بن أبي: لئن رجعنا إلى المدينة (¬2). وشكاية هند من أبي سفيان بأنه رجل شحيح (¬3). لطيفة: ذكر بعضهم مناسبة كون النميمة والبول سببين في عذاب القبر؛ وذلك أن البرزخ مقدمة للآخرة، وأول ما يقضى فيه يوم القيامة من حقوق الله تعالى الصلاة، ومن حقوق العباد الدماء. ومفتاح الصلاة التطهر من الحدث والخبث، ومفتاح الدماء الغيبة والسعي بين الناس بالنميمة، بنشر الفتن التي تسفك الدماء بسببها. 1259 - وعنه رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تحاسدوا، ولا تناجشوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، ولا يبع بعضكم على بيع بعض، وكونوا عباد الله إخوانًا، المسلم أخو المسلم، لا يظلمه، ولا يخذله، ولا يحقره، التقوى ها هنا -ويشير إلى صدره ثلاث مرات- بحسب امرئ من الشر أن يحقِر أخاه، كل المسلم على المسلم حرام، دمه، وماله، وعرضه". أخرجه مسلم (¬4). ¬

_ (¬1) تقدم مختصرًا في ح 824. (¬2) البخاري 8/ 644 ح 4900، ومسلم 4/ 2140 ح 2772. (¬3) تقدم ح 943. (¬4) مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم ظلم المسلم وخذله واحتقاره ودمه وعرضه وماله 4/ 1986 ح 2564/ 32.

الحديث أخرجه مسلم من طرق (أ) بزيادة ونقصان، وهذه الطريق هي أتم الطرق، إلا أن في بعض رواياته: "ولا تنافسوا" (¬1). عوض: "ولا تناجشوا". وكذا في جميع الروايات عن مالك بلفظ: "ولا تنافسوا". بالفاء والسين المهملة. وكذا أخرجه الدارقطني (¬2) في "الموطآت"، وكذا ذكره ابن عبد البر (¬3) من رواية يحيى بن يحيى الليثي وغيره عن مالك. وفي جميع نسخ "البخاري" (¬4) بلفظ: "ولا تناجشوا". والحاصل أنه وقع الاختلاف في هذه اللفظة من الرواة عن أبي هريرة، وكذلك وقع الاختلاف من الرواة عن مالك، ولعل اللفظين واقعان، إلا أن الراوي قد يختصر الرواية، وقد يذكر أحد اللفظين ويترك الآخر. فقوله: "لا تحاسدوا". المحاسدة لا تكون إلا بين اثنين فصاعدًا، ويكون النهي عن وقوع الحسد من جانبين، وكذلك الحسد من جانب واحد بالأولى؛ لأنه إذا ذم مع وقوعه مع المكافأة المتضمنة جزاء سيئة سيئة مثلها، فمع الانفراد بطريق الأولى. وقد مر الكلام على الحسد قريبًا (¬5). وققوله: "ولا تناجشوا". بالجيم والشين المعجمة، من النجش، وقد مر ¬

_ (أ) في جـ: طريق.

الكلام عليه في البيع (¬1). وأما رواية: "ولا تنافسوا". من المنافسة، والتنافس الرغبة في الشيء ومحبة الانفراد به (أ)، تقول: نافست في الشيء منافسة ونفاسًا. إذا رغبتَ فيه. والمعنى النهي عن الرغبة في الدنيا وأسبابها وحظوظها. وقوله: "ولا تباغضوا". أي: لا تتعاطوا أسباب البغض؛ لأن البغض لا يكتسب (ب) ابتداءً. وقيل: المراد النهي عن الأهواء المضلة المفضية للتباغض. والأَوْلَى أنه لأعم من هذا، فقد يكون للهوى، وقد يكون لظن السوء، وقد يكون للحسد وغير ذلك. والتباغض: تفاعل، وفيه ما في قوله: "لا تحاسدوا". والمذموم منه ما كان في غير الله تعالى، فأما ما كان لله تعالى فهو واجب يثاب فاعله عليه؛ لأن في ذلك حقيقة الإيمان، أن تبغض في الله وأن تحب في الله. وقوله: "ولا تدابروا". قال الخطابي (¬2): أي: لا تهاجروا، فيهجر أحدكم أخاه، مأخوذ من تولية الرجل الآخر دبره إذا أعرض عنه حين يراه. وقال ابن عبد البر (¬3): قيل للإعراض: مدابَرة. لأن من أبغض أعرض، (جـ ومن أعرض جـ) ولى دبره، والمحب بالعكس. وقيل: معناه: لا يستأثر أحدكم على ¬

_ (أ) ساقطة من: جـ. (ب) في جـ: يكسب. (جـ - جـ) ساقط من: جـ.

الآخر. وقيل للمستأثر: مستدبر. لأنه يولي دبره حين يستأثر بشيء دون الآخر. وقال [المازري] (أ) (¬1): معنى التدابر المعاداة؛ تقول: دابرته. أي: عاديتُه. وحكى القاضي عياض (¬2) أن معناه: لا تخاذلوا -بالخاء (جـ) المعجمة والذال المعجمة- ولكن تعاونوا. والأول أولى. وقد فسره مالك في "الموطأ" (¬3) بأخص منه، فقال إذ ساق الحديث عن الزهري: ولا أحسب التدابر إلا الإعراض عن السلام، يدبر عنه بوجهه. وكأنه أخذه من بقية الحديث: "يلتقيان فيُعرض هذا ويُعرض هذا، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام" (¬4). فإنه يفهم أن صدور السلام منهما أو من أحدهما يرفع ذلك الإعراض, ويؤيده ما أخرجه الحسين بن الحسن المروزي (¬5) في "زيادات البر والصلة" لابن المبارك بسند صحيح، عن أنس، قال: التدابر التصارم. وقوله: "ولا بيع بعضكم". تقدم الكلام عليه في البيع (¬6). وقوله: "وكونوا عباد الله إخوانًا". "عبادَ اللهِ" منصوب على أنه منادًى محذوف حرف النداء، أو على الاختصاص، بتقدير: أخص أو ¬

_ (أ) في ب، جـ: الماوردي. والمثبت من الفتح. (ب) زاد بعده في جـ: أي.

أعني. والمعنى: أنكم إذا تركتم هذه الخصال المتقدمة المنهي عنها صرتم إخوانًا، وإذا اتصفتم بهاكنتم أعداءً. والمراد بقوله: "كونوا" بمعنى: اكتسبوا ما تصيرون به إخوانًا مما سبق ذكره وغيره من الأمور المقتضية للتآخي إثباتًا ونفيًا. وجملة: "كونوا". تشبه التعليل لما تقدم في قوة: اتركوا (أ) هذه المنهيات لتكونوا إخوانًا. وقوله: "عباد الله". إشارة إلى أنكم عبيد الله، فحقكم أن تتواخوا بذلك. وقال القرطبي (¬1): المعنى: كونوا كإخوان النسب في الشفقة والرحمة والمحبة والمواساة والعاونة والنصيحة. وفي رواية لمسلم (¬2) زيادة: "كما أمركم اللهُ". أي: كما أمركم الله بهذه الأوامر المقدم ذكرها، فإنها جامعة لعاني الأخوة. ونسبتها إلى الله؛ لأن الرسول بلغ عن الله. ويحتمل أن يكون أراد بقوله: "كما أمركم الله". الإشارة إلى قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} (¬3). فإنه خبرٌ عن الحالة التي شرعت للمؤمنين، فهو بمعنى الأمر. قال ابن عبد البر (¬4): تضمن الحديث تحريم بغض المسلم، والإعراض عنه، وقطيعته بعد صحبته، بغير ذنب شرعي، والحسد له على ما أنعم الله به ¬

_ (أ) في جـ: أو تركوا.

عليه، وأن تعامله معاملة الأخ النسيب (أ) ولا تبحث عن معايبه، ولا فرق في ذلك بين الحاضر والغائب، والميت والحي. وقوله: "المسلم أخو المسلم". أي أنهما كالأخوين بجامع الإسلام. ولؤله: "لا يظلمه". قد مر تفسير الظلم (¬1)، والظلم حرم (ب) في حق المسلم والكافر، وإنما خص المسلم بالذكر لمزيد شرف الإسلام. وقوله: "ولا يخذله". قال العلماء: الخذل ترك الإعانة والنصر. ومعناه: إذا استعان به في دفع ظالم ونحوه لزمه إعانته إذا أمكنه ولم يكن له عذر شرعي. وقوله: "ولا يَحْقِره". هو بفتح الياء وسكون الحاء المهملة والقاف، أي: لا يحتقره ولا يتكبر عليه ولا يستصغره ويستقله. قال القاضي عياض رحمه الله تعالى (¬2): ورواه بعضهم: "لا يُخْفِره". بضم الياء وبالخاء المعجمة وبالفاء، أي: لا يغدِر بعهده، ولا ينقض أمانه. قال: والصواب المعروف هو الأول، وهو الموجود في "كتاب مسلم" بلا خلاف، وروي: "ولا يحتقره". وهذا يرد الرواية الثانية. وقوله: "التقوى ها هنا". إلخ. يعني أن الأعمال الظاهرة لا يحصل بها ¬

_ (أ) في ب: النسب. (ب) في ب: يحرم.

التقوى، وإنما تحصل بما يقع في القلب من عظمة الله تعالى وخشيته ومراقبته، وأما مجرد العمل الظاهر، فإنه قد يحصل مع النفاق والرياء والعجب، ويكون زيادة في عقاب صاحبه. وجاء في رواية لمسلم (¬1): "إن الله لا ينظر إلى أجسامكم ولا إلى صوركم، ولكن ينظر إلى قلوبكم". يعني أن مجازاته سبحانه وتعالى ومحاسبته إنما تكون على ما في القلب دون الصور الظاهرة، ونظر الله تعالى ورؤيته محيطة بكل شيء. ومقصود الحديث أن الاعتبار في هذا كله بالقلب، وهو من نحو قوله - صلى الله عليه وسلم - "ألا إن في الجسد مضعة". الحديث (¬2). واحتج البعض بهذا على أن العقل في القلب لا في الرأس، وقد سبق ذلك (¬3). وقوله: "بحسب امرئ" إلخ. أي: يكفىِ. ولفظ "حسب" مبتدأ، والباء زائدة، و: "أن يحقر أخاه". الخبر، أي أن هذه الخصلة الواحدة تكفي في أن يكون المتصف بها من أهل الشر الذي يستحق به العقاب والنكال. وقوله: "كل المسلم على المسلم" إلخ. أي أن هذه (أ) الثلاثة الأنواع (ب) مستوية في التحريم، والأدلة من الكتاب والسنة والإجماع متضافرة على تحريمها، بل والعقل أيضًا. والله سبحانه أعلم. ¬

_ (أ) في جـ: هذا. (ب) في جـ: أنواع.

1260 - وعن قُطْبة بن مالك قال: كان (أ) رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "اللهم جنبني منكرات الأخلاق والأعمال والأهواء والأدواء". أخرجه الترمذي، وصححه الحاكم واللفظ له (¬1). هو قُطْبة -بضم القاف وسكون الطاء المهملة وفتح الباء الموحدة- بن مالك الثعلبي، ويقال: التغلبي. ويقال: الذبياني. يعني أنه اختلف في نسبه هل هو إلى ثعلبة بالثاء المثلثة والعين المهملة، أو إلى تغلب بالتاء المثناة من فوق والغين المعجمة، كوفي (¬2)، روى عنه يزيد بن عِلاقة، بكسر العين المهملة وتخفيف اللام وبالقاف. وقوله: "اللهم جنبني". أي: باعدني. وقوله: "منكرات الأخلاق". الأخلاق جمع خُلُق، بضم الخاء المعجمة وضم اللام ويجوز سكونها. قال الراغب (¬3): الخلق والخلق -يعني بالضم والفتح- في الأصل بمعنًى، كالشُّرْب والشَّرْب، لكن خص المفتوح بالهيئات والصور المدركة بالبصر، وخص المضموم بالقُوى والسجايا المدركة ¬

_ (أ) في جـ: قال.

بالبصيرة. نتهى. وفي دعائه - صلى الله عليه وسلم -: "اللهم كما حسَّنت خَلقي فحسن خُلُقي". أخرجه أحمد، وصححه ابن حبان (¬1). وفي حديث علي (¬2) رضي الله عنه في دعاء الافتتاح: "واهدني لأحسن الأخلاق لا يهدي (أ) لأحسنها إلا أنت". وقال القرطبي في "الفهم" (¬3): الأخلاق أوصاف الإنسان التي يعامل بها غيره، وهي محمودة ومذمومة؛ فالمحمودة على الإجمال، أن تكون مع غيرك على نفسك، فتنصف منها ولا تنتصف لها، وعلى التفصيل؛ العفو، والحلم، والجود، والصبر، وتحمل الأذى، والرحمة، والشفقة، وقضاء الحوائج، والتودد، ولين الجانب، ونحو ذلك، والمذموم منها ضد ذلك، فقوله: "منكرات الأخلاق". المراد بها ضد محاسن الأخلاق، وهو ضد الأشياء المذكورة؛ لأن المنكر ضد الحسن، والحسن هو المرغوب فيه؛ إما من جهة العقل، وإما من جهة الفرض (ب)، وأكثر (جـ) ما يقال في عرف العامة فيما يدرك بالبصر، وأكثر ما جاء في الشرع فيما يدرك بالبصيرة، والمراد هنا طلب البعد عن كل ما ينكر من الأخلاق شرعًا أو عادة. وقوله: "والأعمال". كذلك يراد به ما كان ينكر من العمل شرعًا أو ¬

_ (أ) في ب: يهدني. (ب) في جـ: العرض. (جـ) في جـ: أكثرها.

عادة. وقوله: "والأهواء". جمع هوى، والهوى ما تشتهيه النفس من غير نظر إلى مقصد يحمل (أ) عليه شرعًا. و: "الأدواء". جمع داء، وهي الأسقام المنفرة التي كان النبي (ب) - صلى الله عليه وسلم - يتعوذ منها؛ كالجذام والبَرَص، أو المُهلِكة، كذات الجنْبِ (¬1)، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يستعيذ من سيئ الأسقام (¬2). 1261 - وعن ابن عباس رضي الله عنه قال: قال رسول الله: - صلى الله عليه وسلم - "لا تمار أخاك، ولا تمازحه، ولا تعده (جـ) موعدًا فتخلفه". أخرجه الترمذي بسند فيه ضعف (¬3). قوله: "لا تمار". من: مَرِي، أي جحده، والمراد هنا الجدال، أي لا تجادل أخاك. وقيل: المراء طعنك في كلام لإظهار خلل فيه لغير غرض سوى تحقير قائله، وإظهار مزيتك عليه. والجدال هو ما يتعلق بإظهار المذاهب وتقريرها، والخصومة لجاج في الكلام ليُستوفى به مال أو غيره، ويكون تارة ¬

_ (أ) في جـ: يحمد. (ب) ساقطة من: ب. (جـ) في جـ: تعدن.

ابتداء، وتارة اعتراضًا. والراء لا يكون إلا اعتراضًا، وقد جاءت أحاديث كثيرة في النهي عن الجدال في القرآن، وأنه كفر (¬1)، وروى الطبراني (¬2) أن جماعة من الصحابة قالوا: خرج علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يومًا ونحن نتمارى في شيء من أمر الدين، فغضب غضبًا شديدًا لم يغضب مثله، ثم انتهرنا فقال: "مهلًا" (أ) يا أمة محمد، إنما هلك من كان قبلكم بهذا، ذروا الراء لقلة خيره، ذروا الراء فإن المؤمن لا يماري، ذروا المراء فإن المماري قد تمت خسارته، ذروا المراء فكفى (ب) إثمًا ألا تزال مُمَاريًا، ذروا المراء فإن المماري لا أشفع له يوم القيامة، ذروا المراء فأنا زعيم (جـ بثلاثة أبيات جـ) في الجنة؛ في رباضها -أي أسفلها- ووسطها وأعلاها، لمن ترك المراء وهو صادق، ذروا المراء فإنه أول ما نهاني عنه ربي بعد عبادة الأوثان". وروي الشيخان (¬3): "إن أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم". أي الشديد الخصومة الذي يحج مخاصمه، مأخوذ من لَدِيدَي الوادي، وهما جانباه؛ لأنه كُلَّما احتج عليه بحجة أخذ في جانب آخر. و: "الخَصِم". بفتح الخاء وكسر الصاد المهملة، هو الحاذق في الخصومة. وهو محمول على المراء إذا لم يكن مقصودًا به ¬

_ (أ) في ب، جـ: بهذا. والمثبت من الطبراني. (ب) في ب: يكفي. (جـ - جـ): بثلاث أبيات، وفي الطبراني: بثلاث آيات.

إظهار الحق، وكان القصد إنما هو إظهار الغلبة على الغير، أو كان الجدال في نفس آيات القرآن، أو في معنى لا يسوغ الاجتهاد فيه، أو في أمير يوقع في شك، أو شبهة، أو فتنة، أو خصومة، أو شحناء، أو نحو ذلك، وأما الاختلاف في استنباط فروع الدين ومناظرة أهل العلم في ذلك على سبيل الفائدة وإظهار الحق وجدالهم في ذلك، فليس منهيًّا عنه بل مأمورًا به، وفضيلة ظاهرة، وقد أجمع المسلمون على هذا من عهد الصحابة رضي الله عنهم إلى الآن. وقوله: "ولا تمازحه". من المزح، وهو المداعبة، والمراد المنهي عنه ما كان باطلًا، وأما ما كان حقًّا ولا يتسبب به شحناء، فهو جائز، كما قد وقع من النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬1). وروي أبو هريرة أنهم قالوا: يا رسول الله، إنك لتداعبنا. قال: "إني لا أقول إلا حقًّا". أخرجه الترمذي (¬2). فنبه أن المزاح الحق لا حرج فيه. وقوله: "ولا تعده موعدًا فتخلفه". يدل على أنه لا يجوز إخلاف الوعد. وقد تقدم قريبًا أن ذلك من علامة النفاق (¬3)، ولعل المحرم منه ما كان فيه ترك واجب، وما لم (أ) يكن كذلك فهو مكروه. والله أعلم. ¬

_ (أ) في جـ: لا.

1262 - وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "خصلتان لا تجتمعان في مؤمن؛ البخل وسوء الحلق". أخرجه الترمذي (¬1) وفي إسناده ضعف. الحديث فيه دلالة على قبح هاتين الخصلتين، وأنهما منافيتان للإيمان، وقد ذم الله سبحانه وتعالى البخيل في كتابه، والأحاديث المتضافرة على ذمه المتوعدة للبخيل بالعذاب والنكال. واختلف العلماء في حد البخل المذموم؛ فحده بعضهم بأنه في الشرع منع الزكاة، وألحق بها كل واجب، فمن منع ذلك كان بخيلًا يناله العقاب الوارد في الكتاب والسنة. قال الغزالي (¬2): وهذا الحد غير كاف، إذ من يَرُد اللحم أو الخبز إلى قصاب أو خباز لنقص وزن حبَّة يعد بخيلًا اتفاقًا، وكذا من يُضايق عياله في لقمة أو تمرة أكلوها من ماله بعد أن سلم لهم ما فرضه لهم القاضي، وكذا من بين يديه رغيف، فحضر من يظن أنه يشاركه، فأخفاه عنه يعد بخيلًا. انتهى. وهذا الكلام في البخيل عرفًا لا من يستحق (أ) العقاب، فلا يرد نقضًا. وقال آخرون: البخيل الذي يستصعب العطية. وهذا الحد قاصر، فإنه إن أريد أنه الذي يستصعب كل عطية، وَرَد عليه أن كثيرًا من البخلاء لا ¬

_ (أ) في جـ: استحق.

يستصعب إعطاء الحبة، وإن أريد الكثير من العطية، فهذا لا يوجب الحكم بالبخل. وبعضهم بأنه منع ما يطلب مما يقتنى. واعلم أن البخاري بوب باب حسن الخلق وإلسخاء وما يكره من البخل، وذكر في الباب (¬1) حديث البردة التي لبسها النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو محتاج إليها، ثم سأله رجل من أصحابه البردة فأعطاه إياها، ثم لامه أصحابه. وقال في آخره: وقد علمت أنه لا يسأل شيئًا فيمنعه؟ وكان من (أ) عادته أنه إذا لم يكن مسوغًا للإعطاء سكت (ب) في جواب السائل، ولا يصرح بقوله (جـ): لا أعطي. وأشار إلى أن بعض البخل مكروه كما أن منه ما يحرم، ومنه ما يباح، بل ويستحب، بل ويجب. كذا ذكره (د) المصنف (¬2) رحمه الله. وقد أشار إلى ذلك قوله تعالى: {وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ} (¬3). وقوله: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا} (¬4). وأما قول النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬5): {لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ}. وقوله ¬

_ (أ) ساقطة من: ب. (ب) في جـ: يسكت. (جـ) في جـ: بقول. (د) في جـ: ذكر. (هـ) زاد بعده في ب، جـ: قال قلت. والمثبت يقتضيه السياق.

للأشعريين: "والله لا أحملكم" (¬1). فلا إشكال فيه؛ فإن قوله: {لَا أَجِدُ مَآ أَحْمِلُكُمْ}. لمن (أ) لا يغني في حقه السكوت، ولم يكن متماديًا في الطلب، وفي جواب الأشعريين لما تحققوا أنه لم يكن عنده شيء وتمادوا في السؤال، ويكون القسم قطعًا لطمع السائل، فلا ينافي قول الفرزدق (¬2). * ما قال لَا قطُّ إلا في تشهده * لأنه إذا لم يكن الإعطاء سائغًا سكت. وحده الإمام المهدي في "تكملة الأحكام" بأنه منع المال عما يجب صرفه فيه، من تحصيل نفع، أو دفع ضرر أو ذم، وأراد بالنفع النفع في العاجل؛ من نفقته على نفسه وأولاده ومن يجب عليه إنفاقه، وفي الآجل؛ كإخراج الزكاة وغيرها من الواجبات المالية. وأراد بقوله: أو ذم. يعني: يدفع الذم عن نفسه بالإنفاق فيما يحفظ به مروءته الذي يصون به عرضه عن الذم. وقد تكلم الهادي على هذا في كتابه "الأحكام"، واحتج عليه بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "اجعل مالك دون عرضك، وعرضك دون روحك، وروحك دون دينك" (ب) (¬3). ¬

_ (أ) في جـ: لم. (ب) في جـ: ذنبك.

وقوله "وسوء الخلق". المراد به الوصف المضاد لحسن الخلق. وقد تقدم الكلام في حسن الخلق. وما خالف تلك الصفات فهو سوء الخلق، وقد تضافرت الأحاديث في أنه ينافي الإيمان. أخرج الحاكم والحارث (¬1) "سوء لخلق ويفسد العمل كما يفسد الخل العسل". وابن منده (¬2): "سوء الخلق شؤم , وطاعة النساء ندامة , وحسن الملكة نماء". والخطيب (¬3): "إن لكل شيء توبة إلا صاحب سوء الخلق، فإنه لا يتوب من ذنب إلا وقع فيما هو شر منه". والصابوني (¬4): "ما من ذنب إلا وله عند الله توبة إلا سوء الخلق، فإنه لا يتوب من ذنب إلا رجع إلى ما هو شر منه". والترمذي وابن ماجه (¬5): "لا يدخل الجنة سيئ الخلق". وقوله - صلى الله عليه وسلم - "ذهب حسن الخلق بخيري الدنيا والآخرة" (¬6). وأنه يدرك بحسن الخلق درجة الصائم القائم (¬7)، ودرجات الآخرة وشرف المنازل (¬8)، وإن سوء الخلق ذنب لا يغفر (¬9)، وإن العبد ليبلغ من سوء خلقه أسفل درك جهنم (¬10). ¬

_ (¬1) الحاكم في الكني -كما في الجامع الكبير ص 548 - والحارث -كما في المطالب العالية 7/ 121 ح 2853. (¬2) ابن منده -كما في الجامع الكبير ص 548. (¬3) الخطيب 8/ 60,59 بلفظ: لكل مسيء. (¬4) الصابوني في الأربعين -كما في الجامع الكبير ص 548. (¬5) سيأتي عند الترمذي ح 1269 بنحوه. (¬6) عبد بن حميد 3/ 108 ح 1210, والطبراني 23/ 222 ح 411. (¬7) أحمد 6/ 64 وأبو داود 4/ 253 ح 4798. (¬8) جزء من الحديث المتقدم حاشية (6). (¬9) الخرائطي في مساوئ الأخلاق ص 21 ح 7. (¬10) جزء من الحديث المتقدم حاشية (6).

وغير ذلك. ولعله يحمل الحديث بأن الخصلتين لا تجتمعان في مؤمن كامل الإيمان، أو أنه إذا اتصف بهما مستحلًّا لترك واجب قطعي، كالزكاة، فيكون كافرًا، أو أن ذلك خارج مَخرج التحذير والتنفير عنهما. والله سبحانه أعلم. 1263 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "المستبّان ما قالا فعلى البادئ ما لم يعتد المظلوم". أخرجه مسلم (¬1). تقدم الكلام عليه في حديث: "سباب المسلم فسوق (أ) " (¬2). 1264 - وعن أبي صِرْمة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من ضارّ مسلمًا ضارّه الله تعالى، ومن شاقَّ مسلمًا شقَّ الله عليه". أخرجه أبو داود والترمذي وحسنه (¬3). هو أبو صِرْمة الأنصاريُّ -بكسر الصاد المهملة وسكون الراء- واسمه مختلف فيه؛ فقيل: اسمه مالك بن قيس. وقيل: لُبابة (ب بن قيس. وقيل: قيس ب) بن مالك بن أبي أنس. وقيل: هانئ بن سعد. وهو مازني من بني مازن بن النجار، وهو مشهور بكنيته، شهد بدرًا وما بعدها من الشاهد، ¬

_ (أ) في جـ: فسق. (ب - ب) ساقط من: جـ.

روى عنه محمد بن كعب القرظي، ومحمد بن قيس، وابن (أ) مُحَيريز (¬1). قوله: "من ضار مسلمًا". أي: أدخل عليه المضرة في نفسه أو عرضه أو ماله بغير حق. "ضاره الله تعالى". أي: جازاه من جنس فعله جزاءً وفاقًا. "ومن شاق". أي: أدخل عليه المشقة، وهي المضرة أيضًا (ب)، أو المشاقة المنازعة، أي: نازعه ظلمًا وتعديًا. 1265 - وعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله يبغض الفاحش البذيء". أخرجه الترمذي وصححه (¬2)، وله من حديث ابن مسعود رضي الله عنه رفعه: "ليس المؤمن بالطّعّان، ولا اللعّان، ولا الفاحش، ولا البذيء". وحسنه، وصححه الحاكم، ورجح الدارقطني وقفه (¬3). قوله: "إن الله يبغَض". مضارع بغض، كفرح. البُغض، بضم الباء وسكون الغين, مصدر بغض، وهو ضد المحبة. والمراد به إنزال العقوبة (¬4). ¬

_ (أ) جـ: أبي. (ب) ساقطة من: جـ.

و: "الفاحش". اسم فاعل من الفحش، وهو كل ما خرج عن مقداره حتى يستقبح، فيشمل القول والفعل والصفة، تقول: طويل فاحش الطول. وأكثر استعماله في القوال. و: "البذيء". فعيل من البذاءِ، وهو الكلام القبيح، وهو هنا في معنى فاحش، فيكون مرادفًا أتي به للتأكيد. وقوله: "ليس المؤمن بالطعان". المراد (أبه الطعن أ)، وهو السب. يقال: طعن في عرضه. أي: سبه. و"اللعان". فعَّال، مبالغة فاعل، أي كثير اللعن، واللعنة في الدعاء يراد بها (ب) الإبعاد من رحمة الله. يعني أن هذه (جـ) ليست من أخلاق المؤمنين الذين وصفهم الله تعالى بالرحمة بينهم، والتعاون على البر والتقوى، وجعلهم كالبنيان يشد بعضه بعضًا، وكالجسد الواحد، وأن المؤمن يحب لأخيه ما يحب لنفسه، فمن دعا على أخيه المسلم باللعنة -وهي الإبعاد من رحمة الله تعالى- فهو من نهاية المقاطعة والتدابر، وهذا غاية ما يدعو به المسلم على الكافر، وقد جاء في الحديث أن: "لعن المؤمن كقتله" (¬1). لأن القاتل يقطعه عن منافع الدنيا، وهذا يقطعه عن نعيم الآخرة. أو أن معنى: ¬

_ (أ- أ) في جـ: بالطعن. (ب) في جـ: به. (جـ) في جـ: هذا.

"لعن المؤمن كقتله". يعني في الإثم. وهذا في حق من يكثر اللعن لا المرة الواحدة , ويخرج منه من يجوز لعنه من الكفار، ومثل لعن الواصلة، والواشمة، وآكل الربا، وشارب الخمر، وغير ذلك ممن ورد في الحديث لعنه، والمعنى أن هذه الخصال ليست من أخلاق المؤمن، فمن تحلى بها فهو غير كامل الإيمان. والله أعلم. 1266 - وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تسبوا الأموات؛ فإنهم قد أفضوا إلى ما قدموا". أخرجه البخاري. مر الحديث بلفظه في آخر كتاب الجنائز (¬1). 1267 - وعن حذيفة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يدخل الجنَّة قتَّات". متفق عليه (¬2). قوله: "قتات". هو بقاف ومثناة ثقيلة، وبعد الألف مثناة أخرى، وهو النمام، وقد جاء عند مسلم في رواية أبي أوائل عن حذيفة بلفظ: "نمام". وقيل: الفرق بين القتات والنمام, أن النمام (أ) الذي يحضر القصة فيبلغها (ب) , والقتات الذي يسمع من حيث لا يعلم به ثم ينقل (جـ ما سمِعه جـ). ¬

_ (أ) ساقطة من: جـ. (ب) في جـ: فينقلها. (جـ - جـ) ساقط من: جـ.

قال الغزالي (¬1) ما ملخصه: ينبغي لمن حملت إليه النميمة ألا يصدق من نم له، ولا يظن بمن نُم عنه ما نقال عنه، ولا يبحث عن تحقيق ما ذكره له (أ)، وأن ينهاه ويقبح فعله، وأن يُبغضه إن لم ينزجر، وألا يرضى لنفسه ما نهى النمام عنه، فينم على النمام فيصير نمامًا، وقد تكون النميمة واجبة، كما إذا اطلع من شخص أنه يريد أن يؤذي شخصًا ظلمًا فيحذره منه. قال العلماء: والنميمة نقل كلام الناس بعضهم إلى بعض على جهة الإفساد بينهم. قال الإمام أبو حامد الغزالي في "الإحياء" (¬2): اعلم أن النميمة إنما تطلق على الأكثر على من ينم قول الغير إلى المقول فيه، كما تقول: فلان يتكلم فيك بكذا. قال: وليست النميمة مخصوصة بهذا، بل حد النميمة كشف ما يكره كشفه، سواء كرهه المقول عنه أو المقول إليه أو ثالث، وسواء كان الكشف بالكناية أو بالرمز أو بالإيماء، فحقيقة النميمة إفشاء السر وهتك الستر عما يكره كشفه، ولو رآه يخفي مالًا لنفسه فذكره فهو نميمة. والحديث يدل على أن النميمة محرمة وأنها من الكبائر (ب). قال الحافظ المنذري (¬3): أجمعت الأمة على أن النميمة محرمة، وأنها من أعظم الذنوب ¬

_ (أ) ساقطة من: جـ. (ب) زاد بعده في جـ: ثم.

عند لله تعالى وحديث: "وما يعذبان في كبير (أ) " (¬1). يراد (ب) به كبير تركه والاحتراز عنه، أو ليس كبيرًا في اعتقادكم، كما قال الله تعالى {وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ} (¬2). أو (جـ) المراد به ليس أكبر الكبائر. كما دل عليه قوله في الحديث: "بلى إنه كبير". إلا أنه إذا سلم للغزالي أن النميمة مطلقة عن قيد قصد الإفساد، فهي نميمة محرمة، ولا تكون كبير إلا مع قصد الإفساد، وقد ورد فيها أحاديث كثيرة، أخرج الطبراني (¬3): "ليس مني (د) ذو حسدٍ ولا نميمة ولا كهانة، ولا أنا منه". ثم " رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} (¬4). وأحمد (¬5): "خيار عباد الله الذين إذا رُءوا ذكر الله , وشر عباد الله المشاءون بالنميمة , المفرقون بين الأحبة , الباغون للبرآء العيب". وأبو الشيخ (¬6): "الهمازون واللمازون , والمشاءون بالنميمة , الباغون للبرآء العيب , يحشرهم الله ¬

_ (أ) في ب: كبير. (ب) في جـ: مراد. (جـ) في جـ: و. (د) في جـ: منا.

تعالى في وجوه الكلاب". وروى كعب أنه أصاب بني إسرائيل قحط، فاستسقى موسى صلى الله على نبينا وعليه وسلم مرَّات فما أجيب، فأوحى الله إليه: إني لا أستجيب لك ولا لمن معك وفيكم نمام قد أصر على النميمة. فقال موسى: من هو يا رب حتى نخرجه من بيننا؟ فقال: يا موسى، أنهاكم عن النميمة وأكون نمامًا! فتابوا بأجمعهم فسُقوا. وغير ذلك من الأحاديث المنبئة على أن النمام ممن يستحق العقاب بالنار، نسأل الله السلامة من أخلاق السوء بمنه وإحسانه. 1268 - وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من كف غضبه كف اللهُ عنه عذابه". أخرجه الطبراني في "الأوسط" (¬1)، وله شاهد من حديث ابن عمر عند ابن أبي الدنيا (¬2). تقدم الكلام قريبًا في الغضب (¬3). 1269 - وعن أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يدخل الجنة خِبّ ولا بخيل ولا سيئ الملكة". أخرجه الترمذي (¬4)، وفرقه حديثين، (أوفي سنده ضعف أ). ¬

_ (أ- أ) في جـ: وسنده ضعيف.

قوله: "خِب". الخِب: الماكر الخدَّاع. والبخيل؛ تقدم الكلام عليه (أ) (¬1) وسيء الملكة، هو من يترك ما يجب عليه من حق من كان مملوكًا له، إما بالتقصير في المؤنة أو غيرها، كالأذى والتأديب الخارج عن الحد الذي يجوز. والله أعلم. 1270 - وعن ابن عباس رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من سمع حديث قوم وهم له كارهون، صُبَّ في أذنيه الآنك يوم القيامة". يعني الرصاص. أخرجه البخاري (¬2). قوله: "من سمع". هذا اللفظ في "بلوغ المرام"، والذي في روايات "البخاري": "من استمع إلى حديث قوم". وقوله: "وهم له كارهون". في "البخاري": "أو يفرون منه". بالشك، وقد جاء في رواية عباد: "وهم يفرون منه". من غير شك. وقوم "صب في أذنيه الآنك". وقع في رواية: "ومن استمع إلى حديث قوم ولا يعجبهم (ب أن يسمع ب) حديثهم، أذيب في أذنه الآنك". والآنك بالمد وضم النون بعدها كاف: الرصاص المذاب. وقول المصنف: يعني الرصاص. ليس في الحديث، وإنما هو تفسير من المصنف ¬

_ (أ) ساقطة من: جـ. (ب-ب) في ب: أنه سمع.

رحمه الله تعالى. وقيل: هو خالص الرصاص. وقال الداودي (¬1): هو القصطير. والحديث يدل على أن استماع حديث من يكره محرم، وقد عد من الكبائر؛ لوعيده بالعذاب؛ فإن الرصاص المذاب عذاب وأي عذاب، ولا يعارضه حديث: "لا يتناجى اثنان دون الآخر" (¬2). لأن هذا فيما إذا أتى وهم يتناجون، فإنه يحرم على الثالث الاستماع إذا عرف الكراهة. وقد أخرج البخاري في "الأدب الفرد" (¬3) من رواية سعيد المقبري قال: مررت على ابن عمر ومعه رجل يتحدث، فقمت إليهما، فلطم صدري وقال: إذا وجدت اثنين يتحدثان فلا تقم معهما حتى تستأذنهما. زاد أحمد (¬4) في روايته من وجه آخر عن سعيد (أ): وقال: أما سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا تناجى اثنان فلا يدخل معهما غيرهما حتى يستأذنهما". قال ابن عبد البر (¬5): لا يجوز لأحد أن يدخل على المتناجيين في حال تناجيهما. وقال المصنف (¬6) رحمه الله: ولا ينبغي للداخل القعود عندهما ولو تباعد عنهما إلا بإذنهما؛ لأن افتتاحهما الكلام سرًّا وليس عندهما أحد دل (ب) على أنهما لا يريدان ¬

_ (أ) في ب: شعبة. (ب) ساقطة من: جـ.

الاطلاع عليه (أ)، وقد يكون لبعض الناس قوة فهم، إذا سمع بعض الكلام استدل به على باقيه، فلا بدَّ له من معرفة الرضى؛ فإنه قد يكون الإذن حياء، وفي الباطن الكراهة. ويلحق باستماع الحديث استنشاق الرائحة، ومس الثوب، أو استخبار صغار أهل الدار ما يقول الأهل أو (ب) الجيران من الكلام، أو ما يعملون من الأعمال، وأما لو أخبره عدل باجتماع أهل الدار على منكر، جاز له أن يهجم يستمع الحديث لإزالة المنكر. والله سبحانه أعلم. 1271 - وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "طوبى لمن شغله عيبه عن عيوب الناس". أخرجه البزار بإسناد حسن (¬1). قوله: "طوبى". على وزن فُعْلى , مصدر من الطيب , أو اسم شجرة في الجنة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها. وقوله: "لمن شغله عيبه" أي: النظر في عيوبه وطلب إزالتها والستر عليها. وقوله: "عن عيوب الناس". أي: عن ذكرها والتعرف لما يصدر منهم من العيوب. 1272 - وعن ابن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من ¬

_ (أ) في جـ: عليها. (ب) في جـ: و.

تعاظم في نفسه واختال في مشيته لقي الله وهو عليه غضبان". أخرجه الحاكم ورجاله ثقات (¬1). قوله: "تعاظم في نفسه". صيغة تفاعل تأتي لمعان؛ ومن معانيه أنه يأتي بمعنى فعل، نحو: توانيت، بمعنى: وَنَيْت، مع البالغة، وهو المقصود هنا فـ "تعاظم" بمعنى: عظم في نفسه؛ إما بمعنى أنه اعتقد أنه يستحق من التعظيم فوق ما يستحقه غيره ممن لا يعلم استحقاقه الإهانة، أو يكون "تعاظم" بمعنى تعظم، وهو وإن لم يكن قياسيًّا، فقد جاء تفاعل بمعنى يفعل. ذكره نجم الدين في شرحه على "مقدمة التصريف"، و "يفعل" إما أن يكون بمعنى استفعل؛ أي: طلب أن يكون عظيمًا. أو بمعنى: اعتقد في نفسه أنه عظيم كـ "تكبر"، أي: اعتقد أنه كبير. و"تعاظم" هنا بمعنى "تكبَّر" على أحد هذين المعنيين، والتكبر والكبر والكِبْرة -بكسر الكاف وسكون الباء- والكبرياء , بمعنى واحد، وهو اعتقاد أنه يستحق من التعظم فوق ما يستحقه غيره ممن لا يعلم استحقاقه الإهانة، على ما حده به الإمام المهدي في "تكملة الأحكام". وفي "بداية الهداية" للغزالي أن العجب والكبر والفخر نظر العبد إلى نفسه بعين العز والاستعظام، وإلى غيره بعين الاحتقار، وعلامته الترفع في المجالس والتقدم، والاستنكار من أن يرد عليه كلامه، وعلى الجملة فكل من رأى نفسه خيرًا من عباد الله فهو متكبر. انتهى. وفي "الكشاف" (¬2) في تفسير قوله تعالى: {إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إلا كِبْرٌ} (¬3). أي: إلا إرادة التقدم ¬

_ (¬1) الحاكم، كتاب الإيمان 1/ 60. (¬2) الكشاف 3/ 432. (¬3) الآية 56 من سورة غافر.

والرياسة، وألا يكون أحد فوقهم. وفي "تفسير أبي السعود" (¬1) في تفسير الآية: أي: إلا تكبر عن الحق وتعظم عن التفكر والتعلم. أو: إرادة الرياسة والتقدم على الإطلاق. أو: إرادة أن تكون النبوة فيهم دونك، حسدًا أو بغيًا , ما هم ببالغي (أ) مقتضى ذلك التكبر. انتهى. ويظهر من كلام هؤلاء الأئمة أن الكبر يحصل وإن لم يكن صاحبه معتقدًا للمعنى , بل يكفي إظهار الترفع على الغير وإرادته , وقد يصحبه الاعتقاد , وقد يخلو عند فلا يكون معناه الاعتقاد , وصريح في هذا المعنى ما أخرجه مسلم، والحاكم، والترمذي (¬2)، من حديث ابن مسعود أنه قال - صلى الله عليه وسلم -: "لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من تكبر". قال رجل: يا رسول الله، إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنًا ونعله حسنًا. قال - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله جميل يحب الجمال، التكبر بطر الحق وغمط الناس". و "غمط" بالطاء المهملة وبالظاء المعجمة , ومعناهما متقارب؛ قال في "النهاية" (¬3): هو أن يجعل ما جعله الله (ب حياة توحيد - أي ثمرة ب) توحيده ومعبادته - باطلا، وقيل: هو أن [يتجبر] (جـ) عند الحق فلا يراه حقًّا. وقيل: هو أن يتكبر ¬

_ (أ) في ب: ببالغيه. (ب - ب) في النهاية: حقا من. (جـ) في ب: سحير. وفي جـ: سحد. والمثبت من النهاية.

عن الحق فلا يقبله. وقال النووي (¬1): معناه الارتفاع عن الناس واحتقارهم، ودفع الحق وإنكاره، ترفعًا وتجبرًا. وجاء في رواية الحاكم: "ولكن الكبر مِن بطر الحق وازدراء الناس". "بطر الحق": دفعه ورده. و "غمط الناس". بفتح الغين المعجمة وسكون الميم وبالطاء المهملة، هو احتقارهم وازدراؤهم. هكذا جاء مفسرا عند الحاكم، قاله عبد العظيم المنذري (¬2). ولفظة: "من" رُويت بكسر الميم على أنها حرف جر، وبفتحها على أنها موصولة. فهذا التفسير النبوي يؤيد (أ) أن التكبر ليس من قبيل الاعتقاد، وليس بمعنى إرادة التقدم، وإنما هو بمعنى عدم الامتثال ترفعًا وتعززًا، واحتقار الناس، ويكون مانعًا للخلق (ب) دون الجمع، فكبر إبليس جامع للأمرين، وكذلك كفار قريش، وبعض الكفرة؛ للترفع والحسد، وقد يكون مع بعض المخالفين ترك الامتثال لاحتقار الآمر له. والرجوع إلى التفسير الأثري أولى، ويحمل تفسيره بإرادة التقدم على المجاز، لما كان ذلك حاملًا على دفع الحق وإظهار حقارة الآمر، فبالغ في السبب، (جـ فأخبر به جـ) عن المسبب، وجعل كأنه عينه، مثل: زيدٌ صوم. وقال الإمام المحقق أحمد بن محمد بن حجر الهيتمي (د) في كتابه "الزواجر": إن الكبر؛ إما باطن، وهو خلق في النفس، واسم الكبر بهذا ¬

_ (أ) في جـ: يولد. (ب) كذا في ب، وغير واضحة في جـ. ولعل الصواب: للحق. (جـ - جـ) في جـ: فأخبره. (د) في ب: الهيثمي. وينظر الأعلام 1/ 223.

أحق. وإما ظاهر، وهو أعمال تصدر من الجوارح، وهي ثمرات ذلك الخلق، وعند ظهورها يقال: تكبّر (أ). وعند عدمها يقال: كِبْر. والأصل هو خلق النفس الذي هو الاسترواح والركون إلى رؤية النفس فوق المتكبَّر عليه، فهو يستدعي متكبرًا عليه ومتكبرًا به، وبه فارق العجب، (ب فإنه لا يستدعي غير المعجب به، حتى لو فرض انفراده دائما أمكن أن يقع منه العجب دون الكبر , فالعجب ب) مجرد استعظام الشيء , فإن صحبه من يرى أنه فوقه كان تكبرًا, انتهي كلامه؛ وهو لا يناسب تفسير الكبر في الحديث. وقوله: "اختال في مشيته". الاختيال التكبر , وعطفه على "تعاظم في نفسه" يناسبه كلام (جـ) ابن حجر، ويحتمل أنه من عطف أحد نوعي الكبر على الآخر، كأنه قال: من جمع بين نوعين من أنواع الكبر استحق هذا الوعهد، ولا يلزم منه أن أحدهما لا يكون بهذه المثابة؛ لأنها قد وردت الأحديث في ذم الكبر مطلقًا. والحديث يدل على أن التكبر محرم، وأنه يوجب الغضب من الرب جل وعلا , فيكون من الكبائر المهلكة. وفي التحذير منه أحاديث كثيرة مصرحة بوعيد المتكبر بالنار. والله سبحانه أعلم. 1273 - وعن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "العجلة من الشيطان". أخرجه الترمذي (¬1) وقال: حسنٌ. ¬

_ (أ) في جـ: الكبر. (ب - ب) ساقط من: جـ. (جـ) في جـ: بكلام.

العجلة هي السرعة في الشيء، وهي تكون من الشيطان فيما كان الأناة مطلوبة لتحصيل غرض أكمل من الحاصل من الأمر المعجل. والله أعلم. 1274 - وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الشؤم سُوءُ الخُلق". أخرجه أحمد (¬1)، وفي إسناده ضعف. قوله: "الشؤم". ضد اليُمن، وواوه منقلبة عن همزة، وشؤم الخلق المراد به سوء الخلق. وقد تقدم الكلام قريبًا عليه (¬2)، والمراد هنا أن الشيء الذي تُكْرَه عاقبته ويخاف منه هو سوءُ الخلق. والله أعلم. 1275 - وعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن اللعانين لا يكونون (أ) شُفعاء ولا شهداء يوم القيامة". أخرجه مسلم (¬3). قوله: "إن اللعانين". تقدم الكلام على معنى اللعن قريبًا (¬4). وقوله: "لا يكونون شفعاء ولا شهداء يوم القيامة". معناه: لا ¬

_ (أ) في ب: يكونوا.

يشفعون حين (أ) يشفع المؤمنون في إخوانهم. ومعنى: "ولا شهداء". فيه ثلاثة أقوال؛ أصحها وأشهرها: لا يكونون شهداء يوم القيامة على الأمم بتبليغ رسلهم إليهم الرسالات. والثاني: لا يكونون شهداء في الدنيا ولا تقبل شهادتهم لفِسْقِهم. والثالث: لا يرزقون الشهادةَ؛ وهي القتل في سبيل الله تعالى، فـ "يوم القيامة" يتعلق بـ "شفعاء" وحده على الأخيرين، ويحتمل أن يتعلق بهما؛ بمعنى أن شهادته لمَّا لم تُقبل في الدنيا لم يكتب في الآخرة له ثواب من شَهِد بالحق، وكذلك لا يكون له في الآخرة ثواب من قتل في الشهادة. والله أعلم. 1276 - وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "من عَيَّر أخاه بذنب لم يمت حتي يعمله". أخرجه الترمذي (¬1) وحسنه (ب) , وسنده منقطع. الحديث فيه دلالة على أنه لا يجوز أذية المؤمن ولو قد ارتكب ذنبًا , وأنه يجب الستر عليه، وهو كما تقدم في الغيبة، أنها لا تجوز ولو في حق الفاسق إلا في المواضع الستة التي تقدمت) (¬2). ¬

_ (أ) في جـ: حتى. (ب) ساقط من: جـ.

وقوله: "لم يمت حتى يعمله". كأنه -ونعوذ بالله من ذلك- يكون عقوبته؛ سببًا لخِذْلانه وسلب التوفيق عنه حتى يعمل ذلك الذنب، وكأنه لِما (أ) يصحبه من العُجب وعدم شكره لله تعالى على توفيقه ببعده من ذلك الذنب، وإن كان لا يخلو من الذنوب (ب). نسأل الله تعالى التجاوز والعفو. 1277 - وعن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ويل للذي يحدث فيكذب ليضحك به القوم، وويل له ثم ويل له". أخرجه الثلاثة (¬1) وإسناده قوي. الحديث حسنه الترمذي، وأخرجه البيهقي (¬2)؛ فيه دعاء على الذي يكذب بالويل ثلاث مرات، والويلُ مصدر بمعنى الهلاك، مرفوع على أنه مبتدأ، والخبر الجار والمجرور. وفيه دلالة على تحريم الكذب وإن لم يكن ضارًّا، وقد وردت الأحاديث الصحيحة في التحذير من الكذب على الإطلاق، مثل قوله: "إياكم والكذب؛ فإن الكذب يهدي إلى الفجور، والفجور يهدي إلى النار". ¬

_ (أ) في جـ: لم. (ب) في جـ: الذنب.

وسيأتي (¬1). وأخرج ابن حبان (¬2) في "صحيحه": "وإياكم والكذب فإنه مع (أ) الفجور وهما في النار". والطبراني (¬3): (ب "وإياكم والكذب فإنه يهدي إلى الفجور وهما في النار". وأحمد (¬4) من حديث ابن لهيعة: ما عمل النار؟ قال "الكذب ب) بم إذا كذَب العبدُ فجر، وإذا فجر كفَر وإذا كفر دخل النارَ". و (جـ) البخاري (¬5): "رأيت الليلة رجلين أتياني قالا لي: الذي رأيته يشق شدقه فكذاب يكذب الكذبة تُحْمَل عنه حتى تبلُغَ الآفاق، فيصنع به إلى يوم القيامة". والشيخان (¬6): "علامةُ المنافق ثلاثٌ؛ إذا حدث كذب". الحديث، وزاد مسلم: "وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم". وأخرجه أبو يعلى (¬7) بزيادة: "وإن صام وصلى وحج واعتمر و (د) قال: إني مسلم". وأحمد والطبراني (¬8): "لا يؤمن العبد الإيمان كله حتى يترك الكذب في المزاح والمراء وإن كان صادقًا". وأبو يعلى (¬9) بسند رواته رواة الصحيح: "لا ¬

_ (أ) في جـ: من. (ب - ب) ساقط من: ب. (جـ) زاد بعده في جـ: في. (د) ساقط من: جـ.

يبلغ العبد الإيمان حتى يدع المزاح والكذب ويدع المراء: إن كان محقا". وأحمد (¬1): "يطبع المؤمن على الخلالِ إلا الخيانة والكذب". وأخرجه الطبراني والبيهقي وأبو يعلى (¬2) بسند رواته رواة الصحيح. وغير ذلك من الأحاديث الكثيرة. وقد عُدَّ من الكبائر لشمول حَدِّ الكبيرة له، فإنه ورد الوعيد عليه بعينه، وقد صرَّح الرُّوياني في "البحر" -من الشافعية- أنه كبيرةٌ وإن لم يَضر، وقال: من كذب قصدًا رُدَّت شهادته وإن لم يضر بغيره؛ لأن الكذب حرام بكل حال. وروى في "البحر" حديثًا مرسلًا، أنه - صلى الله عليه وسلم - أبطل شهادة رجل في كذبة كذبها. وقال الأذرعي: قد تكون الكذبة الواحدة كبيرة. وفي "الأم" للشافعي (¬3): كل من كان منكشف الكذب مُظهِره غير مستتر به لم تجز شهادته. ومثله ذكرته الهدوية في ردِّ الشهادة، ونصوا أنه ليس بكبيرة كما ذكره الإمام المهدي في "الأزهار" وغيره، ولكن لا يتم لهم الإطلاق، فإن الكذب على النبي - صلى الله عليه وسلم - والكذب الضار للمسلم أو الذمي لا يمكن أحد أن يدعي أنه ليس بكبيرة، وأما القليل من الكذب الخالي عن الضرر، فصرَّح الرافعي نقلًا عن غيره أنه ليس بكبيرة، وكان مستندهم في ذلك ابتلاء أكثر الناس به، وذكر الغزالي في "الإحياء" (¬4) تفصيلًا، وقسم الكذب إلى واجب ومباح ومحرم، وقال: إن كل مقصود محمود يمكن التوصل إليه بالصدق والكذب جميعًا، فالكذب [فيه] (أ) حرام، وإن أمكن ¬

_ (أ) ساقطة من: ب، جـ. والمثبت من الإحياء.

التوصل إليه (أ) بالكذب وحده فمباح إن أبيح تحصيل ذلك المقصود، وواجب إن وجب تحصيل ذلك، وهو إذا كان فيه عِصْمةُ من يجب إنقاذه، وكذا إذا خشي على الوديعة من ظالم وجب الإنكار والحلف، وكذا إذا كان لا يتم مقصود حربٍ أو إصلاح ذات البين، أو استمالة قلب المجني عليه إلا بالكذب فهو مباح، وكذا إذا وقعت منه فاحشة كالزنى وشرب الخمر، وسأله السلطان فله أن يكذب ويقول: ما فعلت. وله أن ينكر سِرَّ أخيه. ثم قال: ينبغي أن يقابل مفسدة الكذب بالمفسدة المترتبة على الصدق؛ فإن كانت مفسدة الصدق أشد فله الكذب، وإن كان بالعكس أو شك فيها حرم الكذب , وإن تعلق بنفسه استحب ألا يكذبَ، وإن تعلق بغيره لم يجز المسامحة بحق الغير، والحزم تركه حيث أبيح. انتهى. وقال مسلم في "الصحيح" (¬1): قال ابن شهاب: ولم أسمع يُرخَّص -في شيء مما تقول الناس كذبٌ إلا في ثلاث؛ الحربُ , وإصلاحٌ بين الناس , وحديثُ الرجل امرأته وحديث المرأة زوجها. قال القاضي عياض (¬2): لا خلاف في جواز الكذب في هذه الثلاث الصور. واختلفوا في المراد بالكذب المباح فيها ما هو؟ فقالت طائفة: هو على إطلاقه. وأجازوا قول ما لم يكن في هذه المواضع للمصلحة. وقالوا: الكذب المذموم ما فيه مضرة. واحتجوا بقول إبراهيم صلى الله عليه وعلى نبينا وسلم: {بَل ¬

_ (أ) ساقطة من: جـ.

فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ} (¬1)، و {إِنِّي سَقِيمٌ} (¬2) , وقوله: "إنها أختي" (¬3). وقول منادي يوسف: {أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ} (¬4). وقال آخرون؛ منهم الطبريُّ: لا يجوز الكذب في شيء أصلًا. قالوا: وما جاء من الإباحة في هذا فالمراد به التورية واستعمال المعاريض لا صريح الكذب. ذكر هذا في "شرح النووي" (¬5)، ولكن أخرج ابن النجار (¬6) عن النواس بن سمعان مرفوعًا: "الكذب يكتب على ابن آدم إلا ثلاثا؛ الرجل يكذب بين الرجلين ليُصْلحَ بينهما، والرجل يحدث امرأته ليُرضِيها بذلك، والكذب في الحرب، والحرب خدعة". وأجرج البنرار (¬7) عن ثوبان مرفوعًا: "الكذب مكتوب إلا ما نفع به مسلمًا (أأو دفع أ) به عنه". وأخرج الروياني (¬8) عن ثوبان: "الكذب كله إثم إلا ما نفَع به مسلمًا (ب) أو دفع به عن دين". فهذا يدُلُّ على جواز الكذب من دون تورية ويكون مخصصًا لأحاديث العموم على ما هو القاعدة في تخصيص العام، وما ذكره الغزالي من الصور ¬

_ (أ- أ) في جـ: ووقع. (ب) في جـ: مسلم.

المباحة مقيسة فيما لم يتناولها المخصص، وأما الكذب الواجب فلدليل آخر. واعلم أنه قد اختلف في تحقيق الكذب؛ فذهب الجمهور إلى أن حقيقته ما خالف مقتضاه في الوقوع؛ فإذا قال: زيد في الدار. وانكشف أنه في الدار كان صِدْقًا، وإن لم يكن في الدار كان كذبًا (أ)، ولو كان يعتقد أنه في الدار إلا أنه لا يأثم في الإخبار في هذا الظرف. وقال النَّظَّامُ: ما خالف مقتضاه في الاعتقاد وإن طابق الواقع. وقال الجاحظُ: ما خالف الاعتقاد والواقع. وأثبت الواسطة بين الصدق والكذب وتحقيق الأقوال في علم الأصول. 1278 - وعن أنس رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - "كفارة من اغتبته أن تستغفر له". رواه الحارث بن أبي أسامة (¬1) بسند ضعيف. وأخرج الحديث ابن أبي شيبة في "مسند" , والبيهقي (¬2) في "شعب الإيمان"، وغيرهما من حديث أنس بألفاظ مختلفة وفي أسانيدها ضعف، ورو من طرُق أُخَرَ بمعناه، والحاكم من حديث حذيفة، والبيهقي (¬3)، قال: وهو أصح، ولفظه: كان في لساني ذرب على أهلي؛ فسألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال (ب): "أين أنت من الاستغفار يا حذيفة؟ إني ¬

_ (أ) في جـ: كاذبا. (ب) ساقطة من: جـ.

أستغفر الله في كل يوم مائة مرة". والحديث يدل على أنه يكفي في ذنب الغِيبة الاستغفارُ للمغتاب، ولا يحتاج إلى الاستحلال، وذهب الهدوية وأصحاب الشافعي -ذكره النووي عنهم في "الأذكار" (¬1) - أنه يجب الاستحلال إذا علم المغتاب، وأما إذا لم يعلم فلا يجب بل لا يستحب؛ لأنه يكون فيه إيحاش وإيغار للصدر (أ)، ويدل على هذا ما أخرجه البخاري (¬2) من حديث أبي هريرة: "من كانت عنده مظلمة لأخيه في عرضه أو شيء فليتحلله منه اليوم من قبل ألا يكون دينار ولا درهم؛ إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته، وإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه". وأخرج نحوه البيهقي (¬3) من حديث أبي موسى، وهو يدل على أنه يجب الاستحلال وإن لم يكن قد علم بما قيل فيه، ويمكن الجمع بين الحديثين بأن حديث أنس في حق من لم يكن قد علم، وحديث أبي هريرة في حق من قد بلغه. والله أعلم. 1279 - وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم". أخرجه مسلم (¬4). الحديث فيه دلالة على تحريم كثرة الخصومة، وقد تقدم قريبًا تحقيق معنى ¬

_ (أ) في جـ: الصدر.

الحديث، وظاهره: وإن كانت الخصومة في حق. قال النووي في "الأذكار" (¬1): فإن قلت: لا بد للإنسان من الخصومة لاستيفاء حقوقه. فالجواب ما جاب به الغزالي (¬2) أن الذَّمَ إنما هو لمن خاصم بباطل أو بغير علم كوكيل القاضي , فإنه يتوكل قبل أن يعرف الحق في أي جانب. ويدخل في الذَّم من يطلب حقًّا، لكن لا يقتصر على قدر الحاجة، بل يظهر اللَّدد والكذب للإيذء والتسلط على خصمه، وكذلك من يحمله على الخصومة محضُ الفساد لِقَهْر الخَصْمِ وكسره، وكذلك من يخلط الخصومة بكلمات تؤذي وليس إليها ضرورة في التوصل إلى غرضه؛ فهذا هو المذموم، بخلاف المظلوم الذي ينصر حجته بطريق الشرع من غير لدد وإسراف وزيادة لجاج على الحاجة من غير قصد عناد ولا إيذاء، ففعله (أ) هذا ليس مذمومًا ولا حرامًا، لكن الأولى تركه ما وجد إليه سبيلًا؛ لأن ضبط اللسان في الخصومة على حد الاعتدال [متعذر] (ب). وأخرج الشافعي في "الأم" (¬3) عن علي كرم الله وجهه (جـ) أنه وكل في خصومة وهو حاضر. قال: وكان يقول: إن الخصومة لها قُحَم وإن الشيطان يحضرها. وقحم بضم القاف وبالمهملة المفتوحة؛ أي شدة ¬

_ (أ) في جـ: يفعله. (ب) في ب , جـ: متعذرة. والمثبت من الأذكار. (جـ) زاد بعده في ب: في الجنة.

وورطة، وعَدَّ المُطَرزيُّ في "المغرب" (¬1) فتح الحاء خطأً، فالورع ترك مباشرة الخصومة وإن كان محقًّا. وقد ورد في ذم الخصومة أحاديث كثيرة؛ قوله - صلى الله عليه وسلم - "من جادل في خصومة بغير علم لم يزل في سخط الله حتى ينزع" (¬2). وقال - صلى الله عليه وسلم -: "ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا جدلًا". ثم تلى: {مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إلا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} (¬3). وأخرج الترمذي (¬4) -وقال: غريب- عن ابن عباس رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "كفى بك ألا تزال مخاصمًا". قال بعض العلماء: عدم قبول شهادة (أ) وكلاء القاضي مسألة غريبة. وعَدَّ صاحب "العدة" أن من الصغائر كثرة الخصومة وإن كان الشخص محقًّا. ووجه صاحب "الخادم" بأن كثرة الخصومة في الحق تُرَد بها الشهادة؛ لأنها تنقص المروءة، لا لكونها معصية توجب الإثم، وتسميتها صغيرة مجاز؛ لأنها لما ردت بها الشهادة أشبهت العصية التي ترد بها ¬

_ (أ) في ب: شهادته.

الشهادة، إلا أنه يؤيد (أ) ما قال في "العدة" ما قال في "الإحياء" (¬1) أن المباح يصير صغيرة بالمواظبة عليه؛ كاللعب بالشطرنج. انتهى. إلا أنه يمكن توجيه كون ذلك معصية بأن الخصومة لما كانت مظِنَّة لوقوع ما لا يجوز فيها، وضبط النفس في الخصومات الكثيرة (ب) في حكم المتعثر أو المتعذر، فالإقدام على ذلك معصية، مثل من أقدم على قتل من لا يجوز، فانكشف أن المقتول ممن يجوز قتله؛ فإنه قد أثم بنفس الإقدام وإن انتهى الحال إلى السلامة، ويدل على هذا قول علي رضي الله عنه، والله سبحانه أعلم. ¬

_ (أ) في جـ: "يؤد" (ب) في ب: "الكبيرة".

باب الترغيب في مكارم الأخلاق

بابُ التَّرغيب في مكارم الأخلاق 1280 - عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "عليكم بالصدق؛ فإن الصدق يهدي إلى البر، وإن (أ) البر يهدي إلى الجنة، وما يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقًا، وإياكم والكذب؛ فإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وما يزال الرجل يكذب (ب ويتحرى الكذب ب) حتى يكتب عند الله كذابًا". متفق عليه (¬1). قوله: "عليكم بالصدق". أي الزموا الصدق، والمقصود الإغراء والحث عليه. قال الراغب (¬2): أصل الصدق والكذب في القول؛ ماضيًا كان أو مستقبلًا، وعدًا كان أو غيره، ولا يكونان بالقصد الأول (جـ إلا في القول، ولا يكونان في القول جـ) إلا في الخبر، وقد يكونان في غيره كالاستفهام والطلب. والصدق مطابقة القول الضمير والمخبَر عنه، فإن انخرم شرط لم يكن صدقًا، بل إما أن يكون كذبًا أو مترددًا بينهما على اعتبارين، كقول ¬

_ (أ) ساقط من: جـ. (ب- ب) ساقط من: جـ. (جـ - جـ) ساقط من ب، جـ. والمثبت من مصدر التخريج.

المنافق: محمد رسول الله. فإنه يصح أن يقال: صدق. لكون المخبَر عنه كذلك، ويصح أن يقال: كذب. لمخالفة قوله الضمير. والصدِّيق من كثر منه لصدق، وقد يستعمل الصدق والكذب في كل ما يحق في الاعتقاد ويحصل؛ نحو: صدق ظني. وفي الفعل، نحو: صدق في القتال. ومنه: {قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا} (¬1) انتهى ملخصًا. وهذا كلام الراغب موافق لقول الجمهور: إن الصدق ما طابق الواقع، والكذب ما خالف الواقع، إلا أن الواقع له اعتباران؛ واقع بالنظر إلى اعتقاده، وواقع بالنظر إلى نفس الأمر، فمثل قوله - صلى الله عليه وسلم - في جواب ذي اليدين: "كل ذلك لم يكن". أي في الواقع بالنظر إلى ظنه (¬2)، وقوله تعالى: {وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ (1)} (¬3) أي الواقع بالنظر على اعتقادهم وظنهم الباطل، فلا يكون الصدق حينئذٍ إلا طابق الواقع، ولا يكون الكذب إلا ما خالف الواقع. وقوله: "يَهدي". بفتح الياء، من الهداية، وهي الدلالة الموصلة إلى المطلوب. قوله: "إلى البر" بكسر البال الموحدة , وأصله التوسع في فعل الخيرات , وهو اسم جامع اللخيرات كلها ,ويطلق على العمل الصالح الخالص الدائم. وقوله: "وإن البر". إلى آخره. قال ابن بطال (¬4): مصداقه قوله تعالى: ¬

_ (¬1) الآية 105 من سورة الصافات. (¬2) مسلم 1/ 404 ح 573/ 99. (¬3) الآية 1 من سورة المنافقون. (¬4) شرح البخاري 9/ 280.

{إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ} (¬1). وقوله: "وما يزال الرجل يصدق". إلى آخره. قال ابن بطال (¬2): المراد يتكرر منه الصدق حتى يستحق اسم المبالغة وهو صدّيق. وقوله: "الفجور". أصل الفجر: الشق، فالفجور شق الديانة، ويطلق على الميل إلى الفساد وعلى الانبعاث في المعاصي، وهو اسم جامع للشر. وقوله: "وما يزال الرجل يكذب". إلى آخره. المراد أنه إذا تكرر منه الكذب استحق اسم المبالغة وهو كذاب. وفي الحديث إشارة إلى أن من توقى الكذب بالقصد الصحيح إلى الصدق صار الصدق له سجية حتى يستحق الوصف به، وكذلك عكسه، وأما ذم الكاذب ومدح الصادق فهو حاصل على كل حال، والحديث فيه دلالة على تحريم الكذب على العموم، وقد تقدم الكلام على هذا قريبًا (¬3). 1281 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إياكم والظن؛ فإن الظن أكذب الحديث". متفق عليه (¬4). قوله: "إياكم". ضمير جماعة المخاطبين منصوب على التحذير بفعل ¬

_ (¬1) الآية 13 من سورة الانفطار، والآية 22 من سورة المطففين. (¬2) شرح البخاري 9/ 281. (¬3) تقدم ص 336 - 341. (¬4) البخاري، كتاب الأدب، باب ما ينهى عن التحاسد والتدابر 10/ 481 ح 6064 , ومسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم الظن والتجسس والتنافس والتناجش ونحوها 4/ 1985 ح 2563/ 28.

مقدر، والظن معطوف عليه. الحديث قد تقدم في الباب الأول فهو تكرير (¬1). 1282 - وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إياكم والجلوس بالطرقات". قالوا: يا رسول الله، ما لنا بدٌّ من مجالسنا نتحدث فيها. قال: "فأما إذا أبيتم فأعطوا الطريق حقه". قالوا: وما حقه؟ قال: "غض البصر، وكف الأذى، ورد السلام، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر". متفق عليه (¬2). قوله: "إياكم". للتحذير، و: "الجلوسَ" بالنصب عطف على الضمير محذر منه، و: "الطُّرُقات". بضمتين جمع طرق، وطرق جمع طريق. وقوله: قالوا. إلخ. قال القاضي عياض (¬3): فيه دليل (أ) على أنهم فهموا أن الأمر ليس للوجوب، وأنه للترغيب فيما هو الأولى، إذ لو فهموا الوجوب لم يراجعوه. قال المصنف رحمه الله تعالى (3): ويحتمل أنهم رجوا وقوع النسخ تخفيفًا لما شكوا من الحاجة إلى ذلك، ويؤيده أن في مرسل يحيى بن يعمر: ¬

_ (أ) في جـ: دلالة.

وظن القوم أنها عزمة. ووقع في حديث أبي طلحة: فقالوا: إنما قعدنا لغير ما بأس نتحدث ونتذاكر (¬1). وقوله: "فأما إذا أبيتم". لفظ البخاري (¬2): "فإذا أبيتم إلا المجلس". وقوله: "فأعطوا الطريق حقه". في رواية "حقها". والطريق تذكر وتؤنث. وقوله: قال: "غض البصر". إلى آخره. ذكر أربعة أشياء، وجاء في حديث أبي طلحة (¬3) الأولى والثالثة، وزاد: "وحسن الكلام". وفي حديث أبي هريرة (¬4) الأولى والثالثة، وزاد: "وإرشاد ابن السبيل، وتشميت العاطس إذا حمد". زاد أبو داود (¬5) في حديث عمر وكذا في مرسل يحيى بن يعمر (¬6): "وتغيثوا الملهوف، وتهدوا الضال". وهو عند البزار (¬7) بلفظ: (أ "وإرشاد ابن السبيل، وتشميت العاطس إذا حمد" أ). وفي حديث ابن عباس عند البزار (¬8) من الزيادة: "وأعينوا على الحمولة". وفي حديث سهل ¬

_ (أ- أ) كذا في ب، جـ. وفي مصدر التخريج والفتح - معزوا إلى البزار من حديث عمر: وإرشاد الضال.

ابن حنيف عند الطبراني (¬1) من الزيادة: "ذكر الله كثيرًا". وفي حديث وحشي بن حرب عند الطبراني (¬2) من الزيادة: "واهدوا الأغبياء، وأعينوا المظلوم". ومجموع ما في هذه الأحاديث أربعة عشر أدبًا. قال المصنف رحمه الله تعالى (¬3): وقد نظمتها في ثلاثة أبيات: جمعتُ آدابَ مَن رام الجلوسَ على الطـ ... ـريق من قولِ خير الخلقِ إنسانا أفش السلام وأحسن في الكلام وشـ ... ـمِّت عاطسًا وسلامًا رُد إحسانًا في الحمل عاون ومظلومًا أعن وأغث ... لهفان واهد سبيلًا واهد حيرانا بالعرف مُر وانه عن نكرٍ وكف أذًى ... وغض طرفًا وأكثر ذكر مولانا فالعلة في النهي عن الجلوس في الطريق هو أن يتعرض للفتنة، فإنه قد ينظر إلى الشوابِّ ممن يخاف الفتنة على نفسه من النظر إليهن مع مرورهن لحوائجهن , ومن التعرض لحقوق الله والمسلمين مما لا (أ) يلزم الإنسان إذا كان في بيته , وقد يخشى على نفسه التقصير بالوفاء بتلك الحقوق، فندبهم ¬

_ (أ) في ب: لم.

الشارع إلى ترك التعرض حسمًا للمادة، فلما ذكروا له ضرورتهم لا فيه من المصالح من تعاهد بعضهم بعضًا ومذاكرتهم في أمور الدين ومصالح الدنيا وترويح النفوس بالمحادثة في المباح، دلهم على ما يزيل المفسدة المذكورة. ولكل من الآداب شواهد؛ فأما إفشاء السلام فسيأتي (¬1)، وأما إحسان الكلام، فقال القاضي عياض (¬2): فيه ندب إلى حسن معاملة المسلمين بعضهم لبعض، فإن الجالس على الطريق يمر به العدد الكثير من الناس فربما سألوه عن بعض شأنهم ووجه طرقهم، فيجب أن يتلقاهم بالجميل من الكلام ولا يتلقاهم بالضجر وخشونة اللفظ، وهو من جملة كف الأذى، وقد جاء في حديث أبي مالك الأشعري يرفعه (¬3): "في الجنة غرف لمن أطاب الكلام". الحديث، وفي الصحيحين (¬4): "اتقوا النار ولو بشق تمرة، فمن لم يجد فبكلمة طيبة". وأمَّا تشميت (أ) العاطس فقد مضى، ورد السلام قد مضى (¬5)، وأمَّا المعاونة على الحمل فله شاهد في الصحيحين (¬6) من حديث ¬

_ (أ) في جـ: تشميته.

أبي هريرة رفعه: "كل سلامى من الناس عليه صدقة". وفيه: "ويعين الرجل على دابته فيحمله عليها وفع عليها متاعه صدقة". وأما إعانة (أ) المظلوم فقد ورد من حديث البراء في السبع المأمور بها؛ ومنها (ب): "نصر المظلوم". أخرجه البخاري (¬1)، وأما إغاثة الملهوف ففي حديث أبي ذر عند ابن [حبان] (جـ) "وتسعى بشدة ساقيك مع اللهفان المستغيث". وأخرج المرهبي (¬2) من حديث أنس رفعه: "والله يحب إغاثة اللهفان". وأما إرشاد السبيل فروى الترمذي وصححه ابن حبان (¬3) من حديث أبي ذر مرفوعًا: "وإرشادك الرجل في أرض الضلال صدقة"، وللبخاري في "الأدب المفرد" والترمذي وصححه (¬4) من حديث البراء رفعه: "من منح منيحة أَو هَدَّى زُقَاقا كان له عِدْل عِتق نسمة". وهَدَّى بفتح الهاء وتشديد الدال المهملة، والزقاق بضم الزاي وتخفيف القاف وآخره قاف، معروف، والمراد من دل الذي لا يعرفه عليه إذا احتاج إلى دخوله، وأما هداية الحيران فله شاهد في الذي قبله، وأمَّا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ففيهما أحاديث كثيرة، وأمَّا كفُّ الأذى فالمراد به كف الأذى عن المارَّة بألَّا يجلس حيث يضيق عليهم الطريق أو على ¬

_ (أ) في ب: إغاثة. (ب) ساقط من: جـ. (جـ) في ب، جـ: أحمد. والمثبت من الفتح 11/ 12. والحديث عند ابن حبان 8/ 171 ح 3377.

باب منزل من يتأذى بجلوسه عليه أو حيث ينكشف عياله أو ما يريد التستر به من حاله. قاله القاضي عياض (¬1)، قال: ويحتمل أن يكون المراد (أ) كف أذى الناس بعضهم عن بعض. انتهى. وقد وقع في "الصحيح" (¬2): "فكف عن الشر فإنها لك صدقة". وهو يؤيد الأول، وأما غض البصر فهو كما صرح به في هذا الحديث، وأما كثرة ذكر الله تعالى ففيه عدة أحاديث وسيأتي منها في باب الدعاء. 1283 - وعن معاوية قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين". متفق عليه (¬3). الحديث فيه دلالة على فضيلة العلم، وأن من فاته العلم فقد فاته الخير كله؛ فإنه رتب تفقهه على إرادة الله تعالى الخير. وقوله: "يفقهه". مجزوم جواب (ب) الشرط؛ أي يفهمه، مضارع فقَّهه المعدَّي إلى المفعول بالتضعيف، وهو من: فقُه، وهو بالضم إذا صار الفقه له سجية، ويقال: فقَه. بالفتح إذا سبق غيره إلى الفهم، وفقِه بالكسر إذا فهم، (جـ ونكّر: "خيرًا" جـ). لقصد العموم في (د) سياق الشرط، أو التنكير ¬

_ (أ) زاد بعده في جـ: به. (ب) في جـ: جزاء. (جـ - جـ) (في جـ: ويكون خبرا. (د) في جـ: و.

للتعظيم؛ لأن المقام يقتضيه , والمراد بالتفقه في الدين هو تعليم قواعد الإسلام ومعرفة تفصيل الحلال والحرام , ومفهوم الجملة الشرطية أن من لم يعرف قوعد الدين فقد حرم الخير كله، وقد أشار في رواية أبي يعلى إلى هذا المفهوم، زاد في الحديث: "ومن لم يفقه في الدين لم يبال الله به" (¬1). وهذا بيان ظاهر لفضل العلماء على سائر الناس، ولفضيلة التفقه في الدين على سائر العلوم. وتمام الحديث: "وإنما أنا قاسم والله عزَّ وجلَّ يعطي، ولن تزال هذه الأمة قائمة على أمر الله لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله" (¬2). 1284 - وعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما من شيء في الميزان أثقل من حسن (أ) الخلق" أخرجه أبو داود والترمذي وصححه (¬3). في الحديث دلالة على أفضلية حسن الخلق، وأنه راجح في ميزان الأعمال , وقد تقدم الكلام في تحقيقه (¬4). 1285 - وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ¬

_ (أ) ساقط من: جـ.

"الحياء من الإيمان" متفق عليه (¬1). الحديث أخرجه البخاري بلفظ: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مر على رجل من الأنصار وهو يعظ أخاه في الحياء، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "دعه فإن الحياء من الإيمان". قال المصنف (¬2) رحمه الله تعالى: لم أعرف اسم هذين الرجلين، يعني الواعظ وأخاه، والمراد بقوله: يعظ أخاه. أي ينصحه ويخوفه. وجاء في رواية للبخاري في "الأدب" (¬3) بلفظ: يعاتب أخاه في الحياء؛ يقول: إنك لتستحي حتى لقد أضرَّ بك الحياء. وقد جاء في سببه: وكان الرجل كثير الحياء فكان ذلك يمنعه من استيفاء حقوقه فعاتبه أخوه على ذلك فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: "دعه". أي اتركه على هذا الخلق الحسن. ثم زاده في ذلك ترغيبًا لحكمه بأنه من الإيمان. والحياء بالمد، وهو في اللغة: تغير وانكسار يعتري الإنسان من خوف ما يعاب به. وقد يطلق على مجرد ترك الشيء بسببه، وفي الشرع: أخلق يبعث على اجتناب القبيح، ويمنع من التقصير في حق ذي [الحق] (أ). والحياء وإن كان قد يكون غرِيزة، ولكن استعماله على وفق الشرع يحتاج إلى اكتساب وعلم ونية، فلذلك كان من الإيمان، وقد يكون كسبيًّا فهو من الإيمان. ¬

_ (أ) في ب، جـ: الحياء. والمثبت من الفتح 1/ 52، وشرح مسلم 2/ 6.

وقوله: "الحياء من الإيمان". ذكر ابن التين (¬1) عن أبي عبد الملك، أن المراد به كمال الإيمان. وقال أبو عبيد الهروي (1): معناه أن المستحيي ينقطع بحيائه عن المعاصي وإن لم يكن له تقية، فصار كالإيمان القاطع بينه وبين المعاصي. وقد جاء في الحديث: "إن الحياء خير كله" (¬2)، و"لا يأتي إلَّا بخير" (¬3). واستشكل عمومه بأنه قد يحمل صاحبه على ترك إنكار المنكر والإخلال ببعض الحقوق، وأجيب بأن المراد بالحياء في هذه الأحاديث ما يكون شرعيًّا، والحياء الذي ينشأ عنه الإخلال بالحقوق ليس حياء شرعيًّا، بل هو عجز ومهانة، وإنَّما يطلق عليه حياء لمشابهته الحياء الشرعي، وقد يجاب عنه بجواب أحسن؛ وهو أن من كان الحياء من خلقه فالخير فيه أغلب، أو أنَّه إذا كان الحياء من خلقه كان الخير فيه بالذات ولا ينافيه حصول التقصير في بعض الأحوال. قال القرطبي (¬4): وكان النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - قد جُمع له النوعان من الحياء المكتسب والغريزي، فكان في الغريزي أشد حياء من العذراء في خدرها وكان في المكتسب في الذروة العليا - صلى الله عليه وسلم -. وجعْلُه من الإيمان مجاز، قال ابن قتيبة (¬5): معناه أن الحياء يمنع صاحبه من ارتكاب المعاصي كما يمنع الإيمان فيسمى إيمانًا، كما يسمى الشيء ¬

_ (¬1) الفتح 10/ 522. (¬2) مسلم 1/ 64 ح 61، 37، وأبو داود 4/ 253 ح 4796. (¬3) البخاري 10/ 521 ح 6117، ومسلم 1/ 64 ح 37/ 60. (¬4) الفتح 10/ 522، 523. (¬5) تأويل مختلف الحديث ص 237.

باسم ما قام مقامه. وهو مركب من خير وعفة؛ ولذلك لا يكون المستحيي كاشفًا وقل ما يكون الشجاع مستحيًا. وقد يكون لمجرد الانقباض كما في بعض الصبيان. 1286 - وعن أبي (أ) مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن ممَّا أدرك النَّاس من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستحي فاصنع ما شئت". أخرجه البُخاريّ (¬1). قوله: "إن ممَّا أدرك" إلخ. وقع في حديث حذيفة عند أحمد والبزار (¬2): "إن آخر ما تعلَّق به أهل الجاهلية من كلام (ب) ... " الحديث. و"النَّاس". مرفوع في جميع الروايات، والعائد إلى "ما" محذوف، ويجوز نصب: "النَّاس". والعائد ضمير الفاعل، و "أدرك" بمعنى بلغ، و "إذا لم تستحي"، اسم إن بتأويل هذا اللفظ أو الكلام وخبرها الجار والمجرور المتقدم. وقوله: "النبوة الأولى". أي أنَّه ممَّا اتفق عليه الأنبياء وندبوا إليه ولم ينسخ فيما نسخ من شرائعهم؛ لأنَّه أمر أطبقت عليه العقول. ولفظ "الأولى" ¬

_ (أ) في جـ: ابن. (ب) كذا في ب، جـ، وبعده في مصدري التخريج: النبوة.

لم يكن في البُخاريّ (¬1) وهي من زيادة أبي داود (¬2)، والمراد بها مَن كان قبل نبينا عليهم الصَّلاة والسلام. وقوله: "فاصنع ما شئت". هو أمر بمعنى الخبر؛ أي: صنعت ما شئت. وإنَّما عبر عنه بلفظ الأمر للتنبيه على أن الذي يكف الإنسان عن مواقعة الشر هو الحياء، فإذا تركه توفرت دواعيه إلى مواقعة الشر حتَّى صار كأْنه مأمور بارتكاب كل شر، أو الأمر للتهديد؛ أي: اصنع ما شئت فإن الله مجازيك على ذلك، أو (أ) معناه، انظر إلى ما تريد أن تفعله فإن كان مما (ب) لا تستحيي منه فافعله، وإن كان مما تستحيي منه فدعه، ولا تبال بالخلق، أو المراد الحث على الحياء والتنويه بفضله؛ أي. كما لا يجوز صنع جميع ما شئت لم يجز ترك الاستحياء. 1287 - وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير، احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تَعْجِز، وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أنى فعلت كذا كان كذا وكذا. ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل. فإن لو تفتح عمل الشيطان". أخرجه مسلم (¬3). ¬

_ (أ) في جـ: إذ. (ب) في جـ: ممن.

قوله: "القوي". المراد به عزيمة النَّفس والاجتهاد في أمر الآخرة، فيكون صاحب هذا الوصف أكثر إقدامًا على العدو في الجهاد، وأسرع خروجًا إليه، وذهابًا في طلبه، وأشد عزيمة في الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، والصبر على الأذى في كل ذلك، واحتمال المشاق في ذات الله تعالى، وأرغب في الصَّلاة والصوم والأذكار وسائر الطاعات وأنشط لها والمحافظة عليها ونحو ذلك. وقوله: "وفي كل خير". معناه في كل من القوي والضعيف خير لاشتراكهما في الإيمان مع ما يأتي به الضعيف من العبادات. وقوله: "احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز". احرص، فعل أمر من حرص، بفتحها، يَحرِص، وبكسرها في المضارع، ويجوز الفتح، من حرِص بكسر الراء، في الماضي، ومعناه احرص على طاعة الله تعالى والرغبة فيما عنده، واطلب الإعانة من الله تعالى على أداء الطاعة، كما قال الله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (¬1)، "ولا تعجز". بكسر الجيم ويجوز الفتح، يعني لا تكسل عن الطاعة ولا عن طلب الإعانة. وقوله: "فلا تقل: لو" إلى آخره. قال بعض العلماء: هذا النَّهي إنَّما هو لمن قاله معتقدًا ذلك حتمًا، وأنه لو فعل ذلك لم يصبه قطعًا، فأمَّا من رد ذلك إلى مشيئة الله تعالى وأنه لن يصيبه إلَّا ما شاء، فليس من هذا. [واستدل] (أ) بقول أبي بكر في الغار: لو أن أحدهم رفع رأسه ¬

_ (أ) في ب، جـ: وليستدل. والمثبت من شرح مسلم 16/ 216.

لرآنا (¬1). قال القاضي عياض (¬2): وهذا لا حجة فيه؛ لأنَّه إنما أخبر عن مستقبل، وليس فيه دعوى لرد [قدر] (أ) بعد وقوعه. قال: وكذا جميع ما ذكره البُخاريّ (¬3) في باب ما يجوز من "اللو"، كحديث: "لولا حدثان عهد قومك بالكفر لأتممت البيت على قواعد إبراهيم" (¬4). و: "لو كنت راجمًا بغير بينة لرجمت هذه" (¬5). و: "لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك" (¬6). وشبيه ذلك، فكله مستقبل لا اعتراض فيه على قدر، فلا كراهة فيه؛ لأنَّه إنما أخبر عن اعتقاده فيما كان يفعل لولا المانع وعما هو في قدرته، فأمَّا ما ذهب فليس في قدرته. قال القاضي: فالذي عندي في معنى الحديث أن النَّهي على ظاهره وعمومه، لكنَّه نهي تنزيه، ويدل عليه قوله - صَلَّى الله عليه وسلم -: "فإن لو تفتح عمل الشَّيطان". قال النووي (¬7): وقد جاء من استمعال "لو" في الماضي قوله - صَلَّى الله عليه وسلم -: "لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدى" (¬8). وغير ذلك، فالظاهر أن النَّهي إنَّما هو عن إطلاق ذلك فيما لا فائدة فيه، فيكون نهى تنزيه لا نهي تحريم، فأمَّا من قاله تأسفًا على ما ¬

_ (أ) في ب، جـ: قدره. والمثبت من شرح مسلم 16/ 216.

فات من طاعة الله تعالى وما هو متعذر عليه من ذلك ونحو هذا، فلا بأس به، وعليه يحمل أكثر الاستعمال الموجود في الأحاديث، والله أعلم. 1288 - وعن عياض بن حمار رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم -: "إن الله تعالى أوحى إلي أن تواضعوا حتَّى لا يبغي أحد على أحد، ولا يفخر أحد على أحد". أخرجه مسلم (¬1). قوله: "أن تواضعوا". أي لا تَكَبَّرُوا بأن تعدوا لأنفسكم مَزِيَّة على الغير في استحقاق التعظيم، كما تقدم في الكبر، وجعل ثمرة التواضع وغايته أن: "لا يبغي أحد على أحد". أي لا يظلمه؛ فإن البغي هو الظلم، و"لا يفخر أحد على أحد". يعني يتكبر أحد على أحد، وجاء في هذا أحاديث كثيرة؛ أخرج التِّرمذيُّ وصححه والحاكم وصححه وابن ماجه (¬2) عن أبي بكرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم -: "ما من ذنب أجدر -أي أحق- من أن يعجل الله لصاحبه العقوبة في الدُّنيا مع ما يدخر له في الآخرة من البغي وقطيعة الرحم". والبيهقيّ (¬3): "ليس شيء ممَّا عُصِي الله به هو أعجل عقابًا من البغي". وجاء في الأثر: لو بغى جبل على جبل لجعل الله الباغي منهما دكًّا (¬4). وكذلك خسف الله بقارون لما بغى على قومه قال تعالى: {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ} (¬5). قال ابن عباس: من بغيه أنَّه جعل لبغيَّةٍ ¬

_ (¬1) مسلم، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب الصفات التي يعرف بها في الدُّنيا أهل الجنة وأهل النَّار 4/ 2198، 2199 ح 2865/ 64. (¬2) التِّرمذيُّ 4/ 573 ح 2511، والحاكم 2/ 356، وابن ماجه 2/ 1408 ح 4211. (¬3) البيهقي 10/ 35. (¬4) ينظر شعب الإيمان 6693، وتفسير القرطبي 10/ 167. (¬5) الآية 81 من سورة القصص.

جعلًا على أن ترمي موسى - صلى الله عليه وسلم - المبرأ من كل سوء بنفسها. وفي الحديث دلالة على تحريم البغي والفجر، وهو مجمع على ذلك، والله أعلم. 1289 - وعن أبي الدرداء رضي الله عنه عن النَّبيِّ - صَلَّى الله عليه وسلم - قال: "من رد عن عرض أخيه بالغيب رد الله عن وجهه النَّار يوم القيامة". أخرجه التِّرمذيُّ (¬1) وحسنه، ولأحمد (¬2) من حديث أسماء بنت يزيد نحوه. الحديث فيه دلالة على فضيلة الرد عن عرض المسلم وهو أيضًا واجب، لأنَّه من باب النَّهي عن المنكر، وقد ورد الوعيد على تركه؛ أخرج أبو داود وابن أبي الدُّنيا وغيرهما (¬3): "ما من امرئ مسلم يخذل امرأ مسلمًا في موضع ينتهك فيه حرمته وينتقص فيه من عرضه إلَّا خذله الله في موطن يحب فيه نصرته، وما من امرئ مسلم ينصر امرأ مسلمًا في موضع ينتقص فيه من عرضه وينتهك فيه من حرمته إلَّا نصره الله في موطن يحب فيه نصرته". وأخرج أبو الشَّيخ (¬4): "من رد عن عرض أخيه رد الله عنه عذاب النَّار يوم القيامة". وتلا رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم -: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} " (¬5). وأبو داود وغيره، وأبو الشَّيخ (¬6): "من حمى عرض أخيه في الدُّنيا بعث الله له ملكًا يوم القيامة يحميه من النَّار". والأصبهاني (¬7): ¬

_ (¬1) التِّرمذيُّ، كتاب البر والصلة، باب ما جاء في الذب عن عرض المسلم 4/ 288 ح 1931. (¬2) أحمد 6/ 461. (¬3) أبو داود 4/ 272 ح 4884، وابن أبي الدُّنيا في الصمت ح 241، وأحمد 4/ 30. (¬4) أبو الشَّيخ -كما في الترغيب والترهيب 3/ 517. (¬5) الآية 47 من سورة الروم. (¬6) أبو داود 4/ 272 ح 4883، وابن أبي الدنيا ح 140. ولم أقف على الرّواية لأبي الشَّيخ. (¬7) الأصبهاني -كما في الترغيب والترهيب 3/ 518.

"من اغتيب عنده أخوه فاستطاع نصرته فنصره، نصره الله في الدُّنيا والآخرة، وإن لم ينصره أذله الله في الدُّنيا والآخرة". بل قد جاء في الحديث أن المستمع أحد المغتابين (¬1)، يعني فعقابه عقاب المغتاب فلا يبرئه إلَّا إنكار الغيبة والرد عن العرض إذا أمكن، أو تغيير المقام بالقيام منه إن أمكنه، أو الخوض في كلام آخر، فإن عجز عن التغيير وجب الإنكار بالقلب والكراهة للقول، وقد عد بعض المحققين السكوت كبيرة، وهو حسن؛ لورود هذا الوعيد، ولدخوله في عموم ترك إنكار المنكر؛ ولكونه أيضًا أحد المغتابين، فما ورد من وعيد المغتاب استحقه، وإن احتمل أن تسميته مغتابًا مجاز للمشابهة مبالغة في ذلك، فلا يكون حكمه حكم المغتاب حقيقة، ولكن الأحوط التنزه لئلا يكون له حكمه شرعًا ويكون العقاب عند الله سبحانه وتعالى واحد، والله سبحانه وتعالى أعلم. 1290 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما نقصت صدقة من مال، وما زاد الله عبدًا بعفوٍ إلَّا عزًّا، وما تواضع أحد لله إلَّا رفعه الله تعالى". أخرجه مسلم (¬2). قوله: "ما نقصت صدقة من مال". يحتمل أن يراد بعدم النقصان أنَّه يبارك فيه ويدفع عنه المفسدات، فيجبر نقص الصورة بالبركة الخفية، وهذا مدرك بالحس والعادة، ويحتمل أن يراد أنَّه يحصل بالثواب المرتب على فعل الصدقة جبر نقصان عينها، وكأن الصدقة لم تنقص المال، لما يكتب الله من ¬

_ (¬1) ولفظ الحديث: "المغتاب والمستمع شريكان في الإثم" ورد في الإحياء ولم يخرجه العراقي، وقال القارئ في المصنوع ص 173: لا يعرف له أصل بهذا اللفظ. (¬2) مسلم، كتاب البر والصلة، باب استحباب العفو والتواضع 4/ 2001 ح 2588.

مضاعفة الحسنة إلى عشرة أمثالها، والله يضاعف لمن يشاء، فقوله: "ما نقصت". مجاز على الوجهين استعارة تبعية. وقوله: "وما زاد الله" إلى آخره. يحتمل الحمل على ظاهره، وأن من عرف بالعفو والصفح ساد وعظم في القلوب وزاده عزة وكرامة، فيكون حقيقة، ويحتمل أن المراد الأجر في الآخرة والعز هناك فيكون مجازًا. وقوله: "ومما تواضع" إلى آخره. يحتمل أن يراد أن الله يرفعه في الدُّنيا، ويثبت له بتواضعه في القلوب منزلة، ويرفعه الله عند النَّاس ويجل مكانه، ويحتمل أن يراد أن الله تعالى يثيبه في الآخرة ويرفعه فيها بسبب تواضعه في الدُّنيا. قال العلماء: وهذه الاحتمالات في الألفاظ الثلاثة موجودة في العادة معروفة، وقد يكون المراد الاحتمالين معًا في جميعها في الدُّنيا والآخرة، والله أعلم. 1291 - وعن عبد الله بن سلام رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يا أيها الناس، أفشوا السَّلام، وصلوا الأرحام، وأطعموا الطَّعام، وصلوا بالليل والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام". أخرجه التِّرمذيُّ (¬1) وصححه. قوله: "أفشوا السَّلام". الإفشاء بمعنى الإظهار، والمراد نشر السَّلام بين ¬

_ (¬1) التِّرمذيُّ، كتاب صفة القيامة، باب (42) 4/ 562، 563 ح 2485. وليس فيه. وصلوا الأرحام.

النَّاس لإحياء سنته (أ) ولو لغير معروف، وقد أخرج في "الصحيحين" (¬1) عن عبد الله بن عمرو أن رجلًا سأل النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم -: أي الإسلام خير؟ قال: "تطعم الطَّعام وتقرأ السَّلام على من عرفت ومن لم تعرف". ولا بد من اللفظ المسمع، وقد أخرج البُخاريّ في "الأدب المفرد" (¬2) بسند صحيح عن ابن عمر: إذا سلمت فأسمع فإنَّها تحية من عند الله. قال النووي (¬3): أقله أن يرفع صوته بحيث يسمع المسلَّم عليه، فإن لم يسمعه لم يكن آتيًا بالسنة، فإن شك استظهر، فإن دخل مكانًا وفيه أيقاظ ونيام، فالسنة فيه ما ثبت في "صحيح مسلم" (¬4) عن المقداد قال: كان النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يجيء من الليل فيسلم تسليمًا لا يوقظ نائما ويسمع اليقظان. وإذا لقي جماعة فيكره أن يخص واحدًا منهم بالسلام؛ لأنَّ الغرض من الإفشاء الألفة والإيناس، وفي هذا إيحاش. وقد جاء عند مسلم (¬5) من حديث أبي هريرة مرفوعًا: "ألا أدلكم على ما تحابون به؟ أفشوا السَّلام بينكم". ¬

_ (أ) في ب: سننه.

وقد جاء في إفشاء السَّلام أحاديث كثيرة؛ أخرج النَّسائيّ (¬1) عن أبي هريرهّ رفعه: "إذا قعد أحدكم فليسلم، وإذا قام فليسلم؛ فليست الأولى أحق من الآخرة". وغير ذلك ولا تكفي الإشارة باليد ونحوها. وقد أخرج النَّسائيّ (¬2) بسند جيد عن جابر رفعه: "لا تسلموا تسليم اليهود فإن تسليمهم بالرءوس والأكف". إلَّا أنَّه يستثنى من ذلك حالة الصَّلاة؛ فقد وردت أحاديث جيدة أنَّه - صلى الله عليه وسلم - رد السَّلام وهو يصلِّي إشارة، في حديث أبي سعيد (¬3)، وفي حديث ابن مسعود (¬4)، وكذا من كان بعيدًا بحيث لا يسمع التسليم تجوز الإشارة إليه بالسلام، ويتلفظ مع ذلك بالسلام. وأخرج ابن أبي شيبة (¬5) عن عطاء قال: يكره السَّلام باليد ولا يكره بالرأس. قال ابن دقيق العيد: وقد يستدل بالأمر بإفشاء السَّلام من قال بوجوب الابتداء بالسلام، ويرد عليه بأنه لو قيل بأن الابتداء فرض عين على كل أحد كان فيه حرج ومشقة، والشريعة على التخفيف والتيسير، فيحمل على الاستحباب. انتهى. ويستثنى أيضًا من شرعية رد السَّلام من نهي عن ابتدائه بالسلام، كالكافر، وقد تقدم الكلام (¬6) في ذلك وفي غيره من أحكام السَّلام قريبًا. ¬

_ (¬1) النَّسائيّ في الكبرى 6/ 100 ح 10202. (¬2) النَّسائيّ في الكبرى 6/ 92 ح 10172. بزيادة: "والإشارة". (¬3) البزار -كما في كشف الأستار 1/ 268 ح 554. (¬4) أبو داود 2/ 241، 242 ح 923. (¬5) ابن أبي شيبة 8/ 445. (¬6) تقدم ص 144 - 149.

قال النووي (¬1): وفي التسليم على من لم تعرف إخلاصُ [العمل] (أ) لله تعالى، واستعمالُ التواضع، وإفشاءُ السَّلام الذي هو شعار هذه الأمة. انتهى. مع أنَّه لو ترك السَّلام على من لم يعرف قد يظهر له بعد أنَّه من معارفه فيوقعه في الوحشة. وقال ابن بطال (¬2): في مشروعية السَّلام على غير معروف استفتاح (ب) المخاطبة (جـ) للتأنيس؛ ليكون المؤمنون كلهم إخوة فلا يستوحش أحد من أحد. وأورد الطحاوي في "المشكل" (¬3) حديث أبي ذر في قصة إسلامه وفيه: فانتهيت إلى النَّبيِّ - صَلَّى الله عليه وسلم - وقد صَلَّى هو وصاحبه فكنت أول من حياه بتحية الإسلام. قال الطحاوي: وهذا لا ينافي حديث ابن مسعود في ذم السَّلام للمعرفة؛ لاحتمال أن يكون أبو ذر سلم على أبي بكر قبل ذلك، أو لأنَّ حاجته عند النَّبيِّ - صَلَّى الله عليه وسلم - دون أبي بكر. انتهى. ولعلّه يقال: إنه جمع في التسليم النَّبيَّ - صَلَّى الله عليه وسلم - وصاحبَه، وخص النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - بالذكر لأنَّه المقصود أولًا. وقال المصنف (¬4): والأقرب أن يكون ذلك قبل تقرر الشرع بتعميم ¬

_ (أ) في ب: العمل. (ب) في جـ: استقباح. (جـ) في شرح ابن بطال: للخلطة.

السَّلام. وقوله: "وصلوا الأرحام". تقدم الكلام قريبًا في صلة الرحم (¬1). وقوله: " (أوتطعموا الطَّعام أ) ". ظاهره عموم الإطعام لمن يجب عليه إنفاقه، أو من يلزمه إطعامه ولو عرفًا وعادة، وكالصدقة على السائل للطعام وغيره، إذا أريد به العموم فالأمر محمول على فعل ما هو أولى من تركه؛ ليشمل الواجب والمندوب. وقوله: "وصلوا بالليل واناس نيام". يحتمل أن يريد بها قيام الليل المندوب، أو ما يشمل صلاة العشاء الآخرة، فإنَّه كما جاء في الحديث (¬2): "إنكم تنتظرون صلاة (ب) ما انتظرها غيركم من أهل الأديان". وقوله: "تدخلوا (جـ) الجنة بسلام". يعني أن هذه الخصال من أرجى ما ينال به الجنة، سالمين من جميع (د) مخاوف الآخرة، وإن كان لا بد من استكمال الواجبات واجتناب المحرمات، أو المراد أنها سبب للتوفيق لأداء غيرها من المشروعات، كما قال الله تعالى: {إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} (¬3). والله سبحانه وتعالى أعلم. ¬

_ (أ- أ) لفظ الحديث: "وأطعموا الطَّعام". (ب) في ب: لصلاة، وفي جـ: الصَّلاة. والمثبت من مصدر التخريج. (جـ) في ب، جـ: تدخلون. والمثبت موافق لرواية البلوغ. (د) ساقطة من: جـ.

1292 - وعن تميم الدَّارميّ رضي الله عنه قال: قال رسول الله عليه وسلم: "الدين النصيحة". ثلاثًا. قلنا: لمن يا رسول الله؟ قال: "لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم". أخرجه مسلم (¬1). هو أبو رقية تميم بن أوس بن (أ) خارجة بن سُود، بضم السِّين، بن (ب) جذيمة، بفتح الجيم وكسر الذال المعجمة، بن ذراع بن عدي بن الدار بن هانئ بن حبيب بن نمارة بن لخم، وهو مالك بن عدي (¬2)، فهو منسوب إلى جده دار، قاله الجمهور. ووقعت نسبته الداري في رواية القعنبيّ وابن القاسم. وجاء في رواية يَحْيَى بن بكر "للموطأ"، الديري بالياء منسوب إلى دير كان تميم فيه قبل الإسلام، وكان نصرانيًّا، وذكر أبو الحسين الرازي (جـ) في كتابه "مناقب الشَّافعي" بإسناده الصَّحيح عن الشَّافعي النسبتين لتميم على ما ذكر، ومن العلماء من قال (¬3): إن نسبة الداري إلى دارين وهو مكان عند البحرين، وهو محل السفن، كان يجلب إليه العطر من الهند، وكذلك قيل للعطار: داري. ومنهم من قال: إن ديري منسوب إلى قبيلة. وهو بعيد شاذ، حكى القولين صاحب "المطالع"، وليس في "الصحيحين" و "الموطأ" داري ولا ديري إلَّا تميم، وكني بأبي رقية بابنة له لم يكن له من الولد غيرها، ¬

_ (أ) ساقطة من: جـ. (ب) في جـ: ثم. (جـ) في جـ: الراوي. وينظر شرح مسلم 1/ 142، وكشف الظنون 3/ 1839.

أسلم سنة تسع وكان في جملة وفد الداريين مُنْصَرف النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - من تبوك، وكان يختم القرآن في ركعة، وربما ردد الآية الواحدة الليل كله إلى الصباح، سكن المدينة ثم انتقل منها إلى الشام بعد قتل عثمان إلى أن مات، وسكن بيت المقدس. وقيل: نزل بفلسطين. وهو أول من أسرج السَّرَّاج في المسجد (¬1)، وروي عنه النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - قصة الدجال والجساسة في خطبة فقال: "حدثني تميم الداري". وذكر القصة (¬2). وهذه منقبة لتميم، وهو داخل في رواية الأكابر عن الأصاغر، وروى عنه جماعة من التابعين، ولم يكن له في "صحيح مسلم" غير هذا الحديث، ولم يكن له في "صحيح البُخاريّ" شيء، وهذا الحديث المروي عنه هو العظيم الشأن. قال جماعة من العلماء: إنه أحد الأربعة الأحاديث التي تجمع أمور الإسلام. قال الإمام محيي الدين النووي (¬3) رحمه الله تعالى: ليس الأمر كما قالوه، بل عليه مدار الإسلام، وتفصيل (أ) ذلك ما تسمعه إن شاء الله تعالى. قال الإمام أبو سليمان الخطابي (¬4) رحمه الله تعالى: النصيحة كلمة جامعة معناها حيازة الحظ للمنصوح له، ويقال: هو من وجيز الأسماء ومختصر الكلام، وأنه ليس في كلام العرب كلمة مفردة تستوفي بها العبارة عن معنى هذه الكلمة، كما قالوا في الفلاح: ليس في كلام العرب كلمة ¬

_ (أ) في جـ: تحصيل.

أجمع لخير (أ) الدُّنيا والآخرة منه. قال: وقيل. النصيحة مأخوذة من نصح الرجل ثوبه إذا خاطه، فشبهوا فعل الناصح فيما يتحراه من صلاح المنصوح له بما يسده من خلل الثوب. قال: وقيل: إنَّها مأخوذة من نصحت العسل إذا صفيته من الشمع الخليط. قال: ومعنى الحديث: عماد الدين وقوامه النصيحة، كقوله: "الحج عرفة" (¬1). أي عماده ومعظمه عرفة. قال النووي (¬2) رحمه الله تعالى: أما تفسير النصيحة وأنواعها، فقد ذكر الخطابي وغيره من العلماء فيها كلامًا نفيسًا أنا أضم بعضه إلى بعض مختصرًا؛ قالوا: أما النصيحة لله تعالى؛ فمعناها منصرف إلى الإيمان به، ونفي الشرك عنه، وترك الإلحاد في صفاته، ووصفه بصفات الكمال والجلال كلها، وتنزيهه تعالى عن جميع أنواع النقائص، والقيام بطاعته واجتناب معصيته، والحب فيه والبغض، وموالاة من أطاعه ومعاداة من عصاه، وجهاد من كفر به، والاعتراف بنعمته وشكره عليها، والإخلاص في جميع الأمور، والدعاء إلى جميع الأوصاف المذكورة والحث عليها، والتلطف بجميع النَّاس أو من أمكن منهم عليها. قال الخطابي: وحقيقة هذه الإضافة راجعة إلى العبد في نصحه نفسه، والله تعالى غني عن نصح الناصح. وأمَّا النصيحة لكتابه سبحانه وتعالى، فالإيمان به بأنه كلام (ب) الله تعالى ¬

_ (أ) في جـ: بخير. (ب) في جـ: كتاب.

وتنزيله، لا يشبه شيئًا من كلام الخلق، ولا يقدر على مثله أحد، ثم يعظمه ويتلوه حق تلاوته ويحسنها بالخشوع عندها وإقامة حروفه في التلاوة والذب عنه لتأويل المحرفين، وتعرض الطاعنين، والتصديق بما فيه، والوقوف مع أحكامه، وتفهم علومه (أوأمثاله أ)، والاعتبار بمواعظه، والتفكر في عجائبه، والعمل بمحكمه، والتسليم لمتشابهه، والبحث عن عمومه وخصوصه وناسخه ومنسوخه، ونشر علومه، والدعاء إليه وإلى ما ذكرنا من نصيحته. وأمَّا النصيحة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ فتصديقه على الرسالة والإيمان بجميع ما جاء به، وطاعته في أمره ونهيه، ونصرته حيًّا وميتًا، ومعاداة من عاداه وموالاة من والاه، وإعظام حقه، وتوقيره، وإحياء طريقته وسنته، وبث دعوته، ونشر شريعته ونفي التهمة عنها، و [استثارة] (ب) علومها، والتفقه في معانيها، والدعاء إليها، والتلطف في تعلمها وتعليمها، وإعظامها وإجلالها والتأدب عند قراءتها، والإمساك [عن] (جـ) الكلام فيها بغير علم، وإجلال أهلها لانتسابهم إليها، والتخلق بأخلاقهم، والتأدب بآدابهم، ومحبة أهل بيته وأصحابه، ومجانبة من ابتدع في سنته أو تعرض لأحد من أصحابه، ونحو ذلك. وأمَّا النصيحة لأئمة المسلمين؛ فمعاونتهم على الحق وطاعتهم فيه وأمرهم به، وتنبيههم وتذكيرهم برفق ولطف، وإعلامهم بما غفلوا عنه ولم ¬

_ (أ- أ) في ب: وامتثاله. وينظر شرح مسلم 2/ 38. (ب) في ب، جـ: استنارة. والمثبت من مصدر التخريج. واستثار الشيء: بحثه واستقصاه. الوسيط (ث ور). (جـ) في ب، جـ: من. والمثبت من مصدر التخريج.

يبلغهم من حقوق المسلمين، وترك الخروج عليهم، وتألف قلوب النَّاس لطاعتهم. قال الخطابي: ومن النصيحة لهم الصَّلاة خلفهم، والجهاد معهم، وأداء الصدقات إليهم، وترك الخروج بالسيف عليهم إذا ظهر منهم (أ) حيف أو سوء عشرة، وألا يغروا بالثناء الكاذب عليهم، وأن يدعى لهم بالصلاح (ب). وهذا كله بناء على أن المراد بأئمة المسلمين الخلفاء وغيرهم ممن يقوم بأمور المسلمين من أصحاب الولايات، وهذا هو المشهور وحكاه أيضًا الخطابي ثم قال: وقد يتأول ذلك على الأئمة الذين هم علماء الدين وأن من نصحهم قبول ما رووه، وتقليدهم في الأحكام، وإحسان الظن بهم. وأمَّا نصيحة عامة المسلمين، وهم من عدا ولاة الأمر، فإرشادهم لمصالحهم في آخرتهم ودنياهم، وكف الأذى عنهم، فيعلمهم ما يجهلونه من دينهم ودنياهم، ويعينهم عليه بالقول والفعل، وستر عوراتهم، وسد خلاتهم، ودفع المضار عنهم وجلب المنافع لهم، وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر برفق وإخلاص، والشفقة عليهم، وتوقير كبيرهم، ورحمة صغيرهم، وتخولهم بالموعظة الحسنة، وترك غشهم وحسدهم، وأن يحب لهم ما يحب لنفسه من الخير، ويكره لهم ما يكره لنفسه من المكروه، والذب عن أموالهم وأعراضهم وغير ذلك من أحوالهم بالقول والفعل، وحثهم على التخلق بجميع ما ذكرناه من أنواع النصيحة، وتنشيط ¬

_ (أ) في جـ: فيهم. (ب) في جـ: بالصلاة.

[هممهم] (أ) إلى الطاعات، وقد كان في السلف رحمهم الله تعالى من تبلغ به النصيحة إلى الإضرار بدنياه، والله أعلم. هذا آخر ما تلخص في (ب) تفسير النصيحة. قال ابن بطال (¬1) رحمه الله تعالى في هذا الحديث: إن النصيحة تسمى دينًا وإسلامًا، وإن الدين يقع على العمل كما يقع على القول. قال: والنصيحة فرض كفاية يجزئ فيها من قام به ويسقط عن الباقين. قال: والنصيحة لازمة على قدر الطاقة إذا علم الناصح أنَّه يقبل نصحه، ويطاع أمره، وأمن على نفسه المكروه، فإن خشي أذى فهو في سعة (جـ)، والله أعلم. انتهى كلام النووي. 1293 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أكثر ما يدخل الجنة تقوى الله وحسن الحلق". أخرجه التِّرمذيُّ (¬2) وصححه الحاكم. 1294 - وعنه قال: قال رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم -: "إنكم لا تسعون النَّاس بأموالكم، ولكن ليسعهم منكم بسط الوجه وحسن الخلق". أخرجه أبو يعلى وصححه الحاكم (¬3). ¬

_ (أ) في ب: همتهم. (ب) في ب: من. (جـ) في ب: سعة الله.

1295 - وعنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "المؤمن مرآة أخيه المؤمن". أخرجه أبو داود بإسناد حسن (¬1). قوله: "أكثر ما يدخل الجنة (أ) ". الحديث فيه دلالة على عظم تقوى الله وحسن الخلق، وأمَّا تقوى الله سبحانه وتعالى؛ فلأنها الجامع لفعل الطاعات واجتناب المقبحات، فمن راعاها فقد استكمل العمل بشرائع الإسلام، وأمَّا حسن الخلق فهو كذلك وصف جامع لمحاسن العبادات والعادات، فكان الخصلتان من أعظم أسباب دخول الجنة، وفيه دلالة على أنَّه قد يدخل الجنة غيرهما من الأعمال إلَّا أنَّه قد يحمل الأكثر على الجميع إذا قيل: إن جميع الأعمال المقربة إلى دخول الجنة لا تخلو عن الخصلتين الشريفتين، وأمَّا إذا أريد أنَّه قد يدخل الجنة بغير عمل، كمن يدخل بالشفاعة، وكما في الصَّغير والمجنون، فـ "أكثر" مراد به (أ) معناه الحقيقي، ويدل بمفهومه أنَّه قليل ما يدخل الجنة بغيرهما، وقد تقدم الكلام قريبًا (¬2) في تحقيق حسن الخلق، وجاءت فيه أحاديث كثيرة، أخرج البُخاريّ (¬3): "إن خياركم أحاسنكم أخلاقًا". وفي رواية له (¬4): "إن من خياركم أحاسنكم أخلاقًا". أخرج أبو يعلى (¬5) من حديث أنس يرفعه: "أكمل المؤمنين إيمانًا أحسنهم خلقًا". وللترمذي ¬

_ (أ) ساقط من: جـ.

وحسنه والحاكم (1) وصححه من حديث أبي هريرة: "أحسن النَّاس إسلامًا". ومثله لأحمد (¬2) بسند رجاله ثقات من حديث جابر بن سمرة، وللترمذي (¬3) من حديث جابر يرفعه: "إن من أحبكم إلي وأقربكم مني مجلسًا يوم القيامة أحسنكم أخلاقًا". وأخرجه البُخاريّ في "الأدب المفرد" (¬4) من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده. وللبخاري في "الأدب المفرد" وابن حبان والحاكم والطبراني من حديث أسامة بن شريك (¬5)، قالوا: يا رسول الله، من أحب عباد الله إلى الله؟ قال: "أحسنهم خلقًا". وفي رواية عنه: ما خير ما أعطي الإنسان؟ قال: "خلق حسن". وقد تقدم حديث النواس بن سمعان، وهو عند البُخاريّ في "الأدب المفرد" (¬6)، وزاد التِّرمذيُّ فيه والبزار (¬7). "وإن صاحب حسن الخلق ليبلغ درجة صاحب الصوم والصلاة". وأخرجه أبو داود، وابن حبان، والحاكم (¬8) من حديث عائشة، والأحاديث في ذلك كثيرة. ¬

_ (أ) التِّرمذيُّ 3/ 466 ح 1162، والحاكم 1/ 43. (¬2) أحمد 5/ 89. (¬3) التِّرمذيُّ 4/ 325 ح 2018. (¬4) الأدب المفرد 1/ 370 ح 272. (¬5) الأدب المفرد 1/ 388، 389 ح 291، وابن حبان 2/ 236 ح 486، والحاكم 1/ 121، 4/ 400، والطبراني 1/ 147 ح 471. (¬6) الأدب المفرد 1/ 394 ح 295. (¬7) التِّرمذيُّ 4/ 319 ح 2003، والبزار -كما في الكشف 2/ 407 ح 1975. (¬8) أبو داود 4/ 253 ح 4798، وابن حبان 3/ 229 ح 480، والحاكم 1/ 60.

وحكى ابن بطال (¬1) تبعًا للطبري (أ)، خلافًا هل هو غريزة أو مكتسب؟ وتمسك من قال: إنه غريزة. بحديث ابن مسعود: "إن الله قسم أخلاقكم كما قسم أرزاقكم". وهو عند البُخاريّ في "الأدب المفرد" (¬2). وقال القرطبي في "المفهم" (¬3): الخلق جبلة في نوع الإنسان، وهم في ذلك متفاوتون، فمن [غلب] (ب) عليه شيء منها، فإن كان محمودًا فهو الحسن، وإلا فهو مأمور بالمجاهدة فيه حتَّى يصير محمودًا، وكذا إن كان ضعيفًا فيرتاض صاحبه حتَّى يقوى. وقد وقع في حديث الأشج العصري عند أحمد والنَّسائيُّ والبخاري في "الأدب المفرد" وصححه ابن حبان (¬4) أن النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال له: "إن فيك لخصلتين يحبهما الله؛ الحلم والأناة". قال: يا رسول الله، قديمًا كانا في أو حديثًا؟ قال: "قديمًا" (جـ). قال: الحمد الله الذي جبلني على خلقين يحبهما. وتقدم حديث الجنة وفيه: "ألا يسأل شيئًا ¬

_ (أ) في جـ: للطبراني. (ب) ساقطة من: ب، جـ. والمثبت من الفتح. (جـ) في جـ: بل جبلت عليهما. وجاء في هامش ب ما يلي: الحديث في سنن أبي داود: انتظر المنذر بن الأشج حتَّى أتى عيبته، فليس ثوبيه، ثم أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال له رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم -: "إن فيك خلتين يحبهما الله؛ الحلم والأناة، فقال: يا رسول الله: أنا أتخلق بهما أم الله جبلني عليهما؟ فقال: "بل الله جبلك عليهما". قال: الحمد لله الذي جبلني على خلتين يحبهما الله ورسوله. من جامع الأصول. أ. هـ.

إلَّا أعطاه". فهو يدل على أن ذلك غَرِيزي، والله سبحانه أعلم. وقوله في الحديث الثَّاني: "لا تسعون النَّاس بأموالكم". المراد بالسعة شمول النَّاس بإعطاء المال؛ لحقارة المال وكثرة النَّاس، وأن ذلك غير داخل في مقدرة البشر، وأمَّا شمول الأخلاق من البشر والطلاقة ولين الجانب وخفض الجناح، وغير ذلك، فذلك ممكن، وهو مخصص بمن يجب الإغلاظ عليه كالكافر ومرتكب المنكر الذي يحتاج إلى التخشين عليه، وعطف حسن الخلُق على بسط الوجه من عطف العام على الخاص. وقوله: "المؤمن مرآة أخيه". يعني أن المؤمن لأخيه المؤمن كالمرآة التي ينظر فيها صورته ليطلع على ما فيها من قذى فيزيله، فشبه المؤمن بالمرآة لأخيه، وهو أنَّه إذا نظر فيه عيبًا نصحه ونبهه على إزالته، وقد أخرج الحديث أيضًا التِّرمذيُّ (¬1) وابن منيع، وهو داخل في حديث: "الدين النصيحة". 1296 - وعن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم -: "المؤمن الذي يخالط النَّاس ويصبر على أذاهم خير من الذي لا يخالط النَّاس ولا يصبر على أذاهم". أخرجه ابن ماجه بإسناد حسن وهو عند التِّرمذيُّ إلَّا أنَّه لم يسم الصحابي (¬2). الحديث فيه دلالة على فضيلة الصبر والعفو عن المظالم وكظم الغيظ، وهذه الخصال إنما تكون مع من يخالط النَّاس، ويقل حصولها مع من لا يخالط. ¬

_ (¬1) الترمذي 4/ 287 ح 1929. (¬2) ابن ماجه، كتاب الفتن، باب الصبر على النبلاء 2/ 1338 ح 4032، والترمذي، كتاب صفة القيامة والرقائق والورع، باب (55) 4/ 572 ح 2507.

1297 - وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم -: "اللَّهم أحسنت خَلْقي فحسِّن خُلُقِي". رواه أحمد وصححه ابن حبان (¬1). قوله: "أحسنت خَلْقي". الخلق بفتح الخاء المعجمة وسكون اللام، المراد به ما عليه الجسم من الأبعاد وكيفية أوضاعها، وتحسينه؛ هو اعتدال أوضاعها وسلامته عن العيوب. فأمَّا حسن الخلق فقد مر الكلام قريبًا في تحقيقه (¬2)، وسؤاله - صلى الله عليه وسلم - ذلك إنَّما هو اعتراف نحو الربوبية وتواضع لإظهار العبودية، وإلا فهو مجبول على خلق كريم، وقد جمع الله سبحانه وتعالى له بين حسن الخَلق والخُلق، فما أسنى جماله وأبهاه، وما أعز جنابه وأحماه (أ)، فصل اللَّهم عليه وسلم صلاة ترفعه بها أعلى مقام وأسماه. ¬

_ (أ) في جـ: واحماله.

باب الذكر والدعاء

باب الذكر والدعاء الذكر: مصدر ذكر يذكر، وهو ما يجري على اللسان، والمراد هنا هو ذكر خاص، وهو ذكر الله تعالى بالألفاظ التي ورد الترغيب في قولها والإكثار منها، مثل سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلَّا الله والله أكبر، وما يلحق بهامش الحولقة (¬1) والبسملة والاستغفار، ونحو ذلك، والدعاء بخيري الدُّنيا والآخرة. والدعاء مصدر دعا. والدعوة: المسألة الواحدة. والدعاء: الطّلب. والدعاء إلى الشيء: الحثُّ علي فعله بقول (أ): دعوت فلانًا. سألته. ودعوته: استعنته (ب). ويطلق أيضًا على رفعة القدر؛ كقوله تعالى: {لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ} (¬2). كذا قال الراغب (¬3). ويمكن رده إلى الذي قبله. ويطلق الدعاء أيضًا على العبادة. والدعوى بالقصر: الدعاء؛ كقوله تعالى: {وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ} (¬4). والادعاء كقوله تعالى: {فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا} (¬5). ويطلق الدعاء على التّسمية؛ كقوله تعالى: ¬

_ (أ) في جـ: بقوله. (ب) في جـ: أستعينه.

{لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا} (¬1). وقال الراغب (¬2): الدعاء والنداء واحد، لكن قد يتجرد النداء عن الاسم، والدعاء لا يكاد يتجرد. وقال الإمام أبو القاسم القشيرى في "شرح الأسماء الحسنى" ما ملخصه (¬3): جاء الدعاء في القرآن على وجوه؛ منها، العبادة: {وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ} (¬4)، ومنها الاستغاثة: {وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ} (¬5). (أومنها أ) السؤال: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} (¬6). ومنها القول: {دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ} (¬7). والنداء: {يَوْمَ يَدْعُوكُمْ} (¬8). والثناء: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَو ادْعُوا الرَّحْمَنَ} (¬9). انتهى. والمراد هنا: الطّلب من الله سبحانه وتعالى خير الدُّنيا وخير الآخرة، والاستعاذة من شرورهما. وأعلم أن العلماء اختلفوا في الأفضل؛ الدعاء أو (ب) التفويض والتسليم، ¬

_ (أ- أ) ساقط من: جـ. (ب) في جـ: و.

وذهب الأكثر إلى أن الدعاء أفضل، واحتجوا بقوله تعالى: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ}. فإن الأمر أقل أحواله أن يكون للندب هنا. وقوله: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ} (¬1) الآية. ودلت عليه (أ) آثار كثيرة؛ منها ما أخرجه التِّرمذيُّ (¬2) من حديث أنصر رفعه: "الدعاء منع العبادة". وحديث أبي هريرة رفعه: "من لم يسأل الله يغضب عليه". أخرجه البُخاريّ في "الأدب المفرد" والترمذي، وابن ماجه، والحاكم، كلهم من رواية أبي صالح الخوزي (¬3) -بضم الخاء المعجمة وسكون الواو ثم زاي معجمة- وهو مختلف فيه (¬4)؛ ضعفه ابن معين (¬5)، وقوَّاه أبو زرعة (¬6)، وليس هو أبا صالح السمان (¬7) كما ظنه الحافظ ابن كثير (¬8). قال الطيبي (¬9): معناه أن من لم يسأل الله يبغضه، والمبغوض مغضوب عليه، والله يحب أن يسأل. انتهى. ¬

_ (أ) في جـ: على.

وحديث ابن مسعود رفعه: "سلوا (أ) الله من فضله؛ فإن الله يحب أن يسأل". أخرجه التِّرمذيُّ (¬1)، وحديث ابن عمر رفعه: "إن الدعاء ينفع ممَّا نزل ومما لم ينزل، فعليكم عباد الله بالدعاء". وفي سنده لين، وقد صححه مع ذلك الحاكم (¬2)، وأخرج الطّبرانيّ في "الدعاء" (¬3) بسند رجاله ثقات إلَّا أن فيه عنعنة بقية (¬4) عن عائشة مرفوعًا: "إن الله يحب الملحين في الدعاء". وذهب طائفة إلى أن ترك الدعاء والاستسلام للقضاء أفضل، وتأولوا الآية الكريمة بأن المراد بالدعاء العبادة؛ لقوله في آخر الآية: {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي} (¬5). ولحديث النُّعمان بن بشير عن النَّبيِّ - صَلَّى الله عليه وسلم - قال: "الدعاء هو العبادة". ثم قرأ الآية. أخرجه الأربعة وصححه التِّرمذيُّ والحاكم (¬6). وأجاب الجمهور أن الدعاء من أعظم العبادة فأطلق في آخر الآية العبادة على الدعاء لما كان الدعاء ركنها الأعظم، كقوله: "الحج عرفة" (¬7). وقال الإمام تقي الدين السبكي رحمه الله (¬8): إن العبادة تشمل الدعاء فهي ¬

_ (أ) في جـ: سألوا.

أعم، والدعاء أخص، فأريد بقوله: {ادْعُونِي}. حقيقة الدعاء. وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي}. مراد به العبادة من حيث عمومها للدعاء، فالربط بين العلة والمعلل عموم العبادة للدعاء، وكونه جزئيًّا من جزئيات العبادة، فمن استكبر عن العبادة استكبر عن الدعاء؛ لوجود الخاص في ضمن العام، وعلى هذا، فالوعيد إنما هو في حق من ترك الدعاء استكبارًا، ومن فعل ذلك كفر، وأمَّا تركه لمقصد من المقاصد، فلا يتوجه إليه الوعيد المذكور، وإن كُنَّا نرى أن ملازمة الدعاء والاستكثار منه أرجح من الترك؛ لكثرة الأدلة الواردة في الحض عليه. وقال الطيبي في حديث النُّعمان (¬1): أن تُحْمَلَ العبادة على المعنى اللغوي، وهو التذلل، إذ الدعاء هو إظهار غاية التذلل والافتقار، ولذا ختم الآية بقوله: {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي} الآية. وحكى القشيري في "الرسالة" (¬2) الخلاف في الأفضل، ورجح أن الأفضل الدعاء؛ لكثرة الأدلة، ولما فيه من إظهار الخضوع والافتقار. قال: وشبهة القول الآخر أن الداعي لا يعرف ما قدر له، فدعاؤه إن كان على وفق المقدور (أ) فهو تحصيل الحاصل، وإن كان على خلافه فهو معاندة. ويجاب عن الأول، أن فعل الدعاء إنَّما هو لأجل كونه عبادة فليس تحصيلًا للحاصل، وعن الثَّاني أنَّه إذا (ب) كان ¬

_ (أ) في جـ: المقدر. (ب) في جـ: إن.

يعتقد أنَّه لا يقع إلَّا ما قدر (أ) الله فلا معاندة؛ لأنَّ الله تعالى خالق الأسباب ومسبباتها (ب). قال: وقالت طائفة: ينبغي أن يكون داعيًا بلسانه راضيًا بقلبه. قال: والأولى أن يقال: إذا (جـ) وجاء في قلبه إشارة الدعاء، أفضل وبالعكس. ومن حجتهم قوله تعالى: {بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ} (¬1). فجعل الكشف مقيدًا بالمشيئة، وظاهر قوله: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} (¬2). ألا تتخلفٌ الاستجابة عن الدعاء، وفي الواقع ليس كذلك، أنَّه ليس كل داع يستجاب له، ويجاب عنه بأنه ملتزم ألا تتخلف الإجابة عن الدعاء، ولكنها تتنوع كما ورد في حديث عبادة بن الصَّامت، أخرجه التِّرمذيُّ والحاكم (¬3) بإسناد صحيح يرفعه: "ما على الأرض مسلم يدعو بدعوة إلَّا آتاه الله إياها، أو صرف عنه من السوء مثلها". ولأحمد (¬4) من حديث أبي هريرة: "إما أن يعجلها له، وإما أن يدخرها له". وله (¬5) من حديث أبي سعيد يرفعه: "ما من مسلم يدعو بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم إلَّا أعطاه الله بها ¬

_ (أ) في جـ: قدره. (ب) في حاشية ب: على أنَّه قد أخرج الحاكم عن عائشة وصححه مرفوعًا: لا يغني حذر من قدر. والدعاء ينفع ممَّا نزل ومما لم ينزل، وإن النبلاء لينزل فيتلقاه الدعاء فيعتلجان إلى يوم القيامة. وأخرج عن ثوبان وصححه يرفعه: لا يرد القدر إلَّا الدعاء. وأخرج عن ابن عمر مرفوعًا: الدعاء ينفع ممَّا نزل ومما لم ينزل. انتهى من المستدرك للحاكم الدعاء. (جـ) في جـ: إذ.

إحدى ثلاث؛ إما أن يعجل له دعوته، وإما أن يدخرها له في الآخرة، وإما أن يصرف عنه من السوء مثلها". وصححه الحاكم (¬1). وللإجابة شروط؛ منها طيب المطعم والملبس؛ لحديث "فأنى يستجاب لذلك" (¬2). ومنها ألا يستعجل؛ لحديث: "يستجاب لأحدكم ما لم يقل: دعوت فلم يستجب لي". أخرجه مالك (¬3) 1298 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يقول الله تعالى: أنا مع عبدي ما ذكرني وتحركت بي شفتاه". أخرجه ابن ماجه وصححه ابن حبان وذكره البُخاريّ تعليقًا (¬4). قوله: "مع عبدي ممَّا ذكرني". أي بعلمي، كقوله تعالى: {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} (¬5). والمعية المذكورة أخص من المعية التي في قوله تعالى: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إلا هُوَ رَابِعُهُمْ} إلى قوله: {إلا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} (¬6). أي معه بالرحمة والتوفيق والهداية والرعاية والإعانة، وأمَّا قوله تعالى: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} (¬7). فمعناه العلم ¬

_ (¬1) الحاكم 1/ 493. (¬2) مسلم 2/ 703 ح 1015، والترمذي 5/ 205 ح 2989. (¬3) الموطأ 2/ 213. (¬4) ابن ماجه، كتاب الأدب، باب فضل الذكر 2/ 1246 ح 3792، وابن حبان، كتاب الرقاق، باب الأذكار 3/ 97 ح 815، والبخاري، كتاب التوحيد، باب قول الله تعالى: {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ}. 13/ 499 قبل ح 7524. (¬5) الآية 46 من سورة طه. (¬6) الآية 7 من سورة المجادلة. (¬7) الآية 4 من سورة الحديد.

والإحاطة، ويكون من باب الاستعارة التمثيلية، شبه إسبال الرحمة والتوفيق وإحاطته بالنعم على الذاكر مع الرضى بحاله بحال الصاحب الملازم لمن (أ) صحبه، فاستعمل فيه "مع" الدّالة على معنى الصاحبة. وقال ابن أبي حمزة (¬1): معناه: أنا معه بحسب ما قصد من ذكره لي. قال: ثم يحتمل أن يكون الذكر باللسان فقط أو بالقلب فقط أو بهما، أو بامتثال الأمر واجتناب النَّهي. قال: والذي تدل عليه الأخبار أن الذكر على نوعين؛ أحدهما، مقطوع لصاحبه بما تضمنه هذا الخبر، والثاني، على خطر. قال: والأول مستفاد من قوله تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ} (¬2). والثاني من الحديث الذي فيه: "من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم يزدد من الله إلَّا بعدا" (¬3). لكن إن كان في حال المعصية يذكر الله بخوف ووجل ممَّا [هو] (ب) فيه، فإنَّه يرجى له. والحديث في البُخاريّ (¬4) أخرجه عن أبي هريرة بلفظ قال: قال النَّبيُّ - صَلَّى الله عليه وسلم -: "يقول الله عزَّ وجلَّ: أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه إذا ذكرني؛ فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرنى في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم، وإن تقرب إلي بشير تقربت إليه ذراعًا، وإن تقرب إلي ذراعًا تقربت منه باعًا، ومن أتاني يمشي أتيته هرولة". ¬

_ (أ) في جـ: بمن. (ب) ساقط من: جـ.

1299 - وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما عمل ابن آدم عملًا أنجى له من عذاب الله من ذكر الله". أخرجه ابن أبي شيبة والطبراني (¬1) بإسناد حسن. الحديث فيه دلالة على فضيلة ذكر الله تعالى، وأنه المنجي من المخاوف في الآخرة. 1300 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم -: "ما جلس قوم مجلسًا يذكرون الله إلَّا حفتهم الملائكة وغشيتهم الرحمة وذكرهم الله فيمن عنده". أخرجه مسلم (¬2). قوله: "حفتهم الملائكة". أي يدنون منهم ويقيمون حولهم، وقد جاء في حديث البُخاريّ: "فيحفونهم بأجنحتهم" (¬3). أي يدنون أجنحتهم حول الذاكرين. وهو في معنى حديث مسلم؛ لأنهم إذا أدنوا أجنحتهم حولهم فقد حفوا بهم. وقوله: "وغشيتهم الرحمة". أي صارت الرحمة محيطة بهم حتَّى صارت لهم كالغشاء المحيط بالمغشي. والحديث فيه دلالة على فضيلة مجالس الذكر والذاكرين، وفضل الاجتماع على ذلك، وفيه محبة الملائكة لبني آدم واعتناؤهم بهم، كما في ¬

_ (¬1) ابن أبي شيبة 10/ 299، والطبراني 20/ 166، 167 ح 352. (¬2) مسلم، كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب فضل الاجتماع على تلاوة القرآن وعلى الذكر 4/ 2074 ح 2700/ 39. (¬3) البُخاريّ 11/ 208، 209 ح 6408.

تمام حديث البُخاريّ، والمراد بالملائكة هنا هم الملائكة الطوافون لالتماس أهل الذكر، كما جاء في رواية البُخاريّ (¬1): "إن لله ملائكة يطوفون في الطرق يلتمسون أهل الذكر، فإذا وجدوا قومًا يذكرون الله تعالى تنادوا: هلموا إلى حاجتكم". قال: "فيحفونهم بأجنحتهم إلى السماء الدُّنيا" الحديث. والمراد بالذكر في هذا الحديث، هو التسبيح والتكبير والتحميد والتمجيد، وهذا مذكور في تمام حديث البُخاريّ من جواب الملائكة، وفي رواية الإسماعيلي (¬2) زيادة: "ويذكرونك". وفي حديث أنس عند البزار (¬3): "يعظمون آلاءك، ويتلون كتابك، ويصلون على نبيك، ويسألونك لآخرتهم ودنياهم". ويؤخذ من هذا أنَّه لا يدخل في مجالس الذكر قراءة الحديث، ومدارسة العلم الشريف ومذاكرته، والاجتماع على صلاة النافلة، ولا يبعد أن يكون لمجالس التسبيح والتكبير ونحوهما خصوصية زائدة، وإن كان الذكر يطلق على المواظبة على العمل بما أوجبه الله أو ندب إليه؛ [كقراءة] (أ) الحديث، ومدارسة العلم، والتنفل بالصلاة. ثم الذكر يقع باللسان ويؤجر عليه الناطق، ولا يشترط الاستحضار لمعناه، ولكن يشترط ألا يقصد به غيره، وإن انضاف إلى النطق الذكر بالقلب فهو أكمل، وإن انضاف إلى ذلك استحضار معنى الذكر وما اشتمل عليه من ¬

_ (أ) في ب، جـ: وكقراءة. والمثبت يقتضيه السياق.

تعظيم الله تعالى ونفي النقائص عنه، ازداد كمالًا، فإن وقع ذلك في عمل صالح ممَّا فرض من صلاة أو جهاد أو غيرهما ازداد كمالًا، فإن صح التوجه، وأخلص لله تعالى في ذلك، فهو أبلغ الكمال. وقال الفخر الرازي (¬1): المراد بذكر اللسان: الألفاظ الدّالة على التسبيح والتحميد والتمجيد، والذكر بالقلب: التفكر في أدلة الذّات والصفات، وفي أدلة التكاليف من الأمر والنهي حتَّى يطلع على أحكامها، وفي أسرار مخلوقات الله تعالى، والذكر بالجوارح؛ هو أن تفسير مستغرقة في الطاعات، ومن ثَمَّ سَمَّى الله الصَّلاة ذكرًا؛ فقال: {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} (¬2). ونقل عن بعض العارفين قال: الذكر على سبعة أنحاء؛ فذكر العينين بالبكاء، وذكر اللسان بالثناء، وذكر الأذنين بالإصغاء، وذكر اليدين بالعطاء، وذكر البدن بالوفاء، وذكر القلب بالخوف والرجاء، وذكر الروح بالتسليم والرضا. وقد وردت أحاديث كثيرة تدل على تفضيل الذكر على سائر الأعمال وعلى الجهاد؛ كما في حديث أبي الدرداء مرفوعًا، أخرجه التِّرمذيُّ وابن ماجه وصححه الحاكم (¬3): "ألا أخبركم بخير أعمالكم، وأزكاها عند مليككم، وأرفعها في درجاتكم، وخير لكم من إنفاق الذهب والورق، وخير لكم من أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم". قالوا: بلى. قال: "ذكر الله عزَّ وجلَّ". وقد ورد في فضل الجهاد كذلك أحاديث، وأنه أفضل من الذكر، كما ¬

_ (¬1) الفتح 11/ 209. (¬2) الآية 9 من سورة الجمعة. (¬3) التِّرمذيُّ 5/ 428، 429 ح 3377، وابن ماجه 2/ 1245 ح 3790 والحاكم 1/ 496.

في قوله: "إنه كالصائم لا يفطر والقائم لا يفتر" (¬1). وطريق الجمع، والله أعلم، أن المراد بالذكر الذي هو أفضل الأعمال؛ هو الذكر الكامل الذي يجتمع فيه ذكر اللسان والقلب بالتفكر في المعنى، واستحضار عظمة الله تعالى، وأن الذي يحصل له ذلك يكون أفضل من الذي يقاتل الكفار من غير استحضار لذلك، وأن أفضلية الجهاد إنما هي بالنسبة إلى ذكر اللسان المجرد، فمن ذكر الله سبحانه جامعًا للسان والقلب في حال صلاته، أو صيامه، أو تصدقه، أو جهاده، فهو الذي بلغ الغاية القصوى. وأجاب القاضي أبو بكر بن العربي (¬2) بأنه: ما من عمل صالح إلَّا والذكر مشترط في تصحيحه، فمن لم يذكر الله عند صدقته أو صيامه فليس عمله كاملًا، فصار الذكر أفضل الأعمال من هذه الحيثية، ويشير إلى هذا حديث (أ) "نية المؤمن خير من عمله" (¬3). والله أعلم. 1301 - وعنه قال: قال رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم -: "ما قعد قوم مقعدًا لم يذكروا الله تعالى، ولم يصلوا على النَّبيِّ - صَلَّى الله عليه وسلم -، إلَّا كان حسرة عليهم يوم القيامة". أخرجه التِّرمذيُّ (¬4)، وقال: حسن. الحديث ورد بلفظ: "إلَّا كان عليهم حسرة" (¬5). وبلفظ: "إلَّا كان ¬

_ (أ) ساقط من: جـ.

عليهم تِرة" (¬1). والتِّرة بكسر التاء المنقوطة بنقطين من أعلى وهي بمعنى السيرة، كما في الرّواية الأخرى. وقيل: هي النَّار. وقيل: الذنب. وقال ابن الأثير (¬2): هي النقص. وقيل: التبعة. والهاء فيه عوض عن الواو المحذوفة مثل "عِدَة"، ويجوز في "ترة" و "حسرة" الرفع على اسمية "كان"، والخبر "عليهم"، ويجوز النصب على خبرية "كان"، واسمها ضمير المجلس. وزاد الترمذي في آخره: "فإن شاء عذبهم، وإن شاء غفر لهم". وفي رواية صححها الحاكم (¬3) -واعترضه الذَّهبيُّ بأن في سندها ضعفًا- بلفظ: "أيما قوم جلسوا فأطالوا الجلوس ثم تفرقوا قبل أن يذكروا الله عزَّ وجلَّ ويصلوا على نبيه - صلى الله عليه وسلم -، إلَّا كان عليهم ترة من الله تعالى، فإن شاء عذبهم وإن شاء غفر لهم". وفي أخرى (¬4): "ما جلس قوم يذكرون (أ) الله عزَّ وجلَّ ثم لم يصلوا على نبيه - صلى الله عليه وسلم -، إلَّا كان ذلك (ب) المجلس عليهم ترة، ولا قعد قوم لم يذكروا الله تعالى إلَّا كان عليهم ترة". قال الحاكم: صحيح على شرط البُخاريّ. وفي أخرى عند أحمد (¬5): "ما جلس قوم مجلسًا لم يذكروا الله تعالى إلَّا كان عليهم ترة، وما من رجل مشى طريقًا فلم ¬

_ (أ) في ب: لم يذكروا، وفي جـ: لم يذكر، والمثبت من مصدر التخريج. (ب) ساقطة من: جـ.

يذكر الله تعالى إلا كان عليه ترة، وما من رجل أوى [إلى] (أ) فراشه فلم يذكر الله عزَّ وجلَّ إلَّا كان عليه ترة". وفي أخرى (¬1): "إلَّا كان عليهم حسرة يوم القيامة وإن دخلوا الجنة؛ للثواب". وفي أخرى بسند صحيح (¬2): "لا يجلس قوم مجلسًا لا يصلون فيه على النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، إلَّا كان عليهم حسرة وإن دخلوا الجنة؛ لما يرون من الثواب". وجاء بسند صحيح على شرط مسلم (¬3): "ما اجتمع قوم ثم تفرقوا عن غير ذكر الله عزَّ وجلَّ والصلاة على نبيه - صلى الله عليه وسلم -، إلَّا قاموا عن أنتن جيفة". وفي الحديث دلالة على وجوب الذكر والصلاة في المجلس، لا سيما إذا فسرت الترة بالنار أو العذاب، ومع زيادة قوله: "فإن شاء عذبهم". فإن التعذيب إنَّما هو للذنب، واحتمال أن يكون التعذيب بذنب آخر، وأنه مع الصَّلاة على النَّبيِّ - صَلَّى الله عليه وسلم - وذكر الله تعالى يغفر لهم الذنوب، ومع عدمها يكون الغفران واقفًا على المشيئة (ب)، والحسرة تكون في الموقف لما فاتهم من ثواب الذكر والصلاة، وإن صاروا إلى الجنة. وقد ذكر أنَّه تشرع الصَّلاة عليه - صَلَّى الله عليه وسلم - في أمور مخصوصة، وهي ستة وأربعون؛ الأول: بعد الفراغ من الوضوء والغسل والتيمم. وقد ورد في ¬

_ (أ) ساقط من: ب، جـ. والمثبت من المسند. (ب) زاد بعده في جـ: تعبد.

ذلك أحاديث ضعيفة: "إذا فرغ أحدكم من طهره فليقل: أشهد أن لا إله إلَّا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، ثم ليصل على النَّبيِّ - صَلَّى الله عليه وسلم -، فإذا قال، فتحت له أبواب الرحمة" (¬1). وفي رواية: "الجنة" (¬2). وله طرق وربما رَقي (أ) بها إلى درجة الحسن، ويقاس الغسل والتيمم، وفي رواية أخرى ضعيفة (¬3): "لا وضوء لمن لا يصلِّي على النَّبيِّ - صَلَّى الله عليه وسلم -". أي لا وضوء كامل. الثَّاني: الصَّلاة في التشهد الأخير -وفي الأوسط عند جماعة من الشَّافعية- وفي قنوت الوتر، وقيل عليه قنوت الفجر بلفظ: "وصل على النَّبيِّ". كذا رواه النَّسائيّ (¬4)، ووهم من زاد عليه. "محمد وسلم". قال النووي (¬5): والحديثٌ صحيحٌ أو حسن. واعترض عليه بأن فيه انقطاعًا مع ما فيه من الاختلاف على راويه (ب) وشذوذه. وعن بعض الصّحابة أنَّه كان إذا دخل العشر -أي الأخيرة من رمضان- زاد في قنوت رمضان: اللَّهم صلِّ على محمد كما صليت على إبراهيم، اللَّهم بارك على محمد كما باركت على إبراهيم، إنك حميد مجيد، اللَّهم صلِّ على عبدك ورسولك، والسلام عليه ورحمة الله وبركاته. ونقل صاحب "الأنوار" عن العجلي، ¬

_ (أ) في ب: ترقى. (ب) في ب: رواته، وفي جـ: روايه. والاختلاف فيه على موسى بن عقبة، فالمثبت يقتضيه السياق. وينظر التلخيص 1/ 248.

أنَّه يسن لمن قرأ آية في الصَّلاة فيها ذكر النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، أن يصلِّي على النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، ويسن أيضًا للسامع، ورجح النووي أنَّه لا يندب، والأحسن أن يصلي في نفسه، ونص أحمد على أنَّه يندب ذلك في النافلة، وأطلق الحسن البصري ندبه. الثالث: عقيب الصَّلاة، وقد روي حديث ضعيف (¬1): "من دعا بهؤلاء الدعوات في دبر كل صلاة مكتوبة، حلت له الشفاعة مني يوم القيامة: اللَّهم أعط محمدًا الوسيلة و [اجعله] (أ) في المصطفين محبته، وفي العالين (ب) درجته، وفي المقربين داره". الرابع: عقيب إقامتها (¬2) وعقيب الأذان فتسن عقيبهما، ثم يقول: "اللَّهم رب هذه الدعوة التامة". الحديث. روى مسلم (¬3): "إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول، ثم صلوا علي، فإنَّه من صَلَّى علي صلاة صَلَّى الله عليه بها عشرًا، ثم سلوا الله تعالى لي الوسيلة، فإنَّها منزلة في الجنة لا تنبغي إلَّا لعبد من عباد الله، وأرجو أن يكون هو أنا، فمن سأل الله تعالى لي الوسيلة حلت له الشفاعة". ومعنى "حلت": وجبت. وقد ورد في رواية ¬

_ (أ) في ب: اجعل. (ب) في ب، جـ، وفي مصدر التخريج: العالمين. والمثبت من الترغيب والترهيب 2/ 454. وينظر ضعيف الترغيب 1/ 492 ح 989.

صحيحة (¬1)، ومعنى "وجبت": ثبتت. وقد جاء في رواية (¬2): "من قال حين ينادي المنادي: اللَّهم رب هذه الدعوة التامة، والصلاة القائمة، صلِّ على محمد، وارض عني رضًا لا سخط بعده. استجاب الله دعوته". وفي راوية البُخاريّ (¬3): "من قال حين يسمع النداء: اللَّهم رب هذه الدعوة التَّامة ... ". إلى آخره، يحتمل أن المراد بعد الأذان، ويحتمل أن يكون حاله، ورواية مسلم مصرحة بأنه يقول بعده. الحامس: عند القيام لصلاة الليل من النوم؛ صح أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: "يضحك الله سبحانه من رجلين؛ رجل لقي العدو وهو على فرس من أمثل خيل أصحابه، فانهزموا وثبت، فإن قتل استشهد، وإن بقي فذلك الذي يضحك الله تعالى إليه، ورجل قام في جوف الليل لا يعلم به أحد، فتوضأ وأسبغ الوضوء، ثم حمد الله تعالى ومجده وصلى على النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - واستفتح القرآن، فذلك الذي يضحك الله تعالى إليه، يقول: انظروا إلى عبدي قائمًا، لا يراه أحد غيري" (¬4). السادس: بعد الفراغ من التهجد؛ أخرج النَّسائيّ وابن ماجه (¬5) عن عائشة رضي الله عنها قالت: كُنَّا نعد لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - سواكه وطهوره، فيبعثه الله تعالى لما شاء أن يبعثه من الليل، فيستاك ويتوضأ ويصلي تسع ¬

_ (¬1) الطّبرانيّ 12/ 85 ح 12554. (¬2) ابن السني في عمل اليوم والليلة ص 49 ح 96. (¬3) البخاري 2/ 94 ح 614. (¬4) النَّسائيّ في الكبرى 6/ 217 ح 10702. (¬5) النَّسائيّ 3/ 268 ح 1719، وابن ماجه 1/ 376 ح 1191. وليس عند ابن ماجه: ويصلي على النَّبيِّ - صَلَّى الله عليه وسلم -.

ركعات لا يجلس فيهن إلَّا عند الثامنة، ويحمد الله تعالى ويصلي على نبيه - صلى الله عليه وسلم -، ويدعو بينهن ولا يسلم، ثم يصلِّي التاسعة ويقعد -وذكر كلمة نحوها- ويحمد الله ويصلي على النبي - صلى الله عليه وسلم - ويدعو، ثم يسلم تسليمًا يسمعنا، ثم يصلِّي ركعتين وهو قاعد. كذا استدل بالحديث على هذا الأمر وليس فيه الصَّلاة بعد التمام، وإنَّما الصَّلاة في حال التشهد. والله أعلم. السابع: عند دخول المسجد والخروج منه وعند القعود فيه؛ وقد جاء بسند حسن لكنَّه غير متصل أنَّه - صَلَّى الله عليه وسلم - كان إذا دخل المسجد صَلَّى على محمد وسلم، ثم قال: "اللَّهم اغفر ذنوبي وافتح لي أبواب فضلك". وإذا خرج صَلَّى على محمد، ثم قال: "اللَّهم اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب فضلك" (¬1). وقد جاء في رواية ابن حبان وغيره (¬2) وأصله في مسلم (¬3) بلفظ: "إذا دخل أحد المسجد فليسلم على النبي - صلى الله عليه وسلم -، ثم ليقل: اللَّهم افتح لي أبواب رحمتك". مكان "فضلك" في الدخول، وفي (أ) الخروج: "أبواب فضلك". وفي رواية ضعيفة (¬4): "كان إذا دخل المسجد قال: بسم الله، اللَّهم صلِّ على محمد". وإذا خرح قال: "بسم الله، اللَّهم. صلِّ ¬

_ (أ) ساقط من: جـ.

على محمد". وفي أخرى (¬1): "إذا دخل أحدكم المسجد فليسلم على النَّبيِّ - صَلَّى الله عليه وسلم -، وليقل: اللَّهم افتح لي أبواب رحمتك. وإذا خرج فليصل على النَّبيِّ - صَلَّى الله عليه وسلم - وليقل: اللَّهم اعصمني من الشَّيطان". قال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين. ورد عليه بأن فيه علة خفيت عليه، لكنَّه حسن بشواهده. الثامن: يوم الجمعة (أ). ورد في الصَّلاة عليه يوم الجمعة أحاديث كثيرة، ومن ثم كتب عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى أن انشروا العلم يوم الجمعة؛ فإن غائلة العلم النسيان، وأكثروا الصلاة على النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - يوم الجمعة. قال الشَّافعي (¬2) رحمه الله تعالى: أحب كثرة الصَّلاة على النَّبيِّ - صَلَّى الله عليه وسلم - في كل حال، وأنا (ب) في يوم الجمعة وليلتها أشد استحبابًا. وقد ورد في حديث: "مائتي مرَّة"، و "ثمانين مرَّة". في رواية، وفي رواية زيادة يقول: "اللَّهم صلِّ على محمد عبدك ورسولك النَّبيِّ الأمي ثمانين مرَّة". وفي أخرى يقول بعد صلاة عصر يوم الجمعة: "اللَّهم صلِّ على محمد النَّبيُّ الأمي وعلى الله وسلم تسليمًا، ثمانين مرَّة" (جـ)، وفي أخرى: "مائة مرَّة" (¬4). وفي أخرى: "أربعين مرَّة" (¬5). وفي أخرى: "ألف مرَّة". يقول: "اللَّهم صلِّ ¬

_ (أ) في جـ: القيامة. (ب) في جـ: أما. (جـ) ساقطة من: جـ.

على محمد النَّبيِّ الأمي" (¬1). وفي أخرى (¬2) في سندها مجهول: "إذا كان يوم الخميس بعث الله ملائكة معهم صحف من فضة وأقلام من ذهب، يكتبون يوم الخميس وليلة الجمعة أكثر النَّاس صلاة على النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ". وفي أخرى بسند ضعيف: "إن لله ملائكة خلقوا من النور، لا يهبطون إلَّا ليلة الجمعة ويوم الجمعة، بأيديهم أقلام من ذهب -وروي من فضة- وقراطيس من نور لا يكتبون إلَّا الصَّلاة على النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -" (¬3). وقد روي في الصَّلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - في خصوص يوم السبت ويوم الأحد حديث وفيه أن اليهود والنصارى تكثر سبَّه - صلى الله عليه وسلم - فيهما. وذكر الغزالي (¬4) حديثًا بلا إسناد في صلاة أربع ركعات ليلة الاثنين يصلِّي على النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في كل ركعة خمسًا وسبعين مرَّة، مع أشياء أخر، ثم يسأل الله حاجته، كان حقًّا على الله أن يعطه ما سأل". وتسمى صلاة الحاجة. وذكر المديني حديثًا في ليلة الثلاثاء في سنده من اتهم بالكذب، فيه صلاة أربع ركعات بعد العتمة قبل الوتر يقرأ في كل ركعة أشياء مخصوصة، ثم بعد الفراغ يصلِّي على النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - خمسين مرَّة، وذكر لذلك ثوابًا كبيرًا. التاسع: في الخطب؛ كخطبة العيدين والجمعة والكسوفين والاستسقاء. وهي ركن في الخطبة، فكان السلف يسمون الخطبة بغير الصَّلاة على النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - البتراء. العاشر: في أثناء تكبيرات العيد؛ لما صح عن ابن مسعود أنَّه علم الوليد ¬

_ (¬1) أبو حفص بن شاهين -كما في الترغيب والترهيب للمنذري 2/ 501. (¬2) ابن عساكر 43/ 142. (¬3) أخرجه الديلمي في مسند الفردوس 1/ 227 ح 685. (¬4) الإحياء 1/ 360. وليس فيه ذكر الصَّلاة على النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -.

ابن عقبة حين سأله عن ذلك أن يحمد الله ويصلي على النَّبيِّ - صَلَّى الله عليه وسلم - ثم يدعو بين كل تكبيرتين، وصدقه على ذلك حذيفة وأبو موسى (¬1). الحادي عشر: في صلاة الجنازة بعد التكبيرة الثَّانية عند الشافعية، وعند الهدوية بعد الثَّانية والثالثة والرابعة، وهىِ ركن عند الشَّافعي. وقد ورد في شرعيتها آثار عن الصّحابة. قيل: ويسن عند إدخال الميت القبر. للحديث الحسن أنَّه - صَلَّى الله عليه وسلم - كان إذا وضع الميت في قبره قال: "بسم الله وعلى سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬2) ". ويحتمل أن الصَّلاة هنا لأجل ذكره - صلى الله عليه وسلم -. وقد روي في رجب بخصوصه شيء ولم يصح. وفي "موضوعات ابن الجوزي" (¬3) في ذلك أحاديث واهية لا يعتد بها، وكذا في شعبان لم يصح فيه بخصوصه، وإن ذكر ذلك ابن أَبي الضيف من الشَّافعية في جزء له في فضل شعبان، وذكر فيه عن جعفر وأبي اليمان ما لم يعرف له أصل. الثَّاني عشر: في الحج عقيب التلبية. جاء عن القاسم وسنده ضعيف (¬4)، وعلى الصفا والمروة صح عن عمر (¬5)، وجاء عن ابن عمر (¬6) أيضًا، وعند ¬

_ (¬1) فضل الصَّلاة على النَّبيِّ - صَلَّى الله عليه وسلم - لإسماعيل بن إسحاق القاضي ص 37 ح 88، والبيهقي 3/ 291، 292. (¬2) أبو داود 3/ 211 ح 3213، والترمذي 3/ 64 ح 1046. (¬3) الموضوعات 2/ 124 - 126. (¬4) فضل الصَّلاة على النَّبيِّ - صَلَّى الله عليه وسلم - ص 33 ح 79. (¬5) فضل الصَّلاة على النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ص 34، 36، 37 ح 81، 87. (¬6) فضل الصَّلاة على النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ص 36 ح 87. وفيه عن عمر، وفي جلاء الأفهام ص 263 نقلًا عن عن ابن عمر.

استلام الحجر صح عن ابن عمر (¬1)؛ وفي الطواف، وفي الموقف؛ لحديث أخرجه البيهقي (¬2): "ما من مسلم يقف عشية بالموقف فيستقبل القبلة بوجهه ثم يقول: لا إله إلَّا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير مائة مرَّة، تم يقرأ: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} مائة مرَّة، ثم يقول: اللَّهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد وعلينا معهم مائة مرَّة، إلَّا قال الله تعالى: يا ملائكتي، ما جزاء عبدي هذا؟ سبحني وهللني وكبرني وعظمني وعرفني وأثنى عليَّ وصلى على نبيي؟ اشهدوا أني قد غفرت له وشفَّعته في نفسه، ولو سألني عبدي هذا لشفعته في أهل الموقف". قال البيهقي (¬3): هذا غريب، ليس في إسناده من ينسب إلى الوضع. وقال غيره: بل كلهم موثقون إلَّا رجل منهم فإنَّه مجهول، وقد روي نحوه بزيادات. وفي الملتزم؛ ذكره النووي في "الأذكار" (¬4)، وذكر الشَّافعي وأصحابه (¬5) أنَّه يسن لمن فرغ عن طواف الوداع أن يقف فيه ويقول: إن البيت بيتك ... إلى آخره، ثم يصلِّي على النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -. قالوا: لأنَّه أرجى للإجابة. الثالث عشر: الصَّلاة عليه عند قبره - صلى الله عليه وسلم -، جاء عن ابن عمر أنه يصلي ¬

_ (¬1) الطّبرانيّ في الأوسط 6/ 76 ح 5843. (¬2) فضائل الأوقات ص 375 - 377 ح 196، وشعب الإيمان 3/ 463 ح 4074. (¬3) شعب الإيمان 3/ 463 عقب ح 4074. (¬4) الاُذكار 1/ 439. (¬5) الأم 2/ 221، والمهذب 1/ 232، والمجموع 8/ 238.

عند القبر (¬1). وعن غيره من الصحابهّ أنَّه يسلم (أ) عليه هناك (¬2). وذكر جماعة من العلماء أنَّه يسن لمن هو قاصد للزيارة أن يكثر من الصَّلاة عليه في الطريق - صَلَّى الله عليه وسلم -، وكذا لمن رأى أثرًا من آثاره. الرابع عشر: عند الذبيحة، ذكره الشافعي (¬3)، وقال بكراهتها الحنفية ومالك وأحمد، قالوا: لما فيها (ب) من التشبه بالإهلال لغير الله. وهو مدفوع بأن ذلك إنَّما يكون لو ذكر اسم النَّبيِّ - صَلَّى الله عليه وسلم - مع اسم الله، وأمَّا ذكر الصَّلاة عليه فلا تشبه. وأمَّا حديث: "موطنان لا حظ لي فيهما؛ عند العطاس والذبح". فهو غير صحيح، بل في سنده من اتهم بالوضع (¬4). الخامس عشر: عند عقد البيع؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بحمد الله والصلاة علي فهو أقطع ممحوق من كل بركة". أخرجه الديلمي (¬5) والحافظ عبد القادر الرهاوي في "الأربعين" (¬6) عن أبي هريرة، وقال الرهاوي: غريب، تفرد بذكر الصَّلاة فيه إسماعيل بن أبي زياد الشامي، وهو ضعيف جدًّا لا يعتد بروايته ولا بزيادته (¬7). وقد أخرج أبو الحسين أحمد بن ¬

_ (أ) في ب: سلم. (ب) في جـ: فيه.

محمد بن ميمون في "فضائل علي" (¬1) عن أبي هريرة: "كان كلام لا يذكر الله فيه ولا يصلَّى علي فهو أقطع أكتع ممحوق من كل بركة". السادس عشر: عند كتابة الوصيَّة، روي عن [أبي بكرة نفيع أنَّه أمر] (أ) أن يكتب في وصيته: هذا ما أوصى به نفيع، وهو يشهد أن لا إله إلَّا الله وأن محمدًا رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم - (¬2). وهو يحتمل أن الصَّلاة لذكر اسمه لا لأجل الوصية. السابع عشر: في خطبة التزويج، روي عن ابن عباس أنَّه قال في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ} (¬3): اثنوا عليه في صلاتكم، وفي مساجدكم، وفي كل موطن، وفي خطبة النساء فلا تنسوه (¬4). وفعله (ب) عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه. الثامن عشر: في طرفي النهار، وعند إرادة النوم، ولمن قلَّ نومه. جاء حدَّثنا في مائة صلاة [حين] (جـ) يصلِّي قبل أن يتكلم، وفي المغرب مثل ذلك ¬

_ (أ) في ب، جـ: أبي بكر الصِّديق أنَّه أمر نفيع. والمثبت من مصدري التخريج. (ب) زاد بعده في جـ: عن. (جـ) في ب، جـ: حتَّى. والمثبت من جلاء الأفهام ص 294.

بسند (أ) غريب، وأنها تقضى لفاعل ذلك مائة حاجة (¬1)، وعند أن يأوي إلى فراشه جاء حديث في بعض رواته مقال: أنَّه "من قرأ: "تبارك الملك" ثم قال: اللَّهم رب الحلال والحرام، ورب البلد الحرام، ورب الركن والمقام، ورب المشعر الحرام، بحق [كل] (ب) آية أنزلتها في شهر رمضان بلغ روح محمد منا تحية وسلامًا. أربع مرات، وكل الله به ملكين حتَّى يأتيا محمدًا - صلى الله عليه وسلم - فيقولان: إن فلان بن فلان يقرأ عليك السَّلام ورحمة الله. فأقول: على فلان بن فلان مني السَّلام ورحمة الله وبركاته" (¬2). ووصف بعضهم لمن قلَّ نومه أن يقرأ: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ} الآية. التاسع عشر: عند إرادة السَّفر، ذكر النووي في "الأذكار" (¬3) أنَّه يفتتح دعاءه بالتحميد والتسليم على رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم -. ويدل عليه حديث: "كل أمر ذي بال" (¬4). العشرون: عند الركوب على الدابة، أخرجه الطّبرانيّ (¬5) أنَّه - صلى الله عليه وسلم - قال: "من قال إذا ركب دابة: باسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ¬

_ (أ) في ب: سند. (ب) ساقطة من ب، جـ. والمثبت من مصدر التخريج.

ولا في السماء، سبحان من ليس له سمي، {سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ} (¬1)، والحمد لله رب العالين، صَلَّى الله على سيدنا محمد، وعليه السَّلام. قالت الدابة: بارك الله عزَّ وجلَّ عليك من مؤمن؛ خففت على ظهري، وأطعت ربك، وأحسنت إلى نفسك، بارك الله في سفرك، وأنجح حاجتك". الحادي والعشرون: عند الخروج إلى السوق، وحضور دعوة، ونحوها. وقد روي عن ابن مسعود أنَّه كان يثني على الله تعالى، ويصلي على النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، ويدعو إذا حضر ذلك (¬2). الثاني والعشرون: عند دخول المنزل، وعند نزول حادث من فقر أو خوف (أ) أو حاجة. وقد ورد أن الصَّلاة عليه تنفي الفقر (¬3). الثالث والعشرون: في الرسائل وبعد البسملة، وقد روى عن أبي بكر الصِّديق أنَّه كتب إلى بعض مسألة: بسم الله الرحمن الرحيم، من أبي بكر خليفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى طُريفة بن حاجر، سلام عليك، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلَّا هو، وأسأله أن يصلِّي على محمد - صلى الله عليه وسلم -، أما بعد. إلى آخر الكتاب. وهذا يرد قول من قال: إن أول من أحدث ذلك في أول (ب) ¬

_ (أ) في ب: حرب. (ب) في جـ: أوائل.

الرسائل هارون الرشيد. الرابع والعشرون: عند الهم والشدائد والكرب ووقوع الطاعون. وقد وردت أحاديث أن الصلاة سبب لكفاية مهمات الدنيا والآخرة (¬1). الخامس والعشرون: عند خوف الغرق، وقد ذكر منام لبعض الصالحين عند خشية الغرق، أمره النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يقول من في السفينة الصلاة ألف مرة: اللهم صلِّ على محمد صلاة تنجينا بها من جميع الآفات والأهوال، وتقضي لنا بها جميع الحاجات، وتطهرنا بها من جميع السيئات، وترفعنا بها عندك أعلى الدرجات، وتبلغنا بها أقصى الغايات في الدنيا وبعد الممات. فقالوها ففرج الله عنهم. السادس والعشرون: في أول الدعاء ووسطه وآخره، وقد وردت أحاديث (أفي ذلك أ) وأن الدعاء محجوب حتى يصلي على النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬2). السابع والعشرون: عند طنين الأذن، وقد ورد حديث بسند ضعيف: "إذا طنت أذن أحدكم فليصل عليَّ، وليقل: ذكر الله من ذكرني بخير" (¬3). الثامن والعشرون: عند خَدَر (¬4) الرِّجْل، روي أن عمر وابن عمر وابن ¬

_ (أ - أ) ساقط من: جـ.

عباس خَدِرت أرجلهم، فقال رجل آخر: اذكر (أ) أحب الناس إليك. فقال عمر: يا محمد صلى الله عليك. وقال ابن عمر: يا محمد. وقال ابن عباس: محمد صلى الله عليه. فذهب خدرها (¬1). التاسع والعشرون: عند العطاس، جاء حديث بسند ضعيف: "من عطس فقال: الحمد على كل حال، ما كان من حال، وصلى الله على محمد وأهل بيته. أخرج الله من منخره الأيسر طائرا يقول: اللهم اغفر لقائلها". وهي معتضدة (ب) برواية أخرى، رفيها: أن الطائر أكبر من الذباب وأضعف من الجراد، يرف (جـ) تحت العرش يقول: "اللهم اغفر لقائلي". وعن ابن عمر أنه كان يقول: الحمد لله والسلام على رسول الله، - صلى الله عليه وسلم - (¬2). وقال بعض: لا تسن (د)؛ لخبر روي، وهو: "لا تذكروني في [ثلاثة] (هـ) مواطن؛ عند العطاس، وعند الذبيحة، وعند التعجب" (¬3). وفي رراية: "عند تسمية ¬

_ (أ) في جـ: ذكر. (ب) في جـ: مقتصدة. (جـ) في جـ: فرف. (د) في جـ: يسن. (هـ) في ب، جـ: ثلاث. والمثبت من مصدر التخريج.

الطعام" (¬1). وهو غير صحيح، وفي سنده من اتهم بالوضع (¬2). وكذا روي عن ابن عباس: موطنان لا يذكر فيهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ عند العطاس وعند الذبيحة. ولا يصح، وقال جماعة: (ألا يصلى على أ) النبي - صلى الله عليه وسلم - مع الأكل والشرب والجماع والعطاس و [نحوها] (ب). وقد عرفت ما ذكر في العطاس، ويرد عليهم في الباقي بحديث: "كل أمر ذي بال" (¬3). وأما عند التعجب فكرهها سحنون المالكي، وقال الحليمي من الشافعية: لا يكره، كـ "سبحان الله" عند التعجب. قال: وأما الصلاة عليه عند حصول ما يستقذر أو يضحك (جـ) منه فأخشى على صاحبه الكفر. وقال القونوي: لا يكفر إلا إذا كان ذكره لها لاستقذارها أو لجعلها أضحوكة. وجزم العيني من الحنفية أنها تحرم عند التعجب، وذكر النووي في "الأذكار" (¬4) أنه لا يؤمر بها أحد عند الغضب؛ لئلا يحمله الغضب على الكفر. الثلاثون: عند تذكر منسيٍّ أو خوف نسيان، جاء حديث بسند ضعيف: "إذا نسيتم شيئًا فصلوا عليَّ تذكروه (د) إن شاء الله" (¬5). وله شاهد ¬

_ (أ - أ) في جـ: لا يصح عن. (ب) في ب، جـ: نحوهما. والمثبت هو الصواب. (جـ) في جـ: نضحك. (د) في ب: تذكرون، وفي جـ: تذكرونه. والمثبت من مصدر التخريج.

أيضًا، حديث ضعيف مرسل وسنده منقطع، عن أبي هريرة قال: من خاف على نفسه النسيان فليذكر الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم -. الحادي والثلاثون: عند استحسان الشيء. ذكره ابن أبي حجلة. الثاني والثلاثون: عند أكل الفجل، أخرج الديلمي (¬1): "إذا أكلتم الفجل وأردتم ألا يوجد له ريح فاذكروني عند أول قضمة". ولا يصح مرفوعًا، والأشبه أنه من كلام ابن المسيب. الثالث والثلاثون: عند نهيق الحمير، أخرج الطبراني وابن السني (¬2): "لا ينهق الحمار حتى يرى شيطانًا أو يتمثل له شيطان، فإذا كان ذلك فاذكروا الله وصلوا عليَّ". ويسن أيضًا التعوذ. الرابع والثلاثون: عقيب الذنب ليكفره، وقد ورد أنها كفارة للذنوب (¬3). الخامس والثلاثون: عند عروض حاجة، وقد جاء فيه حديث: "من كانت له إلى الله حاجة أو إلى أحد من بني آدم، فليتوضأ وليحسن وضوءه، وليصل ركعتين، ثم يثني على الله سبحانه وتعالى، ويصلي على النبي - صلى الله عليه وسلم -، ثم ليقل: لا إله إلا الله الحليم الكريم، سبحان الله رب العرش العظيم، والحمد لله رب العالين، أسألك موجبات رحمتك، وعزائم ¬

_ (¬1) الديلمي في مسند الفردوس 1/ 338 ح 1074. (¬2) الطبراني -كما في الفتح 6/ 353، وابن السني في عمل اليوم والليلة ص 153، 154 ح 314. (¬3) فضل الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - ص 8 ح 14.

مغفرتك، والغنيمة من كل بر، والسلامة من كل ذنب، لا تدع لي (أ) ذنبا إلا غفرته، ولا هما إلا فرجته، ولا حاجة هي لك رضًا إلا قضيتها يا أرحم الراحمين". أخرجه الترمذي وابن ماجه والطبراني وغيرهم (¬1)، وقال الترمذي: غريب، وفي إسناده مقال، وفائد راويه ضعيف (¬2). وقال الحاكم (¬3): حديث فائد مستقيم، إلا أن الشيخين لم يخرجا له، وإنما أخرجت حديثه شاهدًا، إلا أنه يقبل مثله في فضائل الأعمال. وقد جاءت أحاديث وأدعية في صلاة الحاجة، كلها ضعيفة. السادس والثلاثون: في سائر الأحوال، وقد مر في الحاديث والعشرين أثر ابن مسعود. السابع والثلاثون: فيمن اتهم بشيء وهو بريء منه، وقد روي فيه أحاديث لم يصح منها شيء، وقد تقدم في الرابع والعشرين ما يدل على ثبوته. الثامن والثلاثون: عند لقاء الإخوان، جاء بسند ضعيف جدا: "ما من متحابين يستقبل (ب) أحدهما صاحبه فيصافحه فيصلي على النبي - صلى الله عليه وسلم -، إلا لم يبرحا حتى تغفر لهما ذنوبهما، ما تقدم منها وما تأخر" (¬4). وفي رواية: ¬

_ (أ) في ب ونسخة من سنن الترمذي: لنا. (ب) في جـ: يستقل.

"ما من مسلمين" (¬1). التاسع والثلاثون: عند تفرق القوم بعد اجتماعهم، وعند القيام من المجلس في كل محل يجتمع فيه لذكر الله تعالى. وفيه الحديث المذكور عن أبي هريرة، الذي هذا المبحث فيه. الأربعون: عند ختم القرآن، كما دلت عليه الآثار الواردة بأنه من مواطن إجابة الدعاء، فيكون من آكد مواطن الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬2). الحادي والأربعون: في الدعاء الوارد لحفظ القرآن الذي علمه النبي - صلى الله عليه وسلم - عليًّا رضي الله عنه لما شكا تفلت القرآن، وأمره بصلاة أربع ركعات، وبعدها أن يحمد الله تعالى ويحسن الثناء عليه ويصلي على النبي - صلى الله عليه وسلم - ويحسن وعلى سائر الأنبياء، إلى آخره. أخرجه الترمذي (¬3)، وقال: إنه غريب. والحاكم (¬4) وقال: صحيح على شرطهما. وجزم الذهبي في موضع بأنه موضوع، وفي آخر أنه باطل (¬5)، وابن الجوزى في "الموضوعات" (¬6). قال السخاوي: وقال المنذري (¬7): طرق أسانيد هذا الحديث جيدة ومتنه غريب جدًّا. ونحوه قال العماد ابن كثير: في المتن غرابة بل نكارة (¬8). ثم قال: ¬

_ (¬1) الترمذي 5/ 70 ح 2727، وابن ماجه 2/ 1220 ح 3703. (¬2) الطبراني 18/ 259 ح 647. (¬3) الترمذي 5/ 526 - 528 ح 3570. (¬4) المستدرك 1/ 316، 317. (¬5) جزم الذهبي في السير 9/ 217 بأنه موضوع، وقال في تلخيص المستدرك 1/ 317: هذا حديث منكر شاذ. وقال في الميزان 2/ 213: حديث منكر جدا. (¬6) الموضوعات 2/ 138. (¬7) الترغيب والترهيب 2/ 361. (¬8) فضائل القرآن لابن كثير ص 191.

قلت: والحق أنه ليس له علة إلا أنه عن [ابن جريج عن عطاء] (أ)، بالعنعنة، أفاده شيخنا، وأخبرني غير واحد أنهم جربوا الدعاء به فوجدوه حقًّا، والعلم عند الله تعالى. الثاني والأربعون: عند افتتاح كل كلام، كما نص عليه الشافعي (¬1)، حيث قال: أن يقدم المرء بين يدي خطبته وكل أمر طلبه حمد الله والثناء عليه سبحانه وتعالى والصلاة على رسوله - صلى الله عليه وسلم -. انتهى. ودليله حديث: "كل أمر ذي بال". إلى آخره. الثالث والأربعون: عند ذكره - صلى الله عليه وسلم -؛ لأحاديث وردت في ذلك، منها حديث: "البخيل من ذكرت عنده فلم يصلِّ عليَّ". أخرجه الترمذي والنسائي وابن حبان والحاكم وإسماعيل القاضي (¬2)، وأطنب في تخريج طرقه وبيان الاختلاف فيه من حديث علي ومن حديث ابنه الحسين، ولا يقصر عن درجة الحسن. وحديث: "رغم أنف رجل ذكرت عنده فلم يصلِّ عليَّ". أخرجه الترمذي (¬3) من حديث أبي هريرة، صححه الحاكم (¬4)، وله شاهد من حديث أبي ذر في الطبراني، وآخر عن أنس عند ¬

_ (أ) في ب، جـ: ابن عطاء عن ابن جريج. والمثبت من مصدر التخريج، وينظر تهذيب الكمال 18/ 338.

ابن أبي شيبة، وآخر مرسل عن الحسن عند سعيد بن منصور (¬1)، وأخرجه ابن حبان (¬2) من حديث أبي هريرة بلفظ: "من ذكرت عنده فلم يصل عليك فمات فلم يدخل الجنة فأبعده الله". وله شواهد كثيرة. وعند الحاكم (¬3) من حديث كعب بن عُجْرَة بلفظ: "بعُد من ذكل رت عنده فلم يصل علي". وعند الطبراني (¬4) من حديث جابر يرفعه: "شقي عبد ذكرت عنده فلم يصل عليَّ". وعند عبد الرزاق (¬5) من مرسل قتادة: "من الجفاء أن أذكر عند رجل فلا يصلي عليَّ". وقد استدل بهذه الأحاديث من أوجب الصلاة عليه كلما ذكر، لأن الدعاء بالرغم والإبعاد والشقاء، والوصفَ بالبخل والجفاء يقتضي الوعيد، [والوعيد] (أ) على الترك من علامات الوجوب، ومن حيث المعنى [أن] (أ) فائدة الأمر بالصلاة عليه مكافأته على إحسانه، وإحسانه مستمر، فيتأكد إذا ذكر، وبقوله تعالى: {لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا} (¬6). فلو كان إذا ذكر لا يصلى عليه لكان كآحاد الناس. وأجاب من لم يوجب بأجوبة؛ منها، أنه قول لا يعرف عن أحد من ¬

_ (أ) ساقط من: ب، جـ. والمثبت من الفتح 11/ 168.

الصحابة ولا التابعين، فهو قول مخترع، وفي ذلك حرج ومشقة جاءت الشريعة السمحة بخلافه، ولكان الثناء على الله كلما ذكر أحق بالوجوب، ولم يقولوا به. وقد أطلق القدوري أن هذا القول مخالف للإجماع المنعقد قبل قائله؛ لأنه لا يحفظ عن أحد من الصحابة أنه خاطب النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله، صلى الله عليك (أ). ولأنه لو كان كذلك لم يتفرغ السامع لعبادة أخرى. وقالوا في جواب الأحاديث بأنها خرجت مخرج المبالغة؛ لتأكيد ذلك وطلبه في حق من اعتاد ترك الصلاة عليه ديدنًا (ب)، ولا دلالة على وجوب تكرر (جـ) ذلك بتكرر ذكره في المجلس الواحد. والقائلون بالوجوب قالوا (5) في خمسة أحوال، جمعها الفقيه صالح اليماني الشافعي رحمه الله تعالى حيث قال: تجب الصلاة على النبي المصطفى ... والخلق في وقت الوجوب سيظهر في العمر واحدة وثان كلما ... صلى وثالثها إذا ما يذكر واختاره منا الحليمي الذي ... قد غاص في التحقيق وهو المكثر [وكذا] (د) الطحاوي الذي مَن نهجُه ... من منهج النعمان لا يستنكر وكذلك اللخمي أعني من له ... من مالك فضل اتباع يشهر ومن الحنابلة [ابن] (هـ) ريطة والذي ... قالوه عندي راجح مستفخر ¬

_ (أ) في جـ: عليه وسلم. (ب) في جـ: وندبا. (جـ) في جـ: ترك. (*) إلى هنا انتهت مخطوطة المكتبة العامة بالرباط والمشار إليها بالرمز ب. (د) في جـ: وكذلك. وأثبتناه ليستقيم وزن البيت. (هـ) زيادة يستقيم بها البيت.

ولكل مجلسٍ الوجوب الرابع ... وكذا الدعاء مقدم ومؤخر هذا الأخير من المذاهب كلها ... والله أعلم بالصواب وأخبر. وحكى القاضي عياض (¬1) عن التجيبي أنه قال: واجب كل مؤمن ذكَره - صلى الله عليه وسلم - إن ذكر عنده أن يخشع ويخضع ويتوقر ويسكن من حركته، ويأخذ من هيبته وإجلاله بما كان يأخذ به نفسه لو كان بين يديه، ويتأدب بما أدبنا الله تعالى به. قال: وهذه كانت سيرة سلفنا الصالح وأئمتنا الماضين. وكان مالك إذا ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - تغير لونه وانحنى حتى قيل له في ذلك، فقال: لو رأيتم ما رأيت لما أنكرتم ما ترون (¬2)، وكان جعفر الصادق إذا ذكر عنده النبي - صلى الله عليه وسلم - اصفرَّ لونه، وعبد الرحمن بن القاسم إذا ذكر عنده النبي - صلى الله عليه وسلم - كان نزف منه الدم وجف لسانه في [فمه] (أ)، وابن الزبير إذا ذكر عنده النبي - صلى الله عليه وسلم - يبكي حتى لا يبقى في عينه دمع، وكان الزهريّ إذا ذكر عنده النبي - صلى الله عليه وسلم - فكأنه ما عرفته ولا عرفك. وكان ابن عمر إذا بآية من آيات وردِه تخنقه العبرة ويسقط ويلزم اليوم واليومين، اللهم أذقنا حلاوة محبته، ولا تسلك بنا غير سبيل سنته. الرابع والأربعون: عند نشر العلم والوعظ وقراءة الحديث ابتداءً ¬

_ (أ) في جـ: فهمه. والمثبت من الشفا.

وانتهاءً. قال النووي في "الأذكار" (¬1): يُستحب لقارئ الحديث وغيره مما في معناه إذا ذكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يرفع صوته بالصلاة عليه والتسليم، ولا يبالغ في الرفع. وكذا ذكر الخطيب البغدادي (¬2) وغيره. وذكر العلماء من الشافعية وغيرهم أنه يُستحب رفع الصوت بالصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - كالتلبية. الخامس والأربعون: عند الإفتاء كما ذكر في "روضة النووي" (¬3)، ويندب له أيضًا الاستعاذة والتسمية والحولقة (¬4)، و {رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (25) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (26) وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي (27) يَفْقَهُوا قَوْلِي} (¬5)، وإن المفتي يلحق بخطه ما أغلفه (¬6) السائل آخر السؤال من الدعاء أو الحمد لله أو الصلاة على رسول الله؛ لجريان العادة بذلك وبيدو أيضًا للحاكم قبل الحكم. السادس والأربعون: عند كتابة اسمه - صلى الله عليه وسلم - قال ابن الصلاح (¬7): ينبغي ¬

_ (¬1) الأذكار ص 271. (¬2) الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع 2/ 103. (¬3) روضة الطالبين 11/ 113. (¬4) قال النووي: ويقال في التعبير عن قولهم: لا حول ولا قوة إلا بالله: الحوقلة. هكذا قاله الأزهري والأكثرون. وقال الجوهري: الحولقة. فعلى الأول وهو المشهور الحاء والواو من الحول والقاف من القوة واللام من اسم الله تعالى وعلى الثاني الحاء واللام من الحول والقاف من القوة، والأول أولى لئلا يفصل بين الحروف، ومثل الحولقة الحيعلة والبسملة والحمدلة والسبحلة. شرح مسلم 4/ 87. (¬5) الآيات 25 - 28 من سورة طه. (¬6) أغلفه: جعل له غلافا. مختار الصحاح (غ ل ف). (¬7) مقدمة ابن الصلاح ص 105.

أن يحافظ على كتابة الصلاة والتسليم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند ذكره، ولا يسأم من تكريره، فإن ذلك من أكبر الفوائد التي يتعجلها طلبة الحديث وكتبته، ومن أغفل حرم حظًّا عظيمًا، وكذا الثناء على الله سبحانه وتعالى عند ذكر اسمه وكتابته، ولا يقتصر في كتابتها بلفظ "صلم" بدلًا عن إكمالها، ولا لفظ الصلاة من دون السلام، وقد روي في ذلك أحاديث من طرق متعددة لا يصح منها شيء، وروي موقوفًا من كلام جعفر الصادق: من صلى على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في كتاب، صلَّت عليه الملائكة غدوة ورواحا ما دام اسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الكتاب (¬1). ورئي لأصحاب الحديث بسبب ذلك منامات صالحة؛ لأحمد بن حنبل ولأبي زرعة وللشافعي رحمهم الله تعالى. واعلم أن العلماء اختلفوا في معنى صلاة الله تعالى على نبيه؛ فقال أبو العالية (¬2): هي بمعنى ثنائه عليه عند ملائكته، ومعنى صلاة الملائكة عليه الدعاء له بحصول الثناء والتعظيم. وعند ابن أبي حاتم عن مقاتل بن حيان قال: فإن صلاة الله تعالى مغفرة، وصلاة الملائكة الاستغفار. وعن ابن عباس (¬3) أن معنى صلاة الملائكة الدعاء بالبركة. ونقل الترمذي (¬4) عن سفيان الثوري وغير واحد قالوا: صلاة الرب الرحمة، وصلاة الملائكة الاستغفار. وقال الضحاك بن ¬

_ (¬1) ينظر الترغيب والترهيب 1/ 111، وجلاء الأفهام ص 67. (¬2) إسماعيل بن إسحاق القاضي في فضل الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - ص 40 ح 95. (¬3) البخاري 8/ 532 معلقا، وابن جرير 19/ 174. (¬4) الترمذي 2/ 356 عقب ح 485.

مزاحم: صلاة الله [رحمته] (أ). وفي رواية عنه: مغفرته. وصلاة الملائكة الدعاء. أخرجهما إسماعيل القاضي (¬1) عنه، وكأنه يريد الدعاء بالمغفرة ونحوه. قال المبرد: الصلاة من الله الرحمة، ومن الملائكة رقة تبعث على استدعاء الرحمة. وتعقب بأن الله سبحانه وتعالى غاير بين الصلاة والرحمة في قوله: {أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ} (¬2). وكذلك فهم الصحابة المغايرة من قوله تعالى: {صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (¬3). حتى تساءلوا عن كيفية الصلاة مع تقدم ذكر الرحمة في تعليم السلام حيث جاء بلفظ: "السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته" (¬4). وأقرهم النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلو كانت الصلاة بمعنى الرحمة لقال لهم: علمتم ذلك في السلام. وجوز الحليمي (¬5) أن تكون الصلاة بمعنى السلام عليه، والحديث يرد عليه. وقول أبي العالية أولى. والمراد من صلاة الملائكة هي طلب زيادة التعظيم والثناء، وقيل: صلاة الله على خلقه تكون خاصة وتكون عامة، وصلاته على أنبيائه هي ما تقدم من الثناء والتعظيم، وصلاته على غيرهم هي الرحمة ¬

_ (أ) في جـ: رحمة. والمثبت من مصدري التخريج.

التي وسعت كل شيء. ونقل القاضي عياض (¬1) عن (أأبي بكر أ) القشيري قال: الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - من الله تشريف وزيادة تكرمة، وعلى من دون النبي رحمة. [فمعنى] (ب) قولنا: اللهم صل على محمد. عظم محمدًا، والمراد بالتعظيم؛ [بإعلاء] (جـ) ذكره وإظهار دينه، وإبقاء شريعته في الدنيا، وفي الآخرة بإجزال مثوبته وتشفيعه في أمته، والشفاعة العظمى للخلائق أجمعين في المقام المحمود. ومشاركة الآل والأزواج بالعطف؛ يراد في حقهم التعظيم اللائق بهم، وبهذا يظهر وجه اختصاص الصلاة بالأنبياء دون من عداهم، ويتأيد هذا بما أخرجه الطبراني (¬2) من حديث ابن عباس رفعه: "إذا صليتم عليَّ فصلوا على أنبياء الله؛ فإن الله بعثهم كما بعثني". فجعل العلة البعثة، فتكون مختصة بمن بعث. وأخرج ابن أبي شيبة (¬3) عن ابن عباس بسند صحيح قال: ما أعلم الصلاة تنبغي من أحد على أحد إلا على النبي - صلى الله عليه وسلم -. وحكى القول به عن مالك، وقال: ما تُعبِّدنا به. وجاء نحوه عن عمر بن عبد العزيز. [و] (د) عن ¬

_ (أ- أ) في الفتح ونسخة من الشفا: بكر. (ب) في جـ: بمعنى. والمثبت من الفتح 11/ 156. (جـ) في جـ: على. والمثبت من الفتح 11/ 156. (د) ساقطة من: جـ. والمثبت من الفتح 11/ 170.

مالكُ: تكره. وقال عياض (¬1): عامة أهل العلم على الجواز. وقال سفيان (¬2): يكره أن يصلي إلا على نبي. قال المصنف رحمه الله تعالى (أ): ووجدت بخط بعض [شيوخي] (ب): مذهب مالك: لا تجوز الصلاة إلا على محمد. وهذا غير معروف عن مالك، وإنما قال: أكره الصلاة على غير الأنبياء، وما ينبغي لنا أن نتعدى ما أمرنا به. وخالفه يحيى بن يحيى فقال: لا بأس به. واحتج بأن الصلاة دعاء بالرحمة فلا يمنع إلا بنص أو إجماع. قال القاضي عياض (¬3): والذي أميل إليه قول مالكُ وسفيان، وهو قول المحققين من المتكلمين والفقهاء. قالوا: يذكر غير الأنبياء بالرضا والغفران. والصلاة على غير الأنبياء -يعني استقلالًا- لم تكن من الأمر [المعروف] (جـ)، وإنما أحدثت في دولة بني هاشم -يعني العبيديين- وأما الملائكة فلا أعرف فيه حديثًا، وإنما يؤخذ ذلك من الذي قبله حديث ابن عباس؛ لأن الله سماهم رسلًا. وأما المؤمنون فقالت طائفة: لا تجوز استقلالًا وتجوز تبعًا [فيما] (د) ورد به النص، كالآل والزوجات ويقاس ¬

_ (أ) كذا نسب المصنف هذا الكلام إلى الحافظ ابن حجر، وهو خطأ، وإنما هو من كلام القاضي عياض في الشفا 2/ 660 نقله عنه الحافظ في الفتح 11/ 170. (ب) في جـ: شيوخ: والمثبت من الشفا. (جـ) في جـ: بالمعروف. والمثبت من الشفا والفتح. (د) في جـ: مما. والمثبت من الفتح.

غيرهم، إلا أنه يقال: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - لمّا علَّمهم الصلاة عليه ذكره الآل والزوجات والذرية ولم يذكر غيرهم، فيكون ذلك خاصًّا ولا يقاس عليه، ويحتمل أن التنصيص لا يمنع القياس. وأما السلام فقال: قولوا: "السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين" (¬1). فأشار البخاري (¬2) إلى أنها تجوز الصلاة ولو استقلالا؛ لأنه بوب: هل يصلّى على غير النبي. ثم أورد قوله تعالى: {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ} (¬3). وأورد (1) حديث: "اللهم صل على آل أبي أوفى" (¬4). وقد جاء مثله عن قيس بن سعد بن عبادة، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رفع يديه وهو يقول: "اللهم اجعل صلواتك ورحمتك على آل سعد بن عبادة". أخرجه أبو داود والنسائي (¬5)، وسنده جيد، وفي حديث جابر أن امرأته قالت للنبي - صلى الله عليه وسلم -: صلّ عليَّ وعلى زوجي. ففعل. أخرجه أحمد مطولًا ومختصرًا وصححه ابن حبان (¬6). وقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ} (¬7). وفي صحيح مسلم (¬8) من حديث أبي هريرة مرفوعًا: "إن الملائكة تقول لروح المؤمن: صلى الله عليك وعلى جسدك". ¬

_ (أ) زاد بعده في جـ: نخلنهم.

وأجيب بأن ذلك الذي صدر من الله ورسوله لا يلزم منه الإذن؛ لأنه لا يلزم إيهام التسوية في التعظيم الذي كان سببًا للمنع منا. وقال البيهقي (¬1): يحمل المنع إذا وقع على جهة التعظيم لا إذا كان على وجه الدعاء بالرحمة والبركة. وقال ابن القيم (¬2): يصلى على غير الأنبياء والملائكة وأزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - وآله وذرّيته وأهل الطاعة على سبيل الإجمال، ويكره في غير الأنبياء لشخص مفرد بحيث صار شعارًا، ولا سيما إذا ترك في حق مثله أو أفضل منه، كما يفعله الرافضة، فلو اتفق وقوع ذلك مفردًا في بعض الأحايين من غير أن يتخذ شعارًا لم يكن به بأس. واختلف في السلام على غير الأنبياء بعد الاتفاق على مشروعيته في تحية الحي؛ فقيل: يشرع مطلقًا. وقيل: تبعًا. ولا يفرد بواحد لكونه صار شعارا للرافضة، ونقله النووي (¬3) عن الشيخ أبي محمد الجويني. 1302 - وعن أبي أيوب رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له. عشر مرات، كان كمَن أعتق [أربعة] (أ) أنْفُسٍ من ولد إسماعيل". متفق عليه (¬4). الحديث أخرجه مسلم (¬5) بلفظ: "من قال: لا إله إلا الله وحده لا ¬

_ (أ) في جـ: أربع. والمثبت من صحيح مسلم.

شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيءٍ قدير. عشر مرات، كان كمَن أعتق [أربعة] (أ) أنفُسٍ من ولد إسماعيل". وفي روايةٍ له (¬1) عن أبي هريرة، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -[قال] (ب): "من قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيءٍ قدير في يوم مائة مرة، كانت له عدل عشر رقاب، وكتب له مائة حسنة، ومحيت عنه مائة سيئة، وكانت له حرزًا من الشيطان يومه ذلك حتى يمسي، ولم يأت أحد أفضل مما جاء به إلا أحد عمل أكثر من ذلك، ومن قال: سبحان الله وبحمده. في يومه مائة مرة حطت خطاياه ولو كانت مثل زيد البحر". وأخرج البخاري (¬2) حديث أبي هريرة: "في [يوم] (جـ) مائة مرة". وأما حديث أبي أيوب فذكر البخاري (2) قال: "من قال عشرا كان كمن أعتق رقبة من ولد إسماعيل". فليس ذلك من المتفق عليه بتمامه. ومثله حديث البراء أخرجه النسائي وصححه ابن حبان والحاكم (¬3). وأخرج الإمام أحمد والطبراني (¬4) من طريق سعيد بن إياس الجريري عن أبي أيوب الأنصاري قال: لما قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - المدينة نزل عليَّ فقال لي: "يا أبا أيوب، ألا ¬

_ (أ) في جـ: أربع والمثبت من صحيح مسلم. (ب) ساقط من: جـ. والمثبت يقتضيه السياق. (جـ) ساقط من: جـ. والمثبت من مصدر التخريج.

أعلمك؟ ". قلت: بلى. قال: "ما من عبد يقول إذا أصبح: لا إله إلا الله -فذكره- إلا كتب الله له بها عشر حسنات، ومحا عنه عشر سيئات، وإلّا كنّ له عند الله عدل عشر رقاب محررين، وإلّا كان في جُنّة من الشيطان حتى يمسي، ومن قالها حين يمسي إلا كان كذلك". وروى أحمد (¬1)، من طريق عبد الله بن يعيش، عن أبي أيوب رفعه: "من قال إذا صلى الصبح: لا إله إلا الله -فذكر بلفظ عشر مرات- كُنّ كعدل أربع رقاب، وكتب له بهن عشر حسنات، ومحي عنه بهن عشر سيئات، ورفع له بهن عشر درجات، وكنّ له حرسًا من الشيطان حتى يمسي، فإذا قالها بعد المغرب فمثل ذلك". وسنده حسن، وأخرجه جعفر في "الذكر" (¬2) عن أبي أيوب رفعه قال: "من قال حين يصبح". فذكر مثله، لكن زاد: "يحيي ويميت". قال فيه: "بعدل عشر رقاب، وكان له مسلحة من أول نهاره إلى آخره، ولم يعمل يومئذ عملًا يقهرهن، وإن قال مثل ذلك حين يمسي فمثل ذلك". وأخرجه (2) أيضًا من طريق القاسم بن عبد الرحمن عن أبي أيوب بلفظ: "من قال غدوة". فذكر نحوه، وقال في آخره: "وأجاره الله يومه من النار، [ومن قالها عشية] (أ) كان له مثل ذلك". وطريق الجمع بين هذه الروايات في عدد الرقاب مع اتحاد المخرج يقتضي الترجيح بينها، فالأكثر على ذكر أربعة. ¬

_ (أ) في جـ: وقال عشيته. والمثبت من الفتح.

وأما حديث أبي هريرة في "العشر" فإنه كقول "مائة مرة". فيكون مقابل كل عشر مرات رقبة من قبيل المضاعفة، وأما ذكر "رقبة" بالإفراد في حديث أبي أيوب فشاذ، والمحفوظ أربعة، وجمع القرطبي في "المفهم" (¬1) بأن ذلك باختلاف أحوال الذاكرين في استحضارهم لمعاني الألفاظ بالقلوب، وإمحاض التوجه والإخلاص لعلّام الغيوب، فيكون اختلاف ثوابهم بمقدار ذلك وبحسبه، وعلى هذا يتنزل اختلاف مقادير الثواب الوارد في الأحاديث بالنظر إلى عمل واحد، لكنه يستقيم إذا تعددت مخارج الأحاديث، ويحتمل، فيما إذا تعددت، الاختلاف باعتبار الزمان؛ كالتقييد بما بعد صلاة الصبح مثلًا، وعدم التقييد إذا لم يحمل المطلق على المقيد، وظاهر لفظ الحديث أن هذه لفظ الفضيلة تحصل لمن أتى بالذكر في اليوم متواليًا أو مفرقًا، في أوله وفي آخره، لكن الأفضل أن يأتي به متواليًا في أول النهار ليكون حرزًا في جميع نهاره، وكذا في أول الليل ليكون له حرزًا في جميع ليله، وأكمل ما ورد في لفظ هذا التهليل في حديث ابن عمر عن عمر رفعه: "من قال حين يدخل السوق: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت وهو حي لا يموت، بيده الخير، وهو على كل شيء قدير". الحديث أخرجه الترمذي وغيره (¬2)، وهذا هو لفظ جعفر في "الذكر" كما تقدم، إلا قوله: "وهو حيّ لا يموت". تنبيه: ظاهر الحديث في التسبيح بتكفيره الخطايا وإن كانت مثل الزبد أنه أفضل من التهليل، فإنه قال في التهليل: "محيت عنه مائة سيئة". وقد ¬

_ (¬1) ينظر الفتح 11/ 205. (¬2) الترمذي 5/ 457، 458 ح 3428، وابن ماجه 2/ 752 ح 2235.

يجاب عنه بأنه انضاف في التهليل رفع الدرجات، وكتب الحسنات وعتق الرقاب، والعتق يتضمن تكفير جميع السيئات، فإن من أعتق رقبة أعتق الله بكل عضو منها عضوًا منه من النار، ويدل على أفضلية التهليل الحديث مرفوعًا: "أفضل الذكر لا إله إلا الله". أخرجه الترمذي والنسائي وصححه ابن حبان والحاكم (¬1) من حديث جابر. و"أفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله" (¬2). وهو كلمة التوحيد والإخلاص، وهو اسم الله الأعظم، ومعنى التسبيح داخل فيه التنزيه عمّا لا يليق بالله تعالى، وهو داخل في ضمن: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له اللك وله الحمد وهو على كل شيء قدير". ولا يعارض هذا حديث أبي ذر: قلت: يا رسول الله، أخبرني بأحب الكلام إلى الله؟ قال: "إن أحب الكلام إلى الله: سبحان الله وبحمده". أخرجه مسلم (¬3). وفي رواية (¬4): سئل: أي الكلام أفضل؟ قال: "ما اصطفى الله لملائكته؛ سبحان الله وبحمده". لأن التهليل المذكور قد شمله، والتهليل صريح في التوحيد، في التسبيح متضمن له، فمنطوق "سبحان الله" تنزيه الله تعالى، ومفهومه توحيد، ومنطوق "لا إله إلا الله" توحيد، ومفهومه تنزيه، فتكون "لا إله إلا الله" أفضل؛ لأن التوحيد أصل والتنزيه ينشأ عنه، والأفضلية إنما هي بالنسبة إلى كلام الآدمي، وإلا فالقرآن أفضل الذكر. ولعله يقال: إن لفظ: "لا إله إلا الله" ¬

_ (¬1) الترمذي 5/ 431 ح 3383، والنسائي في الكبرى 6/ 208 ح 10667، وابن حبان 3/ 126 ح 846، والحاكم 1/ 503. (¬2) الترمذي 5/ 534 ح 3585. (¬3) مسلم 4/ 2093 ح 2731/ 85. (¬4) مسلم 4/ 2093 ح 2731/ 84.

هي من القرآن. وهي مركب كامل في دلالته على معناه، وإن كانت بعض بابه، فالأفضلية فيها على العموم من غير تخصيص بكلام الآدمي، وقد جاءت الأحاديث في تعظيم فضلها على الإطلاق. أخرج [الطبري (¬1)] (أ) عن عبد الله بن عمرو قال: إن الرجل إذا قال: لا إله إلا الله. فهي كلمة الإخلاص التي لا يقبل الله عملًا حتى يقولها، وإذا قال: الحمد لله. فهي كلمة الشكر التي لم يشكر الله حتى يقولها. وعن ابن عباس (¬2): من قال: لا إله إلا الله. فليقل على إثرها: الحمد لله. وأخرج النسائي (¬3) بسند صحيح عن أبي سعيد عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "قال موسى: يا رب، علِّمني شيئًا أذكرك به. قال: قل: لا إله إلا الله" الحديث. وفيه: "لو أن السماوات السبع والأرضين السبع جعلن في كفة ولا إله إلا الله في كفة لمالت بهن لا إله إلا الله". وذكر [ابن بطال] (ب) (¬4) عن بعض العلماء أن الفضل الوارد في مثل هذه الأعمال الصالحة والأذكار، إنما هو لأهل الفضل في الدين والطهارة من الجرائم العظام، وليس من أصرَّ [على] (جـ) شهواته، وانتهك دين الله وحرماته بلاحق بالأفاضل المطهرين في ذلك، ¬

_ (أ) في جـ: الطبراني. والمثبت من الفتح 11/ 207. (ب) في جـ: عياض. والمثبت من الفتح 11/ 208. (جـ) ساقط من: جـ. والمثبت من الفتح 11/ 208.

ويشهد له قوله تعالى: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} (¬1). والله سبحانه أعلم. 1303 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من قال: سبحان الله وبحمده. مائة مرة حطت خطاياه، وإن كانت مثل زيد البحر". متفق عليه (¬2). قوله: "سبحان الله". أي تنزيه الله عن كل ما [لا] (أ) يليق به من كل نقص، فيلزم نفي الشريك ونفي الصاحبة والولد وجميع الرذائل. ويطلق التسبيح ويراد به جميع ألفاظ الذكر، ويطلق ويراد به صلاة النافلة، وسميت صلاة التسبيح لكثرة التسبيح فيها، وسبحان اسم مصدر منصوب على المصدرية بتقدير فعل وهو "سبّحت" محذوف وجوبًا لإضافة المصدر، وهو قائم مقام "تسبيح" مصدر "سبّحت" ولا يستعمل "سبحان" إلا مضافًا، وهو يحتمل أن يكون المضاف إليه موصولًا، أي: سبحت الله. ويجوز أن يكون مضافًا إلى الفاعل، أي: نزه الله سبحانه نفسه. والمشهور الأول وقد جاء غير مضاف في الشعر كقوله (¬3): ¬

_ (أ) ساقط من: جـ. والمثبت من الفتح 11/ 206.

سبحانه ثم سبحانًا نعوذ به ... وقبلنا سبّح الجودي والجمد و"بحمده". معطوف بتقدير متعلقه على فعل "سبحان". أي: أسبح الله وأتلبس بحمده. والباء باء الملابسة. وقوله: "مثل زيد البحر". مبالغة في كثرتها، أي أن خطاياه تكفر ولو بلغت من الكثرة أي مبلغ. وقد تقدم الجمع بين هذا وبين حديث التهليل قريبًا (¬1). 1304 - وعن جويرية بنت الحارث رضي الله عنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لقد قلت بعدك أربع كلمات لو وزنت بالسماوات والأرض لوزنتهن؛ سبحان الله وبحمده عدد خلقه ورضا نفسه، وزنة عرشه ومداد كلماته". أخرجه مسلم (¬2). الحديث فيه دلالة على فضل هذه الكلمات، وأن قائلها مدرك فضيلة تكرار القول بالعدد المذكور. قوله: "عدد خلقه". المراد به المبالغة في الكثرة؛ لأن خلقه بمعنى مخلوقاته، ومخلوقات الله في السماوات والأرضين وما بينهما والجنة والنار. وقوله: "ورضا نفسه". أي رضاه عمّن رضي عنهم من النبيين والصدّيقين والشهداء والصالحين، وهو لا ينقطع ولا ينقضي. ¬

_ (¬1) تقدم ص 427 - 430. (¬2) مسلم، كتاب الذكر والدعاء، باب التسبيح أول النهار وعند النوم 4/ 2090 ح 2726.

وقوله: "وزنة عرشه". أي: وزنة ما لا يعلم قدر وزنه إلا الله تعالى. وقوله: "ومداد كلماته". بكسر الميم، وهو ما تمد به الدواة كالحبر، والكلمات هي معلومات الله تعالى ومقدوراته. وهي لا تنحصر ولا [تتناهى] (أ)، ومدادها هو كل مدة يكتب بها معلوم أو مقدور، وذلك لا ينحصر؛ لتعلقه بغير المنحصر، كما قال تعالى: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي} الآية (¬1). والله أعلم. 1305 - وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الباقيات الصالحات؛ لا إله إلا الله، وسبحان الله، والله أكبر، والحمد لله، ولا حول ولا قوة إلا بالله". أخرجه النسائي وصححه ابن حبان والحاكم (¬2). 1306 - وعن سمرة بن جندب رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أحب الكلام إلى الله أربع، لا يضرك بأيهن بدأت، سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله اكبر". أخرجه مسلم (¬3). قوله: "الباقيات الصالحات". أي الأعمال الصالحة. أي التي يبقى لصاحبها أثرها أبد الآباد. وقد فسرها النبي - صلى الله عليه وسلم - بهذا الذكر الشريف، وقد ¬

_ (أ) في جـ: تنافى. والمثبت من سبل السلام 4/ 426.

جاء في الحديث تفسيرها بما يشمل هذا المذكور وغيره؛ من الصلاة والصيام والحج كما في حديث ابن عباس، أخرجه ابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه (¬1): "الباقيات الصالحات". قال: هي ذكر الله؛ لا إله إلا الله، والله أكبر، وسبحان الله، والحمد لله، وتبارك الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وأستغفر الله، وصلى الله على رسول الله، والصيام، والصلاة، والحج، والصدقة، والعتق، والجهاد، والصلة، وجميع أعمال الحسنات، وهن الباقيات الصالحات التي تبقى لأهلهن في الجنة. وأخرج ابن أبي شيبة، وابن المنذر، وابن أبي حاتم (¬2)، عن قتادة في قوله تعالى: {وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ} (¬3). قال: كل شيء من طاعة الله فهو من الباقيات الصالحات. وأخرج بن أبي حاتم وابن مردويه (2)، [عن قتادة] (أ)، أنه سئل عن الباقيات الصالحات، فقال: كل ما أريد به وجه الله. ولا معارضة بين هذا وبين حديث أبي سعيد؛ فإن الإخبار عن الباقيات الصالحات بهذه الكلمات لا يقتضي الحصر اقتضاءً كليًّا؛ فإن تعريف المبتدأ قد يكون لغير إرادة الحصر، أو بأن ذكرها في حديث أبي سعيد للتَّنبيه على مزيد فضلها حتى كأنها هي المعتبرة وحدها، فتفيد الحصر ادعاءً ومبالغةً لا حقيقة. وقد وردت أحاديث كثيرة مؤيِّدة لحديث أبي سعيد؛ أخرج ابن أبي ¬

_ (أ) ساقط من: جـ. والمثبت من الدر المنثور.

شيبة وابن المنذر (¬1) عن ابن عباس في قوله تعالى: {وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ}. سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر. وأخرج سعيد بن منصور، وأحمد، وأبو يعلى، وابن جرير، وابن أبي حاتم، وابن حبان، والحاكم وصححه، وابن مردويه (¬2) عن أبي سعيد، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "استكثروا من الباقيات الصالحات". قيل: وما [هن] (أ) يا رسول الله؟ قال: "التكبير، والتهليل، والتسبيح، والتحميد، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم". وأخرج سعيد بن منصور، وأحمد، وابن مردويه (¬3) عن النعمان بن بشير، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "ألا وإن سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر [هن] (أ) الباقيات الصالحات". وأخرج النسائي، وابن جرير، وابن أبي حاتم، والطبراني في "الصغير"، والحاكم وصححه، وابن مردويه، والبيهقي (¬4) عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "خذوا جُنّتكم". قيل: يا رسول الله، أمِن عدوٍّ قد حضر؟ قال: "لا، بل جُنتكم من النار قول: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، فإنهن يأتين يوم القيامة مقدماتٍ معقباتٍ ومُجنِّبات، ¬

_ (أ) في جـ: هي. والمثبت من مصادر التخريج.

و [هن] (أ) الباقيات الصالحات". وأخرج الطبراني وابن شاهين في "الترغيب في الذكر"، وابن مردويه (¬1) عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم [هن] (أ) الباقيات الصالحات، وهن يحططن الخطايا كما تحط الشجرة ورقها، وهن من كنوز الجنة". وأخرج ابن مردويه (¬2) عن أنس بن مالك قال: مرَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بشجرة يابسة، فتناول عودًا من أعوادها، فتناثر كل ورقة عليها، فقال: "والذي نفسي بيده إن قائلًا يقول: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر. لتناثر الذنوب عن قائلها كما يتناثر الورق عن هذه الشجرة، قول الله تعالى في كتابه، هي الباقيات الصالحات". وأخرج أحمد (¬3) عن أنس، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلَّا الله، والله أكبر تنفض الخطايا كما تنفض الشجرة ورقها". وأخرج ابن أبي شيبة والنسائي والبيهقي في "الأسماء والصفات" (¬4) عن سمرة بن جندب، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما من [الكلام] (ب) شيء أحب ¬

_ (أ) في جـ: هي. والمثبت من مصادر التخريج. (ب) في جـ: كلام. والمثبت من مصادر التخريج.

إلى الله من الحمد لله، وسبحان الله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، [هن] (أ) أربع، فلا تكثر عليَّ، لا يضرك بأيهن بدأت". وأخرج ابن مردويه (¬1) عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن عجزتم عن الليل أن تكابدوه، والعدو أن تجاهدوه، فلا تعجزوا عن قول: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، فإنهن الباقيات الصالحات". وأخرج ابن أبي شيبة، وابن المنذر، وابن مردويه (¬2) عن عائشة، أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال ذات يوم لأصحابه: "خذوا جُنَّتكم". مرتين أو ثلاث مرات. قالوا: من عدو حضر؟ قال: "بل من النار؛ [قولوا] (ب): سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله العليِّ العظيم، فإنهن يجئن يوم القيامة مقدمات [ومجنبات] (جـ) ومعقبات، وهن الباقيات الصالحات". وأخرج ابن مردويه (¬3) من طريق الضحاك عن ابن عباس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن نَصَّبكم [الليل فلم] (د) تقوموه، وعجزتم عن ¬

_ (أ) في جـ: هي. والمثبت من مصدر التخريج. (ب) في جـ: قالوا. والمثبت من مصدر التخريج. (جـ) في ساقطة من: جـ. والمثبت من مصدر التخريج. (د) في جـ: الله فلا. والمثبت من مصدر التخريج.

النهار [فلم] (أ) تصوموه، وجبنتم عن العدوّ [فلم] (أ) تقاتلوه، فأكثروا [من] (ب) سبحان الله، والحمد لله ولا إله إلا الله، والله أكبر، فإنهن الباقيات الصالحات". وأخرج ابن أبي شيبة (¬1) عن النعمان بن بشير قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الذين [يذكرون] (جـ) من جلال الله؛ من تسبيحه، وتحميده، وتكبيره، وتهليله، يتعاطفون حول العرش، لهنَّ دويّ كدويِّ النحل، يُذْكَرون بصاحبهن، أوَ لَا يحب أحدكم ألا يزال عند الرحمن بشيء يذْكر به؟ ". وأخرج ابن أبي شيبة (¬2) عن عبد الله بن أبي أوفى قال: أتى رجل النبي - صلى الله عليه وسلم - يذكر أنه لا يستطيع أن يأخذ من القرآن، وسأله شيئًا يجزئ من القرآن، فقال له: "قل: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله". وأخرج ابن أبي شيبة (¬3) عن [موسى] (د) بن طلحة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "كلمات إذا قالهن العبد وضعهن ملك في جناحه، ثم يعرج بهن، فلا يمرّ على ملأ من اللائكة إلَّا صلَّوا عليه وعلى قائلهن، حتى يوضعن بين ¬

_ (أ) في جـ: فلا. والمثبت من مصدر التخريج. (ب) ساقطة من: جـ. والمثبت من مصدر التخريج. (جـ) في جـ: يذكرن. والمثبت من مصدر التخريج. (د) في جـ: محمد. والمثبت من مصدر التخريج، وينظر تهذيب الكمال 29/ 82.

يدي الرحمن؛ سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، من لا حول ولا قوة إلا بالله (أ)، أبرأه عن السوء". وغير ذلك من الأحاديث. وقوله في حديث سمرة: "أحب الكلام". تقدم الكلام قريبًا في معنى تفضيل هذه الكلمات. وقوله: "لا يضرك بأيهن بدأت". يعني أن الترتيب [غير] (ب) معتبر، وإنما المعتبر الذكر بها. 1307 - وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يا عبد الله بن قيس، ألا أدلك على كنز من كنوز الجنة؟ لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم". متفق عليه (¬1). زاد النسائي (¬2): "لا ملجأ من الله إلَّا إليه". قوله: "كنز من كنوز الجنة". أي أن ثوابها مدخر في الجنة نفيس، كما أن الكنز أنفس أموالكم. فتسميتها "كنز" من إطلاق اسم المسبب على السبب، وهو أنها لما كانت سببًا للثواب في الجنة المعبَّر عنه بالكنز أطلق عليها اسمه، واستعمال الكنز في الثواب أيضًا مجاز، وجاء في حديث أبي أيوب ¬

_ (أ) زاد في مصدر التخريج: وسبحان الله. (ب) في جـ: على. والمثبت يقتضيه السياق.

الأنصاري تسميتها: "غراس الجنة". وهو أنه مر - صلى الله عليه وسلم - ليلة الإسراء على إبراهيم - عليه السلام - فقال له: مُر أمتك فليكثروا من غراس الجنة، فإن تربتها طيبة وأرضها واسع". فقال - صلى الله عليه وسلم -: "ومن غراس الجنة لا حول ولا قوة إلا بالله العليّ العظيم" (¬1). قال العلماء: سبب ذلك أنها كلمة استسلام وتفويض إلى الله تعالى، واعتراف بالإذعان له، وأنه لا مانع غيره، ولا رادَّ لأمرِه، وأن العبد لا يملك شيئًا من الأمر. قال أهل اللغة: الحول عبارة عن الحركة والحيلة. أي لا حركة ولا استطاعة ولا حيلة إلا بمشيئة الله. وروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في معناها: أي لا حول عن المعاصي إلا بعصمة الله، ولا قوة على طاعة الله إلا بالله. قال عليه الصلاة والسلام: "كذلك أخبرني جبريل عن الله تبارك وتعالى" (¬2). وروي عن علي رضي الله عنه في معناها: أي أنَّا لا نَملِك مع الله شيئًا، ولا نملك من دونه شيئًا، ولا نملك إلا ما ملَّكَنا مما هو أملك به منا. وقيل: لا حول في دفع شرٍّ، ولا قوة في تحصيل خيرٍ إلا بالله. ويعبر عن هذه الكلمة بالحوقلة والحولقة، وبالأول جزم الأزهري (¬3)، والثاني الجوهري (¬4). ويقال أيضًا: لا حيل ولا قوة. في لغة غريبة حكاها الجوهري وغيره (¬5). ¬

_ (¬1) أحمد 5/ 418. (¬2) البزار 5/ 374 ح 2004 من حديث ابن مسعود. (¬3) ينظر تهذيب اللغة 5/ 370، وشرح مسلم 17/ 27. (¬4) ينظر الصحاح (ح ل ق). (¬5) الصحاح (ح ى ل)، وذكر بها الزمخشري في الفائق 1/ 340 عن الكسائي.

وقوله: "لا ملجأ". مهموز من لجأ، وهو اسم لا. فإن كان مصدرًا ميميًّا، فقوله: "من الله". متعلق به، فيكون من المشبه بالمضاف منصوبا، وإن كان اسم مكان فهو مبني على الفتح، و "منك" متعلق بمحذوف، أي: كائن. صفة لاسم "لا". تقول: لجأت إلى فلان وعنه والتجأت وتلجأت. إذا أسندت إليه واعتضدت به أو عدلت عنه إلى غيره، فـ "لا ملجأ" هنا بمعنى: لا مستند من الله. أي: من قضائه إلا إليه ولا مَعْدِل. والله أعلم. 1308 - وعن النعمان بن بشير رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن الدعاء هو العبادة". رواه الأربعة (¬1)، وصححه الترمذي، وله (¬2) من حديث أنس بلفظ: "الدعاء مخ العبادة". وله (¬3) من حديث أبي هريرة، رضي الله عنه رفعه: "ليس شيء أكرم على الله من الدعاء". وصححه ابن حبان والحاكم (¬4). تقدم الكلام على هذا في أول باب الذكر (¬5). وقوله: "مخ العبادة ": أي خالصها؛ لأن مُخَّ الشيء خالصه، وإنما كان مُخها لأمرين؛ أحدهما، أنه امتثال أمر الله، حيث قال: ¬

_ (¬1) أبو داود، كتاب الصلاة، باب الدعاء 2/ 77 ح 1479. والترمذي، كتاب الدعوات، باب ما جاء في فضل الدعاء 5/ 426 ح 3372، والنسائي في الكبرى، كتاب التفسير، باب سورة غافر 6/ 450 ح 11464، وابن ماجه، كتاب الدعاء، باب فضل الدعاء 2/ 1258 ح 3828. (¬2) الترمذي، كتاب الدعوات، باب ما جاء في فضل الدعاء 5/ 425 ح 3371. (¬3) الترمذي، كتاب الدعوات، باب ما جاء في فضل الدعاء 5/ 425 ح 3370. (¬4) ابن حبان، كتاب الرقاق، باب الأدعية 3/ 151، 152 ح 870، والحاكم 1/ 490. (¬5) تقدم ص 383 - 386.

{ادعُوني} (¬1). فهو محض العبادة وخالصها. الثاني، إذا رأى نجاح الأمور من الله قطع أمَله عن سواه، ودعواه لحاجته وحدد، وهذا هو أصل العبادة، ولأن الغرض من العبادة الثواب عليها وهو المطلوب بالدعاء، وهذا عند من لم تَكْمُلْ له المعرفة، ومن كَمُلَت له المعرفة، فالعبادة عنده إنما هي لمجرد التعظيم والامتثال والمحبة. والله سبحانه أعلم. 1309 - وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الدعاء بين الأذان والإقامة لا يرد". أخرجه النسائي وصححه ابن حبان (¬2) وغيره. الحديث بعينه تقدم في آخر باب الأذان (¬3). 1310 - وعن سلمان رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن ربكم حيي كريم؛ يستحيي من عبده إذا رفع يديه إليه أن يردهما صفرًا". أخرجه الأربعة إلا النسائي وصححه الحاكم (¬4). قوله: "حيي". الحياء انقباض النفس عن القبيح مخافة الذم، وهو ¬

_ (¬1) الآية 60 من سورة غافر. (¬2) النسائي في الكبرى، كتاب عمل اليوم والليلة، باب الترغيب في الدعاء بين الأذان والإقامة 6/ 22، 23 ح 9895 - 9897، وابن حبان، كتاب الصلاة، باب الأذان 4/ 593، 594 ح 1696. (¬3) تقدم ح 153. (¬4) أبو داود، كتاب الصلاة، باب الدعاء 2/ 79 ح 1488، والترمذي، كتاب الدعوات 5/ 520 ح 3556، وابن ماجه، كتاب الدعاء، باب رفع اليدين في الدعاء 2/ 1271 ح 3865، والحاكم، كتاب الدعاء والتكبير والتهليل والتسبيح والذكر 1/ 497.

الوسط بين الوقاحة -التي هي الجرأة على القبائح وعدم المبالاة بها- والخجل الذي هو [انحسار] (أ) النفس عن الفعل مطلقًا. واشتقاقه من الحياة، فإنه انكسار يعتري القوة الحيوانية فيردها عن أفعالها، فقيل: حيي الرجل. كما قيل: نسي وحشي إذا اعتَلَّت نساه. أي عرق النَّساء، وحشا أي قلبه. وهذا المعنى الحقيقي لا يصح في حق الله تعالى، فهو مجاز مرسل في ترك الرد. أيْ لا يردهما. والعلاقة أن التَّرك لازم للانقباض؛ كاستعمال الرحمة في الإنعام اللازم بمعناها الحقيقي، ويحتمل أن يكون من باب الاستعارة التمثيلية، وهو أنه شبه حاله تعالى في إجابة الدعاء أنه لا يختلف عن ذلك بحالة من يستحي من ردِّ سائله فيعطيه ما مسألة. وقوله: "صفرًا". أي خالية، وهو بكسر الصاد المهملة وسكون الفاء. وفي قوله: "إذا رفع يده". دلالة على استحباب رفع اليد في الدعاء، وقد ذهب بعض إلى أن رفع اليد إنما هو مشروع في دعاء الاستسقاء، وتمسك بحديث أنس (¬1): لم يكن النبي - صلى الله عليه وسلم - يرفع يديه في شيء من دعائه إلا في الاستسقاء. وهو حديث صحيح، ولكنه يراد بنفي الرفع هو الرفع الذي وقع في الاستسقاء، وهو حتى يُرى بياض إبطيه، لا مطلق الرفع، ففي الاستسقاء الرفع إلى حد الوجه، وفي غيره يكون الرفع إلى حد المنكبين، وقد رُوي في غير الاستسقاء أنه رفع إلى أن رُئي بياض إبطيه، ويجمع بينهما بأن رؤية اليباض في غير الاستسقاء أقل منها في ¬

_ (أ) في جـ: انحصار. والمثبت هو الصواب.

الاستسقاء. قال المنذري (¬1): وإذا تعذر الجمع، فرواية الإثبات مقدمة على النفي. وقد جاء في الرفع أحاديث كثيرة أفردها المنذري في جزء، وروى الترمذي (¬2) في حديث عمر رضي الله عنه قال: [كان] (أ) النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا رفع يده في الدعاء لم يحطهما حتى يمسح بهما وجهه. وفي "سنن أبي داود" (¬3) عن ابن عباس نحوه، وفي إسنادهما مقالٌ. وقال الترمذي في الحديث الأول: إنه غريب. وإن قال عبد الحق (¬4): إن الترمذي قال فيه: إنه صحيح. فليس ذلك في النسخ المعتمدة. وعقد البخاري (¬5) لها بابًا مفردًا في "الأدب المفرد"، وذكر في قصة قدوم الطفيل بن عمرو [على] (ب) النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: إن دوسًا عصت فادعُ الله عليها. فاستقبل القبلة وهو رافع يده. الحديث. وسنده صحيح، وأخرجه مسلم (¬6). وحديث عائشة (¬7) أنها رأت النبي - صلى الله عليه وسلم - يدعو رافعًا يديه يقول: "اللهم إنما أنا بشر". الحديث، ولمسلم (¬8) في حديث الكسوف عن عبد الرحمن بن ¬

_ (أ) في جـ: قال. والمثبت من مصدر التخريج. (ب) في جـ: عن. والمثبت يقتضيه السياق.

سمرة: فانتهيت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو رافع يديه يدعو. وفي حديث عائشة (¬1) في دعائه لأهل البقيع: فرفع يديه ثلاث مرات. ومن حديث أبي هريرة الطويل (¬2) في فتح مكة: فرفع يديه وجعل يدعو. وغير ذلك من الأحاديث الصحيحة، وأما ما أخرجه مسلم (¬3) من حديث عمارة بن رويبة، براء مهملة وموحدة مصغرًا، أنه رأى بشر بن مروان يرفع يديه، فأنكر ذلك وقال: لقد رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وما يزيد على هذا. يشير بالسبابة. فقد حكى الطبري (¬4) عن بعض السلف أنه أخذ بظاهره وقال: السنة أن الداعي يشير بإصبع واحدة. ورده بأنه إنما ورد في الخطيب حال الخطبة، وهو ظاهر في سياق الحديث، فلا معنى للتمسك به في منع رفع اليدين في الدعاء مع ثبوت الأخبار في شرعيتها. قال الطبري: وكره رفع اليدين في الدعاء ابن عمر وجبير بن مطعم، ورأى شريح رجلًا يرفع يديه داعيًا، فقال: من تتناول بهما لا أُمَّ لكَ. وذكر ابن التين عن عبد الله بن عمر بن غانم أنه نقل عن مالك أن رفع اليدين في الدعاء ليس من أمر الفقهاء، قال: وقال في "المدونة" (¬5): ويختص الرفع بالاستسقاء، ويجعل بطونهما إلى الأرض. وروى الطبري (4) عن ابن عمر، أنه إنما أنكر رفعهما إلى حذو المنكبين، وقال: ليجعلهما حذو صدره. وكذلك أسنده الطبري عن ابن عباس، وأخرج أبو داود والحاكم ¬

_ (¬1) مسلم 2/ 670 ح 974. (¬2) مسلم 3/ 1403 ح 1780. (¬3) مسلم 2/ 595 ح 874. (¬4) ينظر الفتح 11/ 143. (¬5) المدونة 1/ 68.

عنه (¬1) من وجه آخر قال: المسألة أن ترفع يديك حذو منكبيك، والاستسقاء أن تشير بإصبع واحدة، والابتهال أن تمد يديك جميعًا. وأخرج الطبري (¬2) من وجه آخر عنه قال: يرفع يديه حتى يجاوز بهما رأسه. وأخرج البخاري في "الأدب المفرد" (¬3) عن ابن عمر من طريق القاسم بن محمد: رأيت ابن عمر يدعو عند القاص، يرفع يديه حتى يحاذي بهما منكبيه، باطنهما مما يليه، وظاهرهما مما يلي وجهه. واعلم أن الدعاء يتأكد استحبابه عقيب الصلوات، وقد روى الترمذي (¬4) من حديث أبي أمامة قال: يا رسول الله، أي الدعاء أسمع؟ قال: "جوف الليل، وأدبار الصلوات المكتوبات". وعقد البخاري في "الصحيح": باب الدعاء بعد الصلوات المكتوبات (¬5). وزعم بعض العلماء أن الدعاء بعد الصلاة لا يشرع، متمسكًا بالحديث الذي أخرجه مسلم (¬6) من رواية عبد الله بن الحارث عن عائشة رضي الله عنهما: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يلبث إلا قدر ما يقول: "اللهم أنت السلام، ومنك السلام، تباركت يا ذا الجلال والإكرام". وقال ابن القيم في "الهدي النبوي" (¬7): وأما الدعاء بعد السلام من الصلاة مستقبل القبلة سواء الإمام ¬

_ (¬1) أبو داود 2/ 79 ح 1489. (¬2) ينظر تفسير القرطبي 11/ 337، والفتح 11/ 143. (¬3) ينظر الفتح 11/ 143. (¬4) الترمذي 5/ 526 ح 3499. (¬5) الفتح 11/ 132. (¬6) مسلم 1/ 414 ح 591. (¬7) زاد المعاد 1/ 257.

والمنفرد والمأموم، فلم يكن ذلك من هدي النبي - صلى الله عليه وسلم - أصلًا، ولا روي عنه بإسناد صحيح ولا حسن، وخصص بعضهم ذلك بصلاتي الفجر والعصر، ولم يفعله النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا الخلفاء بعده، ولا أرشد إليه أمته، وإنما هو استحسان رآه من رآه عوضًا من السنة بعدهما. قال: وعامة الأدعية المتعلقة بالصلاة إنما فعلها فيها وأمر بها فيها. قال: وهذا اللائق بحال المصلي، فإنه مقبل على ربه يناجيه، فإذا سَلَّم منها انقطعت المناجاة وانتهى موقفه وقربه، فكيف يترك سؤاله في حال مناجاته والقرب منه وهو مقبل عليه، ثم يسأل إذا انصرف عنه؟! ثم قال: لكن الأذكار الواردة بعد المكتوبة يستحب لمن أتى بها أن يصلي على النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد أن يفرغ منها، ويدعو بما شاء ويكون دعاؤه عقب هذه العبادة الثانية، وهي الذكر لا لكونه دبر الصلاة المكتوبة. ويجاب من حديث مسلم بأن المراد بالنفي المذكور نفي استمراره جالسًا على هيئته قبل السلام إلا مقدار ما يقول ما ذكر، وبينت أنه كان إذا صلى أقبل بوجهه على أصحابه، فيحمل ما ورد من الدعاء بعد الصلاة على أنه كان يقول بعد أن يقبل بوجهه على أصحابه، وهذا ما قاله ابن القيم من النفي مطلقًا؛ بأن ذلك قد ثبت عن معاذ بن جبل، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "يا معاذ، إني والله أحبك، فلا تدع دبر كل صلاة أن تقول: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك". أخرجه أبو داود والنسائي وصححه ابن حبان والحاكم (¬1). وحديث أبي بكرة في قوله: "اللهم إني أعوذ بك من الكفر والفقر، وعذاب القبر". كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يدعو بهن دبر كل صلاة، أخرجه ¬

_ (¬1) أبو داود 2/ 87 ح 1522، والنسائي 3/ 53، وابن حبان 5/ 364، 365 ح 2020، والحاكم 1/ 273.

أحمد والترمذي والنسائي وصححه الحاكم (¬1). وحديث زيد بن أرقم: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدعو بهن في دبر كل صلاة: "اللهم ربنا ورب كل شيء". الحديث أخرجه أبو داود والنسائي (¬2). وحديث صهيب رفعه: كان يقول إذا انصرف من الصلاة: "اللهم أصلح لي ديني". الحديث. أخرجه النسائي وصححه ابن حبان وغيره (¬3). وأما التأويل بأن المراد بهذه دبر الصلوات هو أن يكون بعد التشهد قبل [السلام] (أ)، فإنه قد ورد الأمر بالذكر دبر الصلاة، والمراد به بعد التسليم إجماعًا، فكذا هذا حتى يثبت ما يخالفه، وقد فهم بعض الحنابلة من كلام ابن القيم نفي الدعاء بعد الصلاة مطلقًا، وليس كذلك، فإن كلامه إنما هو قبل الأذكار، وأما بعد الأذكار فيدعو، وقد وردت الأحاديث الصحيحة في الأذكار بعد الصلاة في "الصحيحين"، وغيرهما (¬4): كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا انصرف من الصلاة استغفر ثلاثًا وقال: "اللهم أنت السلام، ومنك السلام، تباركت يا ذا الجلال والإكرام". قيل للأوزاعي: كيف الاستغفار؟ قال: يقول: أستغفر الله، أستغفر الله. وحديث المغيرة في "الصحيحين" (¬5): كان إذا فرغ من الصلاة وسلم قال: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، لا إله إلا الله ¬

_ (أ) في جـ: الكلام. والمثبت يقتضيه السياق.

ولا حول ولا قوة إلا بالله، اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد". وعن عبد الله بن الزبير (¬1) أنه كان يقول دبر كل صلاة حين يسلم: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، ولا حول ولا قوة إلا بالله، ولا نعبد إلا إياه، له النعمة، وله الفضل، وله الثناء الحسن، لا إله إلا الله مخلصين له الدين ولو كره الكافرون". قال ابن الزبير: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يهلل بهن دبر كل صلاة. وحديث الفقراء في "الصحيحين" (¬2) قال: "تسبحون، وتحمدون، وتكبرون خلف كل صلاة ثلاثًا وثلاثين". وحديث كعب بن عجرة (¬3)، قال: "معقبات لا يخيب قائلهن أو فاعلهن دبر كل صلاة مكتوبة؛ ثلاث وثلاثون تسبيحة، وثلاث وثلاثون تحميدة، وأربع و [ثلاثون] (أ) تكبيرة". وفي "صحيح مسلم" (¬4) عن أبي هريرة مثل ذلك، لكن تمام المائة: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير". وجاء من حديث ابن [عمرو] (ب): "يسبح الله دبر كل صلاة عشرًا، ويكبر عشرًا، ويحمد عشرًا، فذلك خمسون ومائة باللسان وألف وخمسمائة في الميزان، ويكبر إذا أخذ مضجعه أربعًا وثلاثين ويحمد ثلاثا وثلائين، ويسبح ثلاثا وثلائين، فذلك مائة ¬

_ (أ) في جـ: عشرون. والمثبت من مصدر التخريج. (ب) في جـ: عمر. والمثبت من مصدر التخريج.

باللسان وألف [في الميزان] (أ). أخرجه أبو داود (¬1). وقد جاءت أحاديث في قراءة آية الكرسي عقيب كل صلاة، والآيتين من "آل عمران ": {شَهِدَ الله} (¬2). و: {قُلِ اللهُمَّ مالكَ المُلْكِ} (¬3). وجاء في قراءة المعوذتين دبر كل صلاة وقراءة "الفاتحة"؛ قال ابن بطال (¬4): في هذه الأحاديث الحض على الذكر بعد الصلاة في أدبارها، وأن ذلك يوازي إنفاق المال في طاعة الله تعالى؛ كما في حديث الفقراء. وسئل الأوزاعي عن الذكر بعد الصلاة أفضل أم تلاوة القرآن؟ قال: لا شيء يعدل القرآن، ولكن هدي السلف الذكر. ومنها أن الذكر المذكور يلي الصلاة المكتوبة، ولا يؤخر إلى أن تصلى الراتبة؛ للتصريح في هذه الأذكار بأنها دبر الصلاة. وحديث راتبة المغرب أنها ترفع مع المكتوبة (¬5) لا يعارض حديث الذكر؛ فإنه - صلى الله عليه وسلم - كان يصليها في البيت، فالفاصلة بينها وبين الصلاة لا يضر. والله أعلم. 1311 - وعن عمر رضي الله عنه قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا ¬

_ (أ) في جـ: ميزان. والمثبت من مصدر التخريج.

مد يده في الدعاء لم يردَّهما حتى يمسح بهما وجهه. أخرجه الترمذي (¬1)، وله شواهد؛ منها من حديث ابن عباس عند أبي داود (¬2)، ومجموعها يقتضي أنه حديث حسن. فيه دلالة على شرعية مسح الوجه باليدين، وكأن المناسبة -والله سبحانه أعلم- أنه لما كان الله سبحانه لا يردهما صفرا، فكأن الرحمة أصابتهما، فناسب إفاضة ذلك على الوجه الذي هو أشرف الأعضاء وأحقها بالتكريم. 1312 - وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن أولى الناس بي يوم القيامة أكثرهم عليَّ صلاة". أخرجه الترمذي وصححه ابن حبان (¬3). الحديث فيه دلالة على أفضلية إكثار الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأن المكثر هو الأحقُّ بالشفاعة يوم القيامة. والمراد بـ "أولى بي" أي: شفاعتي. والله أعلم. 1313 - وعن شداد بن أوس رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "سيد الاستغفار أن يقول العبد: اللهم أنت ربي، لا إله إلا ¬

_ (¬1) الترمذي، كتاب الدعوات، باب ما جاء في رفع الأيدي عند الدعاء 5/ 432، 433 ح 3386. (¬2) أبو داود، كتاب الصلاة، باب الدعاء 2/ 78، 79 ح 1485. (¬3) الترمذي، كتاب الصلاة، باب ما جاء في فضل الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - 2/ 354 ح 484، وابن حبان، كتاب الرقائق، باب الأدعية 3/ 192 ح 911.

أنت خلقتني، وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك عليّ، وأبوء بذنبي، فأغفر لي، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت". أخرجه البخاري (¬1). تمام الحديث قال: "ومن قالها من النهار موقنًا بها، فمات من يومه قبل أن يمسي، فهو من أهل الجنة، ومن قالها من الليل وهو موقن بها، فمات قبل أن يصبح فهو من أهل الجنة". هو أبو يعلى شداد بن أوس بن ثابت النجّاري الأنصاري، وهو ابن أخي حسان بن ثابت، يقال: إنه شهد بدرًا. ولا يصح. ونزل بيت المقدس، وعداده من أهل الشام، وروى عنه ابنه يعلى، ومحمود بن الربيع، وضمرة بن حبيب. مات بالشام سنة ثمان وخمسين وهو ابن خمس وسبعين. وقيل: مات سنة إحدى وأربعين. وقيل: سنة أربع وستين. قال عبادة بن الصامت وأبو الدرداء: كان شداد ممن أوتي العلم والحلم. واختلف في صحبة أبيه. وليس له في البخاري إلا هذا الحديث (¬2). قوله: "سيد الاستغفار". قال الطيبي (¬3): لما كان هذا الدعاء جامعًا لمعاني التوبة كلها، استعير له اسم السيد، وهو في الأصل الرئيس الذي يُقصَد إليه في الحوائج، ويُرجَع إليه في الأمور. وجاء في رواية الترمذي (¬4): "ألا أدلك على سيد الاستغفار؟ ". وفي حديث جابر ¬

_ (¬1) البخاري، كتاب الدعوات، باب أفضل الاستغفار ...... 11/ 97، 98 ح 6306. (¬2) ينظر الاستيعاب 2/ 694، وأسد الغابة 2/ 507، والإصابة 3/ 319. (¬3) الفتح 11/ 99. (¬4) الترمذي 5/ 436 ح 3393.

عند النسائي (¬1): "تعلموا سيد الاستغفار؟ ". وقوله: "لا إله إلا أنت خلقتني". وقع هكذا في معظم الروايات، ووقع في نسخة تُعتمَد بتكرير "أنت" فيقول: "لا إله إلا أنت، أنت خلقتني". ووقع عند الطبراني (¬2) من حديث أبي أمامة زيادة: "من قال حين يصبح: اللهم لك الحمد، لا إله إلا أنت". وباقيه نحو حديث شداد، وزاد فيه: "آمنت لك مخلصًا لك ديني". وقوله: "وأنا عبدك". جملة مؤكدة لقوله: "أنت ربي". ويحتمل أن يكون "عبدك" بمعنى عابدك، فلا يكون تأكيدًا، ويؤيده عطف قوله: "وأنا على عهدك". وسقطت الواو في رواية النسائي. قال الخطابي (¬3): يعني: أنا على ما عاهدتك عليه وواعدتك من الإيمان بك، وإخلاص الطاعة لك، ما استطعت [من ذلك، ويحتمل أن يريد: أنا مقيم على ما عهدت إلي من أمرك] (أ) ومتمسك به، ومتنجز وعدك في [المثوبة] (ب) والأجر. وقوله: "ما استطعت". اعتراف بالعجز والقصور عن كُنْه الواجب من حقه تعالى. وقال ابن بطال (¬4): يريد بالعهد هو الذي أخذه الله على عباده حيث أخرجهم أمثال الذر وأشهدهم على أنفسهم: {أَلَسْتُ ¬

_ (أ) ساقط من: جـ. والمثبت من الفتح. (ب) في جـ: التوبة. والمثبت من الفتح.

بِربكم} (¬1). فأقروا له بالربوبية، وأذعنوا له بالوحدانية، وبالوعد ما قال على لسان نبيه؛ أن من مات لا يشرك بالله شيئًا وأدَّى ما افترض عليه أن يدخله الجنة. واستدرك المصنف (¬2) على قوله: وأدى ما افترض عليه. أنه زيادة ليست بشرط في هذا المقام؛ لأنه جعل العهد الميثاق المأخوذ وهو على التوحيد خاصة، فالوعد هو إدخال الجنة من مات على ذلك. قال (¬3): وقوله: "ما استطعت". إعلام لأمته أن أحدًا لا يقدر على الإتيان بجميع ما يجب عليه لله تعالى، ولا الوفاء بكمال الطاعة والشكر على النعم، فرفقَ الله بعباده ولم يُكلفهم إلّا وسعهم. وقوله: "أبوء لك بنعمتك عليّ". سقط لفظ "لك" من رواية النسائي. و"أبوء": بالموحدة والهمز ممدود، ومعناه: أعترف. وأصله البوء. ومعناه اللزوم، ومنه: بوأه الله منزلًا. أي أسكنه. فكأنه ألزمه به. وقوله: "وأبوء لك بذنبي". أي أعترف أيضًا، وقيل معناه: أحمله برغمي لا أستطيع صرفه عني. والمراد بالذنب هو وقوع الذنب مطلقًا، [لا أنه] (أ) الذنب الذي وقع بسبب التقصير في الشكر. وقوله: "فأغفر لي؛ إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت". يؤخذ منه أن من اعترف بذنبه غفر له. وهذا الاستغفار فيه من بديع المعاني، وحسن ¬

_ (أ) في جـ: لأنه. والمثبت من الفتح 11/ 100.

الألفاظ، ما يحق له أن يسمى سيد الاستغفار؛ ففيه الإقرار لله وحده بالإلهية والعبودية، والاعتراف بأنه الخالق، والإقرار بالعهد الذي أخذه عليه، والرجاء بما وعد به، والاستعاذة من شر ما جنى العبد على نفسه، وإضافة النعماء إلى موجدها، وإضافة الذنب إلى نفسه، ورغبته في المغفرة، واعترافه بأنه لا يقدر أحد على ذلك إلا هو، وفي كل ذلك الإشارة إلى الجمع بين الشريعة والحقيقة، فإن تكاليف الشريعة لا تحصل إلا إذا كان في ذلك عون من الله تعالى، وهذا القدر الذي يكنى عنه بالحقيقة، فلو اتفق أن [العبد] (أ) خالف، وقامت الحجة ببيان المخالفة، لم يبق إلا أحد الأمرين، إمّا العقوبة بمقتضي العدل، وإما العفو بمقتضى الفضل، ولكن من شرط الاستغفار حسن النية والتوجُّه والأدب؛ فلو أن أحدًا حصَّل الشروط واستغفر بغير هذا اللفظ الوارد، أو استغفر أحد بهذا اللفظ الوارد، لكن أخلَّ بالشروط؛ هل يتساويان؟ فالظاهر ألا يكون سيد الاستغفار إلا إذا جمع الشروط المذكورة، وإن كان فضل الله أوسع، فعلى العبد التوجه بقدر استطاعته. والاستغفار استفعال من الغفران، وأصله الغفر، وهو إلباس الشيء ما يصونه عما يُدنِّسه، ويُدَنَّس كلُّ شيء بحَسَبه، والغفران من الله للعبد أن يصونه عن العذاب. ويُندَب تقديم الاستغفار والتوبة على الدعاء؛ لأن الإجابة تشرع إلى من لم يكن مُتلبسًا بذنب، فإذا قدَّم التوبة والاستغفار قبل الدعاء، كان أمْكَن لإجابته، ولا يختصّ بوقت، وقد أخرج البخاري (¬1) أنه قال - صلى الله عليه وسلم -: "والله إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة". رواه أبو هريرة. ¬

_ (أ) في جـ: العقد. والمثبت من الفتح 11/ 100.

وفي رواية أنس (¬1): "إني لأستغفر الله في اليوم سبعين مرة". وهو يحتمل أنه يريد العدد المعين، وأن يريد المبالغة والأكثر، وقد جاء في طريق أخرى من حديث أبي هريرة (¬2): "إني لأستغفر الله في اليوم مائة مرة". وأخرج النسائي (¬3) عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جمع الناس فقال: "يأيها الناس، توبوا إلى الله؛ فإني أتوب إليه في اليوم مائة مرة". وله من حديث الأغر المزني رفعه مثله (¬4)، وهو عنده وعند مسلم (¬5): "إنه ليغان على قلبي، وإني لأستغفر الله كل يوم مائة مرة". وقد استشكل وقوع الاستغفار من النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو معصوم من تلبُّسه بالمعصية، وأُجيب عن ذلك بأجوبةٍ؛ منها قول ابن الجوزي (¬6): إن الهفوات البشرية لا يسلم منها أحد، والأنبياء وإن عصموا من الكبائر فلم يعصَموا من الصغائر. ومنها قول ابن بطال (¬7): إن الأنبياء وإن كانوا أشدَّ الناس اجتهادًا في العبادة؛ لما أعطاهم الله من المعرفة، فهم دائبون في شكره، معترفون له بالتقصير. انتهى. يعني أن الاستغفار من التقصير في أداء الحق الذي يجب له تعالى. ويحتمل أن يكون لاشتغاله بأمر نفسه؛ من أكل، وشراب، ونوم، ¬

_ (¬1) الأحاديث المختارة 7/ 53 ح 2454. (¬2) ابن ماجه 2/ 1254 ح 3815، والنسائي في الكبرى 6/ 115 ح 10272. (¬3) النسائي في الكبرى 6/ 114 ح 10265. (¬4) النسائي في الكبرى 6/ 114 ح 10279، 10280. (¬5) مسلم 4/ 2075 ح 2702، والنسائي في الكبرى 6/ 116 ح 10276. (¬6) الفتح 11/ 101. وعقّب الحافظ: كذا قال، وهو مفرع على اختلاف المختار، والراجح عصمتهم من الصغائر أيضًا. (¬7) شرح صحيح البخاري لابن بطال 10/ 77.

وجماع، وإراحة النفس، ومخاطبة الناس والنظر في مصالحهم، ومداراة الناس وتأليفهم، فيعدّ ذلك ذنبًا بالنظر إلى المقام العَلِيِّ، وهو حضوره في حظيرة القدس. ومنها أن استغفاره تشريع لأمته، أو من ذنوب الأمة كالشفاعة لهم. وقال الغزالي رحمه الله تعالى في "الإحياء" (¬1): كان - صلى الله عليه وسلم - دائم الترقي، فإذا ارتقى إلى حال رأى ما قبلها دونها، فاستغفر من الحالة السابقة. وقال السهروردي (¬2): لما كان روح النبي - صلى الله عليه وسلم - وقلبه متحركين في العروج، وكانت خطى النفس تقصر عن مداهما في العروج، فاقتضت الحكمة إبطاء حركة القلب؛ لئلا تنقطع علاقة النفس عنه [فيبقى العباد] (أ) محرومين، وكان - صلى الله عليه وسلم - يفزع إلى الاستغفار ليقيد الروح بحركة النفس. انتهى بمعناه. وأما حديث الغين فاختلفوا في تفسيره؛ فقال القاضي عياض (¬3): المراد بالغين فترات عن الذكر الذي شأنه أن يُدام عليه، فإذا فتر عنه لأمرٍ ما، عدّ ذلك ذنبًا فاستغفر له. وقيل: هو شيء يعتري القلب مما يقع من حديث النفس. وقيل: هو السكينة التي تغشى قلبه، والاستغفار لإظهار العبودية لله والشكر لما أولاه. وقيل: هي حالة [خشية] (ب) وإعظام، والاستغفار ¬

_ (أ- أ) في جـ: فسعى العنا. والمثبت من الفتح 11/ 102. (ب) في جـ: حسنة. والمثبت من الفتح 11/ 101.

شكرها. ومن ثم قال المحاسبي (¬1): خوف المقربين خوف إجلال وإعظام. وقال السهروردي (¬2): لا يعتقد أن الغين في نفسه نقص، بل هو كمال أو تتمة كمال. ثم (أ) مثَّل ذلك بجفن العين يُسبِل دمعها، ليدفع القذى عن العين مثلًا؛ فإنه يمنع العين من الرؤية، فهو من هذه الحيثية نقص، وفي الحقيقة هو كمال. هذا محصل كلامه، قال: فهكذا بصيرة النبي - صلى الله عليه وسلم - متعرضة للأغْيرة الثائرة من أنفاس الأغيار، فدعت الحاجة إلى [الستر] (ب) على حدقة بصيرته؛ صيانةً لها ووقايةً عن ذلك. انتهى. والله سبحانه أعلم. وذكر السبكي في "الطبقات" (¬3) في ترجمة الرافعي في حديث الغين، وأنه أنكره أبو نصر السراج صاحب كتاب "اللُّمَع" في التصوف، ورد عليه بأن الحديث صحيح، وروي عن شعبة أنه قال: سألت الأصمعي عن الحديث فقال: لو غان عن غير قلب النبي - صلى الله عليه وسلم - لفَسَّرتُه، وأما قلب النبي - صلى الله عليه وسلم - فلا أدري. فكان شعبة [يتعجَّب] (جـ) منه. وعن الجنيد (¬4): لولا أنه حال النبي - صلى الله عليه وسلم - لتكلمت فيه، ولا يتكلم على حاله (د) إلا من كان مشرفًا عليها، وجلَّتْ حاله أن يشرف على [نهايتها] (هـ) ¬

_ (أ) زاد في جـ: و. وحذفناها ليستقيم الكلام. وينظر الفتح 11/ 101. (ب) في جـ: السير. والمثبت من الفتح 11/ 101. (جـ) في جـ: معجب. والمثبت من الطبقات. (د) في طبقات الشافعية: حال. (هـ) في جـ: نيتها. والمثبت من الطبقات.

أحدٌ من الخلق، وتمنّى الصديق رضي الله عنه مع علوّ رتبته أن يشرف عليها، فعنه: ليتني شهدتُ ما استغفر منه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وعن أبي سعيد الخراز (¬1): شيء لا يجده إلا الأنبياء وأكابر الأولياء؛ لصفاء الأسرار، وهو كالغيم الرقيق الذي لا يدوم. وذكر الوجه الذي ذكره الغزالي في الاستغفار، قال السبكي (¬2): وهذا ما كان يستحسِنُه والدي رحمه الله تعالى ويقرره. انتهى مختصرًا منه بعض الوجوه التي قد تقدمت. 1314 - وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: لم يكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدع هؤلاء الكلمات حين يمسي وحين يصبح: "اللهم أسألك العافية في ديني ودنياي وأهلي ومالي، اللهم استر عوراتي، وآمن روعاتي، واحفظني من بين يديَّ ومن خلفي، وعن يميني وعن شمالي ومن فوقي، وأعوذ بعظمتك أن أُغتال من تحتي". أخرجه النسائي وابن ماجه، وصححه الحاكم (¬3). قوله: "العافية في ديني". فالمراد بها السلامة من كل ما ينقص الدين، وكذلك الدنيا، وأما عافية الأهل فبالسلامة من عوارض البدن، والمال كذلك السلامة مما ينقصه ويعوقه، وهو مجاز فيما عدا البدن. وقوله: "اللهم استر عوراتي". جمع عورة، وهو كل ما يُستحيا منه ¬

_ (¬1) طبقات الشافعية الكبرى 8/ 290. (¬2) طبقات الشافعية الكبرى 8/ 291. والكلام فيه من بقية نقل السبكي عن الرافعي، وعلى هذا فقوله: والدي. هو والد الرافعي وليس والد السبكي. وينظر طبقات الشافعية الكبرى 6/ 131 - 133. (¬3) النسائي في الكبرى، كتاب عمل اليوم والليلة، باب ما يقول إذا أمسى 6/ 145، 146 ح 10401، وابن ماجه، كتاب الدعاء، باب ما يدعو به الرجل إذا أصبح وإذا أمسى 2/ 1273، 1274 ح 3871، والحاكم، كتاب الدعاء 1/ 517، 518.

إذا ظهر. وقوله: "وآمن روعاتي". جمع روعة، وهي الفزع. وقوله: "واحفظني" إلى آخره. المراد الحفظ من جميع الجهات. واستعاذ من الاغتيال من تحت؛ لأن الاغتيال أخذ الشيء [خفية] (أ)، والعذاب من تحت هو ما يخسف في الأرض؛ كما خسف بقارون، أو بالغرق؛ كما كان في فرعون وقومِ نوح. 1315 - وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "اللهم إني أعوذ بك من زوال نعمتك، وتحوُّل عافيتك، وفجأة نقمتك، وجميع سخطك". أخرجه مسلم (¬1). قوله: "وفجأة". هي بفتح الفاء وإسكان الجيم، مقصور، وفيها لغة بضم الفاء وفتح الجيم والمد، وهي البغتة. وهذا الحديث أخرجه مسلم عن أبي زرعة [الرازي] (ب) أحد حفاظ الإسلام وأكثرهم حفظًا، [و] (جـ) لم يرو عنه مسلم في "صحيحه" غير هذا الحديث، وهو من أقران مسلم، توفى بعد مسلم بثلاث سنين سنة أربع وستين ومائتين. ¬

_ (أ) في جـ: حقيقة. والمثبت من سبل السلام 4/ 433. (ب) في جـ: الراوي. والمثبت من شرح مسلم 17/ 54، وينظر تهذيب الكمال 19/ 89. (جـ) في جـ: أو. والمثبت من شرح مسلم 17/ 54.

1316 - وعن عبد الله بن [عمرو] (أ) رضي الله عنه قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "اللهم إني أعوذ بك من غلبة الدَّين، وغلبة العدو، وشماتة الأعداء". رواه النسائي وصححه الحاكم (¬1). قوله: "غلبة الدَّين". المراد به ما ثقل قضاؤه على المدين، وأما [ما] (ب) يغلب في ظنه أنه يتمكن من قضائه فلا يُستعاذ منه؛ فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - استدان وتكرر منه الاستدانة، ومات ودرعه مرهونة في آصُع من شعير عند يهودي (¬2). واستدان عمر وهو خليفة، وقال لما طُعن: انظروا ما عليَّ من الدين. فحسبوه فوجدوه ثمانين ألفًا (¬3). ومات الزبير وعليه دين كبير، وغيرهم من الصحابة، وكذلك السلف؛ كطاوس وابن سيرين والشافعي وغيرهم. وقد روى عبد الله بن جعفر مرفوعًا (¬4): "إن الله تعالى مع المدين حتى يقضي دينه، ما لم يكن فيما يكره الله تعالى". وكان عبد الله بن جعفر يقول لحارثة: اذهب فخذ لي بدَيْن؛ فإني أكره أن أبيت ليلةً إلا والله معي، بعد ما سمعت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ¬

_ (أ) في جـ: عمر. والمثبت من مصدري التخريج، وينظر تحفة الأشراف 6/ 354. (ب) زيادة يستقيم بها السياق.

وقد أخرج البيهقي في "شعب الإيمان" (¬1) عن القاسم مولى معاوية أنه بلغه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من تداين بدين وهو يريد أن يقضيه، وحريص على أن يؤديه، فمات ولم يقض دينه، فإن الله تعالى قادر على أن يُرضي غريمه بما شاء من عنده، ويغفر للمتوفى، ومن تداين وهو لا يريد أن يقضيه، فمات على ذلك ولم يقض دينه، يقال له: أظننت أنّا لا نوفي فلانًا حقه منك؟ فيؤخذ من حسناته فيجعل زيادة في حسنات رب الدين، وإن لم يكن له حسنات أُخذ من سيئات رب الدين فتُجعل في سيئات الظالم". فتكون الاستعاذة من الدين الذي لا يقدر المدين على قضائه، وإذا علم من يريد الاستدانة من حاله أنه لا يتمكن من قضاء الدين حرم الاستدانة عليه، وهو الذي ورد عنه - صلى الله عليه وسلم -: "من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه، ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله". أخرجه البخاري، وقد تقدم (¬2). فمن علم من حاله أنه لا يتمكن من القضاء فقد أراد إتلافها، وقد قالت عائشة للنبي - صلى الله عليه وسلم -: ما أكثر ما تستعيذ من المغرم والمأثم! -والمغرم هو الدين، والمأثم الإثم- قال - صلى الله عليه وسلم -: "إن الرجل إذا غرم حدث فكذب، ووعد فأخلف" (¬3). فالمستدين متعرض لهذا الأمر العظيم؛ فإنه قد يسأله صاحب الدين وهو لا يتمكن من القضاء في الحال، فيكون منه الوعد الذي لا يفي فيه بما وعد، فالاستعاذة من الدين سدّ للذريعة من الوقوع في هذا المحذور، وقد عوفي ¬

_ (¬1) الشعب 4/ 405 ح 5561. (¬2) تقدم ح 690. (¬3) البخاري 2/ 317 ح 832، ومسلم 1/ 412 ح 589.

النبي - صلى الله عليه وسلم - من ذلك، وأعاذه الله تعالى منه، وهذا تعليم لأمته وتحذير من الدخول فيما يؤدي إلى الإثم، ويقال: ما دخل هم الدين قلب أحد إلا ذهب من عقله ما لا يعود إليه أبدًا. أو أنه استعاذ بربه من وقوع ذلك بأمته، ويؤيده أنه قد جاء في الرواية لفظ: "تعوذوا" (¬1). في غير هذا الحديث، ولا يعارض الاستعاذة أن المقضي واقع، لاحتمال أن يكون ما يقضى قد يقضى مشروطًا بألا يدعو، فإذا دعا كشف عنه، وفي ذلك إظهار العبد فاقته لربه وتضرعه. وقوله: "وغلبة العدو". المراد به الغلبة بالباطل؛ لأن العدو في الحقيقة إنما هو المعادي لأمر باطل، إما لأمر ديني، وإما لأمر دنيوي؛ كغصب الظالم لحق غيره مع عدم القدرة على الانتصار منه، أو غير ذلك. وقوله: "وشماتة الأعداء". هي فرح العدو بضر ينزل بعدوه، يقال: شمت به بكسر الميم، يشمت بفتحها، فهو شامت، وأشمته غيره، والتعوذ في الحقيقة إنما هو من وقوع سبب الشماتة، وهو نزول المضار وتغيّر الأحوال، وقال ابن بطال (¬2): شماتة الأعداء ما ينْكأ القلب ويبلغ من النفس أشد مبلغ. نعوذ بالله من كل بلاء، ونسأله العافية من كل نازلة وطارقة. 1317 - وعن بريدة رضي الله عنه قال: سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجلًا يقول: اللهم إنّي أسألك بأني أشهد أنك أنت الله لا إله إلا أنت، الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوًا أحد. فقال: "لقد ¬

_ (¬1) البخاري 11/ 513 ح 6616. وينظر الفتح 11/ 148. (¬2) الفتح 11/ 149.

سأل الله باسمه الذي إذا سئل به أعطى، وإذا دعي به أجاب". أخرجه الأربعة، وصححه ابن حبان (¬1). وفي رواية لأبي داود (¬2): "لقد سألت الله تعالى بالاسم الأعظم". قال المنذري (¬3): قال شيخنا الحافظ أبو الحسن المقدسي: هذا -يعني الإسناد الذي ساقه أبو داود- لا مطعن فيه، ولا أعلم أنه روي في هذا الباب حديث أجود إسنادًا منه. قال: وهو يدل على بطلان مذهب من ذهب إلى نفي القول بأن لله تعالى اسمًا هو الاسم الأعظم. انتهى. وهذا الدعاء الجليل متضمن لمعان لطيفة من التوحيد والثناء، فقوله: "أنك أنت الله". إثبات للذات، وقوله: "لا إله إلا أنت". نفي للشريك وكل ما سواه، وقوله: "الأحد". صفة كمال؛ لأن الأحد الحقيقي ما يكون منزه الذات عن (أ) التركيب والتعدد وما يستلزم أحدهما، كالجسمية والتحيز والمشاركة في الحقيقة وخواصها؛ كوجوب الوجود والقدرة الذاتية ¬

_ (أ) بعده في جـ: الحا. ولعله سبق قلم.

والحكمة المقتضية للألوهية. و"الصمد" هو السيد الذي يُصمد إليه في الحوائج ويُقصد، والمتصف به على الإطلاق، هو الذي يستغني عن غيره مطلقًا وكل ما عداه يحتاج إليه، قال الغزالي (¬1): ومن [جعَله] (أ) الله مقصد عباده في أمر دينهم ودنياهم، وأجرى على يده حوائج خلقه، فهو حظُّه من هذا الاسم. وقوله: "الذي لم يلد". [لأنه] (ب) لم يجانس ولم يفتقر إلى ما يعينه أو يخلف عنه؛ لامتناع الحاجة و [الفناء] (جـ) عليه. وإنما نفى عنه الولادة في الماضي لأنه في سورة "الإخلاص" للرد على من قال: الملائكة بنات الله. وقول من قال: المسيح وعزير ابن الله. وجاء في هذا الدعاء على وفق ما في السورة الكريمة، ولانتفاء الولادة في الماضي والحال والمستقبل، أو ليجانس قوله: {وَلَمْ يُولَدْ}. وهو إنما يكون في الماضي. وقوله: {وَلَمْ يُولَدْ}. لأنه لا يفتقر إلى شيء ولم يسبقه عدم. وقوله: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ}. أي: لم يكن أحد يكافئه -أي يماثله- من صاحبة ولا غيرها، ولفظ "أحد" اسم "يكن" و"كفوًا" الخبر، ¬

_ (أ) في جـ: جعل. والمثبت من المقصد الأسنى. (ب) في جـ: لأن. والمثبت يقتضيه السياق. (جـ) في جـ: الثناء. والمثبت يقتضيه السياق.

و"له" متعلق بـ {كُفُوًا}؛ لبيان من [نُفيت] (أ) عنه المكافأة، وإنما قدم الخبر على الاسم لأن المقصود نفي المكافأة، فكان تقديمها أولى، وقدم الظرف للاهتمام بذكر من [نُفيت] (ب) عنه المكافأة. نقل صاحب "الانتصاف" (¬1) عن سيبويه (¬2) أنه سمع بعض جفاة العرب يقول: ولم يكن أحد كفوًا له. وجرى على ما هو الأصل في الكلام؛ وخفي عن طبعه لطف المعنى الذي لأجله اقتضى تقدم الظرف والخبر. واعلم أن العلماء اختلفوا في أنه هل يوصف شيء من الأسماء بأنه الاسم الأعظم أو لا؟ فذهب قوم (¬3) إلى إنكاره؛ كأبي جعفر الطبري وأبي الحسن الأشعري وأبي حاتم ابن حبان والقاضي أبي بكر الباقلاني، فقالوا: لا يجوز تفضيل بعض الأسماء على بعض. ونسب بعضهم ذلك إلى مالك، وأخذه عن قول مالك أنه يكره أن تعاد سورة أو تُردَّد دون غيرها من السور؛ لئلا يُظَن أن بعض القرآن أفضل من بعض، [فيؤذن] (جـ) باعتقاد نقصان المفضول عن الأفضل. وحملوا ما ورد من ذلك على أن المراد بالأعظم: العظيم، وأن أسماء الله تعالى كلها عظيمة. وعبارة أبي جعفر الطبري (3): اختلفت الآثار ¬

_ (أ) في جـ: "ثبتت". والمثبت يقتضيه السياق. (ب) في جـ: يثبت. والمثبت يقتضيه السياق. (جـ) في جـ: فيودب. والمثبت من الفتح 11/ 224.

في تعيين [الاسم] (أ) الأعظم، والذي عندي أن الأقوال كلها صحيحة؛ إذ لم يرد في خبر منها تعيين أنه الاسم الأعظم ولا شيء أعظم منه. فكأنه يقول: كل اسم من أسمائه تعالى يجوز وصفه بكونه أعظم، فيرجع إلى معنى: عظيم. وقال ابن حبان (¬1): الأعظمية الواردة في الأخبار إنما يراد بها مزيد الثواب للداعي بذلك، كما أطلق ذلك في القرآن والمراد به مزيد ثواب القارئ. و [قيل] (ب): المراد بالاسم الأعظم كل اسم من أسماء الله تعالى دعا العبد به ربه مستغرقًا، بحيث لا يكون في فكره حالتئذٍ غير الله، فإن من تأتى له ذلك استجيب له. ونُقل معنى هذا عن جعفر الصادق والجنيد وغيرهما. وقال آخرون: إن الاسم الأعظم معين. واختلفوا في ذلك؛ قال المصنف رحمه الله (1): جملة ما وقفت عليه من ذلك أربعة عشر قولًا؛ الأول: أنه لفظ "هو". نقله الفخر الرازي عن بعض أهل الكشف، واحتج له بأن من أراد أن يعبر عن كلامِ معظَّمٍ بحضرته لا يقول له: أنت قلت كذا. وإنما يقول: هو. تأدبًا معه. الثاني: لفظ "الله". لأنه اسم لم يطلق على غيره، ولأنه الأصل في الأسماء الحسنى، ومن ثم أضيفت إليه. ¬

_ (أ) في جـ: اسم. والمثبت من الفتح. (ب) سقط من: جـ. وأثبتناها من الفتح.

الثالث: "الله الرحمن الرحيم". ولعل سنده ما أخرجه ابن ماجه (¬1) عن عائشة أنها سألت النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يعلِّمها الاسم الأعظم فلم يفعل، فصلّت ودعت: اللهم إني أدعوك الله، وأدعوك الرحمن، وأدعوك الرحيم، وأدعوك بأسمائك الحسنى كلها، ما علمتُ منها وما لم أعلم. الحديث. وفيه أنه - صلى الله عليه وسلم - قال لها: "إنه لفي الأسماء التي دعوت بها". قلت: وسنده ضعيف، وفي الاستدلال به نظر لا يخفى، وجه النظر أنها جمعت الأسماء كلها، فلم تتعين في الثلاثة الأسماء. الرابع: "الرحمن الرحيم الحي القيوم". لما أخرج الترمذي من حديث أسماء بنت يزيد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "اسم الله الأعظم في هاتين الايتين؛ {[و] (أ) وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إلا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} (¬2)، وفاتحة سورة "آل عمران": {اللَّهُ لَا إِلَهَ إلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ}. أخرجه أصحاب "السنن" إلا النسائي (¬3)، وحسنه الترمذي وفي نسخة صحيحة: وفيه نظر؛ لأنه من رواية شهر بن حوشب (¬4). الخامس: "الْحَيُّ الْقَيُّومُ". أخرج ابن ماجه من حديث أبي أمامة (¬5): "الاسم الأعظم في ثلاث سور؛ سورة "البقرة"، و "آل عمران"، و "طه"". ¬

_ (أ) في جـ: إنما.

قال القاسم عن أبي أمامة (¬1): التمسته فيها فعرفت أنه الحي القيوم. وقواه الفخر الرازي (¬2)، واحتج بأنهما يدلان من صفات العظمة بالربوبية ما لا يدل على ذلك غيرهما كدلالتهما، وذلك لأن معنى الحي هو الفعال الدرَّاك، فمن لا فعل له ولا إدراك فهو ميت، والحي الكامل هو الذي يندرج جميع المدركات تحت إدراكه حتى لا يشذ عن [علمه] (أ) مدرك وهو الله تعالى، فكل شيء سواه فحياته بقدر إدراكه. والقيوم قال مجاهد (¬3) وأبو عبيدة (¬4): هو القائم على كل شيء؛ أي [يدبر] (ب) أمر خلقه ويقوم به كل موجود، حتى لا يتصور وجود شيء ولا دوام وجوده إلا به. قال ابن عباس: هو الذي لا يزول. وفيه لغات؛ قيِّم، وقيّام. قال الغزالي (¬5): وحظّ العبد منه بقدر استغنائه عما سوى الله تعالى، فكل من قام بنفسه في أموره ولم يفتقر إلى مخلوق فهو قائم بالله تعالى. السادس: "الحنّان المنّان بديع السماوات والأرض ذو الجلال والإكرام". أخرجه أبو يعلى (¬6) من طريق السّريّ بن يحيى عن رجل من طيّئ ¬

_ (أ) في جـ: عمله. والمثبت يقتضيه السياق. (ب) في جـ: يدبر. وينظر الفتح 13/ 430.

وأثنى عليه، قال: كنت أسأل الله تعالى أن يريني الاسم الأعظم فرأيته مكتوبًا في الكوكب في السماء. السابع: "ذو الجلال والإكرام". أخرج الترمذي (¬1) من حديث معاذ بن جبل قال: سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - رجلًا يقول: يا ذا الجلال والإكرام. فقال: "قد استجيب لك فسل". واحتج له الفخر (¬2) بأنه يشمل جميع الصفات المعتبرة في الإلهية؛ لأن في الجلال إشارة إلى جميع السلوب، وفي الإكرام إشارة إلى جميع الصفات (أ). الثامن: "الله لا إله إلا هو الأحد الصمد، لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوًا أحد". أخرجه أبو داود (¬3)، وهو المذكور في الأصل. التاسع: "رب، رب". أخرجه الحاكم (¬4) من حديث أبي الدرداء وابن عباس [بلفظ: اسم الله الأكبر، رب رب. وأخرج ابن أبي الدنيا (¬5) عن عائشة]: (ب): إذا قال [العبد] (جـ): يا رب، يا رب. قال الله تعالى: لبيّك عبدي، سل تعط". ورواه مرفوعًا. العاشر: دعوة ذي النون. أخرج النسائي والحاكم (5) عن فضالة بن عبيد ¬

_ (أ) كذا في جـ، وفي التفسير الكبير: الصفات الإضافية. وفي الفتح 11/ 225: الإضافات. (ب) ساقط من: جـ، والمثبت من الفتح 11/ 225. (جـ) ساقط من: جـ.

رفعه: "دعوة ذي النون في بطن الحوت: لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين، لم يدع بها رجل مسلم قط إلا استجاب الله له". الحادي عشر: نقل الفخر الرازي (¬1) عن زين العابدين أنه سأل الله تعالى أن يعلمه الاسم الأعظم، فرأى في المنام: هو الله الله الله لا إله إلا هو رب العرش العظيم. الثاني عشر: هو مخفي في الأسماء الحسنى. ويؤيده حديث عائشة المتقدم، لما دعت ببعض الأسماء وبالأسماء الحسنى، فقال لها - صلى الله عليه وسلم -: "إنه لفي الأسماء التي دعوت بها". الثالث عشر: كلمة التوحيد. نقله عياض. الرابع عشر: ما روي عن ابن عباس مرفوعًا (¬2) أنه قوله تعالى: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ} إلى آخر الآية (¬3). وفي سنده جسر بن فرقد (¬4). انتهى مع زيادة ألحقتها. 1318 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أصبح يقول: "اللهم بك أصبحنا وبك أمسينا، وبك نحيا وبك نموت، وإليك النشور". وفي المساء قال مثل ذلك، إلا أنه قال: "وإليك المصير". أخرجه الأربعة (¬5). ¬

_ (¬1) فتح الباري 11/ 225. (¬2) الطبراني في الكبير 12/ 171، 172 ح 12792. (¬3) سورة آل عمران الآية 26. (¬4) ينظر الكامل لابن عدي 2/ 590 - 592. (¬5) أبو داود، كتاب الأدب، باب ما يقول إذا أصبح 4/ 319 ح 5068، والترمذي، كتاب الدعوات، باب ما جاء في الدعاء 5/ 435 ح 3391، والنسائي في الكبرى، كتاب عمل اليوم والليلة، باب ثواب من قال حين يصبح وحين يمسي ... 6/ 5 ح 9836، 10399، وابن ماجه، كتاب الدعاء، باب ما يدعو به الرجل إذا أصبح 2/ 1272 ح 3868.

[قوله] (أ): "بك أصبحنا". أي: بقوتك وإيجادك أصبحنا , أي دخلنا في وقت الصباح، والصباح من طلوع الفجر، والمساء من غروب الشمس. وقولة: "وإليك النشور". يقال: نشر الميت، ينشر نشورا. إذا عاش بعد الموت، وأنشره الله أحياه. وناسب في الصباح؛ لأنه يكون فيه القيام من النوم، والنوم يشبه بالموت، والقيام منه بالحياة. وناسب في المساء: "وإليه المصير"؛ لأنه ينام فيه، والنوم يشبه بالموت، والميت يقال في حقه: إنه صار إلى الله تعالى. أي إلى دار جزائه من ثواب وعقاب. 1319 - وعن أنس رضي الله عنه قال: كان أكثر دعاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار". متفق عليه (¬1). رواه البخاري بلفظ الآية، وفي رواية أخرى (¬2) له بلفظ: "اللهم [ربنا] (ب) آتنا في الدنيا حسنة". بزيادة "اللهم". وجاء في رواية مسلم قال: سأل قتادة أنسًا: أي دعوة كان يدعو بها النبي - صلى الله عليه وسلم - أكثر؟ قال: "اللهم آتنا في الدنيا حسنة" إلخ. وأورده مسلم في رواية أخرى من دون زيادة: "اللهم" (¬3). وأخرج ابن أبي حاتم (¬4) من طريق أبي نعيم، ثنا عبد السلام أبو طالوت: كنت عند أنس فقال له ثابت: إن إخوانك يسألونك أن تدعو لهم. فقال: ¬

_ (أ) في جـ: قولك. والمثبت يقتضيه السياق. (ب) ساقطة من جـ. والمثبت من مصدر التخريج.

اللهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار. وذكر القصة وفيها: إذا آتاكم الله ذلك فقد آتاكم الخير كله. قال القاضي عياض (¬1): إنما كان يكثر الدعاء بهذه الآية؛ لجمعها معاني الدعاء كله من أمر الدنيا والآخرة. قال: والحسنة عندهم ها هنا النعمة، [فسأل نعيم] (أ) الدنيا والآخرة والوقاية من العذاب. نسأل الله تعالى أن يمنّ علينا بذلك. وقد جاءت عن السلف عبارات مختلفة؛ فقال الحسن: الحسنة العلم والعبادة في الدنيا، وفي الآخرة الجنة. أخرجه ابن أبي حاتم بسند صحيح (¬2)، وعنه بسند ضعيف (¬3): الرزق الطب والعلم النافع، وفي الآخرة الجنة. وتفسير الحسنة في الآخرة بالجنة، نقله ابن أبي حاتم (¬4) أيضًا عن السدّي ومجاهد وإسماعيل بن أبي خالد ومقاتل بن حيان. وعن ابن الزبير (¬5): يعملون في دنياهم وآخرتهم. وعن قتادة (¬6): هي العافية في الدنيا والآخرة. وعن محمد بن كعب القرظي (¬7): الزوجة الصالحة من الحسنات. ونحوه عن يزيد بن [أبي] (جـ) مالك. وأخرج ابن المنذر (¬8) من طريق سفيان الثوري قال: ¬

_ (أ) في جـ: قال نعم. والمثبت من مصدر التخريج. (ب) ساقطة من جـ. والمثبت من مصدر التخريج. (جـ) ساقط من: جـ، وتفسير ابن أبي حاتم، والمثبت من الفتح 11/ 192 , ينظر تهذيب الكمال 32/ 189.

[الحسنة في الدنيا الرزق الطيب والعلم، وفي الآخرة الجنة. ومن طريق سالم بن عبد الله بن عمر قال] (أ): الحسنة في الدنيا المنى. ومن طريق السدّي (¬1) قال: المال. ونقل الثعلبي عن السدي ومقاتل: حسنة الدنيا الرزق الحلال الواسع والعمل الصالح، وحسنة الآخرة المغفرة والثواب. وعن عطية: حسنة الدنيا العلم والعمل به، وحسنة الآخرة تيسير الحساب ودخول الجنة. وبسنده عن عوف قال: من آتاه الله الإسلام والقرآن والأهل والمال والولد فقد آتاه الله في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة. وأخرج ابن المنذر (¬2) عن سالم بن عبد الله بن عمر قال: حسنة الدنيا الثناء. ونقل الثعلبي عن سلف الصوفية أقوالًا أخرى متغايرة اللفظ متوافقة المعنى حاصلها السلامة في الدنيا والآخرة. واقتصر في "الكشاف" (¬3) على ما رواه الثعلبي [عن] (أ) علي أنها في الدنيا المرأة الصالحة، وفي الآخرة الحوراء، {وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}: المرأة السوء. وقال الشيخ عماد الدين بن كثير (¬4): الحسنة في الدنيا تشمل كل مطلوب دنيوي؛ من عافية، ودار رحبة، وزوجة حسنة، وولد بار، ورزق واسع، وعلم نافع، وعمل صالح، ومركب هنىّ، وثناء جميل، إلى غير ذلك مما تشمله عباراتهم فإنها كلها مندرجة في الحسنة في الدنيا، وأما الحسنة في الآخرة، فأعلاها دخول الجنة وتوابعه من الأمن [من الفزع الأكبر ¬

_ (أ) ساقط من: جـ. والمثبت من الفتح.

في العرصات وتيسير الحساب وغير ذلك من أمور الآخرة] (أ)، وأما الوقاية من عذاب النار فهو يقتضي تيسير أسبابه في الدنيا؛ من اجتناب المحارم، وترك الشبهات. قلت (¬1): أو العفو محضًا. ومراده بقوله: وتوابعه. ما يلتحق به في الذكر لا ما [يَتْبَعُه] (ب) حقيقة. والله سبحانه أعلم. 1320 - وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: "اللهم اغفر لي خطيئتي وجهلي، وإسرافي في أمري، وما أنت أعلم به مني، اللهم اغفر لي جدي وهزلي، وخطئي وعمدي، وكل ذلك عندي، اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت، وما أنت أعلم به مني؛ أنت المقدم وأنت المؤخر وأنت على كل شيء قدير". متفق عليه (¬2). قوله: "اغفر لي خطيئتي". الخطيئة الذنب، يقال: خطئ يخطأ، ويجوز تسهيل الهمزة بقلبها ياء فيقال: خطيّة. بالتشديد. وقوله: "وجهلي". الجهل ضد العلم. وقوله: "وإسرافي في أمري". الإسراف مجاوزة الحد في كل شيء، و"في أمري". متعلق بـ "إسرافي"، ويحتمل أن يتعلق بجميع ما تقدم. وقوله: "جدي وهزلي". كذا في مسلم بلفظ "جدي" وفي البخاري: "جهلي وهزلي". والذي في مسلم أنسب؛ لأن الجد بكسر الجيم ضد الهزل. ¬

_ (أ) ساقط من: جـ، والمثبت من تفسير ابن كثير والفتح 11/ 192. (ب) في جـ: ينفعه. والمثبت من الفتح.

وقوله: "وخطئي وعمدي". وقع في رواية الكشميهني (¬1) في طريق إسرائيل بإفراد: "خطئي". وكذا ذكره البخاري في "الأدب المفرد" (¬2) بالطريق التي في "الصحيح"، وهو المناسب لذكر العمد؛ لأن المراد به المصدر، فيكون الخطأ كذلك مصدرا مفردا، وجمهور رواة البخاري رووه بصيغة: "خطاياي". جمع خطيئة، وعطفه على ما تقدم من عطف العام على الخاص؛ فإن الخطيئة تكون عن خطأ هزل وعن جدٍّ. وتكرير هذه المعطوفات لتعديد الأنواع التي تقع من الإنسان، والاعتراف بها، وإظهار أن النفس غير مبرأة من العيوب إلا من رحم علّام الغيوب. وقوله: "وكل ذلك عندي". أي: موجود أو ممكن. وقوله: "ما قدمت". أي: ما مضى من الذنوب. "وما أخرت". أي: ما يكون في المستقبل. وهذا شامل لجميع ما يتصف به الإنسان. وقوله: "أنت المقدم". أي: تقدم من تشاء من خلقك، فيتصف بصفات الكمال، ويتحقق بحقائق العبودية بتوفيقك. "وأنت المؤخر". أي: تؤخر بخذلانك وتبعيدك من تشاء، فيصير في حضيض الصفات وأرذلها. وقوله: "وأنت على كل شيء قدير". وقع في رواية عليٍّ (¬3) رضي الله عنه: "لا إله إلا أنت". بدل قوله: "وأنت على كل شيء قدير". قال الطبري (1) بعد أن ذكر استشكال صدور هذا الدعاء من النبي - صلى الله عليه وسلم - ¬

_ (¬1) الفتح 11/ 198. (¬2) الأدب المفرد 2/ 140 ح 689. (¬3) أحمد 1/ 94، 95، ومسلم 1/ 534 ح 771.

مع قوله: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} (¬1). ما حاصله أنه - صلى الله عليه وسلم - امتثل ما أمر الله به من تسبيحه وسؤاله المغفرة في قوله تعالى: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ} (¬2). قال: وزعم قوم أن استغفاره عما يقع منه بطريق السهو والغفلة، أو بطريق الاجتهاد مما لا يصادف [ما] (أ) في نفس الأمر. وتعقب بأنه لو كان كذلك للزم منه أن الأنبياء يؤاخذون بمثل ذلك، فيكونون (ب) أشدّ حالًا من أممهم. وأجيب بالتزامه. قال المحاسبي (¬3): الملائكة والأنبياء أشد خوفا ممن دونهم، وخوفهم خوف إجلال وإعظام، واستغفارهم من التقصير لا من الذنب المحقق. وقال عياض: يحتمل أن يكون قوله: "اغفر لي خطيئتي". وقوله: "اغفر لي ما قدمت وما أخرت". على سبيل التواضع والاستكانة والخضوع والشكر لربّه لما علم أنه قد غفر له. وقيل: على ما مضى من قبل النبوة. وقال قوم: على الصغيرة، ووقوعها منهم جائز. وقيل: هذا مثل قوله: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ}. أي من ذنب أبيك آدم، {وَمَا تَأَخَّرَ}. من ذنوب أمتك. وقال القرطبي (¬4): وقوع الخطيئة من الأنبياء جائز، يعني غير محال؛ [لأنهم] (أ) مكلفون، فيخافون وقوع ذلك، ويتعوذون منه. وقوله في أول الحديث: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يدعو بهذا الدعاء. قال ¬

_ (أ) ساقطة من: جـ. والمثبت من مصدر التخريج. (ب) في جـ: فيكون. والمثبت من مصدر التخريج. (جـ) في جـ: لأنه. والمثبت من مصدر التخريج.

المصنف رحمه الله تعالى (¬1): لم أر في شيء من طرقه محل الدعاء بذلك، وقد وقع معظم آخره في حديث ابن عباس (¬2)، أنه - صلى الله عليه وسلم - كان [يقوله] (أ) في صلاة الليل، وتقدم بيانه. ووقع في حديث عليّ عند مسلم أنه كان [يقوله] (أ) في آخر الصلاة. واختلفت الرواية؛ هل كان يقوله قبل السلام أو بعده؛ ففي رواية لمسلم (¬3): ثم يكون من آخر ما يقول بين التشهد والسلام: "اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أسرفت، وما أعلنت، وما أنت أعلم به مني؛ أنت المقدم وأنت المؤخر لا إله إلا أنت". وفي رواية له (¬4): وإذا سلم قال: "اللهم اغفر لي ما قدمت". إلى آخره. ويجمع بينهما على إرادة السلام في الرواية الثانية؛ لأن مخرج الطريقين واحد. وأورده ابن حبان في "صحيحه" (¬5) بلفظ: كان إذا فرغ من الصلاة وسلم. وهذا ظاهر في أنه بعد السلام، ويحتمل أنه كان يقول ذلك قبل السلام وبعده. وقد وقع في حديث ابن عباس نحو ذلك كما بينته في شرحه. انتهى. 1321 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "اللهم أصلح لي ديني الذي هو عصمة أمري، وأصلح لي دنياي التي فيها معاشي، وأصلح لي آخرتي التي إليها معادي، واجعل الحياة زيادة لي في كل خير، واجعل الموت راحة لي من كل شر". أخرجه مسلم (¬6). ¬

_ (أ) في جـ: يقول. والمثبت من الفتح 11/ 198.

تضمن هذا الحديث الدعاء بخير الدنيا والآخرة، وفيه دلالة على أنه يجوز الدعاء بالموت إذا خاف على نفسه الفتنة، وظاهره: ولو كانت الفتنة في الدنيا بوقوع المضار، ولكنه معارض بحديث: "لا يتمنَّيَن أحدكم الموت لضر نزل به" (¬1). ويحمل هذا على أن المراد بالشر ما كان من الشرور المتعلقة بالدين. والله أعلم. 1322 - وعن أنس رضي الله عنه قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "اللهم انفعني بما علمتني، وعلمني ما ينفعني، وارزقني علما ينفعني". رواه النسائي والحاكم (¬2)، وللترمذي (¬3) من حديث أبي هريرة نحوه، وقال في آخره: "وزدني علما، الحمد لله على كل حال، وأعوذ بالله من حال أهل النار". وإسناده حسن. في الحديث دلالة على أن العلم الذي يطلبه الإنسان ويسأل الله تعالى أن يعلمه إياه إنما هو ما كان نافعا، والنفع الحقيقي ما كان يتعلق بأمر المعاد، وما لم يكن بهذه المثابة فليس مطلوبا من الله تعالى ولا ينبغي الاشتغال به. 1323 - وعن عائشة رضي الله عنها، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - علمها هذا الدعاء: "اللهم إني أسألك من الحير كله عاجله وآجله، ما علمت منه وما لم أعلم، وأعوذ بك من الشر كله عاجله وأجله، ما علمت منه وما لم أعلم، اللهم إني أسألك من خير ما سألك عبدك ونبيك، وأعوذ بك من ¬

_ = يعمل 4/ 2087 ح 2720. (¬1) البخاري 11/ 15 ح 6351، ومسلم 4/ 2064 ح 2680 من حديث أنس. (¬2) النسائي في الكبرى، كتاب الاستعاذة، باب الاستعاذة من علم لا ينفع 4/ 444 ح 7868، والحاكم، كتاب الدعاء 1/ 510. (¬3) الترمذي، كتاب الدعوات، باب في العفو والعافية 5/ 540 ح 3599.

شر ما عاذ به عبدك ونبيك، اللهم إني أسألك الجنة وما قرب إليها من قول أو عمل، وأعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول أو عمل، وأسألك أن تجعل كل قضاء قضيته لي خيرا". أخرجه ابن ماجه، وصححه ابن حبان والحاكم (¬1). الحديث تضمن الدعاء بخير الدنيا والآخرة، والاستعاذة من شر الدنيا والآخرة، وتكرير ما يؤدي هذا المعنى إظهارا للتخضع والتخشع واللجء إلى الله سبحانه، والامتثال بما أمر به سبحانه وتعالى من إخلاص الدعاء له والتذلل بين يديه، وإطالة الكلام مع الأحباب. 1324 - وأخرج الشيخان (¬2) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "كلمتان حبيبتان إلى الرحمن، خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم". قوله: "كلمتان". الكلمة مراد بها الكلام، [فإنها] (أ) قد تستعمل في معنى الكلام، كقولهم: قال كلمة الشهادة. وهي خبر للمبتدأ وهو قوله: "سبحان الله". وصح الابتداء به، وإن كان جملة؛ لأنه في معنى هذا اللفظ، وقدم الخبر لتشويق السامع إلى المبتدأ باعتبار ما ذكره بعده من الأوصاف. ¬

_ (أ) في جـ: فإنه. والمثبت يقتضيه السياق.

وقوله: "حبيبتان". أي محبوبتان. والمعنى: محبوب قائلهما (¬1). ومحبة الله للعبد تقدم حقيقتها في كتاب الزهد قريبا. وقوله: "إلى الرحمن". خص الرحمن بالذكر؛ لأن المقصود بيان سعة رحمة الله تعالى على عباده؛ حيث يجازي على العمل القليل بالثواب الجزيل. وقوله: "خفيفتان". تثنية خفيفة، فعيلة بمعنى فاعلة. وقوله: "ثقيلتان". قال الكرماني (¬2): إن قيل: فعيل بمعنى مفعول يستوي فيه المذكر والمؤنث، ولا سيما إذا كان موصوفه مذكورا، فما وجه التأنيث في: "ثقيلتان"؟ ثم أجاب بأن ترك التأنيث جائز لا واجب، وأيضًا ذاك إنما هو في المفرد لا المثنى، أو أنه أنث لمزاوجة "خفيفتين"، أو لأنها بمعنى الفاعل، أو أن التاء [للنقل] (أ)، وهو أنه نقل اللفظ من الوصفية إلى الاسمية، والجواب الأحسن أنها بمعنى الفاعل فلا يرد السؤال، ولا يظهر وجه كونها بمعنى المفعول [إذ] (ب) الفعل لازم، ووصف الكلمتين بالخفة والثقل لبيان قلة العمل وكثرة الثواب، وفي هذه الألفاظ الثلاثة سجع مستعذب، وليس من السجع المنهي عنه؛ لأن المنهي عنه ما كان متكلفا أو متضمنا لباطل، وأما ما جاء عفوا من غير قصد إليه فلا محذور فيه، قال الطيبي (¬3): الخفة مستعارة للسهولة، شبه سهولة جريانها على اللسان بما ¬

_ (أ) في جـ: للثقل. والمثبت كما في شرح الكرماني. (ب) في جـ: إذا. والمثبت يقتضيه السياق.

خف على الحامل من بعض الأمتعة فلا يتعبه، كالشيء الثقيل، وفيه إشارة إلى أن سائر التكاليف صعبة شاقة على النفس ثقيلة، وهذه سهلة عليها، مع أنها تثقل في الميزان كثقل الشاق من التكاليف، وقد سئل بعض السلف عن سبب ثقل الحسنة، وخفة السيئة فقال: لأن الحسنة حضرت مرارتها وغابت حلاوتها فثقلت، فلا يحملنك ثقلها على تركها، والسيئة حضرت حلاوتها وغابت مرارتها فلذلك خفت، فلا تحملنك خفتها على ارتكابها. والحديث فيه دلالة على ثبوت الميزان، وأنه ميزان له لسان وكفتان، ويميل بالأعمال، وقد تظاهرت الأدلة من الكتاب والسنة على ثبوته، والحمل على الحقيقة هو المتبادر من اللفظ عند الإطلاق، والحمل على المجاز إنما هو يكون عند تعذر حمل اللفظ على معناه الحقيقي، وقد ذهب إلى ذلك أهل السنة قاطبة، [وأنكره] (أ) الجمهور من المعتزلة، وقال المصنف رحمه الله تعالى حكاية عن أبي إسحاق الزجاج (¬1): أنكرت المعتزلة الميزان وقالوا: هو عبارة عن العدل. [فخالفوا] (ب) الكتاب والسنة؛ لأنه أخبر تعالى أنه يضع الموازين لوزن الأعمال؛ ليرى العباد أعمالهم ممثلة ليكونوا على أنفسهم شاهدين. وقال ابن فورك (1): أنكرت المعتزلة الميزان بناء منهم على أن الأعراض يستحيل وزنها؛ إذ لا تقوم بأنفسها قال: وقد روى بعض المتكلمين عن ابن عباس أن الله تعالى يقلب الأعراض أجساما فيزنها. انتهى. ¬

_ (أ) ساقطة من: جـ. والمثبت يقتضيه السياق. (ب) في جـ: في القول. والمثبت من الفتح 13/ 538.

ونسب في "شرح القلائد" للنجري (¬1) الخلاف إلى مجاهد من التابعين وإلى الإمام الهادي يحيى بن الحسين، وأن الميزان مجاز عن إقامة الحساب على السواء للأعمال صغيرها وكبيرها بالعدل والنصفة من غير أن يظلم عباده مثقال ذرة. قالوا: لأنه لا فائدة فيه؛ لعلم الخلق ضروريا يوم القيامة بعدل الله وحكمته ومقادير ما يستحقونه من الثواب والعقاب. انتهى. وقد أخرج [الطبري] (أ) (¬2) الرواية عن مجاهد. ثم اختلفوا في الميزان، هل هو ميزان واحد أو لكل إنسان ميزان، أو لكل عمل ميزان؟ وقوله تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ} (¬3). بلفظ الجمع يدل [على] (ب) التعدد، فذهب البعض إلى أن الجمع على حقيقته، ويكون التعدد على أحد الوجهين. وذهب البعض إلى أنه ميزان واحد، والجمع إنما هو باعتبار تعدد الأعمال الموزونة أو الأشخاص، ويؤيد تعدد الأعمال قوله تعالى: {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ}. {وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ} (¬4). ويحتمل أن يكون الجمع ¬

_ (أ) في جـ: الطبراني. (ب) ساقطة من: جـ. والمثبت يقتضيه السياق.

للتفخيم، وأنه ميزان واحد. وقد أخرج أبو القاسم اللالكائي في "السنة" (¬1) عن [سلمان] (أ) قال: يوضع الميزان وله كفتان، لو وضع في إحداهما السماوات والأرض ومن فيهن لوسعته. واختلف العلماء في الموزون؛ فذهب أبو علي الجُبّائي، واختاره الطيبي، إلى أن الموزون هي الصحف. قالوا: لأن الأعمال أعراض فلا توصف بثقل ولا خفة، ولحديث البطاقة. وقال أبو هاشم: الموزون نور؛ أمارة للخير، أو ظلمة؛ أمارة للشر. وأورد عليه أن النور والظلمة أجزاء خفيفة لا ثقل فيها. وأجيب عنه بأن الله تعالى لا بد أن يخلق فيها ثقلا بقدر الثواب والعقاب. وذهب البعض إلى أن الموزون هو الشخص. وذهب أهل السنة إلى أن الأعمال هي الموزونة، وأنها تجسّد أو تجعل في أجسام فتصير أعمال الطائعين في صورة حسنة، وأعمال المسيئين في صورة قبيحة، ثم توزن. وقد أخرج أبو داود والترمذي وصححه ابن حبان (¬2) عن أبي الدرداء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " [ما] (ب) يوضع في الميزان يوم القيامة أثقل من خلق حسن". وفي حديث جابر مرفوعًا: "توضع الموازين يوم القيامة، فتوزن الحسنات والسيئات، فمن رجحت حسناته على سيئاته مثقال حبة دخل الجنة، ومن رجحت سيئاته على حسناته مثقال حبة دخل النار". قيل: فمن ¬

_ (أ) في جـ: سليمان. والمثبت من مصدر التخريج، وينظر الفتح 13/ 539. (ب) ساقطة من جـ. والمثبت من مصادر التخريج. وينظر الفتح 13/ 539.

استوت حسناته [وسيئاته؟ قال: "أولئك] (أ) أصحاب الأعراف". أخرجه خيثمة في "فوائده" (¬1)، وعند ابن المبارك في "الزهد" (¬2) عن ابن مسعود نحوه [موقوفًا] (ب)، وظاهر الأحاديث أن أعمال بني آدم توزن، وأن ذلك عام [لجميعهم] (جـ). وقال بعضهم: إنه يخص منه المؤمن الذي لا سيئة له، وله حسنات كثيرة زائدة على محض الإيمان، فيدخل الجنة بغير حساب كما في حديث السبعين الألف، وعكّاشة (¬3) الذي سأل أن يلحق بهم وغيرهم ممن شاء الله أن يلحق بهم، وهم الذي يمرون على الصراط كالبرق وكالريح وكأجاويد الخيل، ويخص أيضًا الكافر الذي لا ذنب له غير الكفر ولم يعمل حسنة، فإنه يقع في النار من غير حساب ولا ميزان. ونقل القرطبي (¬4) عن بعض العلماء أنه قال: الكافر مطلقا لا ثواب له ولا حسنة توضع في ميزانه؛ لقوله تعالى: {فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا} (¬5). ولحديث أبي هريرة في "الصحيح" [في] (أ) الكافر: "لا يزن عند الله جناح بعوضة" (¬6). وقد تعقب بأن هذا مجاز عن حقارة القدر. ¬

_ (أ) في جـ: فأولئك. والمثبت من الفتح 13/ 539. (ب) في جـ: مرفوعًا. والمثبت من الفتح 13/ 539. (جـ) ساقطة من: جـ. والمثبت من الفتح 13/ 538.

ولا يلزم منه عدم الوزن. والصحيح أن الكافر يُوزن عمله، إلا أنه على وجهين؛ أحدهما، أن كفره يوضع في كفة ولا يجد حسنة يضعها في الأخرى؛ لبطلان الحسنات مع الكفر، فتطيش التي لا شيء فيها. قال القرطبي: وهذا ظاهر قوله تعالى: {وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ} (¬1). فإنه وصف الميزان بالخفة. والثاني، أنه قد يقع منه العتق والبر والصلة وسائر أنواع الخير المالية، مما لو فعلها المسلم لكانت له حسنات، فمن كانت له جمعت ووضعت، غير أن الكفر إذا قابلها رجح بها، ويحتمل أن هذه الأعمال توازن ما يقع منه من الأعمال؛ كظلم غيره وأخذ المال وقطع الطريق، فإن ساوتها عذب بالكفر، وإن زادت عذب بما [كان] (أ) زائدا على كفره، وإن زادت أعمال الخير منه طاح عقاب سائر المعاصي وبقي عقاب الكفر كما جاء في قصة أبي طالب: "إنه لفي ضحضاح من نار" (¬2). وقوله: "سبحان الله". تقدم الكلام في إعرابه ومعناه قريبا. وقوله: "وبحمده". قيل: الواو للحال بتقدير المتعلق، أي: وأتلبس ¬

_ (أ) في جـ: زاد. والمثبت من سبل السلام 4/ 441.

بحمده. أي بحمدي له من أجل توفيقه. وقيل: عاطفة على العامل في "سبحان". أي أسبح وألتبس بحمده. ويحتمل أن تقدر: وأُثَنِّي بحمده. فتكون متعلقة بـ: أثني، وتكون جملة مستقلة. وقال الخطابي (¬1) في حديث: "سبحانك اللهم وبحمدك" (¬2). إن المعنى: وبقوتك التي هي نعمة، فوجب عليّ حمدك. أي: لا بحولي وقوتي. فأقام المسبب، وهو الحمد، مقام سببه، وهو النعمة التي أوجبت الحمد. قال الكرماني (¬3): صفات الله تعالى وجودية، كالعلم والقدرة، وهي صفات الإكرام، وعدمية؛ كلا شريك له ولا مثل، وهي صفات الجلال، فالتسبيح إشارة إلى صفات الجلال، والتحميد إشارة إلى صفات الإكرام، وترك التقييد مشعر بالتعميم، والمعنى: أنزهه عن جميع [النقائص] (أ) وأحمده بجميع الكمالات. قال: والنظم الطبيعي يقتضي تقديم التخلية، فقدم التسبيح الدال على التخلي على التحميد الدال على التحلي، بالحاء المهملة، وذكر اسم الله تعالى؛ لأنه الاسم الدال على الذات المقدسة الجامع لجميع الصفات والأسماء الحسنى، ووصفه بالعظيم لأنه الشامل لسلب ما لا يليق به؛ [إذ] (ب) العظمة الكاملة مستلزمة لعدم النظير والمثل ونحو ذلك، وكذا العلم بجميع المعلومات، والقدرة على جميع المقدورات ونحو ذلك، وذكر ¬

_ (أ) في جـ: النقائض. والمثبت من شرح الكرماني. (ب) في جـ: إذا. والمثبت من شرح الكرماني.

التسبيح ملتبسا بالحمد ليعلم ثبوت الكمال له نفيا وإثباتا، وكُرِّر تأكيدا، ولأن الاعتناء بشأن التنزيه أكثر من جهة كثرة المخالفين، ولهذا جاء في القرآن بعبارات مختلفة؛ نحو: "سبحان". و: "سبِّح". بلفظ الأمر، و: "سبَّح". بلفظ الماضي [و: يسبح. بلفظ] (أ) المضارع، ولأن التنزيهات تدرك بالعقل بخلاف الكمالات فإنه يقصر عن إدراك حقائقها، كما قال بعض المحققين: الحقائق الإلهية لا تعرف إلا بطريق السلب كما في العلم؛ لا يدرك منه إلا أنه ليس بجاهل، فأما معرفة حقيقة [علمه] (ب) فلا سبيل إليه. انتهى. وجاء في هذا الحديث الترغيب في الكلمتين الشريفتين على أسلوب [عظيم] (جـ)، وهو أن حب الربّ سابق، وذكر العبد وخفة الذكر على لسانه تال، ثم بيان ما فيهما من الثواب العظيم النافع يوم القيامة. ودل الحديث على أنه ينبغي إدامة هذا الذكر لعظم نفعه وخفة عمله، وقد تقدم فضل سبحان الله [وبحمده] (د) مائة مرة وحدها، فإذا أضيف إليها هذه الكلمة الأخرى ازداد تحصيل الثواب وحصل به امتثال قوله تعالى: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ} (¬1). وفي "صحيح مسلم" (¬2) عن أبي ذر: قلت: يا رسول الله، بأبي أنت وأمي، أيُّ الكلام أحبُّ إلى الله؟ قال: "ما ¬

_ (أ) ساقط من: جـ. والمثبت من الفتح 13/ 541. (ب) في جـ: عمله. والمثبت من الفتح 13/ 542. (جـ) في جـ: غريب. والمثبت من الفتح 13/ 542. (د) ساقط من جـ. والمثبت من الفتح 13/ 542.

ختم الكتاب

اصطفى الله لملائكته [أو لعباده] (أ)؛ سبحان ربي وبحمده". وفي لفظ: "إن أحب الكلام إلى الله سبحان الله وبحمده". وقد ذكر البخاري هذا الحديث في باب الدعوات (¬1) بتقديم "سبحان الله العظيم" على "سبحان الله وبحمده". وكذا هي عند أحمد بن حنبل (¬2). هذا آخر ما وفق الله الكريم من هذا الشرح، والحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله. ختم الكتاب ونختم هذا الكتاب بما أخرجه الإمام أبو عبد الرحمن بن شعيب النسائي (¬3) عن عروة عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا جلس مجلسا أو صلّى تكلم بكلمات، فسألته عن ذلك، فقال: "إن تكلم بكلام خير [كان] (ب) طابَعا عليه إلى يوم القيامة، وإن تكلم بغير ذلك كان كفارة له؛ سبحانك اللهم وبحمدك، لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك". اللهم صلِّ على محمد عبدك ورسولك النبي الأمي، وعلى آل محمد وأزواجه وذريته، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، وبارك ¬

_ (أ) ساقطة من: جـ. والمثبت من مصدر التخريج. (ب) ساقطة من: جـ. والمثبت من السنن الكبرى للنسائي 1/ 399.

على محمد النبي الأمي وعلى آل محمد وأزواجه وذريته، كما باركت على إبراهيم، وعلى آل إبراهيم، في العالمين، إنك حميد مجيد، ولا حول ولا قوة إلا بالله العليّ العظيم، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين. تم الكتاب بمنّ العزيز الوهاب يوم الثلاثاء ليلة سابع وعشرين شهر رجب المبارك سنة تسع وتسعين ومائة وألف بمحروس صنعاء في منازل الجامع الكبير، حرسها الله بآي القرآن، ورزقنا وأهلها الأمن والإيمان بحق محمد وآله آمين (¬1). بقلم العبد الفقير إلى الله، الغني به عمن سواه، الراجي لعفوه ومغفرته، الفقيه أحمد بن محمد الحوذي وفقه الله لصالح الأعمال بعناية سيدي الفقيه الفاضل الكامل صفي الإسلام أحمد بن محمد جلا حرسه الله وتولى حماه وتولاه وجعل الجنة مأواه، وفتح عليه بالعلم والعمل به، بحق محمد الأمين وآله الطاهرين (1)، إنه على ما يشاء قدير، ولا حول ولا قوة إلا بالله العليّ العظيم، وصَلِّ اللهم وسلم على سيدنا ومولانا محمد وعلى آل سيدنا محمد وبارك على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم إنك حميد مجيد (أ). ¬

_ (أ) جاء في حاشية جـ: بلغ بحمد الله ومنه وفضله قصاصة هذا الكتاب المبارك يوم الثلاثاء ليلة 22 من جماد الأول سنة 1200.

تم الفراغ من تحقيق هذا الجزء يوم الأحد ليلة ثامن وعشرين من شهر ذي القعدة المحرم سنة 1427 هـ في القاهرة. في حي المهندسين سائلًا الله الأمن لأهلها ولبلادي بلاد الحرمين - حيث كنت في هذا العام متفرغًا من العمل. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. د. علي بن عبد الله الزبن

§1/1